ـ[العدة في أصول الفقه]ـ
المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ)
حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية
الناشر: بدون ناشر
الطبعة: الثانية 1410 هـ - 1990 م
عدد الأجزاء: 5 أجزاء في ترقيم مسلسل واحد
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
__________
الإصدار 2: تم مراجعة الكتاب وإصلاح الكثير من الأخطاء الإملائية(/)
المجلد الأول
المقدمة
الافتتاحية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد فقد كان لاختيار هذا الموضوع أسبابه ودواعيه، يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- قيمة الكتاب العلمية، شكلا وموضوعًا، فهو غزير في مادته حسن في ترتيبه وتبويبه.
2- واعتماد المؤلف على مصادر أصيلة، في الأصول والفروع واللغة والنحو وغير ذلك، وبخاصة رسائل الإمام أحمد، وكتب أصحابه المتقدمين.
3- ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في عصره، وناشر مذهبهم أصولا وفروعًا في وقته، فقد كان له الفضل الأكبر في جمع شتات أصول الحنابلة وتقعيدها، كما كان له الفضل في تفصيل وبيان مسائل الفقه الحنبلي، وكل من جاء بعده فهم عيال عليه في ذلك.(1/7)
4- ثم إن إخراج هذا الكتاب ونشره، سيغير من الصورة في أذهان طلاب العلم عن أصول الفقه عند الحنابلة، ومدى استقلالها من عدمه، إذ لا يوجد كتاب متداول يمثل رأي الحنابلة بجلاء ووضوح، إذا ما استثنينا كتاب:"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لأبي البقاء الفتوحي، اللذين طبعا طباعة سيئة، مليئة بالأخطاء والتحريفات بالإضافة إلى أن المؤلفين من متأخري الحنابلة، الذين لا يضارعون أبا يعلى، لا في الأصول ولا في الفروع.
5- وبالإضافة إلى ما سبق أريد أن أشارك بإخراج كتاب من روائع تراثنا الإسلامي الضخم، لعلي بذلك أكون قد قمت ببعض الواجب؛ خدمة للعلم، وابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى.
ومن أول يوم سجلت فيه الموضوع شمرت عن ساعد الجد، وأول عمل قمت به هو جمع المصادر والمراجع المخطوطة، سواء كانت للمؤلف، أم كانت لغيره مما يتعلق بالبحث، ولو من بعيد.
فبدأت بزيارة مكتبات القاهرة العامة، فزرت دار الكتب المصرية فوجدت فيها إضافة إلى "العدة في أصول الفقه" كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية" للقاضي أبي يعلى، ووجدت أيضًا كتاب "الفصول" أو "أصول الجصاص" وقد أفدت من هذا الكتاب الأخير في التحقيق؛ لأنه من أهم المراجع التي استعان بها القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة".
كما وجدت كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للمرداوي الحنبلي، الذي عنى كثيرًا بتسجيل آراء واختيارات القاضي أبي يعلى.
ثم زرت معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، فوجدت به للمؤلف زيادة على ما ذكر كتاب "الروايتين والوجهين" كما وجدت كتاب "الجدل" لأبي الوفاء بن عقيل تلميذ المؤلف، وجزءًا(1/8)
من كتاب "الفصول" له، علاوة على كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير يحيى بن هُبَيرة الشيباني الحنبلي.
وقد قمت بتصوير تلك المخطوطات على ميكرو فيلم، ثم كبرتها بعد ذلك، عدا كتاب"الفصول في أصول الفقه" للجصاص، فلم أصوره، بل رجعت إلى نفس المخطوطة عند الاحتياج إليها.
وبعد ذلك شددت الرحال إلى المملكة العربية السعودية، فزرت مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض، أفتش عن نسخة ثانية للعدة، وعن تراث المؤلف بصفة عامة، فلم أظفر بشيء من ذلك.
ومن المعلوم أن المكتبة الظاهرية تحوي كثيرًا من تراث الحنابلة في التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، لذلك فقد صورت منها على ميكروفيلم "62" مخطوطة مما ألفه علماء الحنابلة في شتى العلوم، سوى بعض كتب قليلة جدًّا لغيرهم، صورت ضمن المجاميع، ثم كبرت تلك المخطواطات فيما بعد، واخترت منها المخطوطات التي لها صلة بالبحث وهي:
أولا: مؤلفات القاضي أبي يعلى:
1- الأمالي في الحديث.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- شرح مختصر الخرقي.
4- الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات.
5- كتاب الإيمان.
6- مختصر المعتمد.
ثانيًا: مؤلفات تلاميذه:
1- التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني.(1/9)
2- الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي.
ثالثًا: مؤلفات لغير مَنْ ذكر:
1- الأشربة: للإمام أحمد.
2- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله.
3- مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، رواية المروزي.
4- التمام لما صح في الروايتين: لابن أبي يعلى.
5- شرح الطوفي على مختصر الروضة.
6- مختصر أصول ابن اللحام.
ومما يستغرب أنه لا يوجد -حسب علمي- في مكتبات بغداد العامة أي مؤلف مخطوط للقاضي أبي يعلى مع أنه بغدادي الولادة والمنشأ والوفاة، اللهم إلا كتاب "العمدة في أصول الفقه"، الذي لم يكتب عليه اسم مؤلفه، ولكن بعد تصويره والاطلاع عليه، ثبت أنه للقاضي أبي يعلى.
وبعد الحصول على المخطوطات والفراغ من تصويرها، استكملت شراء بعض المراجع المطبوعة، لأتمكن من اختصار الزمن والجهد، وبعد ذلك شرعت في العمل مستعينًا بالله -تعالى- مواصلا البحث والاطلاع آناء الليل وأطراف النهار، باذلا الغالي والرخيص، ويكفي أنني أفنيت فيه خمس سنين من عمري، حتى خرج على هذا الشكل والمضمون.
وبعد فهذا جهد المقل، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك بفضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى -لا سمح الله- فعزائي أنني اجتهدت، ولكل مجتهد نصيب.
ولا أنسى أن أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة، وسهلت لي السبيل بابتعاثي على حسابها لمواصلة(1/10)
دراستي، ضارعًا إلى الله -تعالى- أن يوفق القائمين عليها لخدمة الإسلام والمسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور: أحمد بن على بن أحمد سير المباركي
القاهرة: الثلاثاء: 30/ رمضان سنة 1397هـ، الموافق 14/ سبتمبر سنة 1977م(1/11)
التعريف بالمؤلف*:
اسمه، ونسبه:
هو العالم العلامة شيخ الحنابلة في عصره الإمام محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، أبو يعلى، البغدادي، الحنبلي، المعروف في زمانه بابن الفراء، والفراء نسبة إلى خياطة الفراء وبيعها. واشتهر بعد ذلك بالقاضي أبي يعلى1.
هكذا ذكر اسمه واسم أبيه في جميع مراجع ترجمته التي تمكنت من الاطلاع عليها، عدا السمعاني في كتابه: "الأنساب"2، وابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية"3، فقد ذكرا أن اسم أبيه الحسن بالتكبير، وهذا خطأ، يدل على ذلك أمور:
__________
* هذه لمحة موجزة عن المؤلف، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من رسالة الدكتوراه".
1 "تاريخ بغداد" "2/ 256" و"طبقات الحنابلة" "2/ 193"، و"اللباب" "2/ 413" و"سير أعلام النبلاء" "الورقة 168/ أ- القسم الثاني من الجزء الحادي عشر".
2 ص "419، 420".
3- "12/ 94" طبعة مكتبة المعارف.(1/15)
الأول: أن العمدة في ترجمة القاضي أبي يعلى هما: الخطيب البغدادي وابن أبي يعلى، الأول في "تاريخه"، والثاني في "طبقاته" وقد ذكراه باسم "الحسين" مصغرًا، وهما ألصق به وأعرف الناس بشئونه، فالأول تلميذه، والثاني ابنه، وحسبك بالمنزلتين قربًا ومعرفة.
الثاني: أن صاحب "اللباب" قد صحح ما أخطأ فيه السمعاني في "أنسابه" فقد ذكره باسم الحسين مصغرًا1.
الثالث: أن ابن كثير عندما ترجم لوالد القاضي أبي يعلى في كتابه: "البداية والنهاية"2، ذكره باسم الحسين مصغرًا.
الرابع: أن اسمه في الموجود من مؤلفاته: محمد بن الحسين بالتصغير.
الخامس: أن هناك كثيرًا ممن ترجموا للقاضي، ذكروا أن اسم أبيه هو "الحسين" بالتصغير منهم ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم"3، وفي كتابه: "مناقب الإمام أحمد"4، وابن الأثير في كتابه: "الكامل"5، والذهبي في كتابه: "العبر في خبر من غبر"6، وفي كتابه: "سير أعلام النبلاء"7، وفي كتابه: "دول الإسلام"8، والعليمي في
__________
1 "اللباب" "2/ 413".
2 "11/ 327".
3 "8/ 243".
4 ص: 520.
5 "10/ 18".
6 "3/ 243".
7 ورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر.
8 ص: 269.(1/16)
كتابه: "المنهج الأحمد"1، وابن العماد في كتابه: "شذرات الذهب"2، والنابلسي في كتابه: "مختصر طبقات الحنابلة"3، والصفدي في كتابه: "الوافي بالوفَيَات"4، وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي"5 والزركلي في كتابه: "الأعلام"6، وابن تغري بردي في كتابه: "النجوم الزاهرة"7.
وقد كانت أسرةُ أبي يعلى أسرةَ علم ومعرفة، فأبوه أبو عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الحنفي، أحد العلماء الصالحين الموصوفين بالزهد والورع والتقى: أسند الحديث، ودرس الفقه على أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، وكان من المكرمين عنده، حدث أن مرض أبو عبد الله مائة يوم، زاره الرازي فيها خمسين مرة، ولما بلَّ من مرضه، قال له الرازي معتذرًا: مرضت مائة يوم، فعدناك خمسين يومًا، وذاك قليل في حقك.
روى عن جماعة، وعنه ابنه أبو خازم محمد بن الحسين، عرض عليه منصب القضاء، فامتنع منه.
قال عنه الذهبي: "كان من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة".
مات في سنة: 390هـ، ولابنه أبي يعلى عشر سنين إلا أيامًا8.
__________
1 "2/ 105".
2 "3/ 306".
3 ص: 377.
4 "3/ 7".
5 "1/ 502" في النص الألماني.
6 "6/ 331".
7 "4/ 201".
8 البداية والنهاية "11/ 327"، وسير أعلام النبلاء الورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر، وطبقات الحنابلة "2/ 194" والمنتظم "7/ 210".(1/17)
وكان جده لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبا القاسم الدقاق، المعروف بابن "جليقا" بالجيم واللام والمثناة التحتية بعد قاف ممدودة، أو ابن "جنيقا" بإبدال اللام نونًا، نسبة إلى أحد أجداده.
ولد جده المذكور سنة "318هـ"، وكان ثقة مأمونًا مكثرًا. روى عن المحاملي، وعنه العتيقي والأزهري وابن بنته أبو يعلى.
قال عنه أبو الفوارس: "كان ثقة مأمونًا، حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه".
وقال ابن الجوزي: "كان صحيح السماع، ثبت الرواية". مات في شهر رجب سنة "390هـ"1.
وتقف المصادر التي اطلَعت عليها على ما ذكرت من أجداد القاضي أبي يعلى، غير ذاكرة أصله الذي ينتمي إليه، وإنما اكتفت بأنه بغدادي المولد والنشأة والوفاة.
__________
1 البداية والنهاية "11/ 326"، وتاريخ بغداد "10/ 377"، واللباب "1/ 299"، والمنتظم "7/ 210".(1/18)
مولده:
ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية.
نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"1، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة".
__________
1 "2/ 256".(1/18)
وهذه الرواية هي التي عوَّل عليها المؤرخون في ذكر مولده، ولم أجد أحدًا خالف في ذلك فيما اطلعت عليه من المراجع1.
__________
1 راجع في هذا: "البداية والنهاية" "12/ 94"، طبعة مكتبة المعارف و"طبقات الحنابلة" "2/ 195" و"الكامل" "10/ 18" و"المنتظم" "8/ 243"، و"المنهج الأحمد" "2/ 105".(1/19)
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله:
ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده.
في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع.
بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ.
وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف1.
لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه،
__________
1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "167/ ب" الجزء الحادي عشر و"طبقات الحنابلة" "2/ 195".(1/19)
فتخترمه، وذلك في سنة: 390هـ، ولغلامه من العمر عشر سنين إلا أيامًا1.
ويشاء الله -تعالى- أن يعيش الغلام هذه الفترة يتيمًا، ولعل ذلك سر من أسرار نبوغه وتفوقه، إذ إن كثيرًا من العباقرة والأفذاذ ينشئون غالبًا يتامى؛ ليتمرنوا على شظف العيش وقسوة الحياة؛ ليخرجوا بعد هذه المعاناة، وهم أشد ما يكونون صلابة عود ومضاء عزيمة.
ولكن أباه قبل أن يفارق الدنيا أوصى بتربية ابنه والقيام بشئونه إلى رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بحي في بغداد يقال له: "دار القز"، فانتقل الصبي إلى مكان وصيه بعد أن كان يسكن "باب الطاق" -حي من أحياء بغداد أيضًا.
وفي "دار القز" هذا، كان فيه رجل صالح، يعرف: بابن مفرحة المقرئ، كان يقرئ القرآن في مسجد بهذا الحي، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي" فقصده الصبي، وتلقى عنه ما كان يستطيع ذلك المقرئ أداءه، ولكن التلميذ طلب من معلمه الزيادة فأجابه بأسلوب المتواضع العارف قدر نفسه: "هذا القدر الذي أحسنته، فإن أردت زيادة، فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة"2.
وينتهي هذا الطور من حياة هذا الغلام؛ لينتقل إلى الطور الثاني، وهو طور اتصاله بالشيخ أبي عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي وتفقهه عليه.
كان الشيخ ابن حامد -رحمه الله تعالى- إمام الحنابلة في عصره في
__________
1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"طبقات الحنابلة" "2/ 194".
2 طبقات الحنابلة "2/ 194.(1/20)
بغداد، وكان يدرس بها المذهب الحنبلي أصولا وفروعًا، فأَمَّه الغلام أبو يعلى، وصحبه، وتتلمذ عليه، حتى حاز رضا شيخه وإعجابه، وفاق زملاءه وأقرانه، ولذلك لما سئل عمن يقوم بالتدريس أثناء غيابه في الحج، أجاب بقوله: هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى1.
ولم يكن أبو يعلى مقتصرًا على تعلم الفقه وأصوله، بل سمع الحديث وأكثر من ذلك، فسمع من أبي القاسم بن حبابة وعلي بن عمر الحربي وأبي القاسم موسى السراج وأبي الحسين السكري وغيرهم2.
كما تعلم علوم القرآن وقرأ بالقرءات العشر3.
وقد رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وهناك سمع الحديث من بعض محدثيها4.
وفي سنة "403هـ" يلتحق الشيخ ابن حامد بالرفيق الأعلى، حيث وافته منيته، وهو راجع من الحج5.
ويتلقى التلميذ نبأ الفاجعة بصبر وثبات، ويمضي قدمًا في إكمال رسالة شيخه، فيتربع على كرسي التدريس والإفتاء على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى.
ومن هنا يبدأ الدور الثالث في حياة الرجل، طور النضوج، طور تحمل المسئولية بكل تبعاتها، فيعكف على التأليف والتصنيف في شتى
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 195".
2 "طبقات الحنابلة" "2/ 195"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"المنتظم" "8/ 243".
3 طبقات الحنابلة "2/ 200"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب".
4 المرجعان السابقان.
5 "طبقات الحنابلة" "2/ 195".(1/21)
العلوم الإسلامية، وبخاصة والرجل قد جمع كثيرًا من الكتب، والمسائل التي نقلها الأصحاب عن الإمام أحمد، الأمر الذي جعله على دراية كاملة بأصول وفروع مذهب إمامه.
وفي سنة: 414هـ نجده يسافر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم يعود بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة التدريس والتأليف والإفتاء1.
__________
1 المرجع السابق "2/ 196".(1/22)
توليه التدريس:
أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد -رحمه الله- كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء.
وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم.
ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد -رضي الله عنه- وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو(1/22)
منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني.
وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإملاء أنهم سجدوا في حلقة الإملاء على ظهور الناس؛ لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإملاء"1.
وكانت هذه المدرسة تعج بفطاحل العلماء الأجلاء، الذين حملوا الراية بعد شيخهم، ومِنْ ألمع هؤلاء أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الخطاب الكلوذاني والخطيب البغدادي وغيرهم.
وبذلك يعتبر القاضي أبو يعلى هو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في هذه الفترة، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالمه، فقد تخرج على يديه الجم الغفير من الحنابلة، كما ألَّف في المذهب -أصولا وفروعًا- الكتب الكثيرة، التي تعتبر أهم المصادر التي حفظت لنا المذهب الحنبلي بعد المسائل التي دونت عن أحمد ووصلت إلينا، ولذلك لا نجد أحدًا بلغ مبلغه فيمن أتى بعده، بل كلهم عيال عليه.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 200".(1/23)
تولِّيه القضاء:
لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا1.
ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 440هـ2، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 196، 197".
2 "المنتظم" "8/ 136".(1/23)
ولما توفي رئيس القضاة ابن ماكولا في شهر شوال سنة: "447هـ"1، وشغر بذلك منصب القضاء، خوطب القاضي أبو يعلى لِيَلِي القضاء بدار الخلافة والحريم، فامتنع من ذلك، ثم قَبِلَ بعد أن كرر عليه السؤال، واشترط لقبوله شروطًا منها: أنه لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد "نهر الْمُعَلَّى" يومًا، و"باب الأزج" يومًا، ويستخلف من ينوب عنه في "الحريم"، فأجيب إلى ذلك2.
وقد قلد القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأضيف إليه بعد ذلك قضاء "حرَّان" و"حلوان" فاستناب فيهما.
ولم يكن باستطاعة واحد أن يقوم بالقضاء في كل هذه الجهات، لذلك نجد أبا يعلى قد رد القضاء في عدة أبواب إلى من يثق به، فجعل قضاء "باب الأزج" إلى الجيلي، ولما تبين عدم صلاحيته عزله، وجعل النظر في عقود الأنكحة والمداينات بالباب المذكور إلى تلميذه أبي علي يعقوب، كما جعل النظر في العقار في "باب الأزج" أيضًا إلى أبي عبد الله بن البقال.
واستناب بدار الخلافة و"نهر المعلى" أبا الحسن السيبي.
وظل القاضي أبو يعلى في هذا المنصب الخطير إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى3.
__________
1 "شذرات الذهب" "3/ 275".
2 "طبقات الحنابلة" "2/ 198، 199".
3 "المرجع السابق" "2/ 199، 200".(1/24)
زهده وورعه وثناء الناس عليه:
من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها(1/24)
انصراف الزاهد فيها، المكتفي منها بما يسد الرمق، ويقيم الأود، وليس الزاهد الورع الذي لم يمكن من الدنيا، ولو مكن منها لأتى بالعجائب.
وقد كان القاضي أبو يعلى من النوع الأول مع صلابة في الدين، وجرأة في الحق، يزينهما حلم وأناة، ولذلك لم يعرف عنه أنه قَبِلَ من حاكم صلة أو عطية، كما لم يعرف منه الوقوف على أبواب الحكام والسلاطين من أجل الدنيا، مع الفقر والحاجة، فقد كان -في بعض الأوقات- يقتات من الخبز اليابس، يبله في الماء ويأكله، حتى لحقه المرض من ذلك1.
ولما عرض عليه منصب القضاء امتنع منه، وبعد إلحاح قبله بشروط: أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان2.
فهذه الشروط الثلاثة تدل دلالة واضحة على ما للرجل من قدم صدق في عدم التهافت على مطامع الدنيا والافتتان بمظاهرها، ولو لم يكن كذلك لما فوت تلك الفرص الذهبية، التي تضفي على أقل الناس منصبًا هالة من العظمة والجلال، فكيف بعالم بغداد وقاضيها، ولكنه الطمع فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، ولقد صدق الجرجاني حيث قال:
ولم أقض العلم، إن كان كُلَّمَا ... بَدَا طمع، صيرته لي سلمًا
وما زلت منجازًا بعرضي جانبًا ... من الذل، اعتد الصيانة مغنمًا
إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظَّمَا3
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 223".
2 المرجع السابق "2/ 199".
3 "المنتظم" "7/ 221" في ترجمة الجرجاني، و"صفحات من صبر العلماء" لأبي غدة ص: 95.(1/25)
مرض الخليفة القائم بأمر الله، فلما عوفي، ذهب أبو يعلى لتهنئته، فلما خرج من عند الخليفة، أتبع بجائزة سنية، وسئل قبولها، فأبى إباءً شديدًا، وامتنع منها1.
وبزهد القاضي أبي يعلى وورعه وفضله شهد العلماء، فهذا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي الحافظ، يكتب للقاضي كتابًا يقول فيه:
كتابك سيدي لما أتاني ... سررت به، وجدد لي ابتهاجا
وذكرك بالجميل لنا جميل ... يقلدنا ولم نخرج مزاجا
جللت عن التصنع في وداد ... فلم نَرَ في توددك اعوجاجا
وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن راءى وداجا
حييت معمرًا وجزيت خيرا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا2
وقال فيه الخطيب البغدادي3: "كتبنا عنه، وكان ثقة"ونقل عن ابن الفراء المحاملي قوله: "ما تحاضرنا أحد من الحنابلة أعقل من أبي يعلى بن الفراء".
وقال ابن الجوزي4: " ... وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني، واتباع السلف".
وقال الذهبي5: "وكان ذا عبادة وتهجد وملازمة للتصنيف مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزه النفس كبير القدر ثخين الورع".
وقال أيضًا فيما نقله عنه ابن العماد6: "وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره".
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 223".
2 المرجع السابق "2/ 202".
3 تاريخ بغداد "2/ 256".
4 المنتظم "8/ 243، 244".
5 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب" الجزء الحادي عشر.
6 "شذرات الذهب" "3/ 306، 307".(1/26)
وفاته ورثاء الناس له:
بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط والانجازت العلمية العظيمة، يسلم القاضي أبو يعلى الروح، وترجع النفس إلى بارئها، في ليلة الاثنين تاسع عشر من شهر رمضان الكريم من عام ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية، بمدينة بغداد، وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين في جامع المنصور1، ودفن بمقبرة باب حرب2.
وقد عطلت الأسواق، وتبع جنازته جماعة الفقهاء والقضاة والشهود، وخلق لا يحصون، على رأسهم القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ونقيب الهاشميين، وأبو الفوارس، ومنصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة3.
وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدفن معه في القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء4.
ولا شك أن وفاته أحدثت ضجة عظيمة، وفراغًا كبيرًا لدى طلاب العلم والمعرفة، وبخاصة طلابه، وقد عبر تلميذه علي بن أخي نصر عمَّا يجيش في نفسه ونفوس زملائه من لوعة الحزن وألم الفراق، فاسمعه وهو يقول:
أسف دائم وحزن مقيم ... لمصاب به الهدى مهدوم
__________
1 "طبقات الحنابلة" "2/ 216"، والمراجع التي ذكرناها في ترجمته من قبل فلا داعي لسردها هنا.
2 "تاريخ بغداد" "2/ 256"، و"المنتظم" "8/ 244".
3 "المنتظم" "8/ 244".
4 المرجع السابق.(1/27)
مات نجل الفراء أم رجت الأر ... ض أم البدر كاسف والنجومُ؟
لهف نفسي على إمام حوى الفضـ ... ـل وهو بالمشكلات عليمُ
خلق طاهر ووجه منير ... وطريق إلى الهدى مستقيم
كان للدين عدة ولأهل الد ... ين في النائبات خل حميم
من يكن للدرس بعدك أم من ... لجدال المخالفين يقوم؟
من لفهم الحديث والطرق يستو ... ضح منه صحيحه والسقيم
من لفصل القضاء إن أشكل الحكـ ... ـم وضجت بالنازلات الخصوم
درست بعده المدارس فالعلـ ... ـم طريد وحبله مصروم
هكذا يذهب الزمن ويفنى العلـ ... ـم فيه ويجهل المعلوم
إن قبرًا حواك يا أيها الطو ... د عجيب رحب الفناء عظيم
إن يكن شخصه محته يد الدهـ ... ر فذكراه في الدهور مقيم
فتُحيا بذكره كل وقت ... ومحياه في الترب رميم
آمري بالسلو مهلا ففي القلـ ... ـب غرام مبرح ما يريم
كلما رمت سلوة هيج الحز ... ن صنيع له وفعل كريم
غير أن القضاء جار على الخلـ ... ـق قضاء من ربهم محتوم
فعلى الشامتين خزي مقيم ... وعليه الصلاة والتسليم1
وقد رثاه أيضًا محمد بن المسبح بهذه الأبيات:
مات السدى والندى والمجد المكرم ... والعالم اليقظ المستبصر العلم
مات الإمام أبو يعلى الذي ندبت ... لفقده الكعبة الغراء والحرم
يا أيها العالم الحبر الذي كسفت ... شمس الهدى بعده بل عادها الظلم
لولاك ما كان للدنيا وساكنها ... معنىً ولا عرفت طرق الهدى الأمم
ولا روى عن سول الله مأثرة ... ولا قضى بصحيح غير فِيكَ فم
لم يبلغ الحنبلي الحبر مرتبة ... إلا على رأسها من جسمك القدم
__________
1 "طبقات الحنابلة" "2/ 217، 218".(1/28)
أوضحت سبل الهدى من بعد ما درست ... عن الورى فقدتك العرب والعجم
مادت بنا الأرض وارتجت بساكنها ... لما قبرت وكاد الدين ينهدم1
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 221، 222"، ويلاحظ أن في القصيدة مبالغة غير جائزة شرعًا.(1/29)
أولاده:
وقد خلف القاضي أبو يعلى ثلاثة أبناء:
1- أبو القاسم عبيد الله، العالم الورع العفيف الصَّيِّن. ولد في يوم السبت السابع من شهر شعبان سنة: 443هـ، قرأ القرآن الكريم بالروايات الكثيرة على شيوخ عصره، وكان كثير التلاوة للقرآن مع معرفة بعلومه.
سمع الحديث من والده وجده لأمه جابر بن ياسين وأبي الحسين بن المهتدي وغيرهم.
وتفقه على والده وعلى تلميذ والده الشريف أبي جعفر.
رحل في طلب العلم إلى البصرة والكوفة وواصل وغيرها.
كان يحضر مجالس النظر ويشارك فيها، كما كان ذا معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وغير ذلك.
ولما ظهرت البدع في بغداد سنة: 459هـ، هاجر إلى البلد الحرام، فتوفي في الطريق في أواخر شهر ذي القعدة من هذه السنة1.
2- محمد أبو الحسين القاضي الشهيد، فقيه أصولي. ولد ليلة النصف من شهر شعبان سنة: 451هـ.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 235، 236" و"ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 12، 13".(1/29)
قرأ على أبي بكر الخياط، وتفقه على الشريف أبي جعفر، وروى الحديث عن أبيه وعبد الصمد وأبي الحسن بن المهتدي وغيرهم.
وسمع منه خلق كثير منهم: ابن ناصر ومعمر بن الفاخر ويحيى بن بوش وابن عساكر وغيرهم.
له مؤلفات كثيرة منها: "المجموع في الفروع"، و" رءوس المسائل" و" المفردات في أصول الفقه" و"طبقات الحنابلة".
مات ببغداد مقتولا على يد لصوص، أرادوا سرقة بيته، في يوم السبت الحادي عشر من شهر محرم سنة: 526هـ، ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب1.
3- محمد أبو خازم، بالخاء والزاي المعجمتين. فقيه، زاهد. ولد في شهر صفر سنة: 457هـ، تفقه على القاضي يعقوب، ولازمه وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة وجابر بن ياسين، ومن والده أبي يعلى إجازة.
سمع منه جماعة منهم: ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش.
له مؤلفات مفيدة منها: " التبصرة في الخلاف" وكتاب "رءوس المسائل"، و" شرح مختصر الخرقي".
توفي في بغداد في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر سنة: 527هـ2.
__________
1 "ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 176- 178".
2 المرجع السابق: "1/ 184، 185".(1/30)
التعريف بالكتاب
مدخل
...
التعريف بالكتاب*:
هناك بعض المعلومات الضرورية عن الكتاب، لا بد من معرفتها لمن أراد أن يطلع على الكتاب، وسوف أتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:
__________
* هذه كلمة مختصرة جدًّا عن الكتاب، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من أطروحة الدكتوراه".(1/31)
اسم الكتاب:
هذا الكتاب اسمه: "العدة في أصول الفقه" كما ذكر في آخر الكتاب، وكما ذكر في المصادر التي سنذكرها عند الكلام على نسبة الكتاب إلى المؤلف، غير أنني رأيت اسم الكتاب في الورقة الأولى هكذا: "العمدة في أصول الفقه" وهذه التسمية خطأ؛ لما ذكرنا قبل؛ ولأن الكتابة تختلف عن كتابة المخطوطة؛ ولأن هناك كتابًا آخر للمؤلف بهذا الاسم، وجدت منه نسخة بالعراق، مخرومة من الأول والأخير.(1/31)
نسبة الكتاب إلى المؤلف:
هناك إجماع بأن هذا الكتاب للقاضي أبي يعلى، فلم أجد أحدًا نسبه إلى غيره، واسمه مسطور على أول الكتاب وآخره.(1/31)
وممن ذكره منسوبًا إلى المؤلف:
ابن أبي يعلى في "طبقاته" "2/ 205" في ترجمة المؤلف.
والطوفي في كتابه: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "16/ أ".
والذهبي في كتابه: "سير أعلام النبلاء" القسم الثاني من المجلد الحادي عشر، الورقة "168".
وآل تيمية في كتابهم: "المسودة" "ص: 58، 59، 177، 180، 186، 196، 241، 256، 258، 273".
والمجد بن تيمية في كتابه: "المحرر" "2/ 261".
والمرداوي في كتابه: "الإنصاف" "12/ 46".
والبعلي في كتابه: "القواعد والفوائد الأصولية" "ص: 258".
والعليمي في كتابه: "المنهج الأحمد" "2/ 112".
وابن بدران الحنبلي في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" "ص: 241".
وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" "1/ 502" من النسخة الأصلية.(1/32)
وصف مخطوطة الكتاب:
توجد لهذا الكتاب -حسب علمي- نسخة فريدة في العالم، وهذه النسخة صمن مخطوطات دار الكتب المصرية بالقاهرة، وتقع تحت رقم: "76" أصول فقه، وقد صورت على "ميكروفيلم" في معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية تحت رقم: "67" أصول فقه.
والكتاب يقع في: "257" ورقة من القطع الكبير مقاس "21×30 سم"،(1/32)
يقع في كل صفحة خمسة وعشرون سطرًا، وفي كل سطر ست عشرة كلمة تقريبًا.
وقد كتب على الصفحة الأولى ما نصه: "العمدة في أصول الفقه، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء" ويلاحظ أن الكتابة هذه بقلم غير القلم الذي نسخ به الكتاب.
وفي منتصف الصفحة: "سيف المناظرين، حجة العلماء، أَوْحَدُ الفضلاء، القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء الحنبلي -رضي الله عنه.
وبعده كتب اسم السلطان المؤيد أبو النصر شيخ، بخط كبير اتبع بعبارة: "وقف الملك المؤيد شيخ بمدرسة باب زويلة".
أما الصفحة الأخيرة فقد جاء فيها: "تم كتاب العدة في أصول الفقه، ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه، ووافق الفراغ من نسخه في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية".
والناسخ مجهول، ولكن التصويبات التي عملها على الهامش، تدل على ما له من مستوىً علمي لا بأس به.
وخط الكتاب نسخ جيد غير مشكول، وقد صرح الناسخ أنه نقل هذه النسخة من نسخة الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان التي نسخها بخط يده.
وهناك ملاحظات على كتابة النص وهوامشه، نوجز أهمها فيما يلي:
1- في كثير من الأحيان لا يعجم الناسخ الحروف، ولا يضع العلامة(1/33)
الفارقة بين "الكاف" و"اللام" فيرسمها هكذا: "لـ".
2- وهناك كلمات، يرسمها بالياء، وهي بالهمزة مثل: "مسايل" و"قايل"، وقد رسمتها على المشهور من لغة العرب، واتبعت الرسم المعروف في الوقت الحاضر، من غير إشارة إلى ذلك في الهامش.
3- على أن هناك رسما، له دلالته النحوية، مثل حذف حرف العلة من آخر الفعل المضارع، إذا دخل عليه الجازم، ففي هذه الحالة أرسم الفعل بحذف حرف العلة، وأشير إلى ذلك في الهامش.
ومثل ذلك الأسماء المنكرة المنقوصة في حالتي الرفع والجر، فإنه يرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بحذف الياء لإنابة التنوين عنها، كما هو الراجح عند جمهرة النحاة، وعليه الرسم الآن، وأشير إلى ذلك في الهامش.
4- في هوامش المخطوطة تصويبات، أثبتها الناسخ، إما من نفسه، وإما نقلا عن نجم الذين ابن حمدان، ففي هذه الحالة: أثبت التصويب في صلت الكتاب، وأشير في الهامش على الخطأ، كما أشير إلى التصويب من الناسخ، أو مما نقله عن ابن حمدان.(1/34)
منهج المؤلف في هذا الكتاب:
لكل مؤلف منهج، صرح به في كتابه، أو أدركه القارئ بطريق الاستقراء والتتبع، والسواد الأعظم من العلماء الأقدمين، لا يصرح بمنهجه ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، لذلك سوف نتلمس منهجه من خلال كتابه، موجزين ذلك فيما يلي:
أولا: نهج المؤلف في كتابه نهج المقارنة بين الآراء الأصولية في(1/34)
كتابه، ولم يقتصر على إيراد المذهب الحنبلي.
ثانيا: حرص المؤلف كل الحرص على بيان المذهب الحنبلي، وبسطه في كل مسألة تعرض لها.
ثالثا: الدقة في عزو الآراء إلى الإمام أحمد، هل ذلك بطريق النص أو بطريق الإشارة، أو بطريق الإيماء.
رابعا: كان يحاول إشراك القارئ في كيفية استخراج نسبة القول إلى الإمام أحمد، حيث كان يورد اللفظ المنقول عنه، ثم يبين من أين أخذ رأي الإمام أحمد، وكيف أخذه.
خامسا: كان المؤلف لا يأخذ الروايات عن الإمام أحمد عشوائية، بل كان يربط كل رواية بمن نقلها عنه من أصحابه فيقول مثلا: روى صالح، روى عبد الله ... ، حتى يعطي القارئ الثقة فيما ينقل.
سادسا: لم يقتصر المؤلف على نقل روايات واحدة في المسألة، بل كان ينقل كثيرا من الروايات، وإن اختلفت، ثم يشرع بعد ذلك في ترجيح الروايات على بعض، مع بيان أن الأخذ بهذه هو الأليق بمذهب الإمام أحمد، وهكذا ...
سابعا: كان من منهج المؤلف مناقشة الآراء، واختيار واحد منها مدعوما بالحجة والبرهان.
ثامنا: عند عرضه لمسألة من المسائل، فإنه يرتب عرضها على الشكل الآتي، ماهية المسألة، الرأي المختار، الآراء الأخرى، أدلة الرأي المختار، ذكر الاعتراضات الواردة على أدلة الرأي المختار والرد عليها، وأدلة الآراء الأخرى والرد عليها.
تاسعا: إذا كانت المسألة متشعبة، فصل القول فيها، وحرر محل(1/35)
النزاع وبيَّنه، حتى يكون الكلام واضحًا في المسألة.
عاشرًا: إن لم يكن في الخلاف ثمرة، بل كان خلافًا لفظيًّا، بيَّن ذلك المؤلف ووضحه.
حادي عشر: كان استدلال المؤلف في المسائل التي تكلم عنها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وآثار الصحابة، وما ورد عن العرب شعرًا ونثرًا، وما نقل عن أئمة اللغة من أقوال.
ثاني عشر: عني المؤلف بإيراد -بالإضافة لأقوال الحنابلة- أقوال الشافعية، والحنفية، والأشعرية والمعتزلة في معظم المباحث التي تكلم فيها، على عكس ما فعل مع المالكية، والظاهرية، فقد كان ورودهما قليلا.
ثالث عشر: يحرص المؤلف على عدم التكرار إلا في النادر، فإذا ما وجد أن الكلام يتماثل في موضعين، أحال الكلام في الأخير على الكلام في الأول، كما فعل في صيغة كل من الأمر، والنهي، والإخبار، وكما صنع في الفورية في النهي، والتكرار فيه، حيث أحال الكلام هنا إلى الكلام في الأمر.
رابع عشر: قد بيَّن المؤلف منشأ الخلاف في مسألة أو أكثر.
خامس عشر: ربما أعاد المؤلف الكلام في بعض المسائل إلى أصل من الأصول، ثم يأخذ يفصل القول بناءً على ذلك الأصل.
سادس عشر: وأولا وأخيرًا كان من منهج القاضي في هذا الكتاب وغيره المناقشة الهادئة، بعيدة عن كل ما يخل بآداب البحث والمناظرة.(1/36)
مصادر المؤلف في هذا الكتاب
مدخل
...
مصادر المؤلف في هذا الكتاب:
تنوعت مصادر المؤلف في هذا الكتاب، فمنها ما صرح به، ومنها ما لم يصرح به، ولكن استطعنا -بعون الله وتوفيقه- أن نضع أيدينا عليها بطريق البحث والتتبع، ويمكن تصنيف تلك المصادر إلى المجموعات الآتية:(1/37)
مصادر في العقيدة:
من المعلوم أن هناك أبحاثًا في علم الأصول لها علاقة بالعقيدة، أو ما يسمى بعلم الكلام، ولا يسع الأصولي عند الكلام عليها إلا الرجوع إلى مصادرها، وهو ما صنع المؤلف، ونحن هنا نشير إلى أهمها:
أولا: "كتاب الإيمان" للإمام أحمد، نقل المؤلف منه ما يدل على رأي الإمام أحمد في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر، فأنكره، فهل يقبل ذلك الخبر أو يرد؟ وقد كان رأي الإمام أحمد هو قبول الحديث في مثل تلك الحال، انظر "ص: 963، 964".
ثانيًا: "كتاب الرد على أهل الإلحاد" "لأبي بكر ابن الأنباري" رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في بحث المحكم والمتشابه، عند(1/37)
تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} ص689
ثالثا: "كتاب القدر" لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال، كان من مصادر المؤلف في مسألة صيغة الأمر هل هي للوجوب أو لا عند الاستدلال بأمر الله تعالى لإبراهيم بذبح ولده ص216.
مصادر في التفسير وعلومه:
من المسلمات لدى الأصوليين وغيرهم أن كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، وقد تعرض العلماء لهذا الكتاب بالشرح والإيضاح، وهو ما نسميه "علم التفسير"، لذلك رجع المؤلف إلى بعض كتب التفسير وعلومه، أشهرها خمسة:
أولا: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري مطبوع، لم يصرح المؤلف به في كتابه، وقد أفاد منه في فصل في قيام بعض الحروف عن بعض، ص208، بل نقل كلام ابن قتيبة بالنص، ولم يزد عليه.
ثانيا: "غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: نسخ الحكم قبل التمكين من الفعل، عند تفسير قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ص808.
ثالثا: كتاب التفسير لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال، أفاد منه المؤلف في عدة مواضع، منها:
أسماء الأشياء، هل حصلت عن توقيف أو عن مواضعة؟(1/38)
ص192، عند الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
إذا ورد الأمر متعربا عن القرائن اقتضى الوجوب ص230 عند الاستدلال بقوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، على أن الأمر يقتضي الوجوب، وبناء على ذلك فهل إبليس من الملائكة أو من الجن ... ؟
مسألة وقوع المجاز في القرآن ص697 عند الكلام على قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} هل فيه مجاز أو لا؟
مسألة: ليس في القرآن شيء بغير العربية ص707، فقد نقل المؤلف هذا الرأي عنه.
مسألة: تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد ص713 عند الكلام في تقسيم التفسير إلى: ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وإلى ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن.
مسألة تعليم التفسير ونقله وما في ذلك من الثواب ص 718، حيث نقل المؤلف حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن ... " من التفسير المذكور.
في مسألة "بيان الكبائر من المعاصي" عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ص946.(1/39)
رابعًا: "كتاب التفسير" ليحيى بن سلام، أفاد المؤلف منه عند الكلام على أن تعليم التفسير ونقله فيه أجر وثواب "ص: 715"، حيث نقل المؤلف عنه حديث: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل".
خامسًا: "معاني القرآن وإعرابه" "لأبي إسحاق الزَّجَّاج" طبع منه جزآن، رجع المؤلف إليه في موضعين:
1- عند الكلام في مسألة: إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة، ليس فيه تخصيص، فهل تشاركه أمته في ذلك، عند الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [ص: 325] .
2- عند الكلام في مسالة: استثناء الأكثر، عند الاستدلال بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [ص: 667] .(1/40)
مصادر في الحديث وعلومه:
وإذا كان كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، فإن الحديث هو المصدر الثاني فمن البَدَهِيَّات أن يرجع الأصولي إليه في مصادره وقد حفل الكتاب بكثير من هذه المصادر، أهمها:
أولا: جزء في الإجازة والمناولة والقراءة صنفه "محمد بن مخلد بن حفص العطار" أفاد المؤلف منه في موضعين:
1- عند كلامه على صيغ التَحَمُّل والأداء للحديث "ص: 979"، حيث نقل عنه رواية عن الإمام أحمد في جواز العرض على المحدث.(1/40)
2- عند كلامه عن الترجيح بين المتعارضين اللذَين لم يمكن الجمع بينهما، وهو الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد، ولا إلى المتن، بل إلى شيء غيرهما، ضمن المرجع السادس "ص: 1054".
ثانيًا: جزء فيه السنة "لحرب بن إسماعيل الحنظلي" نقل منه المؤلف رواية عن الإمام أحمد تسوِّي بين "أخبرنا" و"حدثنا" إذا كان سماعًا من الشيخ "ص: 977".
ثالثًا: الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر" غلام الخلال، رجع إليه المؤلف عندما تكلم على صيغ التحمُّل والأداء للحديث "ص:980، 985".
رابعًا: سنن الدارقطني "لعلي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني" -مطبوع- نقل المؤلف عنه حديثًا ذكره بسنده؛ ليدلل به على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة، وأن ذلك لم يوجد"ص: 792".
خامسًا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد الطائي" المعروف بالأثرم، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في مواضع:
1- في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسى المروي عنه الخبر، وأنكره، فهل يقبل الخبر في مثل هذه الحالة أو يرد؟ عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على قبول ذلك الحديث "ص: 960".
2- في مسألة: إذا أراد الراوي تجزئة الحديث، بأن ينقل(1/41)
بعضه، ويترك بعضه ص 1016 عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك.
سادسا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال" أفاد منه المؤلف في موضعين:
عند نقل المؤلف لكلام الإمام أحمد في ترجيح بعض المراسيل على بعض، "ص920" حيث نقل عنه المؤلف مما رواه عن أبي الحارث عن الإمام أحمد أنه قال: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يُرى أصح من مرسلاته.
في مسألة: إذا أراد الراوي تقطيع الحديث، بأن ينقل بعضه، ويترك بعضه، ص1018 فقد نقل المؤلف عنه قوله: أبو عبد الله لا يرى بأسا باختصار الحديث.
مصادر في الفقه وأصوله:
أما المصادر في الفقه وأصوله، فقد كان لها نصيب الأسد في الكتاب، وهي على قسمين، قسم لم يصرح المؤلف بالرجوع إليه، وقسم صرح بالرجوع إليه:
أما القسم الأول: فقد تمكنت من الاطلاع على مصدرين، كان لهما أكبر الأثر في منهج المؤلف ومادته.
أولا: الفصول أو أصول الجصاص "لأحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص" مخطوط، فقد نقل عنه بالنص في ص100، عند الكلام على البيان وأقسامه، كما أفاد منه في مواضع أخرى، أشرنا إليها في حينها.(1/42)
ثانيا: المعتمد في أصول الفقه، "لأبي الحسين البصري"، مطبوع فقد أفاد منها المؤلف في نقل آراء المعتزلة، وأدلتهم، كما أفاد منه في بعض الجوانب المنهجية.
أما القسم الثاني: فقد رجع المؤلف إلى مصادر أهمها:
أولا: جزء فيه مسائل في أصول الفقه "لأبي الحسن الجزري" رجع إليه المؤلف في مسألة تخصيص العموم بالقياس ص563 عندما نقل من هذا الجزء كلام الإمام أحمد: "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده إلا مثله".
ثانيا: جزء من شرح مختصر الخرقي "لأبي إسحاق ابن شاقلا"، في مسألة تخصيص العلوم بالقياس ص563 عندما نقل عن أبي إسحاق ما يدل على أن الحنابلة في تلك المسألة على قسمين، قسم يجوز، وقسم يمنع.
ثالثا: كتاب أصول الفقه "لأبي الفضل التميمي"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة هل في القرآن مجاز أو لا؟ ص697، حيث نقل المؤلف قوله: "والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا".
رابعا: كتاب التقريب في أصول الفقه "لأبي بكر الباقلاني" أفاد منه المؤلف في مسألة: هل يصح استثناء الأكثر أو لا؟ ص666 حيث نقل المؤلف أنه نصر عدم صحة ذلك في كتابه المذكور.
خامسا: كتاب التنبيه "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: إذا ورد العام، فهل يجب العمل به في الحال قبل البحث عن المخصص،(1/43)
أو لا؟ "ص526"، حيث ذكر أن أبا بكر عبد العزيز رأى في كتابه التنبيه أنه يجب العمل بالعموم عند وروده، حتى يأتي المخصص.
سادسًا: كتاب "الشافي" " ... " نقل المؤلف منه "ص749" رواية عن الإمام أحمد، تدل على أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بواجب.
سابعًا: "مسائل الحرزي" أفاد المؤلف من هذا الكتاب في عزو مسألة نسخ الأخف بالأثقل ... إلى الظاهرية "ص785".
ثامنًا: "مسائل أبي سفيان الحنفي" رجع المؤلف إلى هذا المصدر في مسألة إذا ورد العموم هل يجب العمل به فور وروده قبل البحث عن دليل يخصصه أولًا؟ "ص528".
تاسعًا: "مسائل في أصول الفقه" "لأبي الحسن التميمي"، كان هذا الكتاب من مصادر المؤلف في مسألة: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بشريعة من قبله أو لا؟ "ص756".
عاشرًا: مسألة مفردة "لأبي الحسن التميمي" نقل المؤلف من هذه المسألة: أن الإمام أحمد يقول: إن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تدل على الإيجاب، "ص737"، كما رجع المؤلف إلى هذه المسألة "ص474".(1/44)
مصادر لغوية ونحوية:
لما كانت اللغة هي أحد المناهل التي ينهل منها الأصولي كان لزامًا على المؤلف أن يرجع إلى مصادرها ويفيد منها، وقد فعل المؤلف ذلك حيث رجع إلى مصادر لغوية، أهمها:
أولا: "الجامع في النحو" لابن قتيبة الدينوري، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في موضعين:(1/44)
1- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667، 668".
2- عدم صحة الاستثناء من غير الجنس "ص676".
ثانيًا: "جوابات مسائل" لابن قتيبة الدينوري -مطبوع- وقد رجع المؤلف إليه في موضعين:
1- تعريف الفقه لغة "ص68".
2- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667".
ثالثًا: كتاب "الاستثناء والشروط" لابن عرفة النحوي، أفاد المؤلف من هذا المصدر في مسألة: عدم صحة استثناء الأكثر "ص671، 672".
رابعًا: كتاب "غريب المصنف" لأبي عبيد القاسم بن سلام، كان من مراجع المؤلف في مسألة مفهوم المخالفة، هل هو حجة أو لا؟ "ص464".(1/45)
مصادر متنوعة:
وهناك مصادر غير مختصة بعلم من العلوم. نورد أهمها فيما يلي:
أولا: "أخبار أحمد" لأبي حفص ابن شاهين، رجع إليه المؤلف في نقل رواية عن الإمام أحمد، يقول فيها: "إن العقل في الرأس: "ص89".
ثانيًا: "الرسالة" للإمام أحمد، نقل المؤلف من هذه الرسالة ما يدل على أن الإمام أحمد يقول: إن خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري. "ص898".
ثالثًا: "شرح السنة" لأبي محمد البربهاري، رجع المؤلف إليه في موضعين:(1/45)
تقويم الكتاب:
الحقيقة أنه يصعب على الباحث أن يُقَوِّم أعمال الآخرين، وبخاصة إذا كان صاحب العمل من الفحول في ذلك. وبعد تردد أَقْدَمْت على ذلك حرصًا على الإنصاف، وبيانًا لما توصلت إليه، وسوف أتكلم بإيجاز، بادئًا بالحديث عما للكتاب من محاسن ألخصها فيما يلي:
أولا: إن الكتاب -في نظري- يعد أول كتاب وصل إلينا، جمع شتات أصول الحنابلة ونظمها في أبواب ومسائل وفصول.
ثانيًا: والكتاب يعد أيضًا مصدرًا أصيلا في أصول الحنابلة، لما لِمُؤَلِّفه من الدراية الكافية بالمذهب الحنبلي، أصولا وفروعًا.
ثالثًا: ويمتاز الكتاب بأن مصادره أصيلة، وبخاصة ما ينقله المؤلف عن الإمام أحمد من الروايات، وما ينقله عن أصحابه من الآراء.
رابعًا: ولم يقتصر المؤلف على إيراد رواية واحدة عن الإمام أحمد، بل كان يسوق كثيرًا من الروايات، وبخاصة إذا كانت مختلفة.
خامسًا: ولم يترك تلك الروايات على ما هي، بل أخد يرجح بعضها على بعض، ويبين أن الأخذ بهذه الرواية -مثلا- هو الأليق بمذهب أحمد، وهكذا ... ولعمر الحق إنها لمهمة صعبة قام بها المؤلف خير قيام.(1/48)
سادسًا: ومما يُسجَّل للمؤلف هنا دقة فهمه لما نقل عن الإمام أحمد، واستخراجه للحكم من تلك الروايات، ودرجة الأخذ، هل كان بطريق النص، أو بطريق الإيماء أو الإشارة أو الاحتمال؟ وهذه المهمة لا تقل عن سابقتها.
سابعًا: والكتاب أصول فقه مقارن، عُني مؤلفه بنقل المذاهب الأخرى في كل مسألة تعرض لها، مع إيراد أدلتهم، ومناقشتها والرد عليها إذا خالفت ما اختاره المؤلف.
ثامنًا: كانت شخصية المؤلف ظاهرة من أول الكتاب إلى آخره، فقد كان يناقش الأدلة، ويرجج بين الروايات المنقولة عن الإمام أحمد، ويخرج باختيار له في كل مسألة، وهذه ميزة لا تستكثر على عالم فذٍّ كالقاضي أبي يعلى.
تاسعًا: كان المؤلف موفقًا في الاستدلال على إثبات حكم أو نفيه بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وما روي عن الصحابة والتابعين من الآثار، حتى صار ذلك سمة بارزة في الكتاب، على أنه لم يَخْلُ من المماحكات العقلية، ولكنها كانت بقدر.
عاشرًا: كان المؤلف يربط المسائل بالمدلول اللُّغوي للنص الذي يستدل به، سواء كان النص المستدل به من الكتاب، أو السنة أو الآثار عن بعض الصحابة، أو أبيات شعرية، أو قطع نثرية، أو أقوال أئمة اللغة، وهذه مَيزَة أخرى تستحق الثناء.
حادي عشر: إذا كانت المسألة التي تعرض ذات شعب، حرر المؤلف محل النزاع وبيَّنَه، حتى يكون الكلام على جزئية معينة، لا لبس فيها، ولا غموض.(1/49)
ثاني عشر: إذا كان الخلاف في المسألة لفظيًّا، لا ثمرة منه، بين ذلك.
ثالث عشر: إذا تماثلت في مسألتين، فإنه لا يكرر الأدلة في المسألة الثانية، بل يحيل إليها، فمثلا لما جاء على باب: النهي، أحال الكلام في مسألة الفورية، ومسألة التكرار في النهي إلى الكلام في مسألة الفورية والتكرار في الأمر.
رابع عشر: كان المؤلف موفقًا إلى حد كبير في ترتيب الأبواب.
خامس عشر: أحسن المؤلف صنعًا؛ إذ جعل بابًا في أول الكتاب، عرف فيه كثيرًا من المصطلحات التي يحتاج الأصولي إلى معرفتها.(1/50)
المآخذ التي أخذتها على المؤلف:
هناك بعض الملاحظات على المؤلف، يمكن إجمالها في الآتي:
أولا: أفاد المؤلف من بعض الكتب، بل نقل منها بالنص، ولم يُشِرْ إليها، وكان الأولى أن يشير إليها، وأشهر هذه الكتب ثلاثة:
1- أفاد المؤلف من كتاب "الفصول في أصول الفقه" أو "أصول الجصاص" -مخطوط- تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص، المتوفى سنة: 370هـ، في كتابه "العدة"، بل نقل عنه بالنص عند كلامه على البيان من "ص: 100- 130".
2- وأفاد المؤلف أيضًا من كتاب: تأويل مشكل القرآن -مطبوع- لابن قتيبة المتوفى سنة: 276هـ، وذلك عندما تكلم المؤلف عن نيابة بعض الحروف عن بعض "ص: 208"، بل نقل منه بالنص ولم يشر إليه.
3- كما أفاد من كتاب: المعتمد في أصول الفقه -مطبوع- لأبي الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة: 436هـ، وذلك في المنهج العام، وفي بعض الأدلة، وفي نقل آراء المعتزلة وأدلتهم.
ثانيًا: استدل المؤلف بالأحاديث الموضوعة كحديث: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل، حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد ... " "ص: 95".(1/51)
وكحديث: "إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين" "ص: 96".
وكحديث: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" "ص: 331".
وكحديث: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضًا" "ص: 793، 794".
ثالثًا: نقله عن بعض رواة اتهموا بالوضع والكذب، كأبي الحسن التميمي وأحمد بن محمد بن مخزوم، وقد أشرت إلى ذلك في موضعه "ص: 84، 94، 95، 96".
رابعًا: استدلاله بالمرسل الضعيف كحديث: "ذهب حقك" "ص: 141- 1035".
خامسًا: حصل من المؤلف تناقض في حكمه على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حيث قال: إنها مبينة، وذلك عند كلامه عن البيان "ص: 106"، ولما جاء إلى الكلام عن المجمل "ص: 145" قال: إنها مجملة.
كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "ص: 513، 518"، وصرح في هذين الموضعين أنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة، كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "ص: 518" وصرح بأنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة أيضًا.
سادسًا: يتسم أسلوب المؤلف بالسهولة، وعدم التكلف، ولكن وجد مع هذا عبارات ركيكة، وتركيبات غير مترابطة، وقد أشرنا إلى ذلك في حينه.
أما لغة الكتاب: ففصيحة بشكل عام، يعتورها في بعض الأحيان(1/52)
هنات لغوية، لا تتمشى وفصيح اللغة العربية، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1- مجيء "أم" بعد "هل" في مثل قوله: أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟ "ص: 190"، و"أم" لا تأتي بعد هل في مثل هذه الصورة على الراجح عند العلماء.
2- دخول "أل" على "بعض" كما في "ص: 141، 191" وذلك مجافٍ لفصيح اللغة العربية.
3- عدم ذكر الفاء في جواب "أما" كما في "ص: 165، 166"، وإن كان قد ورد بعض الشواهد العربية حذفت فيها الفاء في جواب "أما"، ولكن حكم على تلك الشواهد بالشذوذ.
4- عدم إظهار الحركة على الحرف الأخير، والالتجاء إلى التسكين لآخر الكلمة كما في "ص: 700" في قوله: "بأن هناك مضمر محذوف" وقد صَوَّبْنَاها هكذا: "بأن هناك مضمرًا محذوفًا" وكما في "ص: 938" في نقله للحديث: "كل الناس أكْفَاء إلا حائك أو حجام" وقد صوبناه هكذا: "كل الناس أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" ولعل ذلك من صنع الناسخ.
5- دخول "أل" على "غير" كما في "ص: 341"، وذلك لم يرد في لغة العرب، وإنما هو تعبير أحدثه الفلاسفة والمتكلمون.
سابعًا: من المعلوم أن الكتاب أصول فقه مقارن، عني مؤلفه بنقل الآراء الأصولية، إلا أن هناك آراءً عزاها المؤلف، ولم يكن ذلك العزو محررًا، والحقيقة أنها كثيرة، لذلك سأقتصر على الإشارة إلى بعضها بذكر الصفحة، فيما يلي: صفحة: "151، 257، 278، 282، 352، 538، 539، 570، 575، 638". وقد حررت العزو في كل مسألة بإعادتها إلى مصادر أصحابها الأصيلة، ولم أَرَ حاجة في إعادة الكلام هنا.(1/53)
ثامنًا: يقدم في بعض الأحيان التعريف في الاصطلاح على التعريف في اللغة، كما في تعريف الواجب "ص: 159، 160" وتعريف الفرض "ص: 160، 161" وتعريف المندوب "ص: 162" وهذا خلاف المألوف.
تاسعًا: هذا فيما يتعلق بالمنهج العام، ولكن هناك تعقبات تتعلق بمادة الكتاب نفسه، نذكر أهمها فيما يلي:
1- استدلال المؤلف بكلام الإمام أحمد "ص: 147، 148" على أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مجمل وهو استدلال خطأ، لأمور ثلاثة ذكرتها في الموضع المشار إليه.
2 - من معاني "اللام" التمليك، وقد مثل لها المصنف "ص: 204" بقوله: "دار لزيد" وهذا المثال إنما هو للتملك، أما مثال التمليك فهو: "وهبت المال لزيد".
3- مثل المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وقد تعقبه الْمَجْدُ في: "المسودة" "ص: 17" بأن هذه الآية ليست مما نحن فيه، ولم يعلل، قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأت بعد حظره. والله أعلم.
4- ساق المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أن رأي الإمام في هذه المسألة هو الإباحة، وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 17" بأن كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك.
5- قال المؤلف "ص: 260": قيل لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بل استفدناه بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر".
وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف،(1/54)
بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك.
6- حكى المؤلف "ص: 266" الإجماع على أن النهي يقتضي التكرار، وحكاية الإجماع هذه غير صحيحة، وقد بينت ذلك في الموضع المشار إليه.
7- عقد المؤلف فصلا "ص: 331" في الدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، وفي أثناء ذلك ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خص واحدًا بحكم بيَّن وجه التخصيص، ثم مثَّل لذلك بأمثلة منها: تخصيص الزبير بلبس الحرير، وقد لاحظت عليه في هذا أربع ملاحظات:
الأولى: أنه عبر بـ "تخصيص" وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه.
الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف.
الثالثة: أن الواجب أن يذكر المؤلف علة الترخيص وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة.
الرابعة: أن الحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص.
8- أورد المؤلف "ص: 339- 341" كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أنه يرى دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر الذي يأمر به أمته، بينا كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك، كما أفاده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "36/ ب".(1/55)
9- ساق المؤلف "ص: 411" كلامًا عن الإمام أحمد؛ ليدلل على أن الإمام أحمد يرى أن المكلف إذا زاد على ما يتناوله الاسم كالركوع مثلا أن ذلك واجب، وهو استدلال خطأ، كما قيل في "المسودة": إنه مأخذ غير صحيح، وقال ابن عقيل: إنه مأخذ فاسد، وقال أبو الخطاب: "إنه غلط"، وقد فصلت القول في ذلك في الموضع المشار إليه.
10- في "ص: 482" خلط المؤلف في كلامه بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقة حجة؟ والثانية: الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟
11- استدل المؤلف "ص: 560" بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} على جواز تخصيص العموم بالقياس، وقد تُعُقِّب في ذلك بما بينته في موضعه.
12- نقل المؤلف "ص: 952" عن الإمام أحمد أنه لا يروي الحديث عن أصحاب الرأي، ثم بين المؤلف مراد الإمام أحمد بقوله: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم، وليس الأمر كذلك، كما بين في الموضع المشار إليه.
13- حكم المؤلف في "ص: 954" بأن التدليس مكروه، ولا يمنع من قبول الخبر، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وقد بسطت الكلام على ذلك في موضعه.
14- لم يحرر المؤلف محل النزاع "ص: 959" في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر فأنكره ... وقد حررته في موضعه.
15- وهم المؤلف "ص: 1033" حيث ذكر اسم الصحابي: قيس بن طلق، والصواب:طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، كما سبق أن ذكره المؤلف "ص: 832" موافقًا لما قلناه، وقد جرى التنبيه على ذلك في موضعه. وبالله التوفيق.(1/56)
منهج التحقيق:
تعددت مناهج التحقيق بتعدد أغراض المحققين، لذلك رأيت من الأفضل أن أبين المنهج الذي اتخذته؛ ليكون القارئ على بينة من ذلك، وهذا المنهج يتلخص فيما يلي:
أولا: إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ووصف المخطوطة، وبيان مكان وجودها.
ثانيًا: المحاولة -قدر الإمكان- أن يخرج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف، وذلك بالمحافظة على شكل النص وموضوعه، إلا في الأمور الآتية:
1- رسم الكتاب، فقد رسمته بالرسم في العصر الحاضر، غير مشير إلى ذلك في الهامش.
2- إعجام ما أهمله المؤلف من الكلمات، ولا أشير إلى ذلك إلا إذا اختلف المعنى بذلك الإعجام.
3- إصلاح الخطأ، وذلك عند التيقن من أن ما في النص خطأ فأثبت ما اعتقدته صحيحًا، بين قوسين معقوفين هكذا: [] ، أما إذا كان الخطأ مشكوكًا فيه، فأشير إلى ذلك في الهامش من غير مساس بالنص.(1/57)
4- زيادة بعض الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، إذا اقتضى المقام تلك الزيادة، وأضعها بين قوسين معقوفين هكذا: [] مع الإشارة إلى مصدر تلك الزيادة إن وجد، سواء كان ما صوبه الناسخ في الهامش بنفسه أو نقله عن ابن حمدان، أو وجدته في مراجع أخرى.
ثالثًا: تمحيص الآراء وتحرير العزو للآراء التي يذكرها المؤلف، وذلك بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية.
رابعًا: مناقشة المؤلف في أدلته ووجه الاستدلال منها، مع مناقشته في ردوده على أدلة المخالفين، متى استلزم الأمر ذلك.
خامسًا: بيان موضع الآيات من السور، مع الإشارة إلى تفسير الآية إن اقتضى المقام ذلك.
وإذا ورد لفظ الآية مخالفًا لما في المصحف العثماني، فلا يخلو الأمر إما أن يكون ذلك قراءة أو لا، فإن كان قراءة أثبتها في النص، وأشير في الهامش إلى أنها قراءة، مع بيان من قرأ بها، ومن قرأ بما في المصحف العثماني مع ملاحظة أن الوارد في الكتاب قراءات سبعية متواترة -وإما أن يكون غير قراءة، بل خطأ فأثبت الصواب مع الإشارة إلى ما ورد من الخطأ في الهامش.
سادسًا: تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب والكلام بالتفصيل على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان أقوال علماء الجرح والتعديل في رواة تلك الأحاديث، مع إبداء ملاحظاتي على ذلك.
سابعًا: تخريج الآثار الواردة في الكتاب.
ثامنًا: عزو الروايات التي ينقلها المؤلف عن الإمام أحمد إلى مصادرها إن وجدت(1/58)
تاسعًا: عزو الأبيات الشعرية إلى قائلها، وإرجاعها إلى دواوين أصحابها إن وجدت أو إلى المراجع الأصيلة لشعر الشاعر.
عاشرًا: عزو الأمثال مع بيان القائل للمثل والمناسبة التي قيل فيها.
حادي عشر: شرح المفردات اللغوية الغريبة.
ثاني عشر: شرح المصطلحات الأصولية الغريبة.
ثالث عشر: ربط موضوعات الكتاب بعضها ببعض؛ حتى يتمكن القارئ من التصور الكامل للموضوع الذي يريد بحثه.
رابع عشر: يعتبر هذا الكتاب من أهم كتب الحنابلة في أصول الفقه، إن لم يكن أهمها؛ لذلك حرصت على ربطه بكتب الحنابلة في الأصول وبخاصة تِلْمِيذَي المؤلف: أبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي1، وأبي الخطاب الكلوذاني2، فقد اعتمدا على شيخهما كثيرًا، وناقشاه في بعض اختياراته، وقصدي من ذلك إتاحة الفرصة للقارئ ليناقش ويقارن، حتى يستطيع تحديد المذهب الحنبلي في القضية التي يبحثها.
خامس عشر: التنبيه على التعبير الذي يرد غير متمش مع فصيح اللغة العربية، كما نبهت على الأخطاء النحْوية.
سادس عشر: التعريف بالأعلام، وذلك بإيراد ترجمة قصيرة تتضمن اسم العَلَم، وولادته، ومذهبه، وبعض كتبه، ووفاته.
سابع عشر: التعريف بالكتب الوارد ذكرها في الكتاب، مع بيان
__________
1 له كتاب "الواضح في أصول الفقه" يقع في ثلاثة مجلدات، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك.
2 له كتاب "التمهيد في أصول الفقه" يقع في مجلدين، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك.(1/59)
المطبوع والمخطوط، ما أمكن ذلك.
ثامن عشر: التعريف بالمدن والبلدان والمواضع الغريبة الوارد ذكرها.
تاسع عشر: التعريف بالطوائف والفرق والمذاهب.
عشرون: وضع الفهارس الفنية العامة، وتشتمل على ما يلي:
1- فهرس الآيات القرآنية.
2- فهرس الأحاديث.
3- فهرس الآثار.
4- فهرس القوافي وأنصاف الأبيات.
5- فهرس الأمثال.
6- فهرس الأعلام.
7- فهرس الطوائف، والفرق، والمذاهب.
8- فهرس القبائل والجماعات.
9- فهرس الأماكن والبلدان.
10- فهرس الكتب.
11- فهرس الموضوعات.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.(1/60)
افتتاحية الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
[الحمد لله المتقرب إليه به، حمد الراضي من عباده بشكره، وإياه أسأله التوفيق بمنه، وأن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وعلى أهله وأصحابه من بعده، وبه أستعين على ما قصدته من رحمته] 1.
............................2
[والفقه في اللغة: العلم، يقال: فلان يفقه الخير والشر، ويفقه كلام فلان أي: يفهمه ويعلمه] 3 [وسمي العالم عالمًا] [2/ أ] بما يتعاطاه من العلوم.
__________
1 هذا الاستفتاح أخذناه من كتاب: "الروايتين والوجهين" للمؤلف، ورقة "1/ ب".
2 هنا وقع طمس بسبب أن الورقة الأولى لحقها بعض التلف، فألصقت برأسها قطعة من الورق لتقويتها، والطمس يقدر بخمسة أسطر تقريبًا، وهي -في اعتقادي- عبارة عن الافتتاحية، وأول الكلام في تعريف الفقه لغة؛ يدل على ذلك استدلاله بقول ابن قتيبة بعد ذلك. و"أصول الفقه" كلمتان، لكل منهما معنى عند الافتراق، ولهما معنى عند الاجتماع، فالأصول جمع أصل، والأصل في اللغة: ما ينبني عليه غيره.
3 ما بين القوسين نقله الطوفي في كتابه "شرح مختصر الروضة" الورقة "22/ب" منقولا عن كتاب العدة للمؤلف.(1/67)
وذكر ابن قتيبة1 في جوابات مسائل سئل عنها فقال: "الفقه في اللغة: الفهم، يقال: فلان لا يفقه قولي. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 2 أي لا تفهمونه، ثم يقال للعلم، الفقه؛ لأنه عن الفهم يكون، والعالم فقيه؛ لأنه يعلم بفهمه"3، فهذا موضوعه في اللغة4.
وأما موضوعه عند الفقهاء والمتكلمين فهو: العلم بأحكام أفعال المكلفين
__________
1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد من أئمة الحديث واللغة والأدب، قال فيه الخطيب: "كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة دينًا فاضلًا"، عده شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل السنة، ونسبه البيهقي إلى الكرامية. رماه الحاكم بالكذب مدعيًا الإجماع على ذلك، وقد رد الذهبي كلام الحاكم وعابه. ولد ببغداد وقيل: بالكوفة سنة: 213هـ. وتوفي على الأصح سنة: 276هـ.
انظر ترجمته في: بغية الوعاة "2/ 63"، والبداية والنهاية "11/ 48"، وتذكرة الحفاظ "2/ 631"، ودائرة المعارف الإسلامية "1/ 260"، وشذرات الذهب "2/ 169"، وطبقات المفسرين للداودي "1/ 245"، والفهرست لابن النديم "77"، ولسان الميزان "3/ 357"، والمنتظم "5/ 102"، وميزان الاعتدال "2/ 503"، والنجوم الزاهرة "3/ 75"، ووفيات الأعيان "2/ 246".
2 "44" سورة الإسراء.
3 هذا النص موجود في كتاب: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة" لابن قتيبة "ص: 12"، وبقية الكلام هو: "لأنه إنما يعلم بفهمه، على مذهب العرب في تسمية الشيء بما كان له سببًا".
4 كون الفقه لغة: الفهم أورده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد"، الورقة "2/ أ" كما أورده ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ 1" وقد ذكر التعريف الذي قال به شيخه أبو يعلى بصيغة التمريض. وهناك آراء أخرى ساقها الطوفي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة "21، 22/ أ" كما ساقها أبو البقاء الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير: "ص: 11" فارجع إليهما إن شئت.(1/68)
الشرعية دون العقلية1. نحو التحريم والتحليل والإيجاب والإباحة والندب وصحة العقد وفساده ووجوب غرم وضمان قيمة متلف وجناية.
وإطلاق اسم الفقه لا يجري على العلم بالنجوم والطب والفلسفة، وإنما يجري على العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية2.
__________
1 هذا التعريف ذكره أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "2/ أ" بنصه غير معزوٍّ لأحد. وذكر ابن عقيل في كتابه: "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ أ" تعريفين:
الأول: الفقه عبارة عن فهم الأحكام الشرعية بطريق النظر.
الثاني: وقال قوم: هو العلم بالأحكام الشرعية بطريق النظر والاستنباط. وقد ذكر الطوفي كثيرًا من التعريفات، وناقشها مناقشة علمية، وذلك في شرحه على مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقات "23، 24، 25" "ولمزيد من الفائدة راجع كتاب: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي "1/ 8"، وشرح الكوكب المنير" ص: 11" و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 8، 9"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي "ص: 17".
2 إن أراد المؤلف أن ذلك الإطلاق قيِّد بالعرف فمسلّم. وإن أراد أن ذلك لغة، فغير مسلم، فقد قال القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" "ص: 16": "الفقه هو: الفهم، والعلم، والشعر، والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف كذلك نقله المازري في شرح البرهان".
كما قد قال ابن فارس في كتابه "معجم مقاييس اللغة" "4/ 442" ما نصه: "الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول: فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون: لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه".(1/69)
وأما أصول الفقه فهو: عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به؛ لأن أصل الشيء ما تعلق به وعرف منه، إما باستخراج أو تنبيه1. فسميت هذه الأصول بهذا الاسم؛ لأن بها يتوصل إلى العلم بغيرها، فتكون أصلا له، فلا يجوز أن يقال: إن [الكلام في] أصول الفقه هو: الكلام في أدلة الفقه؛ لأن من ذكر الدلالة على إثبات صيغة العموم لا يقال: إنه ذكر دليلًا في الفقه، وإنما أدلة الفقه: عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد. والكلام في أصول الفقه ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها، ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها2.
__________
1 نقل الطوفي كلام القاضي هذا وتعقبه بقوله: "قلت: ما ذكره في أصول الفقه صحيح. أما قوله: أصل الشيء ما تعلق به، فليس بجيد، إذ قد يتعلق الشيء بما ليس أصلا له، كتعلق الحبل بالوتد في المحسوسات، وتعلق السبب بالمسبب والعلة بالمعلول في المعقولات". انظر شرح مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقة "21/ أ".
وعرَّف أبو الحسين البصري "الأصل" بقوله: "فأما قولنا: أصول، فإنه يفيد في اللغة، ما يبتنى عليه غيره ويتفرع عليه" "المعتمد" "1/ 9".
وعرَّفه الآمدي بقوله: "فأما أصول الفقه، فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه" "الإحكام" "1/ 8".
أما "الأصل" في اصطلاح الأصوليين فله أربعة معانٍ: الدليل، والرجحان، والقاعدة المستمرة، والمقيس عليه. انظر "شرح تنقيح الفصول" "ص: 15"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 10" و"كشاف اصطلاح الفنون" "1/ 85".
2 هذا رأي المؤلف، إلا أن بعض العلماء، كابن عقيل -مثلا- يرى أن معرفة الأصول أولى بالتقديم من معرفة الفروع؛ لأن الفروع تنبني عليها. راجع "الْمُسَوَّدَة" لآل تيمية "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير"ص: 14".(1/70)
وإذا كان القصد من [2/ ب] 1 وما هو متعلق بها [الذي] 2 يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل واستصحاب حال.
وقد قيل: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين أحدهما: ما طريقه الأقوال والآخر الاستخراج.
فأما الأقوال: فهي مثل النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع.
وأما الاستخراج فهو القياس.
والأول أصح؛ لأنه أعم، وذلك أنه يدخل فيه دليل الخطاب واستصحاب الحال، وتلك أصول عندنا.
ولم أذكر قول الواحد من الصحابة إذا لمن يخالفه غيره؛ لأن الرواية عن الإمام أحمد3 -رحمه الله- مختلفة، ونحن نذكره مفردًا إن شاء الله تعالى.
__________
1 هنا طمس يقارب نصف سطر لم أستطع قراءته.
2 هذه الكلمة لم أستطع قراءتها في الأصل إلا بعد العثور عليها ضمن النص الذي نقله الطوفي في شرحه لمختصر الروضة الجزء الأول الورقة "16/ أ" حيث قال: "ومنهم من مشايخ أصحابنا القاضي أبو يعلى -رحمه الله- قال في "العدة": الذي يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع ... " إلى قوله: "واستصحاب حال".
3 هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، ألفت الكتب الكثيرة في حياته وجهاده وعلمه وخلقه قديمًا وحديثًا، فمن القدماء ابن الجوزي، ومن المحدثين أبو زهرة وعبد الحليم الجندي وعبد العزيز سيد الأهل والمتمشرق باتون وغيرهم. توفي ببغداد سنة: 241هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة.(1/71)
فأما الأصل فثلاثة أضرب: الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فضربان: مجمل ومفصل، ويأتي شرحهما في باب الحدود1.
وأما السنة فعلى ضربين:
ضرب يؤخذ من النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاهدة وسماعًا. فهذا يجب على كل أحد قبوله واعتقاده على ما جاء به من وجوب وندب وإباحة وحظر، ومن لم يقبله كفر؛ لأنه كذبه في خبره.
وضرب يؤخذ خبرًا عنه، والكلام فيه في موضعين:
أحدهما في إسناده، والآخر في متنه، فأما الإسناد فضربان:
أحدهما متواتر والآخر آحاد.
والمتن على ضربين: قول وفعل وإقرار على قول وفعل، ويأتي شرح ذلك في باب الأخبار2.
وأما الإجماع: فيأتي الكلام في تفصيله في باب الإجماع3.
وأما مفهوم الأصل فذلك على ثلاثة أضرب: مفهوم الخطاب ودليله ومعناه، ويأتي شرح ذلك في باب الحدود4.
وأما استصحاب الحال فذلك على ضربين:
أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي
__________
1 "ص: 100".
2 "ص: 839".
3 "الورقة: 158" وما بعدها.
4 "ص: 152".(1/72)
عليه، وهذا صحيح بإجماع أهل العلم، وذلك مثل أن يسأل حنبلي عن الوتر فيقول: ليس بواجب1؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل الشرعي على وجوبه.
والثاني: استصحاب حكم الإجماع، فهو أن تجمع الأمة على حكم ثم تتغير صفة المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، هل يجب استصحاب حال الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟ على خلاف بينهم، يأتي الكلام فيه2 إن شاء الله تعالى3.
__________
1 الوتر غير واجب عند الحنابلة. راجع "المغني" لابن قدامة "2/ 132" و"منتهى الإرادات" لابن النجار الحنبلي "1/ 98" و"التنقيح المشبع" للمرداوي "ص: 54"، كما أنه غير واجب عند الشافعية، انظر "حاشية قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلى" "1/ 212"، وكذلك الشأن عند المالكية، راجع "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 313" وما بعدها، و"الشرح الصغير" لأبي البركات الدردير "1/ 411".
أما الحنفية فالوتر عندهم واجب، راجع في ذلك "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي "1/ 168- 170"و"شرح فتح القدير" لابن الهمام "1/ 423- 434".
2 الورقة: 190.
3 فات المؤلف أن يذكر تعريف الأصولي، وتعريف الفقيه، وحكم تعلم أصول الفقه، وتكميلا للفائدة نذكر ذلك فيما يلي:
فالأصولي -كما يقول أبو البقاء الفتوحي- في كتابه "شرح الكوكب المنير" "ص: 14": "هو من عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية. أما الفقيه فهو: من عرف جملة غالبة من الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو بالقوة" هكذا عرفه الفتوحي في كتابه السابق ذكره.
أما حكم تعلمها، فعلى قولين:
الأول: أنه فرض كفاية.
والثاني: أنه فرض عين على من أراد الاجتهاد. ارجع إلى "المسودة" "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 14".(1/73)
باب ذكر حدود
مدخل
...
باب ذكر حدود 1:
تحديد2 أصول الفقه من ألفاظها.
__________
1 راجع في هذا الباب "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول الورقة "10/ ب" و"التمهيد" الورقة "6/ أ" و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول الورقة "32/ ب" و"روضة الناظر" "ص: 5"، و"المسودة" "ص: 570" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 25".
2 هذه الكلمة غير واضحة في الأصل، إلا أنها دائرة بين كلمة "تحد"، وكلمة "تحديد" ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/74)
فصل: [في تعريف الحد] :
معنى الحد هو: الجامع لجنس ما فرقه التفصيل، المانع من دخول ما ليس من جملته فيه1. ولذلك سمي البواب حدادًا؛ لأنه يمنع من ليس من أهل الدار من الدخول إليها.
__________
1 الأصوليون في تعريف "الحد" على فريقين:
الفريق الأول: لم يعرفه؛ لأنه يستلزم الدور.
الفريق الثاني: عرفه؛ وهؤلاء اختلفوا على أقوال كثيرة، لا داعي لذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى المراجع التي ذكرناها قريبًا.(1/74)
وسموا الحديد بهذا الاسم؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى المتحصن به.
وسميت حدود الدار والأرض؛ لأنها تمنع أن يدخل في البيع ما ليس [3/ أ] من البيع، وكذا يخرج منه ما ليس هو من المبيع، وسميت العقوبة حدًّا؛ لما فيها من المنع من مواقعة الفواحش.
ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ [لأنها تمتنع به] 1 من الطِّيب والزنية.
والزيادة في الحد نقصان في المحدود؛ لأن الحد [متى جمع ذواتًا كانت] 2 متفرقة حال التفصيل، فمتى ضم إليه [قدر] 3 زائد على المذكور خرج بعض الذوات من جملة الكلام، فيكون الحد للبعض4، بعد أن كان للجميع.
وقال أبو بكر الباقلاني5: الزيادة فيه على ضربين:
__________
1 غير واضحة في الأصل، والقراءة اجتهادية.
2 هذه الكلمات غير واضحة في الأصل بسبب الرطوبة، وما أثبتناه هو الأقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى؛ لأن السياق يدل على ذلك؛ ولأن بعض الحروف الظاهرة تدل على ذلك أيضًا.
3 القراءة لهذه الكلمة على وجه التقريب؛ لعدم وضوحها في الأصل.
4 لا يجوز لغة دخول: "أل" على بعض؛ حيث لم يرد ذلك في لغة العرب، خلافًا لابن درستويه. انظر: القاموس "2/ 324" مادة: "بعض".
5 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني أو ابن الباقلاني، أصولي متكلم، مالكي المذهب، بصري الولادة، بغدادي السكنى والوفاة. توفي لسبع بقين من شهر ذي القعدة سنة: 403هـ.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 379" و"ترتيب المدارك" "4/ 585" و"الديباج المذهب" "ص: 267" و"شذرات الذهب" "3/ 168" و"وفيات الأعيان" "3/ 400".(1/75)
منها ما هو نقصان منه، ومنها ما هو ليس بنقصان.
فأما التي هي نقصان نحو قولك: حد الواجب أنه في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فهذا يوجب خروج كل ما ليس بصيام عن كونه واجبًا، فعادت بالنقصان.
وأما ليس بنقصان نحو قولك: حد الواجب: أنه فرض في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فكل فرض واجب.
وأما النقصان من الحد فإنه أبدًا زيادة فيه، نحو قولك: حد الواجب ما كان في فعله ثواب، ولا يقرن به في تركه عقاب، فيدخل النفل في جملة الواجب؛ لأنه مما عليه ثواب.(1/76)
فصل: [في تعريف العلم] :
وحدُّ العلم: معرفة المعلوم على ما هو به1.
__________
1 هذا التعريف ذكره إمام الحرمين في كتابه: "البرهان" الجزء الأول الورقة "10/ ب"، ونسبه للقاضي أبي بكر الباقلاني، كما نسبه الغزالي إلى الباقلاني في كتابه: "المنخول" "ص: 38".
وقد ساق ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ ب، 3/ ب" كثيرًا من الحدود وناقشها، واختار التعريف القائل: "العلم هو وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها".
ولمزيد من الاطلاع راجع "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "6/ ب، 7/ ب" فإنه اختار تعريفًا قريبًا من تعريف شيخه أبي يعلى، وانتصر له.
وراجع أيضا: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "32/ ب، 33/ ب" و"المسودة" "ص: 575" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 17- 19".(1/76)
وقيل: تبين المعلوم على ما هو به1.
وقيل: إثبات المعلوم على ما هو به.
وقيل: إدراك المعلوم على ما هو به2؛ لأن جميعه محيط بجميع جملة المحدود، فلا يدخل ما ليس منه، ولا يخرج ما هو منه.
والحد الأول أصح3؛ لأن من حده: "بالتبين"4، يبطل بعلم الله تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه مبين؛ لأن ذلك يستعمل في العلم الذي يحصل عقيب الشك ولا يجوز ذلك عليه، ومع هذا فهو عالم.
ومن يحده "بالإثبات" لا يصح؛ لأن الإثبات هو الإيجاد5، ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس.
ومن حده "بالإدراك"، لا يصح؛ لأنه يستعمل في أشياء مختلفة على طريق الحقيقة بالإدراكات الخمسة: الرؤية والسمع والشم والذوق والبلوغ، فثبت أنه يستعمل في غير العلم.
ولو قيل: "معرفة المعلوم"، ولم يقل "على ما هو به" كفى، ويكون ذلك تأكيدًا؛ لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم ويكون معرفة إلا على ما هو به، ولو تعلق به على ما ليس به لكان جهلا، وخرج عن كونه
__________
1 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
2 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
3 هكذا اختار القاضي هذا التعريف هنا، مع أنه اختار تعريفًا آخر، هو بمعنى حد المعتزلة، ذكر ذلك عبد الحليم بن عبد السلام في "المسودة" "ص: 575".
4 في الأصل: "التبيين"، والصواب ما أثبتناه,
5 يعني: أن "الإثبات" لفظ مشترك فهو مجمل في التعريف؛ ولذلك فالتعريف باطل. انظر "التمهيد" الورقة "7/ أ".(1/77)
علمًا، فلهذا صح أن نقتصر على قوله: "معرفة المعلوم".
وإنما عدلنا عن القول بأنه: معرفة الشيء، إلى القول بأنه معرفة المعلوم؛ لأن: القول معلوم، أعم من: القول شيء؛ لأن الشيء لا يكون إلا موجودًا، والمعلوم يكون معدومًا وموجودًا، وقد ثبت أن المعدوم ليس بشيء
فإذا قيل: حده أنه: معرفة الشيء، خرج العلم بالمعدوم الذي ليس بشيء عن أن يكون علمًا وانتقض الحد؛ لأنه علم بما ليس بشيء، فوجبت الرغبة لما ذكرنا عن ذكر "الشيء" إلى ذكر "المعلوم".
والدلالة على أن حده ما ذكرنا أن كل من عرف العلم فقد علم أنه معرفة، وأنه هو الذي لأجله كان العالم عالِمًا، وكل من عرف المعرفة التي صار العالم عالِمًا بها فقد عرف العلم علمًا، فكان حدًّا صحيحًا [3/ ب] كما أن حد المحدث لما كان هو الموجود عن عدم، كان كل من عرفه موجودًا عن عدم، فقد علم أنه محدث.
وقالت المعتزلة1 [حَدُّ] 2 العلم: "اعتقاد الشيء على ما هو به فقط".
__________
1 المعتزلة إحدى الفرق الْمُبَدَّعة التي خالفت أهل السنة في كثير من أصول العقيدة وفروعها، وقد تعددت فرقها حتى بلغت عشرين فرقة، سميت بهذا الاسم؛ لأن رئيسها "واصل بن عطاء الغزال" كان يرى أن الفاسق بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن، ولما سمع منه الحسن البصري هذا طرده من مجلسه، فاعتزل عند سارية من سواري المسجد، وانضم إليه عمرو بن عبيد، فلما اعتزلا قيل لهما ولمن تبعهما معتزلة. راجع: "الفرق بين الفرق" "ص: 24، 114، 201"، و"الْمِلَلَ والنِّحَل" للشهرستاني "1/ 43- 85".
2 غير واضحة في الأصل، ولكن السياق يدل عليها.(1/78)
وقال بعضهم: اعتقاد الشيء على ما هو به على غير [وجه] 1 الظن والتقليد.
وقال آخرون منهم: حَدُّه اعتقاد الشيء على ما هو به، إذا وقع عن ضرورة أو دليل.
وقال آخرون منهم: اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى معتقده.
وكل هذه الحدود باطلة؛ لأن من قال: اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، يوجب أن يكون المخمن والظّان -إذا اعتقد الشيء على ما هو به- عالِمًا باعتقاد ذلك الشيء، وهذا باطل؛ للاتفاق على أن العالم2 لا يجوز كونه على غير ما علمه، والظان بكون الشيء يجد من نفسه تجويز كونه على خلاف من ظنه وتوهمه؛ ولأنه يبطل قوله وقول من قال: إذا وقع عن ضرورة أو دليل، وقول من قال: "مع سكون النفس" بعلم الله تعالى؛ لأنه عالم وليس بمعتقد، ولا علمه عن ضرورة ولا عن سكون النفس.
وعلى أن النفس عندهم هي الجملة المحسوسة، وسكون الجملة هو سكون مكان، وذلك يقتضي أن الإنسان إذا كان ساكن الجملة كان عالِمًا، وإذا لم يكن متحركًا فلا يكون عالِمًا، وذلك باطل.
وعلى أن السكون يستعمل في زوال الغم وحصول الأنس، وهذا يقتضي أن يكون الإنسان إذا زال غمه وأنس فهو عالم، وذلك باطل.
__________
1 غير واضح في الأصل، ولكن السباق واللحاق يدلان عليها.
2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العلم".(1/79)
فصل: [في أقسام العلم] : 1
والعلم على ضربين: قديم ومحدث.
فأما القديم: فهو علم الله تعالى، وهو علم واحد يتعلق بجميع المعلومات على ما هي به، لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه التغيير والبطلان، ولا يوصف بأنه ضروري، ولا بأنه مكتسب، ولا استدلالي؛ لئلا يوهم كونه محتاجًا إلى العلم لما يعلمه لدفع ضرر عنه، أو أنه ملجأ ومكره على العلم بما هو عالم به، ومحال ذلك في صفته.
وأما المحدث2 فعلى ضربين: ضروري، ومكتسب.
فأما الضروري فحده: كل علم محدث لا يجوز ورود الشك عليه ويلزم نفس المخلوق3. أو ما لا يمكنه معه الخروج عنه، والانفصال منه، وإنما قلنا: ما لزم نفس المخلوق، ولم نقل: ما لزم نفس العالم؛ لكي يخرج علم القديم سبحانه عن كونه اضطرارًا؛ لأن عمله سبحانه بكل معلوم لازم لذاته على الوجه الذي يلزم ذواتنا علوم الضرورات، وليس لأحد أن يقول: إنه مضطر إلى العلم بمعلوماته.
__________
1 راجع في هذا الفصل كتاب: "الواضح" الجزء الأول الورقة "4/ ب، 5/ ب" وكتاب "التمهيد" الورقة "7/ ب، 8/ ب"، فإن أبا الخطاب ترسم خُطَا شيخه في هذا البحث مع فروق بسيطة، وراجع أيضًا كتاب: "شرخ مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "33/ ب" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 19".
2 لم يذكر القاضي تعريف العلم المحدث كما ترى، غير أن تلميذه أبا الخطاب عرفه بقوله: علم جميع المخلوقين من الملائكة والإنس والجن وغير ذلك. انظر "التمهيد" الورقة "7/ ب، 8/ ب".
3 هكذا عرفه القاضي غير أن أبا الخطاب عرفه بقوله: "هو ما علم الإنسان من غير نظر ولا استدلال". انظر المرجع السابق.(1/80)
وإنما سمي ضرورة؛ لأنه مما تمس الحاجة إليه، أو مما يقع الإكراه عليه والإلجاء إليه؛ ولهذا قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 2. وقالوا في المكره على الطلاق والعتاق: إنه مضطر إليه ومحمول عليه ومكره عليه.
وعلم الضرورة على ضربين3: أحدهما لا يتعلق بسبب سابق، والثاني يتعلق بسبب سابق.
فأما ما لا يتعلق بسبب سابق، فمثل علم الإنسان بأحوال [4/ أ] نفسه، من قيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وما يعرض في نفسه من خير وشرور، وميل ونفور، ولذة وألم، وصحة وسقم، ومثل ذلك علمه باستحالة اجتماع الضدين، والجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين، فهذا كله علم مبتدأ في نفسه لا يتعلق بسبب.
وأما ما يتعلق بسبب سابق فعلى ضربين: محسوس، وغير محسوس، فأما المحسوس: فهو العلم الواقع عن الحواس الخمس وهي: البصر
__________
1 "119" سورة الأنعام.
2 "173" سورة البقرة.
3 هكذا قسمه المؤلف إلا أن أبا الخطاب قسمه إلى أربعة أقسام هي:
"الأول: ما يعلمه الإنسان من حال نفسه مثل الغم والسرور، والصحة والسقم، والقيام والقعود ...
الثاني: ومنه ما يعلم بطريق العقل، وهو مثل علمه باستحالة اجتماع الضدين.
الثالث: ومنه ما علمه بالحواس الخمس.
الرابع: ومنه ما يعلمه بخبر التواتر، فيقع له به العلم ضرورة، وهو مثل إخباره بالبلاد النائية والقرون الخالية ... " "التمهيد" الورقة "8/ أ"، وأنت ترى أن مؤدى التقسيمين واحد.(1/81)
والسمع والذوق والشم واللمس، وذلك أن العلم يحصل عن الإدارك بهذه الحواس.
وأما غير المحسوس فهو: العلم الواقع عن الخبر المتواتر، مثل العلم بالبلدان النائية والسير الماضية، فإذا سمع الخبر المتواتر حصل العلم بمخبره.
وأما المكتسب: فحده كل علم يجوز ورود الشك عليه.
وقد قيل: ما وقع عن نظر واستدلال.
ومعنى الكسب: ما وجد بالموصوف به وله عليه قدرة محدثة.
ومعنى النظر والاستدلال: ما يحصل العلم به عن ابتداء نظر وتفكر.
وعلم الكسب على ضربين: عقلي وشرعي:
فأما العقلي: فهو ما لا يفتقر إلى شرع، مثل العلم بحدوث العالم، وإثبات محدثه وصفاته، وصدق من ظهرت المعجزة على يده، وما أشبه ذلك مما لو نظر العاقل فيه وتدبره؛ لحصل له العلم من غير شرع.
وأما الشرعي: فهو العلم الواقع عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس على أحد هذه الأصول الثلاثة.(1/82)
فصل: [في تعريف الجهل والشك والظن] : 1
وحَدُّ الجهل: تبين المعلوم على خلاف ما هو به، ضد العلم2.
__________
1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "9/ ب".
2 لم يذكر القاضي أقسام الجهل، وهو ينقسم إلى قسمين:
الأول: الجهل المركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته.
الثاني: الجهل البسيط وهو: انتفاء إدارك الشيء بالكلية.
انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 23".(1/82)
والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
والظن1: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
وغلبة الظن: قوة الظن، فإن الظن يتزايد، ويكون بعض الظن أقوى من بعض.
والشك: ليس بطريق للحكم في الشرع، ولا يلزم على هذا الصيام يوم الشك؛ لأنه ليس الموجب لصيامه الشك، وإما الموجب قيام الدليل، ألا ترى أنه يوجد الشك ولا يجب الصيام، وهو ما إذا كانت السماء مصحية، لعدم قيام الدليل.
والظن: طريق للحكم، إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين وخبر المقومين، إذا كانا عَدْلَينِ، ويجب العمل بالقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة، ويجب استصحاب حكم الحال السابق في حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة، والطلاق بعد النكاح، والشك في العتاق بعد الملك؛ لأن الظاهر بقاؤه وعدم حدوث المشكوك فيه.
__________
1 في الأصل: "الظني".(1/83)
فصل: [في تعريف العقل] : 2
والعقل ضرب من العلوم الضرورية، وهو مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، ونقصان الواحد عن الاثنين، والعلم
__________
1 في الأصل: "الظني".
2 راجع في هذا الفصل كتاب "المعتمد في أصول الدين" للقاضي أبي يعلى "ص: 101، 102" في مبحث العقل، وكتاب "الواضح" الجزء الأول، الورقة "5/ ب، 6/ ب" و"التمهيد": الورقة "8"، و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "34"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 23، 24" و"المسودة" "ص: 556، 559".(1/83)
بموجب العادات، فإذا أخبره مخبر بأن الفرات تجري دارهم راضية، لا يجوز صدقه. ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه، وحمل [4/ ب] ثمرة وإدراكها من ساعته، لا ينتظر ذلك ليأكل منها، وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله، لا يهرب فزعًا من ذلك، فإذا حصل له العلم بذلك، كان عاقلا ولزمه التكليف.
وقال أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث1 من أصحابنا في "كتاب العقل": العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر، وإنما هو نور، فهو كالعلم"2.
وقال أبو محمد البربهاري3: وليس العقل باكتساب، وإنما هو
__________
1 هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، من أكابر علماء الحنابلة أصولا وفروعًا، متهم بالوضع، فقد وضع حديثًا أو حديثين في مسند الإمام أحمد، نسأل الله السلامة، ولد سنة: 317هـ، وتوفي سنة:371هـ.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "2/ 139"، والمغني في الضعفاء للذهبي "2/ 396، 397"، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي "ص: 516"، وميزان الاعتدال للذهبي "2/ 624- 626"، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي "4/ 140"، وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة "1/ 80".
2 نقل أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" "8/ أ" تعريف أبي الحسن هذا غير أنه لم يذكر فيه قوله: "ولا صورة" كما أنه لم يذكر قوله: "فهو كالعلم" مع أنه أتى بزيادة على ما ذكره القاضي وهي عبارة "في القلب" بعد قوله: "وإنما هو نور". أما "المسوّدة" فقد نقل فيها تعريف أبي الحسن التميمي كما هنا.
3 هو الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري، شيخ الحنابلة في وقته، صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد، منهم المروزي وسهل التُّسْتُرِي. له مصنفات منها: شرح السنة. توفي في بغداد في رجب سنة: 329هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب "2/ 319"، وطبقات الحنابلة "2/ 18"، والمنتظم "6/ 323"، والنجوم الزاهرة "3/ 273".(1/84)
فضل من الله1. ذكره في "شرح السنة" في جزء وقع إليّ
وقال بعضهم: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات.
وقال أبو بكر بن فورك2: هو العلم الذي يتمنع به من فعل القبيح.
وقال بعضهم: ما حسن معه التكليف.
ومعنى ذلك كله متقارب، ولكن ما ذكرناه أولى3؛ لأنه مفسر، وهو قول الجمهور من المتكلمين.
وقال أحمد فيما رواه أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل" عن محمد بن أحمد بن مخزوم4 عن إبراهيم الحربي5 عن أحمد أنه قال: العقل
__________
1 هكذا جاء نص تعريف البربهاري في "المسوّدة" "ص: 556" نقلا عن القاضي أبي يعلى، غير أن أبا الخطاب ذكر تعريف البربهاري على النحو التالي: ليس بجوهر ولا عرض وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء "التمهيد"، الورقة "8/ أ".
2 هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري ثم الأصبهاني، أبو بكر، أصولي فقيه متكلم نحوي، درس بالعراق فنيسابور فغزنة، وفي طريق عودته من غزنة إلى نيسابور سُمَّ فمات، فنقل إلى نيسابور، ودفن بها سنة: 406هـ.
له ترجمة في: الأعلام "6/ 313" وشذرات الذهب "3/ 181" ووفَيَات الأعيان "3/ 402" والنجوم الزاهرة "4/ 240".
3 وقد اختاره من الحنابلة أبو الوفاء بن عقيل في كتابه "الواضح"، الجزء الأول، الورقة "5/ ب"، كما اختاره أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" ونقل عن شيخه القاضي أبي يعلى أن ذلك اختيار الأصحاب.
4 أبو الحسين المقرئ، روى عن إبراهيم بن الهيثم البلدي وأحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، وعنه أبو بكر الأبهري وأبو حفص الكتاني. قال حمزة السهمي: سألت أبا محمد بن علام الزهري عنه فقال: ضعيف. كما سئل أبو الحسن التمار عنه فقال: كان يكذب. ولد سنة: 268هـ، ومات بعد سنة: 330هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "1/ 362"، "وتنزيه الشريعة" لابن عراق "1/ 100".
5 هو إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، =(1/85)
غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف"1.
ومعنى قوله: غريزة، أنه خلق الله تعالى ابتداءً، وليس باكتساب للعبد. خلافًا لما حكي عن بعض الفلاسفة: أنه اكتساب.
وقال قوم: هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض.
وقال قوم: هو مادة وطبيعة.
وقال آخرون: هو جوهر بسيط.
وهذا فاسد؛ لأن الدليل دلَّ على أن الجواهر كلها من جنس واحد، خلافًا للمُلْحِدَةِ في قولهم: هي مختلفة؛ لأن معنى المثلين: ما سد أحدهما
__________
= والحربي نسبة إلى محلة ببغداد، سميت بحربية، نسبة إلى حرب بن عبد الله صاحب حرس المنصور، وقد كان إبراهيم الحربي عالِمًا بالحديث والفقه، من أصحاب الإمام أحمد وممن نقل عنه كثيرًا من المسائل. ولد سنة: 198هـ، وتوفي ببغداد يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجة سنة: 285هـ.
انظر ترجمته في: الأعلام "1/ 24"، والأنساب المتفقة لابن القيسراني "ص: 41"، البداية والنهاية "11/ 79"، وتاريخ بغداد "6/ 27"، وتذكرة الحفاظ "2/ 584"، وشذرات الذهب "2/ 190"، وفوات الوفيات "1/ 5"، ومرآن الجنان "2/ 209"، والنجوم الزاهرة "3/ 118".
1 كيف تصح نسبة هذا النقل إلى الإمام أحمد، مع أن في سنده -كما ترى- أبا الحسن التميمي، وهو وضَّاع، ومحمد بن أحمد بن مخزوم، وهو كذاب، ومن لا يتورع عن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتورع عن الكذب على غيره.
وقد نُقِل هذا القول منسوبًا إلى الإمام أحمد بالسند المذكور في "المسودة" "ص: 556"، كما نقله أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "8/ أ" عن إبراهيم الحربي عن أحمد بلفظ: "العقل غريزة وحكمة وفطنة".(1/86)
مسد صاحبه، وناب منابه، والجواهر على هذا؛ لأن كل واحد منهما متحرك وساكن وعالم، فلو كان العقل جوهرًا لكان من جنس العاقل، ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلًا عن وجود مثله، وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه، فمحال أن يكون عاقلا بجوهر من جنسه؛ ولأنه لو كان جوهرًا لصحَّ قيامه بذاته ووجوده، لا بعاقل ولصح أن يعقل ويكلف؛ لأن ذلك مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل، على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عرض، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم؛ لأنه لو كان كذلك لصح وجود العقل مع عدم سائر العلوم، حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء من الضرورات؛ إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر. وذلك نهاية الإحالة.
ومحال أن يكون اكتسابًا؛ لأنه يؤدي إلى أن الصبي وممن عدمت منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا نظر لهم ولا استدلال يكتسبون به العقل، وفي الإجماع على حصول العقل منهم دليل على فساد هذا.
ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة؛ لأن العقل يبطل ويزول [5/ أ] ولا يخرج الحي عن كونه حيًّا، وقد يكون الحي حيًّا وإن لم يكن عالِمًا بشيء أصلا.
ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية1، ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن الخرس والطرش2 والأكمه ليسوا بعقلاء؛ لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات
__________
1 في كتاب "المعتمد في أصول الدين، للمؤلف "ص: 102": العلوم الضرورية والكسبية.
2 هكذا في الأصل، والذي في "المعتمد في أصول الدين" "ص: 102": الأخرس والأطرش.(1/87)
التي تعلم باضطرار ولا باستدلال1.
ولا يجوز أيضًا أن يكون العلم بِحُسْنِ حَسَنٍ وقُبْحِ قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرم من جملة العلوم التي هي عقل؛ لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل، فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية، وهو ما ذكرنا في أول الفصل وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون لوجوده أول، وأن الموجود لا يكون معدومًا موجودًا في حالة واحدة، وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنًا فيه في حالة واحدة، وأن الذات الواحدة لا تكون حية ميتة، ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة2.
__________
1 من قوله: "ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة" إلى هنا موجود بنصه في كتاب "المعتمد في أصول الدين" "ص: 102".
2 من هذه التعريفات للعقل يتضح لنا أن كل من عرَّفَه رَاعَى ناحيةً وغفل عن ناحية أخرى، وقد تفطن لذلك الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام في كتاب "المسودة" "ص: 558، 559" حيث جاء فيه ما ملخصه: العقل لا يمكن إحاطته برسم واحد، ولكن العقل يقع على أربعة معانٍ:
1 ضروري، وهو الذي عناه من قال: إنه بعض العلوم الضرورية. قلت: وهذا العقل ما يتعلق به التكليف.
2 غريزة تقذف في القلب، وهذا النوع ينمو بنمو الإنسان، وبه يقع الاختلاف بين الناس، فهذا بليد وذاك ذكي.
3 ما به ينظر صاحبه في عواقب الأمور، فلا يغتر بلذة عاجلة تعقبها ندامة.
4 ما يستفاد من التجارب في حياة الإنسان. وهذا ما عناه من قال: "إن العقل مكتسب.
قلت: وقد سبق حجة الإسلام الغزالي إلى هذا التقسيم، وذلك في كتابه "إحياء علوم الدين" "1/ 145، 146".(1/88)
فصل: [في محل العقل] : 1
ومحل العقل القلب، ذكره أبو الحسن التميمي في "كتاب العقل"، فقال: الذي نقول به: إن العقل في القلب يعلو نوره إلى الدماغ، فيفيض [منه2] إلى الحواس ما جرى في العقل.
ومن الناس من قال: هو في الدماغ.
وقد نص أحمد -رحمه الله- على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص بن شاهين3 في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضل بن زياد4 وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ وقال5 سمعت أحمد بن
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة "8/ ب، 9/ أ"، "المسودة" "ص: 559، 560"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 24".
2 ساقطة من الأصل، ولكن المقام يقتضيها، ويبدو أن الناسخ قد أسقطها؛ لأنها ثابتة في "المسودة" "ص: 559" عند نقل كلام أبي الحسن التميمي بنصه.
3 هو عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أبو حفص ابن شاهين، مفسر ومحدث ومؤرخ، ثقة، من الطبقة الثانية عشرة، عيب عليه لحنه، وعدم بصره بالفقه. له مؤلفات منها: "كتاب الترغيب"، و"كتاب التفسير الكبير"، و"كتاب التاريخ". توفي في ذي الحجة سنة: 385هـ. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد "11/ 265"، وتذكرة الحفاظ "3/ 987"، وشذرات الذهب "3/ 117"، وطبقات الحفاظ "ص: 392"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 2"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1 /588"، ولسان الميزان "4 /383"، ومرآة الجنان "2/ 826"، والمنتظم "7/ 152"، والنجوم الزاهرة "4/ 173".
4 هو الفضل بن زياد أبو العباس القطان البغدادي، من أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده، وممن نقلوا عنه مسائل كثيرة، وكان يصلي الإمام أحمد خلفه، له ترجمه في: طبقات الحنابلة "1/ 251- 253".
5 كان المناسب أن يقول: "فقال".(1/89)
حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل.
واحتج هذا القائل: بأن الرأس إذا ضرب زال العقل؛ ولأن الناس يقولون: "فلان خفيف الرأس، وخفيف الدماغ"، ويريدون به العقل.
وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 1 وأراد به العقل، فدل على أن القلب محله؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورًا له، أو كان بسبب منه.
واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} 3.
واحتج أيضًا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث المدائني4، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والكبد رحمة، والقلب ملك، والقلب مسكن العقل"5.
__________
1 "37" سورة ق.
2 "46" سورة الحج.
3 "179" سورة الأعراف.
4 هو علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. قال فيه ابن عدي: ليس بالقوي في الحديث. وثَّقَه ابن معين فيما نقل أحمد بن أبي خيثمة. روى عن جعفر بن هلال. وعنه الزبير بن بكَّار وأحمد بن زهير وغيرهما. ولد بالبصرة سنة: 135هـ، ومات ببغداد سنة: 228هـ. على الراجح.
له ترجمة في: تاريخ بغداد "12/ 54"، وميزان الاعتدال "3/ 153"، وشيخ الإخباريين أبو الحسن المدائني للدكتور بدري محمد فهد "ص: 16" وما بعدها، والكتاب كله دراسة عنه.
5 هذا الحديث ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة "1/ 95" بأطول مما هنا، غير أنه لم يذكر قوله: "والقلب مسكن العقل"، وهو حديث موضوع؛ لأن فيه عطية ضعيف وكان يدلس عن الكلبي بأبي سعيد، فيظن الخدري، راجع "المجروحين" "2/ 176" لابن حبان. ثم عقب عليه السيوطي بعد ذلك، غير أنني لم أجد المدائني في السند.(1/90)
وروي أن عمر بن الخطاب1 -رضي الله عنه- كان إذا دخل عليه ابن عباس2 قال: "جاءكم الفتى الكهول له لسان قئول وقلب عقول"3. فنسب العقل إلى القلب.
__________
1 هو عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي العدوي، أبو حفص. ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة. ولد سنة: "40" قبل الهجرة. ومات شهيدًا سنة: 23هـ. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1144"، وأسد الغابة "4/ 145"، والإصابة "4/ 279"، وتذكرة الحفاظ "1/ 5"، وشذرات الذهب "1/ 33"، والنجوم الزاهرة "1/ 78".
2 هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من علماء الصحابة وفقهائهم الأجلاء، ولد في مكة المكرمة سنة "3" قبل الهجرة على الأرجح، وتوفي بالطائف "سنة: 68هـ". انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 933"، وأسد الغابة "3/ 290"، والإصابة "4/ 90"، وتاريخ بغداد "1/ 173"، وتذكرة الحفاظ "1/ 40"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 172"، وشذرات الذهب "1/ 75"، وطبقات الحفاظ "ص: 10"، وطبقات الفقهاء للشيرازي "ص: 48"،وطبقات القراء الكبار للذهبي"1/ 41"، وطبقات المفسرين للداودي "1/ 232"، وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري "1/ 425"، والنجوم الزاهرة "1/ 182" ونكت الهميان "ص: 180".
3 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أورده ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب "3/ 935" في ترجمة ابن عباس رضي الله عنه، وقد أورده أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "9/ أ"، بلفظ: "جاءكم الفتى الكهول ذو اللسان السئول والقلب العقول".(1/91)
وروى عياض بن خليفة1 عن علي كرم الله وجهه2 أنه سمعه يوم صفين3 يقول: "إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في
__________
1 أدرك عمر وعليًّا -رضي الله عنهما- وسمع منهما. روى عنه الزهري ويعقوب بن عتبة وغيرهما.
له ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري "4/ 20"، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم "3/ 407، 408".
2 هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف الهاشمي أبو الحسن، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنته، ورابع الخلفاء الراشدين، صحابي جليل، شهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، حيث خلفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة. ولد قبل البعثة بعشر سنين، ومات مقتولا سنة: 40هـ.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1089"، وأسد الغابة "4/ 91"، والإصابة "4/ 269"، وتاريخ بغداد "1/ 133"، وتذكرة الحفاظ "1/ 10"، وخلاصة تهذيب الكمال "ص: 232"، وشذرات الذهب "1/ 49" وطبقات الحفاظ "ص: 4"، وطبقات الفقهاء "ص: 41"، وطبقات القراء الكبار "1/ 30"، والعبر "1/ 46"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1/ 546"، والنجوم الزاهرة "1/ 119".
3 "يوم صفين" كان في غرة شهر صفر "سنة: 37هـ"، وقد دارت فيه معركة حامية الوطيس بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وقد دارت هذه المعركة في موقع يسمى: "صفين" يقع بالقرب من الرقة بشاطئ الفرات بأرض العراق.
ارجع في هذا إلى معجم ما استعجم للبكري "3/ 837"، والقاموس المحيط "4/ 242 " "مادة: صفن".(1/92)
الطِّحال، وأن النفس في الرئة"1.
وعن أبي هريرة2 [5/ ب] وكعب3 أنهما قالا: العقل في القلب وأيضًا فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية، ومحل العلم القلب.
وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس، فلا يدل على أنه محله،
__________
1 الأثر هذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد "2/ 3" مطبوع مع شرحه "فضل الله الصمد". وقد ذكره السيوطي في كتابه: "اللآلئ المصنوعة" "1/ 97" عن البيهقي بسنده إلى عياض بن خليفة. وأورده أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ أ".
2 هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أبو هريرة، صحابي جليل، راوية الإسلام. وقع خلاف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة". كما وقع خلاف في سنة وفاته فقيل: "سنة: 57"، وقيل: "58"، وقيل: "59"، وقد توفي بقصره بالعقيق، ثم حمل إلى المدينة. راجع ترجمته في: الاستيعاب "4/ 1768"، وأسد الغابة "6/ 306"، والإصابة "7/ 199"، وتذكرة الحفاظ "1/ 32"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 397"، وشذرات الذهب "1/ 63"، وطبقات القراء الكبار للذهبي "1/ 40"، والعبر "1/ 62"، وغاية النهاية"1/ 370"، والنجوم الزاهرة "1/ 151"، وقد ألَّف الدكتور محمد عجاج الخطيب كتابًا أسماه" أبو هريرة رَاوِيةُ الإسلام"، وهو مطبوع ضمن سلسلة "أعلام العرب". كما ألف الأستاذ عبد المنعم صالح العلي كتابًا بعنوان: "دفاع عن أبي هريرة".
3 هكذا في الأصل، وفي التمهيد لأبي الخطاب الورقة "9/ أ": "أبي بن كعب"، ونحن نترجم له كما ورد في الأصل فنقول: هو كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد العقبة الثانية، واختلف في شهوده بدرًا، أحد المخلفين عن غزوة تبوك، وقد عفا الله عنه وعن صاحبيه. توفي سنة: 55هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 1323"، والإصابة القسم الخامس "ص: 610" طبعة دار نهضة مصر، وشذرات الذهب "1/ 61".(1/93)
كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة، ولا يدل على أنها محلها.
وقول الناس: إنه خفيف الرأس، وخفيف الدماغ، فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل، وإن كان في غير محله، كما يؤثر في البصر، وإن كان في غير محله.(1/94)
فصل: [في ذكر الخلاف في تفاوت العقول] : 1
وذكر أصحابنا أنه يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح.
فقال أبو محمد البربهاري في "شرح السنة": العقل مولود أعطي كل إنسان من العقل ما أراده الله تعالى، يتفاوتون في العقول مثل الذرة في السموات، ويطالب كل إنسان على قدر ما أعطاه الله تعالى من العقل.
وذكره أبو الحسن التميمي في كتاب "العقل" خلافًا للمتكلمين من المعتزلة والأشعرية2 في قولهم: لا يصح أن يكون عقل أكمل من عقل وأرجح.
والدلالة على صحة ذلك: ما روى أبو الحسن في كتاب "العقل" بإسناده عن طاوس3، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قضى بين
__________
1 راجع في هذا الفصل الواضح الجزء الأول الورقة "6/ ب"، والتمهيد الورقة "9/ أ- ب" والمسودة "ص: 560"، وشرح الكوكب المنير "ص: 25".
2 الأشعرية: سميت بذلك، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، الذي ينتسب إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
انظر: الملل والنِّحل للشهرستاني "1/ 94".
3 هو طاوس بن كيسان الخولاني، الفارسي الأصل، الهمداني بالولاء، اليمني الولادة والمنشأ، أبو عبد الرحمن، تابعي جليل، فقيه ومحدث، أدرك نحوًا من خمسين صحابيًّا، ولد سنة: 33هـ، وتوفي حاجًّا بمنى سنة: 101هـ، وقيل سنة: 104 =(1/94)
المهاجرين والأنصار: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد"1.
وروى أبو الحسن بإسناده عن أنس2 قال: جاء ابن سلام3 إلى
__________
= انظر ترجمته في: التاريخ الصغير للبخاري "ص: 115"، تذكرة الحفاظ "1/ 90"، وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس الورقة "5/ ب"، وتهذيب التهذيب "5/ 8"، والثقات لابن حبان "ص: 121"، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم "ج:1، ق1، ص: 500"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 153"، وشذرات الذهب "1/ 133"، وطبقات ابن سعد "5/ 391"، وطبقات الفقهاء للشيرازي "ص: 73"، وغاية النهاية "1/ 341"، واللباب "1/ 241"، والنجوم الزاهرة "1/ 260"، ووفَيَات الأعيان "2/ 194".
1 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر الأصول" "ص: 242"، عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وتمامه عنده: "وما قسم الله تعالى لخلقه حظًّا هو أفضل من العقل واليقين".
وقد أورده القاضي أبو يعلى عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى طاوس مرسلا، وأبو الحسن التميمي وضَّاع، كما سبق بيان ذلك.
2 هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، أبو حمزة، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وعمره عشر سنين على الراجح، ومات بالبصرة "سنة: 91هـ" أو "92هـ" أو "93هـ". له ترجمة في: الاستيعاب "1/ 109"، وأسد الغابة "1/ 151"، والإصابة "1/ 71"، وتذكرة الحفاظ "1/ 44"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 35"، وشذرات الذهب "1/ 100"، وكتاب الطبقات لخليفة بن خياط "ص: 91"، وطبقات الحفاظ "ص: 11"، وطبقات الفقهاء "ص: 51"، وغاية النهاية في طبقات القراء "1/ 172".
3 هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، أبو يوسف، أحد الأحبار، أسلم عند قدوم النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة. توفي بالمدينة في خلافة معاوية -رضي الله عنه- سنة: 43هـ. انظر ترجمته في: الاستيعاب "3/ 921"، وأسد الغابة "3/ 264" والإصابة "4/ 80". وتذكرة الحفاظ "1/ 26"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 170"، وشذرات الذهب "1/ 53" والنجوم الزاهرة "1/ 125".(1/95)
النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الخبر إلى أن [قال] : قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين، والثلاث، والأربع، وبعضهم من أعطي فرقًا1، وبعضهم أعطي وسقًا2، وبعضهم وسقين، وبعضهم أكثر من ذلك ما شاء الله من التضعيف"3.
وروى4 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن
__________
1 الفرَْق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة أصع وهو بسكون الراء ويحرك وهو أفصح من إسكان الراء - أو يسع ستة عشر رطلا أو أربعة أرباع جمع فرقان كبَطْنان. القاموس: "مادة: فرق".
2 الوَسْق ستون صاعًا، أو حمل بعير. القاموس: "مادة: وسق".
3 هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص: 242" مع اختلاف يسير في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان.
وقد ذكره حجة الإسلام الغزالي في كتابه: "إحياء علوم الدين" "1/ 469" مطبوع مع شرحه إتحاف السادة المتقين، ذكره مستدلا به على تفاوت العقل، وقد علق عليه الزبيدي في شرحه المذكور بقوله: "قال العراقي: رواه داود بن المحبر في كتاب العقل بسنده عن أنس بن مالك، مع اختلاف يسير في النص".
قلت: وداود بن المحبر هالك، وسيأتي الكلام عنه "ص: 98".
وقد ذكره ابن عراق في كتابه: تنزيه الشريعة "1/ 219" ضمن الأحاديث الموضوعة في "العقل".
4 الضمير في "روى" يعود إلى أبي الحسن التميمي كما صرح بذلك أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "9/ ب" وكذلك الشأن في ضمير "روى" الآتية.(1/96)
نكلم1 الناس على قدر عقولهم"2. وروى يزيد عن أبي زياد3 عن ابن عباس قال: "العقل عشرة أجزاء، تسعة في الأنبياء وواحد في سائر الناس"4.
__________
1 في الأصل: "نكل" بحذف الميم. وهو خطأ.
2 بعد البحث الطويل لم أجد حديثًا بلفظ: "إنا معشر الأنيباء أمرنا أن نكل الناس على قدر عقولهم" ولكن الذي وجدته هو: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"، فبان أن في النسخة المخطوطة غلطًا، وذلك بحذف حرف الميم من كلمة "نكلم"، فأصبحت: "نكل".
وهذا الحديث: "أمرنا أن نكلم ... " ذكره الغزالي في كتابه: "إحياء علوم الدين" "1/ 96"، وفي الحاشية: قال العراقي: حديثُ "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. ونكلمهم على قدر عقولهم" رويناه في جزء من حديث أبي بكر الشخير من حديث عمر أخصر منه. وعند أبي داود من حديث عائشة "أنزلوا الناس منازلهم".
وبهذا اللفظ الذي ذكره العراقي عن أبي دواد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في تنزيل الناس منازلهم "2/ 560"، وقد أخرجه عن يحيى بن إسماعيل بسنده إلى ميمون بن أبي شبيب عن عائشة مرفوعًا. ثم عقب عليه أبو داود بقوله: "وحديث يحيى مختصر. وميمون لم يدرك عائشة".
وقد أورد هذا الحديث أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب" نقلا عن أبي الحسن التميمي بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم". ولا يصح شيء من هذا في المرفوع، وإنما هو من قول علي -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري برقم: 127. "الفتح".
3 هو يزيد بن أبي زياد الكوفي، قال فيه ابن حبان: "صدوق إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن". وقال فيه الذهبي: "أحد علماء الكوفة المشاهير على سوء حفظه". وقد أخرج له مسلم مقرونًا بآخر. وقال فيه يحيى: "لا يحتج به". وقال ابن المبارك: "ارم به". توفي سنة: 136هـ، وله تسعون سنة تقريبًا. انظر ترجمته في: خلاصة تذهيب الكمال "ص: 371"، وشذرات الذهب "1/ 206"، وطبقات الحفاظ "ص: 61"، وطبقات ابن سعد "6/ 237"، والعبر "1/ 187"، والمغني في الضعفاء "2/ 749"، وميزان الاعتدال "4/ 423".
4 أورد هذا الأثر أبو الخطاب في التمهيد الورقة "9/ ب"، ولم أجده في غيره.(1/97)
وهذه الأخبار كلها تدل على التفاضل في العقول1.
ولأنه إجماع الناس؛ فإنه مستفيض فيهم القول بأن أحد العاقلين أكمل عقلا وأوفر وأرجح من الآخر. قال بعضهم:
__________
1 هذه الأحاديث لا تدل على شيء؛ لأنه لم يثبت منها شيء، وكونها حجة فرع ثبوتها.
وأحاديث العقل حكم عليها المحدِّثون بالوضع، وأنه لم يصح منها شيء، ولذلك قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات "1/ 177": "وقد رويت في العقول أحاديث كثيرة، ليس فيها شيء يثبت"، كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه ابن عراق في كتابه تنزيه الشريعة "1/ 213": "أحاديث في العقل أخرجها داود بن المحبر في كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أسامة، وكلها موضوعة، كما قال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية".
ويصرح الدارقطني بأن كتاب العقل وضعه أربعة. أولهم: ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه: داود بن المحبر، فركبه بأسانيد أخرى غير مسانيد ميسرة. وكذلك فعل: عبد العزيز بن أبي رجاء وسليمان بن عيسى السجزي. راجع الموضوعات لابن الجوزي "1/ 176".
كل واحد من هؤلاء الأربعة مشهور بالوضع والكذب، ولمزيد من الفائدة راجع في ترجمة:
1 مسيرة بن عبد ربه الفارس، تنزيه الشريعة لابن عراق "1/ 121"، وكتاب المغني في الضعفاء للذهبي "2/ 689"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "4/ 230".
2 داود بن المحبر، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة "1/ 59"، والمغني في الضعفاء "1/ 220"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 176"، وميزان الاعتدال "2/ 20".
3 عبد العزيز بن أبي رجاء، راجع في ترجمته: تنزيه الشريعة لابن عراق "1/ 80"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 176"، وميزان الاعتدال "2/ 628".
4 أما سليمان بن عيسى السجزي فراجع في ترجمته: تنزيه الشريعة "1/ 65"، والمغني في الضعفاء "1/ 282"، والموضوعات لابن الجوزي "1/ 173"، وميزان الاعتدال "2/ 218".(1/98)
يزين الفتى في الناس كثرة عقله ... وإن لم يكن في أهله بحسيب1
فإن قيل: إنما يقال ذلك على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله وتيقظًا وتحذرًا.
قلنا: إنما كان أكثر استعمالا؛ لوفور عقله على غيره، ولقلة عقل غيره، أنه لم يكثر استعماله لعقله.
ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وجد من ناقصات العقول والأديان أغلب للرجال 2 ذوي [6/ أ] الرأي 3 على أمورهم من النساء، قالوا: يا رسول الله، ما نقصان عقلها ودينها؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله تعالى شهادة امرأتين برجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث الثلاث والأربع لا تصلي لله تعالى فيها سجدة 4 ". وهذا يدل على
__________
1 ذكر الناسخ بالحاشية البيت الذي يلي هذا البيت، وهو:
إذا حلً أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
هذان البيتان ذكرهما ابن أبي الدنيا في كتابه "العقل وفضله" "ص: 23" ولم ينسبهما إلى أحد. وقد أوردهما على النحو التالي:
يعد عظيم القدر من كان عاقلا ... وإن لم يكن في فعله بحسيب
وإن حلّ أرضًا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وبعد طول البحث لم أقف على قائل هذين البيتين
2 في الأصل: "للرجل".
3 هكذا في الأصل، ولكن أغلب روايات الحديث جاءت بلفظ: "أغلب لذي لب منكن"، وفي سنن الدارمي في كتاب الوضوء باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190" جاء الحديث بلفظ: "أغلب للرجال ذوي الأمر على أمرهم من النساء".
4 هذا الحديث روي بألفاظ متعددة، بل مختلفة أحيانًا، قلة وكثرة، تقديمًا وتأخيرًا، انظر صحيح البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائضِ الصومَ "1/ 79"، وكتاب الصوم، باب الحائض تترك الصوم والصلاة "3/ 43" وصحيح مسلم في =(1/99)
نقصان عقل النساء عن عقول الرجال مع وصفهن بالعقل.
واحتج من منع ذلك:
بأن العقل من العلوم الضرورية، وتلك لا تختلف في حق عاقل.
والجواب: أن تلك العلوم لم يختلف ما يدرك به من النظر والشم والذوق، فلهذا لم تختلف هي في أنفسها، وليس كذلك العقل؛ لأنه يختلف ما يدرك به وهو التمييز والفكر، فيقل في حق بعضهم ويكثر؛ فلهذا اختلف.
واحتج بأنه لو كان أحدهما أكمل من الآخر لم يحصل لغير الكامل الغرض، وهو تأمل الأشياء ومعرفتها؛ لأجل النقصان الذي منه.
والجواب: أنه إنما لا يحصل له الغرض الكامل؛ لأنا نجد أن من لم يكمل عقله لا تكمل أحواله، ولا يبلغ جميع أغراضه، ومن الكامل عقله بلغ أكثر أغراضه وأكمل أكثر أحواله.(1/100)
فصل: [في تعريف البيان] : 1
وحد البيان2: إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلا مما يلتبس به
__________
= كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات "1/ 86"، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه "2/ 522"، وسنن ابن ماجه في كتاب الفتن باب فتنة النساء "2/ 1326"، وسنن الدارمي كتاب الوضوء، باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد "1/ 190"، والمستدرك باب النساء أكثر أهل جهنم "1/ 190" ومسند الإمام أحمد "2/ 67"، ونصب الراية "4/ 89". والمقاصد الحسنة "ص: 285"، وكشف الخفاء "2/ 81".
1 راجع في هذا الفصل كتاب التمهيد الورقة "10/ أ"، وشرح الكوكب المنير "ص: 227"، والمسودة "ص: 572"، وقد ذكر فيها تعريف المؤلف. وراجع أيضًا مبحث البيان في كتاب البرهان لإمام الحرمين، الورقة "20/ ب- 23/ أ".
2 من أول هذا الفصل إلى قول المؤلف في آخر الفصل: "وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل ... "، منقول من كتاب الفصول في أصول الفقه للإمام أبي بكر أحمد بن على الرازي المعروف بالجصاص، الورقة "76" وما بعدها، مخطوطة دار الكتب المصرية، مع ملاحظة أن المؤلف يحذف بعض كلام الجصاص قليلا، ويضيف بعض كلام كبار الحنابلة.(1/100)
ويشتبه من أجله. كما يقال: "بانَ الأمرُ إذا ظهرَ".
وأصله في اللغة من القطع والفصل، يقال1: "بان منه إذا انقطع" قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي حية، فهو مَيتةٌ" 2.
"وبان: إذا فارق" قال جرير3:
__________
1 في الأصل: "ويقال".
2 حديث صحيح أخرجه عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- مرفوعًا أبو داود في كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة "2/ 100"، وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت "4/ 74"، وقال فيه: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم". وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الذبائح "4/ 239"، وأخرجه الدارقطني في باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك "4/ 292"، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصيد، باب في الصيد يبين منه العضو "2/ 20".
وقد روى هذا الحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية "2/ 1072"، وأخرجه الحاكم في المستدرك "4/ 124".
ورواه أيضًا أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه الحاكم في مستدركه "4/ 139" وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
كما رواه تميم الداري -رضي الله عنه- أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية "2/ 1073"، وأخرجه أيضًا الطبراني في "معجمه الكبير" كما حكاه الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 318" والسيوطي في "الجامع الصغير" "5/ 461" مطبوع مع شرحه "فيض القدير".
3 هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميمي أبو حَزْرة، شاعر معروف، وقعت =(1/101)
بان الخليط ولو طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا1
وبانت المرأة من زوجها بينونة، إذا فارقت زوجها وانقطع النكاح بينهما، فسمي إظهار المعنى وإيضاحه بيانًا؛ لانفصاله مما يلتبس به من المعاني فيشكل من أجله.
وقد ذكر الشافعي2 البيان ووصفه3 فقال: "البيان اسم جامع
__________
= بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض. فضله جمهور الأدباء على خصمه الفرزدق. له ديوان مطبوع. أخباره كثيرة حفلت بها كتب الأدب. توفي سنة: 110هـ، وقيل سنة: 111هـ، باليمامة، وقد نيف على الثمانين.
انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 464"، و"طبقات فحول الشعراء" للجمحي "ص: 49"، "315- 386"، و"وفيات الأعيان" "1/ 286".
1 هذا البيت جاء في مطلع قصيدة موجودة في ديوان جرير "1/ 160" بتحقيق الدكتور: نعمان محمد أمين طه. وهو موجود في كتاب "الشعر والشعراء" "1/ 68"، و"الأغاني" "7/ 35".
2 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة، وأحد أعلام الإسلام. مؤسس علم الأصول. ولد في غزة بفلسطين سنة: 150هـ، وتوفي بالقاهرة سنة: 204هـ.
انظر ترجمته في "البداية والنهاية" "10/ 251"، و"تاريخ بغداد" "2/ 56"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 361" و"تهذيب التهذيب" "9/ 35"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 277"، و"شذرات الذهب" "2/ 9"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 380"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 71"، و"طبقات المفسرين" للداودي "2/ 98"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 11"، و"طبقات النحاة واللغويين" لابن قاضي شهبة "ص: 62"، "وطبقات الشافعية" لابن هداية الله "ص: 11"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 95"، و"مرآة الجنان" "2/ 13"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 176".
3 في كتابه: "الرسالة" "ص: 15".(1/102)
لمعانٍ1 مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المتشعبة أن تكون بيانًا2 لمن خوطب ممن نزل القرآن بلسانه3، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض". ثم جعله على خمسة أوجه4.
واعترض عليه أبو بكر بن داود5، وقال: البيان أبين من التفسير الذي فسره.
واعترض غيره عليه أيضًا وقال: لم يصف البيان؛ لأنه ذكر جملة مجهولة، فكان بمنزلة من قال: البيان اسم يشتمل على أشياء، ثم لم يبين تلك الأشياء ما هي.
واعتذر أصحابه له، وقالوا: لم يقصد به حد البيان وتفسير معناه، وإنما قصد به: أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان، فهي
__________
1 في الأصل: "لمعاني".
2 في الرسالة "ص: 15": "أنها بيان".
3 هنا عبارة ساقطة هي: "متقاربة الاستواء عنده، وإن كان ... " الرسالة "ص: 15".
4 وقد تكلم عنها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة "ص: 15- 25".
5 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، أبو بكر. أحد فقهاء الظاهرية، تصدر للفتوى ببغداد بعد موت أبيه. له كتاب الزهرة. توفي سنة: 297هـ، وقد نيف على الأربعين.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 256" و"دول الإسلام" للذهبي "1/ 181". و"شذرات الذهب" "2/ 226"، و"فيات الأعيان" "3/ 390". وقد ترجم له الدكتور: نوري القيسي في كتابه: "أوراق من ديوان أبي بكر محمد بن داود الأصفهاني" "ص: 7- 10".(1/103)
متفقة في أن اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى وأبين من بعض؛ لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر فيه من صفة ما [6/ب] يحتاج إلى تفكر وتدبر، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" 1 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض. ولأن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل الخطاب وفحواه. وجميع ذلك بيان، وإن اختلفت مراتبها فيه.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الطب، باب من البيان سحر "7/ 178". وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشدق في الكلام "2/ 597". وأخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في أن من البيان سحرًا "4/ 376" وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرج مالك في "الموطأ" في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله "4/ 403" مطبوع مع شرح الزرقاني. وعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "2/ 594". وأخرجه الدارمي في سننه عنه في كتاب الصلاة، باب في قصر الخطب "1/ 303".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر "2/ 598"، ولفظه: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا". وعن بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر "2/ 598" بلفظ: "إن من البيان سحرًا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكمًا، وإن من القول عيالا"، وقد رمز له السيوطي بالضعف، وراجع في ذلك أيضًا: "كشف الخفاء" "1/ 296".(1/104)
وقال أبو بكر الصيرفي: البيان2: "إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى [حيّز] 3 التجلي". وهو اختيار أبي بكر4 من أصحابنا فيما وجدته بخطه في مجموع فيه مسائل.
وفي هذه العبارة خلل؛ لأن هذا الوصف إنما يوجد في بعض أقسام البيان، وهو بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه.
فأما الخطاب المبتدأ من الله تعالى ومن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن سائر
__________
1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي، أبو بكر، أصولي فقيه متكلم. تفقه على ابن سريج. من تصانيفه: "شرح الرسالة"، وكتاب "الإجماع" وكتاب في "الشروط". توفي بمصر سنة: 330هـ.
له ترجمة في "تاريخ بغداد" "5/ 449" و"شذرات الذهب" "2/ 325" و"طبقات الشافعية" للأسنوي "2/ 122" و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/ 186"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 111"، "والعبر" للذهبي "2/ 221"، و"الفهرست" "ص: 213" و"الوافي بالوفيات" "3/ 346".
2 تعريف الصيرفي في هذا ذكره الغزالي في "المنخول" "ص: 63"، وفي "المستصفى" "1/ 365"، ولم يعزه لأحد. وذكره في "المسودة" "ص: 572" بأخصر مما هنا، وذكره في "شرح الكوكب المنير" "ص: 227" إلا أنه أبدل كلمة: "الشيء" بكلمة: "المعنى"، وذكره أيضًا الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص: 168".
3 هذه الكلمة ساقطة من الأصل، وهي مثبتة في جميع المصادر التي ذكرناها آنفًا عدا "المسوَّدة".
4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر الحنبلي المعروف بغلام الخلال. أصولي فقيه كان ذا دين وورع. علَّامة بمذهب أحمد. له تصانيف منها: "المقنع"، و"تفسير القرآن". توفي سنة: 363هـ.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "10/ 459"، و"شذرات الذهب" "3/ 45" و"طبقات الحنابلة" "2/ 119"، و"المنتظم" "7/ 71".(1/105)
المخاطبين إذا كان ظاهر المعنى بَيِّن المراد، فهو بيان صحيح، وإن لم يشتمل عليه هذا الوصف، ألا ترى أن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 قد حصل به البيان، وإن لم يكن قبل ظهور ذلك إشكال أخرجه إلى التجلي، بل قد علمنا: أن الغسل لم يكن واجبًا، فبين وجوبه بالآية.
وقال قوم من المتكلمين: البيان، هو الدلالة؛ لأن البيان يقع بها، وهو ظاهر كلام أبي الحسن التميمي؛ فإنه قال في جزء وقع إليَّ من كلامه: باب في البيان، ثم قال: البيان عن4 الشيء يجري مجرى الدلالة5، وهذا أيضًا فيه خلل؛ لأن من الدلائل ما لا يقع به البيان، كالمجمل ونحوه.
وقال قوم منهم: البيان هو العلم الذي يتبين [به] 6 المعلوم7.
__________
1 "6" سورة المائدة.
2 "23" سورة النساء.
3 "3" سورة المائدة.
4 في الأصل "من" وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" "ص: 572".
5 هكذا نقل المؤلف تعريف أبي الحسن التميمي للبيان، غير أن أبا الخطاب نقله عنه بلفظ: "الدليل المظهر للحكم". انظر "التمهيد" الورقة "10/ أ".
6 ساقطة من الأصل. والتصويب من "إرشاد الفحول" "ص: 168".
7 نقل هذا التعريف في "المسودة" إلا أنه اقتصر على قوله: "البيان: هو العلم" "ص: 572" وقد ذكره الغزالي في كتابه: "المنخول" وعزاه لبعض الشافعية "ص: 64". أما الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص: 168" فقد نقله معزوًّا إلى أبي بكر الدقاق.(1/106)
وإليه ذهب أبو بكر الدقاق1.
والذي ذكرناه أولى؛ لأن أصله في اللغة كذلك.
__________
1 هو محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر المعروف بالدقاق، ويلقب بـ"خباط" الشافعي المذهب الفقيه الأصولي. تولى القضاء بكرخ بغداد. وكان عالِمًا فاضلا.
ولد سنة: 306هـ، وتوفي سنة: 392هـ. له ترجمة في "تاريخ بغداد" "3/ 229"، و"طبقات الشافعية" للأسنوي "1/ 522"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "صفحة: 118"، و"المنتظم" "7/ 222"، و"النجوم الزاهرة" "4/ 206"، و"الوافي بالوفيات" "1/ 116".(1/107)
فصل: [في وجوه البيان] : 1
وأما وجوه البيان. فهو في الشرع على وجوه:
منها: الأحكام المبتدأة.
ومنها: تخصيص العموم الذي يمكن استعماله على ظاهر ما ينتظمه الاسم، فيبين أن المراد البعض.
ومنها: صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز، وصرف الأمر إلى الندب والإباحة، وصرف الخبر إلى الأمر.
ومنها: بيان الجملة التي لا تستغني عن البيان في إفادة الحكم. وهذا البيان ليس بتخصيص؛ لكنه تفسير مراد بالجملة، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2. فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد: العشر ونصف
__________
1 راجع في هذا الفصل "التمهيد" الورقة "10/ أ"، و"المسودة" "ص: 573" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 228".
2 "141" سورة الأنعام.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية، أمكية هي أم مدنية؟ أمحكمة أم منسوخة؟ وما المراد بالحق هنا، أهو الزكاة المفروضة أم حق غيرها ونسخ بها، أم حق غيرها ولم ينسخ؟ ولعل الظاهر أن البيان سابق على هذه الآية كما يتضح من كلام الفخر الرازي، في "تفسيره" "13/ 213، 214"، و"تفسير القرطبي" "7/ 99". و"تفسير أبي السعود" "1/ 473".(1/107)
العشر1.
ومنها: النسخ، وهو رفع الحكم بعد أن كان في توهمنا وتقديرنا بقاؤه.
__________
1 سيأتي تخريج هذا في قوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". "ص: 621".(1/108)
فصل: [فيما يحتاج إلى البيان]
وأما ما يحتاج إلى البيان فكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه، نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 2، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 3، ونحو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
__________
1 "141" سورة الأنعام.
2 "24" سورة المعارج.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقد أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "2/ 125"، وفي كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"9/ 115".
وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "1/ 51، 52".
وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في كتاب الجهاد باب علام يقاتل المشركون؟ "2/ 41، 42".=(1/108)
...........................................................................................
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في "سننه" في المقدمة، باب الإيمان "1/ 28"، كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الكفِّ عمن قال: لا إله إلا الله "2/ 1295".
وأخرجه عنه الترمذي في "سننه" في كتاب التفسير، باب من سورة الغاشية "5/ 439".
وأخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الزكاة، باب مانع الزكاة "5/ 10".
وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الزكاة "2/ 89".
وأخرجه عنه الشافعي، انظر "بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن" "1/ 223" في كتاب الزكاة، باب ما ورد في فضلها ووجوبها وقتال مانعها. ورواه أيضًا ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" "1/ 14".
وأخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله "1/ 53".
وقد رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في "صحيحه" في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة "1/ 103"، وأخرجه عنه أبو داود في "سننه" في الكتاب والباب السابق ذكرهما "2/ 42".
ورواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في "صحيحه" في الكتاب والباب السابق ذكرهما "1/ 53"، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" في كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله "2/ 1295".
ورواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا أخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة باب الإيمان "1/ 28".
ورواه أوس بن أبي أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود الطيالسي، انظر "منحة المعبود" كتاب الإيمان، باب حكم الإقرار بالشهادتين "1/ 26". وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب السير، باب في القتال على قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" "2/ 137". ويظهر من كلام المؤلف: أن هذا الحديث مجمل، ومن ثم فلا يعمل به إلا فيما بين به، وهذا أحد الآراء. على أن هناك رأيًا آخر هو: أن الحديث عام، ويعمل به في أفراده الباقية التي لم تخص.
راجع: "فتح الباري" "1/ 75- 77، 496، 497".(1/109)
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} 1.
وأما ما يمكن استمعاله على ظاهره وحقيقته، فلا يحتاج إلى البيان، إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه، أو كان مراده غير حقيقته، فيحتاج إلى بيان المراد به، نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2، و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 3 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ، فهذه الألفاظ معانيها معقولة ظاهرة، فهي غير مفتقرة إلى البيان.
__________
1 "24" سورة النساء.
ما ذهب إليه المؤلف من أن هذه الآية مجملة، لا يمكن أن تستغني عن البيان هو أحد الاتجاهين في فهم الآية. وأما الاتجاه الثاني فهو: أن الآية عامة مبينة، وقد دخلها التخصيص كما هو مسطور في كتب التفسير. انظر "تفسير القرطبي" "5/ 120- 135"، و"تفسير أبي السعود" "1/ 288".
2 "5" سورة التوبة.
3 "275" سورة البقرة.
4 "23" سورة النساء.(1/110)
[7/أ] فصل: [فيما يقع به البيان] :
وأما ما يقع به البيان فهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والبيان يقع من الله تعالى بالقول وبالكتاب، فالقول نحو: سائر الفروض المعقول معانيها من ظاهر الخطاب. ويقع بالكتاب أيضًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى. وكتابه في اللوح(1/110)
المحفوظ وفي غيره، فيقع منه البيان بهذين الوجهين، فيكون منه تخصيص العموم، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1، خص منه المحرمات بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2، ونحو بيان الجملة كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 3، ثم بينه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 4.
ويكون منه أيضًا: بيان مدة الفرض، وهو نسخ [نحو] قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 5، ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 6، ونحو قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 7، ثم نسخ منه ما عدا أربعة الأشهر والعشر، بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 8.
وكان حد الزانيين الحبس والأذى بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 9، إلى آخره، ثم قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 10، فنسخ به الحبس
__________
1 " 3" سورة النساء.
2 " 23" سورة النساء.
3 " 7" سورة النساء.
4 "11 " سورة النساء.
5 "144 " سورة البقرة.
6 "149 " سورة البقرة.
7 "240 " سورة البقرة.
8 "234 " سورة البقرة.
9 "15 " سورة النساء.
10 "2 " سورة النور.(1/111)
والأذى المذكورين في الآية الأخرى من غير المحصن.
ويكون البيان من الرسول بالقول. نحو سائر السنن المبتدأة، ونحو تخصيصه لعموم القرآن، عن بيع ما ليس عنده1، وبيع ما لم يقبض2.
__________
1 حديث النهي عن بيع ما ليس عنده، صحيح، رواه حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أخرجه عنه أبو داود في كتاب التجارة، باب الرجل يبيع ما ليس عنده "2/ 254". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك "3/ 525"، وقال: "حديث حسن". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك "2/ 737".
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عنه في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل قبضه "2/ 156".
ورواه أيضًا عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أخرجه عنه أبو داود في الكتاب والباب المذكورين آنفًا.
وأخرجه عنه الترمذي في الكتاب والباب المذكورين "3/ 526"، وقال "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في الموضع السابق "7/ 259".
وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "2/ 737".
راجع في ذلك أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 5"، و"تيسير الوصول إلى جامع الأصول" "2/ 54" و"ذخائر المواريث" "1/ 198"، و"نصب الراية" "4/ 18"، ومجمع الزوائد" "4/ 85".
2 حديث النهي عن بيع ما لم يقبض في الطعام وغيره، أخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "3/ 8" عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- بلفظ: "أنه -أي حكيم- قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني رجل أشتري هذه البيوع فما تحل لي منها، وما تحرم عليّ؟ قال: "يابن أخي إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه". =(1/112)
وأحلَّت لنا ميتتان1.
__________
= وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتابه البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264".
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" باب النهي عن بيع ما لم يقبض، وإن كان غير طعام "5/ 313"، وراجع في هذا أيضًا: نصب الراية" "4/ 32"، و"تلخيص الحبير" "3/ 25".
ومما يلاحظ هنا: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه قد جاء في أحاديث صحيحة، منها المتفق عليها، غير أن النهي عن بيع ما لم يقبض وإن كان غير طعام، هو الذي يوحي به كلام المؤلف هنا، وهو الذي لاحظناه عند العزو، والله أعلم.
1 حديث: "أحلت لنا ميتتان" رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الكبد والطِّحال "2/ 1102" بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم ميتتان ودمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".
وأخرجه عنه الشافعي، انظر: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في السمك والجراد "2/ 425".
وأخرجه عنه الدارقطني في سننه، في باب الصيد والذبائح والأطعمة "4/ 270". وأخرجه عنه أيضًا أحمد والبيهقي وعبد بن حميد، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 270".
ورفع هذا الحديث مداره على ثلاثة رواة هم: عبد الرحمن وعبد الله وأسامة أبناء زيد بن أسلم، وهؤلاء الثلاثة ضعفهم ابن معين غير أن الإمام أحمد وثق عبد الله.
وقد تابعهم شخص رابع هو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأيلي، كما أخرج ذلك عنه ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام، وهو ضعيف أيضًا.
وقد رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه الخطيب بسنده. وفيه المسور بن الصلت، وهو كذاب.
وقد روي هذا الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- موقوفًا، فقد روي من =(1/113)
ويكون البيان بالكتابة أيضًا: كنحو كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم1 في الصدقات والديات وسائر الأحكام2، وكتابه الذي كتبه لأبي بكر
__________
= رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر موقوفًا، قال الدارقطني: هو الصواب، وصحح الوقف أبو زُرعة وأبو حاتم.
والموقوف هنا له حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا، أو حرم علينا بمنزلة قوله: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا.
راجع: "نصب الراية" "4/ 202"، و"تلخيص الحبير" "1/ 25"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 768".
1 هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي الأنصاري، أبو الضحاك، صحابي، شهد الخندق وما بعدها. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا كتبه له، فيه كثير من الأحكام، كان عاملا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على نجران. مات بالمدنية سنة: 51هـ.
له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 1172"، و"الإصابة" "4/ 293". و"شذرات الذهب" "1/ 59".
2 حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- الذي أشار المؤلف إليه أخرجه عنه النسائي في "سننه" في كتاب الديات، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له "8/ 51"، وقد ذكر أن يونس -أحد رواة الحديث- قد رواه عن الزهري مرسلا.
وأخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحدود والديات "3/ 209". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" "1/ 395"، كما أخرجه الإمام مالك في أول كتاب العقول "4/ 175".
وأخرجه الدارمي في "سننه" في كتاب الديات، باب كم الدية من الإبل "2/ 113". وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الديات، باب جامع دية النفس وأعضائها "2/ 260".
وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/ 339- 342"، كما نقل عن ابن الجوزي عن الإمام أحمد قوله: "كتاب عمرو بن حزم صحيح". =(1/114)
الصديق1 في الصدقات2. وقال عبد الله بن عَكيم3: ورد علينا
__________
= وقال يعقوب الفسوي: "لا أعلم في الكتب المنقولة أصح منه".
ونقل الزيلعي عن بعض المتأخرين قولهم: "حديث ابن حزم تلقاه الإئمة الأربعة بالقبول".
والذين صححوا الحديث بنوا ذلك على أن: سليمان، أحد رواته هو ابن داود الدمشقي، الثقة، ولكن كثيرًا من المحققين خالفوهم، وقالوا: إنه سليمان بن أرقم، الضعيف. راجع تفصيل ذلك في "الجوهر النقي" "4/ 86، 87".
1 هو الصحابي الجليل عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي، شهد بدرًا. رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وصاحبه الوحيد في الهجرة، أحد المبشرين بالجنة، خليفة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من بعده، مات بالمدنية في شهر جمادى الآخرة سنة: 13هـ، ودفن بجوار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم.
له ترجمة في "الاستيعاب" "3/ 963"، و"الإصابة" "4/ 101"، "والأعلام" للزركلي " "4/ 237"، و"دول الإسلام" "1/ 12"، و"شذرات الذهب" "1/ 24".
2 حديث أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات طويل، ونستغني عن إيراد نصه بذكر من أخرجه، فقد أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده "2/ 138"، وفي باب زكاة الغنم "2/ 139"، وفي باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة"2/ 140" وأخرجه أبو داود في "سننه" في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/ 358"
وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل "5/ 13".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًّا دون سن أو فوق سن "1/ 575". وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم "2/ 113".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 150"، و"تيسير الوصول" "2/ 58"، و"ذخائر المواريث" "3/ 144"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 311"، و"نصب الراية" "2/ 335- 337".
3 هو عبد الله بن عكيم الجهني أبو معبد. اختلف في سماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم، يعد في الكوفيين.
له ترجمة في: الاستيعاب" "3/ 949"، و"طبقات خليفة بن خياط" "ص: 121".(1/115)
كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 1. وقال الضحاك بن سفيان الكلاب2: كتب إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أورث امرأة أشيم الضبي من دية زوجها3، فثبت أن الكتابة
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت "4/ 222" وقال: هذا حديث حسن. وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
وأخرجه أبو داود في كتاب اللباس من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة "2/ 387".
وأخرجه النسائي في "سننه" في كتاب الفرع، باب ما يدبغ به جلود الميتة "7/ 155". وأخرجه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب من قال: "لا يتنفع من الميتة بإهاب ولا عصب" "2/ 1194". وأخرجه الرامهرمزي في كتابه: "المحدث الفاصل" "ص: 453". ورواه القاضي عياض في كتابه "الإلماع" "ص: 88".
وراجع بالإضافة إلى ما سبق "تيسير الوصول" "2/ 296"، و"تلخيص الحبير" "1/ 46- 48"، و"ذخائر المواريث" "2/ 76"، و"نصب الراية" "1/ 120- 122".
وهذا الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، مع الاختلاف في صحبة راويه: عبد الله بن عكيم، فقد قال البيهقي: "إنه غير صحابي".
2 هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلبي، أبو سعيد، كان واليًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على من آمن من قومه، وجابيًا للصدقات منهم، مات سنة: 11هـ.
له ترجمة في "الاستيعاب" "2/ 742"، و"الإصابة" "3/ 267"، و"الأعلام" "3/ 308".
3 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة =(1/116)
يقع بها البيان كوقوعه بالقول.
ويكون من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان المجمل في الكتاب بهذين الوجهين، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ
__________
= من دية زوجها "4/ 425"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب المرأة ترث من دية زوجها "2/ 117".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب الميراث من الدية "2/ 883".
وأخرجه مالك في الموطأ مع شرح الزرقاني. وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها "2/ 229".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/ 77". وراجع أيضًا: "تيسير الوصول" "3/ 146"، و"ذخائر المواريث" "1/ 272"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 523"، و"تحفة الأحوذي" "4/ 674"، و"عون المعبود" "8/ 144".
1 "103" سورة التوبة. وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان:
الاتجاه الأول: أن المراد بها أخذ الصدقة من الذين تابوا؛ لأنهم بذلوا أموالهم صدقة لله تعالى، وليس المراد بها الزكاة الواجبة، وهو قول الحسن.
الاتجاه الثاني: أن المراد بالصدقة في الآية الزكاة، والقائلون بهذا على فريقين: الفريق الأول: أن المراد أخذ الزكاة من التائبين المذكورين في الآية السابقة.
الفريق الثاني: أنه كلام متبدأ، والمراد الزكاة الواجبة.
والذي يهمنا هو معرفة البيان في الآية، هل هو سابق أو لاحق، والذي يشعر به كلام الفخر الرازي أن البيان سابق، بمعنى أن الآية نزلت بوجوب الزكاة التي كانت معروفة لديهم. راجع "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "8/ 244- 250"، و"مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "16/ 177- 180.(1/117)
يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 2.
ويكون منه البيان بالفعل، نحو فعله لأعداد الركعات في الصلوات المفروضات وأوصافها، وقع به البيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3. ونحو فعله في المناسك بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 4.
وقد أكد ذلك بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 5 وقوله: "خذوا
__________
1 "141"سورة الأنعام.
2 "267" سورة البقرة.
ما المراد بالآية؟ هل المراد الزكاة المفروضة، أو صدقة التطوع، أو كلاهما؟ ثلاثة آراء، والأمر في الآية على الأول للوجوب، وفي الثاني للندب، وفي الثالث لترجيح جانب الفعل على الترك، فعلى القول الأول والثالث، الآية تحتاج إلى بيان، وقد بيَّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل والكتابة مثل كتاب أبي بكر وعمرو بن حزم رضي الله عنهما.
راجع في هذا "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "3/ 320، 321"، و"مفاتيح الغيب" للرازي "7/ 64- 67".
3 "43" سورة البقرة.
4 "97" سورة آل عمران.
5 هذا جزء من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة "1/ 153" كما أخرجه عنه في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "8/ 11" وأخرجه عنه في باب ما جاء في إجازة خبر الواحد "9/ 107".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 465".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 139". =(1/118)
عني مناسككم"1. وليس كل فعله في الصلاة أو الصدقة بيانًا للجملة التي في الكتاب؛ لأنه لو صلى لنفسه، لم يدل ذلك على أنه بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، ولو تصدق بصدقة لم يدل على أنها مرادة بقوله:
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب الأذان في السفر "1/ 399"، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب تقديم ذوي السن "2/ 60".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أحق بالإمامة "1/ 313".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإمامة ومن أحق بها "1/ 128" بدائع المنن.
وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/ 229".
والحديث قد روي مطولا ومختصرًا، مع ملاحظة أن كل من أخرجه ممن سبق ذكرهم عدا البخاري والشافعي والدارمي، لم يذكروا قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 225" و"ذخائر المواريث" "3/ 89"، و"نصب الراية" "1/ 290"، "2/ 26"، و"تلخيص الحبير" "2/ 122".
1 هذا جزء من حديث رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا "2/ 943".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار "1/ 456". وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم "5/ 219".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 276"، و"ذخائر المواريث" "1/ 162"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 407".
2 "43" سورة البقرة.(1/119)
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. وإنما وجه [7/ ب] البيان: ما يجمع الناس على أنه من المكتوبات؛ لأنه2 ما يفعله في نفسه [و] لم يثبت3 أنه فعله فرضًا، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعلها بيانًا.
ويكون منه أيضًا بيان مدة الفرض المنصوص عليه في الكتاب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" 4 قد قيل: إنه نسخ به الوصية
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 في الأصل: "لأنه".
3 في الأصل: "لم يثبت"، وقد صوب ذلك الناسخ في الهامش بما أثبتناه.
4 هذا جزء من حديث صحيح بل مشهور أخرجه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث "2/ 103"، وأخرجه عنه في كتاب البيوع، باب في تضمين العارية"2/ 266"، وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، كما أخرجه عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه- وعلى كلا الحديثين يعقب بقوله: حديث حسن صحيح، "4/ 433، 434".
وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث وأخرجه أيضًا عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه- كما أخرجه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "2/ 905، 906".
وأخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة في كتاب الوصايا، باب إيصال الوصية للوارث "6/ 207".
وأخرجه عنه الدارمي في "سننه" في كتاب الوصايا، باب الوصية للوارث "2/ 301" وأخرجه أيضًا عن ابن عباس في الموضع السابق كما أخرجه عنه في كتاب الفرائض "4/ 98" وأخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعن علي بن أبي طالب وعن جابر -رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الفرائض "4/ 97، 98". وقد أخرجه عن جعفر بن محمد عن أبيه مرفوعًا بلفظ: "لا وصية لوارث ولا إقرار =(1/120)
للوالدين والأقربين1. وقوله في الرجم2 نسخ به الحبس والأذى عن
__________
= بدين"، وفي سنده "نوح بن دراج"، وهو متهم بالوضع. انظر كتاب الوصايا "4/ 152".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة وعمرو بن خارجة -رضي الله عنهما "4/ 186، 187"، "5/ 267".
وأخرجه الإمام الشافعي عن مجاهد مرسلا، انظر كتاب الوقف والوصايا، باب ما جاء في الوصية "2/ 221" من "بدائع المنن".
ومن حديث عمرو بن خارجة، أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي، والحارث بن أسامة في مسانيدهم، والطبراني في "معجمه" مقلوبًا عن خارجة بن عمرو، والصواب: عمرو بن خارجة كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص"، ومن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما أخرجه ابن عدي من حديث جابر وزيد والبراء وعلي -رضي الله عنهم.
راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "نصب الراية" "4/ 403- 405" و"تلخيص الحبير" "3/ 92"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 509"، و"تيسير الوصول" "3/ 168"، و"ذخائر المواريث "3/ 64، 135"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "2/ 244، 245"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 514".
1 هذا إشارة للآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} "180 سورة البقرة". والذي ذكره المؤلف في الناسخ أحد الأقوال، وهناك أقوال أخرى في المسألة راجعها إن شئت في "تفسير الفخر الرازي" "5/ 62، 63".
2 هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. انظر "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 639"، وسيأتي تخريجه بالتفصيل "ص: 798".(1/121)
المحصن1.
[و] في السنة: نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها2".
__________
1 في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآيتان "15"، "16" من سورة النساء.
وما ذهب إليه المؤلف من أن حديث عبادة بن الصامت ناسخ لآيتي النساء، هو أحد الأقوال، غير أن الظاهر أنه لا يوجد نسخ في المسألة؛ لأن الحكم المنسوخ لابد أن يكون مؤبدًا في أذهان المخاطبين عند تشريع الحكم، وهذا غير موجود في الآية، إذ إن الآية تشعر بأن العقوبة التي نصت عليه عقوبة مؤقتة، ستبدل بغيرها، {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} .
على أن هناك آراء أخرى في المسألة بيَّنها الفخر الرازي في "تفسيره" "9/ 219- 225".
2 هذا جزء من حديث رواه بريدة -رضي الله عنه- أخرجه عنه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة قبر أمه "2/ 672". وفي كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه."3/ 1564".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور "2/ 195"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب في الأوعية "2/ 298".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة القبور، وقال: حديث حسن صحيح، "3/ 361".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور "4/ 73"، وأخرجه عنه في كتاب الأضاحي، باب الإذن في ذلك، أي: الإذن في الأكل من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وفي ادخاره "7/ 207"، كما أخرجه عنه في كتاب الأشربة، باب الإذن في شيء منها "8/ 278".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، أي: من نبيذ الأوعية "2/ 1127"، وقد أخرجه مختصرًا بلفظ: "كنت نهيتكم عن الأوعية، فانتبذوا فيه، واجتنبوا كل مسكر". كما أخرجه عن ابن مسعود -رضي =(1/122)
"وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا" 1.
__________
= الله عنه- في كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور "1/ 501" بلفظ مثل اللفظ الذي ساقه القاضي أبو يعلى غير أنه زاد فيه: "فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي آخره: "ولا تقولوا هجرًا"، وذلك في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الضحايا "3/ 76، 77" مطبوع مع شرح الزرقاني،
وأخرجه الإمام الشافعي عن أبي سعيد الخدري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر وزيارة القبور "1/ 220" "بدائع المنن".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن بريدة -رضي الله عنه- بلفظ: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور. وذلك في كتاب الجنائز، باب كراهة نقل الميت بعد دفنه وما جاء في زيارة القبور "1/ 170".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "2/ 137"، و"ذخائر المواريث" "1/ 112"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 188، 198"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "5/ 55، 56" و"الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" وضع الشيخ النبهاني "2/ 334". و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 307، 308".
1 النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم الرخصة في ذلك قد جاء جزءًا من حديث بريدة السابق تخريجه، غير أنه قد جاء من رواية غير بريدة. فقد أخرجه مسلم عن عائشة وجابر وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم- وذلك في كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه "3/ 1561، 1562".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" من حديث أبي سعيد الخدري، وقد مر الإشارة إلى ذلك في حديث بريدة.
وأخرجه ابن ماجه عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما- في كتاب الأضاحي، باب ادخار لحوم الأضاحي "2/ 1055".
وأخرجه الدارمي عن عائشة ونبيشة الباهلي -رضي الله عنهما- في كتاب الأضاحي، باب في لحوم الأضاحي "2/ 6". =(1/123)
ويكون عنه البيان بالإشارة أيضًا كقوله: "الشهر هكذا وهكذا [وهكذا] 1 وأشار بأصابعه العشر" 2 فأفاد أنه ثلاثون يومًا ثم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة" 3 فأفاد أنه تسعة وعشرون يومًا.
__________
= وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن جابر بن عبد الله وعائشة -رضي الله عنهما- في كتاب الهدايا والضحايا، باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ونسخه "1/ 230، 231".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الهدايا والضحايا، باب النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ونسخ ذلك عن جابر بن عبد الله ونبيشة -رضي الله عنهما "2/ 88".
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأضاحي عن أبي سعيد الخدري "4/ 232".
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي عن أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وبريدة وجابر ونبيشة وعائشة -رضي الله عنهم "4/ 185، 186".
راجع في هذا الحديث علاوة على ما سبق ذكره: "نصب الراية" "4/ 218"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 429، 430"، "وتلخيص الحبير" "4/ 144"، و"الفتح الكبير" وضع الشيخ النبهاني "2/ 334"، و"فيض القدير "5/ 55".
1 ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها كما هو ظاهر.
2 في الأصل: "العشرة" بإثبات التاء، وهو خطأ؛ لأن مثل هذه التاء تحذف في التأنيث وتثبت في التذكير.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نكتب ولا نحسب "3/ 34". وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال "2/ 761". =(1/124)
وقال تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} 1، ثم قال: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2 يعني: أشار إليهم، فقامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد.
وحكى الله تعالى عن مريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 3 فبينت لهم مرادها بالإشارة.
ويكون منه البيان أيضًا بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص، نحو قوله لفاطمة بنت أبي حبيش4 في دم الاستحاضة: "إنها دم عرق، وليس بالحيضة" 5. فدلَّ على وجوب اعتبار خروج دم العرق في نقض الطهارة.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه "4/ 113".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين "1/ 542".
وأخرجه أبو داود الطيالسي عنه في كتاب الصيام، باب ما جاء في نقص الشهر ووقت نية الصوم "1/ 183".
1 "41" سورة آل عمران.
2 "11" سورة مريم.
3 "29" سورة مريم.
4 في الأصل: "فاطمة بنت أبي جحش"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، ولعل الخطأ من الناسخ. وهي فاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشية، الأسدية، صحابية جليلة، ثبتت صحبتها في الصحيحين وغيرهما.
لهما ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1892"، و"الإصابة" "8/ 161".
5 هذا الحديث رَوَتْهُ عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، أخرجه عنها البخاري في كتاب =(1/125)
وقوله حين سئل عن سمن ماتت فيه فأرة فقال: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فأريقوه" 1، فدل بتفريقه بين المائع
__________
= الوضوء، باب غسل الدم "1/ 64"، وفي كتاب الحيض، باب الاستحاضة "1/ 80، 81"، وفي باب إقبال المحيض وإدباره "1/ 83، 84".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها "1/ 262".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة "1/ 65".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة "1/ 217"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما جاء في المستحاضة "1/ 203، 204".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة باب ذكر الأقراء "1/ 100، 101"، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة "102، 103".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 304، 323".
وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة باب في غسل المستحاضة "1/ 163".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في باب في المستحاضة "1/ 121".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الحيض "1/ 214".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحيض والاستحاضة، باب في المستحاضة تنبي على عادتها "1/ 39" "بدائع المنن".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الطهارة باب المستحاضة كيف تتطهر "1/ 102".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 199"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "78". و"تلخيص الحبير" "1/ 167".
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- أخرجه عنها البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء "1/ 66"، وفي كتاب =(1/126)
والجامد: على أن سائر المائعات تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة إياها. وغير ذلك من الوجوه المستنبطة.
وقد يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بيان الحكم بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على وجه من الوجوه، فترك النكير عليه، فيكون ذلك بيانًا في جواز فعل ذلك الشيء على الوجه الذي أقره عليه، أو وجوبه إن كان شاهده يفعله على وجهه [و] لم ينكره، وذلك نحو علمنا أن عقود الشرك والمضاربات والقروض، وما جرى مجرى ذلك، قد كانت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبحضرته مع علمه بوقوع ذلك منهم واستفاضتها فيما بينهم، ولم ينكرها على فاعلها، فدل على إباحة ذلك من إقراره؛ لأنه لا يجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرى منكرًا فلا ينكره؛ إذ كان ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله الحظ الأوفر في ذلك.
وليس لأحد أن يقول: إن ترك النكير لا يدل على الإباحة، لأنه ترك النكير اكتفاء بما تقدم من النهي عنه من جهة النص أو الدلالة، كما أقر اليهود والنصارى على الكفر، ولم يدل ذلك على جوازه عنده، وذلك أن قتاله لهم حتى يعطوا الجزية أشد نكيرًا، فجعل أخذ الجزية عقوبة لهم على إقرارهم على الكفر.
__________
= الذبائح، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب "7/ 126".
وأخرجه أبو داود عنها في كتاب الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن "2/ 327".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الأطعمة باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن "4/ 256" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي عنها في كتاب الفرع، باب الفأرة تقع في السمن "7/ 157". وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الجامع باب الفأرة تقع في السمن "4/ 378" مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه عنها الدارمي في "سننه" في كتاب الأطعمة باب الفأرة تقع في السمن فتموت "2/ 35".(1/127)
ولأنه لا يجوز أن يقول أحد: إنه كان في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- جائز أن يرى رجلًا يزني أو يقتل النفس، فلا ينكر عليه اكتفاءً بنهي الله تعالى [8/ أ] عن ذلك؛ ولأن ترك ذلك يؤدي إلى إسقاط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1.
وقد يقع بيان المجمل بالإجماع، نحو إجماعهم على أن دية الخطأ على العاقلة، والذي في كتاب الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 2، ولم يذكر وجوبها على العاقلة3.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص "1/ 69".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد "1/ 260". كما أخرجه عنه في كتاب الفتن، باب الأمر والنهي "2/ 437".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب "4/ 469" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان "8/ 98".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 265"، و"ذخائر المواريث" "3/ 180"، و"فيض القدير" "6/ 130".
2 "92" سورة النساء.
3 هذه الآية ليست مجملة -كما ذهب إليه المؤلف- وإنما هي عامة، تفيد هي وغيرها من النصوص أن الدية على القاتل، جزاءً لما فعل، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ، ولكن الخطأ خص بالنص، حيث قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بدية الخطأ على العاقلة كما في قصة حمل بن مالك، ثم وقع الإجماع على ذلك، كما حكاه القرطبي في تفسيره، وإن كان أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج أوجبوا الدية على القاتل في كلا الحالتين. راجع "تفسير القرطبي" "5/ 311- 328"، و"تفسير الفخر الرازي" "10/ 115- 124".(1/128)
وكإجماعهم على أن للجدة مع الولد الذكر السدس إذا لم يكن أب، وأن للجدتين إذا اجتمعتا السدس، وهو ما وقع به بيان قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1، كما بين تعالى بعضه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2 الآية. وكما بينت السنة بعضه فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- للجدة السدس3.
وقد4 يكون بيان الإجماع لحكم مبتدأ، كما يكون بيان حكم الكتاب والسنة، نحو إجماع السلف على أن حد الخمر ثمانون على ما بيناه في
__________
1 "7" سورة النساء.
وقد نص القرطبي في "تفسيره" "5/ 47"، والفخر الرازي في "تفسيره" "9/ 186" على أن هذه الآية مجملة. يدل على ذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أرسل إلى سويد وعرفجة أن لا يفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته نصيبًا، ولم يبين كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربنا ... الحديث.
2 "11" سورة النساء.
3 حديث توريث النبي -صلى الله عليه وسلم- الجدة السدس رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة "4/ 419، 420".
وأخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة "2/ 109".
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة "2/ 909- 910".
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب المواريث، باب ميراث الجدة "3/ 110- 112".
وأخرجه الدارمي في كتاب الفرائض، باب قول أبي بكر الصديق في الجدات "2/ 259".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 82"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 517" و"ذخائر المواريث" "3/ 94".
4 في الأصل "أوقد"، والصواب: حذف الهمزة، كما أثبتناه.(1/129)
غير هذا الكتاب، وإجماعهم على تأجيل امرأة العنين.
وقد يكون بيان خصوص العموم بالإجماع، نحو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 1، وأجمعت على أن العبد يجلد خمسين.
والإجماع وإن لم يخل من أن يكون عن توقيف أو رأي، فإنه أصل برأسه يجب اعتباره فيما يقع البيان به.
وقد يتعلق بهذا التفصيل: الكلام في جواز تأخير البيان، وذكر الاختلاف فيه، ويأتي الكلام في ذلك2.
وذكر أبو بكر في مجموع فيه مسائل بخطه: البيان على خمسة أوجه:
الأول: هو المؤكد، وهو أعلى ما يفهم به الخطاب وأشده وضوحًا.
والثاني: القائم بنفسه، وإن كان التأكيد لم يقع به.
الثالث: الخطاب الذي يحتاج أن يقرر بدليل معه.
الرابع: هو ما انفرد النبي بإيجاب حكمه، أو يزيد بقوله دون أن يكون له أصل في الكتاب.
الخامس: من علم الاستخراج من النصوص3.
__________
1 "2" سورة النور.
2 انظر: "ص: 724".
3 قد سبق الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى هذا التقسيم، وقد نبَّه على ذلك في "المسودة" "ص: 573" وبمراجعة كتاب الرسالة للإمام الشافعي "ص: 15- 26" تجد ذلك واضحًا.(1/130)
فصل: [في تعريف الدليل] : 1
الدليل هو: المرشد إلى المطلوب2.
وقيل: هو الموصل إلى المقصود.
ولا فرق بين أن يكون قديمًا أو محدثًا؛ لأن القرآن كلام الله تعالى، وليس بمخلوق، وهو دليل على الأحكام، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على الأحكام، وهو مخلوق محدث.
ولا فرق بين أن يكون موجودًا أو معدومًا؛ لأن عدم الشرع يدل على براءة الذمة وانتفاء الوجوب، كما يدل وجود الشرع.
ولا فرق بين أن يكون معلومًا وبين أن يكون مظنونًا.
وحُكي عن بعض المتكلمين: أن الدليل اسم لما كان موجبًا للعلم، فأما ما كان موجبًا للظن فهو أمارة.
وهذا غير صحيح2؛ لأن ذلك اسم لغوي، وأهل اللغة لا يفرقون بينهما.
__________
1 راجع في هذا الفصل من كتب أصول الحنابلة: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة: "10/ أ"، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول الورقة "8/ أ"، و"المسودة" "ص: 573، 574"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16".
2 هذا التعريف إنما هو تعريف للدليل في اللغة.
أما تعريفه في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. وهو شامل للدليل الظني والقطعي على الصحيح، ويحصل المطلوب منه عقب النظر في العادة. وقيل حصول ذلك ضرورة. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 15، 16"، و"حاشية البناني" "1/ 124- 133".
3 هذا خلاف ما ذهب إليه في كتابه "الكفاية" - كما نقل في "المسودة" "ص: 574" حيث جاء فيها: "فالدلالة هي الكتاب والسنة المقطوع بها، والإجماع المقطوع به. والأمارة: خبر الواحد والقياس".(1/131)
وأيضًا: فإنه مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلا كالموجب للعلم.
وأيضًا: فإن اعتقاد موجبهما والعمل بهما واجب، فلا فرق بينهما.
ولا فرق بين ما دل بنفسه مثل دلالة [8/ ب] الفعل على الفاعل، والإحكام والإتقان على قصده إليه وعلمه به، وبين ما دل بالمواضعة مثل: الفعل والقول الدَّالَّين على ما وضعا له من المعاني.
والرجل الدال على الطريق يسمى دليلا، وهو مجاز؛ لأن شخصه ليس بدليل، وإنما الدليل قوله أو فعله.
والاستدلال: طلب الدليل.
والمستدل هو: الطالب للدليل. فإذا طالب السائل المسئول بالدليل فهو مستدل؛ لأن السائل يطلبه من المسئول، والمسئول يطلبه من الأصول.
والمستدل عليه هو: الحكم.
والمستدل له يحتمل الحكم، ويحتمل الخصم المطالب بالدليل.(1/132)
فصل: [تعريف في الدلالة] :
وأما الدلالة1: فهي مصدر قولهم: دلَّ يدلُّ دلالة، ويسمى
__________
1 عرف أبو البقاء الفتوحي الدلالة بقوله: ما يلزم من فهم شيء فهم شيء آخر. انظر: "شرح الكوكب المنير" "ص: 38".(1/132)
الدليل دلالة على طريق المجاز؛ لأنهم يسمون الفاعل باسم المصدر كقولهم: رجل صائم وصَوْم، وزائر وزَوْر، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} 1، وأراد به غائرًا2.
وأما الدال فقد قيل: هو الدليل، إلا أن فيه ضربًا من المبالغة كقولهم: عالم وعليم، وقادر وقدير، وسامع وسميع.
ومنهم من قال: هو الناصب للدليل، وهو الله تعالى الذي نصب أدلة العقل والشرع، وكل من نصب لغيره دليلا على شيء، فهو دال بما نصبه من الدليل.
وأما الحجة والبراهين فذلك اسم للدليل، ولا فرق بين الدليل من الحجة والبرهان.
وقيل: ذلك اسم لما دل على صحة الدعوى، ولهذا سمي بينة المدعي حجته وبرهانه، وليس كل دليل حجة.
__________
1 "30" سورة الملك.
2 لم يذكر المؤلف أقسام الدلالة؛ ولإتمام الفائدة نقول باختصار:
الدلالة تنقسم إلى قسمين: لفظية، وغير لفظية.
فأما غير اللفظية، فتنقسم إلى قسمين: وضعية، وعقلية.
وأما اللفظية، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام: طبيعية، وعقلية، ووضعية.
والوضعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مطابقة، وتضمن، والتزام.
وأما الدلالة باللفظ: فهي استعمال اللفظ، إما في موضوعه، وإما في غير موضوعه لعلاقة. والأول يسمى حقيقة، والثاني يسمى مجازًا. راجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 38- 40"، و"شرح الأسنوي لمنهاج الوصول" "1/ 178- 181".(1/133)
وسمعت أخي أبا حازم1 -رحمه الله- يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن علي بن عبدوس المعدل بالأهواز2 قال: سمعت سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني3 يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل4 يقول:
__________
1 هكذا في الأصل: "أبو حازم" بالمهملة، وقد وضع الناسخ علامة "ح" تحت حرف الحاء، ولكن الكنية في مصادر الترجمة "أو خازم" بالخاء المعجمة.
وهو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء، أبو خازم، أخو القاضي أبي يعلى، سمع الدارقطني وابن شاهين وغيرهما. كان يميل إلى الاعتزال. محدث خلط في التحديث لما كان في مصر، مات سنة: 430هـ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "2/ 252" و"لسان الميزان" "5/ 141". و "المنتظم" "8/ 102"، و"ميزان الاعتدال" "3/ 524".
2 الجصاص الأهوازي. سمع الطبراني وأبا بكر بن خلاد وغيرهما. حدث عنه محمد بن أبي الفوارس والخطيب البغدادي وغيرهما. وثَّقه الخطيب البغدادي. مات بالأهواز سنة: 423هـ. له ترجمة في: تاريخ بغداد "4/ 323".
3 اللخمي، أبو القاسم، المحدث الحافظ. سمع الحديث وعمره ثلاث عشرة سنة وسمعه بالشام والحجاز واليمن وبغداد وغيرها. حدث عما يزيد عن ألف شيخ له كتاب: "المعجم الكبير"، و"الأوسط"، و"الصغير" وغير ذلك. مات سنة: 360، وله من العمر مائة سنة.
له ترجمة في: "البداية والنهاية" "11/ 270"، و"تذكرة الحفاظ" "3/ 912"، و"شذرات الذهب" "3/ 30"، و"طبقات الحفاظ" "ص: 372"، و"طبقات الحنابلة" "2/ 49"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/ 198"، و"لسان الميزان" "3/ 73"، و"المنتظم" "7/ 54"، و"ميزان الاعتدال" "2/ 195"، و"النجوم الزاهرة" "4/ 59".
4 أبو عبد الرحمن البغدادي. روى عن أبيه وابن معين وغيرهما. وعنه النسائي والطبراني وغيرهما. ثقة حافظ نقل عن أبيه الحديث والفقه. ولد سنة: 213هـ. ومات سنة: 290هـ. له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب" 2/ 203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180".(1/134)
سمعت أبي يقول: قواعد الإسلام أربع: دال ودليل ومبين ومستدل. فالدال: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمبين: الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. والمستدل: أولو الألباب وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه صفته2.
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" "9/ 375"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 565"، و"خلاصة تذهيب الكمال" "ص: 161"، و"شذرات الذهب" 2/ 203"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 180".
1 "44" سورة النحل.
2 كلام الإمام أحمد هذا ذكره أبو البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" "ص: 16".(1/135)
فصل: [في تعريف الأمارة وأقسامها] :
وأما الأمارة فهي: الدليل المظنون، كخبر الواحد والقياس، وليس بدليل مقطوع عليه. وهذه عبارة وضعها أهل النظر للفرق بين ما يفضي إلى العلم وبين ما يؤدي إلى غلبة الظن.
والأمارات على ضربين:
أحدهما: ما له أصل يرجع إليه في الشريعة مثل: القياس ووجوه الاستدلال التي نذكرها في الفقه.
والثاني: ما لا أصل له في الشريعة وهذا على وجوه.
منها: ما أمرنا فيه بالرجوع إلى العادة الجارية1 مثل تقويم
__________
1 العادة في اللغة: تطلق على تكرار الشيء مرة بعد أخرى. انظر: اللسان "4/ 311"، = والقاموس "1/ 319"، ومعجم مقاييس اللغة "4/ 181- 182".
وأما لدى الأصوليين فهي -كما عرفها ابن أمير الحاج- في كتابه التقرير والتحبير "1/ 282" بقوله: "الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية".
ولمزيد من الفائدة راجع: العرف وأثره في الشريعة والقانون -رسالتنا للماجستير- "ص: 21- 23".(1/135)
المستهلكات يعتبر به أمثاله مما تجري فيه المبتاعات، وكأروش الجنايات التي ليس فيها أَرَش مقدر، يرجع في تقويمه إلى أقرب الشجاج إليه، فصار ما يقرب إليه ويعتبر به كأصول الشريعة الموضوعة في الشرع، وهذا أظهر في الشجاج؛ لأن ما يعتبر به من الشجاج المقدورة أصول [9/ أ] في الشريعة، مثل أصول الحوادث.
وكذلك الاجتهاد في القبلة والاستدلال مما أجرى الله تعالى به العادة كهب الرياح ومطالع النجوم.
ومن ذلك الفرق بين القليل والكثير مما قامت عليه الدلالة، من ذلك: أن الجمعة لا تجب على من هو خارج المصر على بعد، وتجب على من هو قريب منه، فجعلنا الحد الفاصل سماع النداء.
وكذلك الفاصل بين العمل القليل والكثير مما يفسد الصلاة من المشيء وغيره، وما يرفع هيئة الصلاة.
وكذلك الحد الفاصل بين يسير النوم وكثيره ما يلقى معه عن الجهة التي هو عليها1.
__________
1 صرح المؤلف -رحمه الله تعالى- بأن العادة أمارة لا أصل لها في الشريعة، وفي رأيي أن الأمر ليس كذلك، بل العادة لها أصل تعتمد عليه من السنة التقريرية، والإجماع العملي، والمصلحة المرسلة، والأدلة المطلقة التي أحالت عليها. وقد استوفينا الكلام في ذلك في رسالتنا العرف وأثره في الشريعة والقانون "ص: 64- 82".(1/136)
فصل: [تعريف النص] :
فقيل فيه: ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته و [منه] سميت منصة العروس؛ لأن العروس ترتفع عليها على سائر النساء، وتنكشف لهن بذلك. قال امرؤ القيس1:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل2
ومعناه: إذا كشفته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات، كان يمشي عنقًا، فإذا وجد فجوة نصَّ3، يعني: رفع في السير.
__________
1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي. اختلف في اسمه، فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل: عدي، والأول أشهر. زعيم الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، الملك الضلِّيل، ذو القروح، شاعر ماجن. ولد سنة: 497م تقريبًا، وتوفي سنة: 545 م، تقريبًا أيضًا.
له ترجمة في: "الأعلام" للزركلي "1/ 352"، و"الأغاني" "9/ 77"، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة "1/ 105- 136"، و"طبقات الشعراء" للجمحي "ص: 43، 67، 80".
2 هذا البيت موجود في ديوان الشاعر "ص: 16" ضمن معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها:
قِفَا نبكِ من ذِكْرى حبيبِ ومنزلِ ... بسقطِ اللِّوى بين الدَّخولِ فحَومَلِ
3 هذا الحديث رواه أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أخرجه عنه البخاري في كتاب المناسك، باب السير إذا دفع من عرفة "2/ 190".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة "2/ 936". وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب الدفعة من عرفة "1/ 447". =(1/137)
وقيل: كل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا.
وقيل: ما استوى ظاهره وباطنه.
وقيل: ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة.
وقيل: ما تأويله يزيله. وهذا فاسد؛ لأن التأويل لا يستعمل إلا في الاحتمال.
والصحيح أن يقال: النص ما كان صريحًا في حكم من الأحكام، وإن كان اللفظ محتملا في غيره.
وليس من شرطه أن لا يحتمل إلا معنىً واحدًا؛ لأن هذا يعز وجوده، إلا أن يكون نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 1، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 2، وإنما حده ما ذكرنا.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب كيف السير من عرفة "5/ 208".
وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب كيف السير في الإفاضة من عرفة "1/ 385".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "5/ 310".
وأخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب المناسك، باب السير في الدفعة "2/ 342"، مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب وقت الدفع من عرفة إلى مزدلفة "2/ 58".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة "1/ 221".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب في الدفع من عرفة "2/ 1004".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 273، 274"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 406"، و"ذخائر المواريث" "1/ 13".
1 "64" سورة الأنفال.
2 "1" الإخلاص.(1/138)
ومثل هذا في الشرع أكثر من أن يحصى، فلهذا نقول: إن قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 1 إنه نص في قدر المدة، وإن كان محتملا في غيره, وقوله عليه السلام: "في أربع وعشرين من الإبل فما دون الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" 2، وهذا نص في قدر النصب وأسنان الفرض.
ونهيه عن المزابنة، إلا أنه رَخَّصَ في بيع العَرَايَا3، في أن العرية بيع وليست بهبة، كما قال أصحاب أبي حنيفة.
__________
1 "226" سورة البقرة.
2 هذا جزء من حديث جاء في كتاب أبي بكر في الصدقات، وكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم وقد مضى تخريجهما "ص: 115".
3 هذا الحديث رواه سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة "3/ 94".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا "3/ 1170".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في بيع العرايا "2/ 226".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب بيع العريا بالرطب "7/ 236".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب منه، أي من باب ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك "3/ 587"، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب الرخصة في العرايا "2/ 170".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع، باب في العرايا "4/ 30".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "1/ 56"، و"ذخائر المواريث" "1/ 256". و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 452"، و"نصب الراية" "4/ 13"، و"تلخيص الحبير" "3/ 29".(1/139)
في تعريف العام والظاهر
مدخل
...
فصل: [في تعريف العام والظاهر] : 1
والعموم: ما عم شيئين فصاعدًا 2.
والظاهر: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر.
والفرق بين العموم والظاهر: أن العموم ليس بعض ما تناوله اللفظ
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "50-55"، و"الواضح" لابن عقيل، الجزء الأول، الورقة "8"، و"المسودة" "ص: 574"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 343" من الملحق، و"روضة الناظر" "ص: 115".
2 عرَّفه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" "1/ 203" بقوله: هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له. وقد تابعه أبو الخطاب الحنبلي في ذلك. انظر التمهيد، الورقة "50/ أ". واختاره الرازي وزاد عليه قوله: بحسب وضع واحد. وارتضاه الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" "ص: 112، 113" وزاد عليه قوله: "دفعة".
أما الغزالي فقد عرّفه في كتابه "المستصفى" "2/ 32" بقوله: "اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا".
وقد ذكر في "المسودة" "ص: 574" تعريف القاضي أبي يعلى، وعزاه إليه وإلى أبي الطيب ثم قال بعد ذلك: "وهو مدخول من وجوه"، ولم يذكر شيئًا من هذه الوجوه. وأول ما يلاحظ عليه وعلى تعريف الغزالي: أنهما جعلا في التثنية عمومًا.
ولمزيد من الاطلاع راجع: "المنخول" "ص: 138"، و"الإحكام" لابن حزم "1/ 39"، و"نهاية السول"، شرح "منهاج الأصول" "2/ 312".(1/140)
بأظهر من بعض وتناوله للجميع تناول واحد، فيجب حمله على عمومه، إلا أن يخصه دليل أقوى منه.
و [أما] الظاهر فإنه يحتمل معنيين، إلا أن أحدهما أظهر وأحق باللفظ من الآخر، فيجب حمله على أظهرهما، ولا يجوز صرفه عنه إلا بما هو أقوى منه. وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عمومًا؛ لأن العموم يحتمل البعض، إلا أن الكل أظهر.
فالعموم مثل قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، [9/ ب] ومثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 فكانا عامين في جميع ما تناولاه. ومثل ذلك أكثر من أن يحصر.
والظاهر: مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 3، فإنه يحتمل الندب، إلا أن ظاهره الوجوب؛ لأنه أمر وظاهر الأمر الوجوب، فسمي ظاهرًا لذلك4.
وكذلك كل لفظ محتمل لمعنيين أحدهما أظهر من الآخر من طريق اللغة، أو من طريق الاستدلال. من ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للمرتهن: "ذهب حقك" 5 فيحتمل أن يكون المراد به الدين، ويحتمل
__________
1 "5" سورة التوبة.
2 "103" سورة التوبة.
3 "33" سورة النور.
4 هل الأمر للوجوب أو للندب؟ قولان: الأول للشافعي، والثاني لمالك وأبي حنيفة، وحجة الشافعي: ظاهر الآية. وحجة أبي حنيفة: السنة والقياس. انظر: "تفسير الفخر الرازي" "23/ 219، 220".
5 هذا الحديث قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن لما نفق فرس الرهن عنده. وهو حديث مرسل. أرسله عطاء، كما صرح بذلك أبو داود في "مراسيله" "ص: 21". ونقل الزيلعي في "نصب الراية "4/ 321" عن عبد الحق قوله: "إنه مرسل وضعيف" وقد بَيَّن ابن القطان الضعف بأن فيه: مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف، كثير الغلط، وإن كان صدوقًا. ومصعب هذا قال عنه الذهبي في كتابه "المغني" "2/ 660": ضعفه ابن معين وأحمد وأبو حاتم.(1/141)
حقه من الوثيقة، إلا أن الظاهر حقه من الوثيقة؛ لأنه لم يسأل عن مقدار قيمة الرهن، ومن يسقط الدين فإنما يسقطه بقدر قيمة الرهن، فدل على أن مراده به حقه من الوثيقة.
وكذلك قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "هما علي يا رسول الله، وأنا لهما ضامن"1؛ فيحتمل أن يكون إخبارًا عن ضمان سابق، ويحتمل أن يكون ابتداء ضمان، ولكن الظاهر منه ابتداء ضمان؛ لأن حمله على الإخبار يؤدي إلى خطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه ترك الصلاة على من كان قد خلف ضامنًا، والضامن بمنزلة الوفاء.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أخرجه عنه الدارقطني والبيهقي بأسانيد كلها -كما يقول الحافظ ابن حجر- ضعيفة. انظر: "تلخيص الحبير" "3/ 47".(1/142)
المجمل: 1
وأما المجمل2 فهو ما لا ينبئ عن المراد بنفسه، ويحتاج إلى قرينة تفسره.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "76/ ب" وما بعدها، و"روضة الناظر" "ص: 93"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 219"، و"أصول الجصاص" مبحث المجمل، الورقة "19- 32"، ومبحث حكم المجمل من "274- 284" الجزء الأول، مخطوطة الأزهر.
2 المجمل لغة: المجموع، من أجملت الحساب، إذا جمعته. أو المحصل: من أجملت الشيء إذا حصلته. أو المبهم: من أجمل الأمر إذا أبهم. والأخير أشهر. راجع: "التمهيد" الورقة "76/ ب" و"إرشاد الفحول" "ص: 167"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 219".(1/142)
أولا يعرف معناه من لفظه، وهو أصح، وذلك مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 فإنه مجمل في جنس الحق وفي قدره، ويحتاج إلى دليل يفسره ويبين معناه.
فأما قوله تعالى: {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} 2 فإن ذلك مجمل3؛ لأن الصلاة في اللغة: دعاء، فكا [ن] كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 4. وفي الشريعة هي: التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة.
فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن يكون مجملا.
وكذلك الزكاة في اللغة: النَّمَاء والزيادة، من قولهم: زكا الزرع إذا زاد ونما. والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك، واللفظ لا يدل عليه ولا ينبئ عنه.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- ذكره في كتاب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
__________
1 "141" سورة الأنعام.
2 "43" سورة البقرة.
3 قال في المسودة "ص: 177": "هذا ظاهر كلام أحمد، بل نصه، ذكره ابن عقيل والقاضي أيضًا في أول العدة".
4 الآية "35" من سورة الأنفال.
والمكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق. راجع: "تفسير الفخر الرازي" "15/ 159".(1/143)
{أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ} 1، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدال على إقامتها: إن الفجر ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، والظهر أربع، والعصر أربع، لا يجهر فيهما، والمغرب ثلاث يجهر بالقراءة فيها.
وقوله: {وَآَتُوا الْزَّكَاةَ} 2 هل فسر ذلك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أصحابه من بعده؟
ومن أصحاب الشافعي من قال: ليست بمجمل وإن الصلاة في اللغة: دعاء، فكل دعاء يجوز، إلا أن يخصه الدليل. وكذلك يجب إخراج الزيادة من الزكاة، إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3، فهو مجمل أيضًا، ولا يدل على أن الحج الشرعي كما ذكرنا في الصلاة والزكاة.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى الْنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاَ} [10/ أ] فقالوا: السبيلُ الزادُ والراحلة4، وحج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقَّت المواقيت للإحرام. فيما تقول للمدعي للظاهر من أين تأخذ هذا؟!
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "43" سورة البقرة.
3 "97" سورة آل عمران.
4 تخصيص السبيل بالزاد والراحلة، فيه نظر؛ لأن هناك أشياء لا بد من توفرها، حتى يستطيع الإنسان الحج، كالصحة في البدن، وكون الطريق مأمونة، راجع: "تفسير الفخر الرازي" "8/ 162، 163"، و"تفسير القرطبي" "4/ 147- 149".(1/144)
ومن أصحاب الشافعي من قال: الحج هو التردد في القصد، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 1، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما يحرم أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ، والمذكور فيه متروك بالإجماع، فوجب التوقف فيه، وطلب دليل يدل على المراد.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- أيضًا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4، وقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 5، فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"6، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على
__________
1 "3" سورة المائدة.
2 "23" سورة النساء.
3 هذه الآية ومثيلاتها قد حكم المؤلف "ص: 106" بأنها مبينة، ثم حكم هنا، أنها مجملة. ولم يتفطن أحد إلى سبب هذا التناقض. والذي أعتقده أن القاضي أبا يعلى نقل في الأول كلام الجصاص -رحمه الله- في أصوله بنصه، وكان فيه: أن هذه الألفاظ مبينة. ولما جاء إلى هنا، وكان مستقلا في رأيه حكم بأنها مجملة. وسنتعرض لذلك عند دراستنا للمخطوطة إن شاء الله تعالى.
4 "3" سورة المائدة.
5 "145" سورة الأنعام.
6 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من =(1/145)
......................................................................
__________
= الطير "3/ 1533- 1535".
وأخرجه عنه أبو دواد في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع "2/ 319". وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع "1/ 1077".
وأخرجه النسائي في كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل لحوم الدجاج "7/ 182".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب ما لا يؤكل من السباع "2/ 12".
وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير "1/ 327".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ: نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمر، وكل ذي ناب من السبع أو مخلب من الطير" "4/ 287",
وأخرجه الترمذي عن جابر -رضي الله عنه- في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب "4/ 73".
كما أخرجه عنه أبو داود في الكتاب والباب المذكورين سابقًا "2/ 320".
أما النهي عن الجزء الأول من الحديث، وهو قوله: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. فقد أخرجه البخاري عن أبي ثعلبة الخشني في كتاب الطب، باب ألبان الأتن "7/ 181".
وأخرجه مسلم عن أبي ثعلبة في الكتاب والباب المذكورين سابقًا، كما أخرجه عن أبي هريرة بلفظ: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام".
كما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع المذكور سابقًا، وعن أبي ثعلبة أيضًا في كتاب السير، باب ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين "4/ 129".
وأخرجه ابن ماجه عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الموضع السابق.
وأخرجه الدارمي عن أبي ثعلبة الخشني في الموضع السابق أيضًا.
وأخرجه النسائي عن أبي ثعلبة وأبي هريرة في الكتاب المذكور سابقًا، باب تحريم أكل السباع "7/ 177". =(1/146)
ظاهرها، وأنه هو المعبر عما في كتاب الله تعالى، ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم الكلاب والهرر والفيل والفأر والقرد وغير ذلك مما نهى عنه1.
وقال تعالى في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمْهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 كما يقول في البنت من الرضاعة، وبنت الأخ والعمة والخالة من الرضاعة، ولم يذكروا، أليس يرجع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
__________
= وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيد، باب تحريم كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة -رضي الله عنهما "3/ 90، 91".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، عن أبي ثعلبة وأبي هريرة "2/ 429".
وأخرجه الطيالسي عن أبي ثعلبة في الموضع السابق.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 357- 358"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 755"، و"تلخيص الحبير" "4/ 151- 152".
1 للعلماء في التوفيق بين الآية والحديث أقوال:
الأول: أن الآية منسوخة بهذا الحديث؛ لأنها مكية، والحديث قاله الرسول -عليه الصلاة والسلام- في المدينة.
الثاني: أن الآية محكمة، ولا حرام إلا ما فيها.
الثالث: أن الآية محكمة، وما حرمته فهو حرام، بالإضافة إلى تحريم ما حرمته الأحاديث، وعليه جمهرة العلماء، وهو مدلول كلام أحمد هنا.
الرابع: أن هناك سؤالا خاصًّا، جاءت الآية جوابًا عنه، فكانت خاصة. راجع: "الجامع لأحكام القرآن" "7/ 115- 119"، و"التفسير الكبير" للفخر الرازي "14/ 218- 223".
2 "24" سورة النساء.(1/147)
ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ فكيف يقول في تزويج المرأة على عمتها أو خالتها؟ أليس يرجع في هذا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم؟! 1.
ومن أصحاب الشافعي من قال: المراد به أفعالنا في الأمهات والميتة، والعرب تحذف بعض الكلام إذا كان فيما أبقت دليل على ما ألقت.
وأما قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 2 فهذا أيضًا من المجمل3؛ لأن الله تعالى حكى عنهم -وهم أهل اللسان- أنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، وإذا كان
__________
1 قلت: وكلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- لا يدل على أن الآيات المذكورة مجملة، بل يدل على أنها كانت عامة، يعمل بها، حتى جاءت النصوص الأخرى، فزادت عليها أحكامًا أخرى.
ويدل لما ذهبت إليه أمور:
أولا: قوله: فلما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، دلت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن الآية ليست على ظاهرها، والظاهر غير المجمل؛ لأن الظاهر يجب العمل به بخلاف المجمل.
ثانيًا: قوله: "ومن لزم ظاهر الآية لزمه أن يبيح لحم الكلاب"، يفيد أن النصوص المذكورة دالة على أحكامها ملزمة بها، والمجمل لا يدل دلالة معينة، ولا إلزام بما جاء به.
ثالثًا: قوله: "وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أليس الظاهر يدل على أن ما وراء ما حرم مباح؟ "، ولو كانت مجملة لما دلت على شيء، ولما أطلق عليها اسم: الظاهر.
2 "275" سورة البقرة.
3 ذكر المؤلف "ص: 110" أن هذه الآية مبينة، وقد سبق قريبًا ذكر السبب في ذلك.(1/148)
كذلك افتقر إلى قرينة تفسره، وتميز بينه وبين الربا.
ومن أصحاب الشافعي من قال: البيع هو الإيجاب والقبول عندهم، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل.
وأما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، فليس من المجمل2، وإنما هو من العموم، ويجوز الاحتجاج به.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في كتاب "طاعة الرسول" فقال: قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم سارق، وإن قل، فقد وجب عليه القطع، أيستعمل
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 هذه الآية احتدم الخلاف فيها بين العلماء، هل هي مجملة، أو مبينة؟ فذهب الجمهور إلى: أنها عامة مبينة، وقد دخلها التخصيص، وهو رأي الشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض الحنفية.
وذهب بعض الحنفية -ومن بينهم أبو الحسن الكرخي- إلى أنها مجملة.
والإجمال عند القائلين به في قدر المسروق الذي يجب فيه القطع، وفي القطع، حيث يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، وعلى الموضع الذي يقع عليه لفظ اليد، حيث تطلق عليها من المنكب إلى أطراف الأصابع، كما تطلق على بعضها، وعلى المخاطب بتنفيذ القطع، هل هو شخص معين أو الأمة، أو الإمام؟
وقد أجاب القائلون بالعموم بما محصله: أن الآية عامة في كل ما ذكر، ولكن الأحاديث القولية والفعلية خصصت العموم ولولاها لعمل بالآية على عمومها، راجع في هذا: "التفسير الكبير" للفخر الرازي "11/ 224، 225"، و"الجامع لأحكام القرآن" "6/ 159- 176"، و"تيسير التحرير" "1/ 170، 171"، و"إرشاد الفحول" "ص: 170"، و"مناهج العقول" و"نهاية السول" كلاهما شرح "لمنهاج الأصول" "2/ 146- 148"، و"المسودة" "ص: 101، 102"، و"أصول الجصاص" الجزء الأول، الورقة "22، 23" مخطوطة الأزهر.(1/149)
الظاهر، أو يستعمل ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: القطع في ربع دينار1. وفي المجمل دل على [10/ ب] أنه ليس على ظاهرها وأنها على بعض السراق.
__________
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، أخرجه عنها البخاري في كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "8/ 199، 200".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها "3/ 1312، 1313".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الحدود، باب فيما يقطع فيه السارق "2/ 448".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في كم تقطع يد السارق "4/ 50" وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنها النسائي في كتاب السرقة، باب القَدْرِ الذي إذا سرقه السارق قطعت يده "8/ 70".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الحدود باب حد السارق "2/ 862".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الحدود، باب ما يقطع فيه اليد "2/ 94".
وأخرجه عنها الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود، باب ما يجب فيه القطع "4/ 155".
وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الحدود "3/ 189".
وأخرجه عنها أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود، باب حد السارق وفي كم تقطع يده؟ "1/ 301".
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" "6/ 36، 80، 81، 104".
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الحدود، باب المقدار الذي يقطع فيه السارق "3/ 164".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "4/ 64"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 650".(1/150)
وحكي عن عيسى بن أبان1 أنها من المجمل2، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة3؛ لأن المراد به سارق مخصوص لقدر مخصوص من حرز مخصوص واللفظ لا يدل عليه.
وهذا غير صحيح؛ لأن السارق معلوم في اللغة، وهو من أخذ الشيء مستترًا مستخفيًا به، فيجب حمله على عمومه إلا ما خصه الدليل، كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4.
__________
1 هو عيسى بن أبان صدقة، أبو موسى، أحد فقهاء الحنفية المشهورين، وَلِيَ قضاءَ البصرة عشرين سنة، مع العفة والنزاهة. له كتب منها: "الجامع في الفقه" و"اجتهاد الرأي". مات بالبصرة سنة: 221هـ.
له ترجمة في "الأعلام" "5/ 283"، و"تاريخ بغداد" "11/ 175".
2 قال الجصاص في أصوله الجزء الأول، الورقة "18" ما نصه: "وقد ذكر أبو موسى عيسى بن أبان العام في مواضع، فسماه مجملا، وهذا كلام في العبارة ولا يقع في مثله مضايقة".
3 هذا العزو غير محرر، وتحريره أنه لبعض أصحاب أبي حنيفة، انظر المراجع التي ذكرناها قريبًا عند تعليقنا على آية السرقة "ص: 149".
4 "5" سورة التوبة.(1/151)
[تعريف المفسر] :
فأما المفسر: فما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعرف معناه من لفظه ولا يفتقر إلى قرينة تفسره، وهذه صفة النص، وقد ذكرناه 1.
__________
1 سبق ذكره "ص: 137".(1/151)
وحد ذلك: ما بقي حكمه، أو تأبد حكمه.
وقد يعبر به عن المفسر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأراد بالمحكمات المفسرة المستغنية في معرفة معانيها عما يفسرها.
وحد ذلك ما ذكرته، وهو ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه.
__________
1 "7" سورة آل عمران.(1/152)
[تعريف المتشابه] :
وأما المتشابه فهو: المشتبه المحتمل الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تُبَيِّنُه وتزيل إشكاله. ونعيد ذكره في موضع آخر ونحكي الخلاف فيه1.
__________
1 وذلك "ص: 684- 693".(1/152)
[تعريف مفهوم الخطاب] : 1
وأما مفهوم الخطاب فهو التنبيه بالمنطوق به على حكم المسكوت عنه، مثل حذف المضاف كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 2، ومعناه:
__________
1 راجع هذا الفصل في كتاب "المسودة" "ص: 350" فإنه نقل أكثر كلام القاضي هنا، كما تراجع "شرح الكوكب المنير" "ص: 238" وما بعدها.
2 "197" سورة البقرة.(1/152)
أفعال الحج في أشهر1. وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} 2، فتقديره: في إحرام الحج3. وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} 4، ومعناه: فحلق ففدية5، وكقوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 6، فنبه بذلك على تحريم الضرب والشتم؛ لأنه إنما منع من التأفيف لما فيه من الأذى، وذلك في الضرب أعظم، وجب أن يكون بالمنع أولى، ويسمى هذا القسم: فحوى الخطاب.
وقال بعض أهل اللغة: اشتق ذلك من تسميتهم الأبزار فحافحًا، ويقال: "فح قدرك يا هذا"، فسمي فحوى؛ لأنه يظهر معنى اللفظ كما تظهر الأبزار طعم الطبيخ ورائحته.
ويسمى أيضًا لحن القول؛ لأن لحن القول ما فهم منه بضرب من الفطنة. يقال: لحنت فلانًا إذا كلمته بكلام يعلمه ولا يعلمه غيره. ورجلان تلاحنا، إذا فعلا مثل ذلك. ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 7.وقال الشاعر:
__________
1 وهناك تقديران آخران هما:
أولا: الحج حج أشهر معلومات.
ثانيًا: أشهر الحج أشهر معلومات.
على أنه يمكن أن تفهم الآية من غير تقدير، وذلك بجعل الأشهر نفس الحج؛ لأن الحج يقع فيها. راجع" التفسير الكبير" للفخر الرازي "5/ 160".
2 "196" سورة البقرة.
3 وقدَّرَهُ الفخر الرازي بقوله: فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج "5/ 155" من تفسيره.
4 "196" سورة البقرة.
5 قدَّر ذلك الفخر الرازي في تفسيره "5/ 151" بقوله: "فحلق فعليه فدية".
6 "23" سورة الإسراء.
7 "30" سورة محمد.(1/153)
منطقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيَا ... نًا وخيرُ الحديثِ ما كان لحنًا1
وقيل: لحن القول ما دل عليه، وحذف استغناء عنه بدليل الكلام عليه نحو قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} 2. فدل على أنه ضرب، فانفجرت. ونحو قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 3، ولم يذكر أنهما ذهبا، اكتفاء بما حكاه من جواب فرعون لهما حتى4 قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5. [11/ أ] وأشباه ذلك.
__________
1 هذا البيت قاله الشاعر مالك بن أسماء في جارية له ضمن ثلاثة أبيات هي:
أمغطي مني على بصري للـ ... ـحب أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وأحلى الحديث ما كان لحنا
ويلاحظ أنه أتى بكلمة: أحلى، بدل كلمة: خير، التي أتى بها المصنف.
راجع: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، المجلد الثاني، ص: 161، 162"، و"معجم الشعراء" للمرزباني "ص: 266"، و"البيان والتبيين" للجاحظ "1/ 147" وروايته للبيت المستشهد به كرواية ابن قتيبة، وقد رواه الجاحظ أيضًا في كتابه المذكور "1/ 228" وروايته للبيت مثل رواية المؤلف.
2 "60" سورة البقرة.
3 "43" سورة طه.
4 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "حين".
5 الآيتان "49، 50" سورة طه.(1/154)
[تعريف دليل الخطاب] :
وأما دليله فهو دليل الخطاب، وذلك إذا علق بصفة فيدل على أن الحكم فيما عدا الصفة بخلافه.(1/154)
وكذلك إذا علق بعدد، وهذا فصل فيه خلاف، وكلام كثير، يأتي الكلام عليه في موضع آخر1.
__________
1 وذلك "ص: 448" وما بعدها.(1/155)
في تعريف التخصيص
مدخل
...
فصل: [في تعريف التخصيص] :
وأما التخصيص فهو تمييز بعض الجملة بحكم1.
وقيل: إخراج بعض ما تناوله العموم2.
وقيل: بيان المراد باللفظ العام.
وهذا حد تخصيص العموم، وليس بحد تخصيص مطلق؛ لأنه لا فرق بين أن يكون داخلا في حكم عموم مخالف له وبين أن يكون داخلا فيه؛ لأنا نقول خص الأحرار بأحكام، وخص الرجال بأحكام وخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحكام وخُصَّ ذو القربى بأحكام، وخص الوالد بالرجوع في الهبة، وخص المستطيع بإيجاب الحج، وخص العلماء بكذا، وخص بلد كذا بكذا، وخص السلطان فلانًا بإلاكرام والعطاء.
__________
1 هذا التعريف ذكره الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول"ص: 142"، ونسبه لابن السمعاني. وقد ذكره الشيرازي في كتابه "اللُّمع" "ص: 17"، ولم ينسبه لأحد.
2 هذا التعريف لأبي الحسين البصري كما في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" "1/ 251" غير أن فيه كلمة: الخطاب، بدل كلمة: العموم.(1/155)
[تعريف النسخ] : 1
وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق.
__________
1 سيأتي الكلام عن النسخ في بحث مستقل مستفيض "ص: 768- 838".(1/155)
وإن شئت قلت: بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان.
وقد قيل: التخصيص تقليل، والنسخ تبديل. وهذا غير صحيح؛ لأن الردة تبديل، وتغيير العهد والوصية تبديل وليس بنسخ، قال الله سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 1، وقال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2.
وفيما ذكرنا من الحد احتراز من الحكم المعلق على زمان مخصوص، وأن انقضاءه ليس بنسخ له؛ لأن الحكم لم يكن مطلقًا، وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، وليس انقضاء الليل نسخًا للحكم المأذون فيه، ولا انقضاء النهار نسخًا للصوم المأمور به فيه.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ 4 أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
__________
1 "181" سورة البقرة.
2 "23" الأحزاب.
3 "187" سورة البقرة.
4 كلمة: "عليهن" ساقطة من الأصل.(1/156)
سَبِيلاً} 1 ليس بمطلق، وقد قلتم إنه منسوخ بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 قيل: هذه الغاية مشروطة في كل حكم مطلق؛ لأن غاية كل حكم إلى موت المكلف أو إلى النسخ.
__________
1 "15" سورة النساء.
2 "2" سورة النور.(1/157)
تعريف الأمر
مدخل
...
فصل: [تعريف الأمر] : 1
الأمر اقتضاء الفعل أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه.
وإنما قلنا: "بالقول"؛ لأن الرموز والإشارات ليست بأمر حقيقة، وإنما سمي أمرًا على طريق المجاز.
وقولنا: "ممن هو دونه"؛ لأن قول العبد لربه: اغفر لي، وتجاوز عني، وكفر سيئاتي، فإنه2 ليس بأمر، وإنما هو سؤال [11/ ب] وطلب. وكذلك قول المملوك لمالكه: أطعمني، واكسني، سؤال وطلب، وليس بأمر؛ولهذا لايجوز أن يقال: إن المالك مأمور، وإنه مطيع بفعله. فإن قيل: قد يأمر بالكلام وتبليغ الرسالة، وهذا أمر، وليس بأمر بالفعل.
قيل: الكلام فعل، وتسميته قولا وكلامًا ونطقًا، لا يمنع من أن يكون فعلا؛ لأن الكتابة والإشارة والأكل والشرب والقيام والقعود فعل، وإن اختص كل واحد منهما باسم، فإذا كان كذلك، كان الحد حاصرًا لجنس الأمر.
__________
1 سيأتي بحث الأمر باستفاضة وتفصيل "ص: 214- 424".
2 كلمة: "فإنه" قلقة، فكان الأولى حذفها.(1/157)
وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الأمر ما يكون المأمور بامتثاله مطيعًا.
والأول أصح؛ لأن عبارة الحد يجب أن تكون أظهر من عبارة المحدود؛ لتنفيذ بيانه وتفسيره، فأما إذا كانتا في الإجمال سواء، لم تصح عبارة الحد.(1/158)
[المندوب مأمور به] : 1
وإذا ثبت هذا فإن مذهب أحمد -رحمه الله- أن المندوب إليه مأمور به.
وقد نص على ذلك في رواية ابن إبراهيم2 فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-3. وعلى هذا لا يحتاج إلى الزيادة فيما ذكرنا من حد الأمر.
ومنهم من قال: المندوب ليس بمأمور به.
فعلى هذا يجب أن يقال في حد الأمر: اقتضاء الفعل، أو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه لا يتضمن التخيير بين فعله وتركه وهذا فصل يأتي الكلام فيه4.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" "ص: 6- 8"، و"روضة الناظر" "ص: 20، 21".
2 "ابن إبراهيم" لم نستطع تعيين المراد بابن إبراهيم؛ لأن هناك كثيرين ممن صحبوا الإمام أحمد، ممن أبوهم إبراهيم.
3 ستأتي هذه الرواية "ص: 248"، ولفظها: "آمين أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا"، فهو أمر من النبي صلى الله عليه وسلم". وهناك سيخرج الحديث.
4 وذلك "ص: 248".(1/158)
[تعريف النهي] : 1
والنهي: اقتضاء أو استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه.
وقيل: المنع من طريق القول. وإنما قيل: من طريق القول؛ لأن من قيَّد عبده، أو أغلق عليه بابه، فقد منعه، وليس ذلك بنهي.
__________
1 سيأتي الكلام عن النهي "ص: 425- 447".(1/159)
تعريف الواجب
مدخل
...
فصل: [تعريف الواجب] :
والواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه عقاب. ولا يحتاج إلى ذكر الثواب؛ لأن الندب فيه ثواب. وإنما يبين الواجب عن المستحب والمباح، بما في تركه عقاب.
وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه من غير عزم على فعله، وهذا حده الذي يميزه عما ليس بواجب؛ لأن المستحب يجوز تركه من غير عزم على فعله، وكذلك المباح. وأما ما كان واجبًا فإنه لا يجوز تركه إذا كان وقته مضيقًا، وإن كان وقته موسعًا لم يجز تركه إلا بشرط العزم على فعله في آخر الوقت.
وقيل الواجب: ما لا يجوز تركه إلى غير بدل، فإن كل واجب لا يجوز تركه إلى غير بدل، وتأخيره عن أول الوقت إلى آخره فإنما يجوز بشرط العزم على فعله في الثاني، والعزم بدل من تقديمه في أول الوقت.
وحكي عن أبي بكر بن فورك أنه قال: الواجب ما لا بدَّ من فعله.
وقال كثير من الفقهاء: ما لا يجوز إخراجه عن وقته من غير عذر، أو ما يعصى بإخراجه عن وقته من غير عذر.(1/159)
وفيه احتراز من ترك المسافر صوم رمضان، فإنه يتركه لعذر.
فإن قيل: هذا ليس بخاص لجنس الواجب، وإنما هو تحديد للمؤقت منه.
قيل: كل واجب مؤقت؛ لأنه لا يخلو: إما [12/ أ] أن يكون مؤقتًا بوقت معلوم الطرفين مثل الصلاة والصيام، أو يكون على الفور، مثل الزكاة والحج والعمرة، فيكون وقته زمان الإمكان.
والوجوب في اللغة، عبارة عن السقوط، من قولهم: وجبت الشمس، ووجب القمر، ووجب الحائط إذا سقط.
وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 1 أي سقطت. فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه إلا بفعله2.
__________
1 "36" سورة الحج.
2 هناك تعريفات للواجب راجع فيها: "شرح الكوكب المنير" "ص: 108، 109". و"المسودة" "ص: 575، 576"، و"روضة الناظر" "ص: 16"، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "27/ ب- 28/ أ".(1/160)
[تعريف الفرض] : 1
وأما الفرض: فهو عبارة عن أشياء:
فهو في عبارة اللفظ: ما كان في أعلى منازل الوجوب، مثل ما ثبت بنص القرآن وخبر التواتر، والإجماع.
__________
1 راجع في هذا "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "28/ أ"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 109".(1/160)
قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1، وأراد أوجب الحج، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 2، ومعناه: أوجبتم لهن فريضة.
وهو عبارة عن النزول؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 3، وأراد: أنزل عليك القرآن.
وهو عبارة عن الإحلال؛ قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 4، وأراد به: أحل الله له.
وهو عبارة عن البيان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 5 وأراد: بينَّاها.
وهو عبارة عن التقدير؛ يقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة. ويراد به قدّر.
وهو في اللغة: عبارة عن التأثير، يقال: فرض القوس، إذا حز طرفيه، وفرضة النهر: الموضع الذي يجتمع فيه الماء.
__________
1 "197" سورة البقرة.
وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرزاي "5/ 162".
2 "237" سورة البقرة.
وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "6/ 140".
3 "85" سورة القصص. وراجع في تفسيرها: "مفاتيح الغيب" "26/ 20".
4 "38" سورة الأحزاب. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب" "25/ 212".
5 "1" سورة النور. وراجع تفسيرها في: "مفاتيح الغيب" "23/ 119- 130".(1/161)
[معنى الْحَتْمِ] :
والحتم: عبارة عن الفرض؛ لأنه يعبر به عن الواجب الذي يراد تأكيده، فيقول القائل عند تأكيد المأمور [به] : حتمت عليك كذا. والمكتوب واللازم عبارة عن الفرض أيضًا.(1/162)
[هل هناك فرق بين الفرض والواجب؟] :
وقد اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في الفرض والواجب هل حدُّهما في الشرع حدٌّ واحد، أم بينهما فرق؟ فيه روايتان:
أحدهما: أن حدَّهما واحد.
والثانية: أن الواجب ما ثبت وجوبه بخبر الواحد والقياس، وما اختلف في وجوبه، والفرض ما ثبت وجوبه من طريق مقطوع به، كالخبر المتواتر، أو نص القرآن، أو إجماع الأمة.
وفي هذا خلاف بين الفقهاء، ويأتي ذكره إن شاء الله فيما بعد1.
__________
1 وذلك ص: "376".(1/162)
تعريف الندب
مدخل
...
فصل: [تعريف النَّدب] : 1
الندب اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن التخيير بين الفعل والترك. وفي اللغة هو: الدعاء إلى الفعل، يقال: ندبه لكذا، إذا دعاه إليه.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "28/ أ" و"المسودة" "ص: 6، 7"، "576"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 125، 127"، و"روضة الناظر" "ص: 20، 21".(1/162)
فأما المندوب إليه فقد قيل: ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب.
وقيل: ما في فعله أجر، وليس في تركه وزر.(1/163)
[تعريف الطاعة والمعصية] : 1
وأما الطاعة: فهي2 موافقة الأمر.
والمعصية: مخالفة الأمر.
وقالت المعتزلة: الطاعة موافقة المراد، والمعصية مخالفة المراد.
وهذا غلط؛ لأن الله تعالى إذا فعل ما يريده عبيده لا يكون مطيعًا لهم وإن كان فعله موافقًا لإرادتهم.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29". و"المسودة" "ص: 576".
2 في الأصل: "فهو".(1/163)
[تعريف العبادة] : 1
وأما العبادة فكل ما كان طاعة لله تعالى، أو قربة إليه، أو امتثالا لأمره، ولا فرق بين [12/ ب] أن يكون فعلا أو تركًا.
فأما الفعل فمثل الوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة، والزكاة، والحج، والعمرة، وقضاء الدين، وما أشبه ذلك.
وأما الترك فمثل: ترك الزنا، وترك أكل المحرم وشربه، وترك القتل
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29/ ب"، و"المسودة" "ص: 43، 44".(1/163)
المحرم، وترك الربا1. وإزالة النجاسة طريقها الترك، فلا تفتقر إلى نية2، وتكون بمنزلة رد المغصوب وإطلاق المحرم الصيد، وغسله الطيب عن بدنه أو ثوبه؛ لأن ذلك كله طريقه الترك، فإن العبادة في تجنبه، فإذا أصابه ولم يمكنه تركه إلا بالفعل كان طريقه الترك، ويخالف الوضوء؛ لأنه فعل مجرد ليس فيه ترك.
وقال أصحاب أبي حنيفة: الوضوء ليس بعبادة؛ لأنه ليس من شرطها النية3.
والدليل على أنها عبادة قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان" 4.
__________
1 في الأصل: "وترك الزنا" بزاي بعدها نون، والصواب ما أثبتناه؛ لأمرين: أولهما: أن ترك الزنا، قد تقدم ذكره قريبًا.
ثانيهما: أنه قد جاء هكذا "الربا" بالراء المهملة في المسودة "ص: 43" عندما نقل كلام القاضي بنصه.
2 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" "ص: 43": "فأما الترك فلا يفتقر إلى النية".
3 من أول الفصل إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" "ص: 43، 44"، ثم بعد ذلك قفز، فنقل رد القاضي على دليل الحنفية.
4 هذا الحديث رواه أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء بلفظ: "الطهور شطر الإيمان" "1/ 203". وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الدعوات، باب...."5/ 535، 536"، وقال حديث صحيح، ولفظه مثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان "1/ 102، 103" بلفظ: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان".
وأخرجه عنه ابن ماجه بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان "1/ 102".
وأخرجه عنه النسائي بمثل لفظ أبي داود وذلك في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "5/ 5". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث" "3/ 214"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "6/ 376".(1/164)
والإيمان1 عبادة، فوجب أن يكون شطره عبادة؛ ولأنه طاعة أو قربة فوجب أن يكون عبادة قياسًا على ما شرط فيه النية.
ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون ترك الزنا والقتل وشرب الخمر عبادة؛ لأن ذلك يصح من غير النية، ويؤدي إلى أن تكون إقامة الحدود عبادة، والكفارة عبادة؛ لأنها تفتقر إلى القصد والنية، ولا تكون الطهارات عبادة، وهذا ظاهر الفساد.
وأما سقوط النية في صحة الفعل المأمور به، لا2 يدل على أنه ليس بطاعة وقربة.
__________
1 في الأصل: "والوضوء"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الوضوء شطر الإيمان، وليس العكس.
2 كان الأولى الإتيان بالفاء في جواب: "أما".(1/165)
[تعريف السنة] :
وأما السنة: فما رسم ليحتذى، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" 1، ولا فرق بين
__________
1 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب العلم، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "4/ 2059"، كما أخرجه عنه في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة. "2/ 702".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة "5/ 43"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "1/ 74".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة "5/ 56".
وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة "1/ 107".
وراجع أيضًا: "ذخائر المواريث" "1/ 181"، و"كشف الخفاء" للعجلوني "2/ 353".(1/165)
أن يكون هذا المرسوم واجبًا أو غير واجب. يدل عليه ما روي عن عبد الله بن عباس: أنه صلى على جنازة جهر بقراءة فاتحة الكتاب، وقال: إنما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنة1. وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة.
وأما الغالب على ألسنة الفقهاء إطلاق2 السنة على ما ليس بواجب، وعلى هذا ينبغي أن يقال: ما رسم ليحتذى استحبابًا.
__________
1 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- "2/ 107".
وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب "3/ 337" وقال عقبة: حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب الدعاء "4/ 61".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الجنائز، باب صفة الصلاة على الجنازة "1/ 215".
وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة "2/ 187".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الجنائز، باب صفة الصلاة على الجنازة "1/ 164".
وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" "3/ 203، 204".
وراجع فيه أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 292"، و"تيسير الوصول" "2/ 219".
2 الجادة أن يؤتى بالفاء في جواب "أما".(1/166)
[معنى المكتوبة] :
والمكتوبة هي الواجبة يدل عليه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 1، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْصِّيَامُ} 2، ومعناه: أوجب عليكم. وأصل هذه اللفظة من الكتابة في اللوح المحفوظ، ثم استعملت في الواجب.
__________
1 "178" سورة البقرة.
2 "183" سورة البقرة.(1/167)
تعريف الإباحة
مدخل
...
فصل [تعريف الإباحة] : 1
الإباحة: مجرد الإذن، يدل عليه أن من أذن لغيره بأن يأكل طعامه، أو يسكن داره، أو يركب دابته، فقد أباحه له، فدل على أن الإباحة هي الإذن.
والمباح: كل فعل مأذون فيه لفاعله، لا ثواب له في فعله، ولا عقاب في تركه، وفيه احتراز من فعل المجانين والصبيان والبهائم؛ لأنه لا يصح إذنهم وإعلامهم به. ولا يدخل على ذلك أفعال الله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن [13/ أ] يوصف بأنه مأذون له في فعله.
__________
1 راجع: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "29/ أ"، و"المسودة" "ص: 573"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 130- 132"، و"روضة الناظر" "ص: 21، 22".(1/167)
[تعريفُ الحَسَنِ والقَبِيحِ] : 1
وأما الحسن والقبيح فقد قيل في العبارة عنه: الحسن ما له فعله، والقبيح ما ليس له فعله.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "6/ ب - 7/ أ" و"المسودة" "ص: 577"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 96- 98".(1/167)
وقال هذا القائل: المباح من جنس الواجب1.
وقيل: الحسن ما مدح به فاعله، والقبيح ما ذم به فاعله.
وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن.
__________
1 يظهر أن في العبارة تحريفًا، ولعل الصواب: "وقال هذا القائل: المباح من جنس الحسن"، يدل على ذلك أمران:
الأول: أن المؤلف ذكر بعد هذا تعريفًا للحسن والقبح، ثم عقَّب على ذلك بقوله: "وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن".
الثاني: أنه ذكر في "المسودة" "ص: 577" بعد نقل التعريف الأول منسوبًا إلى القاضي، قال: وقيل المباح من الحسن.(1/168)
[تعريفُ الْجَائزِ] : 1
والجائز: ما وافق الشريعة، فإذا قلنا: صلاة جائزة، وصوم جائز وبيع جائز، فإنما نريد أنه موافق للشريعة.
وقد يقول الفقهاء: الوكالة عقد جائز، وكذلك عقد الشركة والمضاربة، يريدون أنه ليس بلازم. ويكون حدُّ ذلك: كل عقد للعاقد فسخه بكل حال، أو لا يئول إلى اللزوم، ولا يدخل على ذلك البيع المشروط فيه الخيار، أو إذا كان في المبيع عيب، فإنه يَئُول إلى اللزوم، وكذلك الرهن، فإنه من العقود اللازمة؛ لأنه يَئُول إلى اللزوم.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح" الجزء الأول، الورقة "30/ أ"، و"المسودة" "ص: 577".(1/168)
[معنى الظُّلمِ والجَورِ] : 1
والظلم مجاوزة الحد.
وقيل: وضع الشيء في غير موضعه. ولهذا قالوا: "من أشبه أباه فما ظلم"؛ أي: لم يضع نسبه في غير موضعه. وتقول العرب: بئر مظلومة، إذا حفرت في أرض ليس فيها محفر. والجور هو: العدول عن الحق، من قوله: جار السهم" إذا عدل عن قصده.
__________
1 راجع هذا في: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "33/ ب".(1/169)
فصل: [تعريف الخبر] : 1
الخبر: ما دخله الصدق والكذب، يدل عليه أن من قام وقعد وأكل ومشى وركب لما لم يكن خبراً لم يدخله الصدق والكذب، ولم يحسن أن يقال له فيه: صدقت أو كذبت.
وكذلك القول إذا كان أمرًا أو نهيًا لم يدخله الصدق أو الكذب، فدل على أن حد الخبر ما ذكرته.
والصدق: كل خبر مخبره على ما أخبر به.
والكذب: كل خبر مخبره على خلاف ما أخبر به.
والآحاد: ما لم تبلغ حد التواتر.
والمرسل: ما انقطع إسناده، وهو أن يكون في رواته من يروي عمن لم يره.
والمسند: ما اتصل إسناده.
__________
1 سيأتي الكلام عن "الأخبار" في كتاب مستقل "ص: 839- 1019".(1/169)
فصل: [تعريف الإجماع] : 1
الإجماع: اتفاق علماء العصر على حكم النازلة.
ويُعْرَفُ اتفاقُهُم: بقولِهِم، أو قول بعضهم وسكوت الباقين، حتى ينقرض العصر عليه.
وقيل: هو مأخوذ من العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على كذا ومعناه: عزم عليه.
ومنه قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا الْنَّجْوى} 2 معناه: عزموا عليه.
ومنه قوله عليه السلام: "لا صيامَ لمن لم يجمع 3 الصِّيَامَ من اللَّيلِ" 4، ومعناه: يعزم عليه.
__________
1 سيأتي الكلام عن "الإجماع" في كتاب مستقل ورقة "158/ ب" فما بعدها.
2 "62" سورة طه. وقد وردت هذه الآية محرَّفة في الأصل، حيث جاءت هكذا: "فأجمعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى" والآية كما أثبتناها، غير أنه على هذا لا يبقى في الآية دليل على ما أراد المؤلف الاستدلال له. ولعل المقصود هو آية: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} "71" يونس؛ لأن هذه الآية هي التي يستدل بها في هذا الموضع، وقد ذكرها المؤلف في هذا الكتاب عندما تكلم عن الإجماع بالتفصيل، الورقة "158/ ب- 159/ أ".
3 في الأصل: "يبيت"، ولعله من تحريف النُّساخ، فإن المؤلف استدل بالحديث لبيان معنى الإجماع.
4 هذا الحديث روته أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- مرفوعًا وموقوفًا، أخرجه عنها الترمذي مرفوعًا في كتاب الصوم، باب ما جاء: لا صيام لمن لم يعزم من الليل "3/ 99" ولفظه: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"، ثم عقب عليه بقوله: حديثُ حفصةَ حديثٌ لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وقد =(1/170)
........................................................................
__________
= روى عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح. وهكذا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى بن أيوب".
وقد نقل ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير "2/ 188" ما ذكره الترمذي عن البخاري أنه قال في هذا الحديث: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف.
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب النية في الصيام "1/ 571"، وقد نقل عنه ابن حجر في "التلخيص" أنه قال: لا يصح رفعه.
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب النية في الصيام "4/ 166" مرفوعًا وموقوفًا، مع أنه صرح بعدم رفعه، وصوَّب أنه موقوف كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصوم، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل "1/ 542"، بلفظ: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل".
وأخرجه عنها الإمام أحمد "6/ 287"، وقد نقل عنه ابن حجر في "التلخيص" قوله: "ما له عندي ذلك الإسناد".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصوم، باب من لم يجمع الصوم من الليل "1/ 339".
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصيام، باب الرجل ينوي الصيام بعدما يطلع الفجر "2/ 54".
وأخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيام "2/ 172"، كما أخرجه عن عائشة من طريق آخر، وقال: كل رجالها ثقات.
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب الصيام، باب من أجمع الصيام قبل الفجر "2/ 156، 157" عن عبد الله بن عمر وحفصة وعائشة -رضي الله عنهم- موقوفًا.
وخلاصة القول:
أن هناك بين العلماء في رفع هذا الحديث ووقفه:
فذهب فريق إلى أنه مرفوع، وبه قال الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة، =(1/171)
وقيل: معنى الإجماع والاجتماع مختلف؛ لأن الإجماع يضاف إلى الواحد فيقال: قد أجمعت على كذا، ولا يقال: اجتمعت إلا مع آخر.
والاختلاف مخالفة من هو من أهل الاجتهاد، مثل وجود الاتفاق.(1/172)
تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما
مدخل
...
فصل: [تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامهما] :
الحقيقة: تستعمل في شيئين:
أحدهما: في العبارة عن صفة الشيء ومعناه، فيقال: حقيقة العلم كذا، وحقيقة العالم كذا، وحقيقة المحدث كذا. وهذا يرجع إلى حده وحصره، وليس لهذا النوع [13/ ب] من الحقيقة مجاز.
والثاني: حقيقة الكلام وحَدُّه: كل لفظ بقي على موضوعه. ولهذه الحقيقة مجاز، وحَدُّه: كل لفظ تجوز به عن موضوعه، وصح نفيه عنه، مثل الجد، يصح نفي الأب عنه.
وذلك بأربعة وجوه:
أحدهما: بالزيادة فيه، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1،
__________
= وابن حزم، وابن حبان وغيرهم.
وذهب فريق إلى أنه موقوف، ولا يصح رفعه، وبه قال البخاري، والترمذي وأبو داود، والنسائي وغيرهم.
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول" "2/ 229" و"تلخيص الحبير" "2/ 188" و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 336، 337"، و"نصب الراية" "2/ 433- 435" و"فتح الباري" "4/ 142"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" "6/ 222".
1 "11" سورة الشورى.(1/172)
الكاف زائدة فإنه قال: ليس مثله شيء، ووصفت الزيادة: إنها مجاز؛ لأنها وردت غير مفيدة1.
والثاني: بالنقصان منه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2، معناه: أهلها فاقتصر على ذكر القرية اكتفاء بدلالته على ما لم يذكره.
والثالث: بالتقديم والتأخير، كقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 3 تقديره: من بعد دين أو وصية. وقوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، وتقديره: الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن والبيان؛ لأن تعلمه قبل خلقه لا يصح.
والرابع: بالاستعارة، وهي تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان مجاورًا له، أو كان فيه سبب، كقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} 5. والإرادة للآدمي دون الجمادات. وقوله: {لَهُدِّمَتْ
__________
1 قوله: "غير مفيدة"، هذا لا يليق بكلام الله تعالى؛ لأن كل ما فيه مفيد، بدون شك.
فالذين يقولون: إن في القرآن مجازًا، يقولون: هنا الزيادة للتأكيد، والذين يقولون: إنه ليس في القرآن مجاز، يجيبون بعدة أجوبة:
أظهرها: أن المراد بالمثل: الذات، والمعنى: ليس كذاته شيء.
راجع: "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي "27/ 150- 153"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 53- 55".
2 "82" سورة يوسف.
3 "11" سورة النساء.
4 "1- 4" سورة الرحمن.
5 "77" سورة الكهف.(1/173)
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ} 1، ومعناه: مكان الصلوات؛ لأن الهدم يختص المكان دون الفعل.
__________
1 "40" سورة الحج.(1/174)
[معنى المجاز] :
والمجاز مأخوذ من جاز1؛ لأنه سار به كلام العرب وخطابهم، والاستعارة أكثر الأنواع في الاستعمال، ثم يليه النقصان.
__________
1 في الأصل: "مجاز".(1/174)
تعريف القياس
مدخل
...
فصل: [تعريف القياس] : 1
القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما.
وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل.
وقيل: موازنة الشيء بالشيء.
وقيل: اعتبار الشيء بغيره.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال في ميقات أهل المشرق: "ما حياله من المواقيت؟ فقالوا: قَرْن، فقال: قيسوا به"2.
__________
1 سيأتي بحث القياس في باب مستقل، الورقة "193- 237".
2 هذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لما فتح هذان المصران، أتوا عمرَ فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، فإنا إن أردنا شق علينا، قال: "انظروا حذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق"، هكذا لفظ البخاري، ولم أجد لفظ المؤلف: "قيسوا به" فيما رجعت إليه من الكتب.
راجع في هذا الأثر أيضا: "تيسير الوصول" "1/ 238"، و"تلخيص الحبير" "2/ 229"، و"فتح الباري" "3/ 389 - 391"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص "369"، و"نصب الراية" "3/ 14 - 15".(1/174)
والأول والثاني صحيحان.
وأما الثالث والرابع ففيهما احتمال؛ لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة، والمقصود ها هنا العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية، وهو على التفسير الذي ذكرناه.
وإذا ثبت هذا فإن القياس يستعمل على أربعة أشياء: أصل، وفرع، وعلة، وحكم.(1/175)
[تعريف الأصل] :
فأما الأصل فهو: ما ثبت حكمه بنفسه، ومعناه: أنه ثبت حكمه بلفظ تناوله باسمه.
وقيل الأصل: ما ثبت به حكم غيره.
وهذا صحيح على أصلنا، ولهذا نقول: إن العلة يجب أن تتعدى إلى فرع، ولا تقف1. مثل علتنا في تحريم التفاضل في الذهب والفضة بالوزن؛ لأنها تتعدى، ولا نقول: كونها قيم المتلفات؛ لأنها لا تتعدى.
__________
1 في الأصل: "يقف". بالمثناة التحتية.(1/175)
[تعريف الفرع] :
وأما الفرع فحده: ما ثبت حكمه بغيره.(1/175)
[تعريف العلة] :
وأما العلة: فهي المعنى الجالب للحكم.(1/175)
وقيل: المعنى الذي تعلق به الحكم.
وقيل: الصفة المقتضية للحكم.(1/176)
[تعريفُ الحكمِ] :
وأما الحكم: فما جلبته العلة، أو ما اقتضته [14/ ب] العلة، من تحريم وتحليل وصحة وفساد، ووجوب وانتفاء وجوب، وما أشبه ذلك.
والعلة الواقفة: هي التي لا تتعدى إلى فرع.
والعلة المتعدية: هي التي تتعدى إلى فرع أو أكثر.
والمعلول: هو الحكم؛ لأن تأثير العلة فيه.
وقيل: هو الذات التي حلتها العلة، مثل الخمر وسائر الأشربة، والبر والشعير وسائر المكيلات، والذهب والفضة؛ لأن الجسم التعليل، والمعلول هو الذي حلته العلة.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن تأثير العلة في الجسم، وههنا في الحكم، فالمعلول ما أثرت فيه العلة.(1/176)
[تعريف المعتل والمعلل والمعتل به والمعتل له] :
والمعتل: هو المحتج بالعلة.
والمعلل: هو المعتل؛ لأنه يقال: اعتل بكذا، أو علل بكذا، فدل على أنهما سواء.
وقيل: المعتل هو الناصب للعلة، مثل المحرك هو الفاعل للحركة، والمسود هو الفاعل للسواد.
والمعتل به: هو العلة.
والمعتل له: هو الحكم.(1/176)
[تعريف الطرد والعكس] :
والطرد: وجود الحكم بوجود العلة.
والطرد شرط في صحة العلة. وهل هو دليل على الصحة؟ فيه اختلاف.
ونحن نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه1.
والعكس: عدم الحكم لعدم العلة.
فإذا قلنا لا زكاة في الخيل؛ لأنه حيوان لا تجب الزكاة في ذكوره، فلم يجب في إناثه. أصله: البغال والحمير، وعكسه: الإبل والبقر والغنم.
وسبيل العاكس أن يبدأ بموضع العلة، فيقول: فإن الزكاة لما وجبت في ذكورها، وجبت في إناثها.
__________
1 وذلك في الورقة "215" من هذه المخطوطة.(1/177)
[تعريف النقض] :
وأما النقض: فهو وجود العلة مع عدم الحكم.
وقد نقض أبو حنيفة2 علته في تحريم النساء فقال: أحد وصفي علة
__________
1 هو الإمام النعمان بن ثابت التميمي الكوفي، أحد الأئمة الأربعة، فقيه العراق وإمامهم. روى عن عطاء والزهري وقتادة وغيرهم. وعنه عبد الرزاق ووكيع ومحمد بن الحسن وغيرهم. ولد سنة: 80 هـ، ومات سنة: 150هـ، رحمه الله تعالى.
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" "10/ 107"، و"تاريخ بغداد" "13/ 323"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 168"، و"تهذيب التهذيب" "10/ 449" و"شذرات الذهب" "1/ 227"، و"طبقات الحفاظ" "ص; 73"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان" "1/ 309"، و"ميزان الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 12". "الفقهاء" للشيرازي "ص: 86"، و"غاية النهاية في طبقات القراء" "2/ 342". و"مرآة الجنان" "1/ 309"، و"ميزان الاعتدال" "4/ 265"، و"النجوم الزاهرة" "2/ 12".(1/177)
تحريم التفاضل علة لتحريم النساء، ثم أجاز إسلام الدراهم والدنانير في الموزونات مع وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل، وهو الوزن.(1/178)
فصل: [العلة منطوق بها ومجتهد فيها] :
والعلة التي يتعلق بها الحكم على ضربين: منطوق بها ومجتهد فيها.
وقال بعض الخراسانية: مسطورة ومسبورة.
فأما المنطوق بها فهي: التي دلَّ كلام صاحب الشريعة عليها. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "أينقصُ الرطبُ إذا يبس؟ " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي:
__________
1 هذا الحديث رواه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر "2/ 225".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، وقال: حديث حسن صحيح"3/ 519".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر "2/ 761".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب "7/ 236".
وأخرجه عنه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر "3/ 265، 266" مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الكالئ بالكالئ "2/ 57".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب تحريم المفاضلة في الطعام إذا كان من جنس واحد "2/ 182"
وأخرجه الدارقطني في كتاب البيوع "3/ 49". راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 9"، و"نصب الراية" "4/ 40- 42"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 452".(1/178)
"إنما نهيتكم من أجل الدّافة" 1.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} 2، فدلّ على [أن] المنع لأجل الحيض. وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 3 قد دلّ على أن الطهارة لأجل الجنابة. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4.
وقوله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" 5، ونهيه
__________
1 هذا جزء من حديثٍ قد مضى تخريجه "ص: 123".
2 "222" سورة البقرة.
3 "6" سورة المائدة.
4 "38" سورة المائدة.
5 هذا الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي "3/ 83"، وفي باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك "3/ 85".
كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة "3/ 85".
وأخرجه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض كما أخرجه عن ابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة "3/ 1159- 1162".
وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى. كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما "2/ 251، 252".
وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر وابن عباس أيضًا في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض "2/ 749".(1/179)
عن بيع ما لم يقبض1، وربح ما لم يضمن2. و "الثيب أحق بنفسها" 3.
__________
= وأخرجه النسائي عنهما في كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى "7/ 251، 252".
وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى "2/ 168" عن ابن عمر -رضي الله عنهما.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الولاء والمحاقلة والمزابنة وبيع ما ليس عنده "1/ 264".
وأخرجه الإمام الشافعي عن ابن عمر وابن عباس في كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وهل غير الطعام مثله "2/ 156، 157".
1 مضى تخريجه "ص: 112".
2 مضى تخريجه ضمن حديث "لا تَبِعْ ما ليس عندك" "ص: 112".
3 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت "2/ 1037".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب في الثيب "1/ 484".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثيب "3/ 407" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب استئمار البكر والثيب "1/ 601".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب استئذان البكر في نفسها، وباب استئمار الأب البكر في نفسها "6/ 69، 70".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب النكاح، باب استئمار البكر والثيب "2/ 63".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب النكاح، باب استئذان البكر والأيم في أنفسهما "3/ 126".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 239".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب خطبة الصغيرة إلى وليها والرشيدة إلى نفسها "2/ 321". وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 540"، و"تيسير الوصول" "3/ 346".(1/180)
و "ليس للولي مع الثيب أمر" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم [14/ ب] : "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 2، وما أشبه ذلك مما دل كلام صاحب الشريعة على علة الحكم.
فإذا ثبت هذا، فإنه ينظر فيه. فإن كان مطردًا علم أنه كمال العلة، وإن انتقض وجب ضم وصف آخر إليه، وعلم أن صاحب الشريعة لم ينص على كمال العلة، وإنما نص على بعضها ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم، وهذا جائز؛ لأنه إذا جاز أن يكل الجميع إلى اجتهادهم، جاز أن
__________
1 هذه إحدى روايات الحديث المخرج آنفًا، وبها أخرجه أبو داود والنسائي في الموضعين السابقين.
2 هذا الحديث رواه أبو بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان "9/ 81، 82".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان "3/ 1342، 1343".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان "2/ 271".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان وقال: حديث حسن صحيح "3/ 611".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان "2/ 776".
وأخرجه النسائي عنه في كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه "8/ 209".
وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب القضاء والشهادات "2/ 232".
وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوي "1/ 286".
وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تيسير الوصول" "3/ 182". و"المنتقى" "ص: 811"، و"تلخيص الحبير" "3/ 189".(1/181)
ينص على البعض ويكل الباقي إلى اجتهادهم.
ومثال ذلك ما احتج به أصحاب أبي حنيفة وقالوا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لبريرة1: "ملكت بضعك فاختاري"2، وهذا يقتضي أن الأمة إذا أعتقت تحت حر كان لها الخيار، فقلنا لهم: إن ثبت هذا اللفظ كان معناه: ملكت بضعك تحت العبد، فضممنا إليه وصفًا آخر.
وأما العلة المجتهد فيها، فمثل سائر العلل المستنبطة، وطريق ثبوتها: التأثير، أو شهادة الأصول، ويأتي الكلام على ذلك في باب: العلم الدال على صحة العلة3.
__________
1 هي بريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهما- اشترتها من بعض بني هلال، وأعتقتها وكان في قصة عتقها كثير من الأحكام. لها ترجمة في "الاستيعاب" "4/ 1795"، و"الإصابة" "7/ 535" القسم السابع "ص: 535" طبعة دار نهضة مصر.
2 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها الدارقطني في كتاب النكاح "3/ 290" بلفظ: "اذهبي فقد عتق معك بضعك".
وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" في ترجمة بريرة -رضي الله عنها "8/ 189" عن الشعبي مرسلا بلفظ: "قد عتق بضعك معك، فاختاري".
راجع أيضا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"، و"نصب الراية "3/ 204، 205".
3 وذلك في الورقة "220" من هذه المخطوطة.(1/182)
فصل: [تعريف السبب] :
والسبب: ما يتوصل به إلى الحكم ويكون طريقًا لثبوته، سواء كان دليلا أو علة أو شرطًا أو سؤالا مثيرًا للحكم.
والدليل عليه: أن الله تعالى سمى الطريق سببًا، فقال عزَّ من قائل:(1/182)
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 1، أي: طريقًا.
وسمي الطريق سببًا؛ لأنه يتوصل بسلوكه إلى المقصود. وسمي الباب سببًا؛ لأنه يدخل منه إلى المقصود. قال تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ الْسَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 2 وأسباب السموات: أبوابها، قال زهير3:
ومن هاب أسباب السماء ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم4
وسمي الحبل سببًا؛ لأنه يتوصل به إلى الماء وغيره، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} 5، يعني بحبل.
__________
1 "85" سورة الكهف.
2 "36، 37"، سورة غافر.
3 هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن قرط المزني. شاعر جاهلي مشهور. لم يدرك الإسلام. صاحب الحَوْلِيَّات. مدح هرم بن سنان، وأجاد، خلف ولدين: كعبًا وبجيرًا، أدركا الإسلام وأسلما.
له ترجمة في: "الأغاني" 9/ 139- 151"، و"الشعر والشعراء" "1/ 137- 153"، و"طبقات فحول الشعراء" 43، 52- 54".
4 رواية البيت في شرح ديوان زهير لأبي العباس الشيباني "ص: 20":
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ...
ولأبي عمرو رواية أخرى هي:
ومن يبغ أطراف الرماح ينلنه ... ولو رام أن يرقى السماء بسلم
5 "15" سورة الحج.(1/183)
أقسام النظر
مدخل
...
فصل: [أقسام النظر] :
والنظر ضربان: ضرب هو النظر بالعين فهذا حدُّه: الإدراك بالبصر.(1/183)
والثاني: النظر بالقلب، وهذا حدُّه: الفكر في حال المنظور فيه.
والمنظور فيه: هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب.
والمنظور له: هو الحكم؛ لأنه ينظر لطلب الحكم.
والناظر: هو الفاعل للفكر.(1/184)
[تعريف الجدل] :
وأما الجدل: فهو تردد الكلام بين اثنين، إذا قصد كل واحد منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه. وهو مأخوذ من الإحكام، يقال: درع مجدولة، إذا كانت محكمة النسج، وحبل مجدول، إذا كان محكم الفتل. والأجدل، هو الصقر عندهم. والجدالة: وجه الأرض، إذا كان صلبًا.
ولا يصح الجدل إلا بين اثنين. ويصح النظر من واحد [15/ أ] .
والسؤال، هو الاستخبار. والجواب: هو الإخبار. فإذا سأل السائل المسئول فقال: ما تقول في كذا؟ فإنه مستخبر عن مذهبه فيما سأله عنه، وإذا أجابه فهو مخبر عنه.
والجدل كله سؤال وجواب.(1/184)
[تعريف الرأي] :
وأما الرأي: فاستخراج صواب العاقبة.
فمن وضع الرأي في حقه، واستعمل النظر في وضعه، سدده إلى الحق المطلوب، كمن قصد الجامع يسلك طريقه ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه.(1/184)
وإنما كان كذلك؛ لأن الحق عند أحمد -رحمه الله- في واحد، وما عداه باطل.
وعلى الحق دليل يوصل إليه، فإذا وصل إلى الدليل أوصله إلى الحكم.(1/185)
الكلام وأقسامه
مدخل
...
فصل: [الكلام وأقسامه] :
والكلام في اللغة: عبارة عن أصوات وحروف. وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في كلام الله تعالى، وأن الله تعالى تكلم بصوت، في رواية يعقوب بن بختان1 والمروذي2 وعبد الله3.
وقال الأشعرية: الكلام معنىً قائم في النفس يعبر عنه بهذه الأصوات المقطعة. والكلام في هذا يأتي في باب الأوامر4.
__________
1 في الأصل: "بجيان" بدون إعجام، والصواب "بختان" كما أثبتنا.
وفي المسودة "ص: 90/ 481": بجيان، وهذا خطأ أيضًا. وهو: يعقوب بن إسحاق بن بختان، أبو يوسف. كان صالِحًا ثقة. من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه، وبخاصة في الورع.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 415".
2 في الأصل: "المرودي" بدون إعجام، والصواب: المروذي، كما أثبتناه.
وهو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، أبو بكر المروذي، أحد أصحاب أحمد الفضلاء، الموصوفين بالورع والزهد. كان مقربًا عند الإمام أحمد. نقل كثيرًا من المسائل عنه. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" "1/ 56".
3 المراد: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد سبقت ترجمته "ص: 134".
4 وذلك "ص: 214- 223".(1/185)
وإذا ثبت هذا فالكلام على ثلاثة أوجه: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.
فالاسم: مأخوذ من السمة، وهي العلامة؛ وحقيقته: ما أفاد معنىً غير مقترن بزمان مخصوص، والأسماء على وجوه يأتي شرحها.
والفعل -على ما يذكره النحويون- فإنه عبارة عما دلَّ على زمان محدود.
والحرف: هو عبارة عن شيئين: أحدهما معنىً، والآخر عبارة.
فالمعنى: هو الحرف الذي هو طرف الشيء ونهايته، ومنه: حرف الوادي.
والثاني: ما يقصد به النحْويون، وهو ما أفاد معنىً في غيره.
فهذا تقسيم كلام العرب. وقد ذكر بعضهم تقسيمه على المعاني، فحصره بستة عشر وجهًا، فقال: الأمر وما في معناه، وهو السؤال والطلب والدعاء، ومن ذلك النهي ويدخل فيه الإخبار والجحود والقسم والأمثال والتشبيه وما أشبه ذلك، ومنه الاستخبار، والنهي منه الإخبار والاستفهام1.
__________
1 النص في الأصل مشوش، والستة عشر وجهًا التي يشير المؤلف إليها هي: الأمر، والنهي، والخبر والاستخبار، والطلب، والجحود، والتمني، والإغلاظ، والتلهف، والاختبار، والقسم، والتشبيه، والمجازاة، والدعاء، والتعجب، والاستثناء.
انظر في تقسيم الكلام عند العرب: "الصاحبي في فقه اللغة" لابن فارس "ص: 179- 188" و"الأمالي الشجرية" "1/ 277- 281"، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي "3/ 256" وما بعدها، و"همع الهوامع" للسيوطي أيضًا "1/ 12".(1/186)
والأسماء على وجوه: منها: أعلام وألقاب وضعت في اللغة للتمييز بين المسمى وغيره، تقوم مقام الإشارة إلى الغير مثل: زيد وعمرو.
ومنها: ما وضع لإفادة صورة وبنية مخصوصة، مثل: إنسان.
ومنها: ما وضع لإفادة جنس مثل: علم وإرادة.
ومنها: ما وضع لإفادة أمر تعلق بالمسمى مثل: والد وأخ، وفوق وتحت.
والاسم المفيد لمعنىً يتعلق بالمسمى، قد يكون على وجه الاشتقاق، مثل قولنا: مقتول ومضروب. ومنه ما هو مشتق مثل قولنا: قاتل وضارب.
وقد يتفق الاسمان في الصورة والدلالة، مثل قولنا: الوطء بالنكاح وبملك اليمين حلال.
وقد يتفق الاسمان في الصورة ويختلفان في المعنى مثل: القرء، يراد به الحيض والطهر.
وقد يختلفان في اللفظ والمعنى مثل قولنا: الخمر محرمة، والخل مباح.
وقد يختلفان في الصورة ويتفقان [15/ ب] في المعنى، مثل زكاة وصدقة.
والأسماء على ضربين: منه ما هو عام، ومنه ما هو خاص.
فالعام على ضربين: منه ما هو عام ليس فوقه ما هو أعم منه.
ومنه ما هو عام بالإضافة إلى ما هو أخص منه، وإن كان خاصًّا فبالإضافة إلى ما هو فوقه.
فالعام الذي ليس فوقه أعم منه مثل معلوم ومذكور.
والخاص الذي هو عام في نفسه مثل قولنا: عَرَض، هو عام في(1/187)
جميع الأجناس، وهو خاص بالإضافة إلى قولنا: معلوم ومذكور.
والخاص الذي هو في الحقيقة خاص، مثل أسماء الأعيان.
وإذا كان الاسم عبارة عن شيئين متضادين جاز أن يكون حقيقة فيهما، مثل أسماء الأضداد.
وكذلك إن عبَّر عن مسمين مختلفين، مثل قولنا للباري تعالى: عالم، وللمحدث: عالم.
والأسماء المشتقة التي هي مقيدة على ضربين:
منها ما هو مشتق من معاني متماثلة، مثل قولنا: أسود.
ومنها: ما هو مشتق من معنى وصفة لا يجب تماثلها، مثل متلوّن. فالأسماء التي ليست بمشتقة منها: ما يتفق لفظه ومعناه، مثل: سواد وسواد.
ومنها: ما يتفق لفظه ويختلف معناه، مثل جارية للعين المعروفة، وجارية للسفينة.
والمقيد من الأسماء على ضربين: منه ما هو حقيقة في بابه، ومنه ما هو مجاز.
فالحقيقة: هو اللفظ المستعمل في موضعه.
والمجاز: هو اللفظ المعدول عن جهته.
والاسم متى كان مشتركًا في أشياء، مفيدًا في جميعها فائدة واحدة، حمل على جميعها كاللون. فإن كان يفيد في أشياء مختلفة، فقد قيل: لا تحمل على جميعها وشبهه بعضهم به إذا قال: "أوصيت لموالي فلان"، وله مولى أعلى ومولى أسفل، لم يحمل عليهما لتنافي معناهما؛ لأن أحدهما منعِم، والآخرُ منعَمٌ عليه.(1/188)
ولا يجوز حمل الاسم على معنيين مختلفين أحدهما حقيقة والآخر مجاز، إذ لا يحمل على الصريح والكناية. وهذا إجماع الصحابة حين لم يحملوا اسم القرء على الأمرين، ولو حمل اللفظ عليهما لم يتمنعوا منه من غير دلالة.(1/189)
[الأسماء الشرعية] :
والاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع اللغة، مثل اسم المؤمن، هو في اللغة: عبارة عن كل مصدق. واختص في الشريعة من آمن بالله، حتى لا يجوز استعماله في غيره.
وكذلك اسم الكافر عبارة: عن كل مغطَّى، وقد اختص ذلك الاسم في الشرع بمن كان كافرًا بالله تعالى.
ومثل اسم الصلاة، فإنه في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: لأفعال حصل معها دعاء.
وكذلك الزكاة في اللغة: عبارة عن النَّماء. وفي الشريعة: عبارة عن إخراج ماله.
وكذلك الربا، في اللغة: عبارة عن الزيادة. وفي الشريعة عبارة عن أمور قد لا يحصل معها زيادة.
وكذلك الصوم عبارة: عن الإمساك في اللغة. وفي الشريعة: إمساك بصفة، وهو عن الأكل والشرب والجماع مع النية.
وكذلك الاعتكاف، في اللغة: عبارة عن اللّبث. وهو في الشرع: لبث في مكان مخصوص متى انضمت إليه النية.
وكذلك الوضوء، هو [16/ أ] عبارة عن: الوضاءة في اللغة، وهو في الشريعة عبارة عن غسل أعضاء مع النية.(1/189)
وكذلك الحج عبارة: عن القصد في اللغة، وهو في الشريعة: عبارة عن أفعال مخصوصة، فهو في الشريعة كما كان في اللغة، وضمت إليه شروط شرعية، ولا نقول: بأنها منقولة من اللغة إلى معاني أحكام الشريعة.
وقالت المعتزلة: هي منقولة ومعدولة عن موجباتها في اللغة.
وهذا قول فاسد؛ لأنه لو نقل الأسماء اللُّغوية إلى أحكام شرعية كان مخاطبًا لهم بغير لغتهم، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1، وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2.
ولأنه لو كان منقولا لحصل البيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما حصل منه في غيره من الأشياء، ولما لم ينقل ذلك، دل على أنه لم ينقل.
__________
1 "4" سورة إبراهيم.
2 "195" سورة الشعراء.(1/190)
فصل: في أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟:
فقيل في ذلك: يمكن أن يكون عرف ذلك بالتوقيف والوحي من الله تعالى.
ويحتمل أن يكون عرف ذلك بمواضعة أهل اللغة ومواطأتهم على ذلك.
ويمكن أن يكون بعضها مأخوذًا عن توقيف، وبعضها بالمواضعة. وبعضها مستعملا بقياس على ما تكلم به أهل اللغة.
ويجوز أن يتفق لأهل اللغة أو لبعضهم: أن يتواطئوا على وضع اسم لشيء قد وقف اللهُ عليه بعضَ من أعلمه ذلك، فتكون المواضعة منهم موافقة للتوقيف.(1/190)
ويجوز أن يسمُوا الأشياء بغير الأسماء التي وصفها الله تعالى لها، إذا لم يحصل منه حظر لذلك، فإن حظر ذلك لم يَجُزْ مخالفة الاسم، ومتى لم يحظر ذلك كان للشيء اسمان: أحدهما موقف عليه، والآخر متواضع عليه.
وقال قوم: جميع أسماء الأشياء في كل لغة أخذ من جهة توقف الله تعالى لآدم، والتعليم له، إما بتولي خطابه، أو الوحي إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه.
وقال آخرون: جميع ذلك عرف من جهة مواطأة أهل اللغة.
والذي نختاره: ما ذكرناه أولا، وهو كلام أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1، بما نذكره فيما بعد، ولم يحمل الآية على عمومها.
فالدلالة على فساد قول من قال: إن جميعها توقيف هو: أنهم إذا كانوا أحياء ناطقين، وكان الكلام والنطق منهم صحيحًا، ويعرفون المعلومات، البعض منها ضرورة، والبعض منها نظرًا وبحثًا، ويعرفون لما يعلمونه أمثالا، وربما غاب عنهم الحاضر واحتاجوا إلى طلبه، وجب عند ذلك صحة نطقهم للحاجة لمعرفة ذلك، وجرى مجرى اجتماع الخلق على أكل الطعام عند الجوع، وشرب الماء واتقاء الحر والبرد.
فإن قيل: كيف يعرف مراد النطق بالأصوات، وهو لم يسبق له التوقيف بمعرفة ذلك؟ قيل: يعرف ذلك ضرورة عند قوله: رجل وإنسان، إذا تكرر ذلك وأتبعه [16/ ب] بالإشارة إليه والإقبال عليه.
__________
1 "31" سورة البقرة.(1/191)
ويبين صحة هذا أنه لا يجوز أن تكون أحوال الناطقين الأصحاء العقلاء أَدْوَنَ من الخرس في تأتي المواضعة منهم على معاني رموزهم وإشاراتهم، وإن لم يتقدم لهم إشارات أُخَرُ وقفوا على معناها؛ ولأن الله تعالى إذا أراد توقيفهم للمواضعة على ذلك جمع عليها هممهم، ووفر دواعيهم، وسهل سبيل ذلك لهم.
وأما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} : فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب: أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق، قال: وذلك أن الله تعالى قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ} يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما إذا كنّت عن أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: "عرضهن"، أو "عرضها". وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من الخلق والبهائم والطير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون والهاء والألف، لا كل بني آدم نحو قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 1، فكنى عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة، فيها الآدمي.
وقيل في جواب ذلك: أن يدل على أنه علمها آدم ووقفه عليها، وذلك لا يمنع المواضعة عليها مع تعليم آدم إيَّاها، ومع بدل تعليمه لو ترك ذلك.
وقيل: إنه لم يخبر تعالى أنه وقف جميع الخلق على الأسماء، وإنما أخبر أنه وقف آدم على ذلك، وليس فيه ما يمنع أن يكون قد اتفق لأهل كل اللغة تواضعهم بما في مثل ما وقفه الله عليه أو كثير منه.
__________
1 "45" سورة النور.(1/192)
وقيل: يحتمل أن يكون علّم آدم الأسماء كلها بلغة من اللغات مبتدأة له لم ينطق بها أحد، وأن تكون الملائكة المخلوقة قبله قد كانت تواضعت على أسماء لتلك الأشياء وتخاطب يتفاهمون به غير الأسماء المبتدأة لآدم، فتكون لها أسماء وقف الله آدم عليها، لا تعرفها الملائكة، وأسماء لها قد عرفتها الملائكة بطريق التواضع.
وقيل: يحتمل أن يكون الله تعالى علّمه اسم كل شيء خلقه ذلك الوقت من الملائكة والسموات وما خلقه في الجنة، ولم يعلِّمه أسماء ما يحدثه ويخلقه من بعد، ويكون قوله: {كُلَّهَا} على طريق التأكيد، أو يكون قوله: {كُلَّهَا} في ذلك الوقت.
وقيل: إنه لم يخبر كيف علمه بأن وقفه أو أنطقه أو أقدره على النطق وجميع دواعيه على مواضعة الملائكة على دلالة ما ينطبق به، فإذا أقدره على ذلك، وخلق فيه العلم به وجمع همه عليه كان له الأسماء، وإن لم يعلمه ذلك توقيفًا.
وهكذا الجواب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، معناه سمى بعضه، ودلّ على بعضه.
والذي يدل على أن الملائكة [17/ أ] كانوا مخاطبين ومتواضعين على تخاطب أسماء يعرفونها قبل خلق آدم؛ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 3، الآية، وقوله لما خلقه وأحياه وعلمه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 4، فلو لم يكونوا عالمين بالخطاب وبأسماء الأشياء، كيف كانوا يفهمون، ويجيبون، ويقولون؟!
__________
1 "89" سورة النحل.
2 "38" سورة الأنعام.
3 "30" سورة البقرة.
4 "32" سورة البقرة.(1/193)
فصل 1: في حروف تتعلق بها أحكام الفقه، ويتنازع في موجباتها المتناظران:
["الواو"] :
فمنها "الواو"، وله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون في العطف مثل قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وهي توجب الجمع على قول أصحابنا، ولهذا قالوا فيمن قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، وقع عليها تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق طلقتين، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال: إنها توجب الترتيب.
والوجه في أنها لا توجب الترتيب: أنها تستعمل فيما لا يقع فيه الترتيب، وهو قولهم: اشترك فلان وفلان، ولا يجوز أن يقولوا: اشترك فلان ثم فلان.
ولأن قائلا لو قال: رأيت زيدًا وعَمْرًا، لم يفهم منه أنه رأى زيدًا قبل عمرو3، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب إذا رآهما معًا أو رأى عمرًا قبل زيد، أن يكون كاذبًا في خبره، ولوجب إذا قال: رأيت
__________
1 راجع في هذا الفصل: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "25"وما بعدها، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "16"، ما بعدها، و"أصول الجصاص" الجزء الأول "33" مخطوطة الأزهر.
2 الآية "6" من سورة المائدة.
3 هذا معنى كلام المبرد الذي ساقه الجصاص في "أصوله" الجزء الأول، الورقة "34"، إلا أن القاضي أبا يعلى أطال في بيانه، وأدخل عليه الصناعة المنطقية.(1/194)
زيدًا وعمرًا معًا، أن يكون مناقضًا في كلامه، كما لو قال: رأيت زيدًا ثم عمرًا، كان مناقضًا.
وأيضًا روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: "أمثلان أنتما؟! قل: ما شاء الله ثم شئت"1، فلو كان الواو توجب الترتيب لكان قوله: وشئت، وقوله: ثم شئت- سواء، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وأمره بأحدهما ونهاه عن الآخر، فعلم أن أحدهما يوجب الجمع والآخر الترتيب.
واحتج من قال: إنها للترتيب، بما روي عن عدي بن حاتم2 أنه قال: خطب رجل عند رسول الله
__________
1 هذا حديث روته: قتيلة بنت صيفي الجهنية. ويقال: الأنصارية، مرفوعًا. أخرجه عنها النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة "6/ 7" ولفظه: أن يهوديًّا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة" فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت.
وأخرج أبو داود في كتاب الأدب، باب ما لا يقال: خبثت نفسي "2/ 591" عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان". وأخرجه عنه الإمام أحمد "5/ 384، 394، 398" وإسناده صحيح.
2 هو عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أبو طريف. أحد المهاجرين، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع، كان سيدًا في قومه، وافر العقل، حاضر الجواب، كما كان كريْمًا فاضلا، شهد مع علي -رضي الله عنه- الجمل وصفين والنهروان، نزل الكوفة، وسكنها، وبها مات سنة: 68هـ، وله مائة وعشرون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/ 1057"، و"الإصابة" القسم الرابع، ص: 469" طبعة دار نهضة مصر.(1/195)
صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" 1، وهذا يدل على أن الواو ترتيب؛ لأن قوله: ومن يعصهما جمع من غير شك، ولا يجوز أن يكون المنهي عنه هو المأمور [به] .
والجواب: أنه إنما أمره بذلك لئلا يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة واحدة؛ لأن ذلك منهي عنه، ولهذا قال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 2، ولم يقل يرضوهما3.
واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لعبد بني الحسحاس4، لما أنشده [17/ ب] :
__________
1 هذا الحديث رواه عدي بن حاتم -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "2/ 594".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب منه، أي: من باب لا يقال.. "2/ 952".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب ما يكره من الخطبة "6/ 74".
وراجع فيه أيضًا: "نيل الأوطار" "3/ 301".
2 "62" سورة التوبة. وقد نقل الآية هكذا: "أن ترضوه" بالتاء والآية في المصحف كما أثبتناها.
3 في الأصل: "ترضوهما" بالتاء، غير أن الآية بالياء.
4 في الأصل "الجسجاس" بالجيم فيهما، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه. وهو سحيم عبد بني الحسحاس الحبشي، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم، شاعر مخضرم، أنشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، له ديوان مطبوع. قيل: إنه قتل في خلافة عثمان -رضي الله عنه- على يد بعض مواليه من بني الحسحاس؛ بسبب تغزله في امرأة منهم.
له ترجمة في "الإصابة" "3/ 163، 164"، و"الأغاني" "20/ 2- 9"، و"طبقات الشعراء" "ص: 43، 156، 157".(1/196)
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا1
لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، وهذا يدل على أن الواو للترتيب.
والجواب: أنه لم يقل هذا لأجل الترتيب، وإنما قال ذلك؛ لأن البداية يجب أن تكون بالأهم فالأهم والأشرف، والإسلام أهم وأشرف وأولى.
واحتج: بأن من أنفذ رسولين، وكتب بذكرهما كتابًا وقال: أنفذت إليك فلانًا وفلانًا، اعتقد كل عالم باللغة أن المبتدأ بذكره مقدم على الآخر في القدر والمحل.
والجواب: أنا لا نسلم هذا، بل نقول: إن المفهوم من هذا الجمع بينهما في الرسالة.
الحال الثانية من أحوال الواو: أن يكون في القسم، فيكون بدلا من الباء؛ لأن الأصل في القسم: أَحْلِفُ، أو أقسمُ بالله، ثم حذفوا فقالوا: بالله لقد كان كذا، ثم جعلوا "الواو" بدلا من "الباء"؛ لأن مخرجهما من الشفتين، فقالوا: والله.
الحال الثالثة من أحوالها: أن تكون الواو في ابتداء الكلمة مثل قولهم:
__________
1 هذا البيت مطلع قصيدة قالها الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس، ورواية الديوان "ص: 16" للبيت موافقة لما أورده المؤلف، غير أن ابن حجر ذكر البيت في كتابه: "الإصابة" "3/ 163، 164" هكذا:
ودع سليمى إن تجهزت غاديا....
والبيت مذكور في: "حاشية الأمير" على المغني "1/ 99".(1/197)
ومهمهٍ مغبرَّةٍ أرجاؤه1
وهذه الواو بدل من "رب"، فكأنه قال: رب مهمه، ولا يجوز هذا إلا في الشعر، ولا يجوز في غيره.
وقد تكون بمعنى "أو"، قال تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} 2.
__________
1 هذا الرجز للشاعر رؤبة بن العجاج، وبعده:
كأن لون أرضه سماؤه
انظر: "ديوان رؤبة" "ص: 4"، و"التصريح على التوضيح" "2/ 339".
2 "3" سورة النساء.(1/198)
[الفاء] :
وأما "الفاء" فللتعقيب، قال سيبويه1: إذا قال: رأيت زيدًا فعَمْرًا، يجب أن تكون رؤيته لعمرو عقيب رؤيته لزيد، ولأن "الفاء" تدخل في الجزاء والشرط؛ لأن مثل الجزاء أن يكون عقيب الشرط، فلما كان "الفاء" للتعقيب اختص به دون الواو، فقيل: إذا فعل فلان كذا، فافعل كذا، ولا يجوز أن يقال بالواو؛ لأن الواو لا توجب التعقيب2.
__________
1 هو عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف بسيبويه، إمام المدرسة البصرية في النحو بلا منازع، أخذ عن الخليل وأبي الخطاب الأخفش وغيرهما.
أَلَّفَ "الكتاب" في النحو. مات سنة: 180، بالبيضاء وعمره اثنان وثلاثون عامًا. وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "بغية الوعاة" "2/ 231"، و"البداية والنهاية" "10/ 176"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" "ص: 71".
2 ومن معانيها أيضًا: الترتيب معنوي أو ذكري, وأنكره الفراء. واستثنى الجرمي من إفادتها الترتيب البقاع والأمطار، لمجيء الأول في قول امرئ القيس: "بين الدخول فحومل"، ولمجيء قولهم: مطرنا مكان كذا، فكان كذا. ومن معانيها: السببية كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} "15" سورة القصص.
انظر: "المغني" لابن هشام بحاشية الأمير "1/ 139- 143"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 75، 76".(1/198)
[ثم] : 1
وأما "ثم" فهو للفصل مع الترتيب2، فإذا قال: رأيت فلانًا ثم فلانًا، اقتضى أن يكون الثاني متأخرًا عن الأول في الرؤية.
ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 3، أن ذلك يقتضي أن يكون العود: العزم على الوطء.
__________
1 راجع: مبحث "ثم" في "أصول الجصاص" "1/ 39" مخطوطة الأزهر، أو "ص: 9" مخطوطة الدار، وهناك اختلاف كبير بين ما هنا، وبين ما هناك، وراجع أيضًا: "المسودة" "ص: 356".
2 قوله: "مع الترتيب" خالف في ذلك قوم. انظر: "المغني" لابن هشام مع حاشية الأمير "1/ 107"، و"جمع الجوامع" وشرحه "1/ 345".
3 "3" سورة المجادلة.(1/199)
[أو] : 1
وأما "أو" فله ثلاثة أحوال:
إذا كان في الخبر والاستخبار فهو للشك، تقول: أعندك زيد أو عمرو؟ وتقول: عندي زيد أو عمرو، فيكون المخبر والمستخبر شاكين فيه.
__________
1 انظر "أصول الجصاص" الورقة "9" مخطوطة الدار.(1/199)
وإذا كان في الأمر والطلب1 يكون للتخيير2 كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3.
وإذا كان في النهي4 فقد قيل: يكون للجمع كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5.
وقيل: يكون للتخيير؛ لأن النهي أمر بالترك، وأينما تركه كان مطيعًا، وهو الصحيح6.
وقد تكون للإباحة، تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين.
__________
1 عطف الطلب على الأمر، من عطف العام على الخاص، وإلا فالأمر نوع من أنواع الطلب.
2 قد قيل في ضبطه: ما يمتنع فيه الجمع.
3 "89" سورة المائدة.
4 وفي هذا يقول ابن هشام: وإذا دخلت "لا" الناهية، امتنع فعل الجميع ... " "المغني" مع "حاشية الأمير" "1/ 60".
5 "24" سورة الإنسان.
6 مراد المؤلف: الاستعمال في اللغة بغض النظر عن وجود مانع شرعي كما في الآية التي مثل بها. وإذا أردت الاستزادة في بيان معاني "أو" فراجع: "المغني" لابن هشام "1/ 59، 60"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 83، 84"، و"الإحكام" للآمدي "1/ 65، 66"، و"جمع الجوامع" مع شرح الجلال عليه "1/ 336- 338"، و"المنخول" "ص: 90، 91".(1/200)
[الباء] : 1
وأما "الباء" فهي للإلصاق2 [18/ أ] فإذا قلت: مررت بزيد،
__________
1 تكلم عنها الجصاص في "أصوله" بكلام مختصر، وذلك في الورقة "10" مخطوطة دار الكتب المصرية.
2 أي حقيقة كان الالصاق أم مجازًا، مثال الأول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ومثال الثاني: "مررت بزيد". وهي تأتي للإلصاق خالصة، وتأتي لغيره مشوبة به، ولذلك اقتصر سيبويه عليه.(1/200)
فإن الباء تلصق المرور بزيد. وإذا قلت: كتبت بالقلم، فإن الباء تلصق الكتابة بالقلم1.
ولهذا منع أصحابنا الاحتجاج بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} 2 على جواز مسح بعض الرأس، وقالوا: الباء تفيد الإلصاق دون التبعيض؛ لأن الباء تستعمل فيها فيما لا يصلح فيه التبعيض وهو قولهم: استعنت بالله، وتزوجت بامرأة، ولا يجوز أن يقال: "استعنت ببعض الله"؛ لاستحالة ذلك عليه سبحانه، ولا: مررت ببعض امرأة. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" 3، ولا يجوز التبعيض في ذلك.
__________
1 الأظهر فيها هنا: أن تكون للاستعانة؛ لأنها داخلة على آلة الفعل، وهذا لا ينفي وجود معنى الملاصقة. "المغني" لابن هشام "1/ 97".
2 "6" سورة المائدة.
3 حديث صحيح بطرقه وشواهده، رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الدارقطني في "سننه" في كتاب النكاح "3/ 221، 222" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل" ثم قال: رفعه عدي بن الفضل، ولم يرفعه غيره.
وأخرجه عنه الشافعي في كتاب النكاح، باب لا يصح النكاح إلا بولاية رجل "2/ 317" بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
وأخرجه ابن حبان بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- وذلك في كتاب النكاح، باب ما جاء في الولي والشهود من: "زوائد ابن حبان للهيثمي "ص: 305".
وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنه- البيهقي في كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "7/ 112"، كما أخرجه عن علي -رضي الله عنه "7/ 111".
وانظر: "نصب الراية" "3/ 183، 190"، و"تلخيص الحبير" "3/ 162"، و"المستدرك" "2/ 169"، و"سنن البيهقي" "7/ 105، 107".(1/201)
ومن أصحاب الشافعي من قال: إذا كان الفعل يتعدى من غير الباء، فلا يحتاج إليها للإلصاق، فوجب حمله على التبعيض1؛ لأن حمل كل حرف من القرآن على ما يفيد أولى، وقد استوفينا الكلام على هذا في غير هذا الموضع2.
__________
1 وممن قال بأن الباء تأتي للتبعيض الأصمعي والفارسي والقتيبي وابن مالك، كما ذكر ذلك ابن هشام في "المغني" "ص: 1/ 98" مع حاشية الأمير.
2 هناك معانٍ كثيرة للباء، فصَّل القول فيها ابن هشام في "المغني" "1/ 95- 103".(1/202)
[من، وإلى] :
وأما "من" فهي لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهاء الغاية، تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، أي: ابتدأت بالسير من الكوفة وانتهيت إلى البصرة1.
وقد تستعمل من للتبعيض كقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 2، وكقولك: اختر من هؤلاء الرجال، واقبض من هذه الدراهم، وكل من هذا الطعام، واشرب من هذا الماء.
وإذا حلف لا يأكل من هذا الرغيف، ولا يشرب من هذا الماء، حنث بالبعض.
__________
1 "من" تكون لابتداء الغاية في المكان باتفاق، وفي الزمان عند الكوفيين والأخفش والمبرد وابن درستويه، واختاره ابن مالك وأبو حيان، وذلك كقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى الْتَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، راجع: "المغني" لابن هشام "2/ 14"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 77".
2 "6" سورة المائدة.(1/202)
وتستعمل "إلى" بمعنى "مع" كقوله1: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2 معناه: مع المرافق. وهذا المعنى يحتاج إلى الدليل، ولهذا إذا قال: بعتك كذا على أنك بالخيار إلى الليل، أن الليل لا يدخل في الخيار، خلافًا لأبي حنيفة3، وإحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- أنه يدخل فيه؛ لأن الظاهر من "إلى" لانتهاء الغاية4.
__________
1 كان الأولى أن يمثل المؤلف بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي، مع أموالكم.
وفي الآية التي مثل بها المؤلف في كون "إلى" بمعنى "مع" خلاف:
1- فذهب القاضي أبو يعلى وآخرون إلى أنها بمعنى "مع".
2- وذهب آخرون إلى أنها ليست بمعنى "مع". ووجهوا الآية بتوجيهات منها:
أ - أن ما بعد "إلى" إنما أدخل من باب الاحتياط.
ب- أو أن اليد مشتبكة مع العظم، ولا يمكن غسلها إلا بغسله.
ج- أو أن الآية مجملة، بيَّنَها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفعله.
د - أو أن "إلى" غاية للسقوط، وذلك أن صدر الكلام متناول للغاية وهو اليد، فإنها اسم لها من أطراف الأصابع، فكانت "إلى" لإسقاط ما وراء المرافق لا لمد الحكم إليها. أفاده التفتازاني في "شرح التنقيح" "1/ 117".
2 "6" سورة المائدة.
3 راجع: "التلويح" على "شرح التوضيح" "1/ 117، 118"، فإنه ذكر ذلك ووجَّهَهُ.
4 هناك معانٍ كثيرة لمن، فصَّل القول فيها ابن هشام في "المغني" "2- 14- 16".(1/203)
[على] :
وأما "على" فإنه للإيجاب، فإذا قال رجل: لفلان عليَّ كذا، حكم(1/203)
بوجوبه عليه1.
__________
1 هناك معانٍ أُخَرُ لعَلَى، راجعها -إن شئت- في "المغني" لابن هشام "1/ 125- 127".(1/204)
[في] :
وأما "في" فهو للظرف1، فإذا قال: لفلان عليّ ثوب في منديل أو تمر في جراب، لم يدخل الظرف في الإقرار2.
__________
1 ذكر ابن هشام لـ"في"، عشرة معانٍ، وذلك في كتابه "المغني" "1/ 145، 146".
2 وعند الحنفية يدخل الظرف. انظر: "أصول الجصاص" الورقة "10/ أ" مخطوطة دار الكتب المصرية.(1/204)
[اللام] :
و"اللام"1 تكون للتمليك كقولك: دار لزيد2.
وتكون للتعليل كقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} 3.
وتكون للعاقبة والصيرورة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 4، ومعناه: صار في العاقبة عدوًّا وحزنًا.
__________
1 اللام الجارة، لها اثنان وعشرون معنىً: انظر "المغني" لابن هشام "1/ 175- 183".
2 في الأصل "دار زيد" والصواب: ما أثبتناه. ثم هذا المثال إنما يصلح للتملك، أما مثال التمليك فهو: وهبت المال لزيد.
3 "165" سورة النساء.
4 "8" سورة القصص.(1/204)
وتكون للجهة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ} 1 الآية أحكم2 جهة للمصرف.
والنكرة في النفي تقتضي جميع الجنس، وفي الإثبات بعض الجنس، فإذا قال: والله لا آكل طعامًا، كفَّ عن جميع الجنس قليله وكثيره، فأي قدر من الطعام أكل، حنث. وإذا قال: والله لآكلن طعامًا، لم يجب أن [18/ ب] يأكل جميع الجنس. وإذا أكل ما يقع عليه اسم الطعام برَّ في يمينه.
__________
1 "60" سورة التوبة.
2 قراءة هذه الكلمة اجتهادية.(1/205)
[إنما] :
و"إنما" للحصر1. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" 2 يقتضي أن جميع ما للمرء هو الذي نواه، وأن ما لم ينوه ليس
__________
1 خالف الآمدي وأبو حيان والطوفي في إفادتها للحصر. وما ذكره المؤلف هو رأي الجمهرة من العلماء، ولم يصرح المؤلف هنا بأي جهة تفيد الحصر: أبجهة النظق أم بجهة الفهم؟ ولكن أبا البقاء الفتوحي نقل عنه أنه يقول: إنها تفيد الحصر بطريق الفهم. وهذا هو رأي ابن عقيل والحلواني الحنبليين.
وهناك من الحنابلة من قال: إنها تفيد الحصر بطريق النطق، ومنهم: أبو الخطاب وابن المنى والموفق والفخر وأبو البقاء الفتوحي. راجع: "شرح الكوكب المنير" "ص: 250، 251".
2 هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي "1/ 4"، وأخرجه عنه في كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق ونحوه "3/ 180، 181"، كما أخرجه عنه في كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان "8/ 175".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال(1/205)
له. وكذلك قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" 1، يقتضي أن جنس الولاء للمعتق، ومن لم يعتق فليس له ولاء.
__________
= بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال "3/ 1515، 1516".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات "1/ 510".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب النية "2/ 1413".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا "4/ 179" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء "1/ 51"، وفي كتاب الطلاق، باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه "6/ 129"، وفي كتاب الأيمان والنذور، باب النية في اليمين "7/ 12".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" "1/ 25، 43".
وأخرجه الطيالسي عنه في القسم الرابع من الكتاب، قسم الترغيب في الأعمال الصالحة "2/ 27".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب النية "1/ 50، 51",
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "1/ 301"، و"تلخيص الحبير" "1/ 55"، و"ذخائر المواريث" "3/ 44".
1 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها البخاري في عدة مواضع هي:
1 في كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد "1/ 116، 117".
2 في كتاب الشروط، باب الشروط في البيع "3/ 234، 235"، وفي باب مايجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق "3/ 237"، وفي باب الشروط في الولاء "3/ 237" وفي باب المكاتب وما لا يحل من الشروط "3/ 245".
3 في كتاب الأطعمة، باب الأدم "7/ 100".(1/206)
................................................................................
__________
4 في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق عن ابن عمر -رضي الله عنهما "8/ 191".
5 في كتاب الفرائض، باب ما يرث النساء من الولاء "8/ 193".
6 في كتاب الفرائض، باب إذا أسلم على يديه الرجل "8/ 193".
7 في كتاب الطلاق، باب لا يكون بيع الأمة طلاقًا "7/ 61".
8 في كتاب الكفارات، باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه "8/ 182".
9 في كتاب النكاح، باب الحرة تحت العبد "7/ 11".
10 في كتاب الزكاة، باب الصدقة على أموال أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم "2/ 150، 151".
11 في كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء "3/ 89".
12 في كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل "3/ 91".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق "2/ 1141- 1145".
وأخرجه الترمذي عنها في كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء أن الولاء لمن أعتق "4/ 437".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت "1/ 671".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب العتق، باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة "2/ 346، 347".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب البيع، باب المكاتب يباع قبل أن يقضي من كتابته شيئًا "7/ 269".
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الطلاق، بابُ تخييرِ الأَمَةِ تكون تحت العبد فتعتق "2/ 90، 91".
وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب النكاح "3/ 294".
وأخرجه الطيالسي عنها في كتاب العتق، باب الشروط في العتق "1/ 244".
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب العتق، باب ما جاء في ولاء المعتق ولمن يكون "1/ 140".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية" "4/ 149، 150" و"تلخيص الحبير" "4/ 213"، و"بلوغ المرام" "ص: 181"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" "ص: 529، 530".(1/207)
وقال بعض أهل خراسان: "إنما" لإثبات ما اتصل به ونفي ما عداه.
ومنهم من قال: لتحقيق المتصل به، وتمحيق المنفصل عنه. ويرجع معنى الجميع إلى ما ذكرته من الحصر.(1/208)
فصل: في قيام بعض حروف الصفات مقام بعض:
قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 1، أي: على جذوع النخل. وقال العبد2:
هُمُ صلبوا العبدي3 في جذع نخلة4.
__________
1 "71" سورة طه.
2 الشاعر ليس العبد، كما ذكر المؤلف، وإنهما هو سويد بن أبي كاهل، كما سيأتي بيان ذلك.
3 في الأصل: "العمري"، والتصويب من المراجع الآتي ذكرها في تخريج البيت.
4 هذا صدر بيت، وعجزه هو:
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
والبيت ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "16/ 188"، ولم ينسبه لأحد. كما ذكر البيت ابن منظور في كتابه: اللسان، مادة "عبد" "4/ 267" ونسبه إلى سويد بن أبي كاهل. والبيت عنده: وهم صلبوا ... إلخ بزيادة "واو" في أوله.
وقد استشهد به ابن هشام على مجيء "في" للاستعلاء "ص: 224" من كتابه المغني، تحقيق الدكتور: مازن المبارك وصاحبه.(1/208)
"الباء" مكان "عن" قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 1، أي اسأل عنه. قال علقمة بن عبدة2:
فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّساءِ فإِنَّني ... عليمٌ بأدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ3
"عن" مكان "الباء" قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4، أي: بالهوى5، والعرب تقول: رميت بالوتر6.
__________
1 "59" سورة الفرقان.
2 هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد، شاعر جاهلي، عدَّه ابن سلام من الطبقة الرابعة، ينازع امرأ القيس الشعر. يسمى: علقمة الفحل؛ لتفضيل زوج امرئ القيس له على زوجها، فطلقها امرؤ القيس، فتزوجها علقمة من بعده.
انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" "1/ 218- 222"، وطبقات الجمحي "ص: 115- 117".
3 هذا البيت ذكره ابن قتيبة في ترجمة علقمة، مع بيتين آخرين وقال: إنها من جيد شعره، إلا أنه أتى بكلمة: بصير، بدل كلمة: عليم، والبيتان الآخرن هما:
إذا شابَ رأْسُ المرءِ أو قلَّ مالُهُ ... فليسَ لهُ في وُدِّهِنَ نَصِيبُ
يردنَ ثَراءَ المالِ حَيثُ علِمْنَهُ ... وشَرْخُ الشَّبابِ عِندهُنَّ عجيبُ
انظر: الشعر والشعراء "1/ 218- 222"، والبيان والتبيين "3/ 329"، والمفضليات "ص: 329"، وشرح اختيار المفضل "ص: 1582".
4 "3" سورة النجم.
5 وقيل: إن "عن" على أصلها، والمعنى: ما يصدر قوله عن هوى، المغني لابن هشام "1/ 130".
6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "عن الوتر" حتى يتم الاستدلال.(1/209)
"اللام" مكان "على" قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل} 1 أي: لا تجهروا عليه بالقول. والعرب تقول: سقط فلان لِفِيهِ، أي: على فيه. قال الشاعر:
فخرَّ صريعًا لليدين وللفَمِ2
"إلى" مكان "مع" قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} 3 أي: مع أموالكم. ومثله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} 4. تقول العرب: "الذود إلى الذود إبل" أي: مع الذود.
"اللام" مكان "إلى" قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 5 أي: إليها.
"على" مكان "من" قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 6، أي: من الناس. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَحَق
__________
1 "2" سورة الحجرات.
2 هذا عجز بيت جاء في عدة قصائد لعدة شعراء، ولذلك اختلف صدر البيت، فقد نسب لربيعة بن مكدم، وروايته:
وهَتَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ إِهَابَهُ ... فهَوى صَرِيعًا لليدَينِ وَلِلْفَمِ
ونسب لجابر بن حني التغلبي، وروايته:
تناوله بالرُّمْحِ ثمَّ انْثَنَى لَهُ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لليدَينِ ولِلْفَمِ
ونسب إلى عكبر بن حديد، وروايته:
وضَمَمْتُ إِلَيهِ بالسِّنانِ قَمِيصَهُ ...
انظر: الأمالي "2/ 272"، وشرح اختيارات المفضل الضبي "ص: 955". والمغني لابن هشام مع حاشية الأمير "ص: 781".
3 "2" سورة النساء.
4 "52" سورة آل عمران.
5 "5" سورة الزلزلة.
6 "2" سورة المطففين.(1/210)
عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} 1 أي: استحق منهم.
"من" مكان "الباء" قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} 2، أي: بأمر الله.
وقال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ} 3، أي: بكل أمر.
"الباء" مكان "من" تقول العرب: شربت بماء كذا، أي: من ماء كذا.
قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} 4. معناه: يشرب منها. قال عنترة 5:
شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحرضين فَأَصْبَحَت ... زوراءَ تنفر6 عن حياض الديلم7
__________
1 "107" سورة المائدة.
2 "11" سورة الرعد.
3 "4" سورة القدر.
4 "6" سور الإنسان.
5 هو عنترة بن عمرو بن شداد بن عمرو بن قراد العبسي، فارس مشهور. يضرب به المثل في الشجاعة، شاعر جاهلي، أمه حبشية، اسمها: زبيبة. كان كريمًا جوادًا، عشق ابنة عمه عَبْلة، وقصتهما مشهورة، له ديوان مطبوع، مات سنة: 600م، تقريبًا.
انظر ترجمته في: الأعلام "5/ 269"، والشعر والشعراء "1/ 250".
6 في الأصل: "تنفي"، والتصويب من مصدري تخريج البيت الآتيين.
7 هذا البيت موجود في ديوان عنترة "ص: 21"، كما هو موجود في شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري "ص: 324".(1/211)
والديلم: الأعداء.
وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 1 أي من2 علم الله.
"من" مكان "في" قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْض} 3، أي: في الأرض.
"من" مكان "على" قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْم} 4، أي: على القوم.
"عن" مكان "من" قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 5، أي: من عباده.
"من" مكان "عن" [19/ أ] تقول: من لفلان، أي: عنه.
"على" مكان "عند" قال تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} 6 أي: عندي.
"الباء" مكان "اللام" قال تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} 7، أي: إلا للحق.
__________
1 "14" سورة هود.
2 في الأصل: "في"، وهو خطأ؛ لأن التمثيل لإنابة "الباء" عن "من".
3 "40" سورة فاطر.
4 "77" سورة الأنبياء.
5 "25" سورة الشورى.
6 "14" سورة الشعراء.
7 "39" سورة الدخان.(1/212)
فصل: في بيان أبواب أصول الفقه:
من ذلك الأمر والنهي؛ لأنه وضع للإيجاب والإلزام، وهو أبلغ منازل الخطاب؛ ولأن الأمر قد يقع خاصًّا، وأصل الكلام الخصوص، والعموم داخل عليه، كما أن أصله التخفيف، والتثقيل داخل عليه، وتقديم ما هو أصل الكلام أولى، ثم يليهما العموم، ثم الخصوص، ثم المجمل، ثم المفسر، ثم الناسخ والمنسوخ، ثم الأخبار، ثم بيان الأفعال، ثم الإجماع، ثم القياس والاجتهاد وما يتعلق بذلك من الاستخراج، ثم بيان صفة المفتي والمستفتي، ثم بيان الحظر والإباحة، فكان الواجب تقديم ما هو أهم فيما يقصد بذكر أصول الفقه، وتأخير ما يعود إلى العقول، مثل إثبات حجج العقول وإثبات أحكامها.
والأولى في هذا الباب تقديم الكلام في المعاني؛ لأن أصول الفقه إذا كانت أصول الشرع، والأقوال في الشريعة هي أصول الفقه، والمعاني مفهومة بها، إما باستخراج منها أو تنبيه.
والأولى تقديم الأصل مثل الأمور العقلية إذا وقع الكلام فيها، كان تقديم الكلام في أصولها أولى.
ولا يجوز أن يقال: لما كان الكلام متى وقع في الدليل وجب تقديم المعاني، كذلك في مسألة الأوامر؛ لأن ما يستفاد بالدليل طريقه النظر والاستدلال، فالواجب أن يعلم أولا، ثم يعبر عنها. فكان الكلام في معنى الدليل الذي هو الأصل أولى من العبارة عنه. كذلك الأصل في المعاني الشرعية، لما كان الأقوال كان تقديمها أولى.(1/213)
باب الأوامر 1: مسألة [صيغة الأمر] :
للأمر صيغة مبينة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا، إذا تعرَّت عن القرائن. وهي قول القائل لمن دونه: افعل كذا وكذا.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: الأمر لا يكون أمرًا لصيغته، وإنما يكون أمرًا بإرادة الآمر له2.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: الأمر لا صيغة له3، وإنما هو معنىً قائم
__________
1 راجع في هذا الباب: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الثاني، الورقة "1" وما بعدها، و"التمهيد" الورقة "18/ أ" وما بعدها، و"المسودة" "ص: 4" وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 317- 337" من الملحق.
2 انظر "المغني" للقاضي عبد الجبار "17/ 107" "قسم الشرعيات"، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 50".
3 قوله: "خلافًا للأشعرية ... " هذا القول غير محرر، فإن بعض الأشاعرة قالوا: لا صيغة للأمر تخصه، وبعضهم قالوا: إن له صيغة تخصه.
ونقل عن الشيخ أبي الحسن الأشعري القول بالنفي، وفسر ذلك بتفسيرين: الأول: المراد به الوقف. =(1/214)
في النفس لا يفارق الذات، وهذه الأصوات عبارة عنه.
وخلافًا لبعض متأخري أصحاب الشافعي في قوله: الفعل يسمى أمرًا في الحقيقة.
وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذه الفصول، فقال في رواية حنبل1: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم [19/ ب] المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه"، وهذا يدل من قوله على أن الأمر لا يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد الأمر بالطاعة؛ لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدًا له؛ لأنه كتب ضده.
وقال -في رواية يعقوب بن بختان والمروذي وعبد الله: "تكلم ربنا -تبارك وتعالى- بصوت، وهذه الأحاديث كلها جاءت". وذكر حديث
__________
= وتعقب بأن الوقف لا ينتج النفي.
وأجيب عن هذا: بأن المراد بالنفي ما يشمل عدم الجزم.
الثاني: بأنه قال ذلك؛ لوجود الاشتراك في المعاني التي ورد بها.
وخَطَّأَ إمامُ الحرمين والغزاليُ من نقل ذلك عن الشيخ أبي الحسن. وردَّه الآمدي ارجع إلى: "جمع الجوامع" مع شرح الجلال عليه مع "حاشية البناني" "1/ 371، 372"، و"الإحكام" للآمدي "2/ 131".
1 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه. وثَّقَه الدارقطني، روى عن أحمد مسائل جياد. توفي بواسط سنة: 273هـ.
له ترجمة في: الإنصاف للمرداوي "12/ 284"، وتاريخ بغداد "8/ 286"، وتذكرة الحفاظ "2/ 600"، وطبقات الحفاظ "ص: 268"، وطبقات الحنابلة "1/ 143- 145"، والمدخل لابن بدران "ص: 207".(1/215)
عبد الله "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء"1، وذكر الحديث. وهذا يدل من قوله على أن الأمر هو الأصوات المسموعة؛ لأنه بَيَّن أن كلام الله تعالى الذي هو الأمر والنهي كان بصوت مسموع.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم2: "الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي قد يفعل الشيء على جهة القصد، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وأمره بالشيء للمسلمين". وهذا يدل من قوله -رضي الله عنه: أن الفعل ليس بأمر؛ لأنه فرق بين فعله وبين قوله الذي هو الأمر، وجعل الأمر مقتضيًا للوجوب، والفعل محتملا للخصوص.
والدلالة على أنه يكون أمرًا لصيغته لا لإرادة الآمر:
أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرد منه الذبح؛ لأنه لو أراد منه الذبح لم يجز أن يمنعه منه عند المخالف.
وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في آخر "كتاب القدر" قصة إبراهيم، وقال: قد يأمر بما لا يريد أن يكون، أو علم أنه لا يكون، ولا يكون مغلوبًا ولا مقهورًا مع علمه به أنه لا يكون، وإنما يكون مغلوبًا لو لم يعلم أنه لا يكون.
فإن قيل: لم يأمره بالذبح، وإنما كان أمره بمقدمات الذبح من الإضجاع وغيره. قيل: هذا خلاف نص القرآن؛ لأن الله تعالى أخبر
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن "2/ 536، 537" وإسناده قوي.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: الفتح الكبير "1/ 95".
2 هو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، أبو يعقوب. من أصحاب الإمام أحمد الذين خدموه، وتتلمذوا عليه، ونقلوا عنه مسائل كثيرة. وصفه الخلَّال بالدين والورع. ولد سنة: 218هـ، ومات ببغداد سنة: 275هـ.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 108، 109".(1/216)
عنه بقوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} 1، فدل على أنه كان مأمورًا بذبحه؛
ولأن الله تعالى قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} 2، ولا يصح الفداء بالذبح إلا أن يكون مأمورًا بذبح الابن؛
ولأنه لو كان مأمورًا بمقدمات الذبح، لكان إبراهيم -صلى الله عليه- قد فعل ما أمر به، فلا يكون للفداء معنى؛
ولأنه ليس في المقدمات بلاء مبين، فلما عظَّم الله سبحانه البلوى به، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِين} 3، وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} ولا يحتاج في الإضجاع إلى الصبر، دلَّ على أن المأمور به كان الذبح.
فإن قيل: نسلم أنه كان مأمورًا بالذبح، وقد فعله إبراهيم -صلى الله عليه- ولكنه كلما قطع منه جزءًا التحم واندمل، فلم يمت بالذبح.
قيل: لو كان كذلك لم يصح الفداء بالذبح؛ لأنه إذا فعل المأمور به لم يكن له فداء؛ ولأن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يكون قد فعل، ويكون له ذكر في القرآن؛ لأنه من الإعجاز، مثل إحياء الموتى، ويكون ذكره أهم من ذكر سائر ما ذكر في [120/ أ] القرآن، فدل على أنه لا أصل له.
وأيضًا قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 4 فمنها دليلان:
__________
1 "102" سورة الصافات.
2 "107" سورة الصافات.
3 "106" سورة الصافات.
4 "40" سورة النحل. والآية في الأصل: "إنما أمرنا لشيء"، وهو خطأ.(1/217)
أحدهما: أنه تعالى أخبر أن "كن" بمجردها أمر.
والثاني قوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} وهذا يقتضي أنه قد يوجد أمر بإرادة وغير إرادة، ولولا ذلك ما كان؛ لقوله: {إِذَا أَرَدْنَاه} معنىً.
وعند المعتزلة: ذكره الإرادة لا تأثير له؛ لأنه لا أمر يوجد إلا بإرادة الآمر.
فإن قيل: المراد بهذه ما ينشأ خلقه، ويستأنف إحداثه وإيجاده، وليس المراد ما اختلفنا فيه.
قيل: هذا عام في الجميع.
وأيضًا: قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من حلف، فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك" 1، وهذا يدل على أنه إذا قال: لأقضين دينك غدًا -إن شاء الله- ولم يقضه، أنه لا يحنث في يمينه، وكان مأمورًا بقضاء دينه، فلو كان الله تعالى قد شاء ما أمره به، وجب أن يحنث في يمينه.
وأيضًا: فإن استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أمر، وكل أمر استدعاء، وما ليس باستدعاء من أنواع الكلام فليس بأمر، فدلَّ هذا على أن الأمر إنما كان أمرًا لكونه استدعاء، وهذا كما نقول في الخبر: إنما كان خبرًا؛ لأنه يدخله الصدق والكذب؛ لأنَّا وجدنا كل خبر يدخله الصدق أو الكذب. وكلما يدخله الصدق أو الكذب فهو خبر. وما لا
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا "4/ 108، 109"، ولفظه: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى، فلا حنث عليه".
كما أخرجه في الباب نفسه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، ولفظه: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم يحنث".(1/218)
يدخله الصدق أو الكذب من أنواع الكلام فليس بخبر. كذلك في الأمر يجب إثباته لما ذكرته.
واحتج المخالف: بأن لفظة: الأمر، ترد محتملة لوجوه كثيرة: فمنه ما أريد به الوجوب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1.
ومنه الإرشاد إلى الأحوط للعباد مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم} 2.
ومنه الإباحة: مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 4.
ومنه التقريع والتعجيز، مثل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} 5.
ومنه التهديد، مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 6.
ومنه المسألة مثل قوله عز وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} 7.
ومنه الندب، مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} 8، وقوله:
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "282" سورة البقرة.
3 "10" سورة الجمعة.
4 "2" سورة المائدة.
5 "23" سورة البقرة.
6 "40" سورة فصلت.
7 "147" سورة آل عمرن.
8 "33" سورة النور.(1/219)
{وَافْعَلُوا الْخَيْر} 1 وقوله: {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 2.
ومنه الحثُّ على الإكرام، مثل قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُم} 3.
ومنه ما ورد على وجه الامتنان مثل قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} 4 الآية.
وصورة الجميع واحدة من طريق اللفظ، وإنما تختلف بالإرادة؛ لأن الله تعالى أراد فعل الصلاة والزكاة، ولم يرد فعل الصيد، والانتشار في الأرض.
والجواب: أن الحكم إنما اختلف في هذه المواضع لاختلاف الاستدعاء، فإن أحدهما استدعى الفعل، والآخر أباحه، وبعضه تحذير وتهديد، وليس باستدعاء، وبعضه قام الدليل على أنه ندب [20/ ب] .
ومحصول هذا الجواب: أنه إنما عدل عن الصيغة لقرينة، ومسألة الخلاف في الصيغة إذا تجردت عن القرائن.
وجواب آخر وهو: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، كالأسد والحمار، حقيقة في البهيمة، وإن كان قد يعدل بها إلى الرجل البليد، والشجاع بقرينة، كذلك ههنا.
واحتج بأن الأمر لا يخلو من أن يكون أمرًا؛ لأن الآمر أراد إيجاد اللفظ وإحداثه؛ أو لأنه أراد أن يكون خطابًا لمن دونه، أو لأنه أراد فعل
__________
1 "77" سورة الحج.
2 "93" سورة المائدة.
3 "49" سورة الأعراف.
4 "15" سورة الملك.(1/220)
المأمور به منه، ولا يجوز أن يكون القسمين الأولين؛ لأن ذلك موجود فيما ليس بأمر، فدل على صحة القسم الثالث.
والجواب: أن ههنا قسمًا آخر وهو كونه استدعاء. ومحصول الجواب: أنه أمر لإيجاد اللفظ، والموضع الذي عدل عنه لقرينة.
واحتج: بأن النهي إنما كان نهيًا لكراهة الفعل، فوجب أن يكون الأمر أمرًا لإرادة الفعل؛ لأن النهي ضد الأمر.
والجواب: أن حدَّ النهي كراهية أن يكون الفعل المنهي عنه حسنًا، ولا نقول: إنه كان نهيًا لكراهية الفعل، فلم يكن بينهما فرق من هذا الوجه.
وقد قيل: إن حدَّ النهي: المنع عما ينهى عنه من طريق القول، لا للكراهة التي ذكرها المخالف.
واحتج: بأن أهل اللغة أجمعوا على أنه لا فرق بين قول القائل: افعل كذا، وبين أن يقول: أريد أن تفعل كذا، ولهذا نقول: إنه لا فرق بين أن يقول لعبده: اسقني ماءً، وبين أن يقول: أريد أن تسقيني ماءً، وإذا كان قوله: أريد أن تسقيني ماءً، إخبارًا عن إرادته، كذلك قوله: افعل، وجب أن يكون إخبارًا عن إرادته الفعل.
والجواب: أن قوله: أريد أن تسقيني ماء، إخبارٌ عن إرادته، ولهذا يدخله الصدق أو الكذب، وليس كذلك قوله: افعل، فإنه ليس بخبر، وإنما هو استدعاء واقتضاء، ولهذا لا يحسن أن يقول فيه، صدقت أو كذبت.
واحتج بأنه لا يخلو إما أن يجعلوا اللفظ أمرًا لصيغته، أو لعدم القرينة، وباطل أن يجعل أمرًا لصيغته؛ لأن الصيغة موجودة مع القرينة، التي هي التهديد والإباحة، وليس بأمر. وباطل أن يجعل أمرًا لعدم القرينة؛ لأن(1/221)
عدم القرينة قرينة، فقد صح أن الأمر إنما يصح أمرًا لقرينة.
والجواب: أنَّا نجعله أمرًا لعدم القرينة، وليس عدم القرينة قرينة، كما أن عدم الشيء ليس بشيء، ومثال هذا: أسماء الحقائق: كالحمار والسبع، يستعمل فيما وضعت له حقيقة بمجردها، وهو في البهائم، وقد يستعمل في غيرها بقرينة، وهو في الرجل البليد، والشجاع، ولا يقال: إنها إذا استعملت فيما وضعت له عند عدم القرينة، إنها مستعملة فيه بقرينة، كذلك ههنا.(1/222)
الأمر هو الأصوات المسموعة
مدخل
...
فصل:
والدلالة على أن [21/ أ] الأمر هو الأصوات المسموعة: هو أن هذا كلام متعلق باللغة، فوجب أن يرجع فيه إلى أهلها، وقد وجدناهم حدُّوا الأمر بقول القائل: افعل، إذا حصل على صفة، فلم يجز العدول عما قالوه في لغتهم.
ولا يجوز أن يقال: إن ما ذكرتموه في حدِّ الأمر لم ينقل عن العرب نقل تواتر؛ لأنه أمرٌ أَجْمَعَ عليه أهل العربية، وهم قوم يقع بخبرهم العلم؛
ولأن ما طريقه اللغة لو اعتبر فيه النقل المتواتر لم يمكن إثبات غريب القرآن ولا شواذ اللغة.
قيل: علمنا أن السلف كانوا يستشهدون بالبيت من الشعر على ما يحكونه من اللغة دلالة على بطلان هذا القول.
ولأن ما تعم به البلوى من أمر الشريعة لا يعتبر فيه النقل المتواتر، فكيف يصح اعتبار ذلك فيما طريقه اللغة؟!
ولأن الإنسان يسمى آمرًا عند وجود القول منه، ومتى انتفى عنه القول(1/222)
لم يسمِّ بهذا الاسم فدل ذلك على اعتبار الأقوال.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِم} 1 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 2، والعرب تقول: في نفسي كلام أقوله لك3.
والجواب: أن هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.
__________
1 "8" سورة المجادلة.
2 "13" سورة الملك.
3 في الأصل: "أقول لك".(1/223)
فصل: [الفعل لا يسمى أمرًا] :
والدلالة على أن الفعل لا يسمى أمرًا: أن أهل اللغة قد ذكروا في حدِّه قول القائل: افعل إذا كان على صفة، وهو من الأعلى إلى الأدنى، فلم يجز نقله عمَّا حكموا عليه [في] الوضع، كما لا يجوز في سائر اللغات.
ولأنه لو كان حقيقة لم يصح نفيه؛ ولأنه لا يشتق لفاعله أمر، فلو كان حقيقة فيه لصار مثل الأقوال.
واحتج المخالف بأنهم يقولون: أمر فلان سديد، ويريدون به أفعاله وأقواله، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 4، ومنه قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 5، وقول الشاعر:
فقلتُ لها أمْرِي إلى اللهِ كلُّه ... وإنِّي إليهِ في الإيَابِ لرَاغِبُ6(1/223)
والجواب: أن هذا كله على طريق المجاز، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1، وكما قال الشاعر:
وَقَالَتْ لَهُ العَينَانِ سَمْعًا وطَاعَةً2
والعين لا تقول.
يبين صحة هذا، وأنه مجاز أنه يصح نفيه، فنقول: فلان لم يأمر اليوم بأمر مع وقوع الفعل منه، وأسماء الحقائق لا تتنافى.
واحتج بأن الأمر مأخوذ من الأمارة، وهي العلامة التي يقتدى بها، والفعل قد يلزم الاقتداء به، فسمي لذلك أمرًا.
والجواب: أن هذه الصفة تحصل في الكتاب والإشارة، وإن لم يطلق اسم الأمر عليهما، وليس يمتنع أن يوجد ذلك من العلامة، ويخص بها الأقوال تعريفًا لها وتنبيهًا عليها.
__________
1 "82" سورة يوسف.
2 لم أقف على قائله.(1/224)
مسألة: [الأمر المطلق يقتضي الوجوب] :
إذا ورد لفظ الأمر متعريًا عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به.
وهذا ظاهر كلام أحمد [21/ ب]-رحمه الله- في مواضع:
فقال في رواية1 أبي الحارث2: إذا ثبت الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به.
__________
1 هذه الرواية موجودة بنصها في "المسودة" "ص: 13، 15".
2 هو أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ. من أصحاب الإمام أحمد المقربين إليه، كانت لديه مسائل كثيرة نقلها عن الإمام أحمد.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 74"، والإنصاف للمرداوي "12/ 280".(1/224)
وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية1 مهنا2 -وقد ذكر له قول مالك3 في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: "ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يغسل سؤر الكلب سبع مرات" 4.
__________
1 رواية "مهنا" هذه موجودة بنصها في المسودة "ص: 15".
2 هو مهنا بن يحيى الشامي السلمي، أبو عبد الله، روى عن الإمام أحمد وعبد الرزاق وبقية بن الوليد. وعنه عبد الله بن أحمد وسهل التُّستري وإبراهيم النيسابوري، من كبار أصحاب أحمد الذين لازموه حتى مات.
له ترجمة في طبقات الحنابلة "1/ 345"، والإنصاف للمرداوي "12/ 292".
3 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأربعة، إمام دار الهجرة، صاحب الموطأ خرَّج له الجماعة، ولد سنة: 96هـ، وقيل غير ذلك، ومات سنة: 179هـ.
له ترجمة في "البداية والنهاية" "10/ 174"، وتذكرة الحفاظ "1/ 207"، وشذرات الذهب "1/ 289"، وطبقات الحفَّاظ للسيوطي "ص: 89"، وطبقات المفسرين للداودي "2/ 293"، والنجوم الزاهرة "2/ 96"، ووفَيَات الأعيان "1/ 439".
4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان "1/ 53".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب "1/ 234، 235".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب "1/ 151"، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب "1/ 17، 18". =(1/225)
وكذلك نقل1 صالح2 عنه فيمن صلَّى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا صلَّى خلف الصف أن يعيد الصلاة3. وهذا كثير في كلامه.
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب "1/ 130".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب سؤر الكلب "1/ 46، 47".
وأخرجه عنه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الطهارة، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات "1/ 240".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ولوغ الكلب في الإناء "1/ 63، 64".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في آسار السباع والكلب والهر "1/ 21".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب تطهير نجاسة دم الحيض وولوغ الكلب "1/ 43".
وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: شرح معاني الآثار، في كتاب الطهارة، باب سؤر الكلب "1/ 21".
وأخرجه عنه الإمام مالك في باب جامع الوضوء "1/ 72" مطبوع مع شرح الزرقاني،
وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 295"، ونصب الراية "1/ 132". وتلخيص الحبير "1/ 23"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 13".
1 ما نقله صالح عن الإمام أحمد هنا موجود في المسوَّدة بنصه مع اختلاف طفيف "14، 15".
2 هو صالح بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو الفضل، أكبر أولاد الإمام أحمد، وممن روى عنه مسائل كثيرة، صدوق ثقة، تولى القضاء بطرسوس ثم بأصبهان، ولد سنة: 203هـ، وتوفي بأصبهان سنة: 266هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة "1/ 173- 176"، والإنصاف "12/ 286".
3 هذا الحديث رواه وابصة بن معبد -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف "1/ 157". =(1/226)
وقال -رضي الله عنه- في كتاب طاعة الرسول1: "قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 2 والظاهر3 يدل على أنه إذا ابتاع شيئًا يشهد4. فلما تأول قوم من العلماء {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5،
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده "1/ 445- 451"، وقد تكلم عن أسانيده الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- باستفاضة في شرحه على جامع الترمذي، فمن أراد معرفة ذلك فليرجع إليه.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده "1/ 321".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في صلاة الرجل خلف الصف وحده "1/ 237".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب كراهة الصف بين السواري وحكم من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 137".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو جنب أو محدث "2/ 236- 263".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" "4/ 228".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى "3/ 104، 105".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب من صلَّى خلف الصف وحده "1/ 393، 394".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 185، 186"، ونصب الراية "2/ 38"، والمنتقى "ص: 234"، وبلوغ المرام "ص: 49".
1 صرح في المسوَّدة "ص: 14" بمن روى هذا عن الإمام أحمد بأنه: صالح.
2 "282" سورة البقرة.
3 في المسوَّدة "ص: 14": "فالظاهر".
4 في المسوَّدة "ص: 14": "أشهد عليه".
5 "283" سورة البقرة.(1/227)
استقر حكم الآية على ذلك"1.
وقد علق القول في رواية2 الميموني3 وقد سأله عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما استطعتُم، وما نَهَيتُكُم عنه فانتَهُوا" 4، فقال: الأمر أسهل من النهي.
وكذلك نقل5 علي بن سعيد6 فقال: ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو
__________
1 في المسودة "ص: 14" تكملة النص هكذا: "فلما تبايع الناس وتركوا الإشهاد استقر حكم الآية على ذلك".
2 رواية الميموني في المسودة "ص: 14".
3 هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي، أبو الحسن، فقيه، من أصحاب الإمام أحمد الذين لازموه فترة طويلة، كان من المقدمين عند الإمام أحمد وممن نقلوا عنه. توفي سنة: 274هـ.
له ترجمة في شذرات الذهب "2/ 165، 166"، وطبقات الحنابلة "1/ 212، 216".
4 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "9/ 117" بلفظ: قال: "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم "4/ 1830، 1831" بنحو لفظ البخاري مع فرق في التقديم والتأخير.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "5/ 83".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم "1/ 31".
5 هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة "ص: 14".
6 هو علي بن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، من أصحاب الإمام أحمد، وممن أخذوا عنه.
له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/ 224، 225".(1/228)
عندي أسهل مما نهى عنه. فقد سهَّل في الأمر وغلَّظ في النهي.
ولعله قصد بهذا أن الأمر أسهل من النهي على معنى أن جماعة قالوا: إطلاق الأمر يقتضي الندب، وإطلاق النهي يقتضي الحظر، وإطلاق الأمر لا يقتضي التَّكرار، والنهي يقتضي، وهذا قول جمهور الفقهاء.
وقالت المعتزلة: هو محمول على الندب بإطلاق حتى يدل الدليل على الوجوب.
وقالت الأشعرية: هو على الوقف على ما يبينه الدليل.
وذهب قوم إلى أنه على الإباحة حتى يدل الدليل.
فالدلالة على ما قلنا قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1.
فوجه الدلالة: أن الله تعالى لما أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم تبادروا إلى فعله، فعلم أنهم عقلوا من إطلاقه وجوب امتثال المأمور به، ثم لما امتنع إبليس من السجود وبَّخَهُ وعاقبه وأهبطه من الجنة، فلولا أن ذلك واجب عليه لما استحق العقوبة والتوبيخ بتركه.
فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك الأمر معه قرينة دلت على المراد به، فلهذا عاقبه بالمخالفة.
قيل: لم يذكر في الآية إلا أمرًا مطلقًا، وعلَّق التوبيخ والعقوبة بتركه، فمن ادَّعى أن هناك قرينة احتاج إلى دليل، يبين صحة هذا أن قوله:
__________
1 "11، 12" سورة الأعراف.(1/229)
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك} مثل قوله: ما يمنعك أن لا تسجد إذ قلت لك: اسجد، فإن الذم يتعلق بمجرد مخالفة القول، كذلك ههنا. فإذا قيل: إنما عاقبه؛ لأنه استكبر وكان من الكافرين، قيل: عاقبه على الأمرين جميعًا، على مخالفة الأمر، وعلى الاستكبار والكفر.
فإن قيل: لا يجوز [22/ أ] أن يكون الأمر لإبليس بالسجود؛ لأن ذلك أمر للملائكة وإبليس ليس منهم، وإنما هو من الجن؛ لقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} 1.
قيل: إبليس من الملائكة. وقد ذكر أبو بكر هذا فيما علَّقه عنه أبو إسحاق2.
وهو قول ابن عباس فيما ذكره أبو بكر في كتاب التفسير فقال: قال ابن حنبل: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة التي منهم قبيله، وكان خازنًا على الجِنَان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} إنما سمي الجنان: إنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل عَدَني، ومَكِّي، وكُوفِي، وبَصْرِي.
__________
1 "50" سورة الكهف.
2 هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقْلا -بسكون القاف وفتح اللام- أبو إسحاق البزار الفقيه الأصولي الحنبلي. سمع من أبي بكر عبد العزيز غلام الخلَّال وابن الصوَّاف وغيرهما، مات سنة: 369هـ. وله من العمر "54" سنة. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "2/ 128- 139"، والمدخل لابن بدران "ص: 306"، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي "ص: 516".(1/230)
والذي يدل على أنه منهم استثناؤه من جملتهم، وحقيقة الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى. ولأنه وبَّخَه وعاقبه على ترك السجود، والأمر بالسجود كان للملائكة، فلولا أنه منهم لم يحصل مخالفة بتركه.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ} 1، فنفي التخيير في الأمر وجعله ضالا مع التخيير، ومن قال: الأمر على الندب أو الإباحة خَيَّرَه.
فإن قيل: إنما قال هذا فيما قضاه، وما قضاه واجب، وخلافنا فيما أمر به.
قيل: ما قضاه لا صيغة له تدل على أنه واجب ولا ندب وهو دون مرتبة الأمر، ومع هذا فلم يجعل له الخيرة، فأولى أن لا يجعل له ذلك في الأمر، وعلى أن تعلقنا بقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} فعاد الكلام إلى قوله: {أَمْرًا} .
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2، فتوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب، فلولا أن إطلاقه يقتضي الوجوب لم يتوعد عليه.
وحكي عن الحسن البصري3، أنه لم يكن من الملائكة، يعني إبليس.
__________
1 "36" سورة الأحزاب.
2 "63" سورة النور.
3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، زاهد، عالم. خرَّج له الجماعة، ولد بالمدينة المنورة لسنتين بقيتا من خلافة عمر -رضي الله عنه. مات بالبصرة سنة: 110هـ.
انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ "1/ 71"، وشذرات الذهب "1/ 136"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/ 147"، وميزان الاعتدال "1/ 527"، والنجوم الزاهرة "1/ 267"، ووفَيَات الأعيان "1/ 354".(1/231)
وهو ظاهر كلام أبي إسحاق من أصحابنا؛ لأنه قال: سمعت الشيخ يقول: إبليس من الملائكة. فقلت: أجمعنا على أن الملائكة لا تتناكح، ولا تكون لها ذرية، وإبليس له ذرية قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} 1 فدلَّ على أنه من غيرهم.
وهذا لا يدل على أنه لم يكن منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون منهم حين الخطاب؛ لأنه لا يمتنع أن تكون حاله تغيرت بعد المخالفة، كما تغيرت حال الملكين الذين نزلا بأرض بابل لما خالفا، فأكلا الطعام وشربا الشراب وحصلت فيهم شهوة النساء، وإن لم تكن هذه صفة الملائكة، كذلك إبليس.
ويدل عليه قوله تعالى: {أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 2، فدلَّ على أن مخالفة الأمر معصية، ولم يقل: أعصيت ما دلَّ على وجوب الأمر؟ بل علَّق المعصية [22/ ب] بمخالفة الأمر، وليس له صيغة غير لفظة: افعل، ألا ترى أن هذه اللفظة هي التي ترك امتثالها إبليس، فَذُمَّ، وهو قوله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} فعلم أن هذه صيغة الأمر.
ويدلُّ عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 3، ومعلوم أن السواك مستحب، فدل على أنه لو أمر به لوجب.
__________
1 "50" سورة الكهف.
2 "93" سورة طه.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه البخاري في =(1/232)
ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: إنما أنا شافع" 1 فموضع الدليل:
__________
= كتاب التمني باب ما يجوز من اللوم "9/ 105، 106":
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 220".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 11".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم "1/ 16".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك "1/ 34، 35".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 105".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك "1/ 133".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة، باب في السواك "1/ 139".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 27".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك والحث عليه "1/ 48".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/ 309"، وتلخيص الحبير "1/ 64"، وفيض القدير شرح الجامع الصغير "5/ 338"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 32"، ونصب الراية "1/ 9".
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوج بريرة "7/ 62".
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، "3/ 453".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد "1/ 517".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم للمحكوم قبل فصل الحكم "8/ 215".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأَمَة إذا عتقت "1/ 671".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في تخيير الأَمَة تكون تحت العبد فتعتق "2/ 91".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب الخيار للأمة إذا عتقت تحت عَبْدٍ "2/ 353، 354" وأخرجه عنه الدارقطني "3/ 294".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير" "3/ 177، 178"، و"نصب الراية" "3/ 206، 207". والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 550".(1/233)
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب ومن قال: الأمر على الندب، يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر.
فإن قيل: فلا دلالة فيه؛ لأنه ما تضمن الأمر، وإنما سألها، وشفع إليها.
قيل: احتجاجنا من قولها: بأمرك، فقال: "إنما أنا شافع"، فتبرأ عن الأمر إلى الشفاعة.
وفي هذا دلالة على من قال بالوقف أيضًا؛ لأن قولها: "بأمرك" معناه: فأمتثله.
ويدل عليه أيضًا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه مر برجل يصلي فدعاه، فلم يُجِبْهُ، فلما فرغ من الصلاة قال: "ما منعك أن تجيبني؟ " قال: كنت في الصلاة، فقال عليه السلام1: "أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} 2 " وهذا ظاهر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاتبه على مخالفة أمر الله تعالى المطلق، وهو قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وإن كان في الإجابة إليه ترك فريضة عليه، هو فيها.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد بن المعلى -رضي الله عنه- مرفوعًا، وهو صاحب القصة:
أخرجه عنه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الأنفال "6/ 77".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب "1/ 336".
2 "24" سورة الأنفال.(1/234)
وأيضا فهو إجماع الصحابة، وذلك أنهم كانوا يرجعون إلى مجرد الأوامر في الفعل والامتناع من غير توقف. مثل احتجاج أبي بكر على عمر -رضي الله عنهما- بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1. ورجوع ابن عمر2 إلى حديث رافع3 في المساقاة 4. وغير ذلك من القصص المشهورة.
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، هاجر إلى المدينة وعمره عشر سنوات، شهد الخندق، كان من أهل الورع والعلم والعبادة، مات بمكة سنة: 73هـ.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 950"، والإصابة "4/ 107"، وتذكرة الحفاظ "1/ 37"، وتاريخ بغداد "1/ 171"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 175"، وشذرات الذهب "1/ 81"، والنجوم الزاهرة "1/ 192".
3 هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي الحارثي، أبو عبد الله، صحابي جليل، شهد أُحُدًا وما بعدها، مات سنة: 74هـ، بالمدينة متأثرًا من انتقاض جرح أحدثه به سهم يوم أحد، وله من العمر "86" سنة.
له ترجمة في الاستيعاب "2/ 479"، والإصابة "2/ 86".
4 حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمرة "3/ 134".
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض "3/ 1181".
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك "1/ 232".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع "2/ 819".
وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة "7/ 43".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة "1/ 275".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء في كراء الأرض "2/ 199". وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب المزارعة والمساقاة "4/ 105".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4: 180".(1/235)
وما كانوا عليه عند ورود لفظ الأمر، والذي يعلم أنه كان متقررًا فيما بينهم أن إطلاق ذلك يقتضي الوجوب والامتثال.
فإن قيل: يحتمل أن يكون رجوعها إلى غير ظاهر الأمر، وإنما رجعوا إلى قرينة اقترن بها دلَّت على الوجوب.
قيل: الذي ظهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ، فلا يجوز حمله على القرائن، وليس هذا إلا مثل من سمع خبرًا فصدق المخبر، فالظاهر تعلق تصديقه به دون إخبار مخبر قبله.
وجواب آخر وهو: أن هذا الاعتبار لو صح لبطل حكم اللغة، ألا ترى أن أسامي الأشخاص والأعيان تفيد مسمياتها بأنفسها، ولا طريق إلى إثبات هذا المعنى إلا بالطريق الذي ذكرناه، فلو أن قائلا قال: إن هذه الأسامي إنما يستدل بها على مسمياتها بدلالة غير الظاهر، وكذلك سائر ألفاظ [23/ أ] اللغة، مثل: أوجبت وفرضت وألزمت، وأسماء الأشخاص والأعيان، لم يمكن أن تنفصل عنه بغير ما ذكرنا في لفظ الأمر.
وجواب آخر وهو: أن دلالة الحال ليس بعلة ملازمة للأمر حتى لا تخلو منها، وإنما تقارن بعض الأوامر، فلو كان اللفظ لا يفيده لحصل من جماعة الصحابة سؤال عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال في مدة حياته عليه السلام، لامتناع أن لا يكون حصل له أمر في هذه المدة غير مقترن1 بدلالة.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان المفيد لوجوب الفعل دلالة الحال،
__________
1 في الأصل: "مقترنة".(1/236)
لكان نقلها أولى من لفظ الأمر، ولصار تركها تضييعًا لنقل الشريعة، وغير جائز حمل أمر الصحابة على هذا المعنى.
فإن قيل: ما ذكرتموه ليس بلفظ عنهم يقع الاحتجاج به.
قيل: استعمالهم لذلك دلالة على إثبات لغة العرب، لأنها الأصل في اللغة، يجري مجرى استعمالها للفظ الأمر كاستعمالها لسائر ألفاظ اللغة.
فإن قيل: ما رويتموه عنهم لا يقع به العلم فلم يجز إثبات مثل هذا الحكم الذي هو أصل به.
قيل: هذا القائل يجوز إثبات الأسامي الشرعية من جهة الآحاد، فكان إثبات قول يعرب وقحطان أولى بالإثبات.
فإن قيل: فالصحابة قد كانت تعتقد الإباحة في بعض الأوامر، ولم يدل هذا على أنه ظاهر اللفظ.
قيل: من أثبت غير الوجوب فإنما أثبته بدلالة.
فإن قيل: فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم: دعى المصلي وهو في صلاته، فلو كان قد اعتقد وجوب الأوامر بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لم يترك ذلك.
قيل: لا يمتنع أن يكون قد اعتقد وجوب ذلك، وقدم عليه قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 على إقامتها والمضي فيها، دون تركها والاشتغال بغيرها.
وجواب آخر وهو: أن الأمر في الآية متعلق بشرط، فجائز أن يكون السامع لم يعلم بوجوده، فلذلك أَخَّرَ الجواب.
__________
1 "43" سورة البقرة.(1/237)
فإن قيل يجوز أن يكون اعتقدوا وجوب أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1.
قيل: قد كان تقدمت على هذه الآية أوامر كثيرة، لم يسأل عن مقتضاها، فلو كان اعتقاد الوجوب لأجل هذه الآية لكان السؤال يقع عما تقدم عليها.
وأيضًا فإن القائل إذا قال لعبده: افعل كذا وكذا اليوم، فلم يفعل، حسن أن يلومه على ذلك ويعاقبه عليه، فلولا أنه كان قد لزمه واستحق عليه فعله، لما حَسُنَ عقوبته على تركه.
فإن قيل: من لم يسلم.
قيل: هذا رفع حكم المشاهدات، ورددناه في ذلك إلى العادات؛ لأن أحدًا لا يلوم سيدًا ضرب عبده [23/ ب] على مخالفة أمره.
فإن قيل: هناك قرينة اقترنت بالأمر دلَّت على وجوبه.
قيل: تصور المسألة فيمن أمر عبده بأمر من وراء حجاب. وهو لا يشاهده، ولا هناك ما ينبئ عنه لفظ الأمر، فلا يجوز أن يُدَّعَى تعلُّقُ الوجوب بعده.
وأيضًا: فإن قول القائل: افعل، موضوع في اللغة للتَّفَعُّل واستدعاء الفعل، وليس يحصل ذلك إلا بحمله على الوجوب.
فأما من حمله على الوقف فإنه لا يفيد شيئًا. وإذا حمل على الندب جُوِّز تركه، وهذا ترك مقتضى ما وضع له.
فإن قيل: لا نسلم هذا.
__________
1 "63" سورة النور.(1/238)
قيل: المرجع في ذلك إلى مقتضى اللغة.
وأيضًا: فإن النهي يدل على وجوب الترك، كذلك الأمر يجب أن يدل على وجوب الفعل. وهذا الدليل يختص من قال بالندب. وأما من قال بالوقف فإنه يقف في النهي كما يقف في الأمر.
فإن قيل: لفظ النهي يقتضي قبح فعل المنهي عنه، فالقبيح واجب اجتنابه، والأمر يقتضي حسن ما أمر به، وحسنه لا يقتضي وجوب إتيانه، إذ ليس كل حسن يجب إتيانه.
قيل: لا فرق بينهما، وذلك أن من النهي ما لا يقتضي قبح المنهي عنه، ولا يجب اجتنابه. مثل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُم} 1، وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} 2، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القران بين التمرتين3، وعن الزجر في الطرقات4، فهو كالمأمور به، منه ما لا يجب فعله، ولا فرق بينهما في مطلق اللفظ.
__________
1 "22" سورة النور.
2 "282" سورة البقرة.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري "2489" في الشركة، ومسلم "2045" "151" في الأشربة والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية القران بين التمرتين "4/ 264".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب النهي عن قران التمر "2/ 1106".
وأخرجه أبو داود عنه في كتاب الأطعمة، باب الإقران في التمر عند الأكل "2/ 326".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الأطعمة، باب آداب الأكل "1/ 331".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأطعمة، باب النهي عن القران "2/ 29".
وأخرجه عنه الخطيب البغدادي في تاريخه "14/ 443"، عن المؤلف "أبي يعلى" عن شيخته أم الفتح، وذكر بقية السند.
وراجع في هذا الحديث: تيسير الوصول "2/ 348، 349".
4 لم أجده.(1/239)
فإن قيل: هذا إثبات لغة بقياس.
قيل: إنما استدللنا بما قلنا على موضوع الاسم، وهذا المعنى لا يتوصل به إلا بالاستدلال.
وأيضًا: فإن لفظ التخيير يستعمل في الأمر المطلق كما يستعمل في المقيد فيقول: افعل إن شئت، وإن شئت فاترك، كما يقول: أوجبت عليك أو فرضت عليك إن شئت، فلو كان إطلاقه لا يفيد الوجوب واللزوم لم يؤثر فيه التخيير.
يبين صحة هذا أن قول القائل: واجب، يحتمل وجوب الإرشاد، مثل قوله عليه السلام: "غسل يوم الجمعة واجب" 1، وقوله: "السواك
__________
1 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا:
أخرجه عنه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة "2/ 3". ولفظه: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ "2/ 580".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة "1/ 84" بلفظ: "الغسل يوم الجمعة على كل محتلم".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم الجمعة "3/ 76" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة "1/ 246" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الغسل يوم الجمعة "1/ 299" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الصلاة، باب العمل في غسل يوم الجمعة "1/ 209" بمثل لفظ البخاري وزاد: "كغسل الجنابة". وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في غسل الجمعة "1/ 155" بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الغسل للجمعة "1/ 142" بمثل لفظ البخاري، وزاد عليه.
وأخرجه عنه الطحاوي في كتاب الطهارة، باب غسل يوم الجمعة "1/ 116" بمثل لفظ البخاري.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 86"، والمنتقى "ص: 66".(1/240)
واجب"1. وإن شئت قلت: لو كان قوله: "افعل" يقتضي التخيير، بطل موضوع التخيير، فلما كان لفظة: التخيير، معقولة، وهو قوله: افعل إن شئت، لم يَجُزْ أن تحمل لفظة التجريد على ذلك.
وأيضًا: فإن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام: أمر ونهي، وخبر واستخبار. ومن قال بالوقف لا يفرق بين الأمر والنهي؛ لأن كل واحد منهما لا يدل على شيء، فلا يدل الأمر على إيجاد فعل، ولا النهي على ترك فعل. فإن قيل: ما ذكرتموه من اللغة لا تثبت من جهة الآحاد.
قيل: علم الضرورة قد وقع باستعمال لفظ: افعل، في الأوامر من العرف، ولأنَّا قد بيَّنَّا أنه إذا جاز إثبات الأسامي [24/ أ] الشرعية من جهة الآحاد فإثبات كلام العرب أولى.
وأيضًا: كل لفظ أفاد معنىً في اللغة عند انضمام التأكيد إليه، فإنه يفيد ذلك مع عدمه، مثل قولهم نفسه، فلما أفاد قوله صم: فقد أوجبت عليك وجب أن يفيد إطلاقه ما أفاد التأكيد.
واحتج من قال بالوقف:
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمرو بن حلحلة ورافع بن خديج معًا -رضي الله عنهما.
أخرجه عنهما أبو نعيم في كتاب السواك بلفظ: "السواك واجب، وغسل الجمعة واجب على كل مسلم". وهو ضعيف، انظر "فيض القدير شرح الجامع الصغير" "4/ 148"، والفتح الكبير للنبهاني "2/ 173".(1/241)
بأن هذه الصيغة ترد مشتركة بين الوجوب، نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وبَيْنَ النَّدب، نحو قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 2، وبين التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3، فلم يكن حملها على الوجوب بأولى من حملها على الندب، فوجب التوقف فيها، كقوله: لون، لما لم يدل على شيء، وقف حتى يدل على المراد.
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الصيغة التي يختلف فيها لا ترد قط عندنا إلا وهي على الوجوب، وإنما يعدل عنها إلى الندب والتهديد بدليل أو بقرينة.
الثاني: أن هذا يبطل بأسماء الحقائق، وهو الأسد والحمار، فإنه حقيقة في البهيمة، ويراد به الرجل بقرينة، ومع هذا لم يمنع إطلاق4 الحقيقة في البهيمة.
وكذلك: العَشَرَة، حقيقة في العَشَرَةِ، وتستعمل في الخَمْسَة بقرينة الاستثناء، وهو قوله: عشرة إلا خمسة.
الثالث: يبطل بقوله: فرضت وأوجبت وألزمت، فإن هذا يَرِدُ، والمراد به الوجوب، ويَرِدُ والمراد به النَّدب كقوله: "غُسْل الجمعة واجب على كل محتلم" 5، ومع هذا فإن إطلاقه يُحْمَلُ على الوجوب، وكذلك: فرضت، تحتمل الوجوب، وتحتمل التقدير، وإطلاقها يُحْمَلُ على الوجوب.
وكذلك ألفاظ الوعيد تحمل على الوجوب، وإن كانت تستعمل في
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "32" سورة النور.
3 "40" سورة فصلت.
4 في الأصل: "إطلاقها".
5 مضى تخريجه في الصفحة السابقة.(1/242)
غيره نحو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1، فتوعدهم على منع الماعون، وهو إعارة قماش البيت كالقر والدّلو ونحو ذلك، وكل هذا مندوب.
وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كان له إبل أو بقر فلم يؤدِّ حقها، بُطِحَ يَومَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِها، كلما نفذت أخراها عادت أولاها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "إعارة دَلْوها وإطْراقُ فَحْلِها ومِنْحَة لبنها يوم وردها" 2 فتوعد على هذا وهو مندوب، ومع هذا إطلاقه يقتضي الوجوب.
واحتج: بأن استعمال هذا اللفظ في النَّدب أكثر منه في الوجوب، فلا يجوز أن يكون الأقل حقيقة والأكثر مجازًا.
والجواب: أن هذا إن كان صحيحًا فيجب أن يقولوا: إنها حقيقة في
__________
1 "4، 5، 6" سورة الماعون.
2 هذا الحديث رواه جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "2/ 685".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب من لم يؤدِّ زكاة الإبل والبقر والغنم "1/ 318".
وقد أخرج البخاري التوعد هذا مع اختلاف في اللفظ أخرجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "2/ 126"، كما أخرجه عنه مسلم في الموضع السابق ذكره "2/ 685".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في حقوق المال "1/ 385".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما جاء في منع الزكاة "1/ 569".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في وجوبها وعدم منعها "1/ 172".(1/243)
الندب وموضوعة له، وهم لا يقولون بذلك.
وجواب آخر وهو: أنه قد يكون اللفظ موضوعًا لشيء حقيقة، ثم يستعمل في غيره مجازًا، ويغلب المجاز على الحقيقة "كالغائط": هو اسم للموضع الواسع من الأرض، ومجاز في: العَذِرَةِ، وهو [أكثر استعمالا] 1، وكذلك: الوَطْءُ، حقيقة في الدَّوْسِ بالرِّجل، ومجاز في [24/ ب] الجماع، وهو أكثر استعمالا.
واحتج: بأن اللَّفظة الواحدة لا تقتضي شيئين مختلفين، وإذا حملتم الأمر على الوجوب اقتضى وجوب فعله، والعقوبة على تركه.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه باطل بقوله: أوجبت كذا، فإنه يثاب على فعله ويعاقب على تركه.
وجواب آخر وهو: أن الكلمة ما دلَّت على أمرين؛ لأن موجبها يدل على أنه يثاب على فعلها، ومخالفة موجبها يدل على العقاب، فلم يكن الثواب والعقاب مستفادًا بمعنىً واحد.
واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب حقيقة لكان إذا استعملت في النَّدب أن يكون مجازًا، كالحمار، لما كان حقيقة في البهيمة لم يكن حقيقة في الرجل البليد، فلما قلتم: إنها حقيقة في الوجوب، حقيقة في النَّدب بطل أن يكون على الوجوب.
والجواب: أنه إنما لم يكن مجازًا في النَّدب، وكان حقيقة فيه أيضًا؛ لأن المجاز هو: أن يُحْمَلَ اللفظ على غير مقتضاه، كالرجل البليد يسمَّى حمارًا، فأما إذا حُمِلَ على بعض مقتضاه فلا يكون، كحمل العموم على الخصوص
__________
1 بياض في الأصل، يقدر بكلمتينن أثبتناهما، أو بدلهما، مستعينين بالسياق.(1/244)
هو حقيقة في الجمع فيما دخله التخصيص وفيما لم يدخله. ووجدنا أن المندوب بعض موجبات الواجب؛ لأنه مندوب إلى فعله كالواجب فهو كبعض موجبات العموم.
واحتج: بأنه لو كان يقتضي الوجوب لما اختلف باختلاف المخاطبين، ولما كانت هذه اللفظة توجد في العبد لسيده، ولا يكون أمرًا، كذلك وجودها من السيد لعبده.
والجواب: أن ذلك لم يختلف باختلاف المخاطبين، وإنما اختلف الحكم لقرينة، وهو: أنهم سموا ذلك من السيد لعبده أمرًا، ولم يسموا ذلك من العبد لسيده أمرًا.
واحتج: بأنها لو كانت موضوعة للوجوب، لما حسن فيها الاستفهام، فتقول: أمرتني به واجبًا [أو] ندبًا؟
والجواب: لا نسلم أنه يحسن الاستفهام إذا تعرى عن قرينة.
وعلى أن هذا باطل بأوجبت وفرضت، فإنه يحسن أن يقول: أوجبته إلزامًا أو إجبارًا؟ وكذلك أسماء الحقائق، إذا قال: رأيت حمارًا أو سبعًا. وكأن المعنى فيه أنه يصح استعماله في غير الواجب بدليل أو قرينة، فأراد المخاطب أن يزيل بالاستفهام كل الاحتمال1.
واحتج من قال: إطلاق الأمر يقتضي النَّدب:
بأن الأمر يدل على حسن المأمور به، وعلى أنه مراد الآمر، وحسن الشيء لا يدل على وجوبه، كالمباحات فإنها حسنة وهي غير واجبة، وكذلك النوافل مرادة له، ولا يدل ذلك على الوجوب، فصار
__________
1 لو عبر المؤلف بقوله: "كل احتمال" أو "كل الاحتمالات" كان أولى.(1/245)
الوجوب صفة زائدة على حسن الشيء، وعلى كونه مرادًا، فلا يجوز إثباته بنفس الأمر.
والجواب: أن كونه حسنًا ومرادًا يدل على الوجوب، ما لم [25/ أ] يدل دليل التخيير، وفي التخيير والمباحات قد دلَّ الدليل، فلهذا لم يقتضِ الوجوب.
وجواب آخر وهو: أنا لا نسلم أن الأمر يدل على حسن المأمور به. وإنما يدل على طلب الفعل واستدعائه من الوجه الذي بَيَّنَّا، وذلك يقتضي الوجوب1، وهذا هو الجواب المعوَّل عليه.
واحتج: بأن حَمْلَهُ على النَّدب أولى؛ لأنه أقل ما يقتضيه الأمر.
والجواب: أنه يبطل بلفظ العموم، فإنه لا يجب حمله على الخصوص وإن كان أقل ما يقتضيه.
وجواب آخر وهو: أن حمله على الوجوب أولى من وجهين:
أحدهما: أنه يتضمن الندب.
الثاني: أنه أسلم من الغرر والخطر.
واحتج بأن حمله على الوجوب يوجب العقوبة بنفس الأمر، ونفس الأمر لم يتضمن العقوبة.
والجواب: أنه يبطل بالنهي، فإن النهي يتضمن الكفَّ عن الشيء، وقد أوجبتم العقوبة، وكذلك قوله: أوجبت وفرضت يتضمن الأمر والعقوبة جميعًا.
وجواب آخر وهو: أنَّا لم نعاقبه بالأمر؛ لأن موجبه الإيجاب. وإنما عاقبناه بالتَّرك، والترك لم يتناوله الأمر.
__________
1 في الأصل: "الواجب".(1/246)
واحتج: بأن من يقول: هو على الوجوب، يقول: هو نهي عن ضده، وليس في الأمر نهي عن ضده.
والجواب: أنه إذا كان الأمر مضيقًا كان نهيًا عن ضده، ولكن من حيث المعنى لا من حيث النطق، وعلى أن هذا موجود في قوله: فرضت وأوجبت.
واحتج: بأن هذه اللفظة تَرِدُ، والمراد بها الوجوب بقرينة، فإذا كانت على الوجوب مع القرينة، فإذا وردت عَرِيَّةً عن القرينة وجب أن لا يكون على الوجوب.
والجواب: أنا لم نعلم بأنها على الوجوب بالقرينة، ولكن إذا كان معها قرينة تدل على الوجوب كانت تأكيدًا.
على أنه باطل بالنهي، فإنه لو ورد مع قرينة الوعيد، كان على الوجوب، ومع هذا إذا تجرد عنها كان على الوجوب.
وباطل بقوله: أوجبت وألزمت وفرضت، فإنها على الوجوب مع القرينة، وإذا تجردت كانت على الوجوب.
واحتج: بأنه لو كان على الوجوب، كان حمله على النَّدب نسخًا له، وإذا أفضى إلى أن يكون حمله على الندب نسخًا، بَطَلَ أن يكون مطلقه على الوجوب.
والجواب: أن النسخ هو الرفع، وحمله على الندب رفع لبعض ما تناوله اللفظ، وهو الإيجاب والاحتكام، دون الندب والاستحباب، والوجوب قد تضمن المندوب، فرفع الوجوب رفع لبعض ما تناوله، فلا يوجب نسخه. والعموم إذا دخله التخصيص لا يوجب ذلك نسخه؛ لأنه رفع بعض موجباته، كذلك ههنا.(1/247)
مسألة إذا لم يرد به الإيجاب
مدخل
...
مسألة: 1
في الأمر إذا لم يَرِد به الإيجاب [25/ ب] ، وإنما أريد به الندب:
فهو حقيقة في الندب، كما هو حقيقة في الإيجاب، نص عليه أحمد -رحمه الله- في رواية إبراهيم2، فقال: "آمين" أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم، "فإذا أمن القارئ فأمنوا" 3، فهو أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم.
__________
1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "23/ أ- 26/ أ"، والمسوَّدة "ص: 15".
2 في المسودة "ص: 15": "ابن إبراهيم"، وقد سبق للمؤلف في مسألة: المندوب مأمور به، "ص: 158" أن ذكره كما في المسوَّدة.
3 هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتكبير بلفظ: "إذا أمَّن الإمام فأمنوا" "1/ 87".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين بمثل لفظ البخاري "1/ 307".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام بلفظ: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" "1/ 214، 215".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل التأمين "2/ 30".
وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين "1/ 277".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب فضل التأمين "1/ 228".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 238".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام "1/ 179".
وراجع أيضًا: فيض القدير: 1/ 303"، ونصب الراية: "1/ 368".(1/248)
وكذلك نقل الميموني عنه: "إذا زنت الأَمَةُ الرَّابِعَةَ، كان عليه أن يبيعها1، وإلا كان تاركًا للأمر"2.
وكذلك نقل حنبل عنه: "يقاد المذبوح قودًا رفيقًا، وتوارى السكين ولا تظهر [إلا] عند الذبح، أمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم3".
__________
1 حديث الأمر بالبيع في الثالثة أخرجه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الحدود، باب إذا زنت الأَمَةُ "8/ 213"، وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنى "3/ 1328". عن أبي هريرة أيضًا.
كما أخرجه البخاري ومسلم في الموضعين السابقين عن أبي هريرة وزيد بن خالد، غير أن أحد رواة الحديث وهو: ابن شهاب قال: "لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة" أي الأمر بالبيع، وإن كان مسلم قد أخرجه عن أبي هريرة ولم يذكر شك ابن شهاب.
أما الأمر بالبيع في الرابعة فقد أخرجه أبو داود عن أبي هريرة في كتاب الحدود، باب في الأَمَةِ تزني ولم تحصن "2/ 470".
كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، "2/ 249، 376، 422، 494".
وأخرجه كذلك الطيالسي في كتاب الحدود، باب أمر السيد بإقامة الحد على رقيقه "1/ 300".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب حدِّ زنا الرقيق وأن للسيد أن يقيم الحد على رقيقه "2/ 293".
2 في المسودة "ص: 15": "وإلا كان تاركًا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم".
3 هذا إشارة إلى الحديث الذي رواه شداد بن أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل "3/ 1548" بلفظ: ثنتان حفظتهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُم فأحْسِنوا الذَّبْحَ، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، وليرحْ ذَبِيحَتَهُ".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب النهي أن تُصْبَر البهائم والرفق بالذبيحة "2/ 90".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة "4/ 23".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة "7/ 199".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الذبائح، باب: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح "2/ 1058".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الأضاحي، باب في حسن الذبحة "2/ 9".(1/249)
وقال أصحاب أبي حنيفة: الكرخي1 والرازي2: لا يكون أمرًا في الحقيقة وحقيقة الأمر ما أريد به الوجوب3.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم [من] قال مثل قول أصحاب أبي حنيفة.
__________
1 هو أبو الحسن عبيد الله بن حسين بن دلال الكرخي، شيخ الحنفية في وقته. كان عابدًا زاهدًا، له كتاب المختصر، والجامع الكبير، والجامع الصغير، ولد سنة: 260هـ، ومات سنة: 340هـ.
له ترجمة في: تاج التراجم في طبقات الحنفية" "ص: 39"، و"شذرات الذهب" "2/ 358".
2 هو أحمد بن علي الرازي أبو بكر، المعروف بالجصاص، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي في وقته، عرف بالزهد والورع، عرض عليه القضاء فامتنع منه. له كتاب: "أحكام القرآن"، و"الفصول في أصول الفقه" وغيرهما، وافته منيته سنة: 370هـ، وله من العمر "65" سنة.
3 هكذا صرَّح الرازي في كتابه: الفصول في أصول الفقه، الورقة "92/ ب". حيث قال: "وقال آخرون: حقيقة الأمر ما كان إيجابًا، وما عداه فليس بأمر على الحقيقة، وإن أجري عليه الاسم في حال كان مجازًا، وكذلك كان يقول أبو الحسن -رحمه الله- في ذلك، وهو القول الصحيح".(1/250)
دليلنا:
أن المندوب طاعة، فوجب أن يكون مأمورًا به كالواجب.(1/250)
يبين صحة هذا: أن الواجب لم يكن مأمورًا به لجنسه ونفسه؛ لأن هذا المعنى موجود في غيره من المباحات، ولم يكن مأمورًا به لكونه مرادًا للمطاع؛ لأنه قد يريد المباح وما يقع من المحظورات، وليس ذلك مأمورًا به، ولم يكن مأمورًا به لحصول الثواب؛ لأن المندوب إليه من فعل النوافل مثاب عليه أيضًا.
ولأنه لا يجوز أن يكون ذلك أمرًا لهذه العلة؛ لأنه قد ثبت أنه لو أمر بطاعاته من الواجبات ولم يضمن عليها ثوابًا- وَجَبَ أن يكون طاعة؛ لأن الثواب تفضل منه، وترغيب في طاعته، فلم يبق إلا أنه طاعة، لكونه مأمورًا به.
فإن قيل: إنما كان طاعة لكونه مطلوبًا مرغبًا فيه، لا لكونه مأمورًا به، والطلب والسؤال والترغيب مخالف للأمر، وهذا كما تقول: إن قول العبد لربه: اغفر لي وتجاوز عني، سؤال وليس بأمر.
قيل: لو كان طاعة لما ذكرته، لوجب أن يكون الله تعالى مطيعًا لعبده إذا فعل ما سأله ورغب إليه.
فإن قيل: إنما لم يكن مطيعًا لعبده؛ لأن الطاعة تعتبر فيها الرتبة، كما تعتبر في الأمر، فإذا سأل من1 دونه، يقال: أطاعه، ولا يقال لمن فوقه، كما يقول في الأمر.
قيل: فالرتبة ههنا موجودة، وهو استدعاء الفعل من الأعلى إلى الأدنى فيجب أن يكون أمرًا.
وأيضًا: فإن الطاعة والمعصية مقرونتان2 بالأمر، قال تعالى:
__________
1 في الأصل: "لمن".
2 في الأصل: "مقرونان".(1/251)
{أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} 1، وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} 2 وقال الشاعر وهو الحباب بن المنذر3 ليزيد بن المهلب4.
أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوبَ الإمارةِ نادما 5
__________
1 "93" سورة طه.
2 "50" سورة النحل.
3 الشاعر هو: حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر، فلعل ذلك تحريف من الناسخ، أو غفلة من المؤلف، كما سيأتي بيانه.
4 هو يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو خالد، أمير وابن أمير وقائد وابن قائد، اشتهر بالكرم، تولى إمرة خراسان في عهد عبد الملك، ولكنه عزله بمشورة الحجاج، ثم تولى لسليمان بن عبد الملك إمرة العراق، ثم خراسان ثم البصرة، فأقام بها حتى عزله عمر بن عبد العزيز وحبسه، وبعد موت عمر خرج من السجن، وغلب على البصرة، فدارت بينه وبين مسلمة حروب انتهت بمقتل يزيد سنة: 102هـ.
انظر ترجمته في الأعلام "9/ 246"، وشذرات الذهب "1/ 124"، ووفَيَات الأعيان "5/ 322- 352".
5 هذا البيت للشاعر حصين بن منذر، وليس الحباب بن المنذر، كما ذكر المؤلف، وليتضح المقام نذكر قصة البيت وهي باختصار:
أن يزيد بن المهلب كان أميرًا على خراسان، ولكن الحجاج لم يكن راضيًا عنه فكان يكتب إلى الخليفة عبد الملك في ذم يزيد، فرد عليه عبد الملك: سمِّ رجلا يكون بدله، فسمَّى قتيبة بن مسلم، فوافق عبد الملك على توليته.
وكره الحجاج أن يكتب ليزيد بخلعه، وبدلا من ذلك كتب إليه: أن خلف أخاك المفضل وأقبل، فاستشار يزيدُ الشاعرَ حصين، فقال له: أقم، واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الظن فيك، وإنما أوتيت من الحجاج، فلم يقبل المشورة إيثارًا للطاعة على المعصية، فخرج إلى الحجاج، فعزل الحجاج أخاه وولَّى قتيبة، فقال الشاعر البيت، وبعده:(1/252)
وقال آخر1:
ولو كنتُ ذا أمرٍ مُطاعٍ لما بدا ... تَوَانٍ2 من المأمور في حال أمرك3
ويقولون: فلان مطاع الأمر، ومعصيّ الأمر، وأمر فأطيع، وأمر فعصي، فلما ثبت أن المندوب [26/ أ] طاعة، علم أنه مأمور به.
وأيضًا: فإن الطاعات لما انقسمت إلى واجب وندب، وكذلك النهي لما انقسم إلى حظر وتنزيه، كذلك4 الأمر.
واحتج المخالف بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لولا أنْ أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كُلِّ صَلاةٍ" والسواك مستحب مندوب إليه، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يأمر به.
وقال لبريرة: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: "لا، إنما أنا شافع" وشفاعته تقتضي طاعته ندبًا واستحبابًا.
__________
=
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
وفَيَات الأعيان "5/ 322".
وقد رأيت الجلال في شرحه على "جمع الجوامع" "1/ 369" ذكر هذا البيت برواية أخرى هي:
أمرتُك أمْرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التَّوفيقِ قتلُ ابنِ هاشمِ
وابن هاشم هذا كان قد خرج على معاوية -رضي الله عنه- فأمسكه، فأشار عليه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بقتله، ولكن معاوية أطلقه، فخرج عليه مرة أخرى، فقال عمرو هذا البيت.
1 لم أقف على اسمه.
2 في الأصل: "تواني".
3 في الأصل: "أمركا".
4 في الأصل: "وكذلك" بإثبات الواو.(1/253)
والجواب: أن قوله: "لولا أن أشُقَّ على أمتي" لأمرت أمر إيجاب.
وكذلك قوله لبريرة لم آمر أمر إيجاب بدليل ما ذكرنا، يتبين صحة هذا، وأنه أراد به أمر إيجاب؛ أنه امتنع منه لأجل المشقة، والمشقة إنما تلحق فيما يلزم من فعله.
وكذلك قول بريرة: أبأمرك، تعني الأمر الواجب حتى فعله، وإن كانت كارهة؛ لأنها كانت مبغضة له.
واحتج بأن المسلمين أجمعوا على أن من ترك المستحب لا يجوز أن يقال له: خالف أمر الله تعالى وعصاه، كما لا يجوز أن يقال ذلك لمن فعل المباح.
والجواب: أنه لا يقال خالف أمر الله وعصاه على الإطلاق، لئلا يلتبس بالواجب، فأما مع التقييد فإنه يقول: خالف أمر الله تعالى المندوب.
يبين1 صحة هذا على أصلنا قول أحمد -رضي الله عنه- فيمن ترك الوتر: "هو رجل سوء". فذمَّه على ترك الوتر مع قوله: "إنه سنة وليس بواجب".
واحتج بأن أهل اللغة يفرقون بين أن يقول القائل لمن دونه: افعل كذا، أو لتفعل كذا، وبين أن يقول: أسألك أن تفعل كذا، وأرغب إليك أن تفعل كذا، ويسمون أحدهما أمرًا والآخر سؤالا وطلبًا، فدلَّ على أن المندوب إليه غير مأمور به.
والجواب: أن أهل اللغة يفرقون بينهما في باب الإيجاب، فيسمون أحدهما أمر إيجاب والآخر أمر ندب واستحباب، فأما أن يفرقوا 2 بينهما
__________
1 في الأصل "يتبين".
2 في الأصل: "يفرقون" بإثبات النون، وهو خطأ عربية لما هو معلوم.(1/254)
في كونه أمرًا فلا.
واحتج بأن أسماء الحقائق لا يجوز نفيها عن مسمياتها، وقد علمنا أن الندب يحسن أن ينتفي عنه اسم الأمر، فتقول: أنا غير مأمور أن أصلي الساعة ركعتين، وإن كان مندوبًا إليها، وأنا غير مأمور بصوم يوم الخميس، وإن كان مندوبًا إليه، ويحسن أن يقول: أسألك وأرغب إليك ولا آمرك به، وإذا ثبت هذا علمنا أن الندب ليس بمأمور به، ألا ترى أن الواجب لما كان حقيقة في الأمر لم يصح نفيه.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يصح نفيه على الإطلاق، وإنما تنفيه بقيد، وهو أن يقول: أنا غيرُ مأمور بصلاةِ ركعتين، وصيامِ يوم الخميس أمر إيجاب.
واحتج: بأنه قد ثبت من أصلنا وأصلكم: أن الأمر يجب حمله على الوجوب، ولو كان الندب أمرًا لم يجز حمله على غير الوجوب، ووجب التوقف فيه كما قال الأشعري1 [26/ ب] .
والجواب: أن إطلاقه يقتضي الوجوب، وإنما يُحْمَلُ على الندب بدلالة، وهذا لا يمتنع كونه أمرًا فيه. كما أن إطلاق العموم يقتضي الاستغراق، ويحمل على الخصوص بدلالة، ولا يمتنع كونه عمومًا في الأصل.
__________
1 هو علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن الأشعري، متكلم، فقيه، أصولي، ولد في البصرة سنة: 260هـ، كان على مذهب المعتزلة، ثم رجع عنه، وشدَّد النكير على معتنقيه، له كتب منها: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"مقالات الإسلاميين"، توفي ببغداد سنة: 324هـ.
له ترجمة في: الأعلام "5/ 69"، وتاريخ بغداد "11/ 346"، وتذكرة الحفاظ "3/ 821"، وشذرات الذهب "2/ 303"، والنجوم الزاهرة "3/ 259".(1/255)
فإن قيل: فلو كان أمرًا لاقتضى الفور إلى فعل المندوب كالأمر الواجب، قيل: هكذا نقول: هو على الفور.(1/256)
مسألة في ورود الأمر بعد الحظر
مدخل
...
مسألة 1: [في ورودِ الأمرِ بعدَ الحظرِ] :
صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة وإطلاق محظور، ولا يكون أمرًا، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 2، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض} 3، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُن} 4، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 5، "كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروها" ونحو ذلك.
وقد نص أحمد -رضي الله عنه- في رواية صالح وعبد الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 6، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 7، وقال8 "أكثر من سمعنا: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، كأنهم ذهبوا على أنه ليس بواجب، وليس هما على ظاهرهما"9.
__________
1 راجع هذه المسألة في المسودة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر "102، 103".
2 "2" سورة المائدة.
3 "10" سورة الجمعة.
4 "222" سورة البقرة.
5 "53" سورة الأحزاب.
وقد استدل المؤلف بهذه الآية: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ، وتعقبه المجد بأنها ليست فيما نحن فيه، ولم يعلِّل. قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأتِ بعد حظره والله أعلم.
6 "2" سورة المائدة.
7 "10" سورة الجمعة.
8 في المسوَّدة "ص: 17": "فقال".
9 تعقب المجدُ في المسودة "ص: 17" المؤلِّفَ في وجه استدلاله من كلام الإمام أحمد فقال: "هذا اللفظ يقتضي: أن ظاهرهما الوجوب، وأنه من المواضيع المعدولة عن الظاهر لدليل".(1/256)
وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه بمنزلة الأمر المبتدأ في أنه يقتضي الوجوب على قول من قال بالوجوب، والندب على قول من قال بالندب1.
__________
1 نقل المؤلف هذا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، تابعه في ذلك المجد في "المسودة" وابن قدامة في "روضة الناظر"، إلا أن الآمدي نقل عن أكثر الفقهاء والمتكلمين القول بالإباحة، كما في "الإحكام" "2/ 165".
والقول بالإباحة نص عليه الإمام الشافعي، ونقله ابن برهان في "الوجيز"عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، خلاف ما ذكره المؤلف هنا، والقول بالإباحة رجحه ابن الحاجب.
وهناك قول ثالث في المسألة هو: التوقف، وإليه ذهب إمام الحرمين، واختاره الغزالي، وتذبذب الآمدي بينه وبين القول بالإباحة، حيث قال: "فيجب التوقف، كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح".
وهناك قول رابع هو: إن وَرَدَ الأمر بصيغة: افعل، فهو للإباحة، وإن ورد بغيرها فهو للوجوب.
وهناك قول خامس هو: أن الأمر بعد الحظر، يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر إباحةً أو وجوبًا، وهو اختيار المجد ابن تيمية والكمال بن الهمام.
راجع في هذا: المسوَّدة "ص: 16- 20"، وروضة الناظر "102، 103"، والمنخول "130، 131" و"الإحكام" للآمدي "2/ 165، 166"، ونهاية السول "2/ 272- 274"، وتيسير التحرير "1/ 345- 347"، واللُّمع في أصول الفقه "ص: 8".(1/257)
دليلنا:
أن عرف العادة في خطاب الناس ومحاوراتهم إذا أُمِرُوا بعد الحظر كان على الإباحة، كقوله لغلامه: لا تدخل بستان فلان، ولا تحضر دعوته، ولا تغسل ثيابك، ثم قال له بعد ذلك: ادخل، واحضر، واغسل، كان(1/257)
رفعًا لما1 حظر عليه، ولم يكن أمرًا، كذلك ههنا.
وكذلك قول الرجل لضيفه: ادخل، ومن أنكر هذا فقد رَدَّ المشاهدات
والذي يبين هذا: أنه لا يحسن ضربه وتونيبه2 عند مخالفة ذلك في عرف الناس وعاداتهم.
فإن امتنع من تسليم هذا، كشفنا به إذا نهاه عن فعل شيء فاستأذنه العبد في فعله، فقال له: افعل، إن هذا لا يقتضي الوجوب بلا خلاف.
وقد قيل: إن السيد إنما يحظر على عبده ما تميل نفسه إليه، لا ما تنفر نفسه عنه؛ لأن الحكيم لا يوجب على عبده ما [لا تميل] نفسه إليه، فعلمنا أنه إباحة لا إيجاب.
فإن قيل: العادة غير هذا، ألا ترى أن يقول لعبده: لا تقتل زيدًا، فيكون حظرًا، فإذا قال: اقتله، بعد هذا كان أمرًا على الوجوب.
قيل: إن الأصل حظرُ قتلِ زيدٍ، فقوله: لا تقتل زيدًا، تأكيد للحظر المتقدم، لا لأنه مستفاد به حظر، وفي مسألتنا حظر وقع بالنهي، ثم رفع النهي، فيجب أن يعود إلى ما كان إليه قبله3.
وأيضًا: فإن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بعد [27/ أ] الحظر اقتضى الإباحة نحو ما ذكرناه من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
__________
1 في الأصل: "فيما".
2 هكذا في الأصل: "تونيبه"، ولعل الصواب: "تأنيبه".
3 كلام المؤلف هذا يشعر بأن هناك فرقا بين أن يكون الآمر هو الناهي، وبين أن يكون الآمر هو غير الناهي، بينا كلامه في أول المسألة يقتضي التسوية بينهما ومحل النزاع هو القسم الأول، وقد أشار إلى ذلك المجد في المسودة ص"19".(1/258)
فَاصْطَادُوا} 1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} 2 {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 3 "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، "وعن ادِّخار لحوم الأضاحي ألا فادَّخروا" و"وزوروا" فيجب أن يحمل ذلك على مقتضى عرف الشرع، وهو الإباحة كما يحمل مطلق الأمر من الأسماء على عرف الشرع، في الصلاة والزكاة والصيام والحج4.
فإن قيل: تلك المواضع حملناها على الإباحة بدليل، كما حملنا ما لم يرد بعد الحظر من أوامر القرآن على غير الواجب بدليل.
قيل: ليس ههنا دليل دلَّ على إباحة ذلك سوى هذه الألفاظ، ولا يجوز أن يقال: الإجماع هو الدليل؛ لأن الإجماع حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- والإباحة مستفادة بهذه الألفاظ في وقته.
فإن قيل: عرف الشرع في هذا مختلف، ففيه ما يقتضي الوجوب، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 5، فأمر بقتل المشركين بعد الحظر، وكان على الوجوب، وكذلك قوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} 6.
__________
1 "2" سورة المائدة.
2 "10" سورة الجمعة.
3 "222" سورة البقرة.
4 من الأمثلة التي ذكرها المؤلف يتضح أن النهي على قسمين:
القسم الأول: النهي الْمُغَيَّى بِغَايَة كالإحلال في الآية الأولى، أو قضاء الصلاة كما في الآية الثانية، أو الطهر كما في الآية الثالثة، فهذا ليس بنسخ؛ لأن الدليل المنسوخ لا بد أن يكون مؤبدًا في أوهام المخاطبين، كما في حديث زيارة القبور، وحديث ادِّخار لحوم الأضاحي، وقد أشار إلى ذلك المجد في المسوَّدة "19".
5 "5" سورة التوبة.
6 "196" سورة البقرة.(1/259)
فجعل ذلك غاية للحظر، وأمر به بعد الغاية، فكان واجبًا؛ لأن الحلق في وقت النسك واجب.
قيل: لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بل استفدنا [هـ] بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} 1، وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر2.
وكذلك الحلاق استفدنا وجوبه من موضع آخر، من قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم} 3، ومن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: "خذوا عني مناسِكَكُم".
إنه قد قيل: إن المراد بهذه الآية حلق المحصر. وذلك غير واجب عند [نا] .
وأيضًا فإن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} 4، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 5، بمنزلة تعليق الأمر بالغاية، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 6، ونحو ذلك، وتعليق الأمر بالغاية يفيد زوال الحكم عند انقضائها، كذلك تعليق
__________
1 "29" سورة التوبة.
2 جواب المؤلف هذا تعقبه المجد في المسوَّدة "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف، بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك.
3 "29" سورة الحج.
4 "10" سورة الجمعة.
5 "2" سورة المائدة.
6 "187" سورة البقرة.(1/260)
حظر الاصطياد والانتشار في الأرض بفعل [غاية] 1 الإحرام والاشتغال بالصلاة يفيد زوال الحظر عند تقضي غاية الأمر.
فإن قيل تعليق الأمر بالحظر أن يقول: امتنعوا من الفعل ما بقي الحظر، فإذا أزلته فافعلوه، هذا 2 صورة الغاية وتعليق الأمر بالحظر.
قيل: تعليق الأمر بالحظر، يفيد ما ذكرته، وما ذكرناه أيضًا، كما كان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3، بمثابة قوله: فإذا جاء الليل أزلته.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكُمْ بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُم" ولم يفرِّق.
والجواب: أنا لا نسلم أن هذا أمر، وإنما هو صيغة الأمر، فأما أن يكون أمرًا فلا [27/ ب] 5.
واحتج: بأن صيغة الأمر قد وجدت متجردة، فوجب أن يحمل على الوجوب، كما لو لم يكن حظر سابق.
والجواب: أنا لا نسلم أنها متجردة، بل نقول: تقدَّم الحظر قرينة
__________
1 هذه الكلمة زادها الناسخ في الهامش، وأشار أنها من صنعه.
2 هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "هذه".
3 "187" البقرة، والآية في الأصل: "ثم أتموا الصلاة.." وهو خطأ.
4 "63" سورة النور.
5 كلام المؤلف هذا يفيد أن هناك فرقًا بين الأمر إذا جاء بصيغة: افعل، وبَيَّنَهُ إذا جاء بلفظه صراحة، فالأول هو محل النزاع، أما الثاني: فهو للوجوب، وقد صرَّح المجد في المسوَّدة بأن ذلك هو المذهب حيث قال في المسوَّدة "ص: 20": "وعندي: أن هذا التفصيل هو كل المذهب، وكلام القاضي وغيره يدل عليه..".(1/261)
توجب صرفه عن الوجوب.
فإن قيل: الحظر لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن لفظه يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء محرمًا، ثم يجعل واجبًا، فينسخ التحريم بالإيجاب.
قيل: ليس نقول: إن لفظ الحظر أفاد الإباحة، وإنما حصلت الإباحة به وبما بعده من صيغة الأمر، كما إذا استأذنه عبده في فعل شيء، فقال له: افعل، حملناه على الإباحة بالأمرين جميعًا: الإذن والاستئذان.
واحتج بأن النهي إذا ورد بعد الأمر اقتضى الحظر، كما لو وَرَدَ ابتداءً كذلك الأمر إذا ورد بعد الحظر، وجب حمله على الوجوب كما لو ورد ابتداءً.
والجواب: أن لفظة النهي المطلقة إذا وردت بعد الأمر، يحتمل أن نقول فيها ما نقول في الأمر بعد الحظر، وأنها تقتضي التخيير دون التحريم، لا أنها تحتمل الندب والحظر، وتحتمل أن نفرق بينهما، ونقول في النهي بعد الأمر يقتضي الحظر، وفي الأمر بعد الحظر لا يقتضي؛ لأن النهي آكد، ولهذا قال مخالفونا: إن النهي يقتضي التكرار، والأمر المطلق لا يقتضي.
ولأن الأمر أحد الطرق إلى الإباحة، فلهذا جاز أن يرد، ويراد به الإباحة، وليس النهي طريقًا إلى الإباحة، فلم يَجُزْ أن يُرَادَ به الإباحة1.
واحتج: بأن الأمر إذا كان مقتضاه الإيجاب، فوروده بعد الحظر لا يؤثر في ذلك، ألا ترى أن وروده بعد الحظر، العقل لا يمنع وجوبه. يبين ذلك: أن فعل الصلاة والصوم من جهة العقل محظور، ثم ورد
__________
1 في الأصل: "إباحة".(1/262)
الأمر بهما، لم يمنع من وجوبهما، كذلك الحظر من جهة السمع لا يمنع أن يكون الأمر الوارد بعده على الوجوب.
والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يحظر شيئًا وعلى أن من قال العقل يحظر، فنقول: إذا ورد الشرع بإباحة شيء، ثبت أن العقل لم يحظره؛ لأن الشرع لا يَرِدُ بإباحة ما كان قبيحًا في العقل، فورود الشرع بإباحة ذلك منع أن يكون قبيحًا محرمًا، وليس كذلك ههنا، فإن ورود الشرع بإباحة الصيد لم يمنع حصول تحريم سابق، فبان الفرق بينهما.
واحتج بأن الأمر فيما عدا الواجب لا يكون أمرًا على الحقيقة، فلما ثبت أن هذا أمر وجب أن يكون على الوجوب.
والجواب: أن الأمر فيما عدا الواجب يكون أمرًا على الحقيقة عندنا، وهو الندب، وقد بَيَّنَّا ذلك.
واحتج بأن الأمر بالمباح لا يحسن؛ لكونه عبثًا؛ لأن المأمور لا يستحق عليه الثواب إذا فعله، فلا يجوز أن يكون هذا الأمر مقتضيًا للإباحة.
والجواب: أن هذا ليس بأمر [28/ أ] عندنا، وإنما صيغته صيغة الأمر، ومن سمَّاه أمرًا فإنما يسميه على طريق المجاز.
واحتج: بأن هذا لا يخرج على قولكم؛ لأن عندكم أن أصل الأشياء على الحظر، فيقتضي أن يكون سائر الأوامر مبيحة لا يثبت بشيء منها إيجاب؛ لأنها كلها ترد بعد حظر.
والجواب: أن المواضع التي حملناها على الوجوب لدليل دلَّ عليها اقتضت الوجوب.(1/263)
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار
مدخل
...
فصل: [الأمر المعلق على شرط، هل يقتضي التكرار] ؟:
والدلالة على أن الأمر المعلق بالشرط جارٍ مجرى الأمر المطلق هو: أن الوجوب مستفاد من اللفظ دون الشرط، وإنما يؤثر الشرط في منع تقديم المأمور به عليه، واعتبار وجوده في وقوع الفعل عن الواجب. وإذا كان الحكم مستفادًا من اللفظ، والمذكور عقيب الشرط كالمذكور ابتداءً من غير شرط، ثم ثبت أن المعلق بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق.
وأيضًا: فإن ما لا يقتضي التَّكرار، يستوي فيه المطلق والمعلق بالشرط، بدليل الأوامر فيما بينَّا، ألا ترى أنه إذا وكَّلَ غيره بطلاق امرأته إن خرجت من الدار، لم يجزْ أن يطلقها إلا مرة واحدة، عند أول خروج يوجد منها، ولو أطلق التوكيل فكذلك. وكذلك لو أمر غلامه أن يشتري طعامًا إذا دخل السوق، فاشترى مرة واحدة، لم يجزْ له أن يشتري كلما دخل السوق، وكذلك لو أطلق. وكذلك الندب الموجب بالشرط، والمطلق لا يوجب التكرار، وهو إذا قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بدرهم،(1/275)
فشفي مريضه، لم يتكرر، ولو أطلق فقال: لله عليَّ صدقة درهم، لم يتكرر، وما اقتضى التكرار لا فرق فيه بين المطلق والمعلق بشرط وهو النهي والاعتقاد، فإنه لا فرق بين أن يقول: لا تكلم زيدًا عند دخولك الدار، وبين أن يقول: لا تكلم زيدًا، في أن جميع ذلك يقتضي التكرار، وكذلك لا فرق بين أن يقول: إذا زالت الشمس فصلِّ، وبين أن يقول: صلِّ في أن الاعتقاد على الدوام، فلما كان الأمر المعلق منه بالشرط يقتضي التكرار، كذلك المطلق.
واحتج المخالف بأن قوله: صلِّ ركعتين عند الزوال، لما تكرر الزمان الذي تكرر فيه الأمر كان ما قرن يجب أن يتكرر، ويفارق هذا المطلق.
والجواب: أن المطلق يقتضي تكرار الزمان حكمًا، كما يقتضي تكراره لفظًا.
واحتج بأن الأوامر المعلقة بشرط أو صفة في كتاب الله تعالى تقتضي التَّكرار كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 2.
والجواب: أن الأوامر المطلقة بهذه المثابة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3.
واحتج بأن الشرط كالعلة، والحكم المعلق بالعلة يتكرر بتكرار العلة، كذلك المعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط.
والجواب: أن الشرط ليس كالعلة؛ لأن العلة توجب الحكم، والشرط [31/ أ] لا يوجبه، ومثل الشرط لا يكون شرطًا، ومثل العلة لا يكون علة،
__________
1 "2" سورة النور.
2 "6" سورة المائدة.
3 "43" سورة البقرة.(1/276)
يبين هذا: أن ما كان شرطًا لطلاق أو نذر لا يكون شرطًا لطلاق آخر ونذر آخر؛ ولأن الشرط لا يجب الحكم لوجوده، وإنما يجب عدمه لعدمه، والعلة يجب وجود1 الحكم لوجودها، ويجب عدمه لعدمها، ألا ترى أن الحياة شرط في العلم، فلا يجب لوجود الجسم حيًّا أن يكون عالِمًا. ويجب عدم العلم لعدم الحياة. والطهارة شرط في صحة الصلاة لوجود الطهارة، ويجب عدمها لعدم الطهارة، وإذا كان وجود الشرط لا يوجب المشروط، وقد وجب التكرار، كذلك عدمه؛ لأن الوجوب يتعلق بالأمر لا بالشرط.
__________
1 في الأصل: "وجوب".(1/277)
فصل:
والدلالة على أنه لا يوجب الوقف أن قوله: افعل، تقديره: أوقع فعلا، فوجب أن يحمل على الإمكان على ما نقول نحن، أو على المرة الواحدة كما يقوله غيرنا، فمتى حملناه على الوقف أسقطنا فائدة الأمر.
واحتج المخالف بأنه لما جاز أن يراد بهذه اللفظة التكرار، ويراد بها المرة الواحدة، لم يكن لِلَّفظ ظاهر1.
والجواب: أن المرة الواحدة معلومة قطعًا، فكان يجب الإتيان بها عليه، ويقف فيما زاد عليه، وعلى أن احتماله لما ليس بظاهر منه لا يضر حال الإطلاق، ألا ترى أن اسم الدابة حقيقة لما يدب على وجه الأرض وإن كان حال إطلاق اللفظة لا يحمل عليه، كذلك ههنا، ويأتي الكلام في هذا الفصل مستوفى في المسألة التي بعدها.
__________
1 راجع في هذه المسألة المسوَّدة "ص: 23"، والتمهيد في أصول الفقه، الورقة "28/ ب- 29/ أ".(1/277)
إذا تكرر لفظ الأمر فهل يتقضي التكرار
...
فصل: [إذا تكرر لفظ الأمر فهل يقتضي التَّكرار] :
واختلف القائلون في أن الأمر لا يقتضي التكرار في لفظ الأمر إذا تكرر، هل يقتضي التكرار1؟
فقال أصحاب أبي حنيفة: إن ذكر في الثاني ما يوجب تعريف الأول، مثل أن يقول: صلُّوا ركعتين، ثم يقول: صلُّوا الصلاة، فلا يقتضي ذلك إلا ذلك الأول2، وإن كان الثاني منكرًا كان أمرًا آخر غير الأول3.
وقد ذكر أبو حنيفة من أقر لرجل بعشرة، وكرر، أن عليه بكل إقرار مقتضاه.
واختلف أصحاب الشافعي.
__________
1 محل النزاع في هذه المسألة هو: ما إذا تعاقب أمران غير متعاطفين بمتماثلين، ولا مانع للتكرار.
انظر: تيسير التحرير "1/ 361، 362"، والتقرير والتحبير "1/ 319، 320"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/ 389، 390".
2 لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأول.
وهناك قيدان في المسألة لم يذكرهما المؤلف هما:
1 أن يكون المأمور به قابلا للتكرار، فإن كان غير قابل، نحو: "صم اليوم، صم اليوم" فإن الثاني مؤكد للأول بغير خلاف.
2 إذا دلَّت العادة على التأكيد كقولك: "اسقني ماءً، اسقني ماءً" فإن العادة تقضي أن الحاجة تنقضي بالأمر الأول.
راجع: المراجع السابقة، بالإضافة إلى المسودة "ص: 24".
3 الحقيقة: أن الحنفية لهم ثلاثة آراء في المسألة، مثلهم في ذلك مثل الشافعية.
راجع في هذا: التقرير والتحبير "1/ 319، 320"، وتيسير التحرير "1/ 361، 362"، وفواتح الرحموت "1/ 391، 392".(1/278)
فمنهم من قال1: يكون أمرًا ثانيًا2.
ومنهم من قال: هو توكيد الأول.
ومنهم من قال: هو [على] الوقف3.
فمن قال: إنه أمر ثانٍ4، فوجهه: أنه لما تكرر المأمور به، كان الظاهر أنه أمر آخر، ألا ترى أنه لو أراد الأول لذكر ما يقتضي رجوعه إليه، والحكم يتعلق بظاهر الأمر، وليس كذلك إذا عرف من الثاني؛ لأنه لا معهود غير الأول، فوجب أن يرد إليه، مثل أن يكون بين المتخاطبين عهد في رجل، فإذا قال أحدهما: كان الرجل كذا، عرف منه المعهود5.
ومن قال: هو توكيد للأول، قال: الأمر الثاني يحتمل أن يراد به إيجاب مستأنف، ويحتمل أن يراد به تأكيد الأول، فلا يجوز تعليق الإيجاب بالشك، ومن قال بالوقف [31/ ب] استدل بهذا، وقال: يحتمل الإيجاب، ويحتمل التأكيد، فوجب الوقف فيه.
ولا حاجة بنا إلى الكلام في هذا الفصل؛ لأن عندنا الأمر الأول اقتضى
__________
1 وبهذا قال القاضي عبد الجبار وأبو إسحاق الفيروزآبادي والآمدي، وعزاه ابن عقيل إلى أبي بكر الباقلاني. وقد قال في المسوَّدة: إن هذا القول أشبه بمذهبنا، أي المذهب الحنبلي.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172"، والمسودة "ص: 23".
2 في الأصل: "ثابتًا".
3 وعزاه ابن عقيل إلى أبي الحسن الأشعري كما في المسودة "ص: 23".
4 في الأصل: "ثاني".
5 وقالوا أيضًا: حمله على أمر ثانٍ تأسيس، وهو أولى من التأكيد؛ لأنه الأصل لما فيه من وضع الكلام لفائدة.(1/279)
التكرار، والثاني لم يُفِدْ غير ما أفاد الأول1، ولكن ذكرناه؛ لنعرف الاختلاف على مذهب غيرنا2.
__________
1 هكذا اختار هنا، ولكنه في كتاب "الروايتين" و"مقدمة المجرد" اختار أنه أمر ثانٍ، وليس مؤكدًا. انظر: المسودة "ص: 23".
2 تكرر الأمر إما أن يكون بعاطف أولا، أما في حالة عدم العطف، فقد تكلم عنها المؤلف. أما في حالة العطف، فلم يتكلم عنها، ويمكن إيجاز القول فيها في الصور الآتية:
1 إذا كان أحد الأمرين معطوفًا على الآخر، ولكن العقل يمنع التكرار، نحو قولك: "اقتل زيدًا، واقتل زيدًا"؛ لأن قتل من قتل مستحيل.
2 إذا كان أحدهما معطوفًا على الآخر، ولكن الشرع يمنع التكرار، نحو قولك: "اعتق عبدك، واعتق عبدك".
3 إذا كان العطف متراخيًا، فإن الأمر الثاني غير الأول باتفاق.
4 إذا كان المأمور به مختلفًا، فإن الأمر الثاني غير الأول باتفاق، نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصم يومين".
5 أن يتماثل المأمور به، ولكن غير قابل للتكرار، كقولك: "صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة"، فالأمر الثاني للتأكيد اتفاقًا.
6 إذا كان المأمور به، قابلا للتكرار، والعادة لا تمنع منه، وليس الثاني معرفًا نحو قولك: "صلِّ ركعتين، وصلِّ ركعتين"، فقد اختلف فيها: فقال الآمدي: حكمها حكم ما لم يكن حرف عطف.
أما الحنفية: فالوجه عندهم: أنه أمر ثانٍ.
وقيل: الثاني عين الأول: هذا إذا لم يوجد مرجح للتأكيد، فإن وجد عمل به، وعند تعادل المرجحات يعمل بمرجح من خارج، وإلا فالوقف.
وقيل: إنه أمر ثانٍ، لما فيه من الاحتياط. ورد بأن الاحتياط قد يكون في التأكيد.
7 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع منه، كقولك: "اسقني ماء، اسقني ماء"، فذهب الآمدي: أن حكمه كما لو لم يكن حرف عطف -أي مقتضى الثاني غير مقتضى الأول- وذلك أن منع العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو التكرار.
أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه الحالة.
العادة للتكرار عارضه ظاهر حروف العطف الذي هو التكرار.
أما في المسودة فقد حكم أنه يفيد التكرار في مثل هذه الحالة.(1/280)
مسألة الأمر المطلق يقتضي التكرار
مدخل
...
مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي التكرار] :
الأمر المطلق يقتضي التكرار على الإمكان، سواء كان مقيدًا بوقت يتكرر مثل قوله: إذا زالت الشمس فصلِّ، أو كان غير مقيد، مثل قوله: صلِّ2.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله3: "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} 4، فإن ظاهرها يدل على أنه إذا قام فعليه ما وصف، فلما كان يوم الفتح صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضوء واحد 5". فقد نصَّ -رضي الله عنه- على أن الظاهر دلَّ على أن كل قائم عليه
__________
1 راجع في هذه المسألة: "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول، الورقة "260-266"، و"التمهيد في أصول الفقه"، الورقة "26- 28"، و"المسوَّدة" "ص: 20-24"، و"روضة الناظر" "ص: 103-105" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 328، 329" من الملحق.
2 هذا القول رواية عن الإمام أحمد وعليها أكثر أصحابه، وهو اختيار القاضي هنا، ولكن أبا البقاء الفتوحي حكى عنه -أي عن القاضي- الاختلاف في الاختيار، بينا جزم ابن قدامة بنسبة هذا القول إليه.
وهناك رواية أخرى، وهي: لا يقتضي التكرار إلا بقرينة، وعزا ابن مفلح هذا القول إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو اختيار أبي الخطاب كما في كتابه التمهيد، الورقة "26/ أ" وإليه مال ابن قدامة في "روضة الناظر"، راجع: المسودة وروضة الناظر في المواضع السابقة.
3 في المسودة "ص: 21" من رواية صالح.
4 "6" سورة المائدة.
5 هذا الحديث رواه بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد "1/ 232".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 89"، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد "1/ 39" وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة "1/ 73".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة "1/ 54".(1/264)
الوضوء حتى خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله.
خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يقتضي التَّكرار1. وخلافًا لبعض الشافعية في قولهم: إن كان معلقًا بشرط اقتضى التَّكرار، فأما المطلق فلا يقتضي التَّكرار2.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: هو على الوقف3.
__________
1 كون الأمر لا يقتضي التَّكرار رواية عن الإمام أحمد، وقد اختارها أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي.
وينبغي أن يعلم أن أصحاب هذا القول اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار.
الثاني: أنه للمرة وغير محتمل للتكرار.
الثالث: أنه لطلب ماهية الفعل، لا بقيد مرة ولا بقيد تكرار.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 143"، و"روضة الناظر" "103- 105"، و"المنخول" "ص: 108".
2 وقد اختار هذا القول المجد ابن تيمية، حيث قال بعد حكاية هذا القول: "وهو أصح عندي" انظر: "المسودة" "ص: 20".
3 وإلى هذا القول مال إمام الحرمين، كما نقله الآمدي في "الإحكام" "2/ 143"، وقد اختلف في معنى الوقف هنا:
فقيل: لا يعلم أوضع الأمر هنا للمرة، أو للتكرار، أو لمطلق الفعل.
وقيل: لا يعلم مراد المتكلم؛ لاشتراك الأمر بين هذه الثلاثة. انظر: "إرشاد الفحول" "ص: 98".(1/265)
دليلنا:
أن الصحابة عقلت من ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 أنه يقتضي التكرار، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جمع عام الفتح بطهارة واحدة بين صلوات، قال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فعقلت من إطلاق الآية التكرار، فلما خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وجمع بطهارة واحدة سألته عن ذلك واستكشفت عن حاله.
وأيضًا: فإن الأمر كالنهي في باب أن النهي أفاد وجوب ترك الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله، ثم كان النهي أفاد وجوب الترك على الاتصال أبدًا، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الإيجاب على الاتصال أبدًا.
وامتنع أبو بكر الباقلاني من تسليم هذا، وقال: يقتضي الكفَّ عن مرة واحدة قدر ما إذا وقع منه من الكف.
قيل: قد [ر] النهي كالأمر سواء، وهذا قول مخالف الإجماع؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن النهي يقتضي التكرار2، وفرقوا بين الأمر والنهي بفروق، ونحن نذكرها، وما خالف الإجماع لا يلتفت إليه.
__________
1 "6" سورة المائدة.
2 القول بأن النهي يقتضي التكرار مجمع عليه، حكاه ابن برهان أيضًا، كما حكى الآمدي أنه اتفاق العقلاء إلا من شذَّ.
والواقع أن حكاية الإجماع غير صحيحة، فقد خالف أبو بكر الباقلاني كما ذكر المؤلف، وقال صاحب المحصول: إن القول بعدم التكرار هو المختار، وقال صاحب الحاصل: إنه الحق.
وقد بَيَّنَ الشيخ بخيت أن الخلاف لفظي، وأن النهي يكون للدوام، مدة العمر في المطلق، ومدة القيد في المقيد. راجع: الإحكام للآمدي: "2/ 180"، ونهاية السول شرح منهاج الأصول مع حاشية الشيخ بخيت "2/ 294- 296".(1/266)
فإن قيل: كلامنا في موجب اللغة، وهذا إثبات لموجب اللغة بالقياس، واللغة لا تقاس.
قيل: يجوز إثبات اللغة بالقياس. وقد ذكر هذا في باب القياس، وأنه يجوز إثبات الأسماء قياسًا.
فإن قيل: البر في القسم يقتضي1 التَّكرار، وهو قوله: والله لا دخلت هذه الدار. فأمسك عن [28/ ب] الدخول ساعة، ثم دخل، حنث. ومن الفعل يقتضي فعل مرة، فإنه إذا قال: والله لأدخلن هذه الدار. فدخلها مرة بَرَّ.
قيل: البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
فإن قيل: الشرع ورد باعتبار موجب اللفظ في اللغة فيما يتعلق به من البر والحنث، فإذا جعلناه بارًّا في الشرع؛ فلأنه فعل ما أوجبه اللفظ من طريق اللغة، وإذا جعلناه حانثًا في الشرع، فلأنه خالف ما أوجبه لفظه في اللغة.
قيل: لم يرد باعتبار موجب اللغة بدليل أن الله تعالى لو حرم أكل الرءوس، حمل ذلك على مقتضى اللغة، فيحرم عليه كل ما يسمى رأسًا، ولو قال: والله لا أكلت الرءوس، تناول رءوس الأنعام عندهم.
فإن قيل الترك في الخبر يقتضي التكرار، وهو قولهم: "فلان ما صلى"، وفي الفعل يقتضي مرة، وهو قولهم: "فلان صلى" يقتضي صلاة واحدة.
__________
1 في الأصل: "بمقتضى".(1/267)
قيل: الخبر في الفعل إنما اقتضى فعل مرة واحدة؛ لأنه إخبار عن إيقاع فعل في زمان قد شاهده فيه، وهذا لا صيغة له تقتضي العموم، نظيره أن ترد لفظة الأمر قضية في عين، فلا تقتضي الصيغة العموم.
فإن قيل: لو قال: افعل مرة، لم يقتضِ التكرار.
قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: يقتضي الكفَّ مرة، فإذا فعل مرة سقط النهي؛ لأن المنهي عنه قد يكون قبيحًا في وقت، حسنًا في وقت آخر، كالأمر يكون حسنًا في وقت، قبيحًا في وقت آخر. يبين صحة هذا: أنه لو قال لعبده: لا تدخل الدار، ولا تكلم زيدًا إذا قام عمرو، اقتضى ذلك الكف عند وجود الشرط، كالامر المعلق بشرط يقتضي وجوده عند وجود الشرط، ولو أطلق النهي اقتضى الكفّ على الدوام كالأمر.
فإن قيل: النهي يقتضي قبح المنهي عنه، فأي وقت فعله كان فاعلا للقبيح، وفعل القبيح يستوجب عليه الذَّم، والأمر يقتضي حسن المأمور به وإيجاده، فإذا وجد كان مؤتمرًا، وإن حصل تاركًا لما عداه.
قيل: قولك: "إن النهي يقتضي قبح المنهي عنه" غير مسلم؛ لأن المنهي عنه قد يكون ندبًا وفضلا، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما تقدم، وقد يكون محرمًا كالأمر يكون ندبًا، ويكون موجبًا.
وقوله: "إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، فلم يجب تكراره"، غلط؛ لأن الحسن لا يجب فعله متكررًا أو مرة واحدة من حدث كان حسنًا؛ لأن من الحسن ما يجب الدوام على فعله، كالصلاة، ومنه ما لا يجب كالحج.
فإن قيل: حمل الأمر على الدوام فيه مشقة وتكليف لما لا يطاق، وانقطاع عن المصالح، وترك العبادات والنسل، وليس في حمل النهي على التَّكرار مشقة، وتكليف لما لا يطاق وانقطاع عن المصالح.(1/268)
قيل: هذا غلط؛ لأننا نقول بمقتضى التكرار على الإمكان [29/ أ] والوسع، على وجه لا يفضي إلى الانقطاع عن الفروض والمصالح. وعندهم يجب فعل مرة واحدة، وإن كان في الطوق والوُسْعِ أكثر منها. ثم يبطل به إذا قال: صلِّ على الدوام، لزمه التكرار وإن أفضى إلى ما ذكرت.
وأيضًا: فإن الأمر يتضمن ثلاثة أشياء: وجوب الفعل، ووجوب الاعتقاد لوجوبه، ووجوب العزم على فعله. وقد ثبت أن الاعتقاد والعزم يجب تكررهما كذلك الفعل.
وحكى الجرجاني1 عن بعض شيوخه: أنه لا يلزم تكرار الاعتقاد وإنما عليه اعتقاد حكمه والبقاء على ذلك من غير أن يحدث ما ينافيه، وبناه على الفعل، وأنه لا يلزمه تكراره، وشبهه بالإيمان، وأن من اعتقده استحق المداومة عليه، وأن لا يحدث ما ينافيه، وإن لم يكرره.
وهذا القائل إن لم يسلِّم الاعتقاد، فقد سلم وجوب دوام البقاء على الاعتقاد، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه لو أبيح له ترك اعتقاد وجوب ما كلف وجوبه، لكان قد أبيح له ترك العلم بصدق الله تعالى في أخباره، وإذا ثبت وجوب المدوامة على الاعتقاد وجب المداومة على الفعل؛ لتضمن الأمر لكل واحد منهما2.
__________
1 هو محمد بن يحيى بن مهدي، أبو عبد الله الجرجاني، حنفي المذهب، جرجاني الأصل، بغدادي السكنى، كان يدرس بمسجد: قطيعة الربيع، ببغداد. له كتابان: "ترجيح مذهب أبي حنيفة"، و"القول المنصور في زيارة القبور". مات سنة: 397هـ.
له ترجمة في: الأعلام "8/ 5"، وتاريخ بغداد "3/ 433"، والجواهر المضية في طبقات الحنفية "2/ 143"، وطبقات الفقهاء لطاش كبرى زاده "ص: 72"، والفوائد البهية في تراجم الحنفية "ص: 202".
2 في الأصل: "منها".(1/269)
فإن قيل: هذا يبطل بالأمر المقيد بفعل مرة واحدة؛ لأنه إذا قال: حجوا في العمر مرة واحدة، وجب العزم والاعتقاد على التكرار، ووجوب الفعل مرة.
قيل: إنما كان الاعتقاد في الأمر المقيد بفعل مرة على التكرار؛ لأن الأمر بالاعتقاد فيه على الإطلاق، فاقتضى التكرار، لإطلاق الأمر فيه، وهو في الفعل مقيد بمرة فلم يقتضِ التَّكرار، فنظيره أن يقول: اعتقد وجوبه مرة، فلا يقتضي التكرار.
فإن قيل: المأمور1 إذا كان عالِمًا بما أمر به ذاكرًا له، لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم، ولا يخلو من أن يعتقد وجوبه أو غير وجوبه، أو يعزم على فعله أو تركه، ولا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي وجوب الفعل، فإن كان كذلك، وجب اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل ما دام الفعل واجبًا عليه، وليس كذلك الفعل، فإن تركه جائز إلى أن يفعله، فدلَّ على الفرق بينهما.
قيل: قولك: "إنه لا يجوز اعتقاد غير الوجوب؛ لأن اللفظ يقتضي الوجوب" لا يصح؛ لأنه كان يجب أن يعتقده مرة، ثم يقطع الاعتقاد، ولا يكون قطع الاعتقاد في الثاني مانعًا من الأول؛ لأن الأول قد صح ومضى، فاعتقاد غيره لا يمنعه طريان النسخ في الثاني، [كما] لا يمنع صحة ما تقدم.
وقولك: "إن ترك الفعل لا يمنع صحة ما تقدم"، فهذا لا يمنع التكرار كالنهي، فإن مخالفته في الثاني لا تمنع صحة ما يدوم من الترك، ومع هذا تكرر.
وأيضًا فإن الواحد من أهل اللغة إذا قال لعبده: احفظ هذا الفرس،
__________
1 في الأصل: "المأمور به".(1/270)
[29/ ب] فحفظه ساعة ثم تلاه، استحسن ذمه وتوبيخه، وكذلك المودع فدلَّ على أن الأمر يقتضي التكرار. وأيضًا: فإنه لما لم يتعين بزمان، وجب حمله على العموم في الأزمان في وجوب الفعل، كما أن لفظ العموم يشمل1 جميع الأعيان؛ لأنه لم يخص ببعضها، كذلك الأزمان.
واحتج المخالف: بأن الطاعة والمخالفة في الأمر والنهي بمنزلة البر والحنث في القسم؛ لأن كل واحد منهما يعتبر فيه موافقة موجب اللفظ ومخالفته، فإذا ثبت هذا وكان إذا قال: والله لأصلين، أو لأصومنَّ، أو لأحجنَّ، أو قال لغيره: والله لتصلين، أو لتصومن أو لتحجن، اقتضى فعلا واحدًا، فلا يقتضي التكرار، ويكون من فعله بَرَّ في يمنيه [و] وجب أن يكون مطيعًا لله تعالى به متمثلا لأمره. ويدل على أنهما سواء أن النهي الذي هو متعلق بالترك والقسم في الترك سواء في أن كل واحد منهما يقتضي التكرار، ويكون مخالفًا بفعل مرة واحدة، وكذلك الأمر المقيد بوقت أو بعدد أو بصفة بمنزلة القسم المقيد بذلك، فوجب أن يكون مطلق الأمر بمنزلة مطلق القسم.
والجواب عنه ما تقدم وهو: أن البر والحنث من أحكام الشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، والثاني أن التكرار ليس بمراد للحالف.
وجواب آخر وهو: أن الترك في القسم إذا كان معلقًا بوقت، وهو أن يقول: والله لا دخلت الدار عند زوال الشمس، لم يقتضِ التكرار، حتى إنه إذا وجد الترك مرة عند الزوال سقطت اليمين، والترك في ألفاظ صاحب الشريعة إذا علق بوقت اقتضى التكرار2، فإذا قال: لا تزكوا
__________
1 في الأصل: "يشتمل".
2 في الأصل: "الدوام"، وهو خطأ، وقد صوَّبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه.(1/271)
إذا زالت الشمس، لم يسقط حكمه بترك مرة.
وجواب آخر: وهو أن اعتقاد الفعل في القسم لا يقتضي الدوام، واعتقاد أداء الفعل في الأمر يقتضي الدوام.
وجواب آخر: وهو أن الترك في اليمين إذا حصلت المخالفة بفعله مرة سقط حكم القسم، على معنى أنه إذا فعل المحلوف على تركه ثانيًا، حنث ثانيًا، وليس كذلك في ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأنها لم يحنث، ولا تسقط بالمخالفة مرة، فبان الفرق.
واحتج: بأنه إذا قال: صلى فلان، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، وإذا كان لفظ الخبر لا يقتضي التكرار، فكذلك لفظ الأمر؛ لأن الأمرَ أمرٌ بإيقاع فعل، [و] الخبر خبر عن وقوعه؛ ولأن قوله: صلِّ، بمنزلة: افعل صلاة، ولو قال: افعل صلاة، اقتضى صلاة واحدة، ولا يقتضي التكرار، فإذا قال: صلِّ، وجب أن يقتضي صلاة واحدة.
والجواب عنه ما تقدم من أن الخبر في الفعل إخبار عن إيقاع الفعل في زمان قد شاهده، وهذا لا صيغة له، والأمر المطلق له صيغة؛ ولأنه لا يجب تكرر [30/ أ] الاعتقاد في الخبر.
واحتج: بأن قوله لامرأته: طلقي نفسك، اقتضى طلاقًا واحدًا، وكذلك إذا قالت له: طلِّقني بألف، فطلقها تطليقة واحدة استحق الألف.
وكذلك إذا قال لوكيله: طلق فلانة، اقتضى طلاقًا واحدًا، ولا يقتضي التكرار، إلا بقرينة تدل عليه.
وكذلك لو قال لعبده: تزوج، لم يملك أن يتزوج إلا امرأة(1/272)
واحدة، نص عليه1 في رواية بن بختان2، وكذلك في سائر الأوامر.
والجواب: أن هذا ثبت بالشرع، والخلاف في موجب الأمر وموضوعه في اللغة.
فإن قيل: أوجب الشرع إثبات موجب اللفظ من طريق اللغة، ألا ترى أنه إذا قال: طلق، وكرر الطلاق أو ما يثبت من العدد، كان له أن يكرره؟
قيل: قد بَيَّنَّا أنه غير معتبر بموجب اللفظ من طريق اللغة من الوجه الذي بينا؛ ولأن اعتقاد الفعل هناك لا يقتضي الدوام، وفي مسألتنا يقتضي الدوام، وهو من جملة الأوامر كما بَيَّنَّا.
واحتج: بأن قول القائل: صمْ، وصلِّ، أمر بما يسمى صلاة وصومًا، فإذا فعل صومًا واحدًا، أو صلاة واحدة، فقد أتى بما يتضمنه الأمر.
والجواب: أنه أمر بما يسمى صلاة على التكرار، كما كان قوله: لا تزن، نهي عما يسمَّى زنا على التَّكرار، وكما كان قوله: صلِّ، أمرًا باعتقاد ما يسمى صلاة على التكرار، كذلك في الفعل.
واحتج: بأن كونه على التكرار يقتضي المناقضة، إذا كان الأمر
__________
1 هذه الرواية هي -كما في رواية صالح ويعقوب بن بختان-: إذا أذن له سيده يتزوج، قال: واحدة، وإن أراد أن يتزوج أخرى استأذنه. وقال أيضًا: إذا خيَّر زوجته، لم يجز لها أن تطلق نفسها إلا طلقة واحدة.
انظر: المسودة "ص: 21".
2 في الأصل غير معجم، والصواب ما أثبتناه كما في المسودة "ص: 21"، وقد سبقت ترجمته "ص: 185".(1/273)
بشيئين مختلفين مثل الحج والجهاد؛ لأنه لا يمكنه أن يواصل كل واحد منهما أبدًا.
والجواب: أنا نثبت التَّكرار على الإمكان، وإذا كان كذلك لم يفضِ إلى المناقضة.
واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن الاستفهام.
والجواب: أنا لا نسلم ذلك، وإن سلمناه فإنما ذلك على طريق الاستثبات، كما يقال له: جاءك الملك، فيقول: جاءني الملك؟ على طريق الاستثبات.
واحتج: بأنه لو اقتضى التكرار لم يحسن تأكيده بالأبد، فيقول: صلِّ أبدًا، وصُمْ أبدًا.
والجواب: أنا نقلب هذا فنقول: ولو اقتضى مرة لم يحسن تأكيده بمرة واحدة، فنقول: صلِّ مرة واحدة، لم يحسن، وعلى أن هذا يجوز على طريق التأكيد، ولقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1، كذلك ههنا.
واحتج بأنه2 لو قال لرجل: كُلْ، ثم قال: كُلْ، كان أمرًا بالأكل مرتين، فلو كان الأمر يقتضي الاتصال أبدًا، كان قوله: ثم كل، تأكيدًا لا عطفًا، فلما قال الكل منهم: إنه عطف أكله على أكله، ثبت أنه لا يقتضي الاتصال.
والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: إن الثاني تأكيد، لا عطف، كما كان قوله: لا تَزْنِ، ثم قال: لا تَزْنِ، كان الثاني تأكيدًا.
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 في الأصل: "بأن".(1/274)
واحتج بأنه لو قال [30/ أ] لعبده: ادخل الدار، فدخل ثم استخبره فقال: قد دخلت؟ صح أن يجيبه عنه بنعم، أو يقول: قد دَخَلْت، فلولا أنه امتثل كل ما أمره به لما صح أن يخبره عنه.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يصح خبره في ذلك، ولا يكون ممتثلا للأمر، كما لو قال: ادخل الدار مائة مرة، فدخلها مرة، صح أن يخبر بالدخول ولا يكون ممتثلا، وكذلك الاعتقاد يصح أن يخبر أنه معتقد، وإن كان ذلك على الدوام.(1/275)
مسألة الأمر المطلق يتقضي الفور
مدخل
...
مسألة 1: [الأمر المطلق يقتضي الفور] :
الأمر المطلق: يقتضي فعل المأمور به على الفور عقيب الأمر. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه يقول: الحج على الفور، وإنما يتصور الخلاف على قولنا إذا دلَّ الدليل على أنه أريد به مرة، فأما
__________
8 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن الثاني معرف، كقولك: صلِّ ركعتين صلِّ الصلاة.
فعند الآمدي: الحكم فيها كسابقتها، حيث تعارض الظاهر مع حروف العطف مع اللام المعرفة، فتساقطا، ويكون الحكم كما لو لم يوجدا.
وقد رأيت في المسوَّدة أنه يكون للتأكيد؛ لأجل التعريف، ونسبه للقاضي أبي يعلى، وحكى بعد ذلك قولين بصيغة: "قيل" أحدهما: أنه أمر ثانٍ، وثانيهما: الوقف.
9 إذا كان المأمور به قابلا للتكرار، ولكن العادة تمنع منه، كما أن الثاني معرف كقولك: "اسقني ماء، واسقني ماء".
فقد توقف الآمدي في هذه الصورة؛ لأن ترجيح التأسيس على التأكيد، وترجيح ظاهر حروف العطف، وقد قابلهما العادة المانعة من التكرار والتعريف، فإن رجج بينهما، فالترجيح لأمر خارج عنهما.
راجع: الإحكام للآمدي "2/ 172- 174"، وتيسير التحرير "1/ 361، 362" والتقرير والتحبير "1/ 319، 320" وفواتح الرحموت "1/ 391، 392" مطبوع مع المستصفى، والمسودة "ص: 23، 24"، وشرح الجلال على جمع الجوامع مع حاشية البناني "1/ 389، 390".
1 راجع في هذه المسألة: الواضح في أصول الفقه، الجزء الأول، الورقة "273- 281"، والتمهيد الورقة "29- 34"، وشرح مختصر الروضة، الجزء الأول الورقة "202- 205"، والمسودة "ص: 24- 26".(1/281)
إذا قلنا على التكرار، فلا يتصور التأخير والتقديم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة1.
وقال الأكثر من أصحاب الشافعي: هو على التراخي2. وهو قول المعتزلة3.
وقالت الأشعرية: هو على الوقف.
وكان أبو بكر الباقلاني ينصر أنه على التراخي4.
__________
1 نسبة القول بالفورية إلى الحنفية ليست على إطلاقها، وقد توبع القاضي في هذا في المسودة حيث جاء فيها: "والفورية معزوة إلى أبي حنيفة ومتَّبِعيه".
وقد وقع في هذا الخطأ كل من الآمدي في الإحكام "2/ 153"، وابن قدامة في الروضة "105"، والبيضاوي في منهاج الأصول، والأسنوي في "نهاية السول" "2/ 286"، وأبو البقاء الفتوحي في شرح الكوكب المنير "ص: 329" من الملحق، والغزالي في المنخول "ص: 111"، والقرافي في شرح تنقيح الفصول "ص: 128". وقد خطَّأ الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول "2/ 286" كلا من البيضاوي والأسنوي في ذلك.
والصحيح من المذهب الحنفي: أن المأمور به إذا لم يكن مقيدًا بوقت يفوت الأداء بفواته، فإنه يجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به. ولم يقل بالفورية من الحنفية إلا أبو الحسن الكرخي، كما صرح بذلك في "مسلم الثبوت" وشرحه "1/ 387"، والشيخ بخيت في حاشيته على نهاية السول "2/ 287". وراجع أيضًا: الفصول في أصول الفقه للجصاص، الورقة "97/ أ".
2 وعزاه الغزالي في المنخول "111" إلى الشافعي. وهو الأصح عند الشافعية كما صرح بذلك الشيرازي في اللُّمع "ص: 9". إلا أن ابن برهان قال: "لم ينقل عن الشافعي وأبي حنيفة نص عليه، وإنما فروعهما تدل عليه" فواتح الرحموت "1/ 387".
3 راجع في هذا: "المغني" للقاضي عبد الجبار، قسم الشرعيات "ص: 102"، المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/ 120- 134".
4 وقد نقل ذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول "ص: 129".(1/282)
وقد أَومَأَ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم1 وقد سئل عن قضاء رمضان يفرق؟ فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2. فظاهر هذا أنه لم يحمل الأمر على الفور؛ لأنه لو حمله على الفور منع التفريق، والمذهب: ما حكينا أولا.
واختلف المتكلمون في هذه المسألة: هل معرفة ذلك المعقول أم اللغة؟
فذهب بعضهم إلى أن طريق ذلك العقل؛ لأن هذا اختلاف في أحكام، فليس بمأخوذ عن أهل اللغة.
وقال آخرون: معرفة ذلك اللغة؛ لأنهم يقولون: فعل ويفعل، فيدل أحدهما على زمان ماضٍ، والآخر على زمان مستقبل.
__________
1 هو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم الإسكافي أبو بكر، من أصحاب الإمام أحمد الأجلاء، وممن أخذوا عنه. فقيه، حافظ، ثقة، له كتاب "العلل" مات بعد "260هـ".
له ترجمة في: تاريخ بغداد "5/ 110"، وتذكرة الحفاظ "2/ 570"، وتهذيب التهذيب "1/ 78"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 11"، وطبقات الحفاظ "ص: 256"، وطبقات الحنابلة "1/ 66"، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد "205".
2 "184" سورة البقرة.(1/283)
دليلنا:
أنه لو كان على التراخي لم يَخْلُ المأمور به من أحد أمرين: إما أن يكون له تأخيره أبدًا، حتى لا يلحقه التفريط، ولا يستحق الوعيد إن مات قبل فعله. أو يكون مفرطًا مستحقًا للوعيد إذا تركه حتى مات.
فإن قلنا: لا يكون مفرطًا بتركه في حياته، خرج عن حدِّ الواجب،(1/283)
وصار في حدِّ النوافل1؛ لأن ما كان المأمور مخبرًا بين فعله وتركه، فهو نافلة أو مباح2.
وإن قلنا: يلحقه الوعيد بالموت، أدى ذلك إلى أن يكون الله تعالى ألزمه إتيان عبادة في وقت لم ينصب له عليه دليلا يوصله إلى العلم به، ونهاه عن تأخيرها عنه، ولا يجوز أن يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يحوز أن يتعبده بعبادة مجهولة، فإذا بطل هذان القسمان، صح ما ذهبنا إليه، وهو كونه على الفور.
ولا يلزم عليه تكليف الوصية عند الموت للأقربين3، وإن كان وقت الموت مجهولا؛ لأن الموت عليه أمارة وعلامة، تتعلق الوصية بحضوره فلا4 يكون تعليقًا له بوقت مجهول لا دلالة عليه؛ ولأن الوصية يمكن
__________
1 هذا الدليل منقول من كتاب الفصول في أصول الفقه، للجصاص، الورقة "98/ أ" مع اختلاف بسيط، والعبارة فيه هكذا: "خرج من حَيِّزِ الوجوب، وصار في حيز النوافل".
2 بقية الدليل في الفصول هي: "ولما ثبت وجوب الأمر بطل هذا القول".
3 أصل التكليف بالوصية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوف} الآية.
فذهب بعض العلماء إلى وجوبها مستدلين بالآية.
كما ذهب آخرون إلى أنها مندوبة مستدلين بالآية أيضًا.
والقائلون بوجوبها اختلفوا هل نسخ هذا الحكم أو لا؟.
والقائلون بالنسخ اختلفوا هل كلها منسوخة أو منسوخة في حق من يرث؟
وإذا كانت منسوخة، فما هو الناسخ؟ هل هو آيات المواريث، أو حديث:
"لا وصية لوارث"؟ قولان.
راجع في هذا: أحكام القرآن للجصاص "1/ 102- 107".
4 في الأصل: "فلا لا"، و"لا" الثانية مكررة، لا معنى لها، ولذلك حذفناها.(1/284)
فعلها عند حضور الموت، وفعل العبادات لا يمكن في الغالب عند حضور الموت.
فإن قيل: إن غلب على ظنه في وقت أنه إن أخر عنه فإنه يضيق عليه وقته لزمه1 تعجيله، وإن لم [32/ ب] يغلب على ظنه ومات فجأة، لم يعص، ويفارق هذا النوافل؛ لأنه يجب تعجيلها إذا غلب على ظنه فواتها.
قيل: لا يلغب على الظن ضيق الوقت إلا في وقت لا يمكن فيه أداء العبادة بشرائطها، وهو عند المرض المتلف، وفي تلك الحال لا يمكنه أن يحج بنفسه ولا الصيام.
وأيضًا فإن النهي أمر بالترك، والأمر [بالترك] أمر بالفعل، ثم كان النهي على الفور، كذلك الأمر بالفعل.
فإن قيل: النهي يقتضي التكرار والدوام فاقتضى الفور، والأمر يقتضي فعلا واحدًا، فلم يقتضِ الفور.
قيل: ليس إذا لم يقتضِ التكرار لم يقتضِ الفور، كالجزاء لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور عند وجود شرطه، وعلى أنه لا فرق بينهما، وذلك أن مطلق الأمر يقتضي التكرار، ويقتضي فعل مرة بقرينة، ومثله قد حكينا في النهي.
وأيضًا: فإن الأمر بالفعل يتضمن ثلاثة أشياء: الأمر بالفعل، والأمر بالاعتقاد، والأمر بالعزم عليه، ثم ثبت أن الأمر بالعزم، والأمر بالاعتقاد على الفور، كذلك الأمر بالفعل وجب أن يكون على الفور.
فإن قيل: لو [قال له] : صلِّ بعد شهر، كان الاعقتاد والعزم على
__________
1 في الأصل: "ولزمه"، وهو خطأ، والصواب: حذف الواو، كما يتضح من السياق.(1/285)
الفور، وإن لم يجب الفعل في هذه الحال، فدل على الفرق بينهما.
قيل: ليس إذا تأخر الفعل بالشرط، تأخر في حال الإطلاق، بدليل الجزاء، لو قال: إذا دخلت الدار فلك درهم، استحق الجزاء عند وجود شرطه وهو الدخول، ولو قال له: لك درهم بعد شهر، تأخر، كذلك الفعل، وعلى أن مثله يقول في الاعتقاد، وأنه يجوز تأخيره بالشرط.
وقد ذكر ابن عبد الجبار1 في شرحه: أن الأمر يتعلق بأول الشروط على قول أصحاب الفور، ويتعلق بجميعها على قول أصحاب التراخي.
فإن قيل: لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد والعزم مع ذكره الأمر، ولا يجوز أن يعتقد غير الواجب، ولا أن يعزم على تركه، فوجب اعتقاد وجوبه والعزم على فعله لما ذكرنا لا باللفظ.
قيل: كما لا يجوز أن يعتقد غير الوجوب، كذلك لا يجوز2 له تأخير الفعل، وإذا لم يَجُزْ له [تأ] خيره وجب فعله، كما أنه لما لم يجز اعتقاد غير الوجوب، وجب اعتقاد الوجوب.
وأيضًا: فإن الأمر المطلق في الشاهد يقتضي التعجيل، وهو الواحد منا إذا أمر عبده بفعل، فأخره، فإنه يحسن توبيخه، كذلك حكم الأمر في الغائب.
فإن قيل: إنما يحسن توبيخه إذا اقترن بالأمر ما دلَّ على قصد الآمر، فأما إذا لم يقترن به، فلا يحسن توبيخه.
قيل: من يظهر التوبيخ والذم لا يرجع إلى القرينة، وإنما يرجع إلى اللفظ فيقول: آمره بكذا فلم يفعل.
__________
1 لم أتوصل إلى معرفة "ابن عبد الجبار" هذا بعد البحث الكثير.
2 في الأصل: "يجب"، والصواب ما أثبتناه؛ لدلالة السباق واللحاق.(1/286)
وأيضًا: فإن وقوع ما يفيد الإيجاب مطلقًا يفيد الفور، دليله: التمليكات بعقود البياعات والإجارات والأنكحة وجزاء الشرط، فإن الملك يحصل بذلك في الحال [32/ ب] وإنما يتأخر بدليل، وهو شرط الأجل.
واحتج المخالف بقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1.
وروي أن عمر قال لأبي بكر وقد صُدَّ عام الحديبية: "أليس قد وعدنا الله تعالى بالدخول فكيف صددنا؟ فقال: إن الله تعالى وعد بذلك، ولم يقل في وقت دون وقت"2.
قالوا: وهذا يدل على ما قلناه؛ لأنه خبر عين بوقوع فعل مطلق لا ذكر للوقت فيه، فلم يختص بوقت، فكذلك الأمر؛ لأنه أمر بإيقاع فعل مطلق من غير توقيت، فيجب أن لا يختص بوقت.
والجواب: أن ذلك وعد بالدخول، وليس بأمر، وخلافنا في لفظة الأمر؛ ولأن ذلك تعلق بشرط وهو المشيئة، فمتى لم يوجد الدخول علمنا أن المشيئة لم توجد، وخلافنا في أمر مطلق.
واحتج: أن قول القائل: افعل، استدعاء للفعل، وليس فيه ذكر الوقت، حتى أي وقت فعله يجب أن يكون ممتثلا للأمر، كما أنه لم يكن فيه ذكر الحال، فعلى أي حال فعله قائمًا أو قاعدًا، مستقبلا3 للقبلة أو
__________
1 "27" سورة الفتح.
2 قصة صلح الحديبية، وما جرى في ذلك أخرجها البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية "5/ 162"، وتحدث عن ذلك الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" "4/ 168- 170".
3 في الأصل: "أو مستقبلا".(1/287)
مستدبرها، متطهرًا أو محدثًا، كان مطيعًا، ولذلك لما لم يكن فيه ذكر المكان، ففي أي مكان فعله كان ممتثلا، كذلك الوقت.
والجواب: أن الأمر استدعاء على صفة هي الفور، إلا أنه لم يكن منطوقًا فإنه مقدر1 فيه لا من طريق المعنى، كما اقتضى وجوب اعتقاد على صفة هي الفور، وكما اقتضى النهي الكفَّ على صفة هي الفور، وكذلك الجزاء والثمن في المبيع، وليس إذا لم يكن ذكر الحال والمكان مقدرًا معينًا يجب أن يكون في الزمان مقدرًا، كما قلنا في الاعتقاد والنهي والجزاء والأثمان في البياعات.
واحتج: بأن الطاعة والمعصية في الأمر بمنزلة البر والحنث في القسم، ثم ثبت أنه إذا قال: والله لأفعلن كذا، أنه لا يختص بوقت، ولكنه في أي وقت فعله كان بارًّا في يمينه، كذلك يجب أن يكون مطيعًا في الأمر.
والجواب: أن اليمين لا توجب على الحالف شيئًا لم يكن واجبًا عليه، وإنما هو مخبر بين الوفاء والكفارة، وبين الامتناع والكفارة، وليس كذلك ههنا؛ لأن هذا لفظ إيجاب، فنظيره النذر، وهو: أن ينذر صلاة ركعتين، أو صيام يوم ونحو ذلك، ولا يمتنع أن يقول: يجب على الفور، كما يقول في مسألتنا، على أن خلافنا في مقتضى الأمر في اللغة، والشرع قد غَيَّر النذر عن مقتضى اللغة، ولهذا لو نذر عتق عبد، لم يجزئه2 إلا مسلمًا، وإن كان مقتضاه في اللغة يعم الجميع، وكذلك لو نذر صلاة أو صيامًا، اقتضى خلاف موجبه في اللغة.
واحتج: بأنه لو كان الأمر يفيد الفور لما حسن الاستفهام.
والجواب: أنه إذا كان الآمر ممن لا يضع الشيء في [غير] موضعه، لم يحسن منه الاستفهام.
__________
1 في الأصل: "مقدم".
2 في الأصل: "لم يجزه".(1/288)
واحتج: بأنه لو خصه بوقت متأخر، وحب تأخيره [33/ أ] كما إذا خصه بوقت متقدم وجب تقديمه، فإذا لم يكن الوقت مذكورًا، فليس هو بالتعجيل أولى منه بالتأخير.
والجواب: أنه ليس من حيث لو خصه بزمان متأخر وجب تأخيره، ما دل على أنه إذا أطلق لا يقتضي التعجيل ألا ترى أن الجزاء إذا شرط تأخره عن الشرط تأخر، وإذا أطلق لزم ذلك عقيب الشرط، وكذلك الأبدال في العقود إذا شرط فهيا التأجيل تأجل، ثم لا يدل ذلك على أنه إذا أطلق لم يكن البدل عقيب العقد، كذلك ههنا.
واحتج: بأن الأمر بالفعل يتضمن إيقاعه في مكان وزمان، ثم ثبت أنه لا يختص بمكان بعينه، كذلك لا يختص بزمان بعينه، وعندكم يختص بزمان بعينه، وهو عقيب الأمر.
والجواب: أن النهي لا يختص بمكان، ويختص بزمان، وهو عقيب النهي، وعلى أنه لا يمتنع أن يقال: يختص بالمكان الذي أمر بالفعل فيه؛ لأنه على الفور.(1/289)
فصل: والدلالة على فساد قول من قال بالوقف:
أنا نقول لهذا القائل: ما تقول في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1، هل يجب أن يتوقفوا ويطلبوا صفات البقرة من الرسول عليه السلام؟!.
فإن قال: لا يجب، فقد سلم المسألة، فإنه لا فرق بين البقرة، وبين سائر الأفعال؛ لأن البقرة لا تخلو من صفة ولون، كما أن الفعل لا يخلو من
__________
1 "67" سورة البقرة.(1/289)
وقت، وإذا لم يجز التوقف لاحتمال صفات البقرة، لم يجب التوقف لاحتمال أوقات الفعل.
فإن قال: يجب التوقف؛ لأنها تحتمل البكر وهي الصغيرة التي لم تلد والفارض وهي المسنة، تقول العرب: فرضت البقرة، إذا أسنت. والعوان: هي بين الصغيرة والكبيرة، والصفراء الفاقع لونها، والسوداء الحالك لونها، والملمعة والتي لا شية فيها، والذلول البينة الذل، والمسلَّمة من العمل، والتي [لا] تثير الأرض ولا يستقى عليها، فتسقي الحرث.
قيل: هذا خلاف الشرع؛ لأن الله تعالى خَطَّأ بني إسرائيل في هذا التوقف بطلب هذا البيان، فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} 1، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2؛ ولأن موسى -عليه السلام- المنبَّأ عن الله تعالى لم يسأل عنها، ولو كان ذلك موضع السؤال لَسَأَلَهُ.
فإن قيل: فقد سأله، فلو كان هذا خطأ لكان موسى لا يسأل ربه تعالى بعد سؤال بني إسرائيل.
قيل: لم يسأل عنه، وإنما راجع ربه -عز وجل- بما عليه بنو إسرائيل من المخالفة، والوقف في غير موضعه.
ويدل عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شدد بنو إسرائيل على أنفسهم، فشدد الله عليهم، أما إنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت عنهم"3،
__________
1 "68" سورة البقرة
2 "71" سورة البقرة.
3 هذا الحديث أخرجه الطبري في تفسيره "2/ 205" عن ابن جريج مرسلا، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدَّد الله عليهم، وايم الله لو أنهم لم يستثنوا، لما بينت لهم آخر الأبد" وقد عقب الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله -في هامش المرجع المذكور-: "وهو مرسل، لا تقوم به حجة".(1/290)
وهذا يدل على خطئهم، وأن صفات البقرة زيدت عليهم [33/ ب] بعد وقفهم، تغليظًا عليهم، وتشديدًا في التكليف.
ويدل عليه على أن الأمر يقتضي الفعل، وليس فيه ذكر الوقت ولا دليل، فوجب أن يكون الوقت شرطًا لما فيه، وإنما لا يمكن الفعل في غير الوقت مع هذه العادة، ولو أمكن الفعل في غيره هذا الوقت كان فعله بهذا الأمر في غيره، ولم يجز أن يجعل شرطًا، فإذا كان كذلك وجب الفعل من غير اعتبار الوقت.
ويدل عليه أنه لا يجوز الوقف لاعتبار المكان واعتبار الحال، والمعاني التي لا ذكر لها في لفظ الأمر.
وكذلك إذا قال: امكثوا في المسجد يومًا، لزمهم المكث فيه، ولم يَجُزْ التوقف عنه، بأن يقولوا: أنمكث صائمين أو مفطرين. مصلين أو غير
__________
= وأخرجه الطبري أيضًا عن قتادة مرسلا "2/ 206"، كما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنه- موقوفًا "2/ 204"، وقد عقب ابن كثير في تفسيره "1/ 110" على أثر ابن عباس بقوله: "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس".
وأخرجه ابن مردويه في تفسيره -كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "1/ 111"- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا ولفظه: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: "وإنا إن شاء الله لمهتدون"، ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها، لأجزأت عنهم، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم"، ثم عقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم".
وقد ذكر السيوطي في كتابه: الدر المنثور "1/ 77" أن البزار وابن أبي حاتم أخرجا هذا الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه.
كما ذكر أن الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر أخرجوه عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم.(1/291)
مصلين، قائمين أو قاعدين، مستقبلين أو مستدبرين؟ وما أشبه ذلك.
فإن قيل: يجب التوقف لهذا كله حتى يقع البيان للمأمور من جهة الرسول أو من جهة الدلائل المقررة في الأصول.
قيل: هذا [مردود] بتخطئة الله -سبحانه- بني إسرائيل في مثله.
وجواب آخر: وهو أن ذلك يؤدي إلى ترك طاعة الله تعالى في أمره وامتثاله؛ لأنه ليس معنى من المعاني إلا ويجوز أن يكون شرطًا، وفي طلب بيان ذلك ترك الفعل وامتثال الأمر.
ويدل عليه: أن بني إسرائيل لو سألوا لكان ما تركوه أكثر ما سألوا بيانه وأنهم كان يمكنهم أن يقولوا: ما العوان التي بين البكر والفارض؟ وما الشية التي نفاها؟، وما لونها وقدرها وموضعها؟ وهل تكون سمينة أو هزيلة؟ من العراب أو من أي نتاج البقر؟ ومن يذبحها؟، وبأي آلة؟ وعلى أي جنب؟ وما أشبه ذلك مما لا يتناهى ذكره، ولا ينحصر وصفه، ولا يمكن ضبطه.
واحتج المخالف: بأن اللفظ يحتمل الفور والتراخي بدليل أنه يصلح أن نفسره بكل واحد منهما، فنقول: افعلوا على الفور، أو نقول على التراخي، ونقول افعلوا في كذا، وإذا كان مجملا وجب الوقف فيه1، لاحتماله2، للخصوص والعموم، كذلك ههنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن إطلاق الأمر محتمل للتراخي، بل إطلاقه يقتضي الفور على العموم، على أن هذا مخالف له؛ لأن هذا اللفظ محتمل للعموم والخصوص، والأمر لا يحتمل الوقف ولا يقتضيه، فلا يجوز أن
__________
1 في الأصل: "فيها".
2 في الأصل: "لاحتمالها".(1/292)
يجعل شرط فيه إلا بدليل يدل عليه. وعلى أنا لو سلمنا أنه محتمل للفور والتراخي كان على أحدهما دليل1، وهو ما تقدم من لغة العرب، وغير ذلك.
__________
1 في الأصل: "دليل".(1/293)
الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته
مدخل
...
مسألة 1: [الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته] :
إذا كان الأمر مؤقتًا بوقت ففات الوقت، لم يسقط الأمر بفواته، ويكون عليه فعله بعد الوقت، بذلك الأمر الأول، ويكون تقديره: افعله في الوقت الأول ولا تؤخره، فإن لم تفعل فافعله في الوقت الثاني، وهكذا تقديره في سائر عمره 2.
وكذلك الأمر المطلق إذا لم يفعل المأمور به عقيب الأمر، لم يسقط وإن شئت عبرت عنها بعبارة أخرى [34/ أ] فقلت: القضاء لا يحتاج إلى دليل.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية إسحاق بن هانئ في الرجل ينسى الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصلِّيها أربعًا، تلك وجبت عليه أربعًا". فأوجب القضاء بالأمر الأول، الذي به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت عليه أربعًا، معناه حين المخاطبة بها.
وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين في الأمر المؤقت: إنه يسقط بفوات
__________
1 راجع هذه المسألة في: الواضح، الجزء الأول، الورقة "286"، والتمهيد الورقة "34"، والمسودة "ص: 27".
2 وهذا الرأي نقله في المسودة "ص: 27"، ونسبه للقاضي والحلواني، وهو رأي ابن قدامة كما في الروضة "ص: 107"، ونسبه الغزالي في المنخول "121" إلى الفقهاء. أما الآمدي فقد عزاه إلى الحنابلة وكثير من الفقهاء وذلك في كتابه الإحكام "2/ 166".(1/293)
الوقت، ويجب القضاء بأمر ثانٍ1.
واختلف أصحاب أبي حنيفة في الأمر المطلق إذا لم يفعله المأمور به عقيب الأمر، هل يسقط؟
فقال الرازي: لا يسقط ويفعله في الزمان الثاني، والثالث، وسائر عمره، بخلاف المؤقت2.
وقال غيره من أصحابه: يسقط، كالأمر المقيد بوقت.
__________
1 وقد نسبه الآمدي إلى المحققين من الشافعية. الإحكام "2/ 166".
2 قال الرازي في كتابه الفصول، الورقة "109/ ب" ما نصه: "فصل كل أمر مضمن بوقت بعينه، فهو واجب في ذلك الوقت، يستوعب الفعل، كصوم رمضان مؤقت بالشهر، فعليه فعله فيه، ولا يسعه التأخير إلا من عذر.
وإن كان الوقت متسعًا لأن يفعله ذلك الفعل مرارًا كثيرة، فوجوبه متعلق بأول أوقاته، حتى تقوم الدلالة على جواز تأخيره. ويكون حينئذٍ فائدة ذكر الوقت من أوله إلى آخره. أنه إن أخره عن الوقت الأول، لزمه فعله في الثاني والثالث إلى آخر الوقت، وإن لم يفعله في هذه الأوقات لم يكن عليه فعله بعد خروج الوقت بالأمر الأول".
من هذا النص نرى أن التفصيل المذكور عن الرازي إنما هو في الأمر المؤقت بوقت متسع، وليس في الأمر المطلق، كما نقل المؤلف.(1/294)
دليلنا:
أنه لو سقط بفوات وقته؛ لسقط المأثم بفوات الوقت كما يسقط الوجوب. ولما لم يسقط المأثم كذلك الوجوب.
ولأن الأصل ثبوته في ذمته، فمن زعم إبطاله بخروج الوقت؛ فعليه الدليل.
ولأن النذر المؤقت لا يسقط بفوات وقته، كذلك ما وجب بالشرع.(1/294)
ولأنه حق واجب؛ فلم يسقط بمضي الوقت. دليله الدَّين المؤجَّل وهو: إذا باع بثمن مؤجل إلى شهر، ثم انقضى الشهر؛ فإن الحق لا يسقط، كذلك ههنا.
فإن قيل: الأجل المضروب لتأخير المطالبة به والدين1 في ذمته؛ فإذا وجب الأداء فلم يفعل، زال الوقت وصار كالعقد المطلق من غير أجل، فلزمه قضاء ما فات أداؤه في وقته، وليس كذلك إذا أمر الله تعالى بأمر في وقت محدد؛ لأن الوجوب ما لزمه إلا في الوقت الذي تناوله الأمر.
قيل: وكذلك المطالبة بالدين ما لزم إلا عند انقضاء الشهر، ثم تأخيرها عن آخر الشهر لا يوجب إسقاطها، كذلك تأخير العبادة عن وقتها.
فإن قيل: إنما لم يسقط الحق؛ لأن وقت المطالبة موسَّع.
قيل: وقت الأداء في ذمة من عليه الحق مضيق؛ لأنه إذا لم يؤجل الأجل وجب الأداء على الفور، كما أن وجوب العبادة عليه على الفور إذا وقَّتها، ثم ثبت أن تأخر الأداء لا يسقط، كذلك العبادة.
وأيضًا فإن الوقت شرط من شرائط العبادة؛ ففقدانه لا يوجب إسقاطها.
__________
1 في الأصل: "والذي".(1/295)
دليله:
الطهارة والستارة والتوجه والقراءة وغير ذلك من الشرائط؛ ولأن الوقت ليس بمقصود، وإنما المقصود نفس العبادة بدليل أنه لا فائدة في إثبات وقت خالٍ1 عن عبادة، وقد ثبتت العبادة في ذمته من غير قت وهو أنه يؤمر بعبادة مطلقة؛ فلم يكن فواته موجبًا للإسقاط.
__________
1 في الأصل: "خالي".(1/295)
ولأن الأمر بالفعل يتضمن الأمر بالفعل والأمر بالاعتقاد، ثم ثبت أن خروج الوقت لا يوجب إسقاط [34/ ب] الاعتقاد، كذلك لا يوجب إسقاط الفعل.
وقد ذكر في المسألة طرق أخر، وهو: أنه لو كان خروج الوقت علمًا على الإسقاط؛ لكان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالتأخير إلى آخر الوقت.
ألا ترى أنه لما جعل وجود الفعل علمًا على سقوط الوجوب، كان له أن يسقط الإيجاب عن نفسه بالفعل؛ فلما لم يَجُزْ له التأخير، علمنا أن خروجه غير مسقط.
وقيل أيضًا: بأنه لو كان بعد خروج الوقت يجب القضاء بأمر مبتدأ ما سمي قضاء، كالذي يجب بالأمر الأول؛ لأنه مثله في أنه إيجاب فرض مبتدأ.
فإن قيل لو كان هو الفرض لم يسمَّ قضاء.
قيل: قد بينَّا أن اختلاف النية لا يوجب اختلاف الفرض، بدليل المقصورة والتمام، والجمعة والظهر.
وقيل: لما لم يكن الوقت موجبًا؛ وإنما الوجوب واقف على الدليل، لم يكن خروج الوقت مسقطًا، بل يقف إسقاطه على الدليل.
وقيل: إن أكثر ما في خروج الوقت: أن العبادة تصير في وقت غير معين، وهذا لا يمنع الوجوب، كما لو أوجب عبادة غير معينة بزمان.
فإن قيل: إن عرف الشرع قد ثبت أن الأمر إذا ورد بفعل عبادة متعلقة بوقت؛ فإنه يجب فعلها قضاء، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك.
والمخالف يجيب عن هذا: بأنني عرفت ذلك بدليل؛ لا بأصل الأمر،(1/296)
مع أن الشرع مختلف في ذلك؛ فإن الجمعة لا تقضى، وكذلك رمي الجمار، وكذلك المحصر إذا تعذر عليه ذبح الهدي في الحرم، جاز ذبحه في الحل ولا قضاء.
وقيل أيضًا: بأن فعلها بعد الوقت يطلق1 عليه اسم القضاء، وإذا ثبت هذا، ثبت أنه قضى بعد الوقت ما كان مأمورًا به في الوقت.
وهذا لا يلزم أيضًا؛ لأنه لا يمتنع أن يقال: قضى بعد الوقت، وإن كان بأمر ثانٍ2 وفرض مبتدأ.
واحتج المخالف بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" 3، فأمر بفعلها بعد الوقت، فلو كان الأمر يفيد امتثاله بعد الوقت لم يأمر به ثانيًا.
والجواب: أن الخبر حجة لنا؛ لأنه قال: "فليصلها"، وهذا كناية
__________
1 في الأصل: "يبطل"، وقد صحح الناسخ في الهامش بما أثبتناه.
2 في الأصل: "ثاني".
3 هذا الحديث رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلِّها إذا ذكرها "1/ 146".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها "1/ 477".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها "1/ 105".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة "1/ 335، 336"، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب فيمن نسي صلاة "1/ 236".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة أو نسيها "1/ 227".
وراجع في الحديث أيضًا: نصب الراية "2/ 162- 164"، وفيض القدير "6/ 231".(1/297)
عما أمر به بحكم أن الذي يفعله بعد الوقت هو المأمور به في الوقت. مع أنه قصد بهذا رفع الإشكال؛ لئلا يظن ظان أنها تسقط بفوات وقتها.
واحتج: بأن صيغة الأمر تتناول زمانًا محصورًا؛ فإذا فات الوقت قبل فعله لم يبق زمان أمر يفعله فيه؛ فهو كما لو قيل له: صلِّ في المسجد الفلاني أربعًا، ففات فعله فيه، لم يجز فعله في غيره، وكذلك لو قال: أعط زيدًا ألفًا، فمات زيد، لم يدل على جواز إعطاء غيره.
والجواب: أن [هناك] فرقًا بين تعلق الأمر بزمان، وبين فعله بمكان معين، ألا ترى أن حقوق الآدميين المتعلقة بزمان لا تسقط بفوات [35/ أ] الزمان، ولو تعلق بعين ففاتت العين سقطت، ألا ترى أن الرهن إذا تلف سقط حق المرتهن من الوثيقة، وكذلك العبد الجاني، إذا مات سقط الحق؛ فكذلك ههنا.
واحتج بأن القضاء بدل، والبدل لا يجب إلا بدليل، والذي يدل عليه أنه محتاج إلى نية القضاء.
والجواب: أنا لا نسلم أنه بدل، بل هو الواجب عليه بالأمر الأول واختلاف النيتين لا يدل على أنهما غيران، بدليل المقصورة والتامة، والظهر والجمعة، وعلى أن نية القضاء ليس بشرط في صحة الفعل؛ لأن أحمد -رضي الله عنه- قال في الأسير، إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ فصام شهرًا يريد به رمضان فوافق ما بعده أَجْزَأَهُ، وإن لم يوجد منه نية القضاء؛ وإنما يستحب ذلك للخروج من الخلاف، وعلى أن نية القضاء لا تدل على البدل؛ لأنه قد يجب البدل من غير نية القضاء، كالطهارة إذا أخَّرها عن وقت وجوبها، والكفارة والحج والزكاة والنذر.
ولأن القضاء تسمية شرعية، فتستعمل بحيث أطلقتها الشريعة.(1/298)
واحتج بأن المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول؛ فيحتاج وجوب الفعل في الوقت الثاني إلى دلالة، كما احتاج في وجوبه في الوقت الأول إلى دليل.
والجواب: أنه إنما يقال: المفعول في الوقت الثاني غير المفعول في الوقت الأول إذا وجد منه فعل في الوقت الأول، فيكون الثاني غيره؛ فأما إذا لم يوجد منه فعل، فلا تصح هذه العبادة 1، وقد بينَّا أن الثاني هو الفرض الأول.
واحتج بأن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، وقد علمنا كون الفعل مصلحة في الوقت الذي خص به، ولا نعلم كونه مصلحة في الزمان الثاني، فلا يجوز مع جواز كونه مفسدة.
والجواب: أن هذا لا يصح أن لو كان الأمر متعلقًا بما فيه مصلحة، فنكون لا نعلم وجودها في الوقت الثاني.
فأما على قولنا فالأمر غير موقوف على المصالح، وقد يتضمن المصلحة والمفسدة.
فأما من فرَّق بين المقيد2 والمطلق فلا وجه له؛ لأن المطلق والمقيد سواء في تعلقهما3 بالوقت؛ لأن المطلق يختص أول أوقات الإمكان عنده وعند القائل؛ فإذا لم يسقط أحدهما بمضي وقته وجب أن لا يسقط الآخر.
يبين ذلك: أن ما ثبت من جهة النطق بمنزلة ما ثبت بدليل، ألا ترى أن عقد البيع لما أوجب سلامة المبيع كان شرط المشتري لذلك وسكوته عنه
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "العبارة".
2 في الأصل: "المؤقت".
3 في الأصل: "تعليقها".(1/299)
بمنزلة في أنه يعتبر صحة المبيع بجميع أجزائه.
واحتج بأن تقيد المأمور به بالوقت يوجب له صفة زائدة على كونه مطلقًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتقييده بالوقت معنى؛ فإذا كان المطلق كالمقيد في أنه لا يجوز تأخيره عن وقت الوجوب، لم يجز أن [35/ ب] يختلفا إلا في باب سقوط المقيد منهما بفوات وقته، وبقاء حكم المطلق بعد الوقت الأول.
والجواب: أن نقول بموجب هذا، وأنه قد أوجب له صلة زائدة وهو إنما أفاده تأخيره الوجوب عقيب الخطاب.(1/300)
مسألة الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئا
مدخل
...
مسألة: 1
الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا، وهو قول جماعة الفقهاء وأكثر المتكلمين والأشعرية وغيرهم2.
وقالت طائفة من المعتزلة3: لا يقتضي ذلك، وأن كونه مجزئًا يعلم بدلالة غير الأمر.
__________
1 هذه المسألة موجودة في المسودة "ص: 27". وروضة الناظر "ص: 107، 108"، والتمهيد الورقة "42"، والواضح، الجزء الأول، الورقة "288".
2 وقد اختاره ابن قدامة في كتابه الروضة "ص: 107، 108". كما اختاره الآمدي في كتابه الإحكام "2/ 162".
3 "راجع في هذا: كتاب المعتمد في أصول الفقه "1/ 99-101".(1/300)
دليلنا:
إن الأمر بالعبادة اقتضى وجوب فعلها وإيجاده، فإذا فعل المأمور به فقد امتثل ما اقتضاه الأمر، فخرج عن عهدته، وعاد إلى ما كان عليه قبل(1/300)
الأمر، فبرأت ذمته كما لو أمر السيد عبده بفعله شيء ففعله، لم يبق عليه شيء من ناحية أمرهن، ويبين صحة هذا أنه يصح أن يخبر عن نفسه بأن يقول: قد فعلت كذا وكذا، فلو كان قد بقي عليه شيء من حكم المأمور به، لما صح أن يخبر بذلك.
ولأن جواز الفعل حكم تعلق بالمأمور به، كما أن استحقاق الثواب حكم تعلق به، فإذا كان فعل المأمور به على شرائط يدل على استحقاق الثواب، كذلك يجب أن يدل على جوازه.
ولأنه لا طريق إلى معرفة جوازه إلى وقوعه على الوجه المأمور به، ألا ترى أنه يستحيل أن تكون الدلالة على جوازه وقوعه على غير الوجه المأمور به، فدل ذلك على ما قلناه.
واحتج المخالف: بأن معنى قولنا: يجزئه، أنه لا تجب عليه الإعادة، وقد علمنا أنه غير ممتنع بأن يأمر الحكيم بفعل من الأفعال، ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب واستحققتم الثواب، وعليكم الإعادة مع ذلك، ألا ترى أن الحَجَّة الفاسدة مأمور بالمضي فيها، ويستحق الثواب على فعلها، ومع ذلك فعليه الإعادة، وكذلك من ظن أنه على طهارة وهو في آخر الوقت، فأن الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها1، ومع ذلك فعليه الإعادة إذا علم أنه كان على غير طهر.
والجواب: أنه2 هناك لم يأت بالعبادة على الوجه المأمور به، بل أَخَلَّ بشرط، فلهذا لم يقع موقع المأمور به، وكلامنا فيما يأتي به على الوجه المأمور به من غير إخلال ببعض شرائطه3.
__________
1 في الأصل: "به".
2 في الأصل "أن".
3 كلام المؤلف هنا تحرير لمحل النزاع، وحبذا لو وضعه في أول المسألة.(1/301)
واحتج بأن اللفظ تضمن إيجاب الفعل فحسب، ولم يتضمن إجزاءه وسقوط الفرض، فاحتاج في ذلك إلى دليل.
والجواب: أن اللفظ تضمن إيجاده، فإذا أوجده امتثل ما أمره به وبرأت ذمته من1 حكم الأمر، فعاد إلى ما كان عليه قبل توجه الأمر ولم يبق شيء يحتاج فيه إلى دليل.
__________
1 في الأصل "عن".(1/302)
مسألة 2: [الواجب المخير] :
إذا ورد الأمر بأشياء على طريق التخيير، كالكفارات3 الثلاث ونحوها، فالواجب واحد [36/ ب] منها بغير عينه، فيتعين ذلك بفعله، فيصير كأنه الواجب عليه بنفس السبب.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية البغوي4: كل شيء في كتاب الله تعالى "أو" فهو تخيير وهو قول جماعة الفقهاء وأصحاب الأشعري.
وذهب المعتزلة إلى أن الجميع واجب على طريق التخيير5.
__________
1 في الأصل "عن".
2 راجع في هذه المسألة: التمهيد، الورقة "44/ ب-46/ ب"، والمسودة "ص: 27-28"، روضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوك المنير "ص: 118- 120" والفصول في أصول الفقه، للجصاص، الورقة "105" وما بعدها.
3 في الأصل: "كالعبادات".
4 هو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب، المعروف بالبغوي، يلقب "لؤلؤًا"، من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه فقهه. صدوق، ثقة. مات سنة: 259هـ. له ترجمة في "طبقات الحنابلة "1/ 109، 110".
5 هكذا صرح به عبد الجبار في المغني، قسم الشرعيات "ص: 123"، كما صرح به أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" ونقله عن شيخيه أبي علي وأبي هشام "1/ 87".(1/302)
وكان الكرخي مرة ينصر هذا، ومرة ينصر مثل ما حكيناه عن جماعة الفقهاء1.
ومن الناس من قال: هذا خلاف في عبارة، لا في معنى؛ لأنهم وإن قالوا: الجميع واجب، فإنه إذا أتى بواحدة أجزأه. وإذا فعل الجميع في وقت واحد، فإن الواجب منها واحد، والثواب يستحق على واحد، وإذا ترك الجميع استحق العقوبة على واحد.
وهذا القائل يقول: وإن كان كلامنا في عبارة فهو مفيد؛ لأنَّا نخطئهم في إطلاق اسم الواجب على الجميع.
ومنهم من قال: خلاف في معنى؛ لأن من قال: الواجب منها واحد بغير عينه، فإنه يجعل من حلف أنه لم يجب عليه بالحنث جميع الأشياء الثلاثة بارًّا في يمينه.
ومن أوجبها جعله حنثًا في يمينه.
ولأن من قال: الواجب واحد من الجملة غير معين، فإنه يقول: المراد من المكلف واحد من الجملة، وفي معلوم الباري تعالى أنه لا يعدل عنه إلى غيره.
ومن زعم أن الجميع واجب، فإنه يقول: إنه قد أراد كل واحد من الثلاثة كما أراد الآخر، وكره ترك كل واحد كما لو كره ترك الآخر، وهذا خلاف في المعنى.
__________
1 هكذا في المسودة "ص: 27"، وقد نقله من "العدة" على ما يظهر.(1/303)
دليلنا على أن الواجب واحد منها أشياء:
منها: أن من قال لآخر: الْقِ زيدًا أو عمرًا، لم يفهم أحد وجوب لقائهما، ولو قال: تصدق من مالي بدرهم أو دينار، لم يعلم وجوب فعلهما، ولهذا المعنى استحق المأمور أن يذم بإخراج الأمرين من ماله، ولو كانا واجبين لم يستحق الفاعل ذمًّا بفعل الواجب؛ ولأن الأمر بالشيء بمنزلة الإخبار عنه. ثم ثبت أن القائل إذا قال: ضرب زيد عمرًا أو خالدًا، كان إخبارًا عن ضرب واحد، وكذلك الأمر إذا كان على هذا الوجه.
وأيضًا لو فعل الجميع لم يكن الواجب إلا واحدًا من الجملة، فلو كان الجميع واجبًا قبل الإيقاع، لكان متى تعين بالفعل وقع على الصفة التي كان عليها قبل الإيقاع، ألا ترى الذي تعين فعله لا يجوز أن تخالف صفته حال الإيقاع لما تعلق به الأمر، مثل سائر الواجبات التي ثبتت من غير تخيير، ولما ثبت أن الواحد منها يقع واجبًا دلَّ على أن الواجب واحد منها.
فإن قيل: إنما لم يقع جميعها واجبًا؛ لأنها كانت واجبة على التخيير.
قيل: المفعول يقع عن1 الواجب كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خير في تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخير فيه، ولو فعله لوقع ذلك عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه.
فإن قيل: الثلاث كفارات قبل الإيقاع، [36/ ب] ومتى أوقعها كانت الكفارة واحدة كذلك حكم الوجوب.
__________
1 في الأصل: "من".(1/304)
قيل: قولنا: كفارة عبارة عن الواجب، وهذا الاسم لا يصح إطلاقه، وإنما يتجوز بالعبارات، فنقول: إنها كفارات، بمعنى أن كل واحد منها1 يقع به التكفير متى اختاره المكلف. ويجوز أن يسمى الجميع كفارات، ويراد به في حق المكلفين؛ لأن الواحد قد يختار العتق، وآخر الإطعام، فأما حق الواحد فلا يقال ذلك فيه إلا على طريق الاتساع.
وأيضًا: فإنه لو ترك الثلاثة استحق العقاب على واحد، فدلَّ: أن الواجب واحد منها، يدل على صحة ذلك: أن فرض الكفاية على التخيير؛ لأن كل واحد منهم إذا فعله أجزأه، ومع ذلك إذا تركه الكل حرجوا وأثموا واستحقوا العقاب، كما إذا كان واجبًا على الجميع، وكذلك لو كان له على رجل ألف درهم، فضمنه عنه ضامن، وجب له الألف على كل واحد منهما على التخيير، وإذا تركا جميعًا قضاءه استحقا العقوبة، فلو كان جميع الثلاثة واجبًا، لوجب أن يستحق تاركها العقاب على جميعها، ولما أجمعنا على أنه يستحق العقاب على واحد منها2، وجب أن يكون الواحد منها3 واجبًا.
فإن قيل: إذا فعل الجميع أو واحدًا استحال التخيير، فلو قلنا: إن الجميع واجب؛ لأدى إلى أن يكون واجبًا على طريق الجميع، وكذلك إذا ترك الجميع لو قلنا: يعاقب على ترك الجميع أدى إلى هذا المعنى، وهذا غير سائغ، وإنما يسوغ التخيير فيما لم يوجده، وهو قادر على إيجاده.
قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم، وقلنا: المفعول في المتروك يقع عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خُيِّر في
__________
1 في الأصل: "منهما".
2 في الأصل "منهما".
3 في الأصل: "منهما".(1/305)
تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت، فإنه واجب مخيَّر فيه، ولو فعله أو تركه، كان حكمه حكم ما لم يكن مخيرًا؟
فإن قيل: لا يحوز اعتبار الوجوب باستحقاق العقاب؛ لأنه إذا أمكنه فعل كل واحد من الأنواع، فلم يخرج تعلق العقاب بأقلها، وهذا متعين قبل تركها، والواجب منها غير معين، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
قيل: لا نعين العقاب في واحد منها1. ثم نقول: يستحق على واجب واحد بغير عينه عقابًا، هو بقدر أقلها عقابًا، فأما أن نعين الاستحقاق في أقلها عقابًا فلا.
وأيضًا: فإن هذا القول يؤدي إلى أن من وجب عليه مُدٌّ من طعام وفي ملكه عشرة آلاف2 مد، وهو مخيَّر في إخراج كل واحد منها: أن يكون الواجب عليه عشرة آلاف3 مد، وأن من وجب عليه شراء رقبة للكفارة، وهو يقدر على شراء كل واحدة من رقاب البلد: أن يكون قد وجب عليه أن يشتري للكفارة جميع رقاب البلد. وإذا وجبت عليه خمسة دارهم في مائتي درهم وجب أن يكون قد وجب إخراج جميع [37/ أ] المائتين؛ لأنه مخير في إخراج كل خمسة منها، وهذا خلاف إجماع المسلمين، وكل قول أدى إلى ذلك فهو باطل مردود.
واحتج المخالف:
بأن الأمر يتناول كل واحد كتناوله للآخر، فقد تساويا من هذا الوجه، وتساويا في أن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، وفي
__________
1 في الأصل: "منهما".
2 في الأصل: "ألف" بالإفراد.
3 في الأصل: "ألف" بالإفراد.(1/306)
أن الآمر أراده، وأنه إذا كفر وقع موقعه، فإذا كان أحدهما واجبًا كان الآخر كذلك.
والجواب عن قولهم: أن الأمر تناول كل واحد، وأن ذلك مراد للآمر، فلا نسلم هذا، بل الأمر تناول واحدًا لا بعينه، والآمر أراد واحدًا لا بعينه، وعلى أن الأمر والإيجاب لا يدلان على الإرادة عندنا.
وقولهم: إن المصلحة في كل واحد كالمصلحة في الآخر، فهذا لا يدل على أن الوجوب يعمها1، ألا ترى أن الله تعالى قد تعهد بإخراج الصدقات إلى المساكين، وجعل الخيار في وضعها فيهم إلى أرباب الأموال، فيكون له أن يعطي من يشاء من المساكين كالمصلحة في دفعها إلى غيره منهم.
وكذلك يجب عليه في مائتين خمسة دراهم شائعة، ولرب المال إخراج أي خمسة شاء منها، ولا يكون هذا دلالة على إيجاب إخراج كل خمسة منها مع تساويها في المصلحة.
وقولهم: إنه إذا كفر بأحدهما وقع موقعه، كما لو كفر بالآخر، فهذا لا يدل على إيجابهما كما ذكرنا في الدفع إلى أحد الفقراء، الأداء يقع بالدفع إلى كل واحد، ولا يجب الدفع إلى الجميع. وكذلك إخراج خمسة من مائتين كل خمسة من ذلك مساوية للأخرى في الأداء. ولا يجب إخراج الجميع.
واحتج بأنه لو كان الواجب واحدًا لنصب الله عليه دليلا، وميَّزه عما ليس بواجب، ولهذا يطلبه.
والجواب: أنه إنما يجب هذا إذا كان الواجب معينًا قبل الفعل، فينصب عليه دليلا؛ ليتوصل المأمور إلى معرفته، فأما إذا لم يكن معينًا وإنما
__________
1 في الأصل: "يعمهما".(1/307)
يتعين بفعله فلا حاجة به إلى تبين؛ لأن ما يؤدي به فرضه هو الذي يختار فعله منها.
وجواب آخر وهو: أن ما يستحق العقاب على تركه والثواب على فعله واحد، ولم يجب نصب الدليل عليه، فكل جواب لك عنه فهو جوابنا عن الواجب الواحد.
وجواب آخر وهو: أن المستحق عتق عبد من عبيد الدنيا، وإطعام عشرة من فقراء دار الإسلام، وإن لم يدل الأمر على أعيانهم، وكذلك تعتبر الزكاة في خمس من ماله لم يدل عليه، وإن كان هذا القدر هو الواجب عليه.
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن يكون الواجب واحدًا من الجملة، وفي معلوم الله تعالى أن المكلف لا يعدل عنه إلى غيره، فيجوز أن يخيَّره في ذلك، ويكون القصد تعريضه للثواب في طلبه لما هو الأولى [37/ ب] والأفضل عنده، ويصير بمنزلة فرض الإمامة أنه يتعلق بواحد والخيار إلى الأمة في اختياره وتعيينه، وإن لم تقم دلالة على عينه، وكذلك العدل من الشهود.
واحتج بأنه لا يجوز أن يقال: إن الواجب واحد من الجملة؛ لأنه لا يعرف ما هو الأصلح.
والجواب: أن الباري -سبحانه- لو نصَّ فقال: أوجبت عليك أيها المكلف واحدًا من هذه الجملة، وقد علمت أنك لا تختار إلا ما هو المراد منك والواجب عليك، جاز.
فإن قيل: فيجب أن يخبر الإنسان بين تصديق المنبأ ومن هو متنبئ، قيل: لو لزم هذا للزم المخالف، إذا قال في مقدار الزكاة: الخيار إلى المالك في أن يعينه في أي مال شاء، وكذلك إذا قال: الخيار إليه في تعيين.(1/308)
الدفع إلى أي فقير شاء. وكذلك في اختيار الإمام وتمييزه ممن ليس بإمام.
ومن الناس من أجاز ذلك إذا كان في معلوم الله تعالى: أن المكلف لا يختار إلا الإيمان بمن هو نبي، مثل الإمامة، ومن منع ذلك فرَّق بين الأمرين: بأن تصديق المتنبئ معصية وكذب، فغير جائز أن يخير بين أن يكذب أو يصدق، وبين أن يطيع أو يعصي، وأما في الأشياء المأمور بها على وجه التخيير فجميعها يجوز أن تجمع في الفعل، فجاز أن يقف على اختياره.
واحتج: بأن التخيير يقع بين الأشياء المتساوية، ومتى لم تكن واجبة زال هذا المعنى.
والجواب: أن الجملة متساوية في أن كل واحد منهما يجزئ عن الواجب متى اختاره المكلف. فإن قيل: المكلف قد يختار واحدًا من الجملة ثم يعدل عنه إلى غيره.
قيل: متى اختار تعيين الواجب في واحد وقف حكمه على إيجاده، فإذا أوجد الثاني تبينَّا أن الذي أريد ذلك دون غيره، مثل أن يعطي زكاة ماله أي فقير، بعد أن أراد تعيينه إلى آخر، وكذلك إذا أرادت الأمَّةُ تقليدَ واحد الإمامةَ فرأت غيره أحق منه بعد ذلك.
واحتج: بأنه لو كان الواجب واحدًا من الجملة، كان إذا فعل غيره لم يقع موقع الواجب.
والجواب أنا نقول: الواجب غير معين، وهو ما يختاره المكلف، فتعينه بفعله، فيقول القائل: إذا عدل عن غيره أو فعل غيره محال، وإذا كان تعيين الوجوب موقوفًا على فعله وتعيينه بطل اعتبار العدول، ولو صح هذا الاعتبار لوجب إذا نذر الواحد عتق عبد من عبيده أن يكون الواجب عليه عتق جميع عبيده، ومن طلق واحدة من نسائه أن يكون(1/309)
الواجب عليه طلاق جميعهن، وكذلك من وجب [عليه] زكاة خمسة دراهم، أن يكون الواجب عليه أن يتصدق بها على جميع فقراء الدنيا، وكذلك من وجبت عليه خمسة دراهم أن يلزمه أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن له العدول من بعض إلى بعض، [38/ أ] فسقط ما قالوه.(1/310)
الواجب الموسع
مدخل
...
مسألة: [الواجب الموسَّع] : 1
العبادة إذا تعلقت بوقت موسع كالصلاة، فإن وجوبها يتعلق بجميع الوقت وجوبًا موسعًا، وله تأخيرها إلى آخره.
وقد نص أصحابنا على هذا في الصلاة، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر الوقت.
واختلفوا فيما يفعله في أوله.
فمنهم من قال: إنه تطوع يقع2 الواجب في آخره.
ومنهم من قال: إن ذلك يقع مراعًا، فإن جاء آخر الوقت، وهو من أهل تلك العبادة، علمنا أنه فعله واجبًا، وإن كان بخلاف ذلك [علمنا] أنه فعله نفلا.
وقال الكرخي: الوجوب يتضمن تأخر الوقت، أو بالدخول في العبادة قبل ذلك3.
__________
1 راجع هذه المسألة في: كتاب التمهيد، الورقة "32/ ب-34/ أ"، وكتاب الواضح، الجزء الأول، الورقة "280/ أ-283/ ب"، والمسودة "ص: 28، 29"، وروضة الناظر "ص: 17"، وشرح الكوكب المنير "ص: 118-120".
2 في الأصل: "يمنع"، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه.
3 عبارة الكرخي في المسودة "ص: 29" هكذا: "وقال الكرخي: الوجوب يتعلق بآخر الوقت، أو بالدخول في الصلاة قبله"، وهي أوضح مما هنا.(1/310)
وهذا الخلاف يفيد حكمين، وليس بخلاف في عبارة؛ لأنَّا لا نجيز له تأخير الفعل عن أول الوقت إلى آخره، إلا بشرط العزم1.
والثاني: أن الفعل إذا كان مما يجب قضاؤه، فإذا دخل الوقت ثم زال التكليف بجنون أو بحيض حتى فات وقته، وجب قضاؤه على قولنا. وعندهم له التأخير بغير عزم، ولا قضاء عليه.
وحكي عن بعض المتكلمين أنه غير متعين2، وإنما يتعين بالفعل كالكفارات.
دليلنا:
أن فعلها في أول الوقت بحكم الأمر، ألا ترى أن ما قبل الوقت وبعده لما لم يتناوله الأمر لم يجز له فعلها فيه بحق الأمر، وإذا كانت مفعولة بحق الأمر وجب أن يكون الفعل واجبًا؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولا يلزم عليه فعل الزكاة قبل الحول أنه يجوز، ولا يقتضي الوجوب؛ لأن تحصيلها لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما كان بحكم الأمر المقتضي للرخصة، وهو حديث العباس3، لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل الصدقة
__________
1 يظهر من كلام المؤلف هنا: أنه يشترط العزم على الفعل في حالة ما إذا لم يفعل الواجب الموسَّع في أول وقته، وهذا خلاف ما اختاره في كتاب الكفاية، كما نقل عنه في المسودة "ص: 29" فإنه لم يشترط العزم.
2 ومعنى هذا أنه يجب في جزء من الوقت غير معين.
3 هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو الفضل، كان مكرمًا عظيم المنزلة عند النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه، مات بالمدينة سنة: 32هـ، ودفن بالبقيع، وعمره: "88" سنة. وصلى على جنازته عثمان، رضي الله عن الجميع.
له ترجمة في: الاستيعاب "2/ 810-817" والإصابة، القسم الثالث "ص: 631" طبعة دار نهضة مصر.(1/311)
قبل أن تحل، فرخص له في ذلك1، وليس كذلك ههنا، فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي يفعل [به] في آخره، وذلك مقتضى الوجوب.
وليس لهم أن يقولوا: إن الأمر بتناول الوقت في باب الجواز، لما بينَّا، وهو أنه تناول بالأمر الذي تناول آخره، وهو قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 2، أو صلاة جبريل في أول الوقت وآخره 3.
ولأن إطلاق الأمر يقتضي الوجوب، وإطلاقه يقتضي الفور عندنا
__________
1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه:
أبو داود في كتاب الزكاة، باب في تعجيل الزكاة "1/ 376".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في تعجيل الزكاة "3/ 54".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب تعجيل الزكاة "1/ 72- 75".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول "2/ 122".
2 "78" سورة الإسراء.
3 حديث صلاة جبريل -عليه السلام- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رواه جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة وأنس بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين.
ارجع في ذلك إلى: سنن الترمذي، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة "1/ 278- 283". وسنن أبي داود في كتاب الصلاة، باب المواقيت "1/ 93، 94"، وسنن ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة "1/ 220"، وسنن النسائي في أول كتاب المواقيت "1/ 197"، وفي باب: آخر وقت الظهر، وفي باب: أول وقت العصر "1/ 200، 201"، وسنن الشافعي مع مسنده "بدائع المنن" في كتاب الصلاة، باب جامع أوقات الصلاة "1/ 46- 48"، وسنن الدارقطني في كتاب الصلاة "1/ 250"، وسنن الدارمي في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة "1/ 213، 214"، وتلخيص الحبير "1/ 173، 174". ونصب الراية "1/ 221- 226".(1/312)
وعندهم، وهذا قد وجد في أول الوقت.
وأيضًا: فإنها إذا فعلت في أول الوقت لم يَخْلُ: إما أن تكون مفعولة في وقت وجوبها الموسع، أو في وقت وجوبها المضيق، كما حكي عن بعض، أو وقعت نفلا، أو قبل الوجوب فيراعى حالها، ولا يجوز أن تكون فعلت في أول وقت الوجوب المضيق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يجوز فعلها بنية النفل، ويكون ذلك أولى بالجواز من نية الفرض؛ ولأنها لو كانت نفلا لم يسقط بها فرض كمن تصدق عن نافلة لا تسقط زكاته، وكذلك من صلى نافلة في أول الوقت لم يسقط بها الفرض في أول الوقت، [38/ ب] فلا يجوز أن تقع مراعاة؛ لأن عبادات الأبدان المقصودة لا يجوز تقديمها على حالة وجوبها من غير عذر، وإذا بطل هذا ثبت أنها فعلت في وقت وجوبها الموسَّع، ولا يلزم عليه الطهارة1؛ لأنها غير مقصودة، ولا يلزم عليه الصيام في الكفارة؛ لأنه غير مقصود، ألا ترى أنه لا يثبت حكمه إلا بعد عدم المال؟
__________
1 في الأصل: "الطهارة"، وقد صوب الناسخ ذلك في الهامش كما أثبتناه.(1/313)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو تعلق وجوبها بأول الوقت، لم يجز1 تركها لا إلى بدل؛ لأن هذه صفة الوجوب، وفي اتفاقهم على جواز تأخيرها في الوقت الأول لا إلى بدل دليل على أن الوجوب [لا] يتعلق بأول الوقت.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يجوز تركها لا إلى بدل، بل له أن يؤخرها بشرط أن يعزم على فعلها في الوقت الثاني، فيكون عزمه على ذلك بدلا عنها.
فإن قيل: الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة تدل عليها، ألا ترى
__________
1 في الأصل: "يجب".(1/313)
أنه لا يجوز إثبات بدل من الماء غير التيمم، وكذلك سائر العبادات لا يجوز إثبات بدل عنها بغير دلالة.
قيل: الدلالة على ذلك أنا لو قلنا: له التأخير من غير شرط العزم، سوَّينا بينها وبين النافلة والمباح؛ لأن له تأخيرها من غير شرط العزم، وقد أجمعنا على الفرق بين الواجب وبين النافلة والمباح، فلا يحصل الفرق إلا بما ذكرنا.
فإن قيل: البدل: ما يفعل لتعذر المثل، وفعل الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل.
قيل: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، وكذلك المسح على العمامة، ويجوز فعلها مع القدرة على المبدل.
وجواب آخر عن أصل الدليل وهو: أنه منتقض بالمسافر، فإنه مخيَّر بين فعل صوم رمضان وبين تركه لا إلى بدل على ما قرر المخالف، ومع هذا فهو واجب، وكذلك قضاء رمضان يجوز تقديمه وتأخيره، وهو واجب في ذمته، ولأن ترك النافلة جائز، وما خيِّر بين فعله وتركه لا يكون واجبًا، وليس كذلك هذا الفعل، فإنه مخيَّر بين تقديمه وتأخيره، ولا يجوز تركه أصلا، فدل على الفرق بينهما.
واحتج: بأنها لو كانت واجبة في أول الوقت لأثم بتأخيرها عنه كتأخير الصوم والزكاة والحج.
والجواب: أنه إنما لم يأثم بتأخيرها عن أول وقتها؛ لأن وجوبها موسَّع، وتلك العبادات وجوبها مضيق، وعلى أن هذا لو كان صحيحًا لوجب أن يثبت الوجوب في الحالة التي يلحقه المأثم، وهو إذا بقي من الوقت قدر ما يصلي فيه الصلاة، وعندهم يأثم بالتأخير عن هذه الحالة، والوجوب متبقٍ1 كذلك ههنا.
__________
1 في الأصل: "متبقي".(1/314)
وأما من شبَّه ذلك بالكفارة، فهو الدليل عليه؛ لأن الكفارة واجبة عليه من حين الحنث في يمينه، وبأي نوع من أنواع الكفارة كفر [39/ أ] كان وجوب الكفارة سابقًا لفعله، وكان مؤديًا لما سبق وجوبه، كذلك يجب أن يكون في أول وقت من أوقاته فعل، أن يكون فاعلا لما سبق وجوبه.(1/315)
مسألة المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير
مدخل
...
مسألة: [المريض ومن في حكمه يجب عليهم الصيام في وقته مع جواز التأخير] : 1
المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام، وإن جاز لهم تأخيره، وإذا فعلوا بعد زوال العذر كان قضاء عن الواجب الذي لزمهم.
وقد قال أحمد -رضي الله عنه- في رواية الأثرم، وقد سئل عن المجنون يفيق يقضي ما فاته من الصوم؟ فقال: "المجنون غير المغمى عليه، قيل له: لأن المجنون رفع عنه القلم، قال: نعم." فأسقط القضاء عن المجنون، وجعل له فيه رفع القلم، فاقتضى أنه غير مرفوع عن المغمى عليه.
وقال أيضًا -رحمه الله- في رواية حنبل في النصراني يسلم في النصف من رمضان، واليهودي، أو الصبي يدرك في آخر الشهر من رمضان؟ فقال: "يصوم ما بقي ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء، إنما حدثت الأحكام عليه." فأسقط القضاء عنهم، وجعل العلة عدم الإيجاب، فاقتضى هذا أن من وجب عليه القضاء، قد كان واجبًا عليه.
خلافًا لأصحاب أبي حنيفة في قوله: الصوم غير واجب عليهم في
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" "ص: 29"، و"الواضح" لابن عقيل، الجزء الأول، الورقة "288".(1/315)
الحال، وإنما يلزمهم عند زوال العذر 1.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: المسافر يلزمه الصيام، فإن فعله أجزأه وإن أخره عنه جَازَ. وأما المريض والحائض فلا يلزمهم قضاء الصيام، إنما يلزمهم2 بعد ذلك.
__________
1 راجع في هذا: التقرير والتحبير "2/ 188"، وتيسير التحرير "2/ 280، 281".
2 هكذا في الأصل في الموضعين، والأولى الإتيان بالضمير مثنى فيقال: "يلزمهما" في الموضعين.(1/316)
دليلنا:
قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} 1 وتقدير الآية: فأفطر، فأوجب العدة بالفطر، وعندهم: ما وجبت بالفطر، وإنما وجبت بمعنىً آخر، وهذا دلالة على وجوب الصوم على المريض والمسافر.
ولأن العبادة إذا كانت مأمورًا بها في وقت محصور، فإذا لم يجب فعلها فيه، لم يجب عليه أن لا يعود وقت مثلها، كالصلاة في حق الحائض، لما لم تجب في وقت، لم تجب حتى يعود وقت مثلها، فلما ثبت في الصوم أنه يجب قبل مجيء وقت مثله2، ثبت أنه وجب القضاء بالتأخير، فهو كما لو أفطر بغير عذر.
وأيضًا: فإنما يأتي به المريض والمسافر والحائض من الصوم بعد زوال العذر، يسمى قضاء، فلولا أنه بدل عن واجب تقدم لما سُمِّيَ بذلك.
[فإن قيل: إنما سمي بذلك] 3 مجازًا.
__________
1 "185" سورة البقرة.
2 في الأصل: "مثلها".
3 ما بين القوسين ليس في الأصل، وإنما صححه ابن حمدان بخط يده، كما ذكر الناسخ ذلك في الهامش.(1/316)
قيل: الأصل في كلامهم الحقيقة، فمدعي المجاز يحتاج إلى دليل.
وقد روي عن عائشة1 -رضي الله عنها- أنها قالت: كنا نقضي ما فاتنا من رمضان في شعبان اشتغالا برسول [الله] 2.
وفي خبر آخر: كنا نؤمر بقضاء رمضان"3، وظاهر التسمية الحقيقة.
__________
1 هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- تزوج بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأعرس بها في المدينة بعد ثمانية عشر شهرًا من الهجرة. مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرها ثماني عشرة سنة. ماتت سنة: 57هـ، بالمدينة.
لها ترجمة في الاستيعاب "4/ 1881"، والإصابة، القسم الثامن، "ص: 16" طبعة دار نهضة مصر.
2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا، أخرجه عنها البخاري في كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان "3/ 43".
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان "2/ 802".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصيام، باب تأخير قضاء رمضان "1/ 559".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في تأخير قضاء رمضان "3/ 143".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء رمضان "1/ 533".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن الحائض "4/ 162".
3 هذا الخبر روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. أخرجه عنها مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة "1/ 265".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الحائض لا تقضي الصلاة "1/ 60".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في قضاء الحائض الصيام دون الصلاة "3/ 145".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن الحائض "4/ 162".(1/317)
ولأن ما فعل بعد زوال العذر يعتبر قدره بقدر الأصل، ويؤتى به على مثاله، فثبت أنه بدل عنه؛ ولأنه يؤمر بنية القضاء.
واحتج المخالف:
بأنه لو كان واجبًا لما جاز تركه، ولأَثِمَ بتأخيره.
والجواب [39/ ب] أنه إنما جاز تأخيره؛ لأن وجوبه موسَّع، وعلى أنَّا قد أبطلنا هذا في المسألة التي قبلها.
واحتج: بأن الحائض لا يتأتى منها فعل الصوم بحال، فلا يجوز أن تؤمر بما لا يتأتى منها.
والجواب: أنه قد يؤمر في الشرع بفعل عبادة، وإن كان في الحال لا يصح منه فعلها، كالمحدث يؤمر بفعل الصلاة، ولا يصح منه الفعل.(1/318)
مسألة الأمر للنبي أمر لأمته
مدخل
...
مسألة: [الأمر للنبي أمر لأمته] : 1
إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} 2، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 3، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا قد عرف أنه واجب أو ندب أو مباح، فإن أمته يشاركونه في حكم ذلك الأمر والفعل، حتى يدل دليل على تخصيصه.
وكذلك الحكم إذا توجه على واحد دخل غيره في حكمه، نحو:
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص: 31، 32"، وروضة الناظر "108-110"، وشرح الكوكب المنير "ص: 167-169"، فإن مؤلفيها قد اعتمدوا على القاضي أبي يعلى كثيرًا.
2 "1" سورة المزمل.
3 "64" سورة الأنفال.(1/318)
رَجْمِ1 ماعز2، وقطع سارق3 رداء صفوان4 ونحو ذلك.
__________
1 قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- أخرجها البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت عن ابن عباس -رضي الله عنهما "8/ 207".
وأخرجها مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا عن ابن عباس وعن أبي سعيد الخدري "3/ 1320، 1321".
وأخرجها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، عن أبي هريرة "4/ 36".
وأخرجها أبو داود في كتاب الحدود، باب الرجم عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما "2/ 456".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم عن أبي هريرة "2/ 854".
وأخرجها الطيالسي في كتاب الحدود، باب اعتبار الإقرار بالزنا وتكراره أربعًا، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما "1/ 299".
وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 312- 317".
2 هو ماعز بن مالك الأسلمي، أبو عبد الله، صحابي جليل، عداده في المدنيين. روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1345"، والإصابة، القسم الخامس "ص: 705" طبعة دار نهضة مصر.
3 حديث قطعه صلى الله عليه وسلم يدَ سارقِ رداءِ صفوانَ، رواه صفوان بن أمية -رضي الله عنه- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب فيمن سرق من حرز "2/ 450".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز "2/ 865".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب قطع السارق، باب الرجل يتجاوز للسارق عن سرقته "8/ 60، 61".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان "4/ 158".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 368، 369".
4 هو صفوان بن أمية بن خلف. القرشي الجمحي، أبو وهب، ويقال: أبو أمية. أسلم بعد الفتح. أحد المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه. مات بمكة المكرمة سنة: 42هـ، له ترجمة في: الاستيعاب "2/ 718"، والإصابة، القسم الثالث، ص: 432، طبعة دار نهضة مصر.(1/319)
وكذلك إذا توجه الخطاب إلى الصحابة -رضي الله عنهم- دخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم" 2،ونحو ذلك.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب3 في رجل قال: إن أكلت هذا الطعام فهو علي حرام، فإن أكله عليه كفارة يمين، حديث عائشة وحفصة4، لما قالتا للنبي -صلى الله عليه وسلم: نشم منك رائحة معافر5، قال: "لا،
__________
1 "103" سورة التوبة.
2 هذه العبارة تَرِدُ في عدة أحاديث، ومنها على سبيل المثال: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، بلفظ: "يا أيُّهَا الناسُ قد فُرِضَ عليكم الحجُّ، فحجوا ... " "2/ 975"، وكلام المؤلف يشعر بأنها آية، حيث عطف كلمة "قوله" على: "قوله تعالى"، وليس الأمر كذلك.
3 هو أحمد بن حميد أبو طالب المشكاتي، من أصحاب الإمام أحمد الذين رَوَوْا عنه مسائل كثيرة، كان أحمد يكرمه، كما كان رجلا صالِحًا زاهدًا. مات قريبًا من موت الإمام أحمد.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 39".
4 هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- تزوجها الرسول -عليه الصلاة والسلام- سنة: 3هـ، عند الأكثر، ماتت سنة: 41 هـ، وقيل سنة: 45هـ.
انظر ترجمتها في الاستيعاب: "4/ 1811"، والإصابة، القسم السابع، ص: 581، طبعة دار نهضة مصر.
5 هكذا في الأصل: "معافر" بالعين المهملة على وزن: مفاعل، والذي في صحيح البخاري ومسلم: "مغافير" بالغين المعجمة على وزن: مفاعيل، وكذلك الشأن في محاسن التأويل للقاسمي: "16/ 5853"، وأحكام القرآن للجصاص "5/ 362"، ومفاتيح الغيب للفخر الرَّازي "3/ 41". و"المغافير" -كما قال القاسمي في المرجع السابق-: "صمغ حلو، له رائحة كريهة، ينضحه شجر يقال له: العُرْفُطُ.(1/320)
بل شربت عسلا، ولن أعود إليه"، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 1، وإنما كان شرب عسلا2.
وقال أيضًا فيمن حرم أَمَته: عليه كفارة.
واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم مارية القبطية3، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} 4. وهذا يدل من
__________
1 "1" سورة التحريم.
2 هذه الرواية في سبب نزول الآية، أخرجها البخاري في كتاب التفسير، باب سورة التحريم "6/ 194".
كما أخرجها مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم يَنْوِ الطلاق "2/ 1100".
وراجع في سبب نزول هذه الآية: تفسير القرآن العظيم لابن كثير "4/ 387".
3 هي مارية بنت شمعون القبطية، مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم ولده إبراهيم، أهداها إليه المقوقس. توفيت سنة: 16هـ، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
انظر ترجمتها في: الاستيعاب "4/ 1912، 1913"، والإصابة، القسم الثامن "ص: 111" طبعة دار نهضة مصر.
4 "1" سورة التحريم.
وكون هذه الآية نزلت في قصة مارية القبطية -رضي الله عنها- لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، إلا أن إسناده صحيح، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره "4/ 386". وقد رجح كون قصة مارية سببًا لنزول الآية -جمالُ الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل "16/ 5855". =(1/321)
كلام أحمد رحمه الله: أن النبي إذا أمر بفعل شيء شاركته أمَّته فيه؛ لأنه احتج في إيجاب الكفارة على من حرم طعامه: بأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالكفارة، لما حرم العسل، ولم يجعل ذلك خاصًّا في حقه؛ لأن الخطاب تناوله.
وقال أيضًا في رواية الأثرم: لا يتطوع قبل صلاة العيد ولا بعدها، وذكر الحديث يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ قبلها ولا بعدها1، فجعل فعله حجة على أمته.
__________
= وهناك رأي لابن جرير الطبري مَفَاده: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حرم شيئًا على نفسه كان حلالا له. وهذا الحلال جائز أن يكون مارية، وجائز أن يكون شيئًا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فأنزل الله تعالى الآية. تفسير الطبري "28/ 158" طبعة الحلبي.
وقد قال بعضهم: إنهما واقعتان، وقد ذكر ذلك ابن كثير، وأَرْدَفَهُ بقوله: إلا أن كونهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر. تفسير ابن كثير "4/ 387".
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن سبب نزول الآية: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "4/ 387، 388"، وعقَّب عليه بقوله: وهذا قول غريب. والذي يفهم من الروايتين المذكورتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يقول بأن كلتا الحادثتين سبب لنزول الآية.
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها "2/ 29".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى "2/ 606".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء لا صلاة قبل العيد ولا بعدها "2/ 417".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد صلاة العيد "1/ 364".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب صلاة العيدين، باب الصلاة قبل العيدين وبعدها =(1/322)
وقال أيضًا في رواية محمد بن موسى1، وقد سئل عن قوم ينهون عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك2.
__________
1 هو محمد بن موسى بن أبي موسى النهرتيري البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد، وكان ثقة صالِحًا جليلا، نقل عن الإمام أحمد مسائل كبار جِيَاد.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/ 323، 324".
2 الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الصلاة كثيرة، ربما تبلغ حدَّ التواتر كما يقول السيوطي.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح "2/ 220" عن شيخه العراقي: "أنه تتبع من رواه من الصحابة، فبلغوا خمسين رجلا".
وقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء عن ابن عمر ومالك بن الحويرث -رضي الله عنهما- ولفظ حديث ابن عمر هو: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده"، ولا يفعل ذلك في السجود" "1/ 178".
وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الصلاة، باب في استحباب رفع اليدين "1/ 292، 293". وعن ابن عمر أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع "2/ 35-40".
وعن ابن عمر ووائل بن حجر أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع =(1/323)
خلافًا للأشعرية وبعض الشافعية في قولهم: يختص ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن واجهه بالخطاب، ولا يدخل النبي فيما كان خطابًا للصحابة1.
وذكر أبو الحسن التميمي من أصحابنا من جملة مسائل من الأصول: أن الأمر إذا توجه إلى واحد، لم يدخل غيره فيه بإطلاقه.
فالدلالة على أن الصحابة تشارك النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به وفي أفعاله قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 2 فأخبر أنه زوَّجَه من كانت امرأة من قد تَبَنَّاه، لكي يقتدي الناس به في ذلك، فلا يمتنعوا من التزويج بنساء من تبنوه، فثبت
__________
= اليدين في الصلاة "1/ 166".
وأخرجه النسائي عن ابن عمر في كتاب الافتتاح، باب العمل في افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع اليدين حذو المنكبين.
كما أخرجه عن مالك بن الحويرث في الكتاب المذكور، باب رفع اليدين حيال الأذنين "2/ 93، 94".
وعن ابن عمر ووائل بن حجر وغيرهما أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع "1/ 279- 281".
وعن ابن عمر ومالك بن الحويرث أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب ما جاء في تكبيرات الانتقال ورفع اليدين عندها "1/ 95".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/ 308- 311".
1 راجع في هذا: المستصفى "2/ 80، 81"، وشرح البدخشي مع شرح الأسنوي وهذا القول نسبه أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير "168"، إلى بعض أصحاب الإمام أحمد.
2 "37" سورة الأحزاب.(1/324)
بهذا أنهم مشاركون له فيما فعله1.
واحتج أبو إسحاق الزَّجاج2 في كتاب المعاني3 بقوله تعالى: {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4، فأول الخطاب مُواجَهٌ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان المراد به أمته بقوله: {طَلَّقْتُمْ} ، {فَطَلِّقُوهُنَّ} 5.
وأيضًا: فإنما اختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشريعة ورد فيه بلفظ التخصيص، مثل قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} 6، و {نَافِلَةً لَكَ} 7، فلو كان منفردًا بما يتوجه إليه من الشرع، لم يكن لتخصيصه فائدة8.
__________
1 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 360": "بأنه تنصيص على ثبوت الحكم للاتباع، وإشارة إلى الإلحاق بالقياس".
2 هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزَّجاج، عالم بالنحو واللغة والعروض، كان يعمل في خرط الزُّجاج، فنسب إليه. تعلم النحو على المبرد. له كتب كثيرة منها: معاني القرآن، والاشتقاق، وكتاب في العروض. ولد ومات ببغداد، وكانت سنة وفاته: 310هـ، على الأرجح، وقد نيف على "80" سنة.
له ترجمة في: الأعلام "1/ 33"، وبغية الوعاة "1/ 411"، وتاريخ بغداد "6/ 89"، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء "308"، ووفَيَات الأعيان "11/ 11".
3 هذا الكتاب طبع منه جزءان، يشتملان على معاني القرآن وإعرابه، من أول القرآن الكريم إلى آخر سورة براءة، وذلك بتحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، نشر المكتبة العصرية ببيروت وصيدا.
4 "1" سورة الطلاق.
5 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 360" بأن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- للتشريف، والمقصود ذكر الخطاب العام.
6 "50" سورة الأحزاب.
7 "79" سورة الإسراء.
8 أجاب المانعون عن هذه الآية، كما في نهاية السول "2/ 670" بقولهم: بأن الفائدة المنع عن الإلحاق بالقياس. وقد ردَّ ابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت" "1/ 282"، مطبوع مع "المستصفى" على هذه الأجوبة السالفة الذكر بقوله: واعلم أن المراد بيان التناول العرفي واستقراره في النفوس، وهذه أمارات مفهمة، فمناقشات المخالفين طائحة.(1/325)
ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان يسأل عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، مثل سؤال الرجل عن القُبْلَةِ في حال الصوم، فقال: "أنا أفعل ذلك" 1.
ومثل قوله لأم سلمة2 حين سألته عن الاغتسال من الجنابة: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي"3، فلو كان مخصوصًا بحكم الشرع، لم يكن لهذا الفعل معنىً.
__________
1 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في "موطئه" في كتاب الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة في الصوم بسنده إلى عطاء بن يسار مرسلا، وله قصة وفيها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؛ لأن المرأة قبَّلها زوجها وهو صائم، فبعثها لتسأل عن ذلك "2/ 163" مطبوع مع شرح الزرقاني.
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في تقبيل الرجل زوجته وهو صائم "بدائع المنن" "1/ 258، 259" عن الإمام مالك وذكر بقية سند مالك.
وقد ذكر الزرقاني في "شرحه على الموطأ" "2/ 163": أن عبد الرزاق قد أخرجه موصولا عن عطاء عن رجل من الأنصار.
2 هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، أسلمت قديْمًا وهاجرت إلى الحبشة صحبة زوجها الأول، ثم هاجرت إلى المدينة، مات عنها زوجها، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أربع، وقيل ثلاث من الهجرة.
ماتت سنة: 59 هـ، وقيل سنة: 61 هـ، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا كما جزم بذلك الحافظ ابن حجر.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" "4/ 1939" و"الإصابة" "8/ 240-242".
3 ليس هذا جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة -رضي الله عنها- وإنما =(1/326)
ولأن الصحابة قد كانت ترجع إلى أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يُخْتلف فيه من أحكام الشرع، مثل ما روي عن اختلافهم في الغسل من التقاء
__________
= جوابه هو: "قالت -أي أم سلمة-: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا إنما يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضين على سائر جسدك الماء فتطهرين".
وهذا الحديث أخرجه مسلم عنها في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة "1/ 259".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل "1/ 175".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل "1/ 58".
وأخرجه عنها النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ترك المرأة نقض ضفر رأسها عند اغتسال الجنابة "1/ 108، 109".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتابه الطهارة، باب ما جاء في غسل النساء من الجنابة "1/ 198"، وراجع نصب الراية "1/ 80".
أما الحديث الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله- فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما ذكر أناس عنده غسل الجنابة فقال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا".
وقد أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من أفاض على رأسه ثلاثًا، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه "1/ 70".
وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا "1/ 258، 259"، وقد ذكر في بعض رواياته: أن السائلين له عن ذلك وفد من ثقيف.
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة "1/ 55".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ما يلقى الجنب من إفاضة الماء على رأسه "1/ 112".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة "1/ 190، 191"، وعنده في بعض الطرق: أن ذلك جواب لسؤال وجِّه للنبي -صلى الله عليه وسلم.(1/327)
الختانين من غير إنزال1، ومثل وجوب الوضوء من المسيس2، فلو
__________
1 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين "1/ 271، 272"، وذكر فيه قصة اختلاف فريق من الأنصار مع فريق من المهاجرين في أنه لا يجب الغسل إلى من تدفق الماء أو يكفي في وجوبه المخالطة.
وقد أخرجه الترمذي عن عائشة في كتاب الطهارة، باب ما جاء: "إذا التقى الختانان وجب الغسل" "1/ 180، 181".
وأخرجه ابن ماجه عنها وعن غيرها في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان "1/ 199، 200".
وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة في كتاب الطهارة، باب في الاغتسال "1/ 49". ويلاحظ أن استدلال المؤلف بالحديث لا يتم إلى على الرواية التي أخرجها الترمذي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- السابق الإشارة إليها، ولفظ ابن ماجه: قالت -أي عائشة-: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا. أما غير هذه الرواية فإن الرجوع كان إلى قول الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا إلى فعله.
2 الوضوء من مس المرأة، رواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة هود "5/ 291" ولفظه:.. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لقي امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئًا إلى امرأته، إلا وقد أتى هو إليها، إلا أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فأمره أن يتوضأ، ويصلي، قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أهي له خاصة أم المؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة".
قال الترمذي بعد ذلك: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ.
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب صفة ما ينقض الوضوء، وما =(1/328)
كان مخصوصًا بحكم الشريعة لم يصح رجوعهم إلى فعله، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع.
فإن قيل: الصحابة صاروا إلى هذين الفعلين بدلالة خاصة مقتضية للأمرين.
قيل: خاص الدلائل يختص بمعرفته بعض الناس، فلو كان الأمر على ما قالوه لذكروها، وسألوا عنها، ولو لم يكن عندها دلالة عامة تشترك الجماعة في العلم بها لسألوا عنها كسؤالهم عن نفس الدلالة.
وأيضًا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أمرني الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد نهيتكم عنه"، فدلَّ على أن الأصل ما ذكرنا.
__________
= روي في الملامسة والقبلة "1/ 134"، بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ، ثم قال بعد ذلك: صحيح.
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب الدليل على أن اللَّمس ما دون الجماع والوضوء منه "1/ 135" وسكت عنه.
وقد أخرج الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب الوضوء من قبلة الرجلِ امرأتَه "1/ 89"، مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرج عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: قبلة الرجلِ امرأتَه، وجَسَّها بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسَّها بيده فعليه الوضوء.
وأخرج الإمام الشافعي ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنه- في كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء "1/ 34".
راجع في هذا أيضًا: تلخيص الحبير "1/ 132".(1/329)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ الأمر وقع خاصًّا، فلم يكن هناك لفظ يتناول غيره، فلا يجوز إثباته.(1/329)
والجواب: أن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكم خطاب لأمته؛ لأنه صاحب الشرع ومنه يوجد، ولأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 1، وبقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 2.
واحتج: بأنه لا يمتنع أن يكون مصلحة لعين دون عين، فلا يتعدى إلى غيرها إلا بدلالة.
[40/ ب] والجواب: أنا لا نمنع أن يكون هذا مصلحة في العقل، وكلامنا فيما يقتضيه الشرع، وقد بينَّا أن الشرع يقتضي وجوب التَّأَسِّي في أفعاله.
واحتج: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان مخصوصًا بأشياء لا يشاركه غيره فيها3، كالموهوبة والعدد وغير ذلك، فلم يَجُزْ حمله على المشاركة إلا بدليل.
والجواب: أن الفعل المطلق لا يقع إلا وهو دالٌّ على الاشتراك، وإنما يختص ببعض الأفعال بدليل، وكلامنا في الفعل المطلق.
واحتج: بأن لفظ الواحد له صيغة تخالف لفظ الجمع، فإذا حملنا لفظ الواحد على الجمع، خلطنا باب الواحد بباب الجمع، وهذا لا يحوز.
والجواب: أن خطاب الله تعالى لنبيِّه في حكم خطاب الجماعة؛ لأنه قد أوجب عليهم اتباعه بقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} 4، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ
__________
1 "158" سورة الأعراف.
2 "63" سورة النور.
3 في الأصل: "فيه".
4 "158" سورة الأعراف.(1/330)
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وكذلك خطاب النبي للواحد من الجماعة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطاب2 للجماعة"3.
__________
1 "63" سورة النور.
2 في الأصل: "خطابي".
3 انظر تخريجه هامش: "7" من هذه الصفحة.(1/331)
فصل: الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره:
والدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4 فظاهره يفيد أن ما كان من الحكم الخاص لشخص بعينه في القرآن، فجميع الناس منذَرون5 به، ولا يكون إلا مع تكليفهم لفظه وإيقاعه.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 6، والإرسال يتضمن ما أرسل من الأحكام، ومرسلا إليه، وأَكَّدَ ذلك بقوله تعالى: {نَذِيرًا} ، والإنذار يقع بالعبادات.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" 7.
__________
4 "19" سورة الأنعام.
5 في الأصل: "منذرين به".
6 "28" سورة سبأ.
7 هذا الحديث بهذا اللفظ: لا أصل له، كما قال العراقي، وأنكره المزي والذهبي، وقال الزركشي: لا يعرف. راجع: كشف الخفاء للعجلوني "1/ 436، 437"، والأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة لعلي القارئ "188".
وقال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "ص: 200: "وقد ذكره أهل الأصول في كتبهم الأصولية، واستدلوا به، واخطئوا". غير أن معنى الحديث هذا له أصل، وهو ما رواه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء عن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- "4/ 151، 152"، وفيه: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرج ابن ماجه طرفًا منه، وليس فيه محل الشاهد، وذلك في كتاب الجهاد، باب بيعة النساء عن أميمة -رضي الله عنها "2/ 959".(1/331)
فإن قيل هذا من أخبار الآحاد.
قيل: يجوز الاحتجاج به في مثل ذلك؛ ولأن الأمور التي خص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها الواحد، قد بيَّن عن وجه التخصيص فيها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة1: "الجذع من الماعز يجزئ عنك، ولا يجزئ عن أحد بعدك" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي تزوج بما معه من
__________
1 هو هانئ بن نيار الأنصاري، اختلف في اسمه واسم أبيه، شهد بدرًا وأُحُدًا وبقية المشاهد، شهد مع علي حروبه كلها، توفي في أول خلافة معاوية -رضي الله عن الجميع.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "4/ 1608، 1609" والإصابة، القسم السادس "ص: 523". طبعة دار نهضة مصر.
2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد "2/ 27". وفي كتاب الأضاحي باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة: "ضَحِّ بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك" "7/ 131".
وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب وقتها "3/ 1552-1555".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب ما يجوز في الضحايا من السن "2/ 87".
وأخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة "4/ 93".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب النهي عن ذبح الأضحية قبل الصلاة "2/ 1053".
وأخرجه النسائي في كتاب الأضاحي، باب ذبح الأضحية قبل الإمام "7/ 196".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا، باب النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام "3/ 72، 73" =(1/332)
القرآن: "هذا لك، وليس لأحد بعدك" 1، وكذلك تخصيصه
__________
= وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا، باب وقت الذبح والترخيص، لأبي بردة بن نيار وعقبة بن عامر في التضحية بالجذع من المعز.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/ 207".
وقد وردت الرخصة لعقبة بن عامر -رضي الله عنه- في أن يضحي بالجذعة، فروى البخاري في كتاب الأضاحي، باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس بلفظ: قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله، صارت لي جذعة، قال: "ضحِّ بها".
وقد أخرج ذلك مسلم في كتاب الأضاحي، باب سن الضحية "3/ 1556".
كما أخرج ذلك الطيالسي في مسنده في كتاب الهدايا والضحايا، باب وقت الذبح والترخيص لأبي بردة وعقبة بن عامر في التضحية بالجذع من الماعز "1/ 230".
ومن جهة أخرى فقد جاءت الرخصة بالتضحية بالجذع لزيد بن خالد الجهني، كما في سنن أبي داود في كتاب الأضاحي، باب ما يجوز في الضحايا من السن "2/ 86، 87".
وقد زاد البيهقي بعد أن روى الرخصة في ذلك لعقبة بن عامر: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك".
وعلى هذه الرواية يكون هناك تعارض بين القصتين: قصة أبي بردة، وقصة عقبة، وقد جمع بينهما البيهقي بأن هذه رخصة لعقبة، كما كانت لأبي بردة، ورده الحافظ ابن حجر.
وذهب بعضهم: إلى أن خصوصية الأول نسخت بخصوصية الثاني.
وهناك فريق ثالث: يرى تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة، وبخاصة أن الزيادة: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" في حق عقبة، لم ترد في الصحيحين.
راجع: شرح الزرقاني على الموطأ "3/ 73".
ومن هنا نتبين أن تعبير المؤلف بالتخصيص لأبي بردة لم يكن دقيقًا.
1 قصة تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل بما معه من القرآن ثابتة صحيحة: أخرجها البخاري في كتاب النكاح، باب تزويج المعسر "7/ 8، 9". =(1/333)
للزبير1 بلبس الحرير2.
__________
= وأخرجها مسلم في كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم القرآن "2/ 1040".
وأخرجها الترمذي في كتاب النكاح، باب منه "أي مهور النساء" "3/ 412، 413".
وأخرجها أبو داود في كتاب النكاح، باب التزويج على العمل يعمل "1/ 487".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب النكاح، باب التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم: "1/ 644، 645".
وأخرجها النسائي في كتاب النكاح، باب عرض المرأة نفسها على من ترضى "6/ 64، 65"، وفي باب هبة المرأة نفسها لرجل بغير صداق "6/ 100، 101".
وأخرجها الطيالسي في مسنده "بدائع المنن" في كتاب النكاح، باب جعل العتق صداقًا، وجعل تعليم بعض القرآن صداقًا "1/ 307".
وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحياء "3/ 128، 129". وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 199، 200".
ويلاحظ أن قوله: "هذا لك وليس لأحد بعدك" لم أَرَهَا فيما رجعت إليه من المصادر، غير أن ابن قدامة، ذكر في كتابه المغني "7/ 141"هذا الحديث بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوَّج رجلا على سورة من القرآن، ثم قال: "لا تكون لأحد بعدك مهرًا" ثم قال ابن قدامة بعد ذلك: رواه النجاد بإسناده.
1 هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، ابن عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من سلَّ سيفًا في سبيل الله تعالى، أحد المبشرين بالجنة، شهد بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، مات مقتولا سنة: 36هـ، وله من العمر "67" سنة.
انظر ترجمته في: الاستيعاب "2/ 510-516"، والإصابة، القسم الثاني، "ص: 553" طبعة دار نهضة مصر.
2 حديث الترخيص في لبس الحرير رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب اللباس، باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة "7/ 195"، ولفظه: رخَّص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما. =(1/334)
فبان أن الأصل اشتراك الجماعة في الحكم، حتى يثبت للتخصيص فائدة في موضعه الذي ورد فيه.
ويدل عليه إجماع الصحابة في أحكام الحوادث، مثل رجوعهم في
__________
= وأخرجه عنه مسلم في كتاب اللباس، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة "3/ 1646".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في الرخصة في الحرير "4/ 218" وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الحرير لعذر "2/ 372".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب اللباس، باب الرخصة في لبس الحرير "8/ 178".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب من رخص له في لبس الحرير "1/ 1188".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب اللباس والزينة، باب الرخصة في استعمال الذهب والحرير عند الضرورة "1/ 356، 357".
ولي على المؤلف هنا ملاحظات:
الأولى: أنه عبر بالتخصيص، وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه.
الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف.
الثالثة: أن الواجب أن يذكر علة الترخيص، وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة.
وبعد: فالحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص، كما عرفت.(1/335)
أمر الزنى إلى قصة ماعز 1، وفي الجنين إلى قصة2 حمل بن مالك3، ورجوع ابن مسعود4 في المفوضة إلى
__________
1 قد مضى تخريج قصة ماعز -رضي الله عنه- كما مضت ترجمته قريبًا "ص: 319.
2 وهذه القصة رواها حمل بن مالك وأبو هريرة وغيرهما. أخرجها الترمذي في كتاب الديات، باب ما جاء في دية الجنين "4/ 23، 24" عن أبي هريرة ثم عقب على ذلك بقوله: وفي الباب عن حمل بن مالك.
وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/ 497- 499".
وأخرجها النسائي في كتاب الديات، باب دية جنين المرأة "8/ 41- 44".
وأخرجها ابن ماجه في كتاب الديات، باب دية الجنين "2/ 882".
وأخرجها مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب عقل الجنين "4/ 181، 182"، ولم يذكر فيها حمل بن مالك.
وأصل القصة في صحيح البخاري ومسلم، فالبخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة، وفي باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد "8/ 14، 15".
ومسلم في كتاب الديات، باب دية الجنين "3/ 1309".
وراجع في هذه القصة أيضًا: نصب الراية "4/ 381- 384"، الاستيعاب "1/ 376".
3 هو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة الهذلي، أبو نضلة، صحابي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات هذيل، عاش إلى خلافة عمر -رضي الله عنه.
له ترجمة في: الاستيعاب "1/ 336"، والإصابة "2/ 38، 39".
4 هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل. كان كثير الملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولي بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بيت مال الكوفة. توفي بالمدينة سنة: 32هـ، وقيل: 33هـ، وقيل: توفي بالكوفة، والأول أثبت كما يقول الحافظ ابن حجر.
له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 987"، والإصابة "4/ 129، 130"، وتاريخ بغداد "1/ 147"، وتذكرة الحفاظ "1/ 31"، وخلاصة تذهيب الكمال "ص: 181"، وشذرات الذهب "1/ 38"، وطبقات القراء للذهبي "1/ 33"، وطبقات الحفاظ "5"، والنجوم الزاهرة "1/ 89".(1/336)
قصة1 بروع بنت واشق2. ورجوعهم في وضع الجزية على مجوس هجر3. ولم يَدَّعِ أحد تخصيص الواحد من الجماعة التي خرج عليها الخطاب، فدل على تساوي الجميع في ذلك.
__________
1 خلاصة هذه القصة: أن امرأة تزوجت، ولم يفرض لها صداق، ومات زوجها قبل الدخول بها، وقد سئل ابن مسعود عن حكمها، فقال: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق مثل ما قضيت، ففرح ابن مسعود بذلك.
والحديث أخرجه الترمذي في كتاب النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها "3/ 441"، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يُسَمِّ صداقًا حتى مات "1/ 487، 488".
وأخرجه النسائي في كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير صداق "6/ 98- 100".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك "1/ 609".
وأخرجه الطيالسي في كتاب النكاح، باب من تزوج ولم يسمِّ صداقًا ثم توفي قبل الدخول "1/ 307، 308".
وراجع في هذا الحديث: نصب الراية "3/ 201، 202".
2 هي بروع بنت واشق الرواسية الكلابية، أو الأشجعية، صحابية.
لها ترجمة في: الاستيعاب "4/ 1795"، والإصابة "8/ 29".
3 حديث وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزية على مجوس هجر، رواه عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ولم يكن عمر -رضي الله عنه- أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عنده عبد الرحمن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "4/ 117".
وأخرجه أبو داود في كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب أخذ الجزية من المجوس "1/ 150".
وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس "4/ 146، 147".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الجهاد، باب ما جاء في الجزية "1/ 240".
وراجع أيضًا: نصب الراية "3/ 447- 450".(1/337)
وذهب [41/ أ] المخالف إلى الذي ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا من الأدلة، وقد أجبنا عنه.
واحتج: بأنه لو كان له عبيد، فقال لواحد منهم: اسقني ماء، لم يدخل فيه1 بقية العبيد، كذلك أوامر صاحب الشريعة إذا توجهت إلى واحد، لا يدخل فيه غيره.
والجواب: أن لفظ صاحب الشريعة أدخل في العموم من لفظ غيره، ألا ترى أنه لو قال الله تعالى لنبيِّه، أو قال النبي لبعض أمته: صُمْ؛ لأنك صليت، دخل في ذلك كل مصلٍّ، اعتبارًا بتعليله، وكذلك لو قال: حرمت السكر؛ لأنه حلو، حرم كل حلو، ولو قال السيد لبعض عبيده: اسقني ماء؛ لأنك صليت؛ لم يدخل غيره من عبيده المصلين في ذلك، وكذلك لو قال: والله لا أكلت السكر؛ لأنه حلو، لم يدخل في يمينه غيره من الحلاوات.
__________
1 في الأصل "في".(1/338)
مسألة: دخول النبي في أمره لأمته
مدخل
...
مسألة: [دخول النبي في أمره لأمته] : 1
إذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بأمر، دخل هو في الأمر2.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية الأثرم، وقد سأله عن حديث أم سلمة: "إذا دخل
__________
1 راجع في هذه المسألة: الواضح، الجزء الأول، الورقة "300، 301"، التمهيد الورقة "36، 37"، والمسودة "ص: 32-34"، وشرح الكوكب المنير "ص: 169، 170".
2 نقل في المسودة "ص: 32، 33" للقاضي في هذه المسألة ثلاثة نصوص هي:
1 قال القاضي في مختصر له في أصول الفقه: "الآمر لا يدخل تحت أمره؛ لأن الآمر يجب أن يكون فوق المأمور. فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغ عن الله تعالى، فهو وغيره فيه سواء إلا ما خصه الدليل.
وأما ما أمر به من ذات نفسه فلا يدخل فيه؛ لأن الأصل أن المخاطب لا يدخل تحت خطابه إلا بدليل، ولهذا إذا قال: أنا ضارب من في البيت، لا تدخل نفسه فيه".
2 وقال أيضًا في كتابه "الكفاية": "والآمر يدخل تحت الأمر، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل".
3- وقال أيضًا في مقدمة المجرد: "وإذا أمر الرسول بأمر، فإنه يدخل هو -صلى الله عليه وسلم- في حكم ذلك الأمر، إلا أن يكون في مقتضى اللفظ ما يمنع دخوله فيه".
فمقتضى كلام القاضي في كتابه: "العدة" و"الكفاية" و"مقدمة المجرد" أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أمر بأمر، فإنه داخل فيه، إلا أن يدل الدليل على خلافه، سواء كان مبلِّغًا عن الله تعالى ابتداء، أم أمر به من نفسه، ثم أقر عليه، أو لم يقر.
ومقتضى كلامه في مختصره كذلك، إلا في حالة ما إذا أمر من ذات نفسه، وقبل أن يقر عليه، فلا يكون مأمورًا به والحالة هذه.(1/339)
العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من أظفاره" 1، كيف هو؟ فذكر إسناده، فقيل له: فحديث عائشة خلاف هذا 2، فقال: لا، ذاك إذا بعث بالهدي وأقام، لم يجتنب شيئًا، وهذا إذا أراد
__________
1 حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه الجماعة إلا البخاري، وكلهم أخرجوه في كتاب الأضاحي، فمسلم أخرجه في باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره "3/ 1565". والترمذي في باب: ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي "4/ 102". وأبو داود في باب: الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي "2/ 85". وابن ماجه في باب: من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العَشْر من شعره وأظفاره "2/ 1052". والنسائي في أول كتاب الضحايا "7/ 186، 187"، والدارمي في باب: ما يستدل من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: أن الأضحية ليست بواجبة "2/ 3".
وأخرجه الإمام أحمد في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما يجتنبه في العَشْر من أراد التضحية "13/ 69" من الفتح الرباني. كما أخرجه عنها الدارقطني في كتاب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك "4/ 278".
وراجع: نصب الراية "4/ 206" والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 424".
2 حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا أخرجه الجماعة، وكلهم أخرجوه في كتاب الحج، فالبخاري أخرجه عشر مرات في صحيحه منها: في كتاب الحج باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم بلفظ: "فتلت -أي عائشة- قلائد بدن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء كان أحل له" "2/ 197". وانظر: فتح الباري "3/ 542، 543".
ومسلم في باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، واستحباب تقليده "2/ 957". والترمذي في باب: ما جاء في تقليد الهدي للمقيم "3/ 242". وأبو داود في باب: من بعث بهديه وأقام "1/ 407". والنسائي في باب: فتل القلائد "5/ 133، 134". وابن ماجه في باب: تقليد البدن "2/ 1033، 1034". والإمام أحمد في باب: أن من بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على الحاج "13/ 31" الفتح الرباني. وأخرجه الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، باب ما جاء في إشعار البدن، وتقليد الهدي كله "1/ 228، 229".
وراجع نصب الراية "3/ 115"، والمنتقى من أحاديث الأحكام "ص: 423".(1/340)
أن يضحي في مصره، ودخل العَشْر، لم يمس من شعره ولا من أظفاره، فقد عارض نهيه وهو قوله: "لا يمس من شعره، ولا من بشره" بفعله، وهو أنه ما كان يمتنع عن شيء مما كان عليه، فلو كان نهيه لغيره مما يختص به الغير، وفعله مما يختص به هو، لم يقابل النهي بالفعل؛ إذ كل واحد منهما لا يلزمه حكم الخطاب الآخر1.
وكذلك قال -رحمه الله- في رواية الميموني وقد سأله رجل: أيتوضأ بالنبيذ؟ فقال: كل شيء غير الماء لا يتوضأ به. فقيل له: فحديث ابن مسعود؟ فقال: يرويه هذا الرجل الواحد ليس بمعروف2، يمنع من الوضوء بالنبيذ. واحتج في ذلك بالآية، فعورض بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
__________
1 تعقبه أبو الخطاب في استدلاله بما روي عن أحمد بقوله: "وجميعها لا تدل على هذه المسألة، بل تدل على أن فعله يجب أن يتبع فيه، كما أن أمره ونهيه يتبع فيه، فيتعارضان، فأما أن يدل على أنه يدخل في الأمر، أو لا يدخل فلا" التمهيد الورقة "36/ ب".
2 حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي يشير إليه السائل أخرجه الترمذي وأبو دواد وابن ماجه وأحمد والدارقطني والطحاوي، وكلهم أخرجوه في كتاب الطهارة.
فالترمذي أخرجه في باب: ما جاء في الوضوء من النبيذ "1/ 147" وفي إسناده: أبو زيد، وهو مجهول، كما أن في إسناده: أبا فزارة، وهو مجهول عند بعضهم، وسيأتي بيان ذلك.
وأخرجه أبو داود في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 20" وفي إسناده: أبو زيد وأبو فزارة.
وأخرجه ابن ماجه في باب: الوضوء بالنبيذ، بإسنادين الأول فيه: أبو زيد، وأبو فزارة، كما سبق وفي الثاني: ابن لَهِيْعَةَ وهو ضعيف "1/ 135، 136". =(1/341)
...............................................................................
__________
= وأخرجه أحمد كما في الفتح الرباني، باب حكم الطهارة بالنبيذ إذا لم يوجد الماء "1/ 204، 205" من ثلاث طرق: طريقان فيهما أبو زيد، وأبو فزارة، والثالثة فيها: ابن لهيعة.
وأخرجه الدارقطني في باب: الوضوء بالنبيذ "1/ 75" من عدة طرق فيها المرفوع والموقوف والمقطوع وكلها لا تقوم بمثلها حجة.
وأخرجه الطحاوي في باب الرجل لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم؟ "1/ 94، 95"، بإسنادين في أحدهما: علي بن زيد بن جدعان، وهو متكلم فيه: قال فيه أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال حماد بن زيد: كان يقلب الأحاديث. وقال شعبة: إنه اختلط. وقال الذهبي: صالح الحديث. وقد أخرج له مسلم مقرونًا. راجع في هذا: المغني في الضعفاء للذهبي "2/ 447".
أما الإسناد الثاني ففيه: ابن لهيعة.
ثم عقب الطحاوي على ذلك بقوله: "وليست هذه الطرق طرقًا تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضًا المجيء الظاهر".
والرجل المجهول هو: أبو زيد. قد تكلم فيه علماء الجرح والتعديل، إليك بعض أقوالهم: نقل الزيلعي في نصب الراية "1/ 137" عن ابن عبد البر قوله في كتابه "الاستيعاب": "وأما أبو زيد مولى عمرو بن حريث، مجهول عندهم، لا يعرف بغير رواية أبي فزارة، وحديثه عن ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، منكر لا أصل له، ولا رواه من يوثق به، ولا يثبت".
ونقل الزيلعي أيضًا عن ابن حبان قوله في كتابه الضعفاء: "أبو زيد شيخ، يروي عن ابن مسعود، ليس يدرى من هو؟، ولا يعرف أبوه، ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يَرْوِ إلا خبرًا واحدًا، خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، استحق مجانبة ما رواه".
كما نقل عن ابن عدي عن البخاري قوله: "أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خلاف القرآن". =(1/342)
حديث ابن مسعود، فتكلم عليه، ولم ينكر على السائل هذه المعارضة، فلولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان داخلا في عموم الآية لأنكر عليه ذلك، خلافًا لأكثر الفقهاء والمتكلمين في قولهم: لا يدخل في الأمر1.
__________
= وقال ابن أبي حاتم في كتابه علل الحديث "1/ 17": "سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول، يعني في الوضوء بالنبيذ". ونقل الساعاتي في كتابه الفتح الرباني "1/ 205" عن القارئ قوله: "قال السيد جمال: أجمع المحدثون على أن هذا الحديث ضعيف".
كما نقل عن الحافظ قوله: "هذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه".
وقيل: الرجل المجهول هو أبو فزارة، فهو ليس راشد بن كيسان الثقة المشهور، إنما هو رجل آخر مجهول.
وهو رأي نقل عن الإمام أحمد وعن الإمام البخاري.
وتعقب الزيلعي ما نقل عنهما بأنه قد روى عنه جماعة، فيخرج بذلك من الجهالة إلا أن يراد جهالة الحال. كيف وقد صرح ابن عدي وابن عبد البر بأن أبا فزارة اسمه: راشد بن كيسان. وحكي عن الدارقطني مثل ذلك.
وخلاصة القول في ذلك: أن الحديث مردود لثلاث علل كما ذكر الزيلعي في نصب الراية "1/ 137- 148".
الأولى: جهالة أبو زيد.
الثانية: التردد في جهالة أبي فزارة.
الثالثة: جاء في حديث: "الوضوء بالنبيذ" أن ابن مسعود شهد ليلة الجن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والثابت في صحيح مسلم وغيره خلاف ذلك، حيث ثبت أنه لم يكن معه -عليه الصلاة والسلام- أحد في هذه الليلة.
ولو سلم صحة الحديث، فهو منسوخ بآيتي النساء والمائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ["43" النساء، و"6" المائدة] ؛ وذلك لأن قصة ابن مسعود وقعت ليلة الجن، وذلك قبل الهجرة، وآيتا النساء والمائدة مدنيتان بلا خلاف. انظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي "1/ 149".
1 وبهذا قال أبو الخطاب من الحنابلة كما في كتابه التمهيد الورقة "37/ ب"، وبه قال أبو الطيب، كما نقل ذلك في المسودة "ص: 34".(1/343)
دليلنا:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر الصحابة بالفسخ، قالوا: أتأمرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون" 1، فلولا أنه داخل في الأمر، لم يستدعوا الفعل منه، ولم يقرهم على ذلك، ويعتذر إليهم بعذر منعه من دخوله فيه.
[و] [41/ ب] رواه الأثرم في مسائله بإسناده عن ابن عمر قال: "لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحل بعمرة، قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ قال: "إني أهديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي" 2.
__________
1 هذا الحديث أخرجه البخاري عن جابر -رضي الله عنه- في كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي "2/ 167، 168".
وعنه أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران "2/ 883-855".
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما أخرجه عن عائشة -رضي الله عنها "1/ 414، 415".
وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج والعمرة، باب فسخ الحج إلى العمرة "1/ 217".
وعنه أخرجه الشافعي في كتاب الحد، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة "1/ 309، 310".
وراجع في هذا أيضًا: تيسير الوصول "1/ 255"، والمنتقى "ص: 379"، والتلخيص "2/ 231".
2 حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري عنه عن حفصة -رضي الله عنها- وذلك في كتاب الحج، باب التمتع والإقران بالحج "2/ 167، 168" وفي باب قتل القلائد للبدن والبقر "2/ 197"، وفي باب من لبد رأسه عن الإحرام وحلق "2/ 203".
وأخرجه كذلك أبو داود في كتاب الحج، باب في الإقران "1/ 420".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة "1/ 312".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/ 104".(1/344)
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله تعالى أمره، فيكون بمنزلة قول الله تعالى: افعلوا كذا، فيجب أن يدخل فيه.
فإن قيل: لو قال الله تعالى: قل لأمتك: افعلوا كذا، لم يدخل هو في الخطاب، ولا فرق بينهما.
قيل له: قد بينَّا في المسألة التي قبلها فساد هذا، وقلنا: إن تخصيص النبي بالخطاب يوجب دخول أمته، وتخصيص بعض الصحابة يوجب دخول الباقين فيه، كذلك أمره لغيره يوجب دخوله فيه؛ لأن الجميع شرع، فلا يختص به بعض المخاطبين.
فإن قيل: الأمر مضاف إلى الأقوال، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1، وليس بمضاف إلى الله تعالى.
قيل: إنما أضافه إليه لوجوده من جهته.
فإن قيل: ما اجتهد فيه النبي هو غير مبلغ فيه عن الله تعالى أمره، فكان يجب أن لا يدخل فيه.
قيل: إذا اجتهد فيه وأقر عليه، فهو مبلغ فيه عن الله تعالى؛ لأن إقراره عليه أمر به.
__________
1 "63" سورة النور.(1/345)
فإن قيل: فقد نقل الميموني عن أحمد -رحمه الله- في قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به1، ففي القرآن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟!.
وهذا من أحمد -رحمه الله- يمنع أن يكون جميع كلام النبي عن الله تعالى.
قيل: هذا يمنع أن يكون جميع كلامه في القرآن، وغير ممتنع أن يكون لله تعالى أمر غير القرآن.
__________
1 هذه فرقة ضالة مضلة، ترمي من وراء ذلك إلى التنصل من الأحكام الشرعية، التي جاءت بها السنة المحمدية الشريفة، وهي تظهر في كل زمان وفي كل مكان. وقد ظهرت في زماننا هذا، وهم في هذا يتعلقون بأسباب، هي أَوْهَى من بيت العنكبوت، وتصورها ممن لديه أدنى فهم، يكفي في دحضها والرد عليها.(1/346)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن النبي آمر، فلا يجوز أن يكون مأمورًا به؛ لأنه لا يجوز أن يكون مأمورًا به بما هو آمر به، كما لا يحوز أن يكون آمرًا بما هو مأمور به؛ ولأنه لا يجوز أن يكون مطلوبًا بما هو طالب به، ومسئولا بما هو سائل به، كذلك لا يجوز أن يكون مأمورًا بما هو آمر به.
والجواب: أنا لا نسلم أنه أمره، وإنما هو من جهة الله تعالى وهو مخبر عنه.
واحتج: بأنه لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يخصه، كذلك لا يجوز أن يكون آمرًا نفسه بلفظ يعمه وغيره.
والجواب: أنه ليس بآمر نفسه، وإنما الأمر من جهة الله تعالى له ولغيره، على أنه قد قيل: إن ذلك جائز أن يقول لنفسه: افعل، ويريد منها الفعل.(1/346)
واحتج: بأن من شرط الأمر أن يكون الآمر أعلى من المأمور، وهذا الشرط مفقود ههنا؛ لأنه لا يكون أعلى رتبة من نفسه.
والجواب: أن هذا يصح إذا كان هو الآمر، فأما والآمر هو الله تعالى فلا يلزم هذا.
واحتج: [42/ أ] بأن الأمر يتضمن إعلام المأمور به وجوب الفعل، ولا يجوز أن يكون معلمًا نفسه بلفظه، فلم يَجُزْ أن يكون آمرًا نفسه.
والجواب: أن الله تعالى هو المعلم له، وليس هو المعلم نفسه.
واحتج: بأن المأمور عليه أن يمتثل الأمر، سواء كان عليه فيه ضرر أو له فيه نفع، والإنسان يتوقى ما يضره ويأتي ما ينفعه قبل الأمر، فثبت أن الآمر لا يدخل في الأمر.
والجواب: أن هذا يصح لو كان هو الآمر لنفسه.
واحتج: بأن الأمر في اللغة، لاقتضاء الفعل من غيره، ألا ترى إذا قال: افعل كذا، صلح أن يقول له المخاطب: قد فعلت، ويكون امتثالا فلا يصح أن يقول هو: قد فعلت.
ولأنه لو قال لعبده: اسقني ماء، كان الأمر متوجهًا إلى غلامه، دون نفسه؛ لأنه لا يأمر نفسه أن يسقيه ماء.
والجواب: أنا هكذا نقول، وأن الفعل مقتضاه من غيره، وهو الله سبحانه، ولا يشبه هذا، إذا قال لعبده: اسقني الماء؛ لأن الأمر من جهته صدر، فلا يدخل هو فيه.
فإن قيل: فهل يدخل المخبر تحت الخبر؟
قيل: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة أن يخبر نفسه؛ لأنه ليس يخفى عنه حال المخبر عنه، والأمر بخلافه.(1/347)
فهرس موضوعات المقدمة:
الموضوع الصفحة
الافتتاحية 7
التعريف بالمؤلف 15- 30
اسمه ونسبه 15
مولده 18
نشأته، وطلبه العلم، وأهم أعماله 19
تولِّيه التدريس 22
توليه القضاء 23
زهده، وورعه، وثناء الناس عليه 24
وفاته، ورثاء الناس له 27
أولاده 29
التعريف بالكتاب 31- 56
اسم الكتاب 31
نسبة الكتاب إلى المؤلف 31
وصف مخطوطة الكتاب 32
منهج المؤلف في هذا الكتاب 34
مصادر المؤلف في هذا الكتاب 37(1/349)
الموضوع الصفحة
مصادر في العقيدة 37
مصادر في التفسير وعلومه 38
مصادر في الحديث وعلومه 40
مصادر في الفقه وأصوله 42
مصادر لُغَوية ونحْوية 44
مصادر متنوعة 45
تقويم الكتاب 48
محاسن الكتاب 48
المآخذ على الكتاب 51
منهج التحقيق 57
صورة المخطوطة 61(1/350)
فهرس موضوعات الكتاب
الموضوع الصفحة
افتتاحية الكتاب 67
تعريف الأصول في اللغة 67
تعريف الفقه في اللغة 68
تعريف الفقه في الاصطلاح 69
تعريف أصول الفقه في الاصطلاح 70
وجوب معرفة الفروع قبل الأصول 70
أدلة الشرع ثلاثة أضرب 71
تقسيم الأصل إلى ثلاثة أضرب 72
أقسام المفهوم 72
أقسام الاستصحاب 72
باب ذكر الحدود 74- 193
تعريف الحد 74
الزيادة في الحد 75
أقسام الزيادة في الحد عند الباقلاني 75
تعريف العلم عند المؤلف 76(1/351)
الموضوع الصفحة
ذكر التعريفات الأخرى ومناقشتها 77
تقسيم العلم إلى قديم ومحدث 80
يقسم العلم المحدث إلى ضروري ومكتسب 80
تعريف العلم الضروري وذكر قسميه 80
تعريف العلم المكتسب وذكر قسميه 82
تعريف الجهل 82
تعريف الشك 83
تعريف الظن 83
الظن طريق للحكم بخلاف الشك 83
تعريف العقل 83
الخلاف في محل العقل 89
أدلة من قال: إنه في الرأس 90
أدلة من قال: إنه في القلب 90
رد أدلة من قال: إنه في الرأس 93
تفاوت العقول في بني البشر 94
ذهب بعض المعتزلة وبعض الأشعرية إلى تساوي العقول 94
أدلة من قال بالتفاوت 94
دليل من قال بعدم التفاوت والرد عليه 100
تعريف البيان في الاصطلاح 100
تعريف البيان في اللغة 101
تعريف الإمام الشافعي للبيان 102
اعتراض ابن داود على تعريف الشافعي 103
تعريف الصيرفي للبيان والرد عليه 105
الخطاب المبتدأ الظاهر المعنى يطلق عليه البيان 105(1/352)
الموضوع الصفحة
تعريف البيان عند المتكلمين 106
وجوه البيان في الشرع 107
ما يحتاج إلى البيان 108
ما يقع به البيان 110
البيان من الله -تعالى- بالقول وبالكتاب 110
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول 112
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة 114
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالفعل 118
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإشارة 124
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدلالة
والتنبيه على الحكم من غير نص 125
البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإقرار 127
وقوع بيان المجمل بالإجماع 128
قسم أبو بكر غلام الخلال البيان إلى خمسة أقسام 130
تعريف الدليل 131
معنى الاستدلال 132
معنى المستدل عليه 132
معنى المستدل له 132
معنى الدلالةِ لغةً 132
معنى الدَّال 133
قول أحمد: قواعد الإسلام أربع 135
تعريف الأمارة 135
أقسام الأمارة 135
تعريف النص 137(1/353)
الموضوع الصفحة
تعريف العموم 140
تعريف الظاهر 140
الفرق بين العموم والظاهر 140
تعريف المجمل 142
آية: {وآتوا حقه يوم حصاده} مجملة 143
آية: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} مجملة 143
آية: {ولله على الناس حج البيت} مجملة 144
آية: {حرمت عليكم الميتة} مجملة 145
آية: {حرمت عليكم أمهاتكم} مجملة 145
آية: {وأحل الله البيع} مجملة 148
آية: {السارق والسارقة} ليست بمجملة 149
تعريف المفسر 151
تعريف المحكم 151
تعريف المتشابه 152
تعريف مفهوم الخطاب 152
تعريف دليل الخطاب 154
تعريف التخصيص 155
تعريف النسخ 155
تعريف الأمر 157
المندوب مأمور به حقيقة 158
تعريف النهي 159
تعريف الواجب 159
العبارات التي يطلق عليها "الفرض" 160
الحتم مرادف للفرض 162(1/354)
الموضوع الصفحة
هل هناك فرق بين الفرض والواجب 162
تعريف الندب 162
تعريف الطاعة والمعصية 163
تعريف العبادة 163
تعريف السنة 165
معنى المكتوبة 167
تعريف الإباحة 167
تعريف الحَسَن والقبيح 167
تعريف الجائز 168
معنى الظلم والجور 169
تعريف الخبر 169
تعريف الإجماع 170
تعريف الحقيقة 172
تعريف المجاز 172
للإطلاق المجازي أربعة وجوه 172
تعريف القياس 174
تعريف الأصل 175
تعريف الفرع 175
تعريف العلة 175
تعريف الحكم 176
تعريف العلة الواقفة 176
تعريف العلة المتعدية 176
ما هو المعلول، الحكم أم الذات التي حلتها العلة؟ 176
تعريف "المعتل" و"المعلل" و"المعتل به" و"المعتل له" 176(1/355)
الموضوع الصفحة
تعريف الطرد والعكس 177
تعريف النقض 177
انقسام العلة إلى منطوق به ومجتهد بها 178
تعريف السبب 182
أقسام النظر 183
تعريف الجدل 184
تعريف الرأي 184
تعريف الكلام 185
تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف 186
ذكر بعض الوجوه التي تأتي عليها الأسماء 187
الأسماء نوعان: عام وخاص 187
الأسماء المقيدة المشتقة على قسمين 188
لا يحمل الاسم على الحقيقة والمجاز معًا 188
الأسماء التي استعملها الشرع غير منقولة خلافًا للمعتزلة 189
ثبوت الأسماء هل كان عن توقيف أو عن مواضعة؟ 190
الكلام في بعض حروف تتعلق بها الأحكام 194-212
حرف "الواو" وله ثلاث حالات: 194
الحالة الأولى: أن تكون عاطفة 194
الخلاف في كونها تقتضي الترتيب 194
الحالة الثانية: أن تكون للقسم 197
الحالة الثالثة: أن تكون بدل "رب" 197
قد تأتي الواو بمعنى "أو" 198
حرف "الفاء" 198
حرف "ثم" 199(1/356)
الموضوع الصفحة
حرف "أو" ولها ثلاث حالات: 199
الحالة الأولى: تكون للشك 199
الحالة الثانية: تكون للتخيير 200
الحالة الثالثة: تكون للجمع، على رأي 200
قد تكون للإباحة 200
حرف "الباء" 200
وهي للإلصاق خلافًا لبعض الشافعية فيما لو تعدى الفعل بغيرها 200
حرفا "من، وإلى" 202
حرف "على" 203
حرف "في" 204
حرف "اللام" 204
حرف "إنما" 205
قيام بعض الحروف عن بعض 208
قيام " في" عن "على " 208
قيام "الباء" مكان "عن" 209
قيام "عن" مكان "الباء" 209
قيام "اللام" مكان "على" 210
قيام "إلى" مكان "مع" 210
قيام "اللام" مكان "إلى" 210
قيام "على" مكان "من" 210
قيام "مِنْ" مكان "الباء" 211
قيام "الباء" مكان "مِن" 211
قيام "مِن" مكان "في" 212(1/357)
الموضوع الصفحة
قيام "مِنْ" مكان "على" 212
قيام "عن" مكان "من" 212
قيام "من" مكان "عن" 212
قيام "على" مكان "عند" 212
قيام "الباء" مكان "اللام" 212
بيان أبواب أصول الفقه 213
باب الأوامر 214-424
الكلام في صيغة الأمر 214
الدليل على أن الأمر يكون كذلك لصيغته لا لإرادة الآمر 216
أدلة من قال: "لا بد من الإرادة في الأمر"، ورد ذلك 219
الدليل على أن الأمر هو الأصوات المسموعة 222
الفعل لا يسمى أمرًا ودليل ذلك مع ذكر الخلاف 223
الأمر المتعري عن القرائن للوجوب عند الجمهور 224
إذا أريد بالأمر: الندب، فهو حقيقة فيه 248
الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة 256
الأمر المطلق يقتضي التكرار 264
الأمر المعلق بالشرط يقتضي التكرار 275
الأمر المتكرر هل يقتضي التكرار 278
الأمر المطلق يقتضي الفور 281
الأمر المؤقت، لا يسقط بفوات وقته 293
الأمر يقتضي كون المأمور به مجزئًا 300(1/358)
الموضوع الصفحة
الواجب المخير 302
الواجب الموسَّع 310
مسألة: المريض والمسافر والحائض يلزمهم الصيام.. إلخ 315
الأمر المطلق للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعم أمته
وكذلك الأمر لواحد من الأمة يدخل الرسول
-صلى الله عليه وسلم- في حكمه 318
إذا أمر النبي أمته بأمر دخل هو في الأمر 339(1/359)
المجلد الثاني
باب الأوامر
الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره
مسألة العبيد يدخلون في الخطاب المطلق
مدخل
...
باب الأوامر:
الحكم على واحد من الصحابة حكم على غيره:
مسألة 1 العبيد يدخلون في الخطاب المطلق: 2
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد3: تجوز شهادة المملوك، إذا كان عدلًا؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 4، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 5.
وقال أيضًا في رواية ابن منصور6: "على العبد إيلاء، وإيلاؤه أربعة أشهر". وإنما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
__________
1 راجع في هذه المسألة "الواضح" الجزء الأول الورقة "301-303"، و"التمهيد" الورقة "38-39"، والمسودة ص"34"، و "شرح الكوكب المنير" ص"173"، وروضة الناظر "123-124".
2 وبهذا الرأي قال أكثر الأصوليين، واختاره الغزالي في "المنخول" ص"143"، وفي "المستصفى" "2/77-78"، والآمدي في "الإحكام" "2/248-250"، وهو الأصح عند الشافعية كما في جمع الجوامع "1/427".
3 هو: إسماعيل بن سعيد الشالنجي، أبو إسحاق. كان عالمًا بالفقه. وكان من أصحاب الإمام أحمد. وقد نقل عنه مسائل كثيرة ذات فائدة علمية كبيرة. له ترجمة في: طبقات الحنابلة "1/104-105".
4، 5 "282" سورة البقرة.
6 هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب المرزوي، من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه، ونقلوا عنه مسائل فقهية كثيرة، ثقة مأمون، كما يقول مسلم، قال فيه الخطيب: كان عالمًا فقيهًا. مات بنيسابور سنة "251هـ". له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "2/524"، وتهذيب التهذيب "1/249"، وشذرات الذهب "2/123"، وطبقات الحفاظ ص"229"، وطبقات الحنابلة "1/113".(2/348)
أَشْهُرٍ} 1، ولم يذكر العبيد، ولا اليهود2.
وقال في كتاب طاعة الرسول قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} 3، فالظاهر أنه على العبد والحر.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية الميموني، وقد سأله عن المملوكين أو المملوك وتحته حرة يلاعنها: كل زوجين [يتلاعنان] على ظاهر الآية.
فظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه أدخلهم في عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ 4 يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وفي عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله الجرجاني6.
وحكى أبو سفيان عن الرازي: أنه ما تعلق بحقوق الآدميين؛ لم يدخل فيه، قال: ولهذا لم يجز أصحابنا شهادة العبد.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: يدخل فيه، ومنهم من يمنع7.
__________
1 "226" سورة البقرة.
2 هكذا في الأصل: "اليهود"، وقد صوبه الناسخ في الهامش بقوله: "الشهور"، وهو خطأ؛ لأن المقصود أن الخطاب عام يشمل العبيد والكفار، كاليهود.
3 "226" سورة البقرة.
4 في الأصل: "الَّذِينَ يُؤْلُونَ" وهو خطأ.
5 "6" سورة النور.
6 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269".
7 لكن الأصح عندهم: دخول العبيد في الأمر المطلق، صرح بذلك في: جمع الجوامع "1/427".(2/349)
دليلنا:
أن العبد يصح تكليفه، والخطاب متناول له؛ فوجب دخوله فيه كالحر.
ولأنه يدخل في الخطاب الخاص؛ فوجب أن يدخل في الخطاب العام؛ [42/ب] لأن دخوله في الخاص لتناوله إياه، وهذا المعنى موجود في العام.
ولأن الرق حق يثبت للغير قبله؛ فلا يؤثر ذلك في خطابه، مثل من عليه دين أو قصاص.(2/350)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن رقابهم ومنافعهم كلها مملوكة للمولى؛ فلا يجوز أن يتصرفوا في شيء إلا بإذنهم، وإذا لم يجز ذلك؛ لم يجز إدخالهم في الخطاب المطلق.
والجواب: أن ذلك لا يمنع من دخوله في الخطاب الخاص، وكل جواب عنه؛ فهو جوابنا عن العام.
ولأن فعل العبادة يصير مستثنى في حق مولاه، كما يكون مستثنى في حق الزوجة، وفي حق1 المستأجر.
واحتج: بأن العبد لا يملك فعل ما هو من حقوق الآدميين؛ لأنه لا يملك شيئًا من العقود، ولا الإقرار بالأموال؛ فلم يدخل تحت الخطاب الذي يتضمن حقوقهم؛ لأنه لا يملك فعل ما خوطب عليه2، ويفارق هذا الخطاب الذي يتضمن حقوق الله تعالى كالصوم والصلاة ونحوهما3؛ لأن
__________
1 مكررة في الأصل.
2 هكذا في الأصل، ولعل الأولى: "به".
3 في الأصل "ونحوها".(2/350)
العبد يملك فعل ذلك من نفسه، بدليل أن المولى لا يملكه عليه.
والجواب: أنه إنما لم يملك حقوق الآدميين لدليل دل، وخلافنا في مطلق الأمر الخاص، ويلزم عليه أيضًا حقوق الله سبحانه؛ فإن منافعهم مملوكة لغيرهم، وتلزمهم.(2/351)
مسألة دخول النساء في جمع الذكور
مدخل
...
مسألة [دخول النساء في جمع الذكور] : 1
يدخل النساء في جمع الذكور، نحو المؤمنين والصابرين2.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروزي في قوله: "من بدل دينه
__________
1 راجع في هذه المسألة: التمهيد الورقة "39-40"، وشرح الكوكب المنير "271-272"، وروضة الناظر "123-124".
2 هناك صور ثلاث من صور الجمع لا خلاف فيها، هي:
الأولى: أن يكون مفرد الجمع لا يصلح إطلاقه على النساء، كالرجال، فهو جمع خاص بالرجال اتفاقًا.
الثانية: "أن يكون مفرده لا يصلح إطلاقه على الرجال، كالبنات، فهو جمع خاص بالنساء اتفاقًا.
الثالثة: أن يكون ذلك الجمع متناولًا للذكور والإناث لغة ووضعًا، كالناس؛ فإنه يتناول الذكور والإناث بالاتفاق.
أما الصورة التي فيها الخلاف فهي: إذا كان علامة الذكور فيها واضحة بينة، كجمع المذكر نحو المؤمنين، وقد ذكر المؤلف الخلاف في ذلك.
راجع في هذا: التمهيد الورقة "39/أ"، والإحكام للآمدي "2/244"، ونهاية السول "1/360"، وتيسير التحرير "1/231-235".(2/351)
فاقتلوه" 1 على الرجال والنساء2. خلافًا لأصحاب
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" باب لا يعذب بعذاب الله "5/75"، وفي كتاب "استتابة المرتدين" باب حكم المرتد والمرتدة "9/18-19".
وأخرجه الترمذي في كتاب "الحدود" باب ما جاء في المرتد، وقال فيه: "هذا حديث صحيح حسن" "4/59".
وأخرجه أبو داود في كتاب "الحدود" باب الحكم في من ارتد "2/440".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب "الحدود" باب المرتد عن دينه "2/848".
وأخرجه النسائي في كتاب "تحريم الدم" باب الحكم في المرتد "7/96-97".
وأخرجه الطيالسي في كتاب "الحدود" باب عدم الشفاعة في إقامة الحد وما جاء في حد الردة "1/296".
وأخرجه الطبراني عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أخرجه في معجمه الكبير، كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في معجمه الأوسط. انظر: نصب الراية "3/456".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: فيض القدير "6/95"، والمنتقى "668".
2 والقول بالدخول ذهب إليه بعض الشافعية وبعض المالكية، وهو قول الحنيفة، كما جزم بذلك الكمال في تحريره، وتابعه مؤلف تيسير التحرير "1/234"، وإن كان صاحب مسلم الثبوت اختار القول بعدم الدخول "1/273".
وهذا القول الذي اختاره القاضي، هو رواية عن الإمام أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وقد اختاره الموفق ابن قدامة في الروضة "123-124"، وهناك رواية أخرى: أن النساء لا يدخلن في ذلك، واختارها من الحنابلة أبو الخطاب في كتابه التمهيد الورقة "39/أ" واختاره أيضًا الطوفي كما نقل ذلك عنه أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"171".
ومن هنا يتبين خطأ من نسب القول بالدخول إلى كل الحنابلة، مثل الآمدي في الإحكام "2/244"، والإسنوي في نهاية السول "2/360"، والكمال بن الهمام في تحريره "1/231-234" مطبوع مع شرحه تيسير التحرير، وأبي السعود في تفسيره في أول تفسير سورة النساء.(2/352)
الشافعي1 والأشعرية2 في قولهم: لا يدخلون في ذلك.
__________
1 هذا النقل غير محرر، فالواقع: أنه قول أكثر أصحاب الشافعي، لا كلهم وهو الرأي الأصح عند الشافعية، كما في "جمع الجوامع" مع حاشية البناني "1/428-429" وكما في نهاية السول ومنهاج الأصول "2/359-360".
2 وهكذا نسبة الآمدي في الإحكام "2/244".(2/353)
دليلنا:
اتفاق أهل اللغة على أن الذكور والإناث إذا اجتمعوا1 غلب الذكور على الإناث، كما أنه إذا أخرج من يعقل مع ما لا يعقل؛ غلب من يعقل على ما لا يعقل، يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 2، كان ذلك خطابًا لآدم وزوجته والشيطان، الذي أزلهما عنه3، فغلب الذكر على الأنثى، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ 4 دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} ؛ فغلب من5 يعقل على ما لا يعقل، وهي الحية.
ويقال: رأيت فلانًا وفلانة قائمين، وقاعدين، فيغلب اسم التذكير
__________
1 في الأصل: "اجتمعن".
2 "36" سورة البقرة.
3 وهناك ثلاثة آراء في الآية:
الأول أن المراد: آدم وزوجته والحية.
الثاني: أن المراد: آدم وزوجته وذريتهما.
الثالث: أن المراد: آدم وزوجته؛ لأن أقل الجمع اثنان.
راجع تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" "2/16-17".
4 هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون: {خَلَقَ كُلَّ} .
5 في الأصل "ما".(2/353)
حال التثنية، وإذا صح هذا وكان خطاب الله تعالى في صورة "افعلوا" خطابًا لجميع الناس؛ لأن هذا خطاب لحاضر، وجب أن يكون متناولًا لسائر المكلفين من الرجال والنساء.
فإن قيل: لو كان اللفظ متناولا للذكور والإناث معًا لما غلب أحدهما، بل كانا يتساويان فيه؛ فلما غلب التذكير ثبت أن اللفظ موضوع للذكور، فيجب حمله عند الإطلاق على موضوعه.
قيل: ليس إذا غلب أحدهما كان الخطاب، [42/أ] لأحدهما دون الآخر، كما قلنا: إذا اجتمع من يعقل مع ما لا يعقل، وإذا اجتمع الأيام مع الليالي؛ فإنه يغلب أحدهما واللفظ شامل لهما، كذلك ههنا، وكما يقال: فلان وفلانة قائمان؛ فيغلب التذكير وإن تناولهما.
وأيضًا: فإن الآمر إذا قال لمن بحضرته من الرجال والنساء: "قوموا واقعدوا"؛ كان ذلك خطابًا لهم جميعًا باتفاق أهل اللغة. ولو قال: "قوموا وقمن؛ كان ذلك لكنة وعيًّا، فعلم أن الخطاب يصلح لهما، ويشتمل عليهما.
فإن قيل: لو كان أوامر الله تعالى بمنزلة أمر الآمر لمن بحضرته؛ لما حق وروده بلفظ الأمر للغائب؛ فلما وجدنا الله تعالى قد أمر الغائب بقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 1، وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} 2 علمنا أن أمره مخالف للآمر يأمر من بحضرته3.
قيل: إن كان لفظ الأمر للغائب؛ فالمراد به الحاضر، كما تقول: "اللهم اغفر"، بمنزلة خطاب الحاضر، وتقول: "غفر الله لي"، بمنزلة
__________
1 "5" سورة الطارق.
2 "4" سورة قريش.
3 في الأصل "أن أمره مخالف للآمر من يأمر بحضرته".(2/354)
خطاب الغائب، وهما سواء، كذلك أوامره.
ولأن ألفاظ الأوامر مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، ونظائره، وألفاظ الوعد والوعيد، والمدح والذم، والثواب والعقاب، بلفظ المذكر وهي عامة؛ لعلمنا بمراد الله تعالى الفريقين، وليس لأحد أن يقول: عرفنا ذلك بدليل؛ لأنه لم يرد لفظ يختص بالنساء، ولو كان لظهر.
__________
1 "43" سورة البقرة.(2/355)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2. وأن ذلك مختص بالذكور دون الإناث.
والجواب: أن ذلك اختص الذكور بدلالة الإجماع، ولولا ذلك كان الخطاب للرجال والنساء جميعًا.
واحتج: بأن للذكور علامة يتميزون بها من الإناث، كما أن للمؤمنين علامة يتميزون بها من الكافرين؛ فلما كان المؤمن لا يدخل تحت اسم الكافر، ولا الكافر تحت اسم المؤمن؛ كذلك لا يجوز أن تتناول لفظة: "افعلوا"، غير الذكور؛ لأن الواو في ذلك علامة للذكور، والنون في: "افعلن"، علامة للإناث.
والجواب: أنا لا ننكر أن يكون لكل فريق علامة يميز بها حال الانفراد؛ وإنما الكلام في حال الاجتماع، هل يغلب خطابه بلفظ: "افعلوا"، فيكون خطابا للفريقين، كما يكون حال الاجتماع للمسلمين والكفار خطابا لهم جميعًا.
__________
1 "5" سورة التوبة.
2 "216" سورة البقرة.(2/355)
واحتج بما روي عن أم سلمة؛ أنها قالت: "إن النساء قلن: يا رسول [الله] ما نرى الله يذكر إلا الرجال؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 1"، وهذا يدل على أن النساء لا يدخلن في جمع الذكور.
__________
1 "35" سورة الأحزاب.
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني، وذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ... الآية "18/238-239".
وأخرجه عنها النسائي كما حكى ذلك الشيخ البنا في كتابه الفتح الرباني "18/239"، وابن كثير في تفسيره "487/13"، والسيوطي في الدر المنثور "5/200"، ولم أجده في سننه في حاشيته على تفسير ابن جرير "7/487".
وأخرجه عنها ابن جرير الطبري كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، وكما نقله السيوطي في الدر المنثور "5/200".
وأخرجه الحاكم في مستدركه "2/426"، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وقد وافقه الذهبي على ذلك.
وقد أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن قتادة، نقل ذلك ابن كثير في تفسيره "3/487"، السيوطي في الدر "5/200".
وقد أخرجه عنها - كما عزاه السيوطي في الدر "5/200" - ابن المنذر وابن مردويه والطبراني، كما عزاه إلى الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهم.
وأخرجه الترمذي عن أم عمارة رضي الله عنها في كتاب التفسير باب: ومن سورة الأحزاب "5/354". وقال: "حديث حسن غريب".
وقد أخرجه عنها - كما يقول السيوطي في الدر "5/200" - الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه.
وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن ص"375" عن أسماء بنت عميس.. أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء لفي خيبة وخسار قال: "ومم ذلك؟ " قالت: لأنهن لم يذكرن بالخير كما يذكر الرجال، فنزلت.(2/356)
والجواب: أنهن إنما شكون أن الله تعالى لم يخصهن [43/ب] بالذكر الذي وضع لهن في الأصل، وأردن1 أن يكون لهن في الكتاب2 [أ] لا ترى أنهن كن يصلين ويزكين قبل ذلك بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3 فدل ذلك على ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا لا يختص به النساء؛ فإن الرجال أيضًا ما أفردوا بلفظ يخصهم؛ فإن لفظ التذكير يدخل فيه التأنيث.
قيل: إلا أن علامة التذكير وهي: الواو والنون، قد وردت، وهي دالة على الرجال، ولم ترد علامة التأنيث وهي الألف والتاء4.
واحتج: بأن الآحاد من جميع الذكور لا يدخل فيه الإناث، نحو مؤمن وكافر، وقاتل، كذلك يجب أن لا يدخلن في جمعه؛ لأن الجمع إنما تناوله من يصح تناول آحاده له، ألا ترى أن المؤمن لما لم يصح دخوله في قولك: كافر؛ لم يصح دخوله في قوله: كوافر، وأنها5 لا تدخل في جمع المؤنث، مثل المسلمات والتائبات والصابرات والذاكرات؛ لأنه لا يدخلونه في المسلمة والتائبة والصابرة.
والجواب: أنا إن سلمنا هذا، فليس إذا لم يدخل في آحاد جميع الذكور ما يمنع من دخوله في الجمع، كما قلنا في آحاد الأيام والليالي،
__________
1 في الأصل: "وأفردن".
2 والمعنى: أن يكون لهن ذكر في كتاب الله تعالى، كما للرجال.
3 "43" سورة البقرة.
4 في الأصل: "الياء".
5 الضمير في "أنها" يعود إلى الآحاد من جميع الذكور.(2/357)
لا يتبعه الآخر، وفي الجمع يتبع أحدهما الآخر، وكذلك من1 يعقل وما لا يعقل، آحاده لا ينتظم الآخر، وجمعه ينتظم؛ كذلك هذا.
وجواب آخر وهو: أن لفظ الجمع يحتمل المذكر والمؤنث في الخطاب، وإنما غلب المذكر؛ ولفظ الواحد لا يحتمل أن يجتمع فيه المذكر والمؤنث، فغلب فيه وضع اللفظة.
جواب آخر وهو: أنا لو حملنا الواحد على المذكر والمؤنث، لم يمتز المذكر والمؤنث، وليس كذلك إذا حمل لفظ الجمع عليهما؛ لأنه يحصل الامتياز بينهما في حال أخرى وهو لفظ الواحد.
__________
1 في الأصل: "ما".(2/358)
مسألة دخول الكفار في الأمر المطلق
مدخل
...
مسألة [دخول الكفار في الأمر المطلق] : 1
الأمر المطلق يتناول الكافر كتناوله المسلم، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 و: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3 و: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، ويكون مخاطبًا بالعبادات كالمسلمين في أصح الروايتين.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في اليهودية والنصرانية تلاعن المسلم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 5، فهي من الأزواج،
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة ص"46-47"، وروضة الناظر ص"27-28"، وشرح الكوكب المنير ص"173".
2 "21" سورة البقرة.
3 "179" سورة البقرة.
4 "2" سورة الحشر.
5 "6" سورة النور.(2/358)
وهي بمنزلة المسلمة المحصنة1.
وظاهر كلامه: أنه جعلها داخلة في عموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} .
وقد صرح بذلك في كتاب "طاعة الرسول"، فقال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ؛ فالظاهر يقع على الأمة واليهودية والنصرانية وغير ذلك2.
وإلى هذا ذهب المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة3.
وفيه [44/أ] رواية أخرى: "لا يتناولهم الأمر، ولا هم مخاطبون بالعبادات، وإنما هم مخاطبون بالإيمان والنواهي"4.
__________
1 هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني "8/5"؛ حيث قال: "قال أحمد في رواية ابن منصور جميع الأزواج يلتعنون، الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية".
2 عدم اشتراط الحرية والإسلام في اللعان، هو المشهور من المذهب الحنبلي، وقد عقب ابن قدامة على الرواية التي لا تشترط ذلك بقوله في المغني "8/5": "وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة؛ وما يخالفها شاذ في النقل".
3 راجع في هذا "المغني" لعبد الجبار قسم الشرعيات "17/116-117".
4 وبناء على هذا، جاءت الرواية الثانية التي تشترط الحرية والإسلام في اللعان، وهو رأي الزهري والثوري والأوزاعي وحماد، كما نقل ذلك عنهم ابن قدامة في المغني "8/5".
وهذه المسألة متفرعة عن مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟
وقد نقل ابن قدامة في المغني "1/352" عن الإمام أحمد روايتين، كما نقل مثل ذلك في كتابه الروضة "27-28". وهناك رواية ثالثة، لم يذكرها المؤلف، ولا ذكرها ابن قدامة، وإنما ذكرت في المسودة ص"46-47"، وهي: أنهم غير مخاطبين بشيء.(2/359)
وقد قال أحمد رحمه الله في يهودي أسلم في نصف شهر رمضان: "يصوم ما بقي، ولا يقضي ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه شيء من ذلك؛ وإنما وجب عليه الأحكام من الطهر والصلاة بعد ما أسلم"؛ فقد صرح رحمه الله: أنه لم يكن واجبًا عليه في حال كفره.
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فذهب الكرخي والرازي وجماعة من أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات.
وذهب الجرجاني: إلى أنهم غير مخاطبين بها؛ وإنما خوطبوا بالنواهي والإيمان1.
واختلف أصحاب الشافعي أيضًا:
فمنهم من قال: هم مخاطبون، وهو الأشبه عندهم2.
ومنهم من منع.
فالدلالة على أنهم مخاطبون:
قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 3 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 4، فتوعد المشركين على شركهم،
__________
1 راجع في هذا تيسير التحرير "2/148-150"، وشرح التلويح "1/213-215".
2 قال الإسنوي: وهو أصحها، ونقل عن صاحب البرهان قوله: إنه ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله. انظر نهاية السول "1/370".
3 كلمة "للمشركين" ساقطة من الأصل، وقد أثبتها الناسخ في الهامش.
4 "6، 7" سورة فصلت.(2/360)
وعلى ترك إيتاء الزكاة؛ فدل [على] أنهم مخاطبون بالإيمان وإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتواعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به.
فإن قيل: ليس المراد بالآية أننا لم نؤد الزكاة؛ لأنها ما كان1 يتأتى منهم فعلها؛ وإنما المراد أننا لم نكن معترفين بالزكاة ولا مقرين، وقد يعبر بالفعل عن الإقرار بالشيء وإلزام حكمه، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، يعني: حتى يضمنوا.
قيل: حقيقة الكلام تقتضي أن الوعيد على ترك إيتاء الزكاة؛ فوجب حمله على الحقيقة.
فإن قيل: ظاهر الكلام يقتضي أنه جعله صفة للمشركين؛ فكأنه قال: فويل للمشركين الذين هم على صفة لا يؤتون الزكاة.
قيل: هما صفتان، وتقديره: فويل للقوم المشركين، وقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} صفة ثانية لهم، ويكون ذلك مثل قوله: فويل للسارقين الذين لا يؤدون المسروق؛ فيكون الوعيد على الصفتين جميعًا.
فإن قيل: لو كان كذلك؛ لوجب أن يكون الوعيد على اجتماع الصفتين، وقد أجمعنا على أن المشرك الذي لم يكن له مال متواعد على شركه.
قيل: الوعيد على كل واحد من الصفة بانفرادها دون اجتماعها، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وهذا توعد على كل
__________
1 في الأصل: "كانت".
2 "29" سورة التوبة.
3 "115" سورة النساء.(2/361)
واحد من المشاقة، واتباع غير سبيل المؤمنين.
ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ 1 مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 2، وهذا يدل على [44/ب] أنهم دخلوا النار لتركهم إطعام المسكين وتركهم الصلاة.
فإن قيل: المراد به أنا لم نكن من المعتقدين بالصلاة ولا مقرين بها.
قيل: قد أجبنا عن هذا، وقلنا: حقيقة التوعد على ترك الفعل للصلاة والإطعام.
فإن قيل: هذا حكاية عن قول أهل النار؛ فلا حجة فيه.
قيل: إنما حكى ذلك عنهم ردعًا وزجرًا لغيرهم، ولو لم يكن فيه حجة؛ لم يصح الردع والزجر؛ ولأنه لو يكن صحيحًا؛ لوجب أن يعقبه بذم ونكير، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 3.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} 4، وهذا يدل على أن الكفار مأمورون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر العبادات.
__________
1 في الأصل: "نكن" بإثبات النون فيهما، وهو خطأ؛ فلم أجد أحدًا من القراء، قرأ بإثبات النون. فلعل ذلك من صنع الناسخ.
2 "42-46" سورة المدثر.
3 "120" سورة النساء.
4 "1-5" سورة البينة.(2/362)
وأيضًا: فإن الخطاب متناول لهم بإطلاقه؛ فوجب أن يكونوا داخلين، فيه كالمسلمين، ونريد بالخطاب المطلق نحو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 2، ولسنا نريد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} 4؛ لأن ذلك خاص في المؤمنين.
وأيضًا5 فإن الكفار يدخلون في النواهي؛ لأن الذمي يحد بالزنى والسرقة؛ فوجب أن يدخلوا في الأوامر؛ لأن من دخل في أحد الخطابين؛ دخل في الآخر.
فإن قيل: فلم لا يحد بشرب الخمر كما يحد المسلمون؟
قيل: لأنه قد أعطي الأمان على أن يقر على شربه، كما أعطي الأمان على أن يقر على اعتقاده الكفر. ثم لا يدل هذا على أنه غير مأمور بالإيمان ومنهي عن الكفر، كذلك لا يدل ترك إقامة حد الشرب على أنه غير منهي عنه.
فإن قيل: إنما كلف النواهي؛ لأنه يصح منهم أن يمتنعوا عن فعل النواهي؛ فلذلك صح أن يخاطبوا بها، ولما لم يصح منهم فعل الأوامر؛ لم يصح أن يخاطبوا بها.
__________
1 "43" سورة البقرة.
2 "97" سورة آل عمران.
3 "6" سورة المائدة.
4 "77" سورة الحج.
5 في الأصل: "فإن قيل: إن الكفار ... " وهو خطأ لأمرين:
الأول: أن الكلام يؤيد ما ذهب إليه المصنف من أن الكفار داخلون في الأمر المطلق، فكيف يعترض على نفسه بما يؤيد قوله.
الثاني: أنه لو كان الكلام مساقًا على سبيل الاعتراض لأجاب عنه.(2/363)
قيل: الترك يحصل منهم ولا يكون طاعة، ويحصل الفعل كذلك، فلا فرق بينهما.
وأيضًا: لما كان مخاطبًا بشرط هذه العبادات، وهو الإيمان وجب أن يكون مخاطبًا بالمشروط، كما أن من خوطب بالطهارة كان مخاطبًا بالصلاة.
فإن قيل: إنما خوطب بالإيمان؛ لأنه يتأتى منه، ولم يخاطب بالعبادات، لأنها [لا] تتأتى منه.
قيل: هذا لا يمنع التكليف، كالمحدث هو مخاطب بالعبادة في حال حدثه وإن لم تصح1 منه.
__________
1 في الأصل: "يصح".(2/364)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما بعث معاذًا1 إلى اليمن قال له: "ادعهم [45/أ] إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أجابوك فأعلمهم: أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" 2؛ فلو كان الخطاب يتوجه عليهم بهذا الإيمان لأمره أن يدعوهم إليه.
__________
1 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، كان واليًا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وولاه عمر الشام بعد موت أبي عبيدة، مات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة "18هـ"، وقيل سنة "19هـ" وله من العمر "38"، وقيل "28" سنة. له ترجمة في الاستيعاب "3/1402".
2 حديث معاذ هذا رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة "2/124".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام "1/150".(2/364)
والجواب: أنه لم يأمره بأن يدعوهم إلى ذلك؛ لأنه لا يصح منهم فعله في حال كفرهم؛ فبدأ بما يصح فعله، وهو الإيمان.
واحتج: بأنه كتب إلى كسرى وقيصر1، ودعاهما إلى التوحيد،
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب "الزكاة" باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة "3/12"، وفي كتاب "البر والصلاة" باب ما جاء في دعوة المظلوم "4/368".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/366".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/568".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة "5/3".
وأخرجه عنه الدارمي في الكتاب المذكور باب فضل الزكاة "1/318".
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الزكاة، باب افتراض الزكاة والحث عليها والتشديد في منعها "8/188-190".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي كما في "بدائع المنن" في كتاب الزكاة باب ما ورد في فضلها ووجوبها وقتل مانعها "1/123".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "2/327".
ويلاحظ: أن جميع من أخرج الحديث ممن سبق ذكرهم، لم يذكروا قوله: "فإن أجابوك، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم"، وإنما رأيت أبا داود ذكر ذلك في آخر حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه في كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون "2/41-42"، ولفظه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين".
1 كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لكسرى رواها ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة بلفظ: "أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه ... ". "1/26"، كما أخرجه عنه في =(2/365)
ولم يذكر في كتابه إليهما شيئًا من الشرائع؛ فلو كانا1 متعبدين بها لذكرها.
والجواب عنه: ما تقدم.
واحتج بأن الكافر لا يصح منه فعل الصلاة والصيام في حال كفره؛ فإذا أسلم سقطت عنه؛ فلا يتأتى منه الفعل في الحال، ولا في المآل؛ فلو قلنا: إنه مخاطب بها؛ لكان تكليف الزمن فعل الصلاة قائمًا، والحائض فعل الصلاة في حال حيضها.
والجواب: أنه وإن كان لا يتمكن من فعلها مع الكفر؛ فقد جعل له
__________
= كتاب الجهاد باب دعوة اليهودي والنصراني "4/54"، وأخرجه أيضًا في كتاب المغازي باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وفيه سمي الرجل الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه: عبد الله بن حذافة السهمي "6/10"، وأخرجه رابعة في كتاب أخبار الآحاد باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد "9/111".
وأخرجه القاضي عياض في كتابه الإلماع ص"81".
وأما كتابة النبي عليه الصلاة والسلام لقيصر فقد أخرجها البخاري عن ابن عباس في كتاب العلم باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام "4/54-57"، وفيه قصة سفيان بن أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، وفيه: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
1 في الأصل: "كانوا".(2/366)
السبيل إلى التوصل إليها؛ بأن يقدم الإيمان ثم يفعل العبادات، كالمحدث الذي لا طريق له إلى فعل الصلاة؛ إلا بأن يقدم الوضوء أو الغسل؛ وإنما الذي يمنع وجوب العبادة أن لا يتمكن من فعلها، ولا يكون له طريق إلى التوصل.
فإن قيل: إنما كان المحدث مخاطبًا بفعل الصلاة، والحائض بفعل الصيام، وإن لم يصح الفعل منهما؛ لأن الحدث لا ينفي فعل الصلاة؛ فإنه إذا تطهر لم تسقط عنه الصلاة التي لزمته في حال الحدث، بل يفعلها بعد طهر، وكذلك الحائض.
فأما الكافر فإنه لا يتأتى منه في حال كفره، وفي حال إسلامه يسقط عنه القضاء؛ فلا يتأتى منه الفعل بحال.
قيل: إنما لم يجب القضاء؛ لأن الإسلام جعل مسقطًا لما سلف؛ لئلا يكون وجوب القضاء تنفيرًا عن الإسلام؛ لأن الكافر ربما أراد الإسلام وهو شيخ؛ فإذا علم أنه يلزمه قضاء ما ترك في عمره من صلاة أو صيام أو زكاة؛ نفره ذلك عن اختيار الإسلام واعتقاده.
ويدل على أنه بهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" 2، وهذا يدل على أن الإسلام هو المسقط ما سبقه من الواجب.
__________
1 "38" سورة الأنفال.
2 هذا الحديث رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه أخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج "112/1" بلفظ طويل وفيه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ... ؟ "
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الإيمان باب في كون الإسلام يجب ما قبله من الذنوب "1/93-94" بلفظ: "الإسلام يجب ما قبله من الذنوب".
وقد نسبه الشيخ البنا إلى سعيد بن منصور كما في الفتح الرباني "1/94".
وأخرجه الطبراني عنه كما أشار إلى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/140".
وأخرجه ابن سعد في طبقاته عن الزبير بن العوام وجبير بن مطعم؛ حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء "140/1"، والسيوطي في جامعه الصغير "3/179-180" مطبوع مع شرحه فيض القدير.(2/367)
واحتج: بأن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضاءها في الثاني؛ فصار كالجنون.
والجواب: أن الجنون يمنع الخطاب بالنواهي وبالإيمان، والكفر لا يمنع ذلك.(2/368)
مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده
مدخل
...
مسألة 1 [الأمر بالشيء نهي عن ضده] :
الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، وسواء كان مطلقًا أو معلقًا بوقت مضيق؛ لأن من أصلنا: أن إطلاق الأمر يقتضي الفور2.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: لا يتنحنح في صلاته فيما نابه3؛ فإن النبي [45/ب] صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم في صلاتكم
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"49-50"، وشرح الكوكب المنير ص"330-331" من الملحق، وروضة الناظر ص"25-26".
2 قد مضى في مسألة: الأمر الملطق هل يقتضي الفور؟ أن للإمام أحمد روايتين في هذه المسألة.
3 هذه الرواية ذكرها الموفق ابن قدامة في كتابه المغني "2/46" في كتاب الصلاة فصل: وأما النحنحة.. كما أنه ذكر رواية أخرى نقلها المروزي عن الإمام أحمد أنه كان يتنحنح في صلاته، ليعلمه أنه يصلي.(2/368)
شيء، فليسبح الرجال، ولتصفق النساء" 1، فجعل أمره بالتسبيح نهيًا عن ضده الذي هو التصفيق.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء "2/76".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة "1/318-319".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "2/205-206"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب التصفيق في الصلاة، كما أخرجه عنه سهل بن سعد الساعدي "1/215-216".
وأخرجه عن أبي هريرة ابن ماجه في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء، كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي وعن ابن عمر رضي الله عنهما "1/ 329-330".
وأخرجه عن أبي هريرة النسائي في كتاب السهو باب التصفيق في الصلاة، وباب التسبيح في الصلاة "3/11".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "1/257".
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة باب الإشارة في الصلاة "2/83".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب ما يجوز فعله في الصلاة "1/109".
وأخرجه الإمام الشافعي عنه في كتاب الصلاة باب ما يبطل الصلاة وما يكره وما يباح فيها "1/98-99". كما أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي.(2/369)
وهو قول أصحاب أبي حنيفة1 وأصحاب الشافعي2.
وقال الأشعرية3: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا بنوه على أصلهم: أن4 الأمر لا صيغة له.
وقالت المعتزلة: الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده؛ لا من جهة اللفظ ولا من طريق المعنى، وبنوا هذا على أصل: أن5 النهي لا يكون نهيًا لصيغته، حتى تنضم إليه قرينة، وهي6: إرادة الناهي، وذلك غير معلوم عندهم.
ويفيد الخلاف: توجه المأثم عليه بفعل صلاة بمجرد الأمر.
__________
1 راجع في هذا: مسلم الثبوت مع شرحه "فواتح الرحموت" مسألة: وجوب الشيء يتضمن حرمة ضده "1/97"، وتيسير التحرير مسألة: الأمر يقتضي كراهة الضد "1/373".
2 الحقيقة: أن أصحاب الشافعي لم يتفقوا على هذا الرأي؛ بل هناك لهم قولان آخران هما:
الأول: أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده.
الثاني: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، لا عينه ولا يتضمنه.
راجع في هذا: الإحكام للآمدي "2/159"، وجمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني "1/385-388".
3 نقل ابن السبكي في جمع الجوامع "1/385-386" عن الشيخ أبي الحسن الأشعري قوله: "إن الأمر النفسي بشيء معين نهى عن ضده الوجودي".
4 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، وقد حذفها ابن تيمية الجد - "المسودة" ص"49" - عند نقله كلام القاضي في هذه المسألة.
5 في الأصل "وأن" بإثبات الواو، والصواب: حذفها، والكلام فيه كسابقه.
6 في الأصل: "وهو".(2/370)
دليلنا:
أن الأمر عندنا يقتضي الوجوب والفور، وقد دللنا على صحة ذلك.(2/370)
وإذا كان كذلك؛ وجب أن يكون تركه محرمًا، وتركه: فعل ضده؛ فوجب أن يكون فعل ضده منهيًا عنه، فكان الأمر باللفظ متضمنًا لتحريم فعل ضده.
فإن قيل: يجوز أن يكون تاركًا لفعل من غير أن يكون فاعلًا لضده؛ لأن السكون معنى يبقى، فلا يكون فاعلًا له في حال بقائه.
قيل: السكون لا يبقى، وكل تارك للفعل؛ فإنما هو تارك بفعل ضده، فالتارك للحركة فاعل للسكون، والتارك للسكون فاعل للحركة.
ولأن قولهم: أمر بالقيام، ولا يمكنه فعله إلا بترك القعود، فثبت أنه ممنوع من القعود.
ولأن من أذن لغيره في دخول الدار، ثم قال له: اخرج، تضمن هذا القول منعه من المقام فيها، واللفظ إنما هو أمر بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده.
ولأن السيد إذا قال لعبده: قم، فقعد؛ صلح أن يعاقبه على القعود، فلولا أن أمره تضمن رد ذلك لما صلح توبيخه.
ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده لصلح أن يبيح له ضده مع الأمر به، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على ما قلناه.
ولأن الأمر بالشيء لو لم يكن نهيًا عن ضده؛ لما كان الكافر منهيًا عن الكفر، وحيث كان مأمورًا بالإيمان، وفي اتفاق الجميع على أن كون الكافر منهيًا عن الكفر لكونه مأمورًا بالإيمان؛ دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.(2/371)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ النهي قوله: "لا تفعل"، ولفظ الأمر قوله: "افعل"، فلا يجوز أن يجعل الأمر نهيًا.(2/371)
والجواب: أنه نهى عن ضده من طريق المعنى دون اللفظ؛ فلا يلزمنا ذلك. وعلى أن اللفظ قد يدل على الشيء، وإن لم يكن عبارة عنه، مثل قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، أن هذه الصيغة لا يعبر بها عن الضرب والقتل، وإن كانت دالة2 على نفيهما.
واحتج: بأن النوافل مأمور بها، وضدها وهو الترك غير منهي [46/أ] عنه.
والجواب أنا لا نسلم هذا؛ بل نقول: ضدها منهي عنه، لا يستحب تركه؛ فيكون الأمر الذي هو ندبه يتضمن النهي، وكل أمر يتضمن النهي على حسب الأمر، إن كان الأمر إيجابًا؛ كان النهي محرمًا، وإذا كان الأمر استحبابًا؛ كان النهي تنزيهًا، فسقط ما قاله.
واحتج بأن النهي عن الشيء ليس بأمره بضده3، كذلك الأمر بالشيء؛ ليس بنهي عن ضده.
والجواب: أن هذا على وجهين: إن كان له ضد واحد؛ كان النهي عنه أمر بضده، كالكفر منهي عنه ويتضمن الأمر بضده من جهة المعنى، وهو الإيمان، وكذلك النهي عن الحركة يتضمن الأمر بضدها، وهو السكون. وإن كانت له أضداد كثيرة؛ فهو مأمور بضد من أضداده، يترك به النهي عنه، ويكون مخيرًا فيها، مثل النهي عن القيام، له أضداد من النوم والقعود والمشي؛ فهو مأمور بواحد منها4؛ لأنه لا يكون ممتنعًا عن المنهي عنه بفعل ضد واحد من أضداده، ولا يكون ممتثلًا للمأمور به إلا بترك جميع أضداده، فلا فرق بينهما.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 في الأصل: "دلالة".
3 في الأصل: "عن ضده".
4 في الأصل: "منهما".(2/372)
واحتج بأنه إذا لم يكن العلم بالشيء جهلًا بضده، والقدرة على الشيء عجزًا عن ضده، وإرادة الشيء1 كراهة لضده، كذلك الأمر بالشيء؛ وجب أن لا يكون نهيًا عن ضده.
والجواب: عن العلم: فهو أنه لا يمتنع أن يكون عالمًا بالشيء وبضده، ويمتنع أن يكون الشيء واجبًا، ولا يكون ضده محرمًا، أو يكون مستحبًا، ولا يكون ترك ضده مستحبًا؛ فإذا كان كذلك؛ فبان الفرق2.
وأما القدرة على الشيء؛ فإنها ليست بعجز عن ضده؛ لأن الاستطاعة عندنا مع الفعل، فيكون القادر على الشيء هو الفعل التارك لضده، والتارك للشيء لا يكون عاجزًا عنه، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإنه لا يجوز أن يكون مأمورًا بالفعل؛ إلا وهي منهي عن فعل ضده.
وأما إرادة الشيء؛ فهي كراهية لضده عندنا.
فإن قيل: أليس لو قال لزوجته: أنت طالق إن أمرتك بأمر فخالفتيني، ثم قال: لا تكلمي أباك؛ فكلمته؛ لم يحنث؛ لأنه إنما نهاها ولم يأمرها، فدل على أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده.
قيل: الأيمان محمولة على العرف، والعرف في الأمر: صيغة الأمر وهو قوله: افعلي، فلهذا لم تحمل يمينه على صيغة النهي؛ لأنه ليس صيغة النهي صيغة الأمر، ولهذا قلنا: الأمر بالشيء؛ نهي عن ضده من طريق الحكم لا من طريق اللفظ.
فأما من قال: الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ فغير
__________
1 في الأصل "الشرك"، والصواب: "الشيء" كما أثبتناه؛ لأن المؤلف قد أتى بالصواب في معرض الرد على هذا الدليل.
2 كلمة: "فبان" مكررة في الأصل، والفاء في هذه الكلمة قلقة لا وجه لها، فالأولى حذفها.(2/373)
صحيح؛ لأن العرب فرقت بين لفظ الأمر والنهي؛ فجعلت لفظ الأمر موضوعًا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل؛ فلم يجز أن يجعل أحدهما الآخر، كما لا يجوز ذلك في الخبر والاستخبار.
فإن قيل: ليس يمنع [46/ب] هذا، ألا ترى أن القائل إذا قال: ائت الشمس من المغرب، عقل منه: أنها تغرب من المشرق.
قيل: إنما عقل هذا من معنى اللفظ، لا من موضوعه وصيغته، ونحن لا نمنع هذا في الأمر؛ وإنما نمنع أن يعقل النهي من نفس اللفظ.(2/374)
مسألة المندوب مأمور به حقيقة
مدخل
...
مسألة 1 [المندوب مأمور به حقيقة] :
إذا صرف الأمر عن الوجوب؛ جاز أن يحتج به على الندب والجواز، ويكون حقيقة فيه، ولا يكون مجازًا، وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به حقيقة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحتج به، ويكون مجازًا3.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال مثل قولهم4.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"126"، والتمهيد الورقة "24-26".
2 في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، والصواب حذفها.
3 راجع في هذا: تيسير التحرير "1/347"، وفواتح الرحموت "1/377".
4 راجع في هذا: المستصفى "1/75"، والإحكام للآمدي "1/112".(2/374)
دليلنا:
أن حقيقة الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، وحقيقة(2/374)
الندب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه؛ فإذا حمل الأمر على الندب؛ فقد حمل على شيء فيه بعض أحكام الواجب، وليس فيه البعض الآخر؛ فكأنه أخرج منه بعض مقتضاه، وحمل على بعض، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، كما قلنا في لفظ العموم: "يقتضي استغراق الجنس"؛ فإذا خص، أخرج منه بعض المراد، وبقي البعض، فيكون ذلك حقيقة لا مجازًا، وكذلك ههنا.
ولا يشبه هذا الاسم "الأسد" إذا استعمل في الرجل الشديد، واسم "الحمار" إذا استعمل في الرجل البليد، حيث كان مجازًا فيهما؛ لأنه يستعمل في شيء، لا يتضمنه ما هو موضوع له بحال؛ فكان اللفظ منقولًا عما وضع له إلى غيره؛ فلذلك كان مجازًا، وفي هذا الموضع استعمل في بعض مقتضاه، ولم يعدل عن جميعه، فكان ذلك حقيقة لا مجازًا، ولأنه لو قال: له علي عشرة إلا واحدًا؛ كان ذلك حقيقة في التسعة، كما لو لم يستثن منه، كذلك ههنا.(2/375)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تابع للوجوب، وأنه لا يجوز أن يكون واجبًا، ولا يجوز فعله؛ فإذا سقط الوجوب؛ وجب أن يسقط الجواز؛ لأنه تابع له.
والجواب: أنا لا نسلم أن الجواز للوجوب، بدليل أنه قد ينفرد الجواز عن الوجوب، فيكون الشيء جائزًا، ولا يكون واجبًا؛ فلو كان تابعًا له لم ينفرد عنه، فهو بمثابة العموم إذا خص بعضه1، كان الباقي حقيقة؛ لأن الباقي ينفرد عن الخصوص، كذلك ههنا.
واحتج: بأن الشيء الواحد لا يكون له حقيقتان.
والجواب: أنه يبطل بالمستثنى منه؛ فإن الاسم حقيقة فيه.
__________
1 في الأصل: "بعض".(2/375)
مسألة في الفرق بين الفرض والواجب
مدخل
...
مسألة [في الفرق بين الفرض والواجب] : 1
فالفرض: ما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به، مثل نص القرآن [47/أ] المتواتر، وإجماع الأمة2.
والواجب: ما ثبت من طريق غير مقطوع به، كأخبار الآحاد والقياس، وما كان مختلفًا في وجوبه كوجوب المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين عند القيام من نوم الليل، والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك3.
هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، ذكره في مواضع:
فقال في رواية أبي داود4 وابن إبراهيم: "المضمضة والاستنشاق
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"50-51"، وروضة الناظر ص"16"، وشرح الكوكب المنير ص"110".
2 هذه إحدى روايات ثلاث نقلت عن الإمام أحمد في تعريف الفرض، على القول بالفرق بينه وبين الواجب.
والرواية الثانية هي: أن الفرض، ما لا يسقط في عمد ولا سهو.
والرواية الثالثة هي: أن الفرق: ما ثبت بالقرآن.
انظر: المسودة ص"50".
3 وممن قال بهذا الرأي من الحنابلة أبو إسحاق بن شاقلا والحلواني، وعزاه ابن عقيل إلى الأصحاب.
انظر: شرح الكوكب المنير ص"110".
4 هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق، أبو داود السجستاني، إمام في الحديث، صاحب السنن، من أصحاب الإمام أحمد، وممن رووا عنه كثيرًا من الحديث والفقه، له كتاب مسائل الإمام أحمد. ولد سنة 202هـ ومات بالبصرة سنة 275هـ.
له ترجمة في: البداية والنهاية "11/54"، وتذكرة الحفاظ "2/591"، وتاريخ بغداد "9/55"، وتهذيب التهذيب "4/169"، وطبقات الحنابلة "1/159"، وطبقات المفسرين للداوودي "201/1"، ووفيات الأعيان "1/214".(2/376)
لا تسمى فرضًا؛ ولا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى1". فقد نفى اسم الفرض عن المضمضة والاستنشاق مع كونهما واجبين عنده.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية المروزي وقد سأله عن صدقة الفطر: أفرض هي؟ فقال: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض.
وكذلك نقل الميموني عنه وقد سأله هل يقول: بر الوالدين فرض؟ فقال: لا، ولكن أقول: واجب، ما لم يكن معصية.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة2.
__________
1 نص الرواية كما في مسائل الإمام أحمد من رواية أبي داود ص7 هو: "حدثنا أحمد بن حنبل، وسئل عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة، قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: لا، ليس هذا من فرض الوضوء".
ولكن المحقق ذكر في هامش الكتاب المذكور نص الرواية من نسخة المكتبة الظاهرية وهو: "سمعت أحمد سئل عن المضمضة والاستنشاق فريضة؟ قال: لا أقول فريضة إلا ما في الكتاب".
2 راجع في هذا: أصول السرخسي "1/110-113"، وتيسير التحرير "2/135"، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "1/58".(2/377)
ونقل عبد الله وأبو الحارث عن أحمد رحمه الله: كل ما في الصلاة فرض1.
فظاهر هذا أن التسبيح في الركوع والسجود والتشهد الأول والتكبير غير تكبيرة الإحرام وقول سمع الله لمن حمده؛ يسمى فرضًا مع كونه مختلفًا في وجوبه؛ فعلى هذا لا فرق بين الواجب والفرض والحتم واللازم والمكتوبة، وحد الجميع واحد، وهو قول أصحاب الشافعي.
ونقلت من خط أبي إسحاق2 في تعاليقه: قال أبو عبد الله: لا أقول فرضًا؛ إلا في كتاب الله. معنى قوله: إن الذي قاله الرسول سنة، بدلالة قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء" 3، وقوله: "إنما أنسى لأسن" 4
__________
1 هذه الروايات الأربع التي استدل بها المؤلف موجودة بنصها في المسودة ص"50-51".
2 يعني: ابن شاقلا.
3 هذا الحديث صحيح رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع "5/44".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين "1/15".
وأخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب اتباع السنة "1/43-44".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/126".
4 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب الصلاة، باب العمل في السهو "1/205"، مطبوع مع شرح الزرقاني، حيث قالك "بلغني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأنسى، أو أنسى لأسن".
"لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد وقد نقل الزرقاني في شرحه للموطأ "1/205" عن ابن عبد البر قوله في الحديث: "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول".
كما نقل الزرقاني أيضًا عن بعض العلماء: القول بجواز الاحتجاج به؛ لأن البلاغ من أقسام الضعيف، وبخاصة رواية الإمام مالك، الذي يقول فيه سفيان: إذا قال مالك: بلغني، فهو إسناد صحيح.(2/378)
قال: وقول أبي عبد الله، كما ما في الصلاة فرض؛ أراد بذلك: ما أخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والوجه للفرق بينهما1: أنا نجد كل مميز يسبق عقله إلى أن صلاة الظهر آكد من صلاة المنذورة، وإن كانتا واجبتين، وكذلك الإيمان بالله تعالى آكد وأبلغ من صدقة خمسة دراهم من مائتي درهم. وكذلك الزكاة آكد من النذر في الصدقة.
فهذه أمور يجدها كل عاقل في نفسه، فوجب أن يفرق ما هو آكد باسم يفارق ما هو دونه، فيجعل اسم الفرض: عبارة عما كان في أعلى المنازل في الوجوب، والوجوب عما كان دونه، وإن كان اسمًا عامًا في نفسه.
ولأن أهل اللغة فرقوا بين الفرض والوجوب، فقالوا: إن الوجوب مأخوذ في الأصل من السقوط، يقال: وجب الحائط، يعني: سقط.
والفرض عبارة عن التأثير، ومنه فرضة القوس لموضع الحز، أو عين القدر من قولهم: "فرض القاضي النفقة"، بمعنى قدرها.
__________
1 المؤلف هنا اختار القول بالتفريق بين الفرض والواجب، وانتصر له، مع أنه نقل عنه في المسودة ص"50" قوله في مقدمة المجرد: "الفرض والواجب سواء، لا يختلفان في الحكم ولا في المعني".
ونقل أبو البقاء الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير ص"110" القولين عن المؤلف.(2/379)
والتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط ولا يؤثر، وكذلك ذكر التقدير في الشيء يدل على الحصر والتعيين1 [47/ب] فيصير كالنذر المضموم إلى الإيجاب. والوجوب لا يفيد هذا المعنى؛ فبان أن الفرض في اللغة آكد من معنى الواجب.
وقد بينا أن الوجوب تتفاوت منازله، فوجب أن يخص اسم الفرض الذي وضع للمبالغة في التأثير: عبارة [عما] كان في أعلى المنازل، وما دونه خص باسم الواجب، فيصير الوجوب الذي هو سقوط التكليف على المأمور به في نفس المكلف؛ لما تضمن من الدعاء إلى إيقاعه والمبادرة إلى فعله، ما لا يؤثر فيه الواجب الذي فرض.
ولأن العبارة2 مختلفة في عادة أهل الشرع أيضًا، ألا ترى أنهم يقولون: الواجب في الحكم كذا، ولا يقولون: فرض في الحكم، ويقال في حقوق الآدميين مثل الديون والشفعة: واجبات، ولا يقال: إنها فروض، ويقال: واجب عليك أن تفعل كذا، ولا يقولون: فرض عليك، ويقال: أوجبت على نفسي، ولا يقال: فرضت، ولا يقال في العادة لمن تلزم طاعته: فرضت عليك كذا، فبان أن معنى اللفظين مختلف في اللغة والشريعة.
__________
1 في الأصل: "والتغيير".
2 في الأصل: "العبادة".(2/380)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 وأراد به أوجب الحج. وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
__________
1 "197" سورة البقرة.(2/380)
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1.
ومعناه: أوجبتم لهن فريضة.
والجواب: أن الحج ثبت وجوبه من طريق مقطوع به؛ فلهذا أطلق عليه اسم الفرض. وقوله: {فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} معناه: قدرتم.
واحتج: بأن الفرض؛ إنما سمي فرضًا؛ لما فيه من معنى الوجوب دون ما ذكرتموه من ثبوته من طريق يوجب العلم؛ لأن النوافل ثابتة من هذا الطريق، ولا يسمى فرضًا.
والجواب: أنه إنما يسمى فرضًا لما فيه من معنى الوجوب من طريق مقطوع به؛ فأما النوافل فإن كان طريقها مقطوعًا به، فليس فيها معنى الوجوب؛ فقد وجد أحد الشرطين [وفقد الآخر] .
واحتج: بأن تخصيص الواجب بما ثبت من طريق؛ لا يوجب العلم، وتخصيص الفرض بما ثبت من طريق؛ يوجب العلم دعوى مجردة، لا دليل عليها من لغة ولا شرع، ولا طريق مستنبط منهما2؛ فلم يصح.
والجواب: أنا قد دللنا عليه من جهة الاستنباط، وهو أن أهل اللغة والشرع فرقوا بينهما في العبارة، وقالوا: الفرض عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، و [لما] وجدنا التأثير أبلغ من السقوط؛ جعلنا الفرض عبارة عما ثبت من طريق مقطوع علمه؛ ليكون له مزية.
واحتج: بأن لفظ الوجوب آكد من لفظ الفرض؛ لأنه أقل احتمالًا من لفظ الفرض، فكان لفظ الوجوب؛ أحق بما [48/أ] ثبت من طريق
__________
1 "237" سورة البقرة.
2 في الأصل: "منها".(2/381)
القطع، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1، وأراد: ينزل عليك القرآن.
وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} 2 وأراد به: أحل الله له.
وقال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 3، وأراد: بيناها.
ويقال: فرض الحاكم على فلان لزوجته كذا وكذا من النفقة، وأراد به: قدر، ويقال: فرض القوس إذا حز طرفيه.
وأما الوجوب؛ فإنه عبارة عن السقوط، من قوله: وجبت الشمس ووجب القمر، ووجب الحائط، إذا سقط. وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 4 أي: سقطت، فسمى ما لا بد من فعله واجبًا؛ لأن تكليفه سقط عليه سقوطًا لا ينفك منه؛ إلا بفعله، فكان احتمال لفظ الفرض أكثر من احتمال لفظ الواجب، وكان الثابت بطريق مقطوع به باسم الواجب؛ أحق منه باسم الفرض.
والجواب: أن لفظ الفرض، وإن كان محتملًا لأشياء؛ فجميعها عبارة عن التأثير، والوجوب عبارة عن السقوط، والتأثر آكد من السقوط؛ لأنه قد يسقط؛ فلا يؤثر، فكان ما أثر آكد.
فقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} يعني: أنزله، ونزوله تأثير عندنا.
__________
1 "85" سورة القصص.
2 "38" سورة الأحزاب.
3 "1" سورة النور.
4 "36" سورة الحج.(2/382)
وكذلك قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يعني: أحل له، والإحلال له: تأثير له.
وكذلك قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أراد: بيناها، والبيان: تأثير فيها.
وكذلك فرض الحاكم يعني: قدّر، والتقدير له: تأثير في الحصر والتعيين.
واحتج: بأنه لو كان الفرض عبارة عما كان في أعلى المنازل من الوجوب؛ لوجب أن يختص الاسم بمعرفة التوحيد وتصديق الرسول؛ لأنه أعلى منزلة من غيره.
والجواب: أن الفرض لما كان عبارة عن العبادة التي تؤثر في نفس المكلف في المبادرة إليه والمسارعة إلى فعله، وهذا التأثر موجود في جميع ما علم قطعًا أنه مراد منا، مثل الصلوات ونحوها، فوجب أن يكون جميعها فرضًا، وإن كان بعضها آكد من بعض، كما أن التأثير الواقع في الشيء يتفاوت، وإن كان الاسم يتناول جميعها، ويفارق ذلك ما لا يقع منه التأثير.
واحتج: بأن الواجب اسم لما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، والفرض اسم لهذا أيضًا؛ فإذا كانا متساويين في هذا المعنى؛ لم يكن لأحدهما مزية لاختلاف اسمهما، كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحد -وهو ما يستحق بفعله ثواب؛ لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
والجواب: أن الواجب وإن ساوى الفرض في الثواب والعقاب؛ فقد خالفه من وجه آخر، وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فمنع من المساواة في التسمية، كما أن الندب والمباح تساويا في إسقاط [48/ب] العقاب، واختلفا في التسمية لاختلافهما من وجه، وهو: أن الندب يثاب على فعله، والمباح لا ثواب عليه.(2/383)
واحتج: بأن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة بعضها على بعض، لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما؛ ألا ترى أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة وثبت بأخبار الآحاد، والكل متساوٍ1، وكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة وأخبار الآحاد، والكل سواء.
والجواب: أن قوة بعضها على بعض توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما كان معلومًا أنه مراد الله تعالى قطعًا؛ فإنه مخالف لما كان تجوزًا، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف ما لا يستحق هذه الصفة، ومتى اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها؛ اختلفت الأسامي التي تستعمل فيها لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها.
فإن قيل: فيجب أن تفرقوا في المنهيات، كما فرقتم في المأمورات، فتقولوا: لفظة الحرام عبارة عما ثبت من طريق مقطوع به، وما لم يثبت بذلك لا يطلق عليه ذلك، ويسمى مكروهًا.
قيل: هكذا نقول، وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور في المتعة: لا أقول حرام.
وقال رحمه الله في رواية ابن منصور في الجمع بين الأختين المملوكتين: لا أقول حرام؛ ولكن ينهى عنه.
قال أبو بكر: إنما توقف لوجود الخلاف. فقد منع من إطلاق اسم الحرام مع كونه حرامًا عنده؛ لأنه مختلف فيه.
__________
1 في الأصل: "متساوي" والجادة ما أثبت.(2/384)
مسألة الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه
مدخل
...
مسألة [الأمر بفعل الشيء لا يتناول الفعل المكروه] :
أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح: إذا وطئها وهي(2/384)
حائض؛ لم يحل لها الرجوع بهذا الوطء إلى زوجها الأول؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1، وظاهره: أن الوطء في حال الحيض، لما كان منهيًا عنه؛ لم يدخل تحت الوطء المأمور به للإباحة.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب أبو بكر الرازي2 إلى أنه يتناول المكروه، واحتج في طواف المحدث بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 3، وقال: جواز الفعل مراد، واللفظ يتناوله، فجاز إثباته، وإن كانت الصفة التي حصل الفعل عليها مكروهة.
واختار أبو عبد الله الجرجاني مثل قولنا.
__________
1 "222" سورة البقرة. والآية في الأصل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} والآية في المصحف كما أثبتناه.
2 وهكذا نقل عنه السرخسي في أصوله"1/164"، وذكر عنه الاحتجاج بآية الطواف.
3 "29" سورة الحج.(2/385)
دليلنا:
أن المأمور به ما اقتضاه الأمر وحث عليه: إما واجبًا وإما ندبًا، والمكروه منهي عن فعله وممنوع منه؛ فهو مضاد للمأمور به؛ فلا يجوز أن يكون اللفظ متضمنًا له، كما أن المحذور لما كان ضد الواجب؛ لم يجز أن يكون الأمر متناولًا له؛ ولأن المفعول على صفة لم يؤذن فيه بمثابة فعل آخر؛ فصار كمن أمر بالصيام، فأوقع ما يسمى صلاة.(2/385)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الطواف مأمور به، والكراهة تعلقت بفعل آخر، وهو ترك الطهارة.(2/385)
والجواب: أن ترك الطهارة، وإن كان منهيًا عنه؛ فإن هذا النهي يعود إلى الفعل الذي هو في الأصل طواف؛ لأنه منع من إيقاعه على هذا الوجه، ولو كان هذا صحيحًا؛ لوجب أن لا يكون السجود للشيطان منهيًا، وأن يكون النهي تعلق بإرادة فعله لغير الله تعالى، وكذلك قتل المؤمن لا يكون منهيًا عنه؛ وإنما يتعلق النهي بقصده إلى قتل نفس المؤمن دون الكافر، وهذا يوجب أن يكون جميع ما نهي عنه مأمورًا به، وهذا فاسد.(2/386)
مسألة تعلق الأمر بالمعدوم
مدخل
...
مسألة [تعلق الأمر بالمعدوم] : 1
الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت جميع المعدومين إلى قيام الساعة.
ويفيد هذا الخلاف أنه لا يحتاج إلى أمر ثانٍ.
وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية حنبل: "لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم". فقد نص على أنه أمر فيما لم يزل، ولا مأمور.
وقال أيضًا -فما خرجه في محبسه-: "لم يزل متكلمًا إذا شاء"؛ فقد أثبت قدم كلامه، وكلامه أمر ونهي، وهو قول الأشعرية ومن تابعهم من أصحاب الشافعي.
وذهب المعتزلة وجماعة من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره أبو عبد الله الجرجاني2 في أصوله: إلى أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع
__________
1 راجع في هذه المسألة التمهيد في أصول الفقه الورقة "46-47"، والمسودة ص "44-45"، وروضة الناظر ص "110"، وشرح الكوكب المنير ص "175-176".
2 هو: محمد بن يحيى بن مهدي، وقد سبقت ترجمته ص"269".(2/386)
الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالموجودين في وقته؛ فأما من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل1.
ثم اختلف القائلون: بأن الأمر يتعلق بالمعدوم:
فمذهبنا: أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة بشرط وجوده على صفة من يصح تكليفه، سواء كان في الحال موجودًا يتوجه الخطاب إليه، أو لم يكن، وهو اختيار أبي بكر الباقلاني.
ومنهم من قال: إن هذا أمر إعلام، إذا كان كيف يكون، وليس بأمر إيجاب وإلزام.
ومنهم من قال: يتعلق بالمعدوم، إذا كان هناك موجود مخاطب ببلاغة؛ فأما إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه فلا.
والصحيح: ما ذكرنا؛ لأن إعلام المعدوم لا يصح؛ وإنما يعلم المواجه بالخطاب، ويصح الأمر لمن ليس بحاضر ليبلغ ذلك إليه، ولأن هذا القائل قد وافق أن الله سبحانه فيما لم يزل آمرًا ناهيًا، ولا مخاطب.
والدلالة على توجه الأمر إلى المعدوم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وهذا يقتضي أمره بالتكوين قبل وجوده. وكذلك قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 3.
ولأن الصحابة والتابعين كانوا يرجعون في إيجاب الحكم إلى الظواهر
__________
1 وقد اختاره الغزالي في المستصفى "2/81"، والآمدي في الإحكام "2/253"، والبيضاوي في المنهاج "3/364" مطبوع مع شرحه نهاية السول "2/364".
2 40 سورة النحل.
3 46 سورة غافر.(2/387)
المتضمنة للأمر من الله تعالى ومن نبيه [49/ب] عليه السلام على من يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد منهم؛ فدل على أن الأمر تناول من كان معدومًا حال الخطاب.
فإن قيل: يحتمل أن يكون ورد معها دلالة توجب مشاركة الجميع في هذا الحكم، وإن لم ينقل إلينا.
قيل: لو كان هناك دلالة أو قرينة لنقل؛ لأن ما لم يتم الدليل إلا به؛ لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم، أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ لم يقتصروا على نقل اللفظ والتعلق به دون القرينة.
وأيضًا: فإنه يصح الأمر بالزكاة مع عدم المال بشرط وجوده، وكذلك الأمر بالفعل للعاجز مع عدم الآلة بشرط وجودها، كذلك المعدوم بشرط وجوده.
فإن قيل: العاجز عاقل مخاطب عالم بالخطاب، والمعدوم بخلاف ذلك.
قيل: لا فرق بينهما وذلك أن المعدوم مأمور بشرط القدرة على ذلك.
وأيضًا: فإنه يصح وصية الإنسان إلى من يحدث من أولاده، والقيام بأمر الوقف، وإن كان معدومًا في الحال، ويكون أمرًا صحيحًا لمن يحدث، ويكون الحادث متصرفًا بالوصية السابقة في الحقيقة؛ فدل على أن الأمر يتوجه إليه.
وأيضًا: قد دلت الدلالة على أن أمر الله تعالى ونهيه هو كلامه، وأنه قديم من صفات ذاته غير محدث، وأنه لم يزل آمرًا، ولا حاضر مأمور، فدل على ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا أصل فاسد؛ لأن المتكلم بالأمر ولا أحد يواجه(2/388)
ويسمع كلامه هاذٍ1 سفيه، غير جائز.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أن هذا إن كان صحيحًا؛ فإنما يكون فيمن يفعل الكلام ويصح منه تركه؛ فأما من يجب كونه متكلمًا في أزليته؛ فلا يصح هذا في حقه.
الثاني: أنه لو كان هذيانًا، إذا لم يكن سامع2 للخطاب، لوجب أن يقال إذًا: "هذى الطفل والمجنون والمبرسم"، وهناك من يسمع ذلك، أن لا يكون هذيانًا، لأجل أن هناك سامعًا حاضرًا3؛ فلما لم يجب هذا، لم يصح ما قالوه.
الثالث: أنهم لا يجدون كلامًا لأحد منا؛ إلا وهناك سامع؛ لأنه لا أحد منا متكلم في سر ولا جهر؛ إلا والله تعالى سامع كلامه.
وجواب آخر وهو: أن معنى الكلام لنفسه الإفهام والتعليم والإشعار بما يريد إفهامه بالكلام، ويكون هذا بمثابة من زعم أنه لو كان عالمًا قادر بنفسه غير معلم ولا مقدر لأحد، ولا ينتفع بكونه عالمًا قادرًا في قدمه؛ لوجب كونه سفيهًا عابثًا، وإذا لم يجز ذلك لم يجب ما قالوه.
وعلى أن الإنسان منا قد يوصي إلى معدوم وقت الوصية، ويأمره فيها وينهاه في وصيته [50/أ] ولا يكون عبثًا، مع أن الذم قد يصح قبل وجود المذموم، بدليل أن الله تعالى ذم إبليس فيما لم يزل قبل خلقه.
__________
1 في الأصل: "هادي" بدون اعجام.
2 في الأصل: "سامعًا للخطاب" والصواب ما أثبتناه به لأن "كان" هنا تامة، بمعنى "وجد".
3 في الأصل: "سامع حاضر".(2/389)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء يصح تعلق الأمر به.
والجواب: أن الأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني، كما تعلقت الوصية بمن يحدث في الثاني، وكما تعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحدث في الثاني.
واحتج: بأن الأمر إن كان إعلامًا يستحيل أن يوجد في المعدوم، وإن كان إلزامًا يستحيل أيضًا أن يلزم المعدوم الذي ليس بشيء.
والجواب: أنه أمر إلزام لمن يحدث في الثاني، كما قلنا في الوصية في العاجز.
واحتج: بأن الأمر لو تعلق بالمعدوم؛ لوجب أن يتعلق بالصبي والمجنون، لوجودهما، ويكون الأمر متعلقًا بالبلوغ والعقل، وفي اتفاق الجميع على امتناع ذلك دليل على امتناعه في المعدوم.
والجواب: أن كل من أجاز تكليف المعدوم بشرط بقائه؛ فإنه يقول: بأن الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل، ولا فرق بينهما؛ وإنما معنى قول الأمة: إنهما غير مكلفين، وإن القلم مرفوع عنهما: رفع المأثم عنهما، ورفع الإيجاب المضيق.
ويمكن أن يكون قوله: رفع القلم عنهما بالخطاب والمواجهة؛ لأنه لا يصح مواجهتهما بذلك، لعدم علمهما بذلك، وقد ذكر أبو بكر بن الباقلاني هذا الجواب وحكاه عمن قال بخطاب المعدوم.
واحتج: بأنه لو جاز أمره الذي هو الإيجاب والإلزام، لجاز ذمه ولعنه وتسميته بأسماء المدح والذم.
والجواب: أنه إنما لم يوصف بذلك؛ لأنه ليس بإيجاب مضيق، وإنما يستحق الذم للتفريط، ويستحق المدح لوجود الفعل؛ فلم يتصفوا بذلك(2/390)
لهذا المعنى، وجرى ذلك مجرى المأمور إذا كان عاجزًا بشرط القدرة؛ فإنه لا يوصف بذلك قبل القدرة، وإن كان مأمورًا.
واحتج بأن من شرط الأمر وجود المأمور، كما أن من شرط القدرة وجود القادر، فاستحال وجود قدرة بغير قادر، كذا يجب أن يستحيل وجود أمر بغير مأمور.
والجواب: أن نظيره أن من شرط الأمر آمر كما أن من شرط القدرة قادر.
ولأنه إنما لم يصح قدرة بغير قادر، لأن من شرطها وجود القادر بها؛ لأنها إنما كانت قدرة لقيامها بقادر يأتي1 الفعل بها، وليس كذلك الأمر؛ لأن من شرطه وجود الآمر لكونه قائمًا به، إذ الأمر كلامه، وليس من شرطه وجود المأمور، كما ليس من شرط القدرة وجود المقدور؛ إلا أن يكون مما لا ينفى، ألا ترى أنه يجوز أن يوصي الرجل في وصيته بما يعلمه ولده بعده إذا وجد ومخلفيه، فيكون ما يعمله من يوجد منهم [50/ب] بعده بأمر عند وصيته.
فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصولكم، وعندكم أن المعدوم ليس بشيء، وتدللون2 عليه بقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} 3 وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 4.
__________
1 في الأصل: "ويأتي"، والواو هذه قلقة، لا معنى لها، فحذفناها؛ ليستقيم الكلام.
2 في الأصل: "وتدلون" بلام واحدة.
3 "9" سورة مريم.
4 "1" سورة الإنسان.(2/391)
قيل: يصح على أصلنا من الوجه الذي بينا، وهو أنه أمر بشرط وجوده على صفة من يصلح تكليفه، وعلى أصل المخالف فهو لازم؛ لأن عندهم المعدوم شيء.
فإن قيل: فكيف يصح هذا على أصلكم، وقد قلتم: إن شريعة من قبلنا؛ ليس بشرع لنا؛ فلو كان الخطاب غائيًا لدخل فيه كل مكلف يوجد في الثاني؟
قيل: الصحيح من الروايتين أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، وعلى الرواية الثانية: ليس بشرع لنا، لقيام الدلالة على نسخه.
وقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني: أن هذا خلاف في عبارة؛ لأنه لا يدعى إلى فعل شيء، ويجب أن تكون فائدته ما ذكرناه من أنه لا يحتاج إلى تكرار الأمر.(2/392)
مسألة أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز
مدخل
...
مسألة 1 [أمر الله العبد بما يعلم أنه سيحال بينه وبينه جائز] :
يجوز الأمر من الله تعالى بما في معلومه أن المكلف لا يمكن منه، ويحال بينه وبينه بكونه مع شرط بلوغه حال التمكن.
وهذا بناء2 على أصلنا في تكليف ما لا يطاق، وتكليف الكفار العبادات.
وهو مذهب الأشعري ومن وافقه من أصحاب الشافعي، وهو اختيار
__________
1 راجع في هذه المسألة: "التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "36"، والمسودة ص "52-53" فإنهما اعتمدا على كتاب العدة، كثيرًا.
2 في الأصل: "بناه"، والتصويب من "المسودة" ص "53".(2/392)
أبي بكر الرازي والجرجاني1.
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يجوز ذلك2.
__________
1 راجع في هذا: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/218"، وتيسير التحرير "2/137".
2 راجع في هذا: المغني لعبد الجبار، قسم الشرعيات "17/59-60، 126"، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري "1/177".(2/393)
دليلنا:
أنه لو لم يكن أمرًا؛ لوجب أن لا يصح منه الدخول في العبادة بنية الفرض؛ لأنه لا يعلم هل يحال بينه وبين القدرة على فعلها؛ فلا يكون فرضًا، ولما أجمعنا على صحة العزم على نية الفرض مع هذا التجويز؛ علمنا أنه أمر صحيح.
يبين صحة هذا: أنه لا يصح أن ينوي الفرض في ليلة الشك؛ لأنه لا يتحقق الفرض، ولما صح نية الفرض ههنا علم أنه أمر صحيح.
ولأنه يصح الأمر من الله تعالى بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن، كذلك جاز أن يأمر بالفعل من يحول بينه وبينه؛ لتساويهما في تعذر الفعل من جهة المأمور في الموضعين.
فإن قيل: المأمور هناك لم يؤت في ترك الفعل من قبل الله تعالى؛ وإنما أتى في ذلك من قبل نفسه؛ فلم يحصل الأمر عبثًا.
قيل: إذا سبق علمه أنه لا يؤمن، فقد تحقق تعذر الفعل من جهة المأمور حين الأمر؛ لأن علمه لا ينقلب؛ لأن ضد العلم الجهل، وهو يتعالى عن ذلك، كذلك ههنا.
ولأن في هذا فوائد، وهو امتحان المكلف واستصلاحه وتوطين النفس(2/393)
على فعل العزم على الطاعة، ومسرة الآمر بأمره وإيثار الإقرار من المأمور بالتزام طاعته والإخبار بالعزم على امتثال أمره إلى غير ذلك.
وأيضًا: فإنا وجدنا [51/أ] في الشاهد يحسن أمر المولى عبده بأن يسقيه الماء عند الحاجة إليه، وإن لم يكن على ثقة من تمكن العبد بما أمر به، وجوز أن يحال بينه وبينه ويخترم دونه، كذلك أوامر الله تعالى يجب أن تكون محمولة على ذلك.
فإن قيل: الله تعالى عالم بالعواقب، فلا يحسن أمره بما يعلم استحالة وقوعه من المكلف؛ فإذا علم أن المكلف سيحال بينه وبين ما كلف؛ لم يحسن أمره به، كما لا يحسن أمره بما علم استحالة حدوثه منه، وليس كذلك الأمر في الشاهد؛ لأنه لا يعلم العواقب، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في أمر الله؛ وإنما اعتبر فيه الظن بتمكين المأمور ما أمر به، فإذا ظن ذلك حسن أمره.
قيل: هذا يبطل بأمره بالإيمان من1 يعلم أنه لا يؤمن؛ فإنه يصح، وإن كان عالمًا بالعواقب أنه لا يؤمن، كذلك ههنا.
ولأن الأمر حال وروده يحصل للمأمور اعتقاد الوجوب وسكون النفس إلى فعله في الثاني، ويصح تعلق الأمر بهذا المعنى، ألا ترى أن الإيمان بالله تعالى يحصل بمجرد الاعتقاد، وإن لم يقارنه شيء من أفعال الجوارح؟
ولأن هذا القول لو صح؛ لوجب أن يمنع من إطلاقه القول بأن الإنسان منهي عن الزنا في المستقبل، ومأمور بالإيمان؛ لأنه لا يعرف بقاؤه إلى ذلك الوقت.
__________
1 في الأصل: "لم".(2/394)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الله تعالى إذا علم من حال المكلف أنه1 سيحال بينه وبين ما أمر به، ولا يمكن من فعله؛ فإن فعله يستحيل وقوعه منه، وما يستحيل وقوعه لم يحسن الأمر به؛ ألا ترى أنه لا يحسن الأمر بصعود السماء، والمشي على الماء، وقلب العصا حية، وما يجري هذا المجرى مما يستحيل وقوعه من المأمور به؟
والجواب: أنه يبطل الأمر بالإيمان إذا حكم أنه لا يؤمن، فإنه يصح، وإن كان يستحيل وقوعه، كذلك ههنا.
وعلى أن الأمر بذلك لا يحصل فيه فائدة؛ لأن المقصود من الأمر تعريض المكلف لاستحقاق الثواب فيما يوقعه، فمتى علم عجز المكلف عن ذلك؛ لم يحصل له سكون النفس إلى فعل ما أمر به، فصار الأمر عبثًا، وهذا حصل من جهة سكون النفس واعتقاد وجوب الفعل، وتعذره بعد ذلك بسبب من جهة نية الآمر؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وفيه فوائد، منها: إظهار أمره بذلك، وإقرار المأمور به بوجوب طاعته إن بقي، ولاعتقاده أن في أمره بذلك استصلاحًا له في غير ذلك الفعل، وتوطنة النفس على الطاعة في جميع ما يأمره، وليعرضه بذلك لثواب العزم على طاعته.
__________
1 في الأصل: "أن".(2/395)
مسألة يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله
مدخل
...
مسألة 1 [يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المأمور لا يفعله] :
وقال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: علم الله تعالى أن آدم سيأكل
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص54، وكتاب الفصول في أصول الفقه" للجصاص الورقة "106"؛ فإن المؤلف قد استفاد من هذا الكتاب.(2/395)
من الشجرة التي نهاه عنها قبل أن يخلقه.
خلافًا [51/ب] للمعتزلة في قوله: لا يجوز1.
__________
1 راجع في هذا: المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات "59/59-61، 126"، والمعتمد في أصول الفقه "1/178-179".(2/396)
دليلنا:
أنه أمر إبليس بالسجود لآدم مع علمه أنه لا يفعله، وكذلك أمر الكفار بالإيمان مع علمه أنهم لا يؤمنون.
ولأن أمره مع علمه أن المأمور لا يفعله كأمره مع علمه أنه يحال بين المأمور وبين الفعل، وقد بينا فيما تقدم جوازه.(2/396)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا يصح أن يريد من المكلف ما يعلم أنه لا يفعله؛ لأنه عبث.
والجواب: أن هذا ليس بعبث؛ لأن الله تعالى قد عرض المأمور بما أمره به إلى النفع إذا أداه، وإظهار1 أمره بذلك وإقرار المأمور به بوجوب طاعته. ولأن هذا يبطل بأمره لإبليس بالسجود مع علمه أنه لا يفعله.
__________
1 في الأصل "أو إظهار".(2/396)
مسألة يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقا باختيار المأمور
مدخل
...
مسألة 1 [يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى متعلقًا باختيار المأمور] :
وهذا بناء على أصلنا: أن2 المندوب مأمور به مع كونه مخيرًا في فعله وتركه.
خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز ذلك3.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "54-55"؛ فإنه اعتمد على القاضي أبي يعلى كثيرًا.
2 هكذا في الأصل: "وأن"، والواو هنا زائدة، الصواب حذفها.
3 انظر: كتاب المغني للقاضي عبد الجبار قسم الشرعيات: "17/ 126"، والمعتمد لأبي الحسن البصري: "1/ 178".(2/396)
دليلنا:
أن الله أرخص لنا القصر في السفر، وأوجب الإتمام في الحضر، وعلق ذلك باختيارنا.
وهكذا القول في اختيار واحد من الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين؛ فإذا كان كذلك؛ لم يمتنع أن يرد الأمر معقودًا بشرط اختيار المأمور.(2/397)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا طريق لنا إلى معرفة ما هو مصلحة لنا فنختاره؛ فلم نأمن أن تكون المصلحة في غير ما نختاره، فلا يجوز أن يكون ذلك موكولًا إلى اختيارنا، وفارق هذا ما يؤديه إليه اجتهادنا أنه مصلحة لنا، وإن كان متعلقًا باختيارنا؛ لأن الاجتهاد قد بين لنا طريقه، فجرى مجرى المنصوص عليه؛ فإذا أدانا اجتهادنا إليه وحكمنا به؛ علمنا أنه مصلحة لنا، وما لم يجعل لنا طريق إلى معرفته؛ فلا نعلم عند اختيارنا له أنه مصلحة لنا، بل جائز أن تكون المصلحة في غيره.
والجواب: أنه ليس من شرط صحة الأمر أن يقع على وجه المصلحة لنا، فقد1 يجوز أن يأمر بما لنا فيه مصلحة وما لا مصلحة لنا فيه، ويأتي الكلام فيه على أنه يبطل بما ذكرنا من رخصة القصر والكفارة على طريق التخيير.
__________
1 في الأصل: "وقد".(2/397)
مسألة ورود الأمر والنهي بالتكليف دائما
مدخل
...
مسألة 1 [ورود الأمر والنهي بالتكليف دائمًا] :
يجوز أن يرد الأمر والنهي بالتكليف دائمًا إلى غير غاية، فيقول: "صلوا في كل يوم أبدًا ما بقيتم"، و "صوموا رمضان أبدًا ما حييتم"؛ فيقتضي ذلك الدوام مع بقاء التكليف، وهذا مع قولنا: إن الأمر يقتضي التأكيد.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يرد بذلك، ومتى ورد اللفظ بهذا لم يقتضِ الدوام، وإنما هو للحث على التمسك بالفعل.
__________
1 راجع هذه المسألة في: المسودة "ص55".(2/398)
دليلنا:
أنه ليس بأمر بمحال.
ولأنه تصرف في الملك؛ فجاز كتصرف [52/أ] أحدنا في ملكه.
ولأن لفظة التأبيد1 موضوعة في اللغة لدوام الفعل دون انقطاعه، كما أنها2 موضوعة لما لا يعقل؛ فلم يجز إطلاق لفظ التأبيد على ما لا يجب دوامه؛ لأنه يصير وجود هذا اللفظ كعدمه.
ولأنه لو قال: "صلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم"؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد، كذلك إذا أطلق.
ولأن من امتنع من هذا الإطلاق يقول: إن فيه قطع الثواب.
ولأنا نعلم أنه لا بد لها من الانقطاع بالموت والجنون، وهذا لا يصح؛ لأن الثواب غير مستحق على الله تعالى على ما نبينه.
ولأن الأمر ثابت مع بقاء الأمر؛ فلا يدخل فيه حال الجنون والموت؛ لأنه غير مكلف فيه، والأمر تناول المكلف.
__________
1 في الأصل: "التأكيد".
2 في الأصل: "أن".(2/398)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الثواب واجب عليه على الأعمال دائمًا غير منقطع؛ فلو دام عليهم التكليف بطل ثواب عملهم، ولو أثابهم في خلال ذلك؛ لم يكن ثوابهم إلا منقطعًا.
والجواب: أن أقل نعمة الله تعالى على خلقه يستحق بها عليهم أن يعبدوه؛ فلا يستحق عليه الثواب، ولو كان الثواب على العمل مستحقًا؛ لم يستحق الثناء والشكر والحمد والمدح، كما أن قاضي الدين وراد الغصب والوديعة، لما كان ذلك مستحقًا عليه؛ لم يستحق الشكر والثناء، وفي إجماعنا على أنه يجب علينا الشكر والثناء والحمد لله على نعمه علينا؛ دليل على أنه غير مستحق عليه.
واحتج: بأن هذه العبادات لا بد لها من الانقطاع؛ لأنه إنما حسن الأمر بها لما فيها من الثواب للمكلف، ودوامها يقطع الثواب؛ فإذا كانت لا بد لها من الانقطاع بالموت؛ كان لفظ التأبيد فيها مستعملًا على وجه المجاز؛ فوجب أن يسقط اعتبار الحقيقة فيه، ويكون القصد المبالغة في الحث على التمسك بالعبادة.
والجواب: أن قد بينا أن الثواب غير مستحق، على أن الأمر إنما يتعلق بمأمور مكلف، وهو إنما تكون هذه الصفة ما دام في دار التكليف؛ فإذا خرج من كونه مكلفًا بالموت؛ لم يبق عليه حكم الأمر؛ فإذا كان كذلك كانت حقيقة التأبيد ثابتة مع بقاء الأمر، فلا يكون سقوط الأمر دلالة على سقوط حقيقة التأبيد عند الاستعمال.
على أن هذا يبطل به لو قال: افعلوا ذلك أبدًا؛ فإنه مصلحة لكم ما بقيتم؛ لكان ذلك مقتضيًا للتأبيد. وإن كان لا بد من الانقطاع بالموت،(2/399)
كذلك لفظ التأبيد بهذه المثابة.
واحتج: بأن الآمر منا في الشاهد قد يقرن إلى لفظ الأمر لفظ التأبيد؛ فلا يكون مراده به الدوام، كقول المولى لغلامه: "لازم هذا الغريم أبدًا" [52/ب] ، يريد به أن لا يفارقه حتى يستوفي الدين، كقول الأب لابنه: "لازم المعلم أبدًا1، ولا تفارقه حتى تتعلم منه القرآن ونحوه"؛ فوجب أن تكون أوامر الله محمولة على المتعارف في الشاهد.
والجواب: أن دلالة الحال تقترن إلى الأمر، فيصير كأنه قال: لازم الغريم والمعلم ما لم تستوف الدين، وما لم تتعلم منه، وهكذا أوامر الله يكون ذلك تقديرها؛ كأنه قال: افعلوا ذلك ما دمتم مكلفين.
واحتج بأن المأمور قد يتخلله الجنون والنوم والإغماء، ولفظة التأبيد تعم ذلك، ومعلوم أن الخطاب لا يتوجه إليه.
والجواب: أنا قد بينا أن الأمر يتعلق بمأمور مكلف، فهذه الأحوال مستثناة لعدم التكليف، ويبطل به إذا قال: "افعلوا أبدًا؛ فإنه مصلحة"؛ فإنه يصح وإن كان هذا موجودًا.
__________
1 في الأصل "حتى" وهو تحريف.(2/400)
مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل
مدخل
...
مسألة من شروط الأمر أن يكون المأمور به معدوما في المستقبل: 1
من شرط الأمر أن يكون المأمور به في مستقبل الوقت غير موجود، وحكي عن طائفة من المتكلمين أن الأمر بالموجود جائز.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" "ص57"، وروضة الناظر في شروط الفعل المكلف به ص "28-29".(2/400)
دليلنا:
أن استحالة وقوع ما هو موجود من الملكف كاستحالة الجمع بين(2/400)
الضدين، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد؛ فإذا لم يجز ذلك؛ لم يحسن الأمر بالموجود.
ولأن الموجود قد خرج بوجوده عن كونه مأمورًا به؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ لكان لا يخرج عن كونه واجبًا؛ لأن الوجوب من مقتضى الأمر، وهذا يوجب بقاء الفرائض على المكلفين بعد فعلهم لها على الوجه المأمور به, وفي بطلان ذلك دليل على امتناع جواز الأمر بالموجود.
ولأنه لما لم يحسن أن يأمر الواحد منا في الشاهد من هو قائم بالقيام ومن هو قاعد بالقعود لكون المأمور [به] موجودًا؛ وجب أن يكون أمر الله تعالى محمولًا على ذلك؛ فلا يحسن أمره بما هو موجود؛ لأنه إنما يخاطب بما هو متعارف بين أهل اللسان.(2/401)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو لم يصح الأمر بالموجود؛ لم يصح ذم الكافر على كفره الذي هو فيه في الحال؛ لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجودًا، ولوجب أن لا يكون المؤمن مأمورًا بالإيمان؛ لأن ما قد وجد منه؛ لا يصح الأمر به على هذه الصفة.
والجواب: أن الكافر إنما يستحق الذم على ما فعله1 من اعتقاد الكفر والبقاء عليه، فلا يكون في ذلك دلالة على كونه مأمورًا بما قد وجد منه.
__________
1 في الأصل: "نقله".(2/401)
مسألة يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل
مدخل
...
مسألة 1 يصح أن يتقدم الأمر على وقت الفعل:
خلافًا للطائفة التي تقدم ذكرها في المسألة التي قبلها: أن الأمر [53/أ] لا يكون أمرًا إلا في حالة الفعل، وما يتقدمه لا يكون أمرًا؛ وإنما هو إعلام.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة "ص57".(2/401)
دليلنا:
أن الواحد منا في الشاهد يحسن منه أن يأمر عبده بما يفعله في غد، وفيما بعد بأوقات، ويطلق عليه اسم الأمر، ويسمى قوله ذلك أمرًا [فـ] وجب أن تكون هذه الصفة جائزة في أمر الله تعالى وأمر رسوله.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ما يتقدم حال الفعل إعلامًا وتعريفًا، ولا يكون أمرًا إلا في حال الفعل، وتكون هذه سبيل أمر المولى عبده فيما يفعله في الثاني.
قيل: قولك: إنه إعلام؛ لا يخلو من أن يكون المراد به حصول العلم للمأمور [أ] وأنه يحصل له به معلوم؛ فإن أردت به حصول العلم كان ذلك باطلًا؛ لأن العلم هو الاعتقاد للشيء على ما هو به، والأمر هو حروف منظومة؛ فكيف يجوز وقوع العلم بالأمر؟!
فإن أردت به أن المأمور يحصل له بذلك معلوم بأن يعلم ما أمر به في الثاني؛ فلا يخلو ذلك: من أن يكون يعلم وجوب ما أنبأ عنه لفظ الأمر، أو حدوث أمر مستأنف في الثاني، وكلا الأمرين باطل؛ لأنه إن اعتقد وجوب ما أنبأ عنه القول؛ لم يأمن أن يكون الآمر لم يرد بذلك القول وجوب ما تضمنه؛ وإنما أراد به الندب أو نحوه؛ فإذا اعتقد هو غير ذلك؛ كان اعتقاده جهلًا، وكذلك إن اعتقد أن الأمر سيجدد له أمرًا في الثاني عند حال الفعل، لم يأمن أيضًا أن لا يوجد ذلك من الآمر بأن غيره دونه، فيكون اعتقاد المأمور جهلًا، وإذا بطلت هذه الوجوه كلها؛ لم يبق إلا أن يكون ذلك القول أمرًا.(2/402)
مسألة جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها
مدخل
...
مسألة [جواز ورود الأمر بالعبادة قبل مجيء وقتها] : 1
إذا أمر الله [عبده] 2 بعبادة في وقت مستقبل؛ جاز أن يعلمه بذلك قبل مجيء الوقت.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يجوز أن يعلمه بذلك قبل الوقت3.
__________
1 راجع "المسودة" ص "57".
2 غير موجودة في الأصل؛ وقد أضفناها ليستقيم الكلام، ويدل عليه عود الضمير في قوله: "يعلمه"، وهو كذلك في "المسودة" ص "57".
3 هذا القول لبعض المعتزلة، وليس لكلهم، كما ذهب إليه المؤلف، يدل على ما قلنا: ما ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "179/1" حيث قال: " ... وقد ذهب قوم إلى أن الأمر بالفعل مقارن لحال الفعل؛ وإنما تقدمه يكون إعلامًا. وعندنا: أن الأمر لا يجوز أن يُبتدأ به في حال الفعل؛ بل لا بد من تقدمه قدرًا من الزمن، يمكن مع الاستدلال به على وجوب المأمور به، أو كونه مرعيًا فيه، ويعقل الفعل في حال وجوبه فيه ... " ثم ذكر بعد ذلك أدلته على ما ذهب إليه.
وقد أشير إلى هذا في "المسودة" ص "57" بالقول: "وينبغي أن يكون الخلاف مع بعضهم -أي المعتزلة؛ لأن مأخذ هذه المسألة لا يقتضيه أصول جميعهم، وهم فرقة كثيرة الاختلاف، وأصحابنا ينصبون الخلاف مع مطلق الجنس، لا مع عموم الجنس".(2/403)
دليلنا:
إن إعلامه بذلك لا يفضي إلى الأمر بالمحال، فيجب أن يجوز.
ولأن الأمر إذا جاز تعليقه بوقت وزمان؛ جاز تعليقه بوقت معلوم كالطلاق والوكالة، لما جاز تعليقهما1 بزمان مستقبل صح بوقت معين.
ولأن تعليقه بوقت معين آكد من الإطلاق، يدل على هذا: أنه لو أمر عبده بفعل شيء في وقت غير معين؛ لم يحسن تأديبه على تأخيره، ولو علقه بوقت معين فأخره عنه حسن تأديبه وتوبيخه.
__________
1 في الأصل: "تعليقه" بالإفراد، والصواب ما أثبتناه؛ لعود الضمير على مثنى.(2/403)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو أعلمه بذلك؛ لكان قد علم أنه سيبقى إلى وقت الفعل لا محالة، ولو جاز ذلك؛ لكان إغراءً له بالمعاصي؛ لأنه يتكل على التوبة منها، وفي بطلان هذا دليل على أنه لا يجوز أن يعلم المكلف ما أمر به.
والجواب: أنه لا يعلم أنه سيبقى إلى وقت الفعل، للأصل الذي تقدم؛ وإنما يجوز أن يخبر به المكلف قبل الفعل.
وعلى أن هذا لا يمنع من إعلامه بالوقت وإن أفضى إلى ما ذكرت، كما لم يمنع ذلك من صحة التوبة، وإن أفضى ذلك إلى ما ذكرت؛ لأن التوبة تجب ما قبلها من المعاصي؛ فإذا علم بذلك أخلد إلى المعاصي، ثم عقب ذلك بالتوبة، ثم لم يمنع هذا من صحة التوبة؛ كذلك لا يمنع من معرفة الوقت، وليس لهم أن يقولوا: إنه يجوز أن يموت قبل كمال الفعل؛ لأن الموت عليه أمارة في الغالب.(2/404)
مسألة [بعض الواجبات أوجب من بعض] : 1
يجوز أن يقال: إن بعض الواجبات أوجب من بعض.
كالصلوات الخمس [أوجب] من المنذورات، والزكوات أوجب من النذور، وكذلك الإيمان أوجب من غيره من العبادات، وكذلك الكفر
__________
1 راجع "المسودة" ص "58"، وشرح الكوكب المنير ص"110"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "11/أ".(2/404)
أعظم من المعصية من سرقة حبة.
وقد قال أحمد رحمه الله: "ركعتا الفجر آكد من الوتر".
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1، وذكره أبو بكر بن الباقلاني أيضًا.
ومن الناس من منع ذلك2.
ولسنا نريد بهذا أنه يرجع إلى نفس الأمر وما يتعلق به، وأن الأمر بفعل الإيمان أشد تعلقًا به من تعلق الأمر بالصلاة الواجبة؛ لأن الأمر بفعل الشيء متى كان يعود إلى إيقاعه؛ فإن الإيقاع للإيمان كإيقاع غيره.
ولا نريد به أيضًا: أن الإيمان أوجب من غيره؛ لأجل أن فعله يقف على أفعال متقدمة مثل النظر والاستدلال؛ لأن سائر الطاعات لا تصح إلا بتقدم غيرها عليها، وهو الإيمان، وكذلك الصلاة والزكاة لا يصحان إلا بالنية المتقدمة، كالإيمان.
وإنما نريد بذلك: أن المستحق من الثواب بأحد الفعلين أعظم مما يستحق بغيره، أو أن أحد الواجبين طريقه القطع والآخر غلبة الظن3.
__________
1 لأنهم فرقوا بين الفرض والواجب، ومن فرق بينهما جعل الفرض أعلى من الواجب.
انظر: "شرح التلويح على شرح التوضيح": "2/123".
وقول الحنفية هو رواية عن الإمام أحمد، وبها قال ابن شاقلا والحلواني الحنبليان.
انظر: "شرح الكوكب المنير" ص "110"، وتحرير المنقول للمرداوي ورقة "11/أ".
2 وممن منع ذلك ابن عقيل من الحنابلة، وبعض المتكلمين.
راجع: "المسودة" ص "58".
3 هذا إشارة من المؤلف إلى ثمرة الخلاف.(2/405)
ولا يلزم على ما ذكرنا أن يجوز كذب أكذب من كذب، وصدق أصدق من صدق؛ لأنهما أمران يرجعان إلى الخبر، وهو وقوع الشيء على ما أخبر به المخبر أو على خلافه، وهذا لا يوجب اختلاف حال الخبرين في أنفسهما.
ولأن الكذب ليس بكاذب، ولا الصدق صادق؛ فلم يجز أن يقال: أصدق وأكذب، ولأن أصدق1 اسم علم، فلا يستعمل فيه للمبالغة كقولنا: زيد وعمرو، وليس كذلك: صادق أصدق من صادق؛ لأنه يصح أن يقال: إن المراد به أن أحدهما أكثر صدقًا من الآخر، وأما حسن أحسن من حسن، فيجوز.
وقد ذكر أصحابنا في الاقتصار على تطليقة واحدة، أنه أحسن من الثلاث2، وإن كانتا جميعا قد اشتركتا في السنة3.
وهذا معنى قول الخرقي4: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "الصدق".
2 في الأصل: "الثلاثة".
3 هكذا اختار القاضي، ومن قبله الحرقي القول بجواز الجمع بين الثلاث طلقات، وأن ذلك مسنون ما دام في طهر لم يمسها فيه. وهذا رواية عن الإمام أحمد.
وهناك رواية أخرى أن الجمع بين الثلاث بدعة ومحرم، واختارها من الحنابلة أبو بكر وأبو حفص.
انظر المغني لابن قدامة "7/301".
4 هو عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم الحرقي. من الطبقة الثالثة من فقهاء الحنابلة. له مؤلفات كثيرة، لم يصلنا منها سوى "المختصر في الفقه"، وذلك لاحتراق كتبه. توفي بدمشق "334هـ".
له ترجمة في شذرات الذهب "2/336"، وطبقات الحنابلة "2/75-76"، والمدخل لمذهب الإمام أحمد ص "209".(2/406)
غير جماع طلقة؛ فإن طلقها ثلاثًا في طهر كان أيضًا للسنة وكان تاركًا للاختيار1".
ويدل على ذلك أن الواجبين الجائزين قد يشتركان في الوجوب، أحدهما أحسن من الآخر، مثل من خفف صلاته، وأداها آخر بركوع وسجود أتم، وكذلك من أعطى زكاة ماله فقيرًا، وأعطى الآخر إلى من هو أحوج منه؛ كان ذلك أحسن.
وأما الأولى: فهو على ضربين: منه ما هو آكد، والثاني ما هو دونه.
فالآكد مثل ركعتي الفجر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها، وحث الناس بوجوه الحث على إيقاعها، ونبه على حكمها بقوله: "صلوهما فإن فيهما الرغائب"2 وقال: "هما خير من الدنيا وما فيها" 3.
وكذلك الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعله، وحث الناس عليه بقوله: "أوتروا يا أهل القرآن" 4، وقوله: "إن الله زادكم صلاة
__________
1 هذا النص موجود في مختصر الخرقي ص "152" مع اختلاف طفيف.
2 لم أقف عليه.
3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه عنها مسلم في كتاب "صلاة المسافرين"، باب استحباب ركعتي سنة الفجر "1/505".
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل "2/275".
راجع أيضًا: تلخيص الحبير "2/20".
4 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم "2/316"، وقال فيه: "حديث حسن". =(2/407)
هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر" 1، فلهذا قال أحمد رحمه
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر، كما أخرجه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الموضع السابق "1/370".
وأخرجه النسائي عن علي رضي الله عنه في كتاب قيام الليل وتطوع النهار "3/187".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118".
وأخرجه عنه الإمام أحمد كما في الفتح الرباني في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "4/273".
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في أول كتاب الوتر "1/300".
راجع في هذا الحديث أيضًا: تيسير الوصول "2/217"، والمنتقى "190".
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن خارجة بن حذافة رضي الله عنه في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "2/314" وقال فيه: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب".
وتعقبه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي في الموضع السابق بأن ابن أبي الحكم رواه في فتوح مصر ص "259-260" عن أبيه عن بكر بن مضر عن خالد بن يزيد عن أبي الضحاك عن عبد الله بن أبي مرة، وأبو الضحاك هو: "عبد الله بن راشد الزوفي". ثم علق الشيخ أحمد شاكر على هذا بقوله: "وهذا إسناد صحيح أيضًا، وهو متابعة جيدة ليزيد بن أبي حبيب، ويرد قول الترمذي أنه لا يعرفه إلا من حديثه".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الوتر "1/327".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوتر "1/369".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة باب في الوتر "1/308".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة باب فضيلة الوتر "2/30".
وحديث خارجة هذا قال فيه البخاري: لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض كما نقل ذلك عنه ابن عدي في الكامل.
وقد أعله ابن الجوزي في كتابه: "التحقيق" بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد. ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه. =(2/408)
.............................................................................................
__________
= وتعقب صاحب "التنقيح" ابن الجوزي فقال: أما تضعيفه بابن إسحاق؛ فليس بشيء، فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به.
وأما نقله عن الدارقطني أنه ضعف "عبد الله بن راشد"؛ فغلط؛ لأن الدارقطني إنما ضعف "عبد الله بن راشد البصري" مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما هذا راوي حديث خارجة، فهو "الزوفي" أبو الضحاك المصري، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات.
وقال ابن حبان فيه: "إسناد منقطع، ومتن باطل".
وقال الحاكم بعد إخراجه "1/306": "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواته مدنيون ومصريون، ولم يتركاه إلا لما قدمت ذكره، من تفرد التابعي عن الصحابي"، وقد وافقه الذهبي على ذلك.
أما الإمام أحمد فقد أخرجه عن أبي بصرة رضي الله عنه، كما في الفتح الرباني كتاب الصلاة باب ما جاء في وقت الوتر "4/279-280"، وقد أخرجه بسندين، الأول رجاله - كما يقول الهيثمي في كتابه الزوائد "2/239": رجال الصحيح، خلا علي بن إسحاق، شيخ أحمد، وهو ثقة. أما السند الثاني ففيه ابن لهيعة.
كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده في مسنده "2/180، 206، 208" من طريقين في أحدهما الحجاج بن أرطاة، وفي الأخرى: المثنى بن الصباح، وهما ضعيفان.
وقد أخرجه الدارقطني أيضًا في الموضع السابق ذكره "2/30"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه النضر أبو عمر الخزاز، ضعيف.
كما أخرجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده "2/31"، وفيه: محمد بن عبيد الله العرزمي، ضعيف.
وأخرجه الطيالسي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الوتر "1/118".
وقد استوفى الكلام في ذلك الزيلعي في نصب الراية "2/108-112"، وابن حجر في تلخيص الحبير "2/16"، وراجع أيضًا: تيسير الوصول "2/208".(2/409)
الله: "من ترك الوتر فهو رجل سوء1".
ومنها ما دون ذلك؛ فيسمى نافلة السنن.
__________
1 قول الإمام أحمد هذا، رواه عنه هارون بن عبد الله البزار، وفيه: "قال أحمد في الرجل يترك الوتر عمدًا: هذا رجل سوء، يترك سنة سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا ساقط العدالة إذا ترك الوتر متعمدًا". وقد رواه أبو طالب وصالح كما يلي: "من ترك الوتر متعمدًا هذا رجل سوء؛ وذلك لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم".
انظر: بدائع الفوائد لابن القيم "4/111"، والمغني لابن قدامة "2/133-134".(2/410)
مسألة 1 [حكم الزيادة على الواجب] :
إذا فعل الواجب على المداومة، وزاد على ما يتناوله الاسم كالركوع والسجود إذا داوم عليه المكلف؛ فهل يكون عليه جميعه واجبًا؟
يحتمل أن يقال: الواجب أدنى ما يتناوله الاسم، والزيادة نفل، وهذا اختيار أبي عبد الله الجرجاني، وأبي بكر الباقلاني2.
__________
1 راجع في هذه المسألة المسودة ص "58-59"، وتحرير المنقول وتهذيب علم الأصول للمرداوي الورقة "12/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في شرح الكوكب ص "127"، واختاره الغزالي في المستصفى "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في روضة الناظر ص "20".
2 ونسب المرداوي الحنبلي هذا القول إلى الأئمة الأربعة، كما في كتابه "تحرير المنقول" الورقة: "13/ب"، وكذلك عزاه إليهم الفتوحي في "شرح الكوكب" ص: "127"، واختاره الغزالي في "المستصفى" "1/73" وقد اختاره من الحنابلة أبو الخطاب وابن قدامة المقدسي، كما في "روضة الناظر" ص"20".(2/410)
وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أن جميعه واجب1، وقال في الركوع إذا داوم عليه المكلف كان جميعه واجبًا، وكذلك القراءة إذا طولها.
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأموم في الركوع ما لا يشق على المأمومين؛ فلولا أن إطالة الإمام في الركوع يكون جميعه واجبًا؛ لم يصح إدراك الركعة معه؛ لأنه يفضي إلى أن يكون المفترض مقتديًا بالمتنفل2.
وجه ما ذكرناه3: أن ما زاد على ما يتناوله الاسم مخير بين فعله
__________
1 اختار هذا بعض الحنابلة، كما في المسودة ص "58".
2 تُعُقِّبَ القاضي أبو يعلى في وجه استدلاله بما نقله عن الإمام أحمد هنا. فقال في المسودة ص "58": " ... وهذا ليس بمأخذ صحيح؛ لأن الكل قد اتفقوا على هذا الحكم مع خلفهم في هذه المسألة، وفي مسألة اقتداء المفترض بالمتنقل..".
كما نقل في المسودة عن ابن عقيل أنه صرح بأن مأخذ شيخه أبي يعلى مأخذ فاسد.
وقد غلط أبو الخطاب شيخه أبا يعلى في وجه استدلاله هذا، وذلك في كتابه التمهيد في أصول الفقه الورقة "43/ب" حيث قال: "وهذا الاستثناء غلط؛ لأن المفترض يمنع أن يقتدى بمن هو متنفل في جميع صلاته؛ فأما إذا أدرك معه ما هو سنة في الصلاة؛ فلا يكون قد اقتدى بمتنفل عند الجميع؛ ولهذا لو أدركه في حال الافتتاح والاستعاذة وقراءة السورة، يكون قد أدركه وهو متطوع، ثم لا يقول أحد: إنه لا يصح اقتداؤه به.
وعلى أن عن أحمد في اقتداء المفترض بالمتنفل روايتين، فكيف يحمل قوله في هذه".
3 كلام المؤلف هذا، وجوابه عن دليل القائلين بالوجوب يفيدان بأنه اختار القول بأن الزيادة نفل.
لكن المرداوي في كتابه تحرير المنقول "12/ب" نقل عن المؤلف القولين وصرح ابن قدامة في كتابه "روضة الناظر" ص "20" بأن المؤلف اختار القول بالوجوب.
وذكر في "المسودة" ص "59" أن الحلواني حكى عن المؤلف القول بالوجوب، كما ذكر أن المؤلف اختاره في كتابه "العمدة".(2/411)
وتركه من غير أن يقيم مقامه غيره، وهذا يمنعه وجوبه، ألا ترى أن النوافل لما كانت بهذه الصفة؛ لم تكن واجبة؟
ووجه من قال جميعه واجب أن قوله تعالى: {ارْكَعُوا} 1 يقتضي ما يتناوله اسم الركوع، وإن جاز الاقتصار على الجزء، كما أن من أذن لآخر في أن يتصدق من ماله بما شاء على زيد، فتصدق عليه بألف؛ جاز، وإن2 كان فاعلًا لما أمر به، وإن كان له أن يقتصر على قدر درهم واحد.
وكذلك قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 3، يعبر عن كل ما تيسر؛ وإن جاز الاقتصار على القليل، مثل من قال: "بع عبدي بما تيسر"؛ جاز بيعه بما كان، وإن جاز له أن ينقص منه.
ولأن البناء كالابتداء؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل ولا يلبس ولا يركب، فاستدام ذلك؛ حنث، كما لو ابتدأ، كذلك في مسألتنا.
والجواب: أن قوله: "اركعوا" يفيد أدنى ما يتناوله الاسم، ألا ترى أنه متى فعل هذا القدر سقط الفرض عن ذمته؛ فلم يجز الزيادة عليه إلا بدلالة، ويفارق هذا قوله لآخر: تصدق على فلان من مالي؛ لأن العادة [54/ب] جارية أنه متى أراد تقدير العطية؛ فإنه يبينه للمأمور، فلما
__________
1 "77" سورة الحج.
2 الواو هنا قلقة، وقد دأب على التعبير بها في مواطن كثيرة.
3 "20" سورة المزمل.(2/412)
ترك ذكره دل أنه جعل الخيار إليه في ذلك، فكان انضمام العادة إلى الأمر هو الموجب لما ذكره دون اللفظ.
ولا يجوز أن يقال: البناء كالابتداء؛ لأن الابتداء إنما وقع واجبًا؛ لأنه ممنوع من تركه، ولما كان البناء مأذونًا في تركه من غير أن يقيمه مقام غيره لم يكن واجبًا.(2/413)
مسألة اللفظ المتضمن للندب يدل على وجوب غيره
مدخل
...
مسألة 1 [اللفظ الذي يتضمن الندب يدل على وجوب غيره] :
نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق " 2: أنه يفيد وجوب الاستنشاق، وإن كانت صفة.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص "59"، وعنوان المسألة فيها: "إذا ورد الأمر بهيئة أو صفة لفعل، ودل الدليل على أنها مستحبة جاز التمسك به على وجوب أصل الفعل؛ لتضمنه الأمر به؛ لأن مقتضاه وجوبها ... " وهو عندي أحسن وأوضح من عنوان المؤلف.
2 هذا الحديث صحيح رواه لقيط بن صبرة رضي الله عنه، أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كراهته مبالغة الاستنشاق للصائم "3/146".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة باب في الاستنثار "1/31"، وفي كتاب الصوم باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق "1/552".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق "1/57".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده، كما في الفتح الرباني في كتاب الطهارة باب في المضمضة والاستنشاق والاستنثار "2/25-26".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16".(2/413)
وكذلك قوله صلى الله عليه [وسلم] في السعي بين الصفا والمروة: "اسعوا" 1 يفيد وجوب المشي بين الصفا ...
__________
1 هذا الحديث روته حبيبة بنت أبي تجزئة رضي الله عنها. أخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" من طريقين، وفي كل منهما "عبد الله بن المؤمل"، راجع الفتح الرباني في كتاب الحج باب وجوب الطواف بالصفا والمروة "76/12-77".
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الحج باب السعي بين الصفا والمروة "2 /49-50"، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل أيضًا، وأخرجه عنها الدارقطني؛ إلا أنه سماها: حبيبة بنت أبي تجرأة، بالراء المهملة "255/2".
وأخرجه عنها البيهقي "98/5"، وفي إسناده ابن المؤمل كالدارقطني.
وأخرجه عنها الطبراني في الكبير كما حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد "274/3" ثم قال بعد ذلك: "وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان، وقال: يخطي، وضعفه غيره".
وقد أخرجه عنها إسحاق بن راهويه، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية "55/3" كما حكى أن عدي أعل الحديث بابن المؤمل وأسند تضيعفه إلى أحمد والنسائي وابن معين. ووافقهم على ذلك.
وقال الحافظ في الفتح "498/3": "أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة. وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت". وابن المؤمل هذا، قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتركين ص "63": "ضعيف"، وبمثل قوله قال الدارقطني.
ونقل عن ابن معين من طريقين القول بضعفه، كما نقل عنه القول بأنه لا بأس به، عامة حديثه منكر، وروى عباس عنه قوله: إنه صالح الحديث.
وقال ابن عدي: "عامة حديثه الضعف عليه بين".
راجع في هذا: الميزان "510/2".
وأخرجه الواقدي في مغازيه عن بنت أبي تجزئة، نقل ذلك الزيلعي في نصب(2/414)
.................................................................................
__________
= الراية "3/57"، ومن طريق الواقدي أخرجه البيهقي في سننه "5/98" والواقدي قال فيه البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ص104: "متروك الحديث".
وقال فيه أحمد: كذاب. وقال ابن معين: ليس بثقة. هكذا في الميزان "3/662-666".
وقال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "93": "متروك الحديث". وروته تملك العبدرية رضي الله عنها. أخرجه عنها البيهقي في سننه "5/98"، كما أخرجه الطبراني في "الكبير"، نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية "3/56"، وقال: تفرد به مهران بن أبي عمر، ومهران هذا: وثقه ابن معين وأبو حاتم. وقال النسائي: "ليس بالقوي". وقال فيه البخاري: "في حديثه اضطراب". انظر الميزان "4/196"، والضعفاء الصغير ص "111".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد "3/148" عند كلامه على حديث العبدرية: "وفيه المثنى بن الصباح، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه جماعة".
وابن المثنى هذا: قال فيه النسائي في كتابه الضعفاء والمتروكين ص "99": "متروك الحديث".
وذكر الذهبي في المغني "2/541" أن ابن معين ضعفه، كما ذكر أن بعضهم مشاه.
ونقل البخاري في كتابه الضعفاء الصغير "112" عن يحيى قوله: "ولم نتركه من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عقله".
وروته صفية بنت شيبة رحمها الله تعالى. أخرجه عنها الطبراني في الكبير، نقل ذلك الزيلعي في كتابه نصب الراية "3/57"، كما نقل عن الدارقطني قوله: "في هذا الحديث اضطراب كثير".
وفيه: المثنى بن الصباح، وقد مضى الكلام عنه.
وأخرجه الدارقطني في سننه من طريق آخر عن صفية بنت شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم "2/255".
ونقل الزيلعي في نصب الراية "3/56" عن صاحب التنقيح قوله: "إسناد صحيح، و"معروف بن مشكان" باني كعبة الرحمن "أحد رواة الحديث" صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا "أحد رواة الحديث أيضًا" مخرج له في الصحيحين".(2/415)
والمروة1، وأن نطقه يفيد مشيًا على صفة هي السرعة.
وقد استدل أحمد رضي الله عنه على وجوب الاستنشاق بالحديث2 الذي ذكر فيه المبالغة، فقال رضي الله عنه في رواية الميموني وحنبل، واللفظ لحنبل: إذا نسي المضمضة قبل الاستنشاق يعيد الصلاة3؛ لقول
__________
1 اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج:
أ- فقيل: هو ركن.
ب- وقيل: هو سنة، لا يوجب تركه شيئًا.
وقال القاضي أبو يعلى: هو واجب، واختاره الموفق ابن قدامة، وانتصر له.
انظر المغني لابن قدامة "3/349-350".
2 المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله: أن الاستنشاق واجب في الطهارتين الكبرى والصغرى، وقطع القاضي بأنها الرواية الوحيدة عن الإمام أحمد، وقد ذكر غيره رواية أخرى: أنها واجبة في الطهارة الكبرى، مسنونة في الصغرى.
انظر: المغني لابن قدامة "1/120".
والرواية الأولى من مفردات الإمام أحمد، كما صرح بذلك البهوتي في كتابه: "منح الشفاء والشافيات في شرح المفردات" ص "33-34".
3 هذه الرواية رواها أبو داود في مسائله ص "7"، ونصها: "سئل -أي الإمام أحمد- عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى صلى؟ قال: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة. قلت: لا يعيد الوضوء؟ قال: ليس هذا من فرض الوضوء".
ونصها في رواية صالح في مسائلة الورقة 5 هكذا: "سألت أبي عمن نسي المضمضة والاستنشاق حتى يصلي؟ قال: يعيد المضمضة والاستنشاق ويعيد الصلاة". وقد أوردها صالح في الورقة ص "9" بأوضح مما سبق حيث قال: "قلت: رجل نسي المضمضة والاستنشاق وصلى؟ قال: يعيد الصلاة. قلت: يعيد الصلاة ويعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكن يمضمض ويستنشق".(2/416)
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنشقت فانتثر" 1.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يدل ذلك على الوجوب، حكاه الجرجاني.
__________
1 هذا الحديث رواه سلمة بن قيس رضي الله عنه مرفوعًا: أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق "1/40" بلفظ: "إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر"، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الأمر بالاستنثار "1/58"، ولفظه كلفظ الترمذي.
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار "1/142-143".
راجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "1/16"، وتيسير الوصول: "2/310".(2/417)
دليلنا:
أن الأمر يتناول شيئين أحدهما الاستنشاق، والثاني المبالغة؛ لأن المبالغة لا تحصل إلا بوجود الاستنشاق، وكذلك السعي لا يحصل إلا بوجود المشي؛ فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر، كالعموم إذا خص.
وذهب المخالف إلى أن نفس المنطوق به هو المبالغة، وهو السعي، وذلك غير واجب؛ فلم يجب مدلوله.
والجواب: أنا قد بينا أن الأمر اقتضى أمرين.(2/417)
مسألة 1 [المذكور متى جعل دلالة على نفس عبادة] :
فإن ذلك دلالة على وجوبه فيها.
وذلك مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} 2، لما دل على صلاة الفجر؛ فهم وجوبه فيها.
وكذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ 3} فلما نبه بذكر الحلق على الإحرام؛ كان ذلك واجبًا فيه. وكذلك قوله4: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 5، لما دل على الصلاة؛ كانا واجبين فيها؛ لأن الشيء يجعل دلالة على الغير متى كان مقصودًا في نفسه مطلوبًا منه، وهذه الأمور مقصودة من هذه العبادات مرادة فيها.
ولأن العادة جارية أن ذكر معظم الشيء يجعل دلالة على باقيه، ولا يجعل الجزء منه دلالة عليه؛ فكان ذكر الشيء على وجه الدلالة على غيره تنبيها على كونه بعضًا منه.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص "60"، وتحرير المنقول الورقة "12/ب".
2 "78" سورة الإسراء.
3 "27" سورة الفتح.
4 "قوله" مكررة في الأصل.
5 "77" الحج.(2/418)
مسألة 1 [ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب] :
إذا أمر الله تعالى [عبده] بفعل من الأفعال وأوجبه عيله، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعل غيره؛ وجب [55/أ] عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به2.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"60"، وتحرير المنقول للمرداوي الورقة "12/ب"، وروضة الناظر ص "19-20"، وشرح الكوكب المنير ص "112".
2 يفهم من ثنايا كلام المؤلف رحمه الله: محل النزاع، ولكنه غير مدرك بصورة واضحة، ولتوضيحه نقول:
ما لام يتم المأمور إلا به على صورتين:
الأولى: ما لا يتم الوجوب إلا به؛ فليس بواجب، حكاه المرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب" إجماعًا.
الثانية: ما لا يتم الواجب إلا به، وذلك على قسمين:
الأول: غير مقدور للمكلف؛ فليس بواجب عند الحنابلة.
الثاني: مقدور للمكلف؛ فواجب عندهم، حكاه المرداوي والموفق ابن قدامة وأبو البقاء الفتوحي.
وهناك طريق أخرى للتقسيم تابع ابن قدامة الغزالي فيها.
كما أن هناك طريق ثالثة سكلها أحد آل تيمية في "المسودة".
انظر: المراجع السابقة في أول المسألة.
وما لا يتم المأمور إلا به؛ إما أن يدخل في هيئة المأمور به أو لا؛ فإن كان داخلًا؛ فلا خلاف في كونه داخلًا في المأمور به.
وإن كان خارجها؛ فإما أن يكون سببًا أو شرطًا، وكل منهما، إما شرعي أو عقلي أو عادي، وفي كل ذلك خلاف. أفاده أبو البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص "112"، والمرداوي في تحرير المنقول الورقة "12/ب".(2/419)
وذلك مثل أن يجب عليه أن يتطهر للصلاة، ولا يمكنه أن يتطهر إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء؛ فيلزمه الشراء والاستقاء؛ لأنه يلزمه فعل الواجب عليه إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه مع الإمكان، وهو في الحال متمكن على هذا الوجه؛ فلهذا لزمه.
ولهذا قال1 أصحابنا: إذا وجد الماء بأكثر من ثمن مثله، بزيادة لا تجحف بماله؛ لزمه شراؤه2.
فإن قيل: فيجب أن توجبا عليه اكتساب الاستطاعة لفعل الحج، واكتساب النصاب ليؤدي الزكاة.
قيل: ذلك شرط في الوجوب دون الفعل، ولا يجب عليه أن يفعل ما يوجب به العبادة على نفسه، وليس كذلك ههنا، فإنه معنى لا يتوصل إلى أداء الواجب عليه إلا به؛ فلزمه فعله.
ولهذا قال أصحابنا في المفلس: إذا كانت له حرفة؛ لزمه أن يكتسب،
__________
1 في الأصل: "فقال".
2 زيادة ثمن الماء على ثمن المثل على حالتين:
الأولى: أن تكون الزيادة يسيرة، مع استغنائه عن الثمن؛ ففي هذه الحالة يجب عليه شراء الماء.
الثانية: أن تكون الزيادة كثيرة، ولها صورتان:
الأولى: أن تكون مجحفة بماله؛ فلا يلزمه الشراء.
الثانية: أن تكون غير مجحفة، فعلى وجهين:
الوجه الأول: يلزمه الشراء؛ لأنه واجد للماء، وقادر عليه.
الوجه الثاني: لا يلزمه الشراء؛ لأن فيه ضررًا عليه بالزيادة.
أفاد ذلك ابن قدامة في كتابه المغني "1/221".(2/420)
ويقضي دينه1؛ لأنه يتوصل بذلك إلى أداء الواجب2.
__________
1 هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. والرواية الأخرى: أنه لا يجبر على التكسب.
انظر: المغني لابن قدامة "4/400-4001".
2 لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى الاختلاف في المسألة، ولا دليل للمخالف، كما هي عادته، وإنما اكتفى بذكر اعتراض للمخالف مع الرد عليه.(2/421)
مسألة 1 [هل تتوقف أوامر الله لعباده على المصلحة] :
الأمر لا يقف على المصلحة، وقد يجوز أن يأمر بما لا مصلحة للمأمور فيه؛ ولكن التكليف منه إنما يقع على وجه المصلحة.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: يقف على المصلحة2.
والكلام في ذلك مبني على أصول:
أحدها: أنه يجوز أن يأمر بما لا يريد، وما لا يريده لا مصلحة فيه.
وقد دل على هذا الأصل: أمره لإبراهيم بذبح ولده، ولم يرد وجوده منه؛ لأنه نهاه عن فعله، وفداه بالكبش.
الأصل الثاني: أنه لا يجب عليه فعل الأصلح في خلقه، وإذا لم يجب عليه ذلك؛ لم يقف أمره على المصلحة؛ لأنها غير واجبة عليه.
وقد دل على هذا الأصل: أنه لو وجب عليه فعل الأصلح؛ لم يستحق
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"63-65"، و "شرح الكوكب المنير" ص"96".
2 راجع في هذا المعتمد لأبي الحسين البصري "1/178-179".(2/421)
الثناء والمدح؛ لأنه فعل ما يجب عليه فعله. ولما أجمعنا على أنه يستحق ذلك؛ علم أنه لا يجب عليه ذلك، وإنما يفعله تفضلًا.
والأصل الثالث: أن من قال: يقف الأمر على المصلحة؛ بناه على أصل، وهو: أنه يقبح في العقل أن يأمر بما لا مصلحة فيه.
ونحن نبينه على هذا الأصل، وأن1 العقل لا يقبح ولا يحسن2، وإذا لم يدل ذلك لم يقف على المصلحة؛ إذ ليس هناك ما يمنع من ضد المصلحة.
وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل إليهم، فعلم أن الله تعالى لم يوجب على العقلاء شيئًا من جهة العقل؛ بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل.
وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
__________
1 هكذا في الأصل: "وأن" والإتيان بالواو هنا تعبير درج عليه المؤلف؛ وإلا فالكلام لا يستقيم إلا بحذفها.
2 كون العقل لا يقبح، ولا يحسن، ولا يوجب، ولا يحرم، قول الإمام أحمد وأكثر الأصحاب، ومن أقوال الإمام أحمد في هذا، "ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقل؛ وإنما هو الاتباع".
وقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن العقل يقبح، ويحسن، ويوجب، ويحرم؛ منهم: أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وابن القيم.
ونقل عن الشيخ تقي الدين قوله: "الحسن والقبح ثابتان، والإيجاب والتحريم بالخطاب، والتعذيب متوقف على الإرسال".
راجع: "شرح الكوكب المنير" ص "96".
3 "15" سورة الإسراء.(2/422)
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1؛ فلو كان العقل حجة عليهم، لما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} بل كان الواجب [55/ب] أن يقول: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد العقل؛ ولما لم يقل هذا؛ ثبت أن العقل لا تأثير له في ذلك.
ويدل على هذه المسألة من غير بناء على أصل: أن الله تعالى أمر إبراهيم بالذبح ومنعه منه قبل وقوع الفعل؛ فلو كان أمره بالذبح مصلحة؛ لم ينهه عن فعله قبل فعله؛ فلما نهاه عنه؛ علمنا أنه لم يكن له مصلحة في ذلك الأمر.
ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع على أنه قد يأمر من قد سبق في علمه أنه لا يفعل ما أمر به، كأمره للكفار بالإيمان، وقد علم أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أنه لا مصلحة لهم في هذا الأمر؛ لأن تركه لا يوجب عليهم مأثمًا؛ لأنه لا يوجد من جهتهم مخالفة، وبالأمر يحصل منهم مخالفة، فيستحقوا على ذلك العذاب، فكان ترك الأمر أنفع لهم منه. وجرى هذا مجرى من علم من حاله أنه متى دفع إليه سيفًا يقاتل به؛ قتل به نفسه؛ فإن المصلحة له أن لا يعطيه شيئًا، وكذلك من علم من حاله أنه متى سافر قطع عليه وقتل، ولم يصل إلى ربح، كان الأصلح له ترك ذلك. وهذه طريقة جيدة على هذه المسألة2.
__________
1 "165" سورة النساء.
2 في "المسودة" ص "64" تحرير لمحل النزاع، حيث جاء فيها: " ... وذلك أن عندنا للأمر بالشيء لمصلحة ثلاث جهات:
أحدهما: نفس الأمر بقيد الاعتقاد والعزم.
وثانيها: الفعل من حيث هو مأمور به تعبدًا وابتلاءً وامتحانًا.
وثالثها: نفس الفعل بما اشتمل عليه من المصلحة.
والمعتزلة تنكر القسمين الأولين. فعلى هذا يجوز أن يأمر بفعل لا مصلحة فيه، بل في الأمر والتكليف به.
الثاني: أنه يجوز أن يأمر العبد بما لا مصلحة فيه، على تقدير المخالفة، فتكون المصلحة في الفعل -لو وقع- لا مصلحة للعبد في نفس تكليفه؛ كالأمر بالإيمان، وهذا مما لا يختلف أهل الشرائع فيه.
الثالث: أنه يجوز أن يأمر بما لا مصلحة فيه على تقدير الموافقة، بمعنى: أن العبد لو فعل المأمور به؛ لم تكن له فيه مصلحة، فهذا جائز لله؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، خلافًا للمعتزلة "في قولهم": هو غير جائز له..(2/423)
وقد ذكر بعضهم طريقة في هذا فقال: قد أمر الله تعالى بالدعاء، ولا مصلحة في ذلك على قول المخالف؛ لأن الداعي إن كان عاصيًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الخلود في النار، وإن كان طائعًا؛ لم ينفعه دعاؤه؛ لأنه قد استحق الثواب الدائم بالطاعة.
وهذه طريقة لينة؛ لأن الأمر بالدعاء يفيد على قولهم زيادة في الآخرة، كما أن تكليفه عبادة بعد عبادة يفيد زيادة في الآخرة.
وبناء المخالف الكلام في هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها. والكلام معه في تلك الأصول.
سؤال: إن قيل: هل يجوز أن يقول: افعل ما أردته منك إن لم أكرهه؟
قيل: لا يجوز؛ لأنه قد قام الدليل على قدم إرادته، وكونه لم يزل مريدًا لما أراده، واستحالة كونه كارهًا له بعد إرادته؛ فلم يجز اشتراط ذلك، ذكر هذا السؤال أبو بكر، ومنع منه1.
__________
1 الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل العويصة، ولكن المؤلف رحمه الله رسم الخطوط العريضة لها.
وبقي عليه مسألة، لم يتعرض لها، وهي: جواز وقوع الأوامر لغير مصلحة، فنفاه الأكثرون من السلف والخلف.
وذهبت طائفة إلى جواز خلو المشروعات عن المصالح، وهؤلاء على طرفي نقيض مع المعتزلة.
راجع: "المسودة" ص"64-65".(2/424)
باب النواهي
صيغة النهي
مدخل
...
باب النواهي
مسألة 1 [صيغة النهي] :
للنهي صيغة مبنية تدل بمجردها عليه، وهو قول القائل لمن دونه: "لا تفعل"؛ كالأمر سواء.
نص عليه الإمام رضي الله عنه في رواية عبد الله فقال: "ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمنه أشياء حرام، مثل نهيه أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها2،
__________
1 راجع هذه المسألة: في كتاب التمهيد في أصول الفقه الورقة "47/ب"، والمسودة ص"80".
2 هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها عن جابر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما "7/15".
وأخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه "2/1029-1030".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء "1/476".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "3/424".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها "6/80-81".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "1/621".
وأخرجه عنه الطيالسي في أبواب الأنكحة المنهي عنها، باب تحريم الجمع بين المحارم "1/308".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/169-170".(2/425)
ونهى عن جلود السباع أن تفترش1؛ فهذا حرام. ومنه أشياء نهى عنها نهي أدب".
خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون [56/أ] نهيًا لصيغته؛ وإنما يكون نهيًا بإرادة الناهي كراهية المنهي عنه.
وخلافًا للأشعرية في قولهم: لا صيغة له؛ وإنما هو معنى قائم في النفس.
والكلام في هذا كالكلام في الأمر سواء، وقد دللنا بما فيه كفاية.
ويدل عليه أيضًا إجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر النواهي في ترك الشيء.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو المليح عن أبيه عن الني صلى الله عليه وسلم مرفوعًا أخرجه عنه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع "4/241"، بمثل لفظ المؤل فمرة، ومرة لم يذكر قوله: "أن تفترش".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الفرع والعتيرة، باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع "7/156".
والحديث روي مسندًا ومرسلًا، والمرسل أصح كما قال الترمذي فيما سبق، والمناوي في: فيض القدير "6/328".(2/426)
من ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين عامًا، لا نرى بذلك بأسًا، حتى أتانا رافع فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، فانتهينا بقول رافع"1. وغير ذلك من الظواهر.
ولأن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل كذا، ففعل؛ صلح أن يعاقبه عليه.
وقد ورد لفظ: "لا تفعل" في القرآن على وجوه:
منها: ما ورد على وجه الرغبة والسؤال، مثل قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} 2.
ومنها: ما ورد بلفظ التقرير مثل قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} 3.
وقد ورد على وجه التحذير، مثل قول القائل لعبده: الآن قد أمرتك، لا تفعل4.
وورد على وجه الاستقلال، مثل أن يقول: لا تكلمني، فإنك لست بأهل للكلام5 ولا موضعًا له.
ويرد لتسكين النفس مثل قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6.
ويرد على وجه الأمان من الخوف، مثل قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 7.
__________
1 هذا الحديث سبق تخريجه.
2 "286" سورة البقرة.
3 "76" سورة الكهف.
4 في الأصل: "فلا تفعل"، والتصويب من الناسخ في هامش الأصل نقلًا عن ابن حمدان.
5 في الأصل: الكلام.
6 "76" سورة يس.
7 "7" سورة التحريم.(2/427)
وورد للعظة، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} 2، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 3 {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 4.
__________
1 "29" سورة النساء.
2 "31" سورة الإسراء.
3 "32" سورة الإسراء.
4 "61" سورة طه.(2/428)
مسألة 1 [النهي المطلق يقتضي الفور والتكرار] :
والنهي يقتضي المبادرة إلى ترك المنهي عنه على الفور، كالأمر، وأنه يقتضي التكرار كالأمر سواء.
وقال أبو بكر ابن الباقلاني: لا يقتضي التكرار، كالأمر، ولا يقتضي الفور.
وما ذكرناه في الأوامر فهو دلالة في النهي، فلا وجه لإعادته.
ولأن الواحد من أهل اللغة متى قال لعبده: لا تدخل هذه الدار، فترك المأمور دخولها ساعة، ثم دخلها استحق الذم عند سائر العقلاء؛ فدل على أنه يقتضي التكرار.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"81"، وشرح الكوكب المنير ص"342-343" من الملحق.(2/428)
مسألة النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها
مدخل
...
مسألة 1 [النهي عن أشياء بلفظ التخيير يقتضي المنع من أحدها] :
النهي إذا تعلق بأحد أشياء بلفظ التخيير، مثل: أن لا تكلم زيدًا أو
__________
1 راجع هذه المسألة في التمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/ب"، والمسودة ص"81"، وشرح الكوكب المنير ص"343" من الملحق.(2/428)
عمرًا؛ فإنه يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير، على ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه في رواية البغوي: كل ما في كتاب الله تعالى "أو" فهو على التخيير.
خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه يقتضي المنع من كليهما1 جميعًا2، وهو اختيار الجرجاني.
وقال أبو بكر ابن الباقلاني: يقتضي المنع من كلام أحدهما على وجه التخيير.
__________
1 في الأصل: "كلاهما".
2 راجع: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/182-183".(2/429)
دليلنا:
أن النهي كالأمر في باب الكف، ثم ثبت أنه لو قال: تصدق بدرهم أو دينار؛ لم يجب الجمع بينهما، كذلك النهي1.
__________
1 في الأصل: "الأمر"، وقد ذكر الناسخ في هامش الأصل: أن ابن حمدان صوبه بما أثبتناه.(2/429)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 1 [56/ب] معناه: ولا كفورًا2.
والجواب: أنا حملناه على الجمع بدليل.
__________
1 "24" سورة الإنسان.
2 ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله تعالى نهى عن الطاعة للآثم وللكفور، مع أن الآية ذكرت ذلك بصيغة التخيير "أو".(2/429)
واحتج: بأنا وجدنا أهل اللغة يقولون: لا تطع زيدًا أو عمرًا، المعنى: اتق طاعتهما؛ كأنه قال: لا تطع زيدًا ولا عمرًا.
والجواب: أنا لا نسلم بهذا.
واحتج: بأن في المنع منهما احتياطًا، حتى لا يواقع المحظور، ولهذا قلنا فيمن اشتبهت عليه جاريته بجارية1 غيره: أنه لا يطأ واحدة منهما.
والجواب: أنه يلزم عليه التخيير في الواجب؛ لأن فعل كل واحد منهما احتياطًا؛ لأنه بفعل أحدهما لا يأمن ترك واجب، ومع هذا لا يجب.
واحتج: بأن ما وجب تركه مع غيره؛ وجب تركه بانفراده.
والجواب: أنه يبطل بالجمع بين الأختين، يجب من ترك كل واحدة منهما مع وجود الأخرى عنده ولا يجب مع عدمها.
__________
1 في الأصل: "من جارية".(2/430)
مسألة النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده
مدخل
...
مسألة 1 [النهي عن شيء له ضد واحد أمر بضده] :
إذا ورد النهي عن فعل شيء له ضد واحد كان أمرًا بضده من جهة المعنى، نحو قوله: {لاَ تَكْفُرْ} 2 يكون أمرًا بضده، وهو الإيمان.
وإذا كان للمنهي عنه أضداد، تضمن ذلك أمرًا بضد واحد من الأضداد، كقوله: لا تسجد.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "العمدة في أصول الفقه للؤلف الورقة "1/ب"، والتمهيد لأبي الخطاب الورقة "48/أ"، والمسودة ص"81-82".
2 "102" سورة البقرة.(2/430)
دليلنا:
أنه إذا نهى عن فعل شيء؛ تضمن ذلك وجوب الكف عنه، ولا يمكنه الكف عنه إلا بفعل واحد من الأضداد؛ فثبت أن النهي عنه تضمن واحدًا من أضداده لا محالة، ألا ترى أنه لا يتوصل إلى ترك الحركة إلا بفعل ضدها من السكون؛ فصار كأنه ترك الحركة بالسكون، فتضمن ذلك إيجاب فعله عليه.
ويبين صحة هذا ما ذكرناه: أن الأمر بالشيء؛ أمر بما لا يتم إلا به، ولهذا جعل الأمر بالطهارة والأمر بالكفارة، لكن بطلب ما يتوصل به إليه.(2/431)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ يصح وروده مقترنًا بذكر إباحة جميع أضداده؛ فلو كان النهي يتناول ذلك؛ لم يجز نفيه بما يقترن به.
والجواب: أنا لا نسلم هذا، وإنما يصح أن يرد بإباحة بعض أضداده، لا جميعها.(2/431)
مسألة إطلاق النهي يقتضي الفساد
مدخل
...
مسألة 1 [إطلاق النهي يقتضي الفساد 2] :
وقد قال أحمد رضي الله عنه في رواية3 أبي القاسم إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي4 في الشغار5:
يفرق بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 راجع هذه المسألة في: العمدة في أصول الفقه للمؤلف الورقة "1/ب"، والواضح في أصول الفقه الجزء الثاني الورقة "40-48"، والتمهيد في أصول الفقه الورقة "48"، والمسودة ص"82-83"، وشرح الكوكب المنير ص"339-343" من الملحق، وروضة الناظر ص"113-115".
2 وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والشافعية، والمالكية والحنفية وبه قالت الظاهرية، وهو قول بعض المتكلمين.
راجع في هذا بالإضافة للمراجع السابقة: الإحكام للآمدي "2/175"، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص"173"، وشرح الجلال على جمع الجوامع "1/393"، وتيسير التحرير "1/376-377".
3 نقل ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة أبي القاسم العجلي "1/105" هذه الرواية.
4 من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل التي أفتى فيها، انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة "1/105".
5 الشغار في اللغة: خلو المكان بعد أن كان مشغولًا. ومنه: شغرت البلد إذا خلت من ساكنيها، وشغر الكلب إذا رفع أحد رجليه ليبول.
راجع مادة: "شغر" في المصباح المنير "1/483"، ومختار الصحاح ص"363".
والشغار عند الحنابلة كما يقول الخرقي في مختصره ص"138": "إذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته؛ فلا نكاح بينهما، وإن سموا مع ذلك مهرًا أيضًا".
وأما ابن قدامة في كتابه المغني "7/100" فيحكي: أن النصوص عن أحمد رحمه الله تفيد أنه إذا سمي صداقًا صح العقد.(2/432)
قد نهى عنه1، وقال: أرأيت لو تزوج امرأة أبيه؛ أليس قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2.
وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب وقد سئل عن بيع الباقلا3 [57/أ] قبل أن تحمل وهو ورد، فقال: [نهى] النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها4، هذا بيع فاسد، وهو قول جماعة الفقهاء.
__________
1 كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الشغار "7/15".
وأخرجه مسلم في كتاب النكاح باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه "2/1034".
وأخرجه الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار "3/422"، ولم يذكر في الحديث تفسير الشغار.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب النهي عن الشغار "1/606".
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الشغار "1/479".
وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب تفسير الشغار "6/92".
2 "22" سورة النساء.
3 الباقلا، إذا شددت اللام صارت مقصورة، وإذا خففت صارت ممدودة.
انظر: مادة "بقل" في مختار الصحاح ص"73"، والمصباح المنير "1/93-94".
4 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "3/95"، وفي باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها "3/96".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها "3/1165".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/226-227".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها "2/746-747".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها "7/230".
وأخرجه عنه مالك في الموطأ في كتاب البيوع باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها "30/260".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "4/5-6"، وفيض القدير "6/206"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"443".(2/433)
خلافًا للمعتزلة1 والأشعرية في قولهم: لا يقتضي فساد المنهي عنه بإطلاقه2.
__________
1 هكذا هو في "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/184"، إلا أن أبا الحسين البصري اختار قولا آخر هو: "أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات، دون العقود والإيقاعات".
2 وقد اختار القول بعدم الفساد إمام الحرمين والقفال، كما حكاه الآمدي في "الإحكام": "2/175"، وكذلك الغزالي في المستصفى "2/25" وإن كان في المنخول ص"126" قد اختار العكس.(2/434)
دليلنا:
ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، وفي بعض الألفاظ: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رد". وروى: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" 1.
__________
1 حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري في كتاب الصلح، =(2/434)
فإن قيل: معنى الرد: أنه غير مقبول، والقبول من الله تعالى هو الإثابة عليه، ونحن نقول: إنه لا يثاب على فعله.
قيل: الرد يحتمل ذلك، ويحتمل الإبطال والإفساد، كما يقول: رد فلان على فلان، إذا أبطل قوله وأفسده، فوجب حمله عليهما.
وأيضًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة إلا بطهور" 1،
__________
= باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود "3/228"، بمثل لفظ المؤلف الأول.
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور "3/1343-1344" بمثل لفظ المؤلف الأول، وبمثل لفظه الثاني.
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة "2/506"، بمثل لفظ المؤلف الثاني.
وأخرجه عنها ابن ماجه في مقدمة سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه "1/7"، بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده "6/146" بمثل لفظ المؤلف الأول.
وأخرجه عنها الطيالسي في مسنده في كتاب العلم، باب التحذير من الابتداع في الدين "1/40"، بلفظ: "من فعل في أمرنا ما لا يجوز، فهو رد".
1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "1/204".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1/5-6".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور "1/100"، كما أخرجه عن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا.
وعن ابن عمر أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة باب ما جاء في فضل الوضوء، وأن الصلاة لا تقبل بدونه "1/49". وعن أبي المليح عن أبيه مرفوعًا أخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/75" بلفظ: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ... ".
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب فرض الوضوء "1/14" بمثل لفظ النسائي.
وانظر في هذا الحديث: فيض القدير "6/415"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"57".(2/435)
و "لا نكاح إلا بولي" 1 و "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفس الفعل؛ لأن الفعل لا يمكن رفعه، وإنما أراد نفي حكمه، فاقتضى ذلك أن الفعل إذا وجد على الصفة المنهي عنها؛ لم يكن له حكم، وكان وجوده كعدمه؛ فيكون الفرض باقيًا على حالته؛ فوجب الإتيان به.
وأيضًا: فإن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها.
فمن ذلك: احتجاج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 2.
__________
1 هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح؛ إلا بولي "3/398-402"، وقال: حديث فيه اختلاف.
وعنه أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في الولي "1/481".
وعنه أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح إلا بولي "1/605".
وعنه أخرجه الدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62".
وعنه أخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب النكاح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وما جاء في العضل "1/305".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/183-184"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"539".
2 "221" سورة البقرة.(2/436)
وكذلك احتجاجهم في إفساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، وإلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد" 1. وما أشبه ذلك؛ [فلو] كان إطلاقه لا يفيد الفساد؛ لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام.
فإن قيل: إنما رجعوا إلى ذلك لدلالة مقترنة إلى هذه الألفاظ دلت في الحال على ذلك.
قيل: لو كان الذي يفيد الفساد دلالة غير اللفظ لطالب بعضهم من بعض حال ورود المنازعة، ولكانت تنقل ذلك للعصر الثاني والثالث حتى لا يؤدي إلى تضييع الشرع.
__________
1 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم في كتاب "المساقاة" باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1211".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل "3/532"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع باب في الصرف "2/222-223".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير "7/240-243".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الصرف، وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757-758".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع باب النهي عن الصرف "2/174".
وأخرجه عنه الشافعي في كتاب البيوع باب جامع الأصناف يجري فيها الربا "2/177".
وراجع في هذا الحديث أيضا: نصب الراية "4/35-36"، وفيض القدير "3/570-572"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"450".(2/437)
وأيضًا: فإن النهي يخرجه عن أن يكون شرعًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، فما أخرجه من أن يكون موافقًا للشرع وجب أن يخرجه من أن يكون موافقًا لحكمه.
ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو: أن ما يفعل على وجه منهي عنه؛ لا يجوز أن يكون هو المفروض ولا المندوب والمباح؛ لأن المنهي عنه لا يكون مأمورًا به ولا مندوبًا؛ لاستحالة اجتماع الشيء وضده؛ فإذا لم يكن [57/ب] هو المأمور به لم يؤثر فعله في إسقاط حكم الأمر الآخر، فكان حكمه باقيًا عليه؛ فليزمه الإتيان به، وهذا معنى قولنا: النهي يقتضي الفساد، ولهذا قال أصحابنا: النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه؛ وجب فساد المنهي عنه أيضًا للمعنى الذي ذكرنا.
وأيضًا فإن الأمر يدل على الصحة والجواز، فوجب أن يدل النهي على البطلان والفساد؛ لأن النهي ضد الأمر، فما أفاده الأمر في المأمور؛ يجب أن يفيد النهي ضده في المنهي، ولهذا لما أفاد الأمر وجوب الفعل، أفاد النهي وجوب الترك.
وأيضًا: فإن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل؛ فإذا فعله بطل لعدم الشرط.
وبيان هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" 1.
__________
1 هذا الحديث رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه مسلم كتاب النكاح باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته "2/1030-1031".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم "3/190-191"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك باب المحرم يتزوج "1/427". =(2/438)
ظاهر النهي لأجل إحرامه، ولأن الإحلال شرط في صحة العقد، وهذا على أصلنا في القول بدليل الخطاب؛ لأنه إذا قال: لا ينكح المحرم، يدل على أن المحل ينكح، ويكون الإحلال شرطًا في صحته.
فإن قيل: هذا لا يدل على أن عدم الصفة شرط في صحة الفعل؛ وإنما يدل على أنه شرط في إباحة الفعل.
قيل: الأمر والإباحة يدلان على الصحة؛ لأن صاحب الشريعة إذا قال: أمرتك بأن تفعل النكاح في حال الإحلال؛ فإذا عقده؛ دل على أنه صحيح مجزئ؛ لكونه محلًا، وكذلك إذا قال: أبحت لك أن تفعل النكاح في حال الإحلال، فإذا عقده؛ كان صحيحًا لإحلاله.
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج باب النهي عن النكاح المحرم "5/151".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج "1/632".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج باب في تزويج المحرم "1/368".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/267".
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج باب نكاح المحرم "2/273".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب الحج باب في نكاح المحرم "1/213".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه "2/18".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب مناسك الحج باب نكاح المحرم "2/268".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: نصب الراية "3/170-171"، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص"387".(2/439)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الدليل لا يجوز وجوده وليس معه مدلوله، وقد وجدنا في الشريعة نهيًا وتحريمًا يقارن الصحة والإجزاء؛ فدل على أنه لا يدل على الفساد،(2/439)
وذلك مثل البيع في حال النداء، والطلاق في حال الحيض والوطء فيه، والذبح بالسكين المغصوبة، والصلاة في الدار المغصوبة، وفي السترة المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، وإقامة الحد بالسوط المغصوب، وما أشبه ذلك؛ فإنه يقع موقع الجائز مع كونه محرمًا منهيًا عنه.
والجواب: أن هذا لا يمنع وجوده، ولا يقتضي الفساد، كما لم يمنع وجوده ولا يقتضي التحريم، وقد ثبت أن إطلاق النهي يقتضي التحريم، وإن دل الدليل على أنه لا يوجب الفساد.
فإن قيل: إن دل الدليل على أنه لا يوجب التحريم؛ خرج من أن يكون نهيًا.
قيل: لا يوجب خروجه من أن يكون نهيًا، كما لا يجب أن يخرج الأمر بسقوط وجوبه -بدليل- من أن يكون أمرًا، وعلى أن هناك دليلًا1 دل على الفساد، ولم يدل الدليل على غيره.
وأجاب [58/أ] بعضهم عن هذا بجواب آخر فقال: المفعول على هذا الوجه في المواضع التي ذكروها؛ لم يتضمنه الأمر الأول، إلا أن الله تعالى أسقط موجب الأمر عن2 المكلف بمثل هذا الفعل، كما يسقط عنه بالعجز.
واحتج بأن الفساد صفة زائدة لا يقتضيها لفظ النهي؛ فلم يجز إثباتها به.
والجواب: أن هذا باطل بالتحريم؛ فإنه صفة زائدة، لا يقتضيها النهي، وقد أثبتها باللفظ.
__________
1 في الأصل: "دليل" بالرفع.
2 في الأصل: "من".(2/440)
ثم لا نسلم أنه لا يقتضيها اللفظ؛ لأنا قد بينا أن النهي متعلق بصفة، وعدمها شرط في الفعل.
واحتج: بأنه لو كان إطلاق النهي يقتضي الفساد؛ لوجب -إذا صرف عن إطلاقه- أن يصير مجازًا.
والجواب: أنه إنما لم يصر1 مجازًا؛ لأنه قد حمل على بعض موجباته، وهو الكراهة؛ فلهذا لم يصر مجازًا، كالعموم إذا خص بعضه، وعلى أن هذا يبطل بالتحريم؛ فإنه إذا صرف عنه لا يصير مجازًا، وإن كان الإطلاق يقتضيه.
__________
1 في الأصل: "يصير".(2/441)
مسألة النهي إذا تعلق بمعنى في غير النهي عنه دل على الفساد أيضا
مدخل
...
مسألة 1 [النهي إذا تعلق بمعنى في غير المنهي عنه دل على الفساد أيضًا] : 2
مثل: النهي عن البيع عند النداء، والصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب، والصلاة بماء مغصوب، وهذا ظاهر كلام أصحابنا رحمهم الله في بطلان الصلاة في هذه المواضع، وكذلك اختلافهم في الذبح بسكين غصب.
خلافًا لأكثر الفقهاء في قولهم: لا يدل ذلك على الفساد، وهو قول الأشعرية أيضًا.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"83"، و "شرح الكوكب المنير" ص"342" من الملحق.
2 وبهذا قال أكثر الحنابلة والمالكية والظاهرية، كما نقله الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" ص"342".
وأطلق القرافي المالكي القول بأنه يقتضي الفساد، كما في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"173".
وصرح الآمدي: بأنه لا يعرف من يقول بهذا القول غير مالك وأحمد في رواية عنه، صرح بذلك في كتابه: "الإحكام": "2/175".
وقد أفاض القول في هذه المسألة ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "3/307-308".(2/441)
دليلنا:
ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد".
ولأن النهي عن الفعل على هذه الصفة يخرجه عن أن يكون شرعيًا، والصحة والجواز من أحكام الشرع، وهذا الفعل منهي عنه؛ فوجب أن يكون ذلك شرعًا.
ولأنه لا فرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه أو في غيره في توجه البطلان، بدليل أن شراء الصيد في حق المحرم، ونكاح المحرمة؛ باطل، وإن لم يكن النهي متوجهًا لمعنى في المنهي عنه، وإنما هو لمعنى آخر وهو الإحرام؛ كذلك لا يمتنع أن تفسد الصلاة في الدار المغصوبة لمعنى في غيرها، وهو تحريم الغصب، وكذلك بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد، وهو فاسد.
فإن قيل: ما يختص العاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد ويرجع إليه.
قيل: فيجب أن يفسد بيع الحاضر للبادي؛ لأن النهي عن ذلك لمعنى في المتعاقدين.(2/442)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن النهي لا يرجع إلى المنهي عنه، بدليل: أنه ممنوع من الجلوس في الدار [58/ب] في غير صلاة، وممنوع من لبس القميص وشرب الماء، وإذا لم يرجع النهي إليه؛ لم يؤثر فيها، كما لو صلى وعنده وديعة قد طولب(2/442)
بها، فلم يسلمها مع سعة الوقت، أو طلق في الحيض، أو ذبح بسكين غصب، أو حد بسوط غصب، أو استام على سوم أخيه، أو توضأ بما يملكه في دار مغصوبة؛ فإن الوضوء صحيح، وإن كان ممنوعًا في هذه الحال.
والجواب: أنه إذا فرق بين الأمة وولدها في البيع؛ لم يصح عند الشافعي، وإن لم يكن ذلك لمعنى في العقد، وإنما هو لمعنى في المبيع، وهو ما يلحقهما من الحزن بالفراق، ثم هذا لا يصح؛ وذلك أنه ممنوع من الكون في الغصب، وذلك يتنوع أنواعًا، بعضه صلاة، وبعضه قعود، وبعضه قيام، وقد استوفيت الكلام على هذا في كتاب الصلاة.
وفي هذه المسألة طريقة أخرى، وهو: أن النهي راجع إلى شرط معتبر في العبادة؛ لأن الصلاة أفعال تفتقر إلى أكوان، وكذلك الحج، الوقوف فيه ركن يفتقر إلى كون في مكان؛ فإذا كان الكون الذي هو شرط: منهي عنه دل على الفساد، كما لو رجع النهي إلى نفسه، ألا ترى أنه لو صلى في ثوب نجس أو في وقت منهي عن الصلاة فيه، لم يصح؛ لأن النهي رجع إلى شرط معتبر، ولم يرجع إلى نفس الفعل الذي هو الاعتمادات، كذلك ههنا، وكذلك القعود لا فرق بين أن يرجع النهي إلى نفسه كأكل الربا، أو يرجع إلى شرط كالمبيع بشرط خيار مجهول، أو أجل مجهول في أنه باطل في الموضعين.
فإن قيل: الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها1، والنهي انصرف إلى اعتمادات في الأرض كالمنهي عن المأمور؛ فلا يصح؛ لأن الصلاة اعتمادات بفعلها في نفسها في مكان، إذ لا بد لتلك الاعتمادات التي هي
__________
1 في الأصل: "نفسه" وقد أتى المؤلف بالضمير بعد قليل، كما أثبتناه.(2/443)
الركوع والسجود والجلوس من مكان، وما لا يتم الفعل إلا به؛ يحصل مأمورًا به.
فإن قيل: هو مأذون له في العرف من جهة صاحب الأرض.
قيل: لو كان كذلك؛ لم يكن مأثومًا في تلك الحال، ولوجب أن يحكم له بالثواب، كما إذا صلى فيها بإذن سابق.
فإن قيل: هو منهي عن الامتناع من رد الغصب؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها.
قيل: يبطل بالصلاة في ثوب نجس؛ فإنه منهي عن الامتناع من ترك النجاسة؛ لأن النجاسة طريقها التروك؛ فهو فعل آخر غير الصلاة المأمور بها على قولهم، ومع هذا فالصلاة باطلة.
فإن قيل: النهي عن القرب يدل على الفساد، ولا يدل على العقود1.
قيل: لا يصح؛ هذا [59/أ] لأنه خلاف إجماع الصحابة، وذلك أنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها2.
من ذلك احتجاج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 3.
وكذلك احتجاجهم في فساد عقوبة الربا بقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا التمر بالتمر، ولا
__________
1 هذا إشارة إلى قول ثالث في المسألة وهو: أن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات، وبه قال أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد": "1/184"، وقد مرت الإشارة إلى ذلك قريبًا.
2 في الأصل: "عنه".
3 "221" سورة البقرة.(2/444)
الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح؛ إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد"؛ فلولا أن إطلاقه يفيد فساد العقود، لم يرجعوا إلى ظاهر الكلام.
وكذلك أوجبوا فساد النكاح في العدة، وبيع ما ليس عنده، وإن لم يكن في هذه العقود قرب.
فإن قيل: لم يوجبوا إفساد البيع في وقت النداء.
قيل: روي عن ابن سلام1 في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قال: "إذا أذن المؤذن يوم الجمعة حرم البيع". وتحريمه يدل على النهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
فإن قيل: البيع وقت النداء يؤدي إلى فوت الصلاة عن وقتها، وهذا لا يدل على الفساد.
قيل: بل يدل عليه، ألا ترى أن الصائم منع من القبلة إذا كانت تحرك شهوته؛ لأنه يعود بفساد العبادة؛ فلو وجد تحريك الشهوة والإنزال لفسد الصوم، [فـ] كان يجب إذا وجد فوات الجمعة أن يفسد البيع.
فإن قيل: إنما منع من خطبة الرجل على خطبة أخيه؛ لما فيه من وحشة الإخوان، وبيع الحاضر؛ لما فيه من إدخال الضرر على الناس؛ لما فيه من إغلاء الأسعار.
قيل: هذا لا يمنع فساد البيع، بدليل المنع من التفريق بين الوالدة
__________
1 هو يحيى بن سلام بن ثعلب بن زكريا البصري، الثقة الثبت، له علم بالكتاب والسنة واللغة العربية، نزل المغرب، وسكن إفريقية. روى عن حماد بن سلمة وهمام بن يحيى وغيرهما. له كتاب في التفسير. مات سنة 200هـ.
له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي "2/371"، و"غاية النهاية" في "طبقات القراء" لابن الجزري 2/373، ولسان الميزان 6/259.(2/445)
وولدها في البيع؛ لما فيه من إدخال الضرر على كل واحد بحصول الوله، لقوله عليه السلام: "لا توله والدة على ولدها" 1.
وكذلك لا يصح الجمع بين الأختين في عقد النكاح؛ لما يحصل بينهما من التباغض والتقاطع.
فأما الطلاق المخالف للسنة؛ فإنما أوقعناه؛ وإن كان منهيًا عنه تغليظًا على فاعله2.
وإيجابنا قضاء الصلاة في الأرض تغليظًا؛ فهما3 في المعنى سواء4.
وأما الجلد بسوط غصب؛ فإنما أجزأ؛ لأنه لو لم يجزئ لأدى إلى الزيادة في الحد، ولا يجوز هذا، وليس كذلك في إعادة الصلاة؛ لأنه غير ممتنع، كما لو نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها، فإنه يلزمه قضاء يوم كامل.
وأما بيع الحاضر للبادي فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله:
__________
1 هذا الحديث رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه عنه البيهقي بسند ضعيف، كما أخرجه أبو عبيد في كتابه "غريب الحديث". من مرسل الزهري، والراوي عنه ضعيف. كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "3/15"، وراجع أيضًا: "فيض القدير": "6/423".
2 إيقاع الطلاق في الحالة هذه قول الجماهير، خلافًا لبعض المبتدعة القائلين بعدم الوقوع.
انظر: المغني لابن قدامة "7/299".
3 في الأصل: "فيهما".
4 الصلاة في الأرض المغصوبة فيها روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله، إحداهما: عدم الصحة، وهو المشهور من المذهب، والأخرى الصحة.
انظر: المغني لابن قدامة "2/63"، والتنقيح المشبع ص"42".(2/446)
البطلان؛ لما فيه من الضرر على أهل البلد1.
واختلفت الرواية في البيع على بيع أخيه: فروي عنه ما يدل على البطلان؛ لما فيه من الضرر بأخيه2.
__________
1القول بعدم صحة البيع وبطلانه هو ظاهر المذهب، وقد روى هذا إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد، قال: سألت أحمد عن الرجل الحضري يبيع للبدوي؟
فقال: أكره ذلك، وأرد البيع في ذلك.
وعلى هذه الرواية يشترط لعدم صحة البيع ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الحاضر قصد البادي، ليبيع له سلعته.
الثاني: أن يكون البادي جاهلًا بسعر السلعة في السوق.
الثالث: أن يكون البادي جالبًا للسلعة يريد بيعها.
وزاد القاضي أبو يعلى شرطين آخرين هما:
الأول: أن يكون البادي يريد بيع سلعته بسعر يومها.
الثاني: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعة البادي.
وهناك رواية ثانية: أن البيع صحيح، نقل ذلك عن الإمام أحمد أبو إسحاق بن شاقلا أن الحسن بن علي المصري: سأل أحمد عن بيع حاضر لبادٍ؟ فقال: لا بأس به. فقال له: فالخبر الذي جاء بالنهي؟ قال: كان ذلك مرة.
راجع في ذلك: مختصر الخرقي ص"88"، والمغني لابن قدامة "4/193-194"، والإنصاف للمرادوي "4/333-334".
2 بطلان البيع والحالة هذه هو ظاهر المذهب.
وقد ذكر ابن قدامة: أنه يحتمل صحة البيع. ولمزيد من ذلك ارجع إلى "المغني": "4/191".(2/447)
مسألة دليل الخطاب حجة
مدخل
...
مسألة 1 [دليل الخطاب حجة] :
وهو: أن يعلق الحكم بصفة، نحو قوله: "في سائمة الغنم الزكاة 2 ". أو بعدد نحو قوله: "في أربعين شاة شاة" 3.
__________
1 راجع في هذه المسألة: المسودة ص"351-353، 357-359"، وروضة الناظر مع شرحها لابن بدران "2/200-211"، وشرح الكوكب المنير ص"238-254".
2 هذا الجزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا. وهو الحديث الذي روى فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه، وفيه بين أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه عن أنس بن مالك البخاري في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "2/139" من حديث طويل، وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة، إذا كانت أربعين إلى عشرين ... ".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/358-360"، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة..".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم "5/13-14"، وفيه: "وفي صدقة الغنم، في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل والغنم "2/113-116"، وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة واحدة". وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة باب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فرائض الصدقة، وفيه زكاة الإبل والغنم "1/226-227"، بلفظ قريب من لفظ الدارقطني.
راجع في هذا الحديث أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"313-331"، ونصب الراية "2/335-336".
3 هذا جزء من حديثين، روى أحدهما ابن عمر، والآخر علي رضي الله عنه عن الجميع.
وقد أخرجه عن ابن عمر أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة. كما أخرجه عن علي؛ غير أن زهيرًا -أحد رواة حديث علي- شك في رفع الحديث إلى النبي صلى عليه وسلم "2/360، 361-362"، ومحل الشاهد عنده بلفظ: "وفي الغنم في كل أربعين شاة ... ".
وأخرجه الترمذي عن ابن عمر في كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم ولفظه كلفظ أبي داود، غير أنه حذف كلمة "الغنم".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الغنم "1/577"، ولفظه كلفظ المؤلف.(2/448)
[59/ب] أو باسم نحو قوله: "في الغنم الزكاة".
ويعبر عنه: بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره.
وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في مواضع:
فقال في رواية صالح: "لا وصية لوارث" دليل أن الوصية لمن لا يرث.
وقال رضي الله عنه في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يحل للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة1؛ لأن الله تعالى يقول: {أوْ نِسَائِهِنَّ} 2.
__________
1 قول الإمام أحمد رحمه الله هنا هو أحد التفسيرين للآية، وهو مبني على كون الإضافة في قوله تعالى: {نسائهن} أي المؤمنات. وهذا قول أكثر السلف، كما قال الفخر الرازي.
وهناك تفسير آخر هو: أن المراد بالآية جميع النساء. وحمل الفخر الرازي قول السلف على الاستحباب.
راجع في هذا: مفاتيح الغيب للرازي "23/207"، وأحكام القرآن للجصاص "5/175"، ومحاسن التأويل للقاسمي "12/4512".
2 "31" سورة النور.(2/449)
وقال رحمه الله في رواية محمد بن العباس1 وقد سأله عن الرضاع فقال: عن الني صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان 2 " فأرى الثلاث تحرم3.
وقال رحمه الله في رواية حنبل وقد سئل عن الأكل من منزل المجوسي فقال: ما كان من صيد أو ذبيحة فلا، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ
__________
1 في "طبقات الحنابلة" 1/315 شيخان بهذا الاسم، أحدهما: النسائي، والآخر: المؤدب، أبو عبد الله الطويل. ولم يذكر صاحب الطبقات شيئا عن حياتهما.
2 هذا الحديث روته أم الفضل رضي الله عنها مرفوعا. أخرجه عنها مسلم في كتاب الرضاع باب في "المصة والمصتان" 2/1074 بلفظ: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان".
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب لا تحرم المصة ولا المصتان 1/642 بمثل لفظ المؤلف في شطر الحديث الأول، وبقيته كلفظ مسلم.
وأخرجه الدارقطني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعا وذلك في كتاب الرضاع 4/173.
وراجع في هذا الحديث: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص607، و"تلخيص الحبير" 4/5، و"نصب الراية" 3/217.
3 وقد نقل عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في مسائله الورقة 150/أقال: "سألت أبي هل تحرم المصة والمصتان؟ فقال: لا أجترئ عليه. قلت: إنها أحاديث صحاح، قال: نعم، ولكن أجيز عنها".
ولكن ابن قدامة يقول: إن الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العدد المحرم هو خمسة رضعات فصاعدا.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد، مفادها: أن قليل الرضاع وكثيره يحرم.
راجع "المغني" لابن قدامة 8/140.(2/450)
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وهؤلاء ليسوا أهل كتاب2.
ونقل عنه أيضًا رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، قال النبي صلى عليه وسلم: "والنصح لكل مسلم" 3.
ونقل عنه أيضًا رحمه الله: يقتل السبع والذئب والغراب ونحوها4 ولا كفارة عليه؛ لأن الله تعالى قال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 5. فجعل الجزاء في الصيد، وهذا سبع فلا كفارة فيه.
__________
1 "5" سورة المائدة.
2 وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي داود في: "مسائله" ص"257"، وقد سأل الإمام أحمد رجل عن الأكل عند المجوسي، فقال: لا بأس، ما لم يأكل من قدورهم، ويأكل من فواكههم، ذكر شيئا أو أشياء ذهب علي، قيل له: جبنهم؟ فذهب إلى الرخصة، ولم يصرح به.
وحكى ابن قدامة في كتابه: "المغني": "9/389" الإجماع على تحريم صيد المجوسي وذبيحته؛ إلا ما لا ذكاة له.
3 هذا الحديث رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين": "1/22"، كما أخرجه في مواضع أخرى من صحيحه.
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة "1/75".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب باب في النصيحة "2/583".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيعة باب البيعة على النصح لكل مسلم "7/126-127".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع باب في النصيحة "2/164".
4 في الأصل: "ونحوه".
5 "95" سورة المائدة.(2/451)
وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 1، يرجع في حليلة الابن من الرضاعة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" 2.
__________
1 "23" سورة النساء.
2 هذا الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بمثل لفظ المؤلف أيضًا، وذلك في كتاب الرضاع باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل "2/1070"، وفي باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة "2/1071-1072".
وعن علي رضي الله عنه أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء يحرم من الرضاعة ما يرحم من النسب "3/443" بلفظ: "إن الله حرم من الرضاع ما حرب من النسب"، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن ماجه بمثل لفظ المؤلف؛ غير أنه أبدل كلمة "الرضاعة" بكلمة: "الرضاع"، كما أخرجه بمثل لفظ المؤلف أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب.
وعن ابن عباس أخرجه النسائي في كتاب النكاح باب: تحريم بنت الأخ من الرضاعة "6/81-82".
وهناك روايات للحديث، نذكر منها ما استطعنا الاطلاع عليه:
1 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب".
2 "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
3 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة".
4 "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة".
5 "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة".
6 "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب".
7 "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة".
8 "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم".(2/452)
وقال رضي الله عنه في رواية حنبل: قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 1؟ فثبت أن الله سميع بصير.
وقد احتج في هذه المواضع بدليل الخطاب.
وبهذا قال مالك2 وداود3.
وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس بحجة4.
__________
= 9 "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب".
10 "ما حرمته الولادة حرمة الرضاع".
وللاطلاع على هذه الروايات راجع: "صحيح البخاري" في كتاب فرض الخمس باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم "4/100"، وسنن أبي داود في كتاب النكاح باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "1/474"، و"سنن الدارمي" في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاعة "2/79" و"الموطأ" في كتاب الرضاع باب رضاعة الصغيرة "3/238".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"610"، و"نصب الراية": "3/168، 218"، و"تلخيص الحبير" 3/166، 4/4"، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/459".
1 "42" سورة مريم.
2 نص القرافي على هذا في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"270".
3 هو داود بن علي بن خلف، الأصبهاني أصلًا، الكوفي مولدًا، البغدادي نشأة ووفاة. إمام المذهب الظاهري، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، ولد سنة 202هـ، وقيل غير ذلك. ومات سنة 270هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/158"، و"وفيات الأعيان": "2/26". وما نقله المؤلف عن داود الظاهري مخالف لما ذهب إليه ابن حزم في كتابه: "الإحكام": "7/887"، وحكاه عن جمهور الظاهرية من أن دليل الخطاب ليس بحجة.
4 راجع في هذا "تيسير التحرير": "1/98" وما بعدها.(2/453)
واختلفوا: إذا علق الحكم بشرط؛ فمنهم من قال: ما عداه1.
ومنهم من قال: لا يدل، واختاره الجرجاني.
وقال ابن داود والأشعر [ية] 2: دليل الخطاب ليس بحجة3.
واختلف أصحاب الشافعي: فذهب ابن سريج4 والقفال5 إلى أنه ليس
__________
1 يظهر أن هنا كلمة ساقطة هي: "بخلافه"، حيث تصبح العبارة: "فمنهم من قال: ما عداه بخلافه"، وهكذا ذكره ابن عقيل عندما نقل مذهب الحنفية. انظر: "المسودة" ص"357".
2 في الأصل: "الأشعر"، وهو متردد بين: "الأشعري" وبين: "الأشعرية"، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لما في "المسودة" ص"351"، حيث نقل عن المؤلف ذلك لفظ: "الأشعرية".
3 المعروف عن الأشعري أنه يقول بحجية مفهوم المخالفة، نقل ذلك عنه الغزالي في "المستصفى": "2/191"، والآمدي في "الإحكام": "3/68".
4 في الأصل: "سريح" بالسين والحاء المهملتين، وهو تصحيف والصواب: "سريج" بالسين المهملة، والجيم المعجمة، وهو كذلك في "المسودة" ص"351".
وابن سريج هو: أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، أبو العباس. فقيه الشافعية في عصره. صنف أربعمائة مصنف. تولى قضاء شيراز، كانت له مناظرات مع أبي بكر بن داود الظاهري. مات 360هـ، وله من العمر 57 سنة وستة أشهر.
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية": "11/129"، و"تاريخ بغداد": "4/287"، و "شذرات الذهب": "2/247"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/21"، و"النجوم الزاهرة": "1/194".
5 هو: محمد بن إسماعيل، أبو بكر، القفال الكبير. الشاشي موطنًا، الشافعي مذهبًا. فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، محدث. له مؤلفات كثيرة، منها: "كتاب في أصول الفقه"، و"شرح الرسالة". مات سنة 365هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "3/51"، و"طبقات الشافعية" للسبكي "3/200"، و"النجوم الزاهرة": "2/111".(2/454)
بحجة1.
وذهب الأكثر منهم إلى أنه إن علق بصفة؛ فهو حجة، وإن علق باسم؛ لم يكن حجة2.
ومنهم من قال: هو حجة، وإن علق باسم مثل قولنا. قال ابن فورك: وهو الصحيح3.
ورأيت في جزء وقع إلي تخريج أبي الحسن التميمي: أن دليل الخطاب؛ ليس بحجة.
فالدلالة على صحة ما قلناه:
أنه تعالى لما أنزل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين"، ذكره يحيى5 بن سلام6
__________
1 هكذا نقل عنهما الآمدي في "الإحكام": "3/68"، وكذلك في "المسودة" ص"351".
2 هكذا في "جمع الجوامع": "1/252"، حيث قال: "المفاهيم إلا اللقب حجة".
3 وهو منسوب أيضًا لأبي بكر الدقاق والصيرفي الشافعيين، كما في "جمع الجوامع": "1/254".
4 "80" سورة التوبة.
5 في الأصل: "بحر"، وهو خطأ؛ لعله من الناسخ، وقد ذكره المؤلف ص"715" بأنه يحيى بن سلام.
6 سبقت ترجمته ص"445".(2/455)
في تفسيره عن قتادة1 قال: لما نزلت [60/أ] هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي فوالله لأزيدنهم على السبعين".
وفي لفظ آخر: "فلأستغفرن لهم"، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. 3.
__________
1 هو قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب، الحافظ الأعمى، روى عن أنس والحسن وغيرهما. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهما. كان يدلس. وكان يقول: كل شيء بقدر إلا المعاصي. توفي بالطاعون سنة 118هـ.
له ترجمة في: "البداية والنهاية": "9/313"، و "تذكرة الحفاظ": "1/122"، و "شذرات الذهب": "1/153"، و"طبقات المفسرين" للداودي "2/43"، و"ميزان الاعتدال": "3/385"، و "النجوم الزاهرة": "1/276".
2 "6" سورة المنافقون.
3 هذا السبب هو من رواية عبد الرزاق، عن عمر، عن قتادة، وهو مرسل؛ ولكن رجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "8/336-337".
والسبب هذا معارض بما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} عن ابن عمر رضي الله عنهما "6/85": أن الله أنزل بعد صلاة النبي على المنافق آية التوبة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} .
وكذلك رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله عنه "4/1865".
وإذا ذهبنا إلى الترجيح بينهما وجدنا: أن حديث ابن عمر رضي الله عنه ثابت، رواه الشيخان وغيرهما، أما أثر قتادة فهو مرسل، والحديث بسند الصحيح مقدم على المرسل.
على أن الحافظ ابن حجر قال في "الفتح": "8/337": "يحتمل أن تكون الآيتان معًا نزلنتا في ذلك..".(2/456)
وهذا فسوق المشرك؛ فعقل أن ما زاد على السبعين يخالف حكمه حكم السبعين.
فإن قيل: روى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمت إذا زدت على السبعين أن يغفر الله لهم لزدت" 1.
وهذا يمنع التعلق بالدليل، ويوجب التوقف عن الحكم بالدليل.
قيل: قوله: "لو علمت ... لزدت" تعلق بدليل الخطاب، لأنه ما استفاد الزيادة إلا من ناحية الدليل، وعدم العلم بالغفران لهم لا يمنع الاحتجاج؛ لأنا استدللنا به؛ فلا يقطع على العلم به، كما إذا استدللنا بالعموم وأخبار الآحاد.
فإن قيل: الكافر لا يغفر له من جهة السمع؛ فغير جائز أن يخالفه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل ذلك على بطلان الخبر.
قيل: الحديث قد صح، وليس بمنكر استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛
__________
1 حديث عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري مرفوعًا في كتاب التفسير، باب قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} "6/85" بلفظ: " ... إني خيرت، فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدت عليها ... "، وانظر "فتح الباري": "8/333".
وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة التوبة "5/279"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح غريب".
وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب الصلاة على المنافين "4/54".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"257" و "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير "2/378"، و"محاسن التأويل" للقاسمي "8/3224"، و "تيسير الوصول": "1/127".(2/457)
لأن مغفرة الله تعالى لهم مما يجوز في العقل، ولا يحيلها، ويصح أن يجاب في ذلك: أفتغفر لهم؟، وهذا قبل التوقيف على أن عذابهم غير منقطع.
فإن قيل: فأنتم تثبتون وجوب الغفران بعد السبعين، والخبر يمنع ذلك.
قيل: لو خلينا وظاهر الخبر لقلنا بوجوبه، لكن لما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 1 نقلنا عن ظاهره.
فإن قيل: عادة العرب في قول القائل: لا أفعل كذا وإن سألتني سبعين مرة، تأكيد للنفي، وهذا لا يخفى على السامع؛ فلم يجز أن يفهم عنه دليل الإثبات.
قيل: قد فهم النبي منه دليل الإثبات بقوله: {لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ؛ فلولا أن اللفظ يقتضي ذلك لم يسأله.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان المراد تكثير الاستغفار؛ لم يحسم الطمع في مغفرتهم، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه أراد التقدير والتحذير دون التكثير.
فإن قيل: فهذا الخبر لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حلف أنه يستغفر للكافر، ولو كان قد حلف على ذلك لكان لا بد من أن يفعله؛ لأن في تركه تركًا للوفاء بالعهد، وهو منزه عن ذلك، ولو فعله لكان يجاب دعاؤه، وهذا يؤدي إلى أن الله تعالى يغفر للكافر.
قيل: إنما حلف على ذلك قبل النهي، ثم نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} ، وإذا كان كذلك فقد حصل
__________
1 "84" سورة التوبة.(2/458)
منه الوفاء بالعهد، ولم تحصل الإجابة للنهي فيما بعد.
فإن قيل [60/ب] : ليس في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل من الآية ما زاد على السبعين مخالف لحكم السبعين من حيث تخصيص هذا القدر بالذكر؛ بل إنما قال: "والله لأزيدن على السبعين"؛ لأن الاستغفار للكفار كان مباحًا عنده في تلك الحال؛ لأن غفران الكافر جائز في طريق العقل؛ فلما حظر الله هذا القدر من الاستغفار؛ بقي ما زاد على السبعين على أصل الإباحة.
قيل: لو كان كذلك ما كان لقوله: "والله لأزيدن على السبعين" معنى، وذلك مباح كله، قاله أو لم يقله، فعلم أن المراد به: أن ما وراء السبعين بخلاف السبعين.
وعلى أنه أي حاجة كانت في الاستغفار للمشركين بعد موتهم، لا سيما والأصل1 الحظر في الأشياء.
فإن قيل: فهذا من أخبار الآحاد، وهذه مسألة أصل؛ فلا يكون دليلها خبر واحد.
قيل: مسألة الأصل تتضمن علمًا وعملًا؛ فيجب أن يثبت العمل فيه بالخبر، ويكون العلم دليله شيء آخر؛ لأن العلم مسألة، والعمل2 به مسألة أخرى.
فإن قيل: فلو صح هذا الخبر؛ فلا حجة فيه؛ لأن من أصحابنا من يقول: إن المحصور بالعدد يدل على أن ما عداه بخلاف حكمه، وهذا مخصوص بالعدد.
__________
1 في الأصل: "وأصلها".
2 في الأصل: "والعلم".(2/459)
قيل: تخصيصه بالعدد تنبيه على القول في نظيره وحكمه.
وأيضًا: فإنه إجماع الصحابة؛ لأن يعلى بن أمية1 روى أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ما بالنا نقصر وقد أمنّا، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2؟ فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب؛ لأن نطق الآية يفيد القصر بشرط الخوف، وسقوطه مع وجود الأمن من جهة الديل.
__________
1 هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي، أبو صفوان أو أبو خالد، صحابي جليل، أسلم يوم الفتح، كان معروفًا بالسخاء والكرم، قتل بصفين سنة 38هـ.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1585"، و "الإصابة" القسم السادس ص"725"، طبعة دار نهضة مصر.
2 "101" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها "1/478".
وأخرجه أبو داود في تفريع أبواب السفر، باب صلاة المسافر "1/274".
وأخرجه النسائي في أول كتاب تقصير الصلاة في السفر "3/95".
واخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب من سورة البقرة "5/ 343".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر "1/339".
وأخرجه الدارمي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر "1/292-293".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/25، 26".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/58-59"، و"نصب الراية": "2/190"، و"تيسير الوصول": "1/111-112".(2/460)
وكذلك احتج ابن عباس: في أن الأخوات لا يرثن مع البنات1 بقوله [تعالى] : {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2، فلما ورث الأخت مع عدم الولد؛ ثبت أنها لا ترث مع وجوده، وأقرته الصحابة على هذا الاحتجاج، وعارضته بالسنة.
وهذا احتجاج من دليل الخطاب؛ لأن نطق الآية أفاد ثبوت الإرث مع عدم الولد، فأما سقوطه مع وجود الولد؛ فإنما أفاده الدليل.
وكذلك امتنع من الرد واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، فلا يجوز أن تزاد على النصف، والمنع من الزيادة عليه عقله من دليل الخطاب.
وكذلك من قال: لا يجب الغسل من التقاء الختانين، إذا لم يكن معه إنزال؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم [61/أ] : "الماء من الماء" 3، وهذا احتجاج بدليل الخطاب.
__________
1 هذا الأثر منسوب إلى ابن عباس وإلى ابن الزبير رضي الله عنهما؛ فإنما كانا يقولان: "إن الأخت لا ترث مع البنت شيئًا"، استدلالًا بهذه الآية.
أما الجمهور: فقد ذهبوا إلى أن الأخوات مع البنات عصبة، وإن لم يكن لهن أخ.
راجع في هذا: "تفسير ابن جرير": "9/443"، و "تفسير القرطبي": "6/29"، و "تفسير القاسمي": "5/1777"، و "تفسير الرازي": "1/1211".
2 "176" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الحيض باب الماء من الماء "1/269".
وأخرجه أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا في كتاب الطهارة باب في الإكسال "1/49". =(2/461)
ومن أوجب الغسل قال: هو منسوخ1.
فدل هذا على أن القول بدليل الخطاب إجماع منهم.
فإن قيل على حديث يعلى بن أمية: أن الله تعالى أمر بالإتمام حال الأمن2 بقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3، وخص القصر بحال الخوف، فكان عندهما: أن الإتمام واجب حال زوال الخوف بالآية الأخرى، لا بدليل اللفظ.
قيل: عمر ويعلى رجعا إلى آية القصر دون الآية الأخرى؛ فلم يصح السؤال.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء: أن الماء من الماء "184/1"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة باب الذي يحتلم ولا يرى الماء "96/1".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "199/1".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطهارة باب الماء من الماء "195/1".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "115/5-116".
وقد تكلم الشيخ أحمد محمد شاكر على إسناد حديث أبي أيوب هذا، وفصل القول فيه، وذلك في حاشيته على سنن الترمذي "1/184-185".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/135"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"62"، و "نصب الراية":
"1/80".
1 القول بالنسخ مذهب الجمهور، والناسخ: حديث: "إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل". وابن عباس رضي الله عنه تأوله: بأن الماء من الماء في الاحتلام.
وقد انعقد الإجماع أخيرًا على وجوب الغسل إذا التقى الختانان. هكذا نقله الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "1/135" عن القاضي ابن العربي.
2 في الأصل: "الأمر".
3 "103" سورة النساء.(2/462)
فإن قيل: من قال: لا يجب الغسل بالتقاء [الختانين] ، يحتمل أن يكون علموا ذلك بدلالة أخرى لا بدليل اللفظ.
قيل: من ذهب إلى هذا؛ رجع إلى قول النبي: "الماء من الماء"؛ فلم يصح السؤال.
فإن قيل: فقوله: "الماء من الماء" يقتضي الاستغراق؛ فلهذا دل على نفي ما عداه، وخلافنا في تخصيص المحكوم فيه ببعض صفاته.
قيل: المعروف من مذهب المخالف: أنه لا فرق بين ما دخله الألف واللام، أو لم يدخله.
وأيضًا: فإن أبا عبيد1 قد قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" 2 دليله: أن لَيَّ غير الواجد لا يحل عرضه ولا
__________
1 هو القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، لغوي ومحدث وفقيه، ذو دين، وخلق حسن، أخذ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء وغيره، تولى قضاء طرسوس، له كتب كثيرة، منها: "الغريب"، و "الأمثال"، و "الأموال"، ولد بهراة سنة 150هـ على الأصح، وتوفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة 224 على الأرجح.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "2/417"، و "تاريخ بغداد": "2/403"، و "شذرات الذهب": "2/54"، و "طبقات الحنابلة": "1/259"، و "طبقات القراء الكبار" للذهبي "1/141"، و "طبقات المفسرين" للداودي "2/32"، و"النجوم الزاهرة" "2/241".
2 حديث صحيح رواه الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه مرفوعًا.
أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية باب في الحبس في الدين وغيره "2/281".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع باب مطل الغني "7/278".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصدقات باب الحبس في الدين والملازمة "2/811". وقد علقه البخاري في كتاب الاستقراض باب لصاحب الحق مقال "3/147".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير": "5/400".(2/463)
عقوبته؛ فصرح بالقول بدليل الخطاب، وهو أوثق من نقل اللغة عن أهلها، فوجب المصير إلى ذلك.
فإن قيل: أبو عبيد لم يحك ذلك بعينه عن العرب، ولا يجوز أن يجعل ظاهر كلامه أنه عن العرب؛ لكونه من أهل اللغة؛ لأنه ممن يتكلم في الأحكام ويختار المذاهب؛ فجاز أن يكون قاله من جهة الحكم، وطلب فائدة اللفظ.
وقد عارض ذلك ما ذكره الأخفش1 في قول القائل: "ما جاءني غير زيد"، أن ذلك لا يدل على مجيء زيد.
قيل: أن أبا عبيد ذكره هذا في كتب اللغة، ولم يذكره في كتب الأحكام، والظاهر: أنه لغة العرب.
وقولهم: ما ذكره عن الأخفش لا يعارض قول أبي عبيد؛ لأن الأخفش لم يكن من أهل اللغة؛ وإنما كان له معرفة بالنحو، وأبو عبيد إمام في اللغة، وله غريب المصنف2 وغيره من الكتب في اللغة.
__________
1 هو: سعيد بن مسعدة، أبو الحسن، الأخفش الأوسط، مولى بني مجاشع، سكن البصرة، ثم دخل بغداد، وأقام بها مدة، روى عن هشام بن عروة والنخعي وغيرهما. وعنه أبو حاتم السجستاني. كان الأخفش معتزليًا، له مصنفات كثيرة، منها: "معاني القرآن"، و "المقاييس في النحو" و "الأوسط في النحو". مات سنة 210هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: بغية الوعاة "1/590"، و "شذرات الذهب": "2/36"، و "طبقات المفسرين" للداودي "1/185"، و "الفهرست" ص"77"، المطبعة التجارية، و "مرآة الجنان": "2/61".
2 هذا الكتاب من أجود الكتب اللغوية، وأنفعها، وقد نسبه الخطيب البغدادي في "تاريخه": "12/404". وإلى القاسم بن سلام، ونقل عن ابن درستويه النحوي قوله في هذا الكتاب: ".. وهو من أجل كتبه في اللغة، فإنه احتذى فيه كتاب النضر بن شميل المازني يسميه كتاب الصفات، وبدأ فيه بخلق الإنسان، ثم بخلق العرش، ثم بالإبل فذكر صنفًا بعد صنف، حتى أتى على جميع ذلك، وهو أكبر من كتاب أبي عبيد، وأجود".
كما نسبه إليه الداودي في "طبقات المفسرين": "2/35".(2/464)
وأيضًا: فإن أهل اللغة لا يضمون الصفة إلى الاسم، ويقيدون الاسم بها إلا للتمييز والمخالفة بينه وبين ما عداه.
يبين ذلك: أنهم لا يقولون: اشترِ عبدًا أسود، أو جارية بيضاء، أو خبزًا سميذًا1، أو لحمًا نيئًا أو مشويًا، ولا يقولون: ادفع هذا المال إلى بني فلان الفقراء منهم، أو الفقهاء منهم، وما أشبه ذلك، إلا لتخصيص الموصوف بهذا الوصف وتمييزه. والمخالفة2 بينه وبين من عداه.
ومن كان عنده جميع الصفات واحدة؛ لم يقيد خطابه بذلك، بل يطلق3 الاسم إطلاقًا، ومن قيده مع [61/ب] تساويهما عنده كان مسقطًا في قوله، ملغزًا في خطابه؛ فوجب إذا قال صاحب الشريعة: "في سائمة الغنم والزكاة" أن تكون الزكاة مختصة بالسائمة، ولا تكون واجبة في المعلوفة، ولا يلزم على هذا الاسم المجرد إذا ضم الحكم إليه؛ لأنا نقول فيه ما نقوله في الصفة المضمومة إلى الاسم.
وقد صرح بهذا أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني وقد سئل عن
__________
1 في كتاب "فقه اللغة" للثعالبي ص"317": "سميذ" بالذال المعجمة لون من ألوان الخبز: والكلمة فارسية، معربة.
2 في الأصل: "المخالف".
3 في الأصل: "أطلق".(2/465)
التيمم بالسهلاة1، فقال: كيف يتيمم بهذه الأشياء وليست بصعيد؛ ولكن يتيمم ويعيد جميع ذلك؛ لأن اسم الصعيد لا يتناوله، والآية تضمنت التيمم بما يسمى صعيدًا بقوله: "صعيدا" فدل على أن غيره لا يجوز التيمم به.
وكذلك قال في رواية الميموني: لا يتوضأ بماء الورد، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد.
وأيضًا: فإن اسم الغنم عام في المعلوفة والسائمة؛ فإذا ذكر الصفة معه فقال: في سائمة الغنم، فخص الاسم، فوجب أن يكون مقصورًا عليها، كالحكم المعلق على الغاية، والاستثناء إذا تعقب عددًا.
وقد قال بعضهم: ينظر الحكم، بماذا اخترل2 عم الحكم؛ فوجب أن يتضمن نفيًا وإثباتًا؛ كالاسم المقرون بالاستثناء والمقيد بالغاية.
وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح بالاختصار بقوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا" 3. فإذا قلنا: إن قوله:
__________
1 هكذا في الأصل: ولعل المراد: الأرض السِّهْلَة بكسر السين، وهي تراب كالرمل، يجيء به الماء.
وعن الجوهري: أنها رمل خشن، ليس بالدقاق الناعم.
انظر: اللسان "13/371-372"، مادة: "سهل".
2 هكذا في الأصل، ولم أتوصل إلى معرفة المراد.
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل "9/43" بلفظ: "أعطيت مفاتيح الكلم".
وفي باب المفاتيح في اليد بلفظ: "بعثت بجوامع الكلم"، وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371-372" بلفظ: "أوتيت جوامع الكلم ... "، ولم يذكر: "واختصر لي الكلام اختصارًا"، وبمثل لفظ المؤلف أخرجه الدارقطني في سننه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، في كتاب النوادر "4/144-145". وفي إسناده: "زكريا بن عطية"، قال فيه أبو حاتم: "منكر الحديث"، كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه: "المغني في الضعفاء": "1/239".
وكذلك أخرجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو يعلى في مسنده، كما حكى ذلك السيوطي في "الجامع الصغير": "1/563" مطبوع مع شرحه "فيض القدير"، وقد رمز له بالحسن.
وقد ذكر المناوي في كتابه: "فيض القدير": "1/563" أن البيهقي أخرجه في "الشعب" عن عمر بن الخطاب أيضًا.(2/466)
"في سائمة الغنم الزكاة"؛ لم يفد ذكر السوم غير ما أفاده الإطلاق؛ حملنا الكلام على الإطالة من غير فائدة، فكان حمله على فائدة أولى.
فإن قيل: فائدة تخصيص المذكور بيان الحكم فيه، ليقف ما سواه على تعريض المجتهد لطلب الثواب.
قيل: هذه الفائدة غير حاصلة من جهة اللفظ؛ بل هي سابقة له؛ لأن المجتهد معرض لطلب الثواب بالاجتهاد، فامتنع أن يكون ورود هذا الفظ أفاد ذلك، ولم يبق إلا أن تكون الفائدة ما ذكرنا.(2/467)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لا يجوز أن يكون لله تعالى دليل على حكم من الأحكام، ويوجد ذلك الدليل عاريًا من مدلوله؛ فلما وجدنا الله تعالى قد خص أشياء بذكر بعض أوصافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، وعلق بها أحكامًا، ولم يكن تخصيصها بها موجبًا للحكم بما عداها بخلافها، نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1؛ فخص النهي عن ذلك بحال خشية الإملاق، ولم يختلف النهي في الحالين.
وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2، فخص
__________
1 "31" سورة الإسراء.
2 "36" سورة التوبة.(2/467)
النهي عن الظلم لهذه الأشهر، ثم كان الظلم منهيًا عنه في سائر الشهور.
وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 1، وهو عليه السلام منذر البشر.
وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2.
علمنا: أن تخصيص الشيء ببعض [62/أ] أوصافه وإيجاب الحكم فيه؛ لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه.
والجواب: أن دليل الخطاب سقط في هذه المواضع؛ لقيام الدلالة عليه.
ثم لا يمنع ذلك لكونه موضوعًا في الأصل على ما اعتبرناه، كما أن قيام الدلالة على كون العموم غير مستغرق للجنس، لا يدل على أنه غير موضوع في الأصل للاستغراق، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3، ومعلوم أنها لم تؤتَ مثل فرج الرجل.
وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، ومعلوم أنه لم يخلق نفسه سبحانه.
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 5، ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض.
فلئن جاز أن يعترض بمثل هذا علينا في دليل الخطاب؛ كان لأصحاب
__________
1 "45" سورة النازعات.
2 "130" سورة آل عمران. وكلمة "الربا" ساقطة من الأصل.
3 "23" سورة النمل.
4 "102" سورة الأنعام.
5 "25" سورة الأحقاف.(2/468)
الخصوص أن يعترضوا على الجميع في القول بالعموم بهذه المواضع.
فإن قيل: العموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم، وههنا يوجد عاريًا عن إيجاب حكم.
قيل: بالقياس يوجد عاريًا عن إيجاب حكم، وهو إن عارضه نص، ومع هذا لم يدل ذلك على أنه ليس بحجة.
واحتج: بأن ما يقتضيه الخطاب بصريحه أو دليله طريقه اللغة دون غيرها، وثبوته من طريق اللغة لا يخلو من أن يكون بالعقل أو بالنقل، ولا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل للعقل في إثبات اللغة، ولا يجوز أن يكون بالنقل لأنه لا يخلو: إما أن يكون متواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأنه لو نقل ذلك من طريق التواتر لعلمنا؛ لأنه لا يجوز أن يختص المخالف بعلم النقل المتواتر، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن هذه المسألة من مسائل الأصول, ولا يجوز إثباتها بخبر الواحد الذي لا يوجب العلم.
والجواب: أنا أثبتناه بالنقل الذي قامت الحجة به، كما يستدل المخالف على إثبات العمل بخبر الواحد وبالإجماع بنقل ليس بمتواتر؛ لقيام الحجة عنده بصحته.
وأثبتناه أيضًا بالعقل، وقول المخالف: إن العقل لا مدخل له في إثباته: ليس بصحيح؛ لأن له مدخل في الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وموضوعاتهم، وقد استدللنا بذلك على ما تقدم بيانه.
واحتج: بأنه لو كان يدل على المخالفة؛ لم يجز أن يصرح بالتسوية بينهما؛ فلما جاز أن يقول: في سائمة الغنم وفي معلوفتها زكاة؛ دل على أن تخصيص السائمة بالذكر؛ لا يدل على المخالفة؛ لأنه لو دل على المخالفة؛ لكان ذلك متناقضًا.(2/469)
والجواب: أن هذا باطل "بالغاية"؛ فإنها تدل على خلاف ما قبلها، وإن جاز الجمع بينهما نحو قوله: وأيديكم إلى المرافق واغسلوا ما ببعد المرافق.
وكذلك صيغة العموم تدل على الاستغراق، وإن جاز أن يقترن بها [62/ب] دليل الاستثناء، فنقول: اقتلوا المشركين إلا زيدًا، ولا يكون هذا مناقضًا للفظ.
وجواب آخر: وهو أنه لا يمتنع أن يختلف حكم الاتصال والانفصال؛ فيجوز الجمع بينهما باللفظ المتصل، ولا1 يجمع بينهما في المنقطع، ألا ترى أنه لو قال: "لا إله"، وسكت؛ حكم بكفره، ولو وصل ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} 2، ولم يكفر3، وكذلك لو قال لغير مدخول بها: أنت طالق، وسكت؛ طلقت، ولو قال: إن دخلت الدار؛ لم تطلق قبل وجود الصفة، كذلك ههنا.
واحتج: بأن المسموع إيجاب الزكاة في السائمة، ولم يسمع في المعلوفة ذكر حكمي؛ فوجب التوقف، كما أن أصل الأحكام قبل أن يرد السمع على الوقف.
والجواب: أن قبل النطق لم يسمع للمعلوفة حكم بنفي ولا إثبات، وبعد النطق قد علم حكم بعضها سمعًا وبعضها مفهومًا من السمع من الوجه الذي بينا.
يبين صحة هذا: أن الشرع قد يفهم من حكم اللفظ، كما يفهم
__________
1 في الأصل: "فلا".
2 "90" سورة يونس.
3 في الأصل: "لم يكف"، والصواب ما أثبتناه بدلالة السياق.(2/470)
بالنطق؛ ألا ترى أن الوجوب معقول من الأمر، وليس لفظ الوجوب مسموعًا، وكذلك حكم التعريض معقول، وإن لم ينطق به، كقول القائل: ما أنا بزانٍ، ولا أمي بزانية، في الخصومة، وكذلك قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} 1، وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2 معقول أن لا يضربهما.
واحتج: بأنه لو كان تعليقه على صفة يدل على ضد حكمها؛ لم يوضع له عبارة تدل عليه، ولما جاز أن يقول: في السائمة الزكاة ولا زكاة في المعلوفة؛ علم أن ذلك مأخوذ مما وضع له.
والجواب: أن نفي الزكاة في المعلوفة يحصل بالدليل، والنطق يؤكد، كما يقول: "اقتلوا المشركين أجمعين"، ولو لم يقل "أجمعين"؛ لوجب قتل الجميع؛ كذلك ههنا.
واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يبطل حكم الخطاب ويبقى حكم الدليل، كما جاز3 أن يبطل حكم الدليل ويبقى حكم الخطاب، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل" 4، دليله أنها إذا أُذِنَت أن
__________
1 "235" سورة البقرة، والآية في الأصل: {ولا تُوَاعِدُوهُنَّ ... } وهو خطأ.
2 "23" سورة الإسراء.
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "كما وجب" بدليل السياق.
4 هذا الحديث روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي كما أخرجه الإمام أحمد والدارمي والدارقطني والطيالسي والحاكم والطحاوي، وكلهم أخرجه في كتاب النكاح إلا الإمام أحمد، فأبو داود في باب الولي، "1/480-481"، والترمذي في باب ما جاء لا نكاح إلا بولي "3/398-399"، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه في باب لا نكاح إلا بولي "1/605"، والإمام أحمد في مسنده "6/47"، والدارمي في =(2/471)
يصح1، وعندكم: لا يصح؛ فيبطل حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب.
وكذلك: قوله: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ دليله: أن الثالثة تحرم، وعندكم: لا تحرم، فسقط حكم الدليل، ويبقى حكم الخطاب، ولهذا نظائر.
والجواب: أنه لا يمتنع أن نقول: يبطل حكم الخطاب، ويبطل حكم الدليل؛ لأن النطق ودليله يجريان مجرى نطقين، فيجوز أن يسقط أحدهما ويبقى حكم الآخر.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في [63/أ] رواية محمد بن العباس وقد سئل عن الرضاع فقال: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"؛ فأرى أن الثالثة تحرم"، فأسقط الخطاب في الرضعتين، وبقي حكم الدليل في الثالثة.
__________
= باب النهي عن النكاح بغير ولي "2/62"، والدارقطني "3/221"، والطيالسي في باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وما جاء في العضل "1/305"، والحاكم في باب "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل": "2/168"، وقال: "هذا حديث صحح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، والطحاوي في باب النكاح بغير ولي عصبة "3/7" من كتابه: "شرح معاني الآثار".
وقد حكى الزيلعي في "نصب الراية": "3/184-185"، أن ابن حبان رواه في "صحيحه"، كما رواه ابن عدي في "كامله"، وتكلم عليه ابن الجوزي في "التحقيق"، وابن عبد الهادي في "التنقيح"، وراجع بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "3/156-157" و "المنتقى من أحاديث الأحكام ص"539"، و "التعليق المغني على الدارقطني" لمحمد شمس الحق عظيم آبادي "3/221".
1 دليل الخطاب بعبارة أوضح: أن المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها، فنكاحها صحيح.(2/472)
قال أبو بكر بن فورك: وهذا [هو] الصحيح.
ويحتمل: أن الدليل يسقط، ويبقى حكم اللفظ؛ لأن الدليل فرع النطق ونتيجته؛ فلا يصح ثبوت الفرع مع إسقاط الأصل، وهذا هو الأشبه، ويفارق هذا النطقين؛ لأن كل واجب منهما ليس بأصل للآخر.
واحتج: بأنه لو كان للخطاب دليل؛ لوجب أن يكون ضد النطق فقط، لا يكون ضدًا لغيره، مثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، كان يجب أن يكون دليله: أن غير سائمة الغنم لا زكاة فيها؛ وقد قلتم: إن دليله في غير السائمة من الإبل والبقر [و] اللفظ لم يتناول ذلك.
والجواب: أنه قد قيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم فحسب؛ لأن الدليل ما كان مضادًا للنطق، فيتعلق به ضد ما تعلق بالنطق، ونقطه أفاد ثبوت الزكاة في الغنم حسبُ؛ فيجب أن يكون دليله سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم حسبُ.
وقيل: إنه يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الحيوان كله، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث1؛ لأنه ذكر له حديث بهز بن حكيم2، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل
__________
1 هو: إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت. من كبار أصحاب الإمام أحمد، وقد كان من المكرمين عنده، نقل عن أحمد كثيرًا من المسائل، بلغت أربعة أجزاء.
له ترجمة في "طبقات الحنابلة": "94/1".
2 هو: بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، أبو عبد الملك القشيري البصري. روى عن أبيه وعن زرارة بن أوفى، وعنه سفيان ويحيى القطان وغيرهما. اختلف فيه: فوثقه ابن معين وابن المديني والنسائي، وقال أبو داود: "أحاديثه صحاح"، وقال أبو حاتم: "هو شيخ، يكتب حديثه، ولا يحتج به"، وقال فيه الذهبي: "صدوق، فيه لين". والحق أنه حسن الحديث كما ذهب إليه غير واحد من المحققين.
له ترجمة في: "الجرح والتعديل" "2/430-431"، و "المغني في الضعفاء" "1/116"، و "ميزان الاعتدال" "1/353".(2/473)
إبل سائمة" 1، هل يدخل في هذا أنه لا يكون إلا في السائمة، ولا يكون في العوامل زكاة؟ فقال: أجل، لا يكون في العوامل زكاة، ولا يكون إلا في السائمة؛ فعم سقوط الزكاة في غير السائمة من سائر الحيوان باللفظ المنصوص عليه في الإبل.
قال ابن فورك: هو الظاهر2؛ وذلك لأن السوم يجري مجرى العلة في تعلق الحكم به؛ فوجب كذلك حيث وجد، وعدمه حيث عدم كالشرط المعلق عليه الحكم.
ويلزم هذا القائل: أن يقول: ما عدا السائمة من الغنم لا زكاة فيه من الحيوان وغيره، حتى لو استدل به على أن الزيتون لا زكاة فيه كذلك؛ جاز لأنه ليس بغنم سائمة، وقد لا يلزمه ذلك؛ لأن النطق اقتضى إيجاب الزكاة فيما فيه السوم، فاقتضى إسقاطه فيما لا سوم فيه مما يدخله السوم.
واحتج: بأنه لو كان دليل الخطاب حجة في الإثبات؛ لكان حجة في النفي.
والجواب: أنه حجة في النفي، كما هو حجة في الإثبات، ولا
__________
1 هذا الحديث أخرجه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا أبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1/363"، وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة باب سقوط الزكاة عن الإبل "5/17"، وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة باب ليس في عوامل الإبل صدقة "1/333".
كما أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده في "5/2" وسنده حسن.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311".
2 في الأصل: "طر".(2/474)
فرق بين قوله: "القطع في ربع دينار"، وبين قوله: "لا قطع إلا في ربع دينار".
وقد قال أحمد رحمه الله: قوله: "لا وصية لوارث"؛ [63/ب] دليل على أنها تصح لغير وارث.(2/475)
فصل 1 إذا تعلق الحكم باسم؛ دل على أن ما عداه بخلافه:
أن2 الصفة وضعت للتمييز بين الموصوف وغيره، كما أن الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره؛ فإذا قال: ادفع هذا إلى زيد أو إلى عمرو، واشتر لي شاة أو جملًا، وما أشبه ذلك، لم يجز العدول عنه، وكانت التسمية للتميز والمخالفة بينه وبين ما عداه كالصفة سواء، ثم لو علق الحكم على صفة؛ دل [على] أن ما عداه بخلافه، كذلك إذا علقه بالاسم.
فإن قيل: الاسم لا يجوز أن يكون علة للحكم، والصفة يجوز أن تكون علة.
قيل: يجوز أن يكون الاسم علة كالصفة.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني: يتوضأ بماء الباقلا، وماء الحمص؛ لأنه ماء؛ وإنما أضفته إلى شيء لم يفسد، وإنما غير لونه، فقد جعل العلة في جواز الوضوء به وقوع اسم الماء عليه.
فإن قيل: لو قال: أوجبت الزكاة في الغنم، وأوجبتها في البقر؛ لم
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"352-353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"249-250"، و"نزهة الخاطر" لابن بدران "2/224-225".
2 "أن" مكررة في الأصل.(2/475)
يتنافيا1 ذلك، ولو قال: في سائمة الغنم وفي المعلوفة زكاة؛ تنافيا، وسقط أن يكون الحكم متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا بصفة السوم أو بصفة العلف، وصار الوجوب متعلقًا2 باسم الغنم فحسب.
ولأنهم يسمون كل واحد من الجماعة باسم مع تساويهم في الحكم؛ فيقولون: أعط زيدًا وعمرًا وخالدًا وبكرًا، واشتر لحمًا وتمرًا، ولا يضمون بصفة إلى اسم، والموصوف بالصفة وبضدها سواء عندهم في الحكم؛ فلا يقولون: ادفع إلى رجل فقير أو إلى رجل غني، والفقير والغني سواء عندهم3.
قيل: لا فرق بينهما، وذلك أنهم يضمون صفة إلى اسم الموصوف، كما يضمون اسمًا إلى اسم، فيقولون: أعط الفقراء والأغنياء.
وعلى أن هذا باطل بـ"الغاية"؛ فإن ما بعدها4 مخالف لما قبلها؛ وإن كان الجمع بين ما بعد الغاية وما قبلها، فيقول: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واغسلوا ما فوق المرافق، كذلك لا يمتنع في الحكم إذا علق باسم يجوز الجمع بينه وبين ضده، ومع هذا إطلاقه يدل على خلافه؛
فإن قيل: لو قال: زيد أكل؛ لم يدل على أن غيره لم يأكل، ألا ترى أنه لو أفاد ذلك لما حسن أن يخبر من بعد. أن عمرًا أكل؛ لأنه يكون متناقضًا5 في كلامه، وكذلك لو قال: جاء زيد الطويل، دل على أن ما عداه بخلافه؛ لأن هذه زيادة صفة.
قيل: لا نسلم هذا، بل نقول: قوله: زيد أكل، يدل على أن
__________
1 في الأصل: "يتنافا".
2 في الأصل: "منطلقًا".
3 في الأصل: "عنده"، والصواب من أثبتناه؛ لعود الضمير على جمع.
4 في الأصل: "بعده"، والصواب ما أثبناه، لعود الضمير على مؤنث.
5 في الأصل: "مناقضًا".(2/476)
غيره لم يأكل، ثم هذا باطل بالصفة؛ فإنه لو قال: السائمة أكلت، وجاءت السائمة؛ لم يدل ذلك على أن المعلوفة لم تأكل ولم تجئ، ومع هذا تعليق الحكم بها يدل على خلافها.
وما ذكروه من أنه يحسن أن يخبر [64/أ] بعد ذلك أن عمرًا قد أكل؛ فإنه يبطل بالصفة، فإنه يصح أن يخبر1 [أن في] السائمة زكاة، ويخبر بعد ذلك في المعلوفة.
فإن قيل: استعمال دليل الخطاب في الاسم يسد باب القياس؛ لأنه إذا قال: لا تبيعوا البر بالبر؛ يجب أن لا يقاس الأرز عليه؛ لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة التفاضل في غيره؛ فلما كان مانعًا من القياس الثابت وجب اطراحه.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أن الكلام في هذه المسألة في أصل اللغة، وهو للخطاب دليل أم لا؟ والقياس حكم شرعي، فكان يجب أن يثبت له دليل في أصل اللغة وإن منع منه الشرع.
وعلى أن هذا يبطل بالصفة؛ فإنه يمنع القياس فيما عداها، كذلك الاسم يمنع القياس فيما عداه، ولا فرق بينهما.
وعلى أنه كان يجب استعماله ما لم يعترض2 على معنى اللفظ؛ فإذا اعترض3 عليه؛ سقط، كما استعملنا الدليل ما لم يعارض التنبيه، نحو قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 دليله: أن غير التأفيف يجوز، لكن لما كان ذلك يسقط معنى اللفظ؛ سقط.
__________
1 في الأصل: "غير".
2 في الأصل: "يعرض".
3 في الأصل: "أعرض".
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: "ولا تَقُلْ" ... بالواو، وهو خطأ.(2/477)
فصل 1 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل:
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل: لا يصلى على القبر بعد شهر، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قبر أم سعد2 بعد شهر3؛ فجعل صلاته بعد شهر دليلًا على المنع فيما زاد عليه؛ لأن الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب، ويخصص به4 العموم.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"353"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250".
2 هي: كبشة بنت رافع بن عبيد، أم سعد بن معاذ الخزرجية، صحابية، عاشت إلى أن توفي ابنها سعد بن معاذ.
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1906"، و "الإصابة" القسم الثامن ص"91"، طبعة دار نهضة مصر.
3 هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن الميت "4/48-49"، عن ابن عباس رضي الله عنه موصولًا، وفي إسناده "سويد بن سعيد"، متكلم فيه.
وأخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلًا في الموضع السابق، وقال: "وهو مرسل صحيح"، كما قال: "والمشهور عن قتادة عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا".
ووافقه ابن حجر على ذلك في كتابه: "تلخيص الحبير": "2/125"، وأخرجه مرسلًا الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على القبر "3/347".
4 في الأصل: "بها".(2/478)
قوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق"
مدخل
...
فصل 1 قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق":
قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق"، يقتضي نطقه: إثبات
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"354"، و"شرح الكوكب المنير" ص"250-252"، و"روضة الناظر" ص"143".(2/478)
الولاء للمعتق، وانتفاء الولاء لغير المعتق مستفاد من ناحية الدليل1.
وقال قوم: النطق أفاد الأمرين معًا2، وهو اختيار أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه ذكر هذا الخبر وقال: قد قيل: إن ذلك يدل على نفي غيره، قال: وهو قول محتمل؛ لأنه يستعمل على وجه التأكيد للمذكور وتحقيقه، مثل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3.
ولأنه يشبه الاستثناء من الجملة؛ لأن هذه إنما يستحق الإلهية إله واحد؛ وإنما الولاء يستحقه الذي يعتق، فأشبه4 النفي والإثبات في الأشياء5.
__________
1 وبهذا قال ابن عقيل والحلواني من الحنابلة.
انظر المراجع السابق ذكرها.
2 وبهذا قال أبو الخطاب والموفق ابن قدامة من الحنابلة.
انظر المراجع السابق ذكرها.
3 "171" سورة النساء.
4 في الأصل: "فنبه".
5 هناك رأي ثالث في المسألة، لم يذكره المؤلف، وهو: أن "إنما" لا تفيد الحصر نطقًا ولا فهمًا، وإنما تؤكد الإثبات، وبه قال أكثر الحنفية واختاره الآمدي والطوفي، وإليه مال أبو حيان.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/91"، و"شرح الكوكب المنير": ص"251"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/434".(2/479)
دليلنا:
إن قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، إنما فيه الولاء للمعتق فحسب، وأما النفي؛ فليس في اللفظ ما يقتضيه؛ فلم يجز أن يدعي انتفاء الولاء من نفس اللفظ، وإنما هو مستفاد من الدليل، فلا يشبه هذا قوله: "لا صلاة إلا بطهور".(2/479)
ولأن في اللفظ نفيًا وإثباتًا، فحكم بأن الأمرين معًا استفيدا من نفس اللفظ.
وما ذكروه من أنها تستعمل على وجه التأكيد للمذكور [64/ب] وتحقيقه؛ فهو كما قال، إلا أن المذكور هو إثبات الولاء للمعتق؛ فأما نفيه عن غير المعتق؛ فغير مذكور.
وقوله: يشبه الاستثناء من الجملة، دعوى.(2/480)
فصل 1 [مفهوم الخطاب والتنبيه واحد] :
وهو مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2؛ نبه على أنه إذا أمن3 بدينار أداه.
وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4؛ نبه على المنع من الضرب وهذا مستفاد من فحوى الخطاب ومفهومه، لا من نطقه.
وقد احتج أحمد بمثل هذا في مسائله فقال رحمه الله في رواية أحمد بن سعيد5: لا شفعة لذمي، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتموهم
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"346-347"، و"شرح الكوكب المنير" ص"240-241"، و"روضة الناظر" ص"138".
2 "75" سورة آل عمران. والآية في الأصل: "وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ"، وقد صوب الناسخ الآية في الهامش بما هو ثابت في المصحف الكريم.
3 في الأصل: "أمر".
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: {وَلَا تَقُلْ} بالواو، وهو خطأ.
5 في "طبقات الحنابلة": "1/45-46"، ثلاثة بهذا الاسم؛ فالأول: أبو العباس اللحياني، والثاني: أبو عبد الله الرباطي، والثالث: أبو جعفر الدارمي، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. ولم أهتد إلى معرفة مراد المؤلف بهذا الاسم.(2/480)
في طريق فألجئوهم إلى أضيقه" 1؛ فإذا كان ليس لهم في الطريق حق، فالشفعة أحرى أن لا يكون لهم فيها حق2.
وقال أيضًا في رواية الفضل بن زياد وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة قال: "لا، نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو3".
وحكي عن قوم: أنه لا مفهوم للخطاب؛ وإنما دل الخطاب على المنع
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم "4/1707".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة "5/60"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة "2/643".
وأخرجه عنه الطيالسي في مسنده في كتاب السلام والاستئذان باب الأمر بإفشاء السلام، وما جاء في السلام على أهل الكتاب والرد عليهم "1/362".
وأخرجه أحمد في "مسنده" 2/263.
وراجع في هذا الحديث أيضا: "فيض القدير" 6/386، و"تيسير الوصول" 2/273.
2 من أول الرواية إلى هنا منقول في "المسودة" ص"347". وكذلك رواية الفضل بن زياد الآتية غير أنه لم يذكر اسم الراوي في الموضعين.
3 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار "3/1490"، وأخرجه عنه الإمام الشافعي، انظر: "بدائع المنن" في كتاب الجهاد باب النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد العدو "2/105".(2/481)
من التأفيف حسبُ. سمعت أبا القاسم الجزري1 يحكي أنه قول داود.
وحكي عن قوم: أن المنع من التأفيف وسائر أنواع الأذى مستفاد من اللفظ2.
أما من قال: لا مفهوم للخطاب؛ فقول ظاهر الفساد؛ لأنه قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 3 واضْرِبْه؛ مراد بالأول نفي الأذية عنه، كان ذلك نقضًا لموضوع كلامه ومفهوم نطقه؛ فلا يجوز أن يقال: إن اللفظ ما تضمن المنع من الضرب.
وأما من قال: إن اللفظ تضمن ذلك فهو ظاهر الفساد أيضًا؛ لأن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4 اقتضى نطقه المنع من التأفيف، وليس في لفظه المنع من غيره؛ فلا يجوز أن يكون غير التأفيف ممنوعًا بالنطق، لكن لما منع من التأفيف من الأذى، فكان الضرب فيه أكثر من الأذى، كان المعنى الذي يمنع من التأفيف لأجله مجودًا في الضرب وزيادة، فكان ممنوعًا منه5.
__________
1 كان حيًا سنة "402" ومن الذين وقعوا محضر الطعن في نسب العبيديين في هذه السنة.
انظر: "المنتظم": "7/256".
2 المؤلف هنا: خلط بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقه حجة أو لا؟. والثانية الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟.
3 "23" سورة الإسراء.
4 "23" سورة الإسراء، والآية في الأصل: {وَلا تَقُلْ} ... بالواو، وهو خطأ.
5 فات المؤلف هنا: أن ينبه على أمرين هما:
الأول: شرط مفهوم الموافقة، وهو: أن يكون الحكم في المسكوت عنه أولى من المنطوق عند جماعة، وزاد آخرون: أو مساويًا له.
ومثلوا للأول: بقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ؛ فالضرب أولى بالحكم من التأفيف. =(2/482)
.......................................................................................
__________
= ومثلوا للثاني: بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ، فإحراق أموالهم مساوٍ لأكلها في الإتلاف.
الثاني: تقسيم مفهوم الموافقة، وهو ينقسم إلى قسمين:
1- قطعي، ومثلوا له بآية التأفيف؛ فإنه يقطع بأن الضرب للوالدين أشد إيذاء من التأفيف.
2- ظني، ومثلوا له بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ فإن الآية دلت على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، فيظن: أن القتل العمد أولى بالكفارة. وإنما قلنا: ظني؛ لاحتمال أن لا تقوى الكفارة على رفع العمد، بخلاف القتل الخطأ.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي "3/65"، و"روضة الناظر" ص"154"، و"حاشية البناني مع شرح الجلال على جمع الجوامع" "1/240-243".
وربما أشار المؤلف إلى ذلك في الروايتين اللتين نقلهما عن الإمام أحمد، الأولى: من رواية أحمد بن سعيد، والثانية: من رواية الفضل بن زياد.
وقد رأيت صاحب "المسودة" ص"347" نقل الرواية على أنها مثال للقطعي؛ فرهن المصحف عند الذمي أولى بالتحريم من السفر به إلى أرض العدو خشية أن ينالوا منه.
كما نقل الرواية الثانية على أنها مثال للظني؛ لأنه إذا لم يكن لهم حق في الطريق، فأولى أن لا يكون لهم حق في الشفعة.
قلت: بل ذلك لاحتمال أن لا يكون المراد من الحديث: ليس لهم حق في الطريق، بل المراد: أن لا يوسع لهم فيه على سبيل التعظيم لهم. والله أعلم.(2/483)
باب العموم
مدخل
...
باب العموم 1:
العموم 2 على أربعة أضرب 3:
[الأول] :
لفظ الجمع، مثل: المسلمين، والمشركين، والرجال، والجبال، والأبرار، والفجار4.
الثاني:
لفظ الجنس5، مثل الناس، والنساء، والإبل، والحيوان وليس ذلك من ألفاظ الجمع؛ لأنه ليس له من جنسه واحد.
__________
1 سبق تعريف العام في باب ذكر الحدود ص"140".
2 لو عبر: بألفاظ العموم؛ كان أولى؛ لأن التقسيم لألفاظ العموم لا للعموم نفسه.
3 راجع في هذا: "المسودة" ص"89-90"، و "شرح الكوكب المنير" ص"346-347" من الملحق و "روضة الناظر" ص"116-119".
4 يشترط في هذا الضرب والضرب الثاني والضرب الرابع: أن تكون "أل" لغير معهود، وقد جمع ابن قدامة هذه الأشرب الثلاثة تحت قسم واحد عبر عنه بقوله: "كل اسم عرف بالألف واللام لغي المعهود"، و"روضة الناظر" ص"116".
5 الجنس: كما في "رضوة الناظر": "ما لا واحد له من لفظه"، كما مثل المصنف هنا.(2/484)
الثالث:
الألفاظ المبهمة، مثل "من" في العقلاء، و"ما" في غيرهم إذا كان في الاستفهام أو في [65/أ] الشرط والجزاء، و"أي" في الجمع، و"أين" في المكان، و"متى" للزمان.
الرابع:
الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار وما أشبهه1.
__________
1 هناك بعض صيغ العموم، لم يذكرها المؤلف، وإليك هي:
الأولى: "كل" نحو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
وكذلك: "جميع"، وقد ذكرها الآمدي في "الإحكام": "2/183"، وابن قدامة في "روضة الناظر" ص"116"، ولم يمثلا لها.
وقد ذكر الجلال المحلي في "شرحه لجمع الجوامع": "1/409": أن ابن السبكي كتبها بعد "كل"، ثم شطب عليها؛ وذلك لأنها تضاف إلى المعرفة، فالعموم من المضاف إليه لا من المضاف؛ ولكن البنانين في حاشيته في الموضع المشار إليه، مثل لها بقوله: "جميع زيد حسن"، واتبعه بقوله: "لا عموم في المضاف إليه قطعًا"، ولم يسلم له ذلك فقد ذكر الشربيني في تقريره: أن السعد تعقبه بقوله: "قد يقال على معنى.. جميع أجزاء زيد".
الثانية: ما أضيف من ألفاظ الجموع والأجناس ولفظ الواحد إلى معرفة كقولك: نساء زيد، وإبل عمرو.
الثالثة: النكرة في سياق النفي، كقولك: لا رجل في الدار.
ومن أراد الاستزدادة فليرجع إلى: "الإحكام للآمدي": "2/183"، و"روضة الناظر" ص"116".(2/485)
صيغة العموم
مدخل
...
[صيغة العموم] :
وله صيغة موضوعة له في اللغة، إذا وردت متجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس، نص على هذا في رواية ابنه عبد الله رحمهما الله،(2/485)
وقد سأله عن الآية إذا جاءت عامة، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، وأخبره أن قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها؛ فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها، أو يخبر الرسول، فقال: قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 فكنا نقف عند الولد لا نورثه، حتى ينزل الله تعالى: أن لا يرث قاتل، ولا عبد، ولا مشرك.
وقال في كتاب طاعة الرسول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم "سارق" وإن قل؛ فقد وجب عليه القطع. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثمر ولا كثر" 4 دل ذلك
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 "11" سورة النساء.
3 "38" سورة المائدة.
4 لفظ الحديث هذا: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، وقد رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر بسنده المتصل عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن رافع بن خديج رضي الله عنه "4/52-53"، ثم قال بعد ذلك: "هكذا روى بعضهم"، ثم قال: "وروى مالك بن أنس وغير واحد هذا الحديث.. ولم يذكروا فيه عن واسع بن حبان".
وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه بالسند المذكور "2/449"، غير أنه لم يذكر: "واسع بن حبان"، فيكون السند على هذا منقطع؛ لأن: "محمد بن يحيى"، لم يسمع من "رافع بن خديج".
وأخرجه النسائي في كتاب قطع السرقة، باب ما لا قطع فيه، بمثل سند الترمذي الذي ذكرته متصلًا ومنقطعًا؛ كما أخرجه عن رافع أيضًا، وفيه: "ميمون" قال: إنه لا يعرفه، كما أخرجه عن رافع بسند آخر هو: "أخبرنا محمد بن خالد =(2/486)
..................................................................................................
__________
= ابن خلي قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سلمة، يعني ابن عبد الملك العوصي عن الحسن وهو ابن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن رافع بن خديج.."، "8/79-81".
وأخرجه عن رافع بن ماجه في كتاب الحدود باب: لا يقطع في ثمر ولا كثر "2/865" بسند متصل، كما أخرجه في نفس الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده: "سعد بن سعيد المقبري"، وأخوه: "عبد الله بن سعيد المقبري"؛ أما الأول: فقد قال فيه ابن عيينة: "كان قدريا". وقال فيه ابن عدي: "لم أر للمتقدمين في "سعد" كلامًا، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال أبو حاتم: "مستقيم في نفسه، بليته من أخيه". وقال فيه الذهبي" واهٍ، ورمي بالقدر أيضًا".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" 1/254، و "ميزان الاعتدال" 2/120.
أما الثاني: فمتروك، كما قال أحمد والدارقطني والبخاري وغيرهم.
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء": "1/340"، و "ميزان الاعتدال": "2/429".
وأخرجه الدارمي كذلك متصلًا ومنقطعًا، وبإسناد ثالث فيه مجهول، وذلك في سننه في كتاب الحدود، باب: ما لا يقطع فيه من الثمار "2/95-96" وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" عن رافع في كتاب الحدود باب سرقة الثمر والكثر، متصلًا ومنقطعًا "3/172".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في أبواب القطع في السرقة باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "3/301".
وأخرجه عنه مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند منقطع "4/163".
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه، بسند متصل "1/301".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/361-362"، و"تلخيص =(2/487)
[على] 1 أنها ليست على ظاهرها، وأنه على بعض السراق دون بعض.
واحتجاجه في المسائل بالعموم كثير، ورأيت في مجموع لأبي بكر بخطه: قد أبان أبو عبد الله رحمه الله عموم الخطاب؛ فلا يخصه إلا بدليل، واستدل على ذلك بكلام كثير2، وقال بعد ذلك: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4؛ فلو لم يجئ بيان من يقتل من المشركين،
__________
= الحبير": "4/65"، و"فيض القدير": "6/436".
ومن هذا العرض للحديث تبين أن الحديث روي مسندًا، كما روي منقطعًا، والانقطاع حصل بحذف الواسطة بين: "محمد بن يحيى بن حبان" وبين: "رافع بن خديج"، وهذه الواسطة هو: "واسع بن حبان"، الذي قد جاء ذكره في الأسانيد المتصلة. وبهذا يصبح الحديث صالحًا للاحتجاج به، وبخاصة: وقد تلقته الأمة بالقبول، كما يقول الطحاوي فيما نقله عنه ابن حجر في التلخيص.
وقد نقل الرزقاني في شرحه على "موطأ مالك" عن ابن العربي قوله: "فإن كان فيه كلام؛ فلا يلتفت إليه": "4/164"، والله أعلم.
معنى: "الثمر": ما كان على رءوس النخل، ويطلق على الثمار كلها قبل أن تجذ. وقيل: كل ما يسرع إليه الفساد.
معنى: "الكثر": جمار النخل، وهو: شحمه الذي في وسطه. وقيل هو: الطلع، وهو: أول ما يبدو من ثمر النخل.
انظر: "الفائق في غريب الحديث": "3/247".
1 زدنا هذه الكلمة ليستقيم الكلام، علمًا أن صاحب "المسودة" ص"90"، ذكرها، عندما نقل كلام المؤلف هنا.
2 من قول المؤلف: "وله صيغة موضوعة في اللغة ... " إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"89-90"، مع العزو للمؤلف هنا.
3 "38" سورة المائدة.
4 "5" سورة التوبة.(2/488)
ويقطع من السراق؛ لاقتضى الحكم على العموم، وحكى قول من قال بالوقف.
وبهذا قال جماعة الفقهاء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود1.
وذهب أبو الحسن الأشعري وأصحابه: إلى أن العموم لا صيغة له، وأن الألفاظ التي تصلح للعموم والخصوص؛ يجب التوقف فيها إلى أن يدل الدليل على أحدهما، فيحمل عليه2.
وحكي عن محمد بن شجاع الثلجي3 أنه قال: يحمل على الثلاثة، ويتوقف فيما زاد عليه، حتى يقوم الدليل على المراد به، وحكي ذلك عن جماعة من المعتزلة.
ومن الناس من فرق بين الأوامر والأخبار؛ فقال: في الأوامر تحمل على العموم، ووقف في الأخبار.
__________
1 راجع في نسبة هذا الرأي بالنسبة للحنفية: "تيسير التحرير": "1/197" وما بعدها، و"أصول السرخسي": "1/151-162"، وبالنسبة للمالكية: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"178-182"، وبالنسبة للشافعية: "الإحكام" للآمدي": "2/185-204"، و"شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع": "1/408-414"، وبالنسبة للظاهرية: "الإحكام لابن حزم": "3/338-362".
2 هذا أحد القولين المنقولين عن أبي الحسن الأشعري رحمه الله، وقد وافقه عليه القاضي أبو بكر الباقلاني.
وهناك قول آخر هو القول بالاشتراك بين العموم والخصوص.. حكى هذا الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/186".
3 هكذا ضبطه المصنف: "الثلجي" بالمثلثة الفوقية بعدها لام ساكنة فجيم معجمة؛ ولكن الناسخ صوبه في الهامش بقوله: "هكذا في الأصل، وصوابه البلخي" أي بالموحدة التحتية بعدها لام ساكنة فخاء معجمة وهو كذلك في "المسود" ص"89".
وما ضبطه به المؤلف هو الصواب، الموافق لما في "تاريخ بغداد": "5/350"، و"شذرات الذهب": "2/151"، و"المغني في الضعفاء": "2/591".
وهو محمد بن شجاع، أبو عبد الله، المعروف بالثلجي، فقيه الحنفية في وقته، سمع من يحيى بن آدم وابن علية وغيرهما. وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي، اتهم بالوضع، وبالوقف في القرآن، وبالكذب. قال فيه أحمد: مبتدع صاحب هوى. مات فجأة سنة 266هـ، وله من العمر 90 سنة تقريبًا.
انظر ترجمته في المراجع السابق ذكرها.(2/489)
دليلنا:
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1، فروي أن عبد الله بن الزبعري2 قال: لما نزل ذلك لأخاصمن محمدًا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار؟، فأنزل الله تعالى3: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4 [65/ب] .
فحمل لفظ "ما" على عمومه، وهو حجة في اللغة.
وأكد ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، وبين الله تعالى مراده
__________
1 "98" سورة الأنبياء.
2 هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي ... القرشي، السهمي، أبو سعد، صحابي جليل، كان من شعراء قريش المشهورين، هجا المسلمين بشعره قبل إسلامه، ثم أسلم عام الفتح، وشهد المشاهد بعد الفتح.
له ترجمة في "الاستيعاب": "3/901"، و"الإصابة": "4/68".
3 أخرج هذه الحادثة الواحدي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وذلك في كتابه: "أسباب النزول" ص"315". كما ذكر ذلك الفخر الرازي في "تفسيره": "22/223".
4 "101" سورة الأنبياء.(2/490)
فيه، فأنزل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، يدل على أن "ما" للعموم.
ثم أسلم عبد الله، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدة، يقول فيه1:
أيام يأمرني بأغوى خطة ... سهم ويأمرني بها مخزوم
فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي، ومخطئ هذه محروم
فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي؛ فإنك راحم مرحوم2
ويدل عليه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} 3، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ؛ فحمل نوح لفظ "الأهل" على عمومه، فلم ينكر الله تعالى عليه ذلك، وإنما بين أن مراده خاص، وهو: المصلح منهم.
__________
1 الضمير في قوله: "فيه" إن كان يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالكلام مستقيم، وإن كان يعود إلى القصيدة؛ فيجب أن يقول: "فيها".
2 هذه الأبيات، ذكر منها الحافظ ابن حجر في كتابه: "الإصابة" عن ترجمة عبد الله الزبعرى "4/68" بيتين، الأول والثاني، وذكره بينهما بيتًا ثالثًا غير مذكور هنا.
وكذلك. ذكرها الحافظ ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب": "3/903-904"، ذكرها ضمن أبيات. ويلاحظ: أنه أبدل كلمة: "ذنبي" في الشطر الثاني من البيت الأخير، أبدلها بكلمة: "فارحم"
3 "45" سورة هود.(2/491)
ويدل عليه قوله تعالى: في قصة إبراهيم: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 1، علم من ذلك أنهم مهلكون لجميع أهلها، فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ؛ فأخبرته الملائكة أنهم ينجونه وأهله، واستثنوه من جملة أهل القرية؛ فعلم أن إطلاق اللفظ اقتضى العموم.
فإن قيل: اللفظ يصلح للعموم؛ فلذلك حكم عليه في الآيات التي ذكر فيها.
قيل: لا يجوز حمله عليه بالصلاح له، بل يجب التوقف فيه، ومن فعل ذلك؛ فقد أخطأ عند المخالف، فلا يجوز حمله على الخطأ.
وعلى أن نوحًا عليه السلام قد قطع به بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ، والصلاح لا يوجب القطع.
وأما قصة إبراهيم فلا يصلح هذا السؤال فيها أيضًا؛ لأنه لو كان للصلاح؛ لكان الكلام يخرج مخرج الاستفهام والمسألة، فيقول: ألوط فيهم؟ أتهلكونه فيمن يهلكون؟ فلما ذكر لفظ التخيير والتخويف، يعني لا تهلكوهم، فإن فيهم لوطًا؛ علم أنه كان قد عقل من ظاهر اللفظ: أنه مقتضٍ للعموم والشمول.
وأيضًا: فإن المسألة إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
من ذلك: أن عمر احتج على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في منعه من قتال مانعي الزكاة لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إل الله؛ فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم"؛ فلم ينكر عليه ذلك؛ وإنما عدل إلى الاستثناء،
__________
1 "31" سورة العنكبوت.(2/492)
فقال: الزكاة من حقها، وقال النبي: "إلا بحقها".
وكذلك مطالبة فاطمة1 أبا بكر رضي الله عنهما بالميراث2 من النبي صلى الله [66/أ] عليه وسلم، واحتجاجها بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 3؛ فأقرها على العموم، وقابلها بقوله: "ما نورث ما تركنا صدقة" 4.
__________
1 هي فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أم الحسن والحسين، زوجة علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع. ولدت قبل البعثة بنحو ستة أشهر. وماتت بعد وفاة والدها بستة أشهر، كما صح ذلك عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة": "3/1379-1380".
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1893"، و "الإصابة": "8/157-160".
2 ذكر مجيء فاطمة رضي الله عنها تطلب ميراثها من أبي بكر رضي الله عنه.. أورده ابن الجوزي في كتابه: "الموضوعات": "3/281"، ونقل عن ابن قتيبة قوله: "وكنت أرى أن لهذا أصلًا؛ فقال بعض نقلة الأخبار: أنا أسن من هذا الحديث، وأعرف من عمله". ولم يذكر ابن الجوزي ذلك بالسند، حتى ينظر فيه.
وقد تعقب السيوطي في كتابه: "اللآلئ المصنوعة": "2/441-442"، ابن الجوزي في ذكره لهذا الحديث في كتابه: "الموضوعات" بقوله: "قلت أي السيوطي: في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: "أن فاطمة أتت أبا بكر تلتمس ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث.." الحديث.
3 "11" سورة النساء.
4 هذا الحديث أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها وذلك في كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة": "8/185-187". وعنها أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث" الحديث "3/1379-1383".
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال "2/126-128".
وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم "4/157-158".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "مسند أبي بكر رضي الله عنه" ص"32، 33، 34، 35"، و "تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "3/148-149"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"524".(2/493)
وكذلك لما اختلف عثمان1، وعلي رضي الله عنهما [في الجمع بين الأختين بملك اليمين] فقال عثمان: يجوز، واحتج بعموم2 قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 3، وقال علي: لا يجوز، واحتج بعموم قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 4.
__________
1 هو عثمان بن عفان الأموي، ذو النورين. ثالث الخلفاء الراشدين. من السابقين إلى الإسلام. هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، استشهد سنة 35هـ بعد خلافة دامت 12 سنة، وله من العمر بضع وثمانون سنة.
له ترجمة فيه: "الاستيعاب": "3/1037"، و"أسد الغابة": "1/40"، و"تذكرة الحفاظ": "1/8"، و"شذرات الذهب": "1/40"، و"النجوم الزاهرة": "1/92".
2 في الأصل: "لعموم".
3 "30" سورة المعارج.
4 "23" سورة النساء.
وهذا الأثر أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب النكاح باب ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين "3/148-149".
وراجع في هذا الأثر: "تيسير الوصول" في كتاب النكاح، الفصل الثاني: ما لا يوجب حرمة مؤبدة "2/168"، و"تفسير القرطبي": "5/117"، "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75".(2/494)
واحتج أيضًا من كان يبيح شرب الخمر1 بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} 2، ولم ينكر سائر الصحابة ذلك؛ وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ.
وروي عن عثمان3 أنه لما سمع قوله:
وكل نعيم لا محالة زائل4
__________
1 ينسب القول بإباحة الخمر إلى قدامة بن مظعون رضي الله عنه؛ فقد روي أنه شربها متأولًا الآية التي ذكرها المؤلف.
كما روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: "أن قومًا بالشام شربوا الخمر متأولين لهذه الآية؛ فقال عمر وعلي رضي الله عنهما: يستتابوا؛ فإن تابوا؛ وإلا قتلوا".
راجع: "سنن الدارقطني": "3/166"؛ فإنه أخرج قصة شارب الخمر من الصحابة، ولم يذكر اسمه، وراجع أيضًا: "التعليق المغني على الدارقطني" في الموضع السابق، وانظر: "تفسير الفخر الرازي": "10/34-35".
2 "93" سورة المائدة.
3 هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل. هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا. ومات بالمدينة سنة 2هـ، ودفن بالبقيع.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1053"، و "الإصابة" القسم الرابع ص"461" طبعة دار نهضة مصر.
4 هذا عجز بيت للشاعر لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه، ورد البيت في ديوانه ص"256"، وصدر البيت هو: =(2/495)
قال: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا يدل على أنه يجب حمل اللفظ على عمومه عندهم.
فإن قيل: يحتمل أن يكون مع كل لفظ قرينة تدل على أن المراد بها الجنس، وهو دلالة الحال.
قيل: لو كان لنقل؛ لأن ما لا يتم الدليل [إلا] به لا يسوغ للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل؛ ثبت أنه ما كان، يبين صحة هذا أنه معلوم أن الجماعة لم تشترك في معرفة القرينة؛ فلو كان موضوع اللفظ لا يفيد؛ ما قلنا لم يقتصروا على هذا اللفظ دون القرينة.
فإن قيل: يحتمل أن يكون سكوت الصحابة عن الرد على من احتج بالعموم، لأجل علمها أن هذا الخطأ لا يبلغ بصاحبه المأثم.
قيل: هذا لا يصح؛ لأن ألفاظ العموم جرت في احتجاج بعضها على بعض في الأحكام؛ فلو كان عند المحجوج عليه أن لا دلالة في اللفظ؛ لسأله عما أوجب القول بعمومه، كما سأله عن حجاج قوله؛ ألا ترى:
__________
=
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وهو من قصيدة يقول في مطلعها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
كما ورد البيت منسوبًا إلى لبيد في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة " 1/297".
وفي كتاب "الموشح" للمرزباني ص"100".
وقد نسب المرزباني التكذيب للشاعر إلى عثمان بن مظعون، كما نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع. المرجع السابق "100-101".
ولبيد هذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وحسن إسلامه، مات سنة 41هـ وله من العمر 140 سنة، وقيل أكثر من ذلك.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "3/1335"، و"الإصابة" القسم الخامس ص"675" طبعة دار نهضة مصر. و"الشعر والشعراء": "1/274".(2/496)
أن من ألزم غيره ما لا حجة فيه؛ لم يلزم، ولم تجر العادة بسكوته عنده، ولأنه لو كان هذا؛ لبطل تعلقنا بإجماع الصحابة في إثبات خبر الواحد والقياس، ولجاز أن يقال: إن سكوت الصحابة في ذلك؛ لأجل ما ذكره هذا القائل، دون تصويب الاجتهاد وقبل خبر الواحد.
فإن قيل: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز أن يثبت بها أصل يقطع به.
قيل: أكثرها ثبت من جهة الاستفاضة فيما بينهم وانتشر؛ ولكن نقل إلينا نقل آحاد، وفي جملتها ما يقطع على صحته1، فهو مثل ما نقوله في الإخبار عن شجاعة عنترة وسخاء حاتم2، ثم نقل إلينا نقل آحاد، ويجب العمل به؛ لأنه تواتر في المعنى.
وأيضًا: فإن أهل اللغة متى أرادوا توكيد العموم؛ أكدوه بلفظ مخصوص لا يؤكدون به الخصوص؛ فقالوا في العموم: رأيت القوم أجمعين، ورأيتهم كلهم، وقالوا في الخصوص: "رأيت زيدًا نفسه"؛ فلولا [66/ب] أن للعموم صيغة يتميز بها من الخصوص؛ لما اختلف حكمها في التوكيد.
وقد عبر عن هذا بعبارة أخرى فقيل: لا يستعمل لفظ التأكيد مع اسم العموم إلا في الجنس كله، فيجب أن يكون الاسم موضوعًا للجنس،
__________
1 في الأصل: "صحة".
2 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس، أبو عدي الطائي القحطاني. يضرب به المثل في الجود والكرم، كان فارسًا شاعرًا، له ديوان صغير مطبوع. قال صاحب تاريخ الخميس: "توفي حاتم في السنة الثامنة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم".
له ترجمة في: "الأعلام": "2/151"، و"تاريخ الخميس": "1/255"، وفي هامش الأعلام. مراجع أخرى في ترجمته.(2/497)
وإلا خرج اللفظ المعرف بالاسم من أن يكون تأكيدًا؛ لأنه لا يكون تأكيدًا إلا أن يكون معناهما واحد.
فإن قيل: قد يؤكد العموم والخصوص بالإشارة، وإن لم يكن لها صيغة يختص بها أحدهما دون الآخر.
قيل: الإشارة لم توضع لتوكيد العموم؛ وإنما هي موضوعة للاستعانة بها1 لينظر بها المخالف إلى قصد المشير2.
فإن قيل: فلو كان للعموم صيغة لاستغنى بها عن التوكيد؛ لأن التأكيد لا يفيد إلا ما أفادته الصيغة؛ فلما حسن توكيد العموم بما ذكرتموه؛ علمنا أن العموم لا صيغة له.
قيل: هذا يبطل بالاسم الخاص؛ لأنه يحسن توكيده بأن يقول: رأيت زيدًا نفسه، ثم لا يدل ذلك على أن الخصوص لا صيغة له، وكذلك الأعداد يحسن توكيدها؛ كقولك: عشرة كاملة، ثم لا يدل ذلك على أن "العشرة" ليست موضوعة لعدد مخصوص يفيد ذلك عند إطلاقه من غير توكيد.
وجواب آخر وهو: أن الشيء الواحد، لما جاز أن يدل عليه بدليلين وثلاثة وأربعة، ثم لا يفيد الدليل الثاني والثالث والرابع إلا ما أفاده الأول، كذلك لا يمتنع أن يؤكد العموم بتأكيد لا يفيد إلا ما أفاده العموم ومع ذلك يكون للعموم صيغة.
وأيضًا: فإنا وجدنا أهل اللغة يقولون: هذا اللفظ عموم، وهذا اللفظ
__________
1 في الأصل: "بهاء".
2 في الأصل: "ليضطر بها المخالف إلى قصة المسير"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب: من أثبتناه. وهذا الجواب موجود بمعناه في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/223"، ولم يذكر فيه نص العبارة المشار إليها.(2/498)
خصوص، كما يقولون: هذا خبر وهذا استخبار، ويقولون: هذا الاسم واحد، وهذا اسم تثنية و [هذا اسم] جمع؛ فلما كان الاسم الواحد والاثنين والجمع والخبر والاستخبار صيغة تختص بها، كذلك العموم والخصوص1.
وأيضًا: فإن قوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2 لا يخلو إما أن يحمل على العموم لظاهره، أو على الخصوص، أو يتوقف فيه، ولا يجوز حمله على الخصوص لوجهين:
أحدهما: أن للخصوص لفظًا هو أخص به من هذا؛ فلو أراده لعبر عنه باللفظ المختص به.
ولا يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص3.
ولا يجوز حمله على الوقف؛ لأن اللفظ يتضمن اقتضاء فعل القتل، ومن حمله على الوقف؛ لا يعدوه فعلًا؛ بل يخرجه4 عن الإفادة، ويكون وجوده كعدمه، وهذا محال في صفة الحكيم أن يذكر ما لا فائدة فيه؛ فلم يبق إلا حمله على العموم به.
وأيضًا: فإن حسن الاستثناء يدل على الصيغة؛ فإنه يقول: "اقتلوا المشركين إلا المعاهدين"، و "ومن وصلني وصلته؛ إلا بني فلان". وحسن
__________
1 هذا الدليل مجود مع اختلاف قليل في كتاب: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري "1/222".
2 "5" سورة التوبة.
3 لم يذكر المؤلف الوجه الثاني؛ ولعل قوله: "لا يصح أن يستثني.." إلى هنا، هو الوجه الثاني.
4 مشى المؤلف على اعتبار معنى "من"؛ فلذلك جمع الفعل: "يعدوه"، وكان الأولى أن يجمع الفعل المعطوف عليه، وهو: "يخرجه".(2/499)
الاستثناء يدل على أن اللفظ عام في الجنس؛ لأن الاستثناء [67/أ] إخراج ما لولاه لوجب دخوله فيه.
فإن قيل: جواز الاستثناء لصلاح اللفظ له؛ لا لأنه أوجبه.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه قد قيل: أن الاستثناء مشتق من قولهم: "ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت إليه عنان فرسي إذا صرفه إليه".
وقيل: إنه سمي استثناء؛ لأنه تثنية الخبر، وأيها كان؛ فإنه يقتضي أن يكون اللفظ عامًا فيه متناولًا له لو لم يكن الاستثناء1.
وجواب آخر وهو: أن الاستثناء من أسماء العدد يقتضي إخراج بعض ما تناوله اللفظ، كذلك الاستثناء من ألفاظ الجمع، والألفاظ المبهمة مثل ذلك، ولا فرق بينهما.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان دخول الاستثناء فيه، لأنه يصلح؛ لصلح أن يستثنى من جنسه وغير جنسه؛ فنقول: جاء القوم إلا زيدًا وإلا حمارًا، كان "الناس" يعبر بهم عن الحمير مجازًا لأجل البلادة؛ فلما لم يصح هذا، ثبت أن الاستثناء دخل؛ لأن اللفظ أوجبه، لا أنه يصلح له.
وجواب آخر وهو: لو كان لأنه يصلح له، لا أنه أوجبه؛ لَمَا افترق الحال بين أن يقع الاستثناء موصولًا أو مفصولًا؛ لأنه يخبر عما صلح [له] ؛ فلما ثبت أن الاستثناء لو وقع مفصولًا كان تخصيصًا، أو نسخًا عند من لا يقول بتخصيص العموم؛ بطل أن يكون دخوله فيه؛ لأنه يصلح له، وثبت أن دخوله فيه؛ لأنه يتناوله.
وأيضًا: فإنه إذا قال: "اقتلوا رجلًا من المشركين"؛ كان الرجل
__________
1 لم يذكر المؤلف بقية الوجوه، ولكنه ساقها بعد ذلك على شكل جوابات.(2/500)
شائعًا في جنس المشركين، وأي رجل قتلوا منهم كانوا ممتثلين لأمره؛ فإذا قال: "اقتلوا المشركين"؛ وجب أن يقتلوا جميعهم؛ لأن القتل يجب أن يتعلق ههنا بمن يتعلق الرجل الذي أمر بقتله بهم.
وحكي عن أبي بكر بن الباقلاني: أنه كان يسلم هذا.
وإن امتنع ممتنع من تسليمه، قيل له: الدليل: أنه إذا قال: "لا تقتل رجلًا من المشركين"؛ وجب أن يكف عن واحد من جنس المشركين، وهذا لا خلاف فيه؛ ولهذا قال أهل اللغة: إن النكرة في النفي تقتضي الجنس، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في الإثبات واحد1 من الجنس.
يبين صحة هذا: أنه إذا قال: "والله لا أدخل دارًا"؛ اقتضى الجنس، فأي دار دخلها حنث في يمينه، وإذا قال: "لأدخلن دارًا"؛ اقتضى دخول دار من الجنس؛ فأي دار دخلها بر في يمينه، والبر والحنث في الإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية.
وأيضًا: فإن العموم معنى ظاهر تمس الحاجة إلى العبارة عنه والإخبار به في المخاطبة المتعلقة بالمصالح في الدين والدنيا، وقد رأيناهم وضعوا لكل ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه من الأشخاص والأفعال اسمًا يخصه ويميزه2 عن غيره، وجب أن يكون العموم والخصوص بمثابته؛ لأن الداعي إليه كالداعي إلى [67/ب] سائر ما وضعوا له من العبارات3.
فإن قيل: هذا يبطل بالطعوم والروائح؛ لأنها متغايرة متباينة، ولم يضعوا لكل طعم، ولا لكل رائحة اسمًا يخصه ويميزه عن غيره مع الحاجة إلى العبارة
__________
1 في الأصل: "واحدًا".
2 في الأصل: "تميزه" بالمثناة الفوقية.
3 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/210". مع اختلاف في التعبير.(2/501)
عنه، وكذلك قالوا1 في المواجهة: "فعلت أنت"، و"فعلتما أنتما"، و"فعلتم أنتم"، وكذلك في الإخبار عن الغائب قالوا: "فعل فلان"، و"فعلها"، و"فعلوا"، وقالوا في الإخبار عن نفسه وعن غيره:
"فعلتُ" و"فعلنا"، ولم يميزوا التثنية من الجمع، وجعلوا اللفظ مشتركًا فيهما.
قيل: قد ميزوا بالإضافة، فقالوا: "طعم الخبز"، و"طعم الماء"، و"طعم الفاكهة"، و"حلاوة السكر"، و"حلاوة العسل"، و"حموضة الخل"، و"حموضة المصل"، و"رائحة الكافور"، و"رائحة المسك" كما قالوا: "لحم الغنم"، و"لحم البقر"، و"لحم الجمل"، و"لحم العصافير"؛ فميزوا بينها2 بالإضافة.
وأما التثنية في الإخبار عن نفسه وعن غيره، فهو أنهم وضعوا له لفظًا يدل عليه؛ فقالوا: "فعلتُ أنا وأخي معي أو فلان"، و"إنا فعلنا"، و"فعلت أنا وجماعة معي أو فلان وفلان" و"وإنا فعلنا"؛ وإنما لم يضعوا التثنية من لفظ الواحد؛ لأنهم يثنون اللفظ بنظيره، ولا نظير له في الإخبار عن نفسه وعن غيره؛ لأنه لا يقول: أنا وأنا، كما [لا] يقول أنت وأنت، وهو وهو.
فإن قيل: لفظ الجمع مع الرمز والإشارة ودلالة الحال يدل على قصد المتكلم ومن أحد من الخصوص؛ فاستغنوا بذلك عن اللفظ، كما تقول في قول القائل: "أي شيء يحسن زيد؟ " فإنه يحتمل التكثير والتقليل والاستفهام؛ وإنما يتوصل إلى قصد المتكلم بدلالة الحال.
قيل: لم ننكر أن يكون في اللغة لفظ مشترك يدل دلالة الحال على قصد
__________
1 في الأصل: "قال".
2 في الأصل: "بينهما".(2/502)
المتكلم به؛ وإنما أنكرنا أن يكون ما تمس الحاجة إلى العبارة عنه في مصالح دينه ودنياه لم يضعوا له لفظه، وهذه المعاني التي يحتملها قوله: "أي شيء يحسن زيد؟ "، وقد وضعوا لها لفظًا تميز به عن غيره؛ فقالوا: "علمه قليل أو كثير، وأي شيء يحسن زيد"؟.
وأيضًا: فإنه لفظة "من" إذا استعملت في الاستفهام كقوله: "من عندك؟ " و"من كلمت؟ "؛ صلح أن يجيب بذكر كل عاقل، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع1.
وكذلك إذا استعملت في المجازاة كقوله: "من دخل داري أكرمته"؛ صلح استثناؤهم؛ لأن الاستثناء: يخرج من اللفظ ما لولاه كان داخلًا فيه، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء؛ لم يصح استنثاؤهم؟
فإن قيل: لا نسلم أن صيغة "من" لكل من يعقل؛ لأن ممن يعقل الجن والملائكة، ولا يدخلون فيه.
قيل: الصيغة تناولت كل هؤلاء؛ وإنما خرج ذلك بدليل؛ لأنه إنما يسأله عمن يجوز أن يكون عنده، وعمن يجوز دخوله2.
فإن قيل: إنما كان مجيبًا ومستثنيًا؛ لأنه [68/أ] أجاب من يصلح له اللفظ.
قيل: هو يصلح له ويصلح لغيره عند المخالف؛ فكان ينبغي أن لا يكون مجيبًا حى يعلم مراد المستخبر بقوله: "من عندك؟ "، ولما أجمعوا على أنه يجيب بكل من ذكره من جنس العقلاء؛ بطل السؤال.
__________
1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/237". مع اختلاف طفيف.
2 هذا الاعتراض والجواب عنه، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/221-222".(2/503)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن صيغة العموم لا تخلو من أن تكون ثبتت بالعقل أو بالنقل؛ فلا يجوز أن يكون بالعقل؛ لأنه لا مدخل فيه، ولا يجوز أن يكون بالنقل؛ لأن النقل لا يخلو إما أن يكون تواترًا أو آحادًا، ولا يجوز أن يكون تواترًا؛ لأن التواتر لم يوجد؛ لأنه لو وجد لعلمناه، ولا يجوز أن يكون آحادًا؛ لأن نقل الآحاد لا يوجب العلم، ومسألة العموم طريقها العلم والقطع؛ فلم يجز إثباتها بما لا يوجب العلم1.
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنا أثبتنا ذلك من طريق العقل والنقل، وقد ذكرنا الطريقين جميعًا.
الثاني: أنا أثبتنا من طريق ثالث، وهو الاستدلال بمخارج كلامهم على مقاصدهم وإرادتهم مثل ما ذكرته من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء، وهذا قسم ثالث لم يذكره المخالف.
جواب ثالث: أنا نقلبه عليهم فنقول: إثباتك إياه مشتركًا؛ لا يخلو ذلك من أن يكون [عقلًا] أو نقلًا، ونذكر القسمين.
وهذا كما قال نفاة القياس: من [أن] إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عقلًا أو نقلًا، ولا يجوز أن يكون عقلًا؛ لأنه لا مدخل له فيه، ولا يجوز أن يكون نقلًا على ما ذكره المخالف؛ فقلنا لهم: تحريم القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل، وإذا كان جوابنا هناك، فهو جوابنا ههنا.
__________
1 هذا الدليل ساقه أبو الحسين البصري في كتابه: "المعتمد في أصول الفقه": "1/223-224" بأوسع مما هنا.(2/504)
واحتج بأن لفظ الجمع يستعمل مرة في البعض ومرة في الكل، واستعماله في البعض أكثر؛ لأنه يقال: "غلق الناس"، و"فتح الناس"، و"جمع التجار إلى دار السلطان"، ويراد به البعض دون الكل، ويقول الواحد: "غسلت ثيابي، وصرمت نخلي"، ويريد به البعض؛ فإذا كان كذلك؛ كان حقيقة في البعض والكل، وكان بمنزلة اللفظ المشترك، مثل: "العين"، و"اللون"، فإنه يحتمل: العين: "عين الذهب"، و"عين الماء"، و"عين الميزان"، و"عين الركبة"، و"عين القوم"، وهو خيارهم، والعين على القوم، وهو: "الجاسوس"، وكذلك "اللون" يحتمل "البياض"، و"الحمرة"، و"السواد"، و"الصفرة"، ولا يجوز حمل اللفظ على بعضها إلا بدليل، كذلك ههنا.
والجواب: أن هذا يبطل بأسماء الأعيان واستعمالها1 في الحقيقة والمجاز، مثل تسميتهم الماء الكثير بحرًا، والرجل العالم والجواد بحرًا، وكذلك تسمتيهم "البهيمة حمارًا"، و"الرجل البليد" حمارًا، و"البهيمة أسدًا وليثًا"، و"الحية شجاعًا"، [68/ب] و"الرجل الذي به بأس وشدة شجاع".
ويبطل أيضًا باستعمال لفظ الجمع في الواحد، مثل قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2، وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 3، فأراد بالأول: "نعيم بن مسعود"4، ومع هذا فلم يدل ذلك على الاشتراك.
__________
1 في الأصل: "واستعمال".
2 "9" سورة الحجر.
3 "173" سورة آل عمران.
4 هو: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي. صحابي جليل، رضي الله عنه، هاجر =(2/505)
ويفارق هذا: "العين" و"اللون"؛ لأن ذلك يستعمل بنفسه في أشياء مختلفة في كل واحد منها مثل استعماله في الآخر، وليس كذلك
__________
= إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء وقعة الخندق، كان له دور كبير فيها؛ حيث استطاع الإيقاع بين اليهود والمشركين، سكن المدينة، ومات في خلافة عثمان بن عفان.
انظر ترجمته في: "الاستيعاب": "4/1508"، و "الإصابة" القسم السادس ص"461"، طبعة دار نهضة مصر.
و"الناس" في أول الآية، اختلف المفسرون في تفسيره، هل يفسر بالفرد، أو يفسر بالجمع؟ على اتجاهين:
الاتجاه الأول:
أن المراد به فرد، وهؤلاء على قسمين:
قسم ذهب إلى أن المراد به: نعيم بن مسعود، كما ذكر المؤلف، وهو رأي عكرمة، ومجاهد، ومقاتل، والكلبي.
وقسم ذهب إلى أن المراد به: أعرابي، طلب منه: أن يفعل ذلك، نظير أجر له، وهو رأي السدي.
الاتجاه الثاني:
أن المراد به جمع، وأصحاب هذا الرأي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذهب إلى أن المراد: ركب عبد القيس، لما مروا بأبي سفيان يريدون المدينة، فطلب منهم إبلاغ محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، بأنه يجمع الجموع لحربهم، وهو رأي ابن إسحاق وجماعة.
القسم الثاني: ذهب إلى أن المراد: المنافقون.
القسم الثالث: ذهب إلى أن المراد: جماعة من هذيل من أهل تهامة، وهو رأي أبي معشر.
ويلاحظ: أنه لا يتم الاستدلال إلا على التفسير بالفرد.
راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "4/279-280"، و "تفسير القاسمي": "4/1038-1039".(2/506)
ههنا، فإنه يستعمل بنفسه عند الإطلاق للعموم والشمول، بدليل ما ذكرنا من الاستدلال بالنكرة في الإثبات والنفي والاستفهام والاستثناء.
واحتج بأن الاستفهام يحسن فيه، ولو كان موضوعًا للجنس؛ لم يحسن الاستفهام، كما لا يحسن في الأسماء الموضوعة للعدد، مثل: "العشرة"، و"المائة"، و"الألف".
والجواب: أن الاستفهام يجوز في قوله: "إنا فعلنا"، وقوله: "رأيت بحرًا"، و"رأيت حمارًا", وتقول: "قلت ذلك ألف مرة"، فيحسن أن يكون قلته على التكثير أو على الوفاء والتكميل، وتقول: "رأيت زيدًا" فيقول السامع: "رأيته نفسه"، ولم يدل ذلك على الاشتراك.
وجواب آخر وهو: أنه إنما يحسن الاستفهام فيه؛ لأن اللفظ وإن كان موضوعًا للعموم بإطلاقه؛ فظاهره قد يصلح للخصوص، فيستفهمونه ليتيقن أنه إنما أراد الخصوص؛ ولأنه قد يدخل الاستفهام على طريق التأكيد، كما إذا قال القائل: "اقتل فلانًا"، صلح أن يراجعه، فيقول: "أأقتله"؟ تأكيدًا واحتياطًا؛ لأن اللفظ ما تضمنه.
واحتج: بأن اللفظ قد ورد وأريد به العموم، وورد وأريد به الخصوص؛ فلم يكن حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر؛ فوجب التوقف.
والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو التجرد عن القرائن، وهذا اللفظ لم يرد قط إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة.
واحتج: بأنه لو كان موضوعًا للعموم حقيقة؛ لكان إذا حمل على(2/507)
الخصوص أن يصير [مجازًا] 1.
والجواب: أنه إذا حمل على الخصوص؛ فقد حمل على بعض ما تناوله اللفظ، فلا يكون مجازًا، كما إذا قال: "لفلان عشرة إلا خمسة"، إذا حمل اللفظ على الخمسة حمل على ما تناوله اللفظ، ويكون حقيقة لا مجازًا.
واحتج: بأن اللفظ لو كان موضوعًا للعموم لما جاز أن يوجد؛ إلا وهو دال عليه، كما لا يجوز أن يوجد الفعل إلا وهو دال على فاعل.
والجواب: أن اللفظ الدال على العموم هو المتجرد عن قرينة، ولا يوجد هذا اللفظ إلا وهو دال على العموم؛ وإنما يدل على الخصوص بقرينة تنضم [69/أ] إليه.
واحتج بأن حمله على العموم يوجب التضاد؛ لأنه يحمل على العموم وعلى الخصوص، وهما ضدان.
والجواب: أن اللفظ الذي يحمل على العموم لا يحمل على الخصوص، والذي يحمل على الخصوص لا يحمل على العموم؛ بل أحدهما مقترن والآخر متجرد.
واحتج: بأنه لو كان اللفظ للعموم؛ لما جاز أن يطلق لفظين عامين متنافيين إلا على وجه النسخ، كالنصين المتنافيين؛ فلما جاز أن يقول: "اقتلوا المشركين"، ثم يقول: "لا تقتلوا أهل الذمة"؛ فلا يكون ذلك نسخًا، ثبت أن اللفظ ما دل على العموم بنفسه.
والجواب: أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ فهما في معنى النسخ؛ لأن النسخ يختص الأزمان، والتخصيص يختص الأعيان، فهما في المعنى
__________
1 هذه الكلمة زادها الناسخ في هامش الأصل، وإثباتها ضروري؛ ليستقيم الكلام.(2/508)
سواء، وإن اختلفا في الاسم، وعلى أن العمومين إذا وردا متنافيين؛ لم يوجد فيهما اللفظ الدال على استغراق الجنس؛ لأنه لم يتجرد لفظ أحدهما عن قرينة تدل على أن المراد به الخصوص.
واحتج: بأنه لو كان اللفظ موضوعًا للاستغراق؛ لما جاز تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد والقياس؛ فإنه لا يجوز إسقاط حكم بخبر واحد وقياس.
والجواب: أن التخصيص ليس هو إسقاطًا لحكم اللفظ كله؛ وإنما يخرج بعضه ويبقى البعض، ويبين به أن هذا هو الذي كان مراعى باللفظ، فلا يكون إسقاطًا لحكم الكتاب؛ بل يكون بيانًا للمراد به.(2/509)
فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع
مدخل
...
فصل: فساد قول من حمل العموم على أدنى الجمع ما تقدم
ولأن الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه اعتقد في عموم القرآن والسنة أدنى الجمع، والوقف في الباقي، بل حملوا اللفظ على عمومه؛ فدل على أنه ليس بموضوع الكلام، إذ لو كان كذلك لنقل ذلك عنهم. ولاحتج به بعضهم على بعض.
ولأن للخصوص لفظًا هو أخص به من لفظ العموم، ولو كان المراد الخصوص1؛ لعبر عنه باللفظ المختص به.
ولأنه يصح أن يستثنى منه أكثر من قدر الخصوص.
ولأنه لو جاز أن يحمل على أقل الجمع لأنه اليقين؛ لجاز أن يحل على الواحد؛ لأنه هو اليقين؛ لأن لفظ الجمع قد يرد والمراد به الواحد
__________
1 في الأصل: "بالخصوص".(2/509)
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} 1، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} 2 قيل تقديره: ألقِ ألقِ على وجه التأكيد3.
وقول عمر حين كتب إلى سعد4: إني قد وجهت إليك ألفي رجل؛ وإنما أنفذ إليه القعقاع5 ومعه ألف، فسمي الواحد ألفًا؛ لأنه يسد مسدها، ولما لم يجز حمله على الواحد؛ لأن الإطلاق لا يتناوله؛ كذلك أقل الجمع.
__________
1 "9" سورة الحجر.
2 "24" سورة ق.
3 هذا أحد الأقوال، وهناك ثلاثة أقوال هي:
الأول: أن ضمير التثنية في قوله تعالى: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف.
الثاني: أن الألف في قوله: {أَلْقِيَا} هي نون التوكيد، سهلت إلى الألف.
الثالث: أن ذلك لغة للعرب، يخاطبون المفرد بالتثنية.
راجع في هذا: "تفسير الفخر الرازي": "28/165"، و"تفسير ابن كثير": "4/224"، و"تفسير القاسمي": "15/5504".
4 هو: سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا، أول من رمى بسهم في سبيل الله، له فضل كبير في فتح العراق، بنى الكوفة، ووليها لعمر، اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، مات بالعقيق، وحمل إلى المدينة سنة 55هـ على الأرجح.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/606"، و"الإصابة": "3/88-84".
5 هو: القعقاع بن عمرو التميمي، كان من الشجعان الفرسان، أبلى بلاء جميلًا في موقعة القادسية، ذكر سيف بن عمر: أن له صحبة. وسيف هذا ضعفه ابن السكن، وقال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث". مات القعقاع نحو سنة 40هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1283"، و"الإصابة": "5/244-245"، و"الأعلام": "6/48".(2/510)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الثلاثة متيقن؛ فوجب [69/ب] حمله عليه1.
والجواب: أن هذا يوجب حمله على الواحد؛ لأنه متيقن2 واللفظ قد يعبر به عنه.
ويوجب أيضًا: أن يحمل لفظ العشرة على أقل من ذلك، أنها3 قد تستعمل في بعضها بدليل، وهو إذا اقترن به الاستثناء وأجمعنا على أنها تحمل على الجميع بظاهرها، وعلى أن الثلاثة4 وإن كان متيقنًا؛ فإن اللفظ حقيقة فيما زاد عليه؛ فلم يكن حمله على الثلاثة5 بأولى من حمله على الجميع.
واحتج: بأن استعمال لفظ العموم في الخصوص هو الغالب؛ فحمل عليه.
والجواب: أن هذا الغالب لا يختص بثلاثة.
واحتج: بأن العموم مأخوذ من الخصوص، ومنه قولهم: "مطر عام".
والجواب: أن العموم مأخوذ من قولهم: "عممت الشيء أعمه عمومًا، وعمهم العدل والرخص والغلاء".
__________
1 الضمير عائد على "الثلاثة" باعتباره عددًا.
2 في الأصل: "لأنه نفي".
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "لأنها" لأن الجملة تعليل لما قبلها.
4 في الأصل: "الثلاث".
5 في الأصل: "الثلاث".(2/511)
فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر في صيغ العموم
...
فصل: والدلالة على فساد قول من فرق بين الأخبار والأوامر
أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى الآخر؛ فالممتنع من أحد الأمرين؛ يلزمه الامتناع من الآخر، ألا ترى أن استعمال اللغة في الأمرين على وجه واحد، ورجوع الصحابة إلى أوامر الله تعالى وأخباره إلى ظاهر الخطاب، كرجوعهم في الآخر، فدل على أنه لا فرق بينهما.
ولأنه ثبت أن الله إذا أمر بلفظ عام؛ وجب حمله على العموم، كذلك إذا أخبر بلفظ عام؛ لأنه لا يجوز أن يخطابنا ويريد بخطابه غير ما وضع له في اللغة، ومتى لم يرد ذلك؛ دل عليه وبينه.
واحتج من فرق بينهما:
بأن الأوامر تكليف؛ فلو لم يعرف المراد به، لاقتضى تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك الخبر عن الوعد والوعيد وغير ذلك؛ لأنه لا يقتضي وجوب شيء يحتاج أن يعلم به.
والجواب: أن الخبر إنما يخاطب به لفائدة كالأمر، وإن كان فائدتهما تختلف؛ ألا ترى أنه يزجر بالوعيد ويرغب بالوعد، وذلك يقتضي العلم بمراده بها، فالحال فيهما واحدة.
ولأن المقصود وإن اختلفت جهاته؛ فلا يوجب التفريق بين الأمرين، مثلًا اختلاف المقصود في الأوامر.
فإن قيل: الخبر لا يدخله نسخ ولا تخصيص، والأمر يدخله الأمران. قيل: هذا يؤكد ما قلنا؛ لأن الأمر لما جاز أن يقع فيه النسخ والتخصيص1،
__________
1 في الأصل: "والحظر".(2/512)
ومع هذا يحمل على العموم؛ فالخبر مع امتناع وقوع النسخ أولى أن لا نحمله1 على العموم.
فإن قيل: يجوز وقوع الخبر عن مجهول، نحو قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} 2، وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 3 ثم لا يبينه أبدًا، ولا يجوز أن يأمر بمجهول، ولا يبينه في الثاني.
قيل: يجوز ذلك بأن يقول: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 [70/أ] ثم لا يبين ذلك، وتكون فائدة الأمر صحة تنزيله ووجوب اعتقاده.
__________
1 في الأصل: "أن لا يحمله ... ".
2 "58" سورة القصص.
3 "38" سورة الفرقان.
4 "43" سورة البقرة.(2/513)
يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني
مدخل
...
فصل: يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني 1
فأما المضمرات نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، و: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} 3، معلوم أنه لم يرد نفس العين؛ لأنها فعل الله تعالى؛ وإنما المراد أفعالنا فيها، فيعم تحريمها بالأكل والبيع4.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص "90"، و "شرح الكوكب المنير" ص "345"، من الملحق.
2 "3" سورة المائدة.
3 "96" سورة المائدة.
4 سبق للمؤلف ص"145" أن ذكر أن هذه الآية من قبيل المجمل مع أنه ذهب هنا إلى أنها عامة، وهذا تناقض، مع أن الصواب القول بعمومها.(2/513)
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب" 1 ليس المراد عين المسجد؛ وإنما المراد به أفعالنا، فهو عام في الدخول واللبث.
وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 2،
__________
1 هذا الحديث أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة باب الجنب يدخل المسجد "1/53".
وأخرجه ابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد "1/212".
وفي إسناد أبي داود: "فليت العامري"، قيل: فيه مجهول. ورد هذا بقول أحمد: "ما أرى به بأسًا". وقال أبو حاتم: شيخ.
أما إسناد ابن ماجه ففيه: "محدوج الذهلي"، و "أبو الخطاب الهجري" متكلم فيهما.
وعلى هذا فحديث أبي داود أصح من حديث ابن ماجه، وقد قال أبو زرعة: الصحيح حديث ميسرة عن عائشة. وقد صحح حديث عائشة ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان.
راجع: "نصب الراية": "1/193-195"، و"تلخيص الحبير": "1/139-140".
2 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه عن أبي ذر رضي الله عنه وذلك في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "1/659".
وأخرجه الحاكم عن ابن عباس في كتاب الطلاق باب: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة": "2/198"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وأخرجه الطحاوي عنه في كتابه: "شرح معاني الآثار" وذلك في كتاب الطلاق باب في طلاق المكره "3/95".(2/514)
والنسيان لا يمكن رفعه؛ لأنه قد تقضى، والمراد به حكمه، فهو عام في المأثم والحكم به.
وكذلك قوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"؛ عام في الصحة والكمال.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية صالح في الرجل يحدث نفسه بما إن سكت عنه يخاف1 أن يكون قد أشرك2، فقال: يروى
__________
= وقد أخرج هذا الحديث ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية"، وابن عدي في "الكامل" والبيهقي.
وفي كل طريق من طرقه مقال يقدح في صحته.
وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل": سألت أبي عنه، فأنكره جدًا.
وقال البيهقي: ليس بمحفوظ عن مالك، كما قال محمد بن نصر: ليس له إسناد يحتج بمثله.
وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل": "1/431": سألت أبي عنها فقال: "هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة.. ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده".
ونقل ابن حجر في "التخليص" عن النووي قوله: "إنه حديث حسن".
وقال ابن الريبع في كتابه: "تمييز الطيب من الخبيث" ص"81-82": "رواته ثقات".
ويلاحظ: أن الحديث لم يرد باللفظ الذي أورده المؤلف، وإن كان الأصوليين والفقهاء يوردونه كذلك؛ وإنما ورد بلفظ: "إن الله تجاوز.." وبلفظ: "إن الله وضع ... ".
وأقرب لفظ ورد للفظ المؤلف هو لفظ ابن عدي في "الكامل": "رفع عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه".
راجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير": "1/281-383"، و"نصب الراية": "2/64-65"، و"3/223".
1 هكذا في الأصل، وفي "المسودة" ص"91": "خاف".
2 وفي "المسودة" ص"91" زيادة: "أشرك، وذهب دينه".(2/515)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها 1 ما لم تعمل [أو] 2 تتكلم" 3 فاستعمل4 هذا في رفع المأثم، وقد استعمله في رفع الحكم في رواية.
وذهب الأكثر من أصحاب أبي حنيفة والشافعي إلى أنه لا يعتبر العموم في ذلك.
__________
1 قوله: "أنفسها"، ذكر النووي في ضبطها وجهان: الرفع والنصب وحكي عن القاضي عياض قوله: "أنفسها" بالنصب، ويدل عليه قوله: إن أحدنا يحدث نفسه. كما حكى عن القاضي عياض عن الطحاوي قوله: أهل اللغة يقولون: "أنفسها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} .
راجع: "شرح النووي على صحيح مسلم": "2/147".
2 ساقطة من الأصل، وهي ثابتة في لفظ الحديث، ولا يستقيم الكلام بدونها، وهي ثابتة أيضًا في "المسودة" عندما نقل كلام المؤلف ص"91".
3 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون "7/59" بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر "1/116-117".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطلاق باب في الوسوسة بالطلاق "1/512".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه، ولم يتكلم به "1/658" وفي باب طلاق المكره والناسي "1/659"، وزاد فيه: "وما استكرهوا عليه".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته "3/480" وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه النسائي عنه في كتاب الطلاق باب من طلق في نفسه "6/127-128".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "2/398-425، 474".
وانظر: "تلخيص الحبير": "1/282".
4 في الأصل: "فامتنع"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه، بدليل ما بعده، وبدليل مجيئه في "المسودة" ص"91"، عندما نقل عن المؤلف كلامه هنا.(2/516)
دليلنا:
أن قوله: "رفع" قد علم أنه ما أراد به نفس الفعل؛ لأن ذلك لا يمكن رفعه بعد وقوعه.
وكذلك قوله: "لا نكاح؛ إلا بولي" لا يمكن رفعه بعد وقوعه؛ وإنما أريد ما تعلق بذلك الفعل والعقد؛ فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، ويحصل تقديره كأنه قال: "رفع عن أمتي ما تعلق بالخطأ والنسيان؛ فيعم المأثم والحكم، ولا نكاح إلا بولي، يعم الكمال والصحة.
وكذلك: {لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1، قد علمنا أنه لم يرد اللفظ2 بل أراد ذلك وما هو أعلى منه؛ فصار كأنه قال: لا تقربهما بسوء.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 العبارة في "المسودة" ص"92"، هكذا: "قد علمنا أنه لم يرد تبيين اللفظ..".(2/517)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن قولنا: عموم، معناه: خطاب موضوع للجنس، ولفظ يعم الجنس، وهذا لا يوجد في المعاني والمضمرات؛ فإن المضمر والمعنى ليس بلفظ.
والجواب: أنا قد بينا أن اللفظ مراد بهذا، من الوجه الذي بينا؛ فإن قيل: فيجب أن يقولوا: إن التخصيص يدخل على المضمرات والمعاني.
قيل: هكذا نقول.(2/517)
إذا أضيف التحريم إلى ما لا يصح تحريمه كان عاما في أفعال العين المحرمة
مدخل
...
فصل: 1 لفظ التحريم إذا تعلق بما لا يصح تحريمه؛ فإنه يكون عمومًا في الأفعال في العين المحرمة
إلا ما خصه الدليل، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 3.
وحكي عن البصري المعروف بالجعل4: أن هذا اللفظ يكون مجازًا، ولا يدل على تحريم الأفعال.
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"94".
2 "3" سورة المائدة.
3 "23" سورة النساء.
وقد ذكر المؤلف ص"145" أن هاتين الآيتين من قبيل المجمل مع أنه رأى هنا: أنهما من قبيل العام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
4 هو: الحسين بن علي بن إبراهيم، أبو عبد الله البصري، حنفي المذهب، معتزلي المعتقد. مات سنة 369هـ، وله من العمر ثمانون سنة.
له ترجمة في "تاريخ بغداد": "8/73"، و "شذرات الذهب": "3/68".(2/518)
دليلنا:
أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [70/ب] قد علم أنه ما أريد به تحريم العين نفسها؛ لأن العين فعل1 الله تعالى، لا يتوجه التحريم إليها، وإنما أريد تحريم أفعالنا فيها، فصار اللفظ محمولًا على ذلك بنفسه، لا بدليل، وكل ما حمل اللفظ عليه بنفسه كان حقيقة لا مجازًا كقوله: "لا صلاة إلا بطهور" حقيقة هذا رفع الفعل؛ فلما استحال رفعه بعد وقوعه؛ كان معناه: حقيقة في رفع حكمه، كذلك ههنا.
ولأن من أراد أن يحرم على عبده أو ولده شيئًا؛ فإنه يقول: حرمت عليك هذا، فيفهم منه تحريم تصرفه فيه بنفس اللفظ، فثبت أن اللفظ نفسه دل على ذلك، فكان حقيقة.
__________
1 في الأصل: "قول الله تعالى"، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه الموافق لما نقل عن المؤلف في "المسودة" ص"94".(2/518)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ اقتضى تحريم العين نفسها؛ فإذا حمل على الفعل؛ يجب أن يصير مجازًا، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1.
والجواب: أنه وإن لم يتناول ذلك نطقًا؛ فهو المراد من غير دليل، ويفارق هذا دليل القرية ونحوه؛ لأنا لم نعلم أن المراد به أهلها باللفظ، لكن بدليل؛ لأنه لا يستحيل جواب حيطانها في قدرة الله تعالى، واحتيج إلى دليل يعرف به أنه أراد أهلها.
__________
1 "82" سورة يوسف.(2/519)
مسألة في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام
مدخل
...
مسألة: في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام 1
مثل: الإنسان، والسارق، والزاني، والقاتل، والكافر، والبيع، والصيد، والدينار، والدرهم، وما أشبه ذلك؛ فهو للجنس.
وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب طاعة الرسول، فقال: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. فالظاهر يدل على أنه من وقع عليه اسم السارق، وإن قل ذلك؛ فقد وجب عليه القطع، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع في ثَمَر ولا كَثَر"،
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"105"، و"روضة الناظر": "119-121".
2 "38" سورة المائدة.(2/519)
دل أنها ليست على ظاهرها، وأنها على بعض السراق دون بعض. فقد صرح بأن إطلاق اللفظ اقتضى العموم في كل سارق.
وبهذا قال أبو عبد الله الجرجاني وحكاه عن أصحابه1.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال مثل قوله، ومنهم من قال: هي للعهد2.
__________
1 راجع في هذا: "تيسير التحرير" 1/197.
2 المشهور من مذهب الشافعية: أن المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهو للعموم.
وهناك خلاف لبعض الأصحاب، محصله كالآتي:
أ- أنه لا يفيد العموم مطلقًا، واختاره الرازي.
ب- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، واختاره إمام الحرمين.
ج- أنه لا يفيد العموم إذا لم يكن واحده بالتاء، أو تميز واحده بالوحدة، وهو اختيار الغزالي.
راجع: "شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني": "1/412"، المستصفى "2/53-54".(2/520)
دليلنا:
أن لفظ الجمع إذا كان منكرًا، مثل: مسلمين، ومشركين، ورجال؛ كان لجمع منكر، ولم يكن للجنس، كما قال تعالى: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} 1؛ فإذا عرف بالألف واللام كان للجنس، كذلك ههنا.
ولأنه يصح الاستثناء منه بلفظ الجمع، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وهذا يدل على أنه للجنس، كألفاظ الجمع3.
__________
1 "62" سورة ص.
2 "2" سورة العصر.
3 ذكر أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" 1/244-245 جوابين عن وجه الاستدلال بهذه الآية هما:
أ- "الاستنثاء في هذه الآية جار مجرى الاستثناء من غير الجنس؛ لأنه غير مطرد، ولو كان حقيقة لاطرد.
ب- أو أن تكون الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين؛ جاز هذا الاستثناء".(2/520)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللام للتعريف عندهم؛ فإذا قال: دخلت السوق، فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل؛ كان تعريفًا لما تقدم ذكره، ولهذا قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1.
ويدل عليه [71/أ] قول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2 لن يغلب عسر يسرين3. فجعل العسر الثاني هو الأول؛ لما كان معرفًا4 بالألف واللام، وليس الثاني
__________
1 "16" سورة المزمل.
2 "5-6" سورة الانشراح.
3 هذا الأثر أخرجه الإمام مالك في كتابه "الموطأ" في كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "9/3" مطبوع مع شرح الزرقاني، أخرجه موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
كما روي مرسلًا من طريق الحسن قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا، وهو يضحك ويقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين؛ فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا".
انظر: تفسير ابن كثير": "525/4"، و "تفسير القاسمي": "6192/17".
4 في الأصل: "معروفًا".(2/521)
عين الأول، لما كان منكرًا؛ فوجب أن يكون تعريفًا لما اقتضاه الاسم، وهو واحد من الجنس، ولا يكون تعريفًا للجنس؛ لأن الاسم لا يصلح له، إذا لم يكن فيه الألف واللام؛ فلا يقتضيه، فكان تعريفًا لمقتضاه.
والجواب: عن قولهم: إنه تعريف لما يقتضيه الاسم؛ فهو منتقض باسم الجمع؛ فإنه إذا كان معرفًا كان للجنس، وإذا كان منكرًا؛ كان لبعض الجنس.
ولأن المنكر لا يصلح إلا للواحد، والمعرف يصلح للجنس، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1، وقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 2، [وقال] : {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} 3، و [قولهم] : أهلك الناس الدرهم والدينار؛ فدل على الفرق بينهما.
وأما قوله: "دخلت السوق فرأيت رجلًا، ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل"، فهو أنه ههنا رجع إلى المذكور قبله؛ لأن التعريف إذا تقدمته نكرة؛ كان الظاهر أنه راجع إليه، وتعريف له، وليس كذلك إذا لم يتقدمه نكرة؛ فإنه ليس في الكلام ما يوجب تخصيصه، فوجب حمله على تعريف الجنس4.
__________
1 "2" سورة العصر.
2 "17" سورة عبس.
3 "6" سورة الانشقاق.
4 رأيت أبا الحسين البصري ساق لهم دليلين في كتابه "المعتمد": "244/1" هما -في رأيي- أبرز ما استدل به المانعون:
الأول: أنه لا يصح تأكيده بكل وجميع، كلفظ: "من" من ألفاظ العموم فلا يصح أن تقول: "جاءني الرجل كلهم"، ولا أجمعون، ولو كان يقتضي العموم لصح توكيده بذلك.
الثاني: أنه يقبح الاستثناء منه نحو قولك: "رأيت الإنسان إلا المؤمنين"؛ ولو كان يقتضي العموم لحسن ذلك.(2/522)
الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع
مدخل
...
فصل 1 الجموع المنكرة تحمل على أقل الجمع
ألفاظ الجموع كالمشركين، والمسلمين، والقائلين، إذا لم يدخلها الألف واللام، فقيل: مشركون، ومسلمون، وقائلون، لم يحمل على العموم، ولم يكن للجنس، ويحمل على أقل الجمع، كما قال أصحاب الخصوص والعموم.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب، إذا قال: ما أحله الله علي حرام -يعني به الطلاق- أجاب: إنه2 يكون ثلاثًا، وإذا قال: أعني به طلاقًا؛ فهذه واحدة، لأن طلاقًا غير الطلاق.
فقد فرق بين دخول الألف واللام على الطلاق في أنه يقتضي الجنس، وبين حذفها في أنه لا يقتضي جنسه.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل قولنا، ومنهم من حمله على العموم واستغراق الجنس.
وحكي ذلك عن الجبائي3.
وقد أشار إليه الإمام أحمد في رواية صالح وقد سأله رضي الله عنه:
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"106"، و "شرح الكوكب المنير" ص"357" من الملحق.
2 في الأصل: "إن".
3 هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران الجبائي، أبو علي. المتكلم، الأصولي، من كبار المعتزلة. له مناظرات مع أبي الحسن الأشعري. ولد سنة 235هـ، ومات سنة 303هـ.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/241"، و"طبقات المعتزلة" ص"287-269"، و"لسان الميزان": "5/271"، و"مفتاح السعادة": "2/165"، و"وفيات الأعيان": "1/480".(2/523)
عن لبس الحرير؛ فقال: لا، إنما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرامان على ذكور أمتي" 1.
فقد حمل قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة وإن كان جمعًا ليس فيه الألف واللام.
__________
1 هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا؛ فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا، فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي": "2/373".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء "2/1189"، وزاد فيه: "حل لإناثهم".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال "8/138".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الكراهية باب لبس الحرير، بمثل رواية أبي داود. وبمثل رواية الإمام أحمد التي ذكرها المؤلف، إلا أنه زاد فيها: "حل لإناثهم": "4/250-223".
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كما نقل عنه الزيلعي في "نصب الراية" في كتاب الكراهية، فصل في اللباس "4/ 222-223".
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن ابن عمر رضي الله عنهما، وذلك في كتاب اللباس والزينة، باب ما جاء في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال دون النساء "1/355".(2/524)
وجه الأول:
أن أهل اللغة سموا هذه الألفاظ عند حذف الألف واللام منها نكرة،(2/524)
فلو كانت متناولة لجميع الجنس؛ لما كانت نكرة، بل كانت معرفة؛ لأن جميع الجنس معرف، ألا ترى أنه إذا دخلها الألف واللام لم تكن نكرة بل تكون معرفة؛ لأنه يصح تأكيدها بلفظة "ما" الدلالة [71/ب] [على] الخصوص فتقول: أقتل مشركين ما، ورأيت رجالًا [ما] ، وهذه اللفظة لا يصح دخولها على لفظ العموم، فإنه لا يصح أن تقول: أقتل المشركين [ما] ، ولا رأيت الرجال ما.(2/525)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لما صح دخول الاستثناء عليه، فخرج بعضه؛ ثبت أنه من ألفاظ العموم، كالجمع المعرف.
والجواب: أن الاستثناء يخرج البعض من الكل، ويخرج البعض من البعض، فههنا يخرج البعض من البعض، الذي هو أقل الجمع.(2/525)
مسألة إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس
مدخل
...
مسألة: 1 إذا ورد لفظ العموم الدال بمجرده على استغراق الجنس
فهل يجب العمل بموجبه واعتقاد عمومه في الحال قبل البحث عن دليل يخصه أم لا؟
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"110-111"، و"روضة الناظر" ص"126".(2/525)
فيه روايتان:
إحداهما يجب العمل بموجبه1 في الحال2، وهذا ظاهر كلام
__________
1 في الأصل: "بموجبها".
2 واختار هذه الرواية من الحنابلة: ابن عقيل وأبو بكر عبد العزيز والحلواني وابن قدامة.
راجع: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126".(2/525)
أحمد رحمه الله في رواية عبد الله لما سأله عن الآية إذا كانت عامة مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، وذكر له قومًا يقولون: لو لم يجئ فيها بيان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ توقفنا2، فقال: قوله: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 3، كنا نقف عند ذكر الولد [لا نورثه] 4 حتى ينزل الله، أن لا يرث قاتل ولا عبد5.
وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف.
وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، ذكر6 في أول كتاب التنبيه فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى أو من الرسول بحكم عام أو خاص، حكم بوروده على عمومه، حتى ترد الدلالة على تخصيصه أو تخصيص بعضه.
وفيه رواية أخرى: لا يحمل على العموم في الحال، حتى يتطلب دليل التخصيص؛ فإن وجد؛ حمل اللفظ على الخصوص، وإن لم يوجد؛ حمل حينئذ على العموم7.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه صالح وأبي الحارث وغيرهما، فقال في رواية صالح، إذا كان للآية ظاهر، ينظر ما عملت السنة؛ فهو دليل على ظاهرها، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ
__________
1 "38" سورة المائدة.
2 في "المسودة" ص"90" زيادة في الرواية هي ".. توقفنا عنده، فلم نقطع حتى يبين الله لنا فيها أو يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ... ".
3 "11" سورة النساء.
4 غير موجودة في الأصل، والمقام يقتضيها، وهي ثابتة في "المسودة" ص"90".
5 في المسودة ص"90": "أن القاتل لا يرث ولا عبد ولا مشرك".
6 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "ذكره".
7 وقد اختار هذه الرواية من الحنابلة: أبو الخطاب.
انظر: "المسودة" ص"109"، و"روضة الناظر" ص"126".(2/526)
فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت على ظاهرها؛ لزم من قال بالظاهر أن يورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان قاتلًا [أ] ويهوديًا.
وقال أيضًا فيما كتب به إلى [أبي] 2 عبد الرحيم الجوزجاني3: فأما من تأوله على ظاهر [هـ] 4 -يعني القرآن- بلا دلالة من رسول الله، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة، ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المعبر عن كتاب الله تعالى وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك.
وظاهر هذا: أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال، حتى يبحث وينظر، هل هناك دليل تخصيص5؟
واختلف أصحاب الشافعي، فذهب الأكثر منهم إلى التوقف فيه حتى ينظر.
وذهب بعضهم إلى [72/أ] العمل به في الحال.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو عبد الله الجرجاني في
__________
1 "11" سورة النساء.
2 "الزيادة" من "المسودة" ص"179"، عندما نقل كلام المؤلف.
3 هو: محمد بن أحمد بن الجراح، أبو عبد الرحيم الجوزجاني، والجوزجاني: نسبة إلى مدينة بخراسان مما يلي "بلخ"، يقال لها: "جوزجانان" والجوزجاني هذا: أحد أصحاب الإمام، وممن نقلوا عنه، كان ثقة جليل القدر.
انظر: "طبقات الحنابلة": "1/262"، و"الباب في تهذيب الأنساب": "1/308".
4 الزيادة هذه من المسودة ص"112"، وهي زيادة يقتضيها المقام.
5 من أول المسألة إلى هنا منقول بنصه في "المسودة" ص"110-112".(2/527)
كتابه: أن السامع متى سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم؛ فالواجب اعتقاد عمومه. وإن سمعه من غيره؛ لزمه التثبت وطلب ما يقتضي تخصيصه، فإن فقده حمل اللفظ على مقتضاه في العموم.
وحكى أبو سفيان في مسائله: وجوب اعتقاد عمومه من غير توقف، على الإطلاق من غير تفصيل؛ فقال في أثناء الكلام في مسألة العموم: ما تقولون في عموم اللفظ إذا ورد ابتداء هل ترجعون عند سماعه إلى الأصول في طلب دلالة التخصيص، أو تحملوا به على الاستغراق؟ فقال: نحمله على عمومه، ولو كان خصوصًا؛ لم يخله الله من بيان عند وروده من غير توقف.
فالدلالة على أنه يجب العمل من غير توقف: أن صيغة العموم إذا ورد متجردًا عن قرينة ظاهرة؛ كانت حقيقة في الجنس كله، ووجب المصير إليه قبل البحث كما قلنا في أسماء الحقائق من الأعداد وغيرها، متى وردت وجب المصير إلى موجبها، ولا يجب التوقف على ما يدل على مجازها، كذلك ههنا.
فإن قيل: لا نسلم أنها متجردة عن القرينة؛ لأن التجرد ما ثبت، وهذا كما يقول: إذا شهد عند الحاكم شاهدان، لا يعرف حالهما، فإنه لا يحكم قبل السؤال عنهما، كذلك ههنا.
قيل: الأصل عدم القرينة؛ فوجب الاعتماد على ذلك الأصل؛ لأن هذا هو الظاهر، وجرى هذا مجرى شاهدين شهدا بحق؛ فإن الحاكم يحكم بشهادتهما، وإن جاز أن يكون قد حصل هناك إبراء من ذلك الحق، أو قضاء للحق وهما لا يعلمان به؛ لأن الظاهر عدم ذلك.
وأما عدالة الشهود: فإن الظاهر يقتضي عدالتهما؛ لأن الأصل العدالة؛ ولكن لم يقتصر في الشهادة على الظاهر، ألا ترى أن الظاهر صدق الشاهد الواحد، ولكن اعتبر فيه العدد، كذلك الظاهر العدالة، لكن(2/528)
اعتبر زيادة معنى، وهو الحث، ويفارق هذا ألفاظ صاحب الشريعة؛ لأن الاعتبار فيها بالظاهرة، ألا ترى أنه يقبل خبر الواحد، ولا يبحث عن عدالته في الباطن.
فإن قيل: لا نسلم لكم أسماء الحقائق، بل نقول: يقف على الطلب؛ فإذا لم يجد ما يدل على المجاز؛ صار إليه.
قيل: إن لم نسلم الأصل فالاستدلال قائم بنفسه، وهو: أن اللفظ قد تجرد عن قرينة ظاهرة؛ لأن الأصل عدمها.
فإن قيل: فإن سلمنا لكم ذلك، ما الفرق بينهما؟ إن في العدول عنها ترك الحقيقة، وليس في تخصيص العموم ترك الحقيقة.
قيل: فيه ترك حقيقة اللفظ؛ لأنه موضوع للاستغراق، [72/ب] فلا فرق بينهما.
وطريقة أخرى، وهي1: أن هذه الصيغة ترد في عموم الأزمان، كما ترد في عموم الأعيان، ثم ثبت أن ما ورد عامًا في الأزمان؛ لزم العمل بعمومه قبل البحث عن دليل الخصوص، كذلك ما ورد عامًا في الأعيان.
فإن قيل: الفرق بينهما: أن ما يخص الزمان نسخ، والنسخ يرد بعد ورود الصيغة، ولا يصح أن يرد معها ولا قبلها؛ فلهذا ألزم العمل بموجبها، وليس كذلك تخصيص العموم؛ لأن ما يخصه يرد معه أو قبله، فلهذا لم يعتقد وجوبه قبل البحث.
قيل: وقد يرد بعده؛ لأن تأخير البيان جائز؛ فإذا لم تكن هناك قرينة ظاهرة، فالأصل عدمها.
وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن يقول: إذا سمع العموم من
__________
1 في الأصل: "وهو".(2/529)
غير النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يلزمه بعمومه في الأزمان؛ لأنه يجوز أن يكون النسخ معه، ولكن الراوي لم يعرفه، ومع هذا فإنه يجب اعتقاده في العموم في الأزمان في الحالين؛ فبطل ما قاله.
ولأن من قال بهذا يلحق بأصحاب الوقف؛ لأنه لا يحكم حتى ينظر دليل التخصيص، كما يفعل أصحاب الوقف.
فإن قيل: [إن] احتاج العبد إلى استعماله؛ فله أن يحمله على الاستغراق، دون بيان زائد، وعندهم: لا يجوز.
قيل: إذا حمله على الاستغراق، قبل أن ينظر دليل التخصيص، كان رجوعًا عن المسألة.
والقائل الأول يجيب عن هذا: بأن أهل الوقف يقفون فيه بعد البحث، حتى يرد لفظ صريح، أنه أراد العموم.
وقد ذكر بعض من نصر هذه الطريقة أشياء أخر، لا تلزم المخالف.
منها: أن الأصول غير محصورة؛ فلا يمكن المجتهد أن ينظر في جميعها؛ وإنما ينظر في بعضها، ويجوز أن يكون قد بقي شيء لم يبلغه نظره، ويكون ذلك الباقي فيه ما يدل على التخصيص، فيفضي إلى الوقف في العموم أبدًا، ويدخل في وقف الأشعري، وهذا لا يلزم المخالف؛ لأن الحاكم إذا توقف عن الحكم بشهادة الشاهدين حتى يسأل عنهما، وجب أن يتوقف أبدًا، كذلك ههنا.
ولأنه لا يمتنع أن يكون النظر الأول مستحقًا دون التكرار، ألا ترى أن الحاكم إذا نزلت به نازلة ليس فيها نص ولا إجماع، وجب أن يجتهد، وينظر فما غلب على ظنه حكم به، ولا يجب أن يكرر النظر، كذلك ههنا.
ولا يفضي ذلك إلى مقالة الأشعرية؛ لأن هذا القائل يقول: إذا لم(2/530)
يجد في الأصول ما يخصه، حمله على عمومه، والأشعرية لا تقول ذلك، وتتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما دون الآخر.
وذكر أيضًا: أن السامع للعموم لا يمكنه أن يخلو من الاعتقاد؛ فإما أن يعتقد عمومه أو خصوصه، ولا يجوز أن يعتقد الخصوص؛ فوجب اعتقاد العموم.
وهذا لا يلزمه [73/أ] أيضًا؛ لأن هذا القائل يقول: يعتقد عمومه أن تجرد عما يخصه؛ فلا يقطع باعتقاد العموم، والمعتمد لنصرة هذا القول: ما ذكرناه.
واحتج من قال بالوقف1:
بأن الدلالة على العموم وجود الصيغة المتجردة عن دليل التخصيص، والتجرد لم يثبت لجواز أن يكون في الأصول لفظ أو معنى يوجب التخصيص، فوجب الوقف.
__________
1 لم يقل أحد بالوقف في العصور الثلاثة الأولى؛ وإنما قال بذلك قوم جاءوا بعد ذلك. وهذا رأي، يؤدي الأخذ به إلى تعطيل النصوص العامة، وترك العمل بها.
على أن هناك كثيرًا من القضايا استدل الصحابة على حكمها بالعام، وما توقفوا، ولا رد أحدهم دليل مخالفة بمثل هذا.
والعجب أن حجة الإسلام الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب -رحمه الله تعالى- حكوا الإجماع على التوقف، والمنع من الاستدلال بالعام، حتى يبحث عن المخصص.
وحكاية الإجماع هذه مردودة بما هو مسطور في كتب أصول الفقه التي تحكي الخلاف الكبير في المسألة.
راجع: أصول السرخسي "1/132"، وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت "1/267"، ونهاية السول "2/403"، وفواتح الرحموت "1/267".(2/531)
والجواب: أنا قد بينا أن الأصل عدم القرينة، وأن الظاهر تجرده، ولأن هذا يلزم عليه الأعداد وغيرها من أسماء الحقائق، ويلزم عليه الزمان؛ فإن هذا الاحتمال موجود فيه من الوجه الذي ذكرنا، ومع هذا يجب العمل بعمومه؛ فبطل هذا.
واحتج: بأن من سمع قول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، لا يخلو إما أن يقول: يلزمه أن يعتقد عمومه، فأمره باعتقاد خلق القرآن وهذا اعتقاد باطل، وإن قال: انظر في الدلالة، فقد ترك قوله.
والجواب: أن هذا الظاهر مع قرينة ظاهرة من جهة العقل؛ يمتنع اعتقاد عمومه في خلق القرآن وصفات الله تعالى؛ فلهذا لم يجز حمله على عمومه، وخلافنا في عموم خلا عن دلالة ظاهرة عقلًا أو شرعًا.
وأما أصحاب أبي حنيفة2؛ فإنهم اعتمدوا في الفرق بين أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ فإنه يجوز أن يكون في أدلة الشرع ما يمنع العموم، فلهذا يوقف حتى ينظر، وإذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه بيان الحكم، [و] لو كان في الشرع ما يمنع حمل اللفظ على العموم لبينه حال خطابه3.
والجواب: أنه يجوز تأخير البيان عندنا.
__________
1 "62" سورة الزمر، والآية في الأصل: {واللَّهُ خَالِقُ..} ، بإثبات الواو، وهو خطأ، والصواب حذفها متابعة لما في المصحف الشريف.
2 هنا تسامح في التعبير؛ وإلا فهذا الرأي لبعض أصحاب أبي حنيفة، وقد سبق للمؤلف قريبًا أن حكى هذا الرأي عن الجرجاني.
3 الذي استقر الأمر عليه من مذهب الحنفية في هذه المسألة هو: القول بوجوب العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص. صرح بهذا صاحب "فواتح الرحموت": "1/267".(2/532)
مسألة العموم إذا دخله التخصيص فهو حقيقة فيما بقي
مدخل
...
مسألة 1 العموم إذا دخله التخصيص؛ فهو حقيقة فيما بقي
ويستدل به فيما خلا المخصوص.
وكلام أحمد رحمه الله يدل على هذا؛ لأنه احتج فيمن ابتاع عبدًا أو أمة واستعملت ثم ظهر على عيب، أنه يرده، ويمسك الغلة2؛ لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" 3،
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"115-116"، و"روضة الناظر" ص"124-125".
2 الرد وإمساك الغلة واضح في العبد وفي الأمة في غير النكاح.
أما في النكاح فلا يخلو الأمر من حالين:
أولاهما: أن تكون الأمة ثيبًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فله ردها، وليس معها شيء وفي رواية أخرى لا يجوز الرد.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ردها، ومعها أرش، واختلفوا في تقدير الأرش.
فعن أحمد: لها مهر المثل، ذكره ابن أبي موسى عنه.
ثانيهما: أن تكون الأمة بكرًا، فوطئها المشتري قبل العلم بالعيب؛ فهناك عن أحمد روايتان:
الأولى: أنه لا يجوز له الرد، وله أخذ أرش العيب، وهو الصحيح عند الإمام أحمد كما قال ابن أبي موسى.
الثانية: يجوز له ردها، ومعها شيء، وهو: ما نقص من قيمتها بسبب الوطء.
انتهى ملخصًا من "المغني" لابن قدامة "4/131-133".
3 هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، أخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب فيمن اشترى عبدًا، فاستعمله، ثم وجد به عيبًا "1/254"، بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء فيمن يشتري العبد، ويستغله؛ لم يجد به عيبًا؛ "3/572-573"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، ولفظه: "قضى أن الخراج بالضمان".(2/533)
وهو مخصوص بلبن المصراة1، فإنه إذا ردها رد قيمة
__________
= وأخرجه النسائي في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان "7/223"، بمثل لفظ الترمذي.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الخراج بالضمان "2/754"، بمثل لفظ المؤلف، وبلفظ: "قضى أن خراج العهد بضمانه" الذي سيذكره المؤلف بعد قليل.
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده": "6/49، 208، 237".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الرقيق، وأن الكسب الحادث لا يمنع الرد بالعيب، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان": "1/164".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع باب بيع المصراة "4/21-22".
وأخرجه ابن حبان، كما نقل ذلك الهيثمي في كتابه: "موارد الضمان إلى زوائد ابن حبان"، في كتاب البيوع باب الخراج بالضمان ص"275".
وقد تكلم ابن حجر على إسناد هذا الحديث في كتابه: "تلخيص الحبير": "3/22"، وذكر: أن ابن القطان صححه، كما نقل عن ابن حزم قوله: "لا يصح".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "3/503"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"456"، و"كشف الخفاء": "1/451-452"، و"تيسير الوصول إلى جامع الأصول": "1/75-76".
1 "التصرية" في اللغة مأخوذة من "الصري"، وهو الحبس، ومنه المصراة، وهي التي حبس لبنها في ضرعها.
انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري "2/293"، و"المصباح المنير": "1/518-519".(2/534)
اللبن1، وإن كانت مضمونة عليه.
فقال في رواية عبد الله: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن خراج العبد بضمانه"2، أذهب إليه، في العبد له وجهه، وفي المصراة له وجهه، لهذا وجه، ولهذا وجه.
واحتج أيضًا بحديث حكيم بن حزام3 "في بيع ما ليس عنده" وهو مخصوص بالسلم.
قال رحمه الله في رواية الميموني: لو ضربت بعضها ببعض رددت أحدهما؛ حكيم ببيع شيئًا حاضرًا، والسلم يبيع بصفة.
واحتج: أيضًا رحمه الله بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر
__________
1 قيمة اللبن: صاع من تمر، كما جاء في الحديث: "إن شاء ردها وصاعًا من تمر".
وذهب قوم إلى: أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد؛ لأن التنصيص على التمر في الحديث؛ لأنه غالب قوت أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب فريق ثالث: إلى أن اللبن يقوم كسائر المتلفات.
راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "4/123".
2 هذه رواية من روايات حديث: "الخراج بالضمان"، بل هي رواية ابن ماجه، وقد سبق التنبيه على ذلك في الحديث المذكور.
3 هو: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.. القرشي الأسدي، أبو خالد من أشراف قريش جاهلية وإسلامًا. أسلم في الفتح. اشتهر بالفضل والتقى، ولد بالكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أو اثنتى عشرة سنة. ومات بالمدينة سنة 54هـ وعمره 120 سنة.
انظر ترجمته في "الاستيعاب": "1/362"، و "الإصابة" القسم الثاني ص"112" طبعة دار نهضة مصر.(2/535)
حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس1" وهو مخصوص عنده بالفوائت2، وبركعتي الطواف3 والصلاة على الجنازة4،
__________
1 أحاديث النهي عن الصلاة في هذين الوقتين رواها كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم.
وقد أخرج ذلك البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس "1/143".
وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها "1/566-567".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر "1/434-344".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة "1/293-294".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر "1/395-396".
وأخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح، وباب النهي عن الصلاة بعد العصر "1/222-223".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة باب النهي عن الصلاة بعد صلاتي الصبح والعصر "1/75".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير" للمناوي "6/318"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"204"، و "نصب الراية": "1/252".
2 هكذا هو في كتاب: "المغني" لابن قدامة "2/90"، وبه أخذ النخعي والشعبي وحماد والأوزاعي وابن المنذر وأبو ثور وإسحاق.
3 هو كذلك في "المغني" لابن قدامة "2/91"، وقد فعله ابن عمرو وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم. وبه قال عطاء وأبو ثور وجماعة.
4 الصلاة على الجنازة في الأوقات المنهي عنها على قسمين:
القسم الأول: متفق عليه، وهو: الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، =(2/536)
وإعادة الصلاة في الجماعة1.
وقد صرح بذلك رضي الله عنه في رواية حنبل وصالح فقال: [73/ب] "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي جملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" وقال: "من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها" 2؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد
__________
= وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ حكاه ابن المنذر إجماعًا، وقال ابن قدامة: لا خلاف فيه.
القسم الثاني: مختلف فيه، وهو: الصلاة عليها حين بزوغ الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
ففي الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة خلاف، وعن أحمد روايتان:
إحداهما: لا تجوز الصلاة، واختارها القاضي أبو يعلى، وهي المذهب.
الثانية: تجوز الصلاة؛ حكاها أبو الخطاب.
راجع في هذا: "المغني" لابن قدامة "2/91-92".
1 إعادة الصلاة في الجماعة جائز عند الإمام أحمد رحمه الله، واختار ذلك الخرقي، حيث أطلق الكلام في ذلك. واشترط أبو يعلى: أن تكون الجماعة مع إمام الحي. انظر: "المغني" لابن قدامة "2/92".
2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة "1/143".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة "1/424".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس "1/353-354"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر "1/98".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة باب وقت الصلاة في العذر والضرورة =(2/537)
العصر، يستعمل كل خبر منها على وجهه، ولا يضرب أحدهما بالآخر؛ فلهذا وجه لا يبتدأ بصلاة بعد العصر متطوعًا بها، ولو أدرك صلاة فائتة، صلاها بعد العصر، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها"، فقد صرح بالأخذ بالنهي، مع حصول التخصيص فيه.
وبهذا قال أصحاب الشافعي1.
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فحكى أبو عبد الله الجرجاني في كتابه عن عيسى بن أبان: أنه مجاز
__________
= 1/229.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعتين من العصر، "1/205-206". وقد أخرجه بمثل لفظ الجماعة بتعيين ركعة واحد في صلاة الصبح، ومثلها في صلاة العصر، غير أنه ساق رواية أخرى بلفظ: "من أدرك ركعتين من صلاة العصر، قبل أن تغرب الشمس أو ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصبح أو العصر قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها؛ فقد أدركها "1/74".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"101"، و "نصب الراية": "1/228-229".
1 ليس هذا قول كل أصحاب الشافعي، بل هو قول أكثرهم، كما عبر الجلال، أو كثير منهم، كما عبر الآمدي، وقد اختار البيضاوي وابن الحاجب: أنه مجاز.
راجع: "حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/5-6"، و "نهاية السول شرح منهاج الأصول": "2/394-395"، و "الإحكام" للآمدي: "2/209-210".
ونقل الغزالي في كتابه: "المنخول" ص"153"، عن الإمام الشافعي في العام إذا دخله التخصيص "أنه حقيقة في الباقي، يجب العمل به".(2/538)
ويمنع من التعلق بظاهره، ولم يفصل بين الدليل المتصل وغيره1.
وحكي عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: يصير مجازًا إذا كان المخصص له منفصلًا، ولا يوجب ذلك إذا كان متصلًا.
وحكي عن أبي بكر الرازي: أنه حقيقة فيما بقي، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة2.
وحكي عن المعتزلة والأشعرية: أنه يصير مجازًا، ولا يحتج به3؛ وإنما يصح هذا على قول الأشعرية، إذا علم أن العموم غير مراد؛ لأن عندهم: لا صيغة للعموم4.
__________
1 بل روي عنه مفصلًا، حيث قال: إن خص بمتصل غير مستقل، فهو حجة، وإلا فلا.
راجع: "فواتح الرحموت": "1/308".
وقد رأيت في "فواتح الرحموت": "1/311": أن الحنفية لا خلاف بينهم في أن العام المقرون بشرط أو صفة أو غاية أو استثناء ليس مجازًا.
وعلى هذا يبقى خلافهم مع المذاهب الأخرى فيما لو خص بمنفصل.
2 هكذا نقل عنه الآمدي في "الإحكام" "2/209"، و "فواتح الرحموت": "1/311"، وكذلك "المسودة" ص"116".
إلا أن صاحب فواتح الرحموت نقل عنه رأيًا آخر، محصله: أن العام المخصص حقيقة إن بقي غير منحصر، وبين بعد ذلك: أن الرأي الأول هو الذي نقله الحنفية عنه، وهم أدرى بأقواله.
3 ليس هذا مذهب المعتزلة كلهم؛ بل مذهب كثير منهم، فقد ذهب أبو الحسن البصري إلى غير هذا، كما نقل عن عبد الجبار خلاف ما هنا، كما سيأتي.
4 المؤلف هنا خلط بين مسألتين:
الأولى: هل العلام بعد التخصيص حقيقة أو مجازًا؟
الثانية: هل العام بعد التخصيص حجة أو لا؟(2/539)
............................................................................................................
__________
= وقد ذكر المؤلف في المسألة الأولى أربعة آراء:
1- حقيقة مطلقًا.
2- مجاز مطلقًا.
3- حقيقة إن خص بمتصل، مجاز إن خص بمنفصل.
4- حقيقة إذا كان الباقي جميعًا.
وهناك أربعة آراء، لم يذكرها المؤلف هي:
1- إن خص العام بدليل لفظي هو حقيقة، وإلا فلا.
2- إن خص العام بشرط أو صفة؛ فهو حقيقة؛ وإلا فلا، وهو للقاضي عبد الجبار من المعتزلة.
3- يكون حقيقة في الباقي، مجاز في الاقتصار عليه.
4- إذا خص العام بدليل متصل، من شرط أو استثناء؛ فهو حقيقة، وإلا فلا، وهو منسوب للقاضي أبي بكر.
أما المسألة الثانية وهي: هل العموم حجة بعد التخصيص أو لا؟ فالكلام في مقامين:
المقام الأول: إذا خص العام بمبهم، فقد نقل الآمدي الاتفاق على عدم الاحتجاج به. وتعقب بأن هناك خلافًا، وقد نقله ابن برهان، ورجح كونه حجة.
المقام الثاني: إذا خص بمعين، وهذا فيه آراء ثلاثة:
1- حجة مطلقًا، وهو منسوب للفقهاء، واختاره القاضي أبو يعلى كما هنا، كما اختاره أبو الخطاب.
2- غير حجة مطلقًا، وهو منسوب لعيسى بن أبان وأبي ثور.
3- التفصيل، والمفصلون لهم آراء كثيرة، أشهرها:
أ- حجة إن خص بمتصل، وهو منسوب للكرخي.
ب- حجة إن لم يمتنع المخصص من تعلق الحكم بالاسم العام، وإليه مال أبو الحسن البصري.
ج- حجة في أقل الجمع.
راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/282-294"، و"الإحكام" للآمدي "2/209"، و"فواتح الرحموت": "1/311"، و"حاشية البناني مع شرح جمع الجوامع": "2/6-7"، و"المسودة" ص"116".(2/540)
فالدلالة على أنه حقيقة في الباقي: ما روي أن فاطمة رضي الله عنها احتجت بقول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1؛ فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية2، وإن كان قد خص منها: الولد الكافر، والرقيق، والقاتل؛ وإنما خصوا منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة خاصة3، فدل على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يخص منه.
وكذلك روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية4، وحرمتهما آية5، وكل واحدة من الآيتين دخلها التخصيص6.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 سبق تخريج هذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنه ص"493".
3 وذلك ما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث؛ ما تركناه صدقة"، متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
4 يشير إلى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية، كما ذهب إليه القرطبي في "تفسيره": "5/117"، وقال الجصاص: المراد قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ذلك في كتابه: "أحكام القرآن": "3/74".
5 يشير إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ... إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية.
6 هذا الأثر نسب إلى عثمان رضي الله عنه، وفيه لما سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين قال: "لا آمرك، ولا أنهاك، أحلتهما آية، وحرمتهما آية".
وقد روى الشعبي عن علي رضي الله عنه قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى". كما روي عنه أنه لما سئل عن قوله: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية"، قال: "كذبوا". وهذا كما قال الجصاص: "محمول على نفي المساواة في مقتضى الآيتين".
وكون حرمتهما آية، وأحلتهما آية: إنما هو في الظاهر؛ وإلا فلا يمكن بحال أن يجتمع في محل واحد التحليل والتحريم. ويمكن أن يحمل عليه قول علي رضي الله عنه: "كذبوا"، كما أشار إليه الجصاص.
ونقل هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه.
راجع في هذا: "تفسير القرطبي": "5/117"، و"أحكام القرآن" للجصاص "3/74-75".(2/541)
وأيضًا فإن اللفظ فيما عدا الخصوص حقيقة؛ لأن اسم المشركين يقع حقيقة على من بقي بعد التخصيص؛ فوجب أن تكون دلالة اللفظ قائمة بعد التخصيص، كهي قبل التخصيص.
وقيل: بأن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه، وهي فيما عداه باقية؛ لأنه لا معارض فيه؛ فجاز الاحتجاج به.
ولا يلزم على هذا العلة إذا خصت، أنه لا يجوز الاحتجاج بها؛ لأنها إذا خصت؛ كانت منتقضة، ولم تكن علة، كذلك الحكم، وليس كذلك العموم؛ فإنه إذا خص منه شيء كانت دلالته باقية، فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلًا في جميع ما تناوله الخبر؛ لكونه قولًا لصاحب الشريعة، لا معارض، وهذا موجود فيما لم يخص منه.
[74/أ] وأيضًا: فإن دلالة التخصيص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة؛ فلما كان الاستثناء غير مانع من بقاء دلالة اللفظ فيما بقي، وصارت الجملة مع الاستثناء عبارة عن الباقي بالاتفاق، كذلك لفظ العموم، يصير مع دلالة التخصيص عبارة عما عدا الخصوص.
فإن قيل: إنما كان كذلك في الاستثناء؛ لأن الاستثناء يصير مع الجملة عبارة عن الباقي؛ لأن التسعة لها اسمان:
أحدهما تسعة، والآخر عشرة إلا واحدًا؛ فأيهما عبر عنهما؛ كان الاسم حقيقة فيها، كما أنه لا فرق بين أن يقول: اثنان، وبين أن يقول: واحد(2/542)
وواحد، في أن العبارتين تفيدان معنى واحدًا، وكذلك: دلالة التخصيص إذا كانت مقارنة، ويفارق المنفصل؛ لأنه لا يجعل كالمتصل، كما لم يفعل ذلك في الاستثناء.
قيل: وكذلك التخصيص المنفصل يصير مع الجملة عبارة عن الباقي، كالتخصيص المتصل، ولا فرق بينهما.(2/543)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن اللفظ صار مستعملًا في غير ما وقع له؛ فاحتاج إلى دليل يدل على أن المراد به بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه، يحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يستعمل في غير ما وضع له؛ لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده، وللخصوص بقرينة، وهذا غير ممتنع في اللغة، ألا ترى أنا أجمعنا: أنه موضوع بمجرده للعموم، وللخصوص بقرينة متصلة به، مثل الاستثناء، وكذلك يقول القائل: خرج زيد، فيكون إخبارًا عن خروجه، ويضم إليه "ما" فيكون إخبارًا عن ضده، وتضيف إليه ألفًا، فيكون استفهامًا، وذلك حقيقة، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن لا يكون في اللغة مجاز، ويقال: قولنا: "بحر"، موضوع للماء الكثير بمجرده، وللعالم أو الجواد بقرينة، وكذلك: "الأسد"، موضوع للبهيمة بمجرده، وللرجل الشديد بقرينة، و "الحمار" موضوع للبهيمة بمجرده، وللبليد بقرينة.
قيل: إن لزمنا هذا في التخصيص؛ لزمك في الاستثناء، فإن المخالف يقول في الاسثتناء ما نقول نحن في التخصيص.
وجواب آخر وهو: أن هذه المواضع أثبتناها مجازًا بالتوقيف من جهة أهل اللغة؛ فليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف، ولا يشبه(2/543)
هذا المجمل؛ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء، والعموم دال على ما تناوله؛ وإنما خرج بعضه بدليل أقوى منه، وبقي الباقي على موجب اللفظ.
ولا يشبه هذا استعمال اللفظ في الرجل الشجاع سبعًا، والبليد حمارًا، أنه مجاز؛ لأنه عدل باللفظ عما وضع له في أصل اللغة، وههنا لم يعدل باللفظ فيما بقي عما وضع له؛ لأن اسم المشركين حقيقة [74/ب] فيما بقي.(2/544)
مسألة يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
مدخل
...
مسألة 1: يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد 2
خلافًا لأبي بكر الرازي، فيما حكاه الجرجاني عنه وأبي بكر القفال
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"116-117"، و"روضة الناظر" ص"125"، و"شرح الكوكب المنير" ص"181".
2 قال أبو البقاء الفتوحي: "وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأصحابه، ونقل عن ابن مفلح قوله: "يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد عن أصحابنا". وقد اختاره ابن قدامة.
وبهذا قال مالك فيما حكاه عنه القاضي عبد الوهاب.
وبه قال بعض الشافعية، واختاره منهم: أبو إسحاق الشيرازي، وهو مختار الحنفية.
راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص"224"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/3"، و"اللمع" للشيرازي ص"17"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "1/306"، و"روضة الناظر" ص"125".
ويلاحظ: أن القاضي هنا اختار القول بتخصيص العموم إلى أن يبقى واحد. ولكن في "المسودة" ص"117" نقل عنه قوله في "الكفاية": "إنه لا يجوز تخصيص جميع ألفاظ العموم؛ إلا أن يبقى كثرة، وإن لم يقدر؛ إلا أن تستعمل في الواحد على سبيل التعظيم".
وكذلك نسب أبو البقاء هذا الرأي إليه، وذلك في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص"181".(2/544)
في قولهما: يجوز تخصيص لفظ الجمع، إذا كان الباقي جمعًا في الحقيقة، ولا يجوز النقصان منه إلا بما يجوز به النسخ1.
__________
1 بقي بعض الآراء في المسألة لم يذكرها المؤلف، وهي:
أ- يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد، إن لم يكن لفظ العام جمعًا. واختاره عبد الوهاب بن السبكي في كتابه "جمع الجوامع".
ب- وقيل: يجوز إلى أقل الجمع. واختلف في أقل الجمع؛ فقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان.
ج- وقيل: يجوز إلى أن يبقى قريب من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص، وبه قال ابن حمدان من الحنابلة.
د- وقيل: يجوز تخصيصه إلى أن يبقى كثرة، وإن لم تقدر، وبه قال أبو يعلى في كتابه "الكفاية".
هـ- وقيل: يجوز إلى أن يبقى أفراد العالم بعد التخصيص غير محصورة.
و وقيل: يجوز تخصيصه إلى الأكثر، وفسر الأكثر بالزائد على النصف.
راجع في هذا: "شرح الكوكب المنير" ص"181"، و"المسودة" ص"117"، و"شرح الجلال على جمع الجوامع": "3/2"، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت": "306/1".(2/545)
من عبيد أو دواب فهو لفلان إلا كذا وكذا، حتى يبقى واحد.
ولأن القرينة المتصلة بمنزلة المنفصلة؛ لأن كلام صاحب الشريعة، وإن تفرق؛ فإنه يجب ضم بعضه إلى بعض، وبناء بعضها على بعض؛ فإذا كان كذلك وكان المتصل صحيحًا ما بقي من اللفظ شيء، كذلك التخصيص.(2/546)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن لفظ الجمع موضوع للثلاثة فصاعدًا؛ فإخراج اللفظ عن الثلاثة إخراج عن موضوعه وترك الحقيقة، وهذا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ، ويكون بمنزلة إسقاط حكم جميع اللفظ.
والجواب: أنه يجوز عندنا ترك حقيقة اللفظ وصرفه إلى المجاز والاتساع بما يجوز التخصيص به، ولا يكون بمنزلة النسخ؛ وإنما يكون بمنزلة التخصيص، ولهذا نقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1، إن المراد به: موضع الصلاة2، ونحمله على المجاز بضرب من الاستدلال.
وعلى أنه إذا وجب بناء بعض كلامه على بعض، وجب أن تكون
__________
1 "43" سورة النساء.
2 هذا أحد الآراء، وقد اختاره ابن عباس وابن مسعود، وبه قال الإمام الشافعي، ويكون الكلام على تقدير مضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، وذلك سائغ في لغة العرب، وقد جاء في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، والمعنى: مواضع صلوات، التي هي المساجد.
وذهب فريق ثانٍ إلى أن المراد بالآية: الصلاة نفسها.
وذهب فريق ثالث إلى أن المراد بالآية: الصلاة وموضعها، لما بينهما من الملازمة.
راجع: "تفسير القرطبي": "5/202"، و"تفسير الفخر الرازي": "10/102-103".(2/546)
القرينة المنفصلة بمنزلة المتصلة، وتكون بمنزلة الاستثناء؛ فلا يكون ذلك تركًا لموضوع اللفظ وحقيقته.
فإن قيل: أليس من مذهبكم: أنه لا يجوز رفع الأكثر بالاستنثاء وكذلك لا يجوز في التخصيص؟
قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف؛ لأنه يجوز الاستثناء ما بقي من اللفظ شيء، وأما على أصلنا؛ فلا يعتبر أن يبقى لفظ الجمع؛ لأنه لو قال: له علي عشرة إلا ستة؛ فقد1 بقي لفظ الجمع وزيادة، ولا نجيزه؛ وإنما امتنع أن يرفع بالاستثناء الأكثر أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة منعوا من استثناء الأكثر. وسنبين ذلك في مسائل الاستثناء إن شاء الله تعالى2؛ فأما في تخصيص العموم؛ فلم يُرَ عنهم منع ذلك.
وجواب آخر وهو: أن التخصيص أوسع؛ لأنه يصح منفصلًا ومتصلًا، والاستثناء لا يكون إلا متصلًا؛ ولأن التخصيص من جنس ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص هو تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع [75/أ] الجملة.
__________
1 في الأصل "قد".
2 وذلك ص"659-683".(2/547)
مسألة يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل
مدخل
...
مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل
نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، ومعلوم أنه لم
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة": "118-119"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"182-183".
2 "62" سورة الزمر.(2/547)
يخلق نفسه، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 1، ولم يدخل تحته الصبيان والمجانين.
وقد تكلم الإمام أحمد رحمه الله فيما خرجه في محبسه على قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 فقال: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظم الرب شيء، أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والوشي والأماكن القذرة، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 3.
فقد عارض الظاهر بالعقل والشرع، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال قوم: لا يجوز ذلك4.
دليلنا: أنه يفضي بنا العلم، كالكتاب والسنة المتواتر والإجماع؛ فلما جاز تخصيص العموم بالكتاب والسنة والإجماع، كذلك يجوز تخصيصه بدليل العقل.
__________
1 "21" سورة البقرة.
2 "3" سورة الأنعام.
3 "16" سورة الملك.
4 ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/267" إلى طائفة شاذة من المتكلمين، ومما يجدر ذكره: أن الإمام الشافعي رحمه الله، لم يسمه تخصيصًا؛ لأن ما خصصه العقل لا يشمله حكم العام عنده.
وعلى هذا فالخلاف بينه وبين الجمهور لفظي؛ لأن ما خصصه العقل عند الجمهور لا يدخل تحت لفظ العام عند الشافعي حتى يحتاج إلى تخصيص.
انظر: "الرسالة" ص"33"، و "شرح الجلال على جمع الجوامع": "2/24-25".(2/548)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه لو جاز تخصيص العموم بالعقل؛ لجاز نسخه بذلك، كما أن الكتاب والسنة والإجماع لما جاز التخصيص بها جاز النسخ بها.
والجواب: أن القياس يخصص به، ولا ينسخ، وكذلك الإجماع، وعلى أن النسخ إنما لم يجز بالعقل؛ لأن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل يجوز بقاء الحكم من غير زوال؛ فلا يجوز أن يكون له تأثير في إزالة ما يجوز بقاؤه، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه بيان مراد المخاطب، وهذا المعنى يصح ثبوته بدليل العقل، ألا ترى أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} 1، وكان مخصوصًا في المكلفين، دون الأطفال والمجانين، وكان خصوصه معلومًا بدليل العقل.
وجواب آخر وهو: أن دليل العقل له تأثير فيما هو في معنى النسخ، وإن لم يسم نسخا؛ لأن معنى النسخ هو المنع من أن يلزم في المستقبل، مثل ما كان لازمًا فيما مضى من الوقت، وهذا يثبت بدليل العقل، ألا ترى أن دليل العقل يمنع من لزوم الفرض عند العجز عنه، كما يمنع من ذلك دلالة السمع، إلا أن ذلك لا يطلق عليه اسم النسخ؛ لأن اسم النسخ يختص بما كان ثابتًا من جهة السمع دون العقل، ألا ترى أن فرض التوجه إلى بيت المقدس، لما كان ثابتًا من جهة السمع؛ كان زواله نسخًا؟
وأن إباحة شرب الخمر، لما لم تكن ثابتة من جهة السمع، لكن من جهة العقل؛ لم يسم زوالها نسخًا؛ فإذا كان كذلك، وكان سقوط التكليف بدلالة العقل غير ثابت من جهة السمع؛ لم يكن نسخًا، ولم تجر عليه هذه التسمية، وإن كانت تجري عليه لو كان [75/ب] متعلقًا بدلالة من جهة السمع.
__________
1 "1" سورة النساء.(2/549)
واحتج بأن دلالة العقل مقدمة على العموم، والتخصيص إنما يكون بما يقارب العموم أو يتأخر عنه.
والجواب: أنه يجوز أن يتقدم دليل الخطاب على العموم؛ لأن الدليل يجوز أن يتقدم عن مدلوله1؛ ألا ترى أن الدليل قد دل على أن الله يثيب المؤمنين بالجنة، ويعاقب الكفار بالنار؟ وإن كان مدلول هذا الدليل متأخرًا عن دليله، كذلك لا ينكر أن يسبق دلالة التخصيص لفظ العموم.
واحتج بأن التخصيص بمنزلة الاستثناء، ثم لا يجوز أن يتقدم الاستثناء الجملة، كذلك دليل التخصيص.
والجواب: أن تقدم الاستثناء لا يفيد شيئًا، ألا ترى أنه لو قال: "زيدًا"؛ لم يكن لهذا الكلام معنى؟
وأما التخصيص فإن انفراده قد يكون مفيدًا؛ ألا ترى أنه لو قال: خطابي إنما يتناول العقلاء دون الأطفال والمجانين؛ لكان هذا كلامًا مفيدًا، كذلك إذا تقدمت دلالة العقل على هذا المعنى، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2 كان ذلك مخصوصًا بالعقلاء، بدلالة العقل السابقة للخطاب، وهكذا كل عموم هذه صفته؛ فإن دليل العقل يكون مخصصًا، لمنع كونه متقدمًا عليه.
__________
1 في الأصل: "من أوله".
2 "21" سورة البقرة.(2/550)
مسألة يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد
مدخل
...
مسألة 1: يجوز تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد
سواء كان العموم قد
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"119"، و"روضة الناظر" ص"127-129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205-206".(2/550)
دخله التخصيص، أو لم يدخله.
نص على هذا رحمه الله في رواية عبد الله في الآية إذا كانت عامة، ينظر ما جاءت به السنة؛ فتكون السنة هي دليلًا على ظاهر الآية، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1؛ فلو كانت الآية على ظاهرها؛ ورث كل من وقع عليه اسم ولد، وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا أو عبدًا أو قاتلًا؛ فلما جاءت السنة أنه لا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ولا يرث قاتل ولا عبد؛ كانت هي دليلًا على ما أراد الله تعالى من ذلك، ونحو هذا قال في رواية [أبي] عبد الرحيم الجوزجاني.
وهو قول أصحاب الشافعي2.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان العموم قد دخله التخصيص بالاتفاق3؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن دخله التخصيص؛ لم يجز تخصيصه بخبر الواحد4.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 وهذا القول نسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "301/2" إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، واختاره. وحكاه عبد الوهاب بن السبكي في "جمع الجوامع": "27/2" عن الجمهور، واختاره، كما حكاه القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"208" عن المالكية والشافعي وأبي حنيفة.
3 وهو الذي خص بمقطوع؛ فإنه متفق على القول به.
4 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/349"، و"أصول السرخسي": "1/133، 142".
وقد رأيت الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/301"، وابن السبكي في: "جمع الجوامع": "2/27-28" ذكرا عن الكرخي قوله: "إن خص العام بمنفصل؛ جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يخص أو خص بمتصل؛ فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.(2/551)
وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يجوز التخصيص بخبر الواحد في الجملة1.
فالدلالة على جوازه في الجملة:
إجماع الصحابة، روي عنهم: أنهم خصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} 2، بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" ... الخبر.
وقبلوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" 3 وخصوا به آية [76/أ] المواريث، ونظائر ذلك يطول [ذكره] ، وإذا انعقد إجماعهم على ذلك؛ لم يجز مخالفته.
فإن قيل: فقد رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس4 لما روت: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يجعل لها سكنى ولا نفقة"، وقال:
__________
1 وهناك قول آخر، وهو: التوقف، وهو منسوب لأبي بكر الباقلاني.
انظر المراجع الآنفة الذكر.
2 "24" سورة النساء.
3 هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه ص"540".
وأخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 2/496.
وأخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل 2/913.
4 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر القرشية الفهرية. صحابية، من المهاجرات الأول، ذات عقل وكمال، في بيتها اجتمع أهل الشورى عند قتل عمر بن الخطاب، روى عنها جماعة منهم أبو سلمة والشعبي والنخعي.
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1901"، و"الإصابة": "8/164".(2/552)
لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة1.
قيل: عمر لم يمتنع من قبول هذا الخبر؛ لأنه يعارض الظاهر؛ لكن لم يتقبله؛ لأنه عارضه بغيره، فاعتقد خطأ فاطمة وسهوها في الرواية؛ يدل عليه: أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" 2.
__________
1 حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه عنه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة "3/475".
وأخرجه عند أبو داود في كتاب الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس "3/534".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الطلاق، باب في المطلقة ثلاثًا لها السكنة والنفقة أم لا؟ "2/87".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطلاق والخلع "4/25".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/273".
2 حديث عمر -رضي الله عنه- رواه الشعبي، وقد حدث به في حضرة الأسود بن يزيد، فما كان من الأسود إلا أن أخذ كفًا من حصى، فحصب به الشعبي، وقال: له: "ويلك، تحدث بمثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ".
هذا لفظ مسلم في: "صحيحه"، في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها "2/1118-1119".
وكذلك أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى "3/475-476"، وزاد فيه: "وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة".
راجع أيضًا: المنتقى من أحاديث الأحكام ص"604"، ونصب الراية "3/273".(2/553)
وأجاب عنه أحمد رحمه الله في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: كان ذلك منه على [وجه] احتياط، وقد كان يقبل من غير واحد قوله وحده.
مع أن هذا الخبر مطرح الظاهر؛ لأن السكنى مخصوصة في حق الصغيرة؛ فإنه لا سكنى لها، وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة، فعلم أن الخبر مطرح الظاهر.
فإن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد فيما يوجب النسخ بدلالة: أن أهل قباء قبلوا قول المخبر الواحد بتحويل القبلة؛ فكان يجب أن يتبعوهم فيه، كما اتبعوهم في التخصيص بخبر الواحد.
قيل: هكذا نقول: ونتبعهم في النسخ، كما فعلنا في التخصيص.
وقد نص أحمد رضي الله عنه على هذا في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث في خبر الواحد إذا كان إسناده صحيحًا: وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر، وهم في الصلاة فتحولوا نحو الكعبة1؟
__________
1 هذه القصة رواها البراء بن عازب رضي الله عنه. أخرجها عنه البخاري في كتاب الصلاة. باب التوجه نحو القبلة حيث كان "1/104-105"، وأخرجها عنه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة كما أخرجه عن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما "1/374-375".
وأخرجها الترمذي عن البراء بن عازب في كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "2/169-170". وأخرجها عنه النسائي في كتاب القبلة، باب استقبال القبلة "2/47".
وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب القبلة "1/322".
وأخرجها الطيالسي في: "مسنده"، في كتاب الصلاة، باب وجوب استقبال القبلة "1/85".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "1/305-306".(2/554)
وخبر الخمر أهراقوها1، ولم ينتظروا غيره؛ فقد أخذ بخبر الواحد.
واحتج: بقصة أهل قباء، وأن الصحابة أخذت بهذا الخبر، وإن كان فيه نسخ.
وأيضًا: فإن خبر الواحد يجب العمل به، كما يجب بخبر التواتر، ثم ثبت أنه يجوز التخصيص بخبر التواتر للعموم، الذي دخله التخصيص والذي لم يدخله، كذلك خبر الواحد.
فإن قيل: خبر التواتر يوجب العلم كالعموم؛ فلهذا جاز التخصيص به، وليس كذلك خبر الواحد؛ فإنه لا يوجب العلم.
قيل: هذا المعنى لا يوجب الفرق بينهما في باب التخصيص، كما لم يوجب الفرق بينهما في باب العمل، ولأن خبر التواتر وإن أوجب العلم؛ فليس له رتبة العموم؛ لأن الكتاب ينفرد بأنه معجز، وخبر التواتر ليس كذلك. ولأن خبر الواحد وإن لم يوجب العلم؛ فإنه لا يرفع ما هو مقطوع به؛ لأن المقطوع به هو صيغة العموم، والخبر لا يرفعها؛ وإنما يخص ما تناوله [76/ب] من الحكم، وذلك غير مقطوع [به] ، بل يثبت بالتخصيص
__________
1 هذا الخبر رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر "7/136".
وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر "3/1571".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر "2/292".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "4/296".(2/555)
أنه لم يكن مرادًا بالعموم. وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه: "إنه دليل على ما أراد الله تعالى من ذلك".
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجب العلم، ويزيل ما يوجب العلم، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول فيما يقتضي العقل خلافه، مثل تحريم الربا وشرب الخمر، وما يجري لليقين، وخبر الواحد لا يوجب إلا غلبة الظن، وكذلك لو قال النبي: إن هذه الدار ملك لفلان، ثم قامت بعد ذلك بينة على أن زيدًا قد ملك الدار على فلان؛ فإنا نزيل ملكه الثابت من جهة اليقين، بالبينة التي لا توجب إلا غلبة الظن، كذلك ههنا.
وأيضًا: فإن صيغة العموم معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسيره؛ فإنه يقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا.
وأيضًا: فإن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به، فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وكذلك شهادة الشاهدين لا يقطع الحاكم بها، ولكن ثبتت بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع به جرى مجراه في العمل؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: إذا زالت الشمس فصليا ركعتين، وما أخبركم به فلان عني؛ فهو شرعي، فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا به، كذلك ههنا.(2/556)
حجة المخالف1
...
واحتج المخالف:
بأن الكتاب مقطوع عليه، وخبر الواحد محتمل؛ فلا يخص المقطوع به بأمر محتمل.
والجواب عنه: ما تقدم من أن هذا لم يمنع العمل، ومن أن خبر التواتر ليس له رتبة الظاهر، ومع هذا جاز تخصيصه به، ومن أن هذا لا يمتنع -كما قلنا- في الأشياء التي ينتجها العقل، تطرح بخبر الواحد،(2/556)
وبقول الشاهد، ومن أن الصيغة مقطوع عليها، ولسنا نرفعها؛ وإنما نخص ما تناولته من الحكم، وما تناولته1 من الحكم لا يقطع به أنه مراد؛ وإنما يخص ما كان محتملًا.
وجواب آخر، وهو: أن السنة -وإن لم يكن مقطوعًا بها- فإن حكمها ثبت بأمر مقطوع به.
واحتج: بأن الكتاب أقوى من السنة، بدليل أنهما لو تعارضا؛ أسقطنا الخبر للكتاب2، وإذا كان أقوى منه لم يخص القوي بالضعيف.
والجواب: أنا لا نسقط الكتاب بالسنة، بل نستعمل كل واحد منهما، ولا يمتنع أن يجمع بين القوي وما هو دونه، ألا ترى أن خبر التواتر دون الكتاب؛ لأنه وإن كان كل واحد منهما مقطوعًا به؛ فإن الكتاب ينفرد بأنه معجز، ومع هذا يخص بخبر التواتر.
وعلى أن هذا يبطل بما ذكرنا.
وفيما ذكرنا دلالة على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين العموم المخصوص والذي لم يخص؛ وذلك [77/أ] أن العموم الذي لم يخص، صيغته معرضة للتخصيص ومحتملة له، وخبر الواحد غير محتمل؛ فجاز أن يقضي به عليه، كخبر التواتر، وكالمجمل والمفسر.
ولأن خبر الواحد وإن لم يكن مقطوعًا به؛ فإنه قد يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، كخبر
__________
1 في الأصل: "تناوله".
2 وذلك إذا تكافئا في الدلالة، بأن كان كل منهما مقطوعًا به أو مظنونًا، أو كانت دلالة الكتاب مقطوعًا بها، والسنة ظنية الدلالة، أما إذا كانت السنة قطعية والكتاب ظنيًا؛ فإنه يقدم السنة على الكتاب في هذه الحالة، وذلك إذا لم يمكن الجمع بينهما، وهو ما أشار إليه المؤلف في جوابه.(2/557)
التواتر، وكما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زالت الشمس؛ فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان؛ فهو شرعي؛ فإن المقطوع به من قوله كالذي يخبر به عنه وإن لم يكن مقطوعًا.
ولأن ما جاز أن يزاد في تخصيص اللفظ به؛ جاز أن يبتدأ تخصيصه، قياسًا على اللفظ الخاص.
ولأنه لما جاز أن يزاد في تخصيصه به لخصوصه ومنافاته لبعض ما شمله اللفظ العام، وهذا المعنى موجود في ابتداء التخصيص.(2/558)
حجة المخالف2
...
واحتج المخالف:
بأن العموم الذي لم يتفق على تخصيصه مقطوع فيما يتضمنه من المسميات؛ لأن صاحب الشريعة لو قال بخصوصه؛ لذكره مع لفظه، ولو ذكره لنقل، ويفارق هذا ما دخله التخصيص؛ لأنه غير مقطوع على ما تضمنه من المسميات؛ لأنه قد صار مجازًا فيما بقي، على قول جماعة من أهل العلم، وإذا كان مقطوعًا به؛ لم يجز أن يعترض عليه بما ليس بمقطوع به، كما لا يعترض عليه بالنسخ بخبر1 الواحد.
والجواب: أنا لا نسلم أنه مقطوع [به] فيما يتضمنه من المسميات؛ لأنه محتمل للعموم وللخصوص، والخبر أخص منه؛ فهو مبين له.
وقولهم: لو كان مخصوصًا لذكره مع لفظه غير صحيح؛ لأنه يجوز تأخير البيان عندنا.
وأما نسخ الظاهر بخبر الواحد؛ فإنما لم يجز، لا لأجل أنه مقطوع عليه؛ ألا ترى أنه لا يجوز نسخه بخبر التواتر على أصلنا.
وعلى أنه ليس إذا لم ينسخ به لم يخصص به، بدليل القياس مع خبر
__________
1 في الأصل: "غير".(2/558)
الواحد يخصصه ولا ينسخه، وكذلك قول الصحابي.
وعلى أن هذا يلزم عليه ما ذكرناه على الطائفة الأولى من تلك الوجوه كلها.
وجواب آخر. وهو: التخصيص إزالة بعض الحكم، وجمع بين الدليلين، وليس كذلك النسخ؛ فإنه إزالة حكم جميع اللفظ وإسقاطه بخبر الواحد، وهذا لا يجوز.
ولأن النسخ ابتداءه والزيادة فيه سواء، كذلك يجب أن تستوي الزيادة والابتداء.(2/559)
مسألة يجوز تخصيص العموم بالقياس
مدخل
...
مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بالقياس 2
أومأ إليه الإمام أحمد رضي الله عنه في مواضع:
فقال في رواية بكر بن محمد3: إذا قذفها بعد الثلاث، وله منها ولد، يريد نفيه، يلاعن، فقيل: أليس الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"120-122"، و"روضة الناظر" ص"130"، و"شرح الكوكب المنير" ص"209".
2 ينبغي تحرير محل النزاع هنا، فالقياس إذا كان قطعيًا؛ فإنه يجوز التخصيص به بلا خلاف.
راجع في هذا: "نهاية السول": "2/463"، و"حاشية البناني": "2/29".
وعليه فالخلاف الذي ذكره المؤلف؛ إنما هو في القياس الظني.
3 هو: بكر بن محمد، أبو أحمد، النسائي الأصل، البغدادي النشأة. من أصحاب الإمام أحمد المقربين إليه، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/119".(2/559)
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1، وهذه ليست بزوجة؟ فاحتج: بأن الرجل يطلق ثلاثًا، وهو مريض فترثه؛ لأنه فار من الميراث، وهذا فار من الولد2.
فقد عارض الظاهر بضرب من القياس3.
وكذلك قال -في رواية الأثرم في المرأة: تنفي بغير [77/ب] محرم؛ فقيل له: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 4، فقال: هذا أمر قد لزمها، يسافر [بها] 5، فهم يقولون: لو وجب عليها حق، والقاضي على أيام رفعت إلى القاضي، ولو أصابت حدًا في البادية؛ جيء بها، حتى يقام عليها.
__________
1 "6" سورة النور.
2 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"120-121".
ومسألة: اللعان للزوجة المبتوتة، فصل القول فيها: الموفق ابن قدامة في كتابه "المغني": "7/12-13".
3 وجه استدلال المؤلف هذا، تعقب في "المسودة" ص"121"، بأنه ليس من قبيل تخصيص العموم بالقياس، بل من قبيل معارضة ظاهر المفهوم بالقياس؛ لأن تخصيص الحكم بالأزواج يقتضي نفيه عمن سواهم.
4 هذا الحديث رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب حج النساء "3/23".
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره "2/978".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير محرم "1/401".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير ولي "2/968".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "فيض القدير شرح الجامع الصغير": "6/398"، و"بلوغ المرام" ص"85"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"366"، و"نصب الراية": "3/11".
5 الزيادة من "المسودة" ص"112".(2/560)
وكذلك نقل أبو داود في رجل قال لامرأته: أنت طالق، ونوى ثلاثًا؛ فهي واحدة، فقيل1: إسحاق2 يقول: هي ثلاث، ويأخذ بالحديث: "الأعمال بالنيات" 3، فقال: ليس هذا من ذلك، أرأيت إن نوى أن يطلق امرأته ولم يتلفظ، أيكون طلاقًا؟!
__________
1 هذا يشعر بأن القائل لما بعد قيل- أحد الناس، قال ذلك للإمام أحمد؛ بينما نجد أبا داود في "مسائله" عن الإمام أحمد ص"169" ينقل عن الإمام أحمد قوله: "ثم قال -أي الإمام أحمد- زعموا أن إسحاق يذهب إلى أنها ثلاث ... "؛ وهذا يفيد: أن القائل لما بعد "قيل" هو الإمام أحمد.
2 المقصود هو: إسحاق بن راهويه، كما جاء ذلك في مخطوطة المكتبة الظاهرية لمسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، التي أثبت الفروق بينهما وبين مخطوطة المدينة المنورة للمسائل المذكورة للشيخ محمد بهجة البيطار، وذلك بهامش ص"169" من "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود.
وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، المروزي، أبو يعقوب، الثقة، الحافظ، المحدث الفقيه. رحل في طلب العلم إلى الحجاز واليمن والعراق وغيرها. من أصحاب الإمام أحمد المكرمين عنده، وممن نقل عنه. له مسند في الحديث، وله مسائل في الفقه؛ رواها إسحاق بن منصور المروزي مع مسائل للإمام أحمد، ولا زالت مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق.
ولد ابن راهويه سنة 166هـ، ومات سنة 243هـ بنيسابور.
انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ": "2/433"، "تهذيب التهذيب": "1/216"، و"الخلاصة" ص"22"، و"طبقات الحنابلة": "1/109"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/102"، و"ميزان الاعتدال": "1/182"، و"النجوم الزاهرة": "2/293".
3 سبق تخريج هذا الحديث ص"205" عند تخريجنا لجزء منه هو: "وإنما لامرئ ما نوى"؛ ولكن نحب هنا أن نبين أمرين يتعلقان بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات":
الأول: أن المؤلف حذف كلمة "إنما"؛ ولكنها مثبتة في مسائل الإمام أحمد التي رواها أبو داود ص"169".(2/561)
وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز فيما وجدته في بعض تعاليق أبي إسحاق بن شاقلا قال: ألزمني الشيخ -يعني أبا بكر- على أن الظاهر يخص بالقياس، أن الله تعالى قد نص على الإماء في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1، والعبيد مقيسون عليهن2. قال أبو إسحاق: نظرت وإذا هذا ليس بحجة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك، ولم يفرق بين عموم الكتاب والسنة وبين أخبار الآحاد أو التواتر، وربما ذهبوا إلى ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية الحسن بن ثواب3: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده
__________
= وبحذف أداة الحصر رواه الحكم في الأربعين، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في المعرفة، وهذا كافٍ في الرد على من زعم أن الحديث بحذف: "إنما" لم يصح إسناده.
الثاني: أن كلمة "النية" جاءت مفردة ومجموعة، فقد جاءت مفردة في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود في هامش ص"105" عن المخطوطة الظاهرية.
وبالإفراد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وبالجمع رواها أبو داود وابن ماجه.
راجع في هذا: المصادر التي ذكرناها في تخريج الحديث ص"123-124" ولا داعي لإعادته.
1 "25" سورة النساء.
2 العبارة في الأصل: "مقيسًا عليه"، والصواب "مقيسون عليهن"، كما أثبتناه.
3 هو الحسن بن ثواب، أبو علي، الثعلبي، الخرمي البغدادي، ثقة، من خاصة أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. روى عن الإمام أحمد ويزيد بن هارون وغيرهما. وعنه عبد الله بن محمد المروزي وأبو بكر الخلال وغيرهما. مات سنة 268هـ.
له ترجمة في" الإنصاف" للمرداوي "1/2842"، و"طبقات الحنابلة": "1/131-132"، و"المنتظم" لابن الجوزي "5/64".(2/562)
إلا مثله1. وقع إلي جزء فيه مسائل في أصول الفقه، إملاء أبي الحسن الجزري2، وذكره فيه هذه المسألة، وحكى فيها خلافًا بين أصحابنا.
واختار أبو الحسن: أنه لا يجوز تخصيصه بالقياس، وذكر فيها كلامًا كثيرًا.
وذكر أبو إسحاق في جزء وقع إلي من شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين: فمنهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذلك.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان عمومًا دخله التخصيص باتفاق؛ جاز تخصيصه بالقياس، وإن لم يكن دخله؛ فالحكم في القياس عندهم، كالحكم في الخبر الواحد3.
واختلف أصحاب الشافعي: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على
__________
1 هذه الرواية منقولة في "المسودة" بنصها ضمن ما نقل عن القاضي ص "120".
2 هو: أبو الحسن الجزري، البغدادي، الحنبلي، الفقيه، الأصولي، صحب أبا علي النجاد.
له ترجمة فيه: "طبقات الحنابلة": "2/167".
3 راجع في تحقيق مذهب الحنفية: "تيسير التحرير": "1/321-326"، و"أصول السرخسي": "1/133-134"، و"فواتح الرحموت": "1/357-360".
وقد رأيت صاحب "مسلم الثبوت": "1/357" نسب القول بجواز التخصيص إلى الأئمة الأربعة، بما فيهم الإمام أبو حنيفة، وكذلك السرخسي في أصوله "1/133" حكى القول بجواز التخصيص عن أكثر الحنفية.
لكن الشيخ بخيت في حاشيته "سلم الوصول": "2/463"، ذكر أن القول عن أبي حنفية مقيد بما إذا خصص بغيره.(2/563)
الإطلاق1، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق2.
فالدلالة على جوازه: ما تقدم من الكلام في المسألة التي قبلها، وهو: أن القياس وإن لم يكن معلومًا؛ فإنه يثبت العمل به بأمر مقطوع به، وما ثبت عن أمر مقطوع جرى مجراه في العمل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: "إذا زالت الشمس، فصلوا ركعتين، وما أخبركم به عني فلان فهو شرعي؟ فإن "به" من قوله كالذي يخبر به عنه، وإن لم يكن مقطوعًا، كذلك ههنا.
ولأن صيغة العموم معرضة للتخصيص محتملة له، والقياس غير محتمل؛ فجاز أن يقضي بغير المحتمل على المحتمل، كالمجمل وتفسير المجمل؛ فإنا نقضي بتفسيره عليه، كذلك ههنا.
ولأن القياس حجة في نفسه إذا انفرد؛ فإذا اجتمع معه غيره وأمكن
__________
1 وهذا هو الصحيح عندهم، كما حكاه الإسنوي في كتابه "نهاية السول": "2/463"، وهو المنقول عن الإمام الشافعي.
وهو أيضًا مذهب المالكية، كما نص على ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"203".
2 ونسبه الإسنوي في كتابه: "نهاية السول": "2/464" إلى الفخر الرازي.
وهناك أربعة آراء في المسالة، هي:
الأول: أن القياس الجلي يخصص العموم، دون الخفي، وبه قال ابن سريج.
الثاني: يعمل بأرجح الظنين إذا تفاوتا، وإن تساويا؛ فالوقف. وبه قال الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/134".
الثالث: التوقف، وهو منسوب لإمام الحرمين وأبي بكر الباقلاني.
الرابع: يجوز التخصيص بالقياس إذا كانت علته ثابتة بنص أو إجماع؛ وإلا فلا، وهو مختار الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/313".
راجع بالإضافة إلى "الإحكام" للآمدي: "جمع الجوامع وشرحه مع حاشية البناني": "2/30".(2/564)
استعمالهما كان أولى، كالمطلق والمقيد.
[78/أ] وأيضًا: فإن الاسم الخاص إذا نافى بعض ما شمله الاسم العام، وجب تخصيصه به، كذلك إذا نافاه معناه؛ لأن العلة في الاسم أنه نافى بخصوصه بعض ما شمله الاسم العام.
وبيان ذلك أن الله تعالى1 قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2، ولم يفرق بين الحر والرقيق، ثم قال عز من قائل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3، مخصصًا به قوله: {الزَّانِيَةُ} ، وأخرجنا الإماء منه، وقضينا بالاسم الخاص على الاسم العام، ثم وجدنا أن المعنى الموجب لنقصان الحد في الإماء هو الرق؛ لأنها إذا اعتقت وجب الحد كاملًا، ولم يزل بالعتق غير الرق؛ فثبت أن نقصان الحد كان متعلقًا به، وهذه العلة موجودة في العبد، فنقصنا حده، وجعلناه خمسين، وخصصنا بهذا المعنى قوله تبارك وتعالى: {وَالزَّانِي} ، وأخرجنا العبيد منه؛ لأن معنى الاسم الخاص نافى بعض ما شمله الاسم العام، كمنافاة الاسم إياه.
فإن قيل: إنما كان كذلك في الاسم الخاص مع الاسم العام؛ لأنهما نطقان، فتساويا في القوة، وانفرد الخاص بقوة الخصوص، وليس كذلك المعنى؛ فإنه ليس بنطق.
قيل: المعنى مثل الاسم، في وجوب العمل به، والمصير إلى موجبه، وتخصيص الاسم العام من العمل بموجبه، فاستويا فيه.
__________
1 في الأصل: "إن شاء الله تعالى".
2 "2" سورة النور.
3 "25" سورة النساء.(2/565)
حجة المخالف
...
واحتج من يمنع ذلك:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل: "فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو" 1، فدل على أن القياس مع عدم السنة.
__________
1 حديث معاذ هذا اشتهر كثيرًا على ألسنة الأصوليين والفقهاء، حتى قال إمام الحرمين -فيما نقله الحافظ ابن حجر: "إنه حديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل".
واستدل أبو العباس ابن القاص على صحته بتلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وقال: "وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية".
راجع: "تلخيص الحبير": "4/183".
وقد نقل صاحب "فواتح الرحموت": "1/359"، أن الباقلاني والطبري: وثقا هذا الحديث.
وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي "3/607-608"، وقال فيه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل".
وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "2/272".
وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوى والبينات، باب آداب القضاء والقاضي وكيف يقضي "1/286".
وتكميلًا للفائدة أورد بعض أقوال العلماء في هذا الحديث:
قال البخاري في "تاريخه": "الحارث بن عمرو -أحد رواة الحديث- عن أصحاب معاذ، وعنه أبو عون؛ لا يصح، ولا يعرف إلا بهذا".
وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا".
وقال ابن طاهر ما معناه: بعد البحث الطويل في مصادر الحديث، وجد له طريقان، وكلاهما لا يصح.
وقال الدارقطني في "العلل": "رواه شعبة عن أبي عون وهكذا، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح".
وقال ابن حزم: "لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون".
وقال عبد الحق: "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح". انتهى ملخصًا من "تلخيص الحبير": "182/4-183".(2/566)
والجواب: أن ما عارضه القياس من العموم؛ فليس من السنة كما أن ما عارضه لفظ السنة من عموم القرآن؛ ليس من القرآن، ووجب القضاء بخاص السنة على عموم القرآن ههنا.
واحتج: بأنه لا يجوز أن ينزع من الاسم معنى يخصه، كذلك لا يجوز أن يخص به اسم غيره.
والجواب: أن الحكم إذا كان مطلقًا؛ فإن المطلوب هو على الحكم المطلق؛ فلا يجوز أن تكون مخصصة له مسقطة لإطلاقه؛ لأنها إذا كانت هكذا؛ لم تكن هي المأمور بطلبها، وليس كذلك اسم آخر؛ فإن المطلوب مخالف له؛ فجاز أن يكون مخصصًا له، ولأن الاسم لا يجوز أن يخص نفسه؛ كذلك معناه. ويجوز أن يخص اسمًا آخر، كذلك معناه يجوز أن يخص اسمًا آخر.
واحتج: [78/ب] بأن العموم أعلى رتبة في الحجة من القياس، ألا ترى أن القياس قد يمنع في كثير من الأصول، والعموم لا يجوز وجوده عاريًا عن إيجاب حكم؛ فلم يجز ترك الأقوى بالأضعف.
والجواب: أن هذا يبطل بخبر الواحد، يجوز أن يخص به العموم وإن كان القرآن أعلى رتبة.
على أن امتناع القياس في مواضع فيها نص يعارض القياس، وأما في مواضع فيه عمومه يجوز تخصيصه؛ فلا.(2/567)
واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، والتخصيص يخص الأعيان، ثم ثبت أنه لا يجوز نسخ العموم به، كذلك لا يجوز التخصيص.
والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد، لا ينسخ، ويخص، وكذلك الإجماع. على أنا قد بينا الفرق بين النسخ وبين التخصيص في التي قبلها.
واحتج: بأن القياس فرع للكتاب؛ فلا يجوز أن يخص الفرع أصله ويسقطه.
والجواب: أنا لا نخص الأصل بفرعه؛ وإنما نخص غير أصله؛ لأن القياس متى استنبط من أصله، يكون مماثلًا له في حكمه؛ فلا يخصص به، وإنما يخص أصلًا آخر يضاده، وينافيه.
واحتج: بأنه إنما يصح القياس، إذا جرى على الأصول واطرد، وهذا العموم من جملتها، وهو ينافيه؛ فيجب أن لا يصح القياس معه، كما لا يجوز مع وجود الإجماع على ضده؛ لأنه لم يجر على الأصول، كذلك ههنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن ما خصصه القياس كان مرادًا بالعموم حتى يكون معارضًا له ومضادًا له؛ بل يتبين بالقياس، أنه لم يكن مرادًا ولا داخلًا تحته.
واحتج: بأن العموم مقطوع عليه، والقياس مظنون.
والجواب: أن المقطوع عليه هو الصيغة، وذلك لا يرفعها بالقياس؛ وإنما يخص بعض الحكم، وذلك غير مقطوع على أنه مراد، وعلى أنه إن لم يكن مقطوعًا عليه؛ فقد ثبت بدليل مقطوع عليه؛ فهو كالحكم بشهادة الشاهدين، غير مقطوع عليه، لكن ثبت بدليل مقطوع عليه.(2/568)
واعتمد أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين العموم المخصوص1 وغير المخصوص، بما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه بما فيه كفاية.
__________
1 في الأصل: "أو المخصوص"، و"أو" هنا زائدة، لا معنى لها.(2/569)
مسألة 1: يجوز تخصيص عام السنة بخاص القرآن
أومأ إليه أحمد رحمه الله في نسخ السنة بالقرآن؛ فقال في رواية عبد الله، وذكر قصة أبي جندل2 فقال: ذلك صالح على أن يرد من جاءهم مسلمًا؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال، ومنع النساء، ونزل3 قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 4 [79/أ] فظاهر هذا أنه أثبت نسخ القصة بالقرآن.
وبهذا قال الجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"122"، و"شرح الكوكب المنير" ص"205"، و"روضة الناظر" ص"128".
2 هو: أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري، صحابي جليل، أسلم بمكة قبل صلح الحديبية، وقد عذب بسبب إسلامه، مات في خلافة عمر.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1621/4"، و"الإصابة" القسم السابع ص"69"، طبعة دار نهضة مصر، و"البداية والنهاية": "169/4" نشر مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض.
3 في الأصل: "نزلت".
4 "10" سورة الممتحنة.(2/569)
وخرج الشيخ أبو عبد الله1 في ذلك وجهًا آخر: أنه لا يجوز.
أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل وغيره؛ فقال: السنة مفسرة للقرآن، ومبينة له. وظاهر هذا: أن البيان بها يقع2.
وقال أيضًا في رواية محمد بن أشرس3: "إذا كان الحديث صحيحًا معه ظاهر القرآن، وحديثان مجردان في ضد ذلك؛ فالحديثان أحب إلي إذا صحا".
وظاهر هذا أيضًا: أنه لم يجعل ظاهر الآية يخص أحد الحديثين ولا يقابله.
وبهذا قال أصحاب الشافعي4.
__________
1 هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي. شيخ الحنابلة في وقته، فقيه، أصولي. أشهر تلاميذه القاضي أبو يعلى.
له كتب منها: "الجامع في المذهب"، وشرح مختصر الخرقي. مات راجعًا من مكة المكرمة سنة 403هـ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "7/303"، و "شذرات الذهب": "3/166"، و "طبقات الحنابلة": "2/171"، و "المنتظم": "7/264"، و "المنهج الأحمد": "2/83".
2 وتكملة وجه الاستدلال بكلام الإمام أحمد: "ولو جعلنا القرآن مخصصًا لعموم السنة؛ لكان القرآن هو المبين للسنة".
3 محمد بن أشرس السلمي النيسابوري، روى عن مكي بن إبراهيم وإبراهيم بن رستم وغيرهما، متهم في الحديث، وتركه الأخرم وغيره. وقال أبو الفضل السليماني: لا بأس به.
له ترجمة في: "تنزيه الشريعة": "1/101"، و "المغني في الضعفاء": "2/557"، و "ميزان الاعتدال": "3/485".
4 كلام المصنف هنا غير محرر؛ فالأصح عند الشافعية هو: جواز التخصيص، صرح بذلك ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/26"، كما صرح به الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300"، حيث قال: "يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا".(2/570)
والدلالة على جواز التخصيص:
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 1.
ولأن الكتاب أقوى من السنة؛ فإنه مقطوع على جميعه، والسنة إنما يقطع على البعض منها.
ولأن فيه إعجازًا، والسنة لا إعجاز فيها؛ فإذا جاز تخصيص القرآن بالضعيف؛ فإنه يجوز تخصيص الضعيف بالقوي [من باب] أولى، ألا ترى أن من جوز نسخ الكتاب بالسنة؛ كانت تجويزه لنسخ السنة بالكتاب أولى؟
واحتج من منع من ذلك:
بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2.
__________
1 "89" سورة النحل.
والآية في الأصل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ} ، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه متابعة لما في المصحف. ولم يذكر المؤلف وجه الاستدلال من الآية، وقد ذكره الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300"، بقوله: "وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشياء؛ فكانت داخلة تحت العموم، إلا أنه قد خص في البعض؛ فيلزم العمل به في الباقي".
2 "44" سورة النحل.
لم يذكر المؤلف وجه الاستشهاد من الآية، ووجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الله تعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا للقرآن؛ وبيانه إنما يكون بسنته، ولو خصصنا عموم السنة بخصوص القرآن؛ لكان القرآن مبينًا للسنة، وهو ممتنع للآية.
الثاني: وقد ذكره المؤلف في صورة دليل، ولكن لم يذكر ارتباطه بالآية الكريمة، وقد ذكره الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/300"، بقوله: " ... وأيضًا، فإن المبين أصل، والبيان تبع له، ومقصود من أجله؛ فلو كان القرآن مبينًا للسنة؛ لكانت السنة أصلًا، والقرآن تبعًا، وهو محال".(2/571)
والجواب: أن المراد بالبيان ههنا: الإظهار لا التخصيص؛ فإن الكلام يقتضي أن يبين جميع المنزل، وجميع المنزل لا يحتاج إلى تخصيص؛ وإنما يحتاج إلى الإظهار.
وعلى أن نحمل الكلام على أن المراد به: لتبين للناس ما يحتاج إلى بيان وهو ما لم يبين بالكتاب؛ فأما ما بين بالكتاب فبيانه مأخوذ منه لا من السنة1.
واحتج: بأنا لو خصصنا السنة بالآية؛ جعلنا السنة أصلًا، والقرآن تابعًا له ومفسرًا، وهذا فيه نقصان منزلته.
والجواب: أنه لا يوجب جعلها أصلًا والقرآن تابعًا، كما لم يجب ذلك في تخصيص أخبار الآحاد بأخبار التواتر، وقد ثبت جواز ذلك. ولا يقول أحد: إن أخبار الآحاد أصل، وأخبار التواتر تابعة لها ومفسرة لها.
__________
1 وهناك جواب آخر هو: أن القرآن والسنة كلاهما منزلان من عند الله تعالى.
وهناك جواب آخر أيضًا، ذكره كثير من الأصوليين، وهو -كما يقول الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/300": "إنه لا يلزم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبينًا لما أنزل امتناع كونه مبينًا للسنة بما يرد على لسانه من القرآن، إذ السنة أيضًا منزلة على ما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، غير أن الوحي منه ما يتلى؛ فيسمى كتابًا، ومنه ما لا يتلى؛ فيسمى سنة، وبيان أحد المنزلتين بالآخر غير ممتنع".(2/572)
مسألة يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
مدخل
...
مسألة 1: يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا وقع من النبي فعل يخالف عموم قول تعلق بسائر المكلفين؛ كان ذلك موجبًا لتخصيصه، إن أمكن حمله عليه.
وكذلك الإقرار على فعل، مثل أن يفعل عنده فعل يخالف العموم؛ فأقر عليه؛ فإنه يختص به.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية صالح: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 2، ولما ورث النبي صلى الله عليه وسلم [79/ب] ابنتي سعد بن الربيع3 الثلثين4؛ دل على أن الآية إنما قصدت الاثنتين فما فوق.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص"125"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"208".
2 "11" سورة النساء.
ولا يكمل الاستدلال إلا بذكر المقطع الثاني من الآية، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .
3 هو: سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أحد بعد أن أبلى بلاء حسنًا، رضي الله عنه وأرضاه.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/589"، و "الإصابة" القسم الثالث ص"58"، طبعة دار نهضة مصر.
4 هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب "2/109".(2/573)
وقال أيضًا في رواية صالح: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1؛ فلما قالت عائشة وميمونة2: كانت إحدانا إذا حاضت انفردت، ودخلت مع رسول صلى الله عليه وسلم في شعاره3؛ دل على أنه أراد الجماع.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات "4/414".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب "3/908".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الفرائض "4/79".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الفرائض باب الرجل يموت، ويترك بنتًا وأختًا وعصبة سواها "4/395".
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب، باب إذا تحدثتم، فتحدثوا بالفرائض "4/333-334".
راجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "4/83".
1 "222" سورة البقرة.
2 هي: أم المؤمنين، ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية. كان اسمها: "برة"؛ فسماها النبي صلى الله عليه وسلم: "ميمونة". تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في شهر ذي القعدة على الأرجح سنة سبع، في عمرة القضاء، اختلف في سنة وفاتها، ورجح الحافظ ابن حجر أنها ماتت سنة 49هـ.
لها ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1914"، و "الإصابة": "8/191".
3 حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، بلفظ: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها.." الحديث.
كما أخرج حديث ميمونة رضي الله عنها، عقب حديث عائشة رضي الله عنه، بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه؛ أمرها فاتزرت، وهي حائض..": "1/79".
وأخرجه الحديثين مسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار "1/242".
وأخرجهما الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في مباشرة الحائض "1/239".
وأخرجهما أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها -أي الحائض- ما دون الجماع "1/61".
وأخرجهما الدارمي في كتاب الطهارة، باب مباشرة الحائض "1/194".
وأخرج ابن ماجه حديث عائشة في كتاب الطهارة، باب ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا "1/208".
وراجع في هذا أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/167".(2/574)
وهو قول أصحاب الشافعي1 وأصحاب أبي حنيفة2 إلا الكرخي؛ فإن أبا عبد الله الجرجاني حكى عن بعض أصحابه، أنه حكي عنه أنه يحمل فعله عليه السلام على أنه مخصوص به، مثل نهيه عن استقبال القبلة
__________
1 هكذا عزاه الآمدي إلى أصحاب الشافعي في كتابه: "الإحكام": "2/306-308" في فعل النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لتقريره وكونه يخصص؛ فقد نسبه للأكثرين، خلافًا لطائفة شاذة.
ولكن رأيت السبكي في كتابه: "جمع الجوامع": "2/31" يذكر أن تخصيص العموم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره جائز في الأصح. وكلامه هذا يدل على أن هناك خلافًا بين الشافعية في هاتين المسألتين.
2 اشترط صاحب "فواتح الرحموت": "1/354" لجواز التخصيص بالفعل شرطين:
الأول: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم داخلًا في العموم لغة، بخلاف ما لا يدخل فيه، أو كان مشكوكًا في دخوله.
الثاني: أن يكون الفعل موصولًا بالعموم.
هذا بالنسبة للفعل؛ أما التقرير فيجوز التخصيص به، إذا توفر فيه الشرط الثاني.(2/575)
واستدبارها1، وما روي من فعله بخلاف ذلك2، لا يجعله تخصيصًا.
__________
1 حديث النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة، رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء جدار أو نحوه بلفظ: "إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره؛ شرقوا أو غربوا": "1/47".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطالة "1/224".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجته "1/390".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول "1/115".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القلة عند قضاء الحاجة "1/3".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/13".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة "1/24".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول "1/135".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/60".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/25" من "بدائع المنن".
وراجع: في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/103".
2 حديث استدباره صلى الله عليه وسلم للقبلة، رواه ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت "1/48"، بلفظ: "قال -أي ابن عمر-: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، =(2/576)
دليلنا:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في أحكام الشرع سواء؛ إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، ألا تراه إذا فعل شيئًا ابتداء، لا على وجه البيان والتخصيص؛ كنا نحن وهو فيه على السواء، حتى يخصه دليل، كذلك هذا الفعل الوارد على وجه البيان والتخصيص، يجب أن يتساويا فيه أيضًا.
__________
= فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة "1/225".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة "1/3".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الرخصة في ذلك -أي في استقبال القبلة بالغائط أو البول- "1/16".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في البيوت "1/25".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة في الكنيف، وإباحته، دون الصحاري "1/116".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب الطهارة، باب الرخصة في استقبال القبلة "1/136".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب استقبال القبلة في الخلاء "1/61".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في باب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط "1/391".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التخلي وآدابه "1/26"، من "بدائع المنن".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/298"، و"تلخيص الحبير": "1/104".(2/577)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذا الفعل، ويحتمل أن يكون هو وغيره فيه سواء، ولا يجوز تخصيص العموم بالشك.
والجواب: أن هذا يدل عليه الفعل الوارد من جهته ابتداء. وعلى أنه ليس ههنا شك، بل ههنا ظاهر يدل على مساواتنا له في أفعال.(2/578)
يجوز تخصيص العام بالإجماع
...
فصل: ويجوز التخصيص بالإجماع 1
لأن الإجماع حجة مقطوع بها؛ فإذا جاز التخصيص بخبر الواحد والقياس؛ كان بالإجماع أحق.
ويفارق هذا النسخ بالإجماع أنه لا يجوز؛ لأن الإجماع إنما ينعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته انقطع النسخ؛ فلا يصح أن ينسخ به، وليس كذلك التخصيص؛ لأنه يقترن باللفظ دليل يخرج منه ما ليس مرادًا؛ فإذا انعقد الإجماع على تخصيصه؛ علم أنه خطاب عام أريد به الخاص، والنسخ بالإجماع على هذا يتصور؛ فإن المسلمين إذا أجمعوا على ترك خبر؛ تبينا بالإجماع: أنه منسوخ، لا أن2 الإجماع ينسخه.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"126"، و"روضة الناظر" ص"127"، و"شرح الكوكب المنير" ص"207".
2 في الأصل: "لان".(2/578)
يجوز تخصيص العام بدليل الخطاب
...
فصل: ويجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب 1
سواء دل دليل هو مفهومه
__________
1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة: ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"شرح الكوكب المنير" ص"206".(2/578)
وفحواه، وهو: التنبيه، نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1؛ فدل [على] المنع من2 الضرب، فيقع به التخصيص.
أو كان في ضد النطق؛ كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"؛ دل على أنه: لا زكاة في المعلوفة، فيخص به العموم3؛ لأن الدليل خارج مخرج النطق، ومعناه معنى النطق في باب الاحتجاج به، [وقد] ثبت جواز التخصيص بالنطق، كذلك بما هو جار مجراه4.
__________
1 "23" سورة الإسراء.
2 في الأصل: "على".
3 في الأصل: "المفهوم".
4 هكذا ذهب المؤلف إلى جواز تخصيص العموم بالمفهوم بما فيه مفهوم المخالفة؛ لكن نقل عنه في "المسودة" ص"127" القول بتقديم العموم على المفهوم، ومعنى ذلك: عدم جواز التخصيص.(2/579)
يجوز تخصيص العام بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه
مدخل
...
فصل: [80/أ] يجوز تخصيص العموم بقول الصحابي إذا لم يظهر خلافه
وكذلك تفسير الآية المحتملة1.
وهذا على الرواية التي تجعل قوله حجة، مقدمًا على القياس.
وقد نص على هذا في رواية صالح وأبي الحارث: في الآية إذا جاءت تحتمل أن تكون عامة، وتحتمل أن تكون خاصة، نظرت ما عملت عليه السنة؛ فإن لم يكن؛ فعن الصحابة، وإن كانوا على قولين، أخذ بأشبه القولين بكتاب الله تعالى.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"127"، و"روضة الناظر" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام ص"296".(2/579)
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة1.
واختلف أصحاب الشافعي على القول القديم، الذي يجعلون قوله حجة؛ فمنهم من خص به، ومنهم من لم يخص2.
__________
1 راجع في هذا: "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت": "1/355"، و"حاشية" الشيخ بخيت المطيعي على "نهاية السول": "2/481-484".
2 لكن الأصح من مذهب الشافعية -كما يقول ابن السبكي في كتابه: "جمع الجوامع" 1/34-: عدم التخصيص. وصرح الآمدي في كتابه: "الإحكام": "2/309"، بأن مذهب الشافعي في القول الجديد هو عدم التخصيص. وقد اختار ذلك الغزالي في كتابه: "المستصفى": "2/112".(2/580)
ودليلنا:
أن قول الصحابي أقوى من القياس، بدليل أنه يترك له القياس؛ فيجب أن يخص به الظاهر، كخبر الواحد.
ولأنه مقدم على القياس، والقياس يخص؛ فبأن يخص خبر الواحد أولى وأحرى.(2/580)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الصحابي يترك مذهبه وقول نفسه للعموم، ألا ترى أن ابن عمر قال: "كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى به بأسًا، حتى أتانا رافع بن خديج، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ فتركناها"1 لقول رافع.
والجواب: أنه يترك قوله للنص؛ فأما العموم فلا؛ لأنه فيما ذهب
__________
1 هكذا في الأصل، ولو أنث الضمير في قوله: "به بأسًا"، وفي قوله: "نهى عنه"؛ لكان سليمًا؛ ولكنه ذكر الضمير في ذلك، وأنثه هنا؛ فكان الأولى أن يعبر بقوله: "فتركناه" حتى تعود الضمائر إلى "فعل المخابرة"، أو إلى "الخبر"، كما جاء في بعض الروايات.(2/580)
إليه عن دليل، وذلك الدليل لا يخلو إما أن يكون عمومًا أو خصوصًا أو قياسًا؛ فإن كان خصوصًا أو قياسًا؛ فهما يقضيان على هذا العموم، وإن كان عمومًا؛ فقد عارض هذا لعموم؛ فلا يجب ترك قوله.
على أن بكر بن محمد سأله: يلتحف الصماء من فوق القميص1؟ فقال: لا يعجبني، يروى عن ابن عباس: أنه كرهه، وإن كان عليه
__________
1 هناك تفسيران للصماء:
الأول: تفسير أهل اللغة، وهو: أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولا يبقى ما يخرج منه يده، وذلك بأن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعًا.
والثاني: تفسير الفقهاء وهو: أن يشتمل بثوبه، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه.
راجع: مختار الصحاح ص"394" مادة "صمم"، والمصباح المنير "1/532"، مادة "صمي" كما تراجع "منتهى الإرادات": "1/63"، وفتح الباري "1/477". قال النووي في شرحه على صحيح مسلم "14/76": ".. فعلى تفسير أهل اللغة، يكره الاشتمال المذكور؛ لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها، أو غير ذلك؛ فيعسر عليه، أو يتعذر، فيلحقه الضرر.
وعلى تفسير الفقهاء، يحرم الاشتمال المذكور، إن انكشف بعض العورة، وإلا فيكره".
وقد جاء تفسير "الصماء" بمثل ما فسره الفقهاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند البخاري في كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7/191". وقبل ذلك ذكر البخاري رواية أبي سعيد الخدري المذكورة في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97".
وعلق الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري": "1/477" على ذلك بما مفاده: إن كان التفسير المذكور مرفوعًا فهو حجة، ولا كلام في ذلك، وإن كان مرقوفًا فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر.(2/581)
قميص، وإن كان حديث النبي: أنه ثوب واحد1، ولكن ابن عباس كرهه، فقدم قول ابن عباس.
واحتج: بأن الخبر حجته؛ فلا تخص حجته بفتياه، كسائر الفقهاء.
والجواب: أن سائر2 الفقهاء قول آحادهم ليس بحجة، وقول الصحابي حجة.
فإن قيل: فما تقولون في تخصيص العموم وتفسيره بقول التابعين؟
قيل: لا يخص بقوله، ولا يفسر به؛ لأن قوله ليس بحجة.
وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله؛ فإنه رجع في تخصيص الآية إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: يوجد العلم بما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يكن، فعن أصحابه؛ فإن لم يكن، فعن التابعين. وإنما قال هذا؛ لأن غالب أقوالهم أنها لا تنفك عن أثر.
وقد صرح بهذا في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل [80/ب] من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الرجل الأخذ به، ولكن لا يكاد يجيء عن التابعين [شيء] ؛ إلا يوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا: يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وهو في التابعين مخير.
__________
1 حديث النهي عن اشتمال الصماء، أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة "1/97"، وفي كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء "7".
وأخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه في كتاب اللبس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد وفي باب في منع الاستلقاء على الظهر، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى "3/1661".
وأخرجه الدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الصلاة، باب النهي عن اشتمال الصماء "1/259".
2 في الأصل: "لسائر".(2/582)
التفسير
مدخل
...
فصل 1: التفسير
وتفسير الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل به، إذا كان مفتقرًا إلى التفسير.
وذلك مثل قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" 2.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"128".
2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "3/81".
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين "3/1163".
وأخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في خيار المتبايعين "2/244".
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا "3/538".
وأخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما "7/218".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، بل البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "2/736".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب بيع الخيار "3/320".
وأخرجه الطيالسي في مسنده، في كتاب الكسب والبيوع، باب الخيار في البيع وإثبات خيار المجلس "1/266".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب البيوع، باب خيار المجلس "2/162"، من "بدائع المنن".(2/583)
فمن الناس من قال: بالتفرق بالقول1، ومنهم من قال: بالتفرق بالبدن2.
وأجمعوا على أن المراد أحدهما؛ فصرنا إلى ما دل تفسير الراوي عليه، فإن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلًا، ثم رجع3.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك4.
__________
= وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب البيوع، باب خيار البيعين حتى يتفرقا "4/12".
وأخرجه الدارقطني في "سننه" في كتاب البيوع "2/5".
وقد روي الحديث بعدة ألفاظ، كلها تثبت خيار المجلس، ولفظ النسائي كلفظ المؤلف.
وراجع فيه هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "3/20"، و"تيسير الوصول": "1/71"، و"بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، كتاب البيوع، باب الخيار ص"101"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"447"، و"نصب الراية": "4/1"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية"، في كتاب البيوع، باب الخيار في البيع ص"149".
1وبهذا قال المالكية والأحناف. وحملهم التفرق على التفرق بالأقوال، أحد الأجوبة على دلالة أحاديث خيار المجلس.
2 وبهذا قال الحنابلة والشافعية. ومستندهم هذا الحديث وغيره مما ورد في هذا الباب. وهو مستند قوي، لم يأت المخالف بما يوهن منه.
وكل ذهب إلى ما ذهب إليه عن اجتهاد، لا عن هوى. فرحم الله الجميع.
3 راجع المصادر التي ذكرناها آنفًا في تخريج الحديث السابق.
4 النهي عن صيام يوم الشك، جاء في عدة أحاديث، أصرحها ما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه موقوفًا عليه، ولفظه: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم".
وقد ذكره البخاري معلقًا في كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم =(2/584)
فمن الناس من قال: هو عام في الغيم والصحو.
ومنهم من قال: المراد به الشك في الصحو، وهو: إذا تطابق أهل البلد على ترك الترائي للهلال فيه ليلة الثلاثين، فشكوا هل طلع أم لا1؟ فصرنا
__________
= "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا": "3/33".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهة صوم يوم الشك "3/61"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كراهية صوم يوم الشك "1/545".
وأخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك "4/126".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في صوم يوم الشك "1/527".
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الصوم، باب النهي عن صيام الشك "1/335".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام "2/157"، وقال: "هذا إسناد حسن صحيح، ورواته كلهم ثقات".
وأخرجه الحاكم في كتاب الصوم، باب "من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم": "1/423-424".
ونقل الزيلعي في "نصب الراية": "2/442" عن ابن عبد البر قوله: "هذا حديث مسند عندهم، لا يختلفون في ذلك"، وذكر أن ابن حبان أخرجه في "صحيحه".
وراجع في الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "2/235"، و"ذخائر المواريث": "3/34".
والحديث من قبيل المرفوع؛ لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل نفسه.
وقال الجوهري المالكي: "هو موقوف"، ورد عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "4/120": "بأنه موقوف لفظًا؛ مرفوع حكمًا".
1 استعمال "أم" هنا بعد "هل" خطأ، والصواب: التعبير بـ "أو" ولك أن تستبدل "هل" بالهمزة، وتذكر بعد "أم" المعادل، فتكون العبارة هكذا: "فشكوا أطلع أم لم يطلع". وقد سبق التنبيه على مثل ذلك.(2/585)
إلى ما دل [عليه] تفسير الراوي، قال ابن عمر1: "كان إذا كان في السماء غيم؛ أصبح صائمًا، وإن كانت مصحية؛ أصبح مفطرًا"2.
وقد صار أحمد رحمه الله إلى تفسير ابن عمر رضي الله عنه في الموضعين جميعًا في رواية المروذي.
وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ... " 3 ففسره ابن عمر4 على أن المراد بقوله:
__________
1 ظاهر العبارة: أن ابن عمر هو الحاكي لفعل غيره، بينا الحاكي هو نافع، يحكي فعل ابن عمر، والأولى أن تكون العبارة هكذا: "قال نافع كان ابن عمر إذا كان في السماء ... "، كما ذكرت ذلك المراجع التي سأذكرها في تخريج الأثر.
2 تفسير ابن عمر هذا ذكره أبو داود في كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، ونصه: "فكان ابن عمر، إذا كان شعبان تسعًا وعشرين؛ نظر له؛ فإن رؤي؛ فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة؛ أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما..": "1/542".
3 هذا الحديث رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92".
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210".
وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف "3/534-535".
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الصرف 2/222.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2/757".
وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع، باب في النهي عن الصرف "2/173".
وأخرجه الإمام مالك في كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا ص"393".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تيسير الوصول": "1/66"، و "ذخائر المواريث": "3/45".
4 ليس هو "ابن عمر" كما هو في الأصل؛ وإنما هو: "عمر بن الخطاب" ولعل الخطأ من الناسخ، وسببه ذكر "ابن عمر" مرتين قبل هذا، وفي كل مرة يفسر حديثًا.(2/586)
["هاء وهاء"] : القبض في المجلس.
فروى مالك بن أوس بن الحدثان1 أنه قال: التمست صرفًا بمائة دينار، فدعاني2 طلحة بن عبيد الله3، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى4 يأتي خادمي5 من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع؛ فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه6.
وروي أنه قال لطلحة: لا تفارقه حتى تعطيه وَرِقه7، أو ترد عليه
__________
1 هو: مالك بن أوس بن الحدثان بن عوف النصري، أبو سعد. اختلف في صحبته اختلافًا كبيرًا. مات بالمدينة المنورة سنة 92هـ على الأرجح.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "3/1346"، و"الإصابة": "6/18".
2 في الأصل "فدعاني وطلحة"، بإثبات "الواو"، وهو خطأ، والصواب: حذفها، كما في صحيح البخاري "3/92".
3 هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي، التيمي. أبو محمد يعرف بطلحة الفياض. شهد أحدًا وما بعدها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. مات مقتولًا يوم وقعة الجمل سنة 36هـ، وله من العمر ستون عامًا.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "2/764"، و"الإصابة": "3/290".
4 في الأصل "حد"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري: "3/92".
5 هكذا في الأصل. والذي في صحيح البخاري "3/92"، "خازني". وفي صحيح مسلم "3/1209": "ثم ائتنا إذا جاء خادمنا". ويجمع بينهما: بأن خادمه هو نفسه خازنه؛ فهو شخص واحد، لا شخصان.
6 رواية مسلم في صحيحه "3/1210": "كلا، والله لتعطينه وَرِقه، أو لتردن إليه ذهبه ... ".
7 ضبطت هذه الكلمة في الأصل هكذا "وِرْقه" بكسر الواو وسكون الراء. وعند مسلم "وَرِقه" بفتح الواو وكسر الراء. وهناك لغة ثالثة هي: "وَرْقه" بفتح الواون وسكون الراء. راجع في هذا: مختار الصحاح ص"743" مادة: "ورق"، والمصباح المنير "2/1016" مادة: "ورق" أيضًا.(2/587)
ذهبه1.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وذكر أبو سفيان عن الكرخي أنه كان يقول: يجب العمل بظاهر الآية والخبر، ولا يرجع إلى تفسير الصحابي.
وإنما رجعنا إلى تفسيره في ذلك؛ لأن هذا اللفظ مما يفتقر إلى البيان، وهو أعرف به من غيره، لمشاهدته التنزيل؛ فوجب الرجوع إلى تفسيره، كما وجب الرجوع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية المحتملة.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية أبي طالب: في العبد يتسرى، فقيل له: فمن احتج [81/أ] بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ] 2، فأي ملك للعبد؟ فقال: القرآن أنزل على [أصحاب] النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون فيما أنزل، وقالوا: يتسرى العبد.
ويفارق هذا ما لا يفتقر إلى البيان؛ لأن اللفظ غير محتمل؛ فكان هو وغيره في تفسيره سواء.
__________
1 أثر عمر رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير "3/92"، وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "3/1209-1210".
2 "29-30" المعارج.
ويلاحظ: أن الاستدلال لا يتم إلا بذكر الآية الثانية، إذ هي المقصودة في هذا المقام.(2/588)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الآية والخبر يجب العمل بظاهرهما؛ لكونهما1 حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؛ فلم يرجع إلى تفسيره.
والجواب: أن قوله حجة عندنا وعندهم إذا انفرد، وله2 حكم المنفرد عند احتمال اللفظ.
__________
1 في الأصل: "بظاهرها؛ لكونها.."، والجادة: ما أثبتناه؛ لأن الضمير عائد على مثنى.
2 في الأصل: "وهو حكم".(2/589)
مخالفة الراوي للفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤثر في إحدى الروايتين عن أحمد
مدخل
...
فصل 1: فإن ترك الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بخلافه
وجب العمل بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر فيه مخالفة الراوي له في أصح الروايتين.
قال في رواية الأثرم في الحجام: نحن نعطي كما أعطى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم2، ولكن صاحبه لا يأكله، يطعمه الرقيق، ويعلفه الناضح3
__________
1 راجع في هذا الفصل في: "المسودة" ص"129"، و"القواعد والفوائد الأصولية" ص"296-297".
2 يعني بهذا: ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115" عن ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره".
كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/731".
وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "فتح الباري": "4/458".
3 يعني بذلك ما أخرجه الترمذي عن محيصة رضي الله عنه في كتاب البيوع باب كسب الحجام "3/566"، وذلك أن محيصة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام؛ فنهاه، فذكر له الحاجة، فقال: "اعلفه نواضحك، واطعمه رقيقك".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في كسب الحجام "2/238".
كما أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب كسب الحجام "2/732".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/94"، و"فتح الباري": "4/ 459".(2/589)
وقول ابن عباس: لو كان حرامًا؛ لم يعطه1. فهذا تأويل من ابن عباس.
وظاهر هذا: أنه أخذ بظاهر الخبر، ولم يلتفت إلى تأويله. وهو قول أصحاب الشافعي.
وفيه رواية أخرى: لا يجب العمل به، نص عليه رحمه الله في رواية حرب2؛ فقال: لا يصح الحديث عن عائشة؛ لأنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها.
وقال أيضًا رضي الله عنه في رواية المروذي: لا يصح الحديث؛ لأنها فعلت بخلافه.
__________
1 هذا أحد الألفاظ عن ابن عباس رضي الله عنه، واللفظ الآخر الذي أورده البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب خراج الحجام "3/115"، هو: "ولو علم كراهية؛ لم يعطه".
على أن هناك لفظًا ثالثًا لأبي داود؛ أورده في سننه في كتاب الإجارة، باب كسب الحجام "2/239"، وهو: "ولو علمه خبيثًا؛ لم يعطه".
وراجع في اختلاف الروايات: "فتح الباري": "4/458-459".
2 هو: حرب بن إسماعيل بن خلف، الحنظلي، الكرماني. أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله. قال عنه الخلال: "رجل جليل القدر". من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل الفقهية.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/145"، و"المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد": "1/ 287"، و"المدخل لمذهب الإمام أحمد" ص"206".(2/590)
وقال أيضًا رحمه الله في رواية الحسن بن محمد بن الحارث1 وقد سئل عن حديث الزهري2، فقال: الزهري يقول بخلاف هذا.
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه قال: هذا على وجهين:
أحدهما: أن يكون الخبر محتملًا للتأويل؛ فلا يلتفت إلى عمل الصحابي، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، التفرق: يحتمل أن يكون بالقول، ويحتمل أن يكون بالفعل، ثم حمله ابن عمر على التفرق بالأبدان؛ فلا يعمل على تأويله.
والثاني: أن يكون الخبر غير محتمل للتأويل؛ فعمله بخلافه؛ يكون دليلًا على أنه قد علم بنسخ الخبر، إن عقل من ظاهر حاله أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان غير ما دل عليه ظاهر الخبر من الندب دون الإيجاب.
وكان يحكى ذلك عن الكرخي: أن الأخذ بما رواه أولى مما عمل به من غير تفصيل.
__________
1 هو: الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/139"، و"المنهج الأحمد": "1/285".
2 هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، الزهري، المدني أبو بكر: الحافظ المحدث: روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم، وعنه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم. مات سنة 124.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/108"، و"شذرات الذهب": "1/162"، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص"42"، و"النجوم الزاهرة": "1/294"، و"وفيات الأعيان": "1/451".(2/591)
وجه الرواية الأولى:
أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الصحابي وفعله على أحد القولين: ليس بحجة، وعلى الرواية الأخرى: هو حجة؛ إلا أن خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم عليه، وإذا كان كذلك؛ وجب العمل بالخبر.
وأيضًا: فإن [81/ب] أبا حنيفة: قال: ليس بيع الأمة المزوجة طلاقًا.
واحتج هو وغيره من الفقهاء بما روى ابن عباس: أن عائشة اشترت بريرة، فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بيعها طلاقًا لما خيرها.
وخالف ابن عباس هذا الخبر، وكان يقول: بيع الأمة طلاقًا، وإن لم يكن ذلك موجبًا لترك الخبر.(2/592)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الصحابي لا يخالف الخبر ولا يعانده؛ فإذا رأينا قوله بخلافه؛ استدللنا على نسخ الخبر، وأنه إنما تركه وخالفه عن توقيف.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون بسنة، أو تركه بضرب من الاجتهاد في تقديم غيره عليه؛ فيجب أن ينظر فيه ولا يقلده.
واحتج: بأن الصحابي أعرف إذًا؛ فإنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف البيان والتأويل، وكانوا أعرف بما يقوله.
والجواب: أنه كذلك فيما يفتقر إلى البيان؛ فأما في مخالفة الخبر بقوله فلا؛ لأنه يحتمل أن يكون تركه للاحتمال الذي ذكرنا.
وجواب آخر، وهو: أنه لو علم مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجب عليه نقله، كما يجب عليه [نقل] نص النبي على المراد بخطابه؛ فلما لم يبطل ذلك؛ علمنا أنه لم يعلم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حاله في ذلك كحال غيره ممن لم يشاهد الخطاب.(2/592)
العادة لا تخصص العموم
مدخل
...
فصل 1: [العادة لا تخصص العموم]
إذا ورد لفظ عام؛ لم يجز تخصيصه بعادة المكلفين، مثل أن يرد تحريم البيع مطلقًا، وعادتهم جارية بنوع منه2.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"123-125"، و"التمهيد" لأبي الخطاب الورقة "67".
2 عادة المكلف إما أن تكون عادة فردية أو جماعية.
والعادة الفردية لا كلام لنا فيها.
وأما العادة الجماعية، وهي ما تسمى بالعرف؛ فهي على قسمين:
عادة قولية: "العرف القولي"؛ فهي تخصص العموم. وقد حكى كثير من العلماء الاتفاق على ذلك، منهم الإسنوي في: "شرح المنهاج": "2/115"، وابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير": "2/282"، وابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت": "1/345"، وابن عابدين في "رسائله": "2/115".
ومن المتأخرين الشيخ أحمد أبو سنة في كتابه "العرف والعادة في رأي الفقهاء" ص"91"، والأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه "المدخل الفقهي العام": "2/888".
وأما العادة الفعلية "العرف العملي"؛ فهي على نوعين:
النوع الأول: عادة عملية، أو عرف عملي، وجد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه، وأقره؛ فهذا يعتبر مخصصًا، والحقيقة: أن المخصص هو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: عادة عملية، أو عرف عملي وجد بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ فإذا استمر العمل حتى كان إجماعًا عمليًا؛ فهو يخصص العموم، عند من يقول بحجية الإجماع العملي، والحقيقة: أن المخصص هو الإجماع.
أما إذا لم يكن كذلك؛ فالجمهور على أنه لا يعتبر مخصصًا. وذهبت فرقة قليلة من الحنفية إلى القول بتخصيص العموم والحالة هذه.
وقد استوفينا الكلام في هذا، في رسالتنا للماجستير بعنوان: "العرف وأثره في الشريعة والقانون" ص"84-95".
ولعل القاضي أبا يعلى يريد هنا العرف العملي، الذي لم يعضده أي عاضد.(2/593)
وكقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1، وقد جرت عادتهم بأكل نوع منه.
لأن الحكم يتعلق باللفظ؛ فوجب القضاء به على جميع ما يصح أن يعبر به عنه، اعتبارًا بالعموم.
ولأن الظاهر أن الكلام خرج لقطع العادة الجارية، ودفع الأمر الواقع؛ فلم يجز تركه في هذا الوضع بعينه.
فإن قيل: أليس قد خصصتم الاسم بالعرف، مثل اسم الدابة ونحوها إذا أطلق؛ هلا فعلتم مثل هذا في الحكم؟
قيل: عرف الاستعمال هناك مقارن للفظ؛ فيصير ذلك هو اللغة الجارية، وهذا معدوم ههنا، مع أن اسم الدابة عام في غير المتعارف مجازًا.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية مهنا: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال: أدركت أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا2 يعمون، لا يجعلونها تحت3 الخيل: هو معروف، ولكن الناس على غير هذا، أهل الشارع خاصة لا يعمون
__________
1 "188" سورة البقرة.
2 في الأصل: "فكان يعمون"، والصواب: ما أثبتناه.
3 في الأصل: "تحت"، والصواب ما أثتبناه.(2/594)
إلا نجب1 الخيل. وظاهر هذا أنه اطرح الحديث بعادة المكلفين.
قيل: إنما عارض عرفًا بعرف، [82/أ] ولم يخصص خبرًا بعرف.
__________
1 في الأصل: "نحن"، والصواب من أثبتناه.(2/595)
مسألة تخصيص الأخبار جائز
مدخل
...
مسألة: 1 [تخصيص الأخبار جائز] :
التخصيص يدخل في نحو قوله: رأيت المشركين؛ كما يدخل في الأوامر.
وقد تكلم أحمد رضي الله عنه على آيات في القرآن وردت بلفظ الخبر، وبين أنها مخصوصة؛ ذكره فيما خرجه في محبسه، فقال: قوله تعالى للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم ومساكنهم والجبال3 التي بحضرتهم -وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4 لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه. وقال لملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 وقد كان ملك سليمان شيئًا لم تؤته.
خلافًا لبعضهم في قولهم: لا يدخل التخصيص في الخبر، كما لا يدخله النسخ.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130".
2 "25" سورة الأحقاف.
3 في الأصل بدون إعجام.
4 "102" سورة الأنعام.
5 "23" سورة النمل.(2/595)
دليلنا:
أن التخصيص إنما دخل في لفظ الأمر؛ لأنه يحتمل أن يراد به جميع(2/595)
ما وضع له اللفظ، ويحتمل أن يراد به بعضه، وهذا المعنى موجود في الخبر، كوجوده في الأمر؛ فإنه يصح أن يقول: رأيت المشركين، ويكون قد رأى بعضهم؛ فساوى الأمر الخبر في هذا، ويفارق النسخ؛ لأنه يرفع جميع الحكم ويزيله؛ فيؤدي إلى الكذب فيما أخبر به، والتخصيص لا يرفع جميع الحكم، بل يبقى بعضه؛ فلا يؤدي إلى التكذيب والإبطال.
ويدل عليه وجود ذلك بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومعلوم أن ذاته لم تدخل فيه، وكذلك: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ، ولم تدمر السموات والأرض، وما أشبه ذلك.
__________
1 "20" سورة البقرة.(2/596)
مسألة إذ ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل
مدخل
...
مسألة: 1 [إذا ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل] :
نظرت؛ فإن لم يكن مستقلًا بنفسه، ومتى أفرد عن السؤال لا يكون مفهوم المراد، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبي بردة بن نيار: "يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك" 2؛ فهذا خرج على قول أبي بردة: لا أجد إلا جذعة من المعز؛ فهو مقصور على السؤال ومضموم إليه، ويكون تقديره: إذا ذبحت جذعة من المعز يجزيك في الأضحية، ولا يجزي أحدًا بعدك.
وإن كان مستقلًا بنفسه نظرت:
فإن كان مطابقًا للسؤال فهو على ضربين:
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"130"، و "روضة الناظر" ص"122".
2 سبق تخريج هذا الحديث ص"332".(2/596)
ضرب هو سؤال عنه جملة، وجواب عنها.
وضرب هو سؤال عن حكم عين، وجواب عن حكمها.
فالسؤال عن الجملة مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرض في اليوم والليلة؛ فقال: "خمس صلوات، كتبهن الله على عباده" 1.
وما روي أنه سئل عن صلاة التطوع بالليل والنهار، فقال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" 2.
__________
1 هذا جزء من حديث رواه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان "3/29-30".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام "1/40-41".
وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الصلاة "1/93".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب كم فرضت في اليوم والليلة "1/184".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الصلاة، باب جامع الترغيب في الصلاة "1/357".
وأخرجه عند الدارمي في سننه في كتاب الصلاة، باب في الوتر "1/309".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/114"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"85"، و"ذخائر المواريث": "1/274".
2 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في صلاة النهار "1/297".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/491"، وقال فيه: "اختلف أصحاب شعبة فيه؛ فوقفه بعضهم، ورفعه بعضهم، والصحيح: ما رواه الثقات عن ابن عمر؛ فلم يذكروا فيه: "صلاة النهار".(2/597)
...........................................................................................................................................
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل "3/185-186"، وقال: "هذا الحديث عندي خطأ".
لكن نقل الزيلعي عنه في "نصب الراية": "2/143-144" أنه قال في "سننه الكبرى": "إسناده جيد؛ إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه؛ فلم يذكروا فيه "النهار"؛ منهم: سالم، ونافع، وطاوس..".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/419".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "1/280".
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/416"، وقد نقل عنه قوله في كتابه "العلل": "ذكر النهار فيه وهم". وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "2/487"، ونقل عن البخاري: أنه صحيح الحديث.
وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه: "التلخيص": "2/22" عن البيهقي قوله: "هذا حديث صحيح"، و"علي البارقي" احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه، قال: وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعًا بإسناد كلهم ثقات.
وأخرجه عن ابن عمر أبو داود الطيالسي في: "مسنده" في كتاب الصلاة باب الخشوع في صلاة الليل وأنها مثنى مثنى "1/117".
وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "علوم الحديث" ص"58"، وقال بعد سياقه بسنده: "هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت، وذكر "النهار" فيه وهم، والكلام عليه يطول".
وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: "رواته ثقات".
ونقل صاحب "الجوهر النقي": "2/488" مطبوع مع "سنن البيهقي" عن ابن عبد البر قوله في كتابه: "التمهيد": "إن إسناد هذا الحديث مضطرب، ضعيف لا يحتج به".=(2/598)
.................................................................................................................
__________
= كما نقل عن ابن عبد البر ما حكاه بسنده إلى يحيى بن معين أنه قال: "صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن"؛ فقيل له: إن ابن حنبل يقول: "صلاة الليل والنهار مثنى"؛ فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأزدي عن ابن عمر؛ فقال: ومن علي الأزدي؟! حتى أقبل هذا منه، وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا، لا يفصل بينهن؟؛ لو كان حديث الأزدي صحيحًا؛ لم يخالفه ابن عمر".
ومن هذا العرض يتبين: أن هناك رأيين في هذا الحديث:
رأي يقول بتضعيف الحديث، وعلى رأس القائلين بهذا ابن معين وابن عبد البر.
ورأي يقول بصحته، وفي مقدمتهم البخاري والبيهقي.
ومجمل أسباب التضعيف عند القائلين به:
أولًا: أن هذه زيادة، أوردها "علي البارقي الأزدي" مخالفًا بها الثقات؛ فتطرح هذه الزيادة، ويعتمد رواية الثقات.
ثانيًا: أن هذه الزيادة تتعارض مع فعل الراوي ابن عمر رضي الله عنهما، وقد روي عنه أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا. وما كان له أن يخالف حديثًا صحيحًا، وبخاصة وهو راويه.
وأما القائلون بالصحة فاستدلوا بما يلي:
أولًا: أن "علي بن عبد الله البارقي الأزدي" -الذي عليه مدار هذه الزيادة- ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.
ثانيًا: أن لهذا الحديث طرقًا أخرى، منها: ما أخرجه الدارقطني بسنده عن ابن عمر مرفوعًا، وذلك في سننه في كتاب الصلاة، باب صلاة النافلة في الليل والنهار "1/417".
ومنها: ما أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" بسنده عن ابن عمر مرفوعًا كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "2/22".
ثالثًا: أن لهذا الحديث شاهدًا من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا "الصلاة مثنى مثنى"، أخرجه الترمذي في "سننه": "2/225".
وقد تكلم الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على سند هذا الحديث في تعليقه على سنن الترمذي "2/492"، وذيل كلامه بقوله: ".. فحديث الباب رواه الأزدي، وهو ثقة، وتابعه عليه عبد الله العمري، وهو ثقة أيضًا، كما ذكرنا مرارًا. وصححه البخاري. وكفى به حجة، وله شاهد آخر من حديث الفضل بن العباس مرفوعًا: "الصلاة مثنى مثنى"، من غير تقييد بصلاة الليل".
على أن الحديث المذكور أخرجه أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، كما أخرجه إبراهيم الحربي عن أبي هريرة رضي الله عنه، حكى ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "2/145".(2/599)
وما روى أبو سعيد الخدري1: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال [82/ب] : "الحية والعقرب والفويسقة 2 والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي" 3.
__________
1 هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري الخدري. من علماء الصحابة وحفاظها المكثرين. خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. وعمره يومئذ خمسة عشر عامًا. مات سنة 74هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1671"، و"الإصابة" القسم الثالث ص"77" طبعة دار نهضة مصر.
2 "الفويسقة" هي "الفأرة"، كما صرحت بذلك بعض الروايات.
3 حديث أبي سعيد هذا؛ أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب "1/428"، ولكنه ذكر الغراب بلفظ: "يرمي الغراب، ولا يقتله".
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/189"، ولم يذكر "الحية" في حديثه. وقال فيه: "هذا حديث حسن".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم "2/1032"، ولم يذكر "الغرب" في روايته.
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "2/166"، ولم يذكر من هذه الدواب إلا ثلاثًا؛ الحية، والعقرب، والفأرة الفويسقة.=(2/600)
والسؤال عن حكم عين من الأعيان، مثل ما روي: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب نحره، وينتف شعره ويقول: هكلت وأهلكت، فقال: "ماذا فعلت؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان،
__________
= وحديث أبي سعيد هذا متكلم فيه فقد قال الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير": "2/274"، "وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف وإن حسنه الترمذي. وفيه لفظة منكرة، وهي قوله: "ويرمي الغراب، ولا يقتله"..".
ويزيد بن أبي زياد قال فيه ابن حبان: "صدوق"؛ إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن".
وقال فيه يحيى: "ليس بالقوي". وقال أيضًا: "لا يحتج بحديثه".
وقال أحمد: "حديثه ليس بذاك".
وقال ابن المبارك: "ارم به".
وقال ابن الفضيل: "كان من أئمة الشيعة الكبار".
وقال شعبة: "كان يزيد بن أبي زياد رفاعًا".
وقال الذهبي: "مشهور، سيء الحفظ".
راجع في هذا: "المغني في الضعفاء" للذهبي "2/749"، و"ميزان الاعتدال" له "4/423"، و"لسان الميزان" لابن حجر "6/287" وقد قال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": "2/166"، بعد أن ساق الحديث بلفظ: "يقتل المحرم الحية والعقرب والفأرة الفويسقة". قال يزيد: وعد غير هذا؛ فلم أحفظ".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "3/130"، و "ذخائر المواريث": "3/183".
وينبغي أن يعلم أن البخاري قد روى بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا في كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب "3/16" بلفظ: "خمس من الدواب لا حرج على قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور".(2/601)
فقال: أعتق رقبة" 1 حين ذكر له السبب؛ فالظاهر أن الرقبة متعلقة بالوقوع الذي ذكره، تعلق الحكم بالعلة؛ لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره، كما إذا سمع رجلًا يقول شيئًا؛ فقال له: "استغفر الله"، يدل على أن القول الذي اقتضى الاستغفار، والسبب يكون جميعه، عليه لا يجوز أن يزاد فيه بغير دليل؛ لأن الظاهر الذي اقتضى الحكم هو الذي ذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالحكم لأجله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم بسبب ذكر له، يجب أن يكون الحكم جميع موجبه؛ لأن تأخير
__________
1 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء "3/39".
وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/781".
وأخرجه الترمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان "3/93".
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان "1/557".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان "1/534".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الصيام باب القبلة للصائم "2/190".
وأخرجه الدارمي في كتاب الصيام، باب في الذي يقع على امرأته في شهر رمضان نهارًا "1/343".
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب حكم من أكل أو شرب ناسيًا أو متأولًا أو أفطر عمدًا في التطوع أو في رمضان "1/265".
ويلاحظ: أن الحديث قد ورد بعدة ألفاظ، ولكن الواقعة واحدة.
وراجع في الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/451"، و "تلخيص الحبير": "2/206"، و "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"242، و"تيسير الوصول" 2/242".(2/602)
البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كان للسبب حكم غيره؛ لم يترك بيانه، ولهذا قلنا فيما روي أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعه1، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: أحرمت وعلي هذا، فقال: "انزع الجبة، واغسل الصفرة" 2، ولم يأمره بالفدية؛ فدل على أن الفدية غير
__________
1 في إحدى روايات مسلم "3/836": "مقطعات".
وقد أورد الزمخشري في كتابه "الفائق في غريب الحديث": "3/208" ثلاثة أقوال في تفسيرها:
الأول: الثياب القصار؛ لأنها قطعت عن بلوغ التمام.
الثاني: الثياب التي تقطع وتخاط، كالجلباب ونحوه.
الثالث: برود: عليها وشي مقطع.
2 هذا الحديث رواه يعلى بن أمية رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج "3/6".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح "2/836".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة "3/187".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه "1/422-423".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الجبة في الإحرام "5/99".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج "2/231".
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم "1/212".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكحل والطيب والتزعفر "2/15".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "2/273"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"384". و"نصب الراية": "3/19"، و"ذخائر المواريث": "3/131"، و"تيسير الوصول": "1/240".(2/603)
واجبه، وتكون العين المنصوص على حكمها1 أصلًا، ويكون كل من وجد منه مثل ذلك السبب في حاله2؛ وإنما كان المنصوص عليه أصلًا؛ لأنه ثبات حكمه بلفظ تناوله خصوصًا، وكان غيره في حاله3؛ لأنه حكم فيه بعلة تعدت إليه منه، كما أن الأرز وسائر المكيلات، فروع للأربعة المنصوص عليها للمعنى الذي ذكرته.
وأما إذا كان الجواب مخالفًا للسؤال نظرت:
فإن كان أخص من السؤال، مثل: أن يسأل عن قتل النساء الكوافر؛ فيقول: "اقتلوا المرتدات؛ فيجب قتل المرتدات باللفظ، وغير المرتدات من الحربيات لا يجوز قتلهن من طريقين: أحدهما: من طريق دليل الخطاب، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الاسم العام إلى الاسم الخاص؛ دل على أنه قصد المخالفة بين المرتدات، وبين الحربيات.
وهكذا كما قال أصحابنا في خبر حذيفة بن اليمان4 عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وجعل ترابها طهورًا" 5،
__________
1 في الأصل: "حكمه"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مؤنث.
2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه".
3 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "في حكمه".
4 هو: حذيفة بن حسيل "بالتصغير، ويقال: بالتكبير" بن جابر بن ربيعة بن فروة، المعروف باليمان، العبسي. من كبار الصحابة وأجلائهم. شهد الخندق وما بعدها، وشهد حروب العراق. استعمله عمر على "المدائن"؛ فلم يزل بها، حتى مات سنة 36هـ.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/334"، و"الإصابة": "1/332".
5 هذا الحديث أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعًا، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة "1/371"، بلفظ: "جعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء". وأخرجه الدارقطني عنه في كتاب الطهارة، باب التيمم "1/176" بمثل لفظ مسلم.
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "تلخيص الحبير": "1/148-149"، و"تيسير الوصول": "3/69"، و"ذخائر المواريث": "1/188"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"77"، و"نصب الراية": "1/158".(2/604)
فعلق على اسم الأرض كونها مسجدًا، وعلى نوع منها كونه طهورًا؛ فدل على أنه قصد المخالفة بين المسجد والطهور.
خلافًا لأبي حنيفة أن كل أرض مسجد وطهور.
وأما إن كان أعم من السؤال، مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: إنا نركب أرماثًا1 لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، [83/أ] أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 2؛ فسئل عن حال الضرورة، وأجاب بأنه
__________
1 في الأصل: "أزماتًا"، والصواب من أثبتناه. ولم تأت هذه اللفظة في كل المراجع التي سأذكرها في تخريج الحديث؛ إلا عند الدارمي فقد جاءت اللفظة بصيغة الأفراد، حيث جاء: "أتى رجال من بني مدلج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا يا رسول الله إنا أصحاب هذا البحر، نعالج الصيد على رمث.." الحديث "1/151".
قال الزمخشري في كتابه "الفائق": "2/84": "الرمث: الطوف، وهو خشب يضم بعضه إلى بعض، ويركب في البحر".
2 هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، كما رواه غيره، وسنقتصر على تخريج حديث أبي هريرة؛ لأنه أصح ما ورد في الباب؛ ولأن لفظ حديث أبي هريرة هو اللفظ الذي ساقه المؤلف، مع اختلاف قليل بين المحدثين في لفظ الحديث.
وقد أخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "1/100-101"، وقال: "حديث حسن صحيح".=(2/605)
.................................................................................................................
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/19".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر "1/136".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ماء البحر "1/44".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب الوضوء في ماء البحر "1/36".
وأخرجه الدارمي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر "1/151".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب الطهور في الوضوء "1/52-53".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهر بها "1/19".
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب التطهر بماء البحر "1/3".
واختلف في الحديث بين مصحح ومضعف، والذين ضعفوه قالوا: إن فيه عللًا أربعًا:
إحداها: جهالة بعض رواته.
الثانية: الاختلاف في اسم بعض رواته.
الثالثة: الإرسال.
الرابعة: الاضطراب.
وأجيب عن هذه المطاعن الموجهة للحديث، كما نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" عن الشيخ تقي الدين.
أما الذين صححوه؛ فهم على قمسين:
قسم صححه، وقبله؛ لتلقي الأمة له بالقبول؛ لا لصحة سنده. وهو منقول عن ابن عبد البر.
وقسم صححه، وقبله؛ لصحة سنده، وهم الأكثرية، ومنهم: الترمذي، وأبو محمد البغوي، وابن منده، وابن المنذر، والبخاري فيما حكاه عنه الترمذي. ولعل هذا لقول هو الأولى بالأخذ. وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"3"، و"تلخيص الحبير": "1/9-12"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"8"، و"نصب الراية": "1/96-98"، و"المحرر في الحديث في بيان الأحكام الشرعية" "ص4".(2/606)
طهور، ولم يخص حال الضرورة دون حال الاختيار؛ فيجب عندنا أن يحمل الجواب على عمومه، ويكون الاعتبار بعموم اللفظ، دون خصوص السبب.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد وقد سئل عن الوضوء من ماء البحر؛ فقال: لا بأس به، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته"؛ فقد احتج بالحديث على العموم، ولم يعتبر السبب الذي ور عليه.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة1، وأكثر أصحاب الشافعي2، وأصحاب الأشعري.
__________
1 راجع في هذا: "تيسير التحرير": "1/264"، و"فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت": "2/289".
2 راجع في هذا: "المستصفى": "2/60"، و"شرح جمع الجوامع": "2/38"، و"الإحكام" للآمدي": "2/218"، وقد ذكر الآمدي: أن المنقول عن الشافعي: أنه لا يذهب إلى القول بالعموم.
وتعقبه الإسنوي في "نهاية السول": "2/479"، بأنهم اعتمدوا في ذلك على قول إمام الحرمين في "البرهان": إنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي، ونقله عنه في المحصول. ثم قال الإسنوي عقب ذلك: " ... وما ذكره الإمام مردود؛ فإن الشافعي رحمه الله قد نص على أن السبب لا أثر له؛ فقال في "الأم"، في باب ما يقع به الطلاق: ولا يصنع السبب شيئًا؛ إنما يصنعه الألفاظ؛ لأن السبب قد يكون، ويحدث الكلام على غير السبب، ولا يكون مبتدأ الكلام الذي حكم؛ فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئًا؛ لم يصنعه ما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع له حكم إذا قيل".(2/607)
وقال أصحاب مالك1: يقتصر على السؤال، وحكى ذلك2 عن المزني3 وأبي بكر الدقاق4.
إن الدلالة على الحكم هو لفظ صاحب الشريعة، دون سؤال السائل؛ فإذا كان لفظه عامًا؛ وجب حمله على عمومه، كما لو ورد ابتداء.
ولأن الاعتبار بلفظه، دون السؤال، بدليل: أن السؤال إذا كان عامًا، والجواب خاصًا؛ وجب حمله على خصوصه اعتبارًا به، كذلك ههنا.
ولأنا نعتبر صفة اللفظ في كونه أمرًا ونهيًا وإباحة؛ كذلك في كونه عمومًا وخصوصًا.
ولأن المرأة إذا قالت لزوجها: طلق ضرائري؛ فقال: كل امرأة لي
__________
1 أكثر المالكية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما حكى ذلك القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" ص"216"، كما حكي عن الإمام مالك روايتين.
والقول بأن العبرة بخصوص السبب عن الإمام مالك، هو الذي نقله كثير من الأصوليين، كالآمدي في كتابه "الإحكام": "2/219"، والإسنودي في كتابه "نهاية السول": "2/477".
2 نقل ذلك صراحة الإسنوي عن المزني، كما نقل بعض العلماء: أن الدقاق يقول بذلك.
انظر: "نهاية السول": "2/477-478".
3 هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني نسبًا، المصري موطنًا، الشافعي مذهبًا، ذو علم وزهد وورع وتقوى، قال فيه الشافعي: المزني ناصر مذهبي، له مصنفات، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامغ الصغير" مات سنة 264هـ، وعمره 89 سنة.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/148"، و"وفيات الأعيان": "1/196-197".
4 هو: محمد بن جعفر، وقد سبقت ترجمته.(2/608)
طالق؛ طلقت السائلة مع ضرائرها؛ لأن لفظ الزوج عام؛ فوجب حمله على عمومه، دون خصوص السؤال، كذلك ههنا.
ولأنه زائد على السؤال؛ فوجب أن يثبت حكمها وتكون شرعًا، كما إذا كانت الزيادة منفصلة، مثل قوله: "الحل ميتته".
ولأن العام إنما يخص بما يعارضه وينفيه، والسبب الوارد عليه اللفظ مماثل له ومطابق له في حكمه؛ فلا يجوز تخصيصه.
ولأن الخطاب قد ورد في مكان وزمان، ثم لا يقتصر به على المكان والزمان؛ كذلك لا يقتصر به على السبب.
ولأن خروجه على شخص بعينه، لا يوجب تخصيصه به، مثل آية اللعان، نزلت في شأن هلال بن أمية1. وآية القذف نزلت في
__________
1 ورد أنها نزلت في هلال بن أمية، وورد أنها نزلت في عويمر العجلاني.
أخرج البخاري قصة هلال وقصة عويمر في كتاب التفسير، باب سورة النور "9/125-126".
وأخرجهما مسلم في أول كتاب اللعان "2/1129" وما بعدها.
وأخرجهما أبو داود في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/520-524".
وأخرجهما ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب اللعان "1/667-668".
وأخرج النسائي قصة قذف هلال امرأته، وقصة مجيء عويمر في كتاب الطلاق، باب بدء اللعان، وباب اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه، وباب كيف اللعان "6/139-142".
وأخرج الترمذي قصة هلال، في كتاب التفسير، باب ومن سورة النور "5/331".
وقد اختلف العلماء في أيهما نزلت الآية على أقوال، تنحصر في ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: الترجيح بين الأحاديث؛ فبعضهم رجح نزولها في هلال، وبعضهم رجح نزولها في عويمر.=(2/609)
شأن الإفك1، وآية الظهار في شأن خولة2، كذلك خروجه على مسبب.
__________
= المسلك الثاني: الجمع بين الأحاديث، وذلك: أن الآية نزلت في شأنهما معًا؛ فقد وقعت الحادثة أولًا لهلال، ثم صادف مجيء عويمر.
المسلك الثالث: تعدد نزول الآية؛ فقد نزلت مرتين، مرة في شأن هلال، ومرة في شأن عويمر.
راجع في هذا: "أسباب نزول القرآن للواحدي" ص"328-329"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"153-154".
وهلال هذا هو: هلال بن أمية الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "4/1542"، و"الإصابة" القسم السادس ص"546" طبعة دار نهضة مصر.
1 راجع في هذا: "أسباب النزول" للواحدي ص"330-335"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"123-126"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"155-159".
2 في الأصل: "قوله"، وهو خطأ، والصواب: "خولة" كما أثبتناه؛ لأن الآية نزلت فيها، وقد اختلف في اسمها، فقيل: "خولة"، وهو الأكثر وقيل: "خويلة". وقيل: "جميلة".
كما اختلف في اسم أبيها، فقيل: "ثعلبة"، وهو المشهور. وقيل: "مالك بن ثعلبة". وقيل: "خويلد".
انظر ذلك في ترجمتها في: "الاستيعاب": "4/1830-1832"، و"الإصابة" القسم السابع ص"618" طبعة دار نهضة مصر.
وقصة مظاهرة زوجها أوس بن الصامت منها مشهورة؛ فلا نطيل الكلام بإيرادها، ومن أرد الاطلاع على ذلك فعليه بالرجوع إلى: "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص"433-435"، و"أسباب النزول" للسيوطي ص"164"، و"أسباب النزول" لعبد الفتاح القاضي ص"218-219"، و"نصب الراية": "3/246"، و"تلخيص الحبير": "3/220-221".(2/610)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن الجواب والسؤال بمنزلة الجملة الواحدة؛ فيصير كأنه قال: إذا ركبتم البحر، وكان معكم القليل من الماء، وإن توضأتم خفتم العطش؛ فتوضئوا بماء البحر؛ فإنه طهور، ولو كان هكذا؛ لكان مقصورًا على حال الضرورة؛ لأن خوف العطش، يصير شرطًا في الوضوء بماء البحر، ويدل على أنهما بمنزلة الجملة الواحدة: أن الجواب مقتضى السؤال.
والجواب: أنا لا نسلم أنه بمنزلة الجملة، ونقول: هما ضمنان؛ لأن السؤال ليس بعلم على الحكم، والجواب [83/ب] علم على الحكم؛ فدل على أنهما جملتان مختلفتان.
وقولهم: إن الجواب مقتضى السؤال؛ فهو وإن كان مقتضاه؛ فيجوز أن يكون زائدًا عليه، ويجيب عما يسأل وعما لم يسأل، ولهذا قال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".
ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} 1.
واحتج: بأنه يجوز أن يكون الجواب مبهمًا محالًا به على بيان السؤال.
والجواب: أنه يجوز أن يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم مبهمًا محالًا على بيان القرائن، وبيان القياس، ويكون لفظ القرآن محالًا على بيان السنة، وإذا كان كذلك؛ لم يدل هذا على أنهما جملة واحدة.
واحتج بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "أعتق رقبة"، مقصور على
__________
1 "17-18" سورة طه.(2/611)
السبب الذي خرج الكلام عليه، ولا يجوز أن يتعدى ذلك حال وقوع الفعل.
والجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة"؛ لا يعم حال الوقوع، وغير حال الوقوع، وليس كذلك: "هو الطهور ماؤه"؛ فإنه عام في جميع الأحوال. وحمله على حال الضرورة، تخصيص له بأمر ما، يدل على ذلك: أنها لو قالت: طلقني، فقال: أنت طالق، كان الظاهر أنه طلقها لسؤالها، وأن قولها هو المقتضى لإيقاع الطلاق عليها. وإذا قالت له: طلق ضرائري، فقال: كل امرأة له طالق؛ حمل قوله على عمومه فيها وفي ضرائرها؛ فدل على ما قلناه.
واحتج: بأن الخطاب لما ورد عقيب السبب، كان الظاهر أنه بيان لحكمه1؛ فإنه لو كان بيانًا لحكم غيره2 لذكره قبل حدوثه.
والجواب: أنه لو ذكره قبل ورود السبب؛ لجاز إخراج هذا السبب منه وتخصيصه، وحين ذكره عند وجود السبب؛ أفاد أنه لا بد أن يكون السبب داخلًا في حكم الخطاب، وأنه لا يجوز تخصيصه؛ لكونه منصوصًا عليه، وعلى أن هذا يوجب إذا ورد في مكان مخصوص، وزمان مخصوص، وسائل مخصوص أن يقتصر على سؤال السائل، وعلى الزمان والمكان.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى أنه إذا ورد على سبب؛ لم يجز خروج السبب من الخطاب في رواية أبي داود3 وقيل له: إن فلانًا قال: قراءة الفاتحة يعني خلف الإمام -مخصوص من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
__________
1 في الأصل: "حكمها"، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير راجع إلى "السبب"، وهو مذكر.
2 في الأصل: "غيرها"، والصواب: ما أثبتناه، لما سبق من التوجيه.
3 راجع هذه الرواية في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص"31".(2/612)
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} 1، فقال: من يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة. فقد أنكر تخصيص الآية، وحملها على غير المصلي؛ لأنها واردة في المصلي؛ [فلم] يخرج [بها] عن سببها.
واحتج بأن الجواب إذا كان بلا [أ] ونعم، كان مقصورًا على السؤال؛ كذلك إذا كان أعم منه.
والجواب: [84/أ] أن الجواب هناك غير مستقل بنفسه؛ ألا تراه لا يصح تفرده عنه، وهذا بخلافه.
واحتج: بأن السبب كالعلة في الحكم، والعلة لا تدل على أكثر من معلولها.
والجواب: أنه إذا كان الخطاب أعم من السبب، كان السبب كالعلة في قدر حكمه، وما زاد عرف حكمه باللفظ.
واحتج: بأن قصره على سببه وتخصيصه بتلك العين، قد يكون فيه مصلحة؛ فلا يجوز أن يتعدى ذلك.
والجواب: أن قصره على الوقت والمكان، قد يكون فيه مصلحة، ومع هذا فلا يجب ذلك.
واحتج: بأنه لما كانت الأيمان مقصورة على أسبابها، يجب أن تكون ألفاظ صاحب الشريعة كذلك.
والجواب: أنا لا نقصرها على أسبابها، بل يعتبر في تفهم الحكم وزيادته على اللفظ؛ فأما في تخصيص اللفظ بالسبب؛ فلا؛ ولهذا نقول: إذا حلف لا يلبس من غزلها لمنّة؛ فانتفع بثمنه، أو بشيء من مالها حنث.
وقد قال أحمد رحمه الله فيمن حلف لا يصيد في نهر؛ لأجل ظلم السلطان؛ فزال الظلم: فإن اصطاد؛ حنث، كذلك ههنا.
__________
1 "204" سورة الأعراف.(2/613)
إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا حمل كل واحد منهما على ما ورد
مدخل
...
فصل 1: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا:
كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2 هو عام في البائن والرجعية، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2 خاص في الرجعية، فيحمل كل واحد منهما على ما ورد، ولا يخص أولها بآخرها.
وهذا بناء على الأصل الذي تقدم، وأنه لا يقصر اللفظ على سببه ولا على السؤال؛ لأن التخصيص إنما يكون بما يخالفه ويعارضه، وهذا يوافقه؛ لأن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بعض ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} .
ولأن اللفظ الأول يستقل بنفسه؛ ولأن اللفظ الثاني يحتمل أن يكون راجعًا إلى جميع ما تقدم، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى بعضه، ولا يجوز تخصيصه بالشك.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} 3 قال: أول الآية يدل على أن علمه معهم. وقال في سورة أخرى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 4.
وقال رحمه الله في رواية أبي طالب: يأخذون بأول الآية ويدعون آخرها5.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"138".
2 "228" سورة البقرة.
3 "7" سورة المجادلة.
4 "255" سورة البقرة.
5 ذكرت هذه الرواية في "المسودة" ص"138"، كما هنا.(2/614)
وليس هذا من أحمد رضي الله عنه على أنه يجب تخصيص أولها بآخرها؛ وإنما قال ذلك بدليل دل على ذلك، وعضده بما في سياق الآية.
ولو أن قائلًا قال: ظاهر الكلام التسوية بين أول الآية وآخرها، كان له وجه في الاعتبار؛ لأن المتكلم متى وضع كلامه على وجه؛ فظاهر أمره أنه يخرجه [84/ب] على ما وضعه عليه، وأنه لم يعدل عنه إلى غيره، ويجري ذلك مجرى الكناية، وسائر ما يعطف بعضه على بعض.(2/615)
مسألة تعارض العام والخاص
مدخل
...
مسألة 1: [تعارض العام والخاص] :
إذا تعارضت آيتان أو خبران، وأحدهما عام والآخر خاص، والخاص منافٍ للعام؛ وجب تخصيص العام، سواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2 وقال النبي: "لا قطع إلا في ربع دينار". وقوله: {لا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4، ونحو هذا.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في مواضع:
فقال في رواية يعقوب بن بختان5 في الخبرين: يجيئان6 عن النبي
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"134-136".
2 "38" سورة المائدة.
3 "221" سورة البقرة.
4 "5" سورة المائدة.
5 في الأصل: "بحان" بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه، وقد سبقت ترجمته.
6 في الأصل: "بحار" هكذا بدون إعجام، والصواب ما أثبتناه.(2/615)
صلى الله عليه وسلم متضادين لكل خبر وجهه.
وقال في رواية المروذي: لا تضرب الأخبار بعضها ببعض؛ لكل خبر وجهه، مثل: من اشترى شاة مصراة؛ فليرد معها صاعًا من تمر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، وذكر مع السلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده".
وقال رضي الله عنه في رواية أبي طالب: حديث أم سلمة: "من أراد أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره"، وحديث عائشة1 عام، وحديث أم سلمة مخصوص؛ فهو آكد؛ لأنه قد خص من العام: إذا أراد أن يضحي أمسك؛ وإذا بعث لم يمسك، هذا على وجهه، وهذا على وجهه.
وقال في رواية عبد الله وقد سأله عن الثوب تصيبه الجنابة2 فقال: أذهب إلى الحديثين، حديث سليمان بن يسار3 عن عائشة: "أن النبي
__________
1 حديث عائشة رضي الله عنه، المشار إليه، هو ما أخرجه الجماعة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم".
وقد مضى تخريج حديث عائشة هذا، وحديث أم سلمة أيضًا.
2 المراد بالجنابة هنا: المني.
3 هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب أو أبو عبد الرحمن، أخو عطاء. من علماء المدينة حديثًا وفقهًا. مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" "1/91"، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص"131"، و"طبقات الحفاظ" ص"35"، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي ص"60"، و"النجوم الزاهرة": "1/252".(2/616)
صلى الله عليه وسلم كان يغسله"1، وحديث الأسود2 عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فركه"3؛ أذهب إليهما، ولا أرى أحدهما4.
__________
1 حديث عائشة هذا، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب المرأة "1/64-65".
وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/239".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب غسل المني من الثوب "1/201" وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب غسل المني من الثوب "1/127".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/178".
وأخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما ورد في طهارة المني، وحكمه رطبًا ويابسًا "1/125".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17".
2 هو: الأسود بن يزيد بن قيسن النخعي، الكوفي، أبو عمر، روى عن الخلفاء الأربعة الراشدين، كما روى عن عائشة وغيرها. وعنه روى ابنه عبد الرحمن وأخوه عبد الرحمن وأبو إسحاق وغيرهم. توفي سنة 75هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/50"، و"تهذيب التهذيب": "1/342"، و"الخلاصة" ص"32"، و"شذرات الذهب": "1/82"، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي: "1/43"، و"غاية النهاية": "1/171".
3 حديث عائشة هذا، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني "1/238".
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المني يصيب الثوب "1/200".
وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المني يصيب الثوب "1/89".
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/127".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب فرك المني من الثوب "1/179".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"17".
4 جاء عن عائشة رضي الله عنها ما يفيد أنها كانت تغسل المني إذا كان رطبًا، وتفركه إذا كان يابسًا، وذلك فيما أخرجه عنها الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب طهارة المني وحكمه رطبًا ويابسًا 1/125 بلفظ: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا".(2/617)
ولهذا أمثال منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" ثم أجاز السلم، والسلم: بيع ما ليس في ملكه؛ وإنما هو على صفة.
ومنه الشاة المصراة، إذا اشتراها الرجل فحلبها، إن شاء ردها وصاعًا من تمر، وقول النبي صلى الله عليه [وسلم] : "الخراج بالضمان"؛ فكان ينبغي أن يكون اللبن للمشتري؛ لأنه ضامن بمنزلة العبد، إذا استعمله فأصاب به عيبًا رده، فكان عليه ضمانه، تستعمل1 الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر؛ فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
وقال في رواية خطاب بن بشر2 وقال له أبو عثمان الشافعي3 تذهب إلى الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4 فقال:
__________
1 بدون إعجام في الأصل، وقد عجمناها بما يناسب المقام.
2 هو: خطاب بن بشر بن مطر، أبو عمر البغدادي المذكر، كان رجلًا صالحًا وعاظًا، من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه بعض المسائل. مات سنة 264هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/152".
3 هو: محمد بن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أبو عثمان القاضي. أكبر أولاده الشافعي. روى عن أبيه وأحمد بن حنبل وعبد الرزاق وغيرهم.
تولى القضاء بالجزيرة، ثم بمدينة حلب. مات بالجزيرة سنة 240هـ.
له ترجمة في: "طبقات الشافعية" للسبكي "2/71".
4 هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري=(2/618)
قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 1؛ فقد بين أنه ...
__________
= في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها "1/182".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة "1/295".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب "1/189".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أنه لا صلاة؛ إلا بفاتحة الكتاب.
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة "2/106".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة بفاتحة الكتاب "1/227".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام "1/321".
وراجع أيضًا: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"144".
1 هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة المأموم له قراءة ": 1/323-326"، ثم قال عقبة: "لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان" قلت: أما أبو حنيفة فاختلف العلماء فيه، بين موثق، ومضعف.
أما الحسن بن العمارة؛ فمتروك، كما قال ذلك جماعة منهم أحمد ومسلم والدارقطني وأبو حاتم وقد صوب الدارقطني إرساله، حيث قال في سننه "1/325": "وروى هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلًا، عن النبي صلى الله عليه وسم، وهو الصواب".
وحكم بكونه مرسلًا المجد بن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"145".(2/619)
يستعملها1، وأنه يقضي بالخاص منهما على العام، ولم يجعل أحدهما ناسخًا للآخر.
وقوله: إن الأخير أولى [85/أ] أن يؤخذ به؛ أراد إذا كان جميعًا خاصين، وقد تعارضا؛ فيكون الثاني ناسخًا للأول؛ فأما إذا كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا، والخاص ينافي العام؛ فالحكم فيه على ما ذكرناه.
وهو قول أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه الجرجاني: إن كان العام هو المتقدم؛ كان الخاص المتأخر ناسخًا لبعضه، وإن كان العام هو المتأخر كان ناسخًا لجميع الخاص.
وإن لم يعلم التاريخ؛ فقد ذكره عيسى2 على أربعة أقسام:
فقال: إن كان الناس قد عملوا بهما جميعًا؛ وجب استعمالها ويرتب العام على الخاص، مثل نهيه عن بيع ما ليس عنده، ورخص في السلم.
وإن كانوا اتفقوا على استعمال أحدهما؛ فالعمل على ما اتفقوا عليه
__________
1 في الأصل: "يستعملها"، وهو خطأ عربية، والصواب: ما أثبتناه؛ لأن الضمير يعود على مثنى، كما يدل على ذلك السباق واللحاق.
2 المراد: عيسى بن أبان الحنفي.(2/620)
والآخر منسوخ، وذلك مثل قوله: "فيما سقت السماء العشر" 1، وقوله: "ليس في الخضروات صدقة" 2، العام: قد تلقته الأمة
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا؛ أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري "2/148" بلفظ: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وما سقي بالنضج نصف العشر".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع "1/370".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيره "3/22".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر "5/31".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الرزوع والثمار "1/581".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص الثمار "2/129".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "المنقى من أحاديث الأحكام" ص"317".
2 هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضروات "3/21"، بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه بلفظ: "إنه -أي معاذ- كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الخضروات، وهي البقول؛ فقال: "ليس فيها شيء"، ثم عقب عليه بقوله: "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضروات صدقة. قال أبو عيسى: والحسن بن عمارة -أحد رواة الحديث- ضعيف عند أهل الحديث؛ ضعفه شعبة وغيره، وتركه ابن المبارك".
وعنه أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة "2/96" بمثل لفظ المؤلف كما أخرجه عن علي وطلحة وأنس بن مالك رضي الله عنهم في والكتاب والباب المذكورين "2/95-98".(2/621)
بالقبول، وخبر الخضروات مختلف في حكمه؛ فلم يجز أن يقضي به على العام.
وإن كانوا اختلفوا في ذلك؛ فعمل بعض الناس بأحد الخبرين،
__________
= كما أخرجه عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الزكاة، باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص "2/129" وفيه: "وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة".
وأورده المجد بن تيمية في كتابه "المنتقى" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار ص"317" بلفظ: "عن عطاء بن السائب، قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة". فقال ابن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله صلى عليه وسلم كان يقول: "ليس في ذلك صدقة"؛ رواه الأثرم في سننه. وهو من أقوى المراسيل، لاحتجاج من أرسله به".
وهذا الحديث ضعيف؛ فقال قال الذهبي -فيما نقله عنه المناوي في كتابه "فيض القدير": "5/374": طرقه واهية بمرة.
وقد رمز له السيوطي بالضعف في كتابه "الجامع الصغير": "5/373"، مطبوع مع شرحه "فيض القدير".
وتكلم الحافظ ابن حجر على طرق هذا الحديث، وضعفها كلها، وذلك في كتابه "تلخيص الحبير" في كتاب الزكاة، باب زكاة الزروع والثمار "2/386-389"، وقد وفى البحث حقه؛ فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.
وفي كتاب "الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير": "3/62" عزو للحديث إلى ابن ماجه، وهو خطأ فاحش؛ فلم يخرجه ابن ماجه.
ولعل الخطأ من الشيخ يوسف النبهاني، الذي ضم الزيادات إلى "الجامع الصغير"، وأطلق على ذلك اسم: "الفتح الكبير"، ولم أجد العزو وهذا في كتاب: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي "5/373".(2/622)
وعامة الفقهاء تخالفه وتنكر على الواحد؛ فالعمل1 على ما عليه العام، ويسقط الآخر.
وإن كان الخبران مما يتعلق الحكم بهما، ويسوغ الاجتهاد في الحكم الذي تضمن كل واحد من الخبرين، ولم يظهر من الصحابة العمل بأحد الخبرين؛ فالواجب: المصير إلى الاجتهاد في تقدم أحدهما على الآخر، أو استعمال كل واحد فيما يقتضيه.
ومعنى هذا عندهم: أنهما يسقطان، ويرجع إلى دليل غيرهما.
وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني أنه قال: إذا جهل التاريخ؛ وجب التوقف فيهما.
__________
1 في الأصل: "والعمل".(2/623)
دليلنا:
أن الخاص يتناول ما تناوله بصريحه من غير احتمال، والعام يتناول بظاهره وعمومه، ويحتمل أن يكون المراد به ما عدا ما تناوله الخاص؛ فإذا كان كذلك، وجب القضاء بالخاص، كما يجب أن يقضي بالنص الذي لا يحتمل على اللفظ المحتمل.
ولأنا نجمع بين الخاص والعام، والجمع بين الدليلين أولى من إسقاط أحدهما بالآخر أو وقفهما وإيقاع التعارض بينهما؛ لأن كل واحد يقتضي العمل به والمصير إلى موجبه، فما أدى إلى استعماله؛ كان أولى.
ولأنه يجوز تخصيص العموم بالقياس وبدليل العقل، وإن كان متقدمًا عليه؛ فجاز تخصيصه بالخبر الخاص وإن كان متقدمًا عليه.(2/623)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأنه إذا كان متقدمًا والخصوص متأخرًا؛ فإنما كان ناسخًا ببعضه؛ لأن بيان العموم لا يجوز تأخيره عن حال وروده؛ فإذا ورد متأخرًا عنه لم(2/623)
يجز أن يقع موقع بيانه؛ فلم يبق إلا أن يكون ناسخًا.
والجواب: أن تأخير البيان [85/ب] جائز عندنا، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج بأنه إذا كان الخصوص متقدمًا؛ أن العام المتأخر ينسخ الخاص: أن العموم يفيد الحكم في جميع ما يصح أن يعبر به عن المسميات بدلالة اتفاقهم إذا كان الخصوص متقدمًا عليه؛ وإذا كان كذلك؛ صار كل واحد بمنزلة ما ورد منفردًا؛ فيصير مقدار ما وقعت المعارضة فيه متنافيًا؛ فيقضي بالثاني على الأول، مثل اللفظين إذا وردا بلفظ الخصوص.
والجواب: أن العموم وإن كان يفيد الحكم في جميع المسميات؛ فقد بينا أنه يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد ما عدا ما تناوله الخاص، والخاص يتناول ما يتناوله بصريحه من غير احتمال؛ فوجب القضاء عليه.
واحتج: بأنه لو كان أراد استثناء الأقل من العموم الثاني؛ لذكره ونبه عليه، لعلمه باعتقاد أهل اللغة الصيغة؛ فلما لم يبين كان الظاهر ورود الثاني في معارضة الأول؛ فيكون ناسخًا له.
والجواب: أنه لم يذكره مع اللفظ؛ لأنه يجوز تأخير بيانه؛ فإذا بينه بالثاني؛ وجب حمله عليه.
واحتج بأن الحكم الذي يفيده العام من المسميات طريقه القطع؛ فجاز إثبات النسخ لما تقدم به كالخاص المنفرد.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يفيد جميع المسميات من طريق القطع؛ وإنما يفيد ذلك من طريق الظاهر، ويجوز أن يكون المراد ما عداه.
واحتج بأن ما اتفق على استعماله قد صار مقطوعًا عليه؛ فوجب أن يسقط ما طريقه الاجتهاد كما يسقط خبر الواحد إذا عارضه نص التواتر.(2/624)
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه لم يخالف في الخضروات، وفيما دون خمسة أوسق، وأهل العلم على خلافه؛ حتى خالفه أصحابه، وإذا كان كذلك؛ وجب القول بالخاص؛ لأن عليه عامة أهل العلم.
ثم لا نسلم أنه متفق على استعماله؛ لأن ما قابله الخاص غير مستعمل عندنا.
ولأنا أجمعنا على أن قوله: "ليس فيما دون خمس 1 أواق من الورق 2 صدقة" 3 يقضي به على قوله:
__________
1 في الأصل: "خمسة"، والصواب ما أثتبناه؛ لأن العدد يخالف المعدود، والمعدود هنا، وهو"الورق" مؤنث، والعدد "خمس" فلا بد أن تحذف منه علامة التأنيث. وما أثبتناه موافق للمصادر التي سنذكرها في تخريج الحديث.
2 "الورق" الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة مضروبة أو غير مضروبة. راجع "مختار الصحاح"، و"المصباح المنير" مادة "ورق".
3 هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة "2/141"، ولفظه: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة".
وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب الزكاة "2/674-675".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة "1/357".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب "3/13".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الورق "5/26".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال "1/571". وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا يجب فيه الصدقة من الحبوب والورق والذهب "1/323".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية.. "2/93".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة ص"167".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"71"، و"نصب الراية": "2/363"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"317".(2/625)
"في الرقة 1 ربع العشر 2"؛ فوجب أن يقضي بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق 3 من التمر صدقة" 4 على قوله: "فيما سقت السماء العشر"، على أن أبا حنيفة ناقض فيه؛ لأنه يقضي بالنهي عن أكل الطافي على قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان"، وهذا متفق على استعماله، والنهي عن أكل الطافي مختلف فيه.
__________
1 هذا جزء من حديث طويل، مشهور بكتاب الصدقات، وهو حديث أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم. وقد سبق تخريجه.
2 هذا الجزء من الحديث بلفظه المذكور أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة "1/358-360".
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، باب صدقة الماشية ص"175-176".
وراجع "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"311-313".
3 "أوسق" جمع "وسق"، والوسق: ستون صاعًا.
4 هذا جزء من حديث، سبق تخريجه في حديث: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" في الصفحة السابقة.(2/626)
مسألة إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر
مدخل
...
مسألة 1: إذا تعارض خبران [86/أ] كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه آخر:
هما سواء، مثاله: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"، وقوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"؛ الأول خاص في الفائتة، عام في الأوقات، والثاني خاص في الوقت، عام في الصلوات.
وقد نص على هذا أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح فقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"، والنهي من النبي على الجملة، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر، وإن كان على جملته ما صلى أحد بعد العصر صلاة فائتة؛ فيستعمل كل واحد منهما على وجهه.
وهو قول أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت؛ ذكره الجرجاني عن أصحابه؛ لأن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة، فقدم ما فيه ذكر الوقت لتناوله المقصود.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"139".(2/627)
دليلنا:
أن كل واحد منهما قد تناول ما وقع الاختلاف فيه؛ فإن الخلاف واقع في الوقت، وجواز فعل الصلاة فيه واقع في جواز فعل الصلاة في الوقت؛ فكل واحد منهما خاص فيما فيه اختلاف من وجه، وعام من وجه، وعام فيما فيه اختلاف من وجه؛ فتساويا.(2/627)
مسألة تفصيل القول فيما لو تعارض نصان أحدهما عام والآخر خاص
مدخل
...
مسألة 1: إذا تعارض آيتان أو خبران أحدهما عام والآخر خاص:
والخاص موافق للعام، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد؛ فهل يقضي بالعام على الخاص، والمطلق على المقيد؟
فهو على أربعة أوجه:
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"142-147".(2/628)
الوجه الأول
...
أحدهما:
أن يكون الحكم والسبب واحدًا، مثل أن يقول: في كفارة القتل مؤمنة، ثم يذكر القتل في موضع آخر؛ فيقول: تحرير رقبة؛ فإنه يبني المطلق على المقيد، ويتعلق الحكم بالزائد، ويكون بمنزلة أن يرد خبران في حكم واحد وسبب واحد، وأحدهما زائد، فالأخذ بالزائد أولى، كما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، ولم يصل"1 ونقل الآخر: "أنه دخل البيت وصلى"2؛ فكان الأخذ بالزائد أولى.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/698".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/467".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة باب الصلاة في الكعبة "2/328".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "نصب الراية": "2/320".
2 هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في=(2/628)
فإن كان الحكم والسبب واحدًا؛ إلا أن أحدهما خاص والآخر عام، ولم يكن للخاص دليل؛ فإن الخاص داخل في العام، وهو بعض ما شمله العموم، ويكون ما تناوله الخاص ثابتًا بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتًا بالعام دون الخاص.
مثاله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر" 1، وقضى في الذي وقع على امرأته بعتق رقبة أو صيام
__________
= كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} "1/104".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "2/966-967".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/466-467".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الكعبة "2/326-328".
وأخرجه عنه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب الصلاة في البيت ص"258".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحج، باب الصلاة في الكعبة "1/381".
وراجع في هذا الحديث أيضًا في: "نصب الراية": "2/319"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"128".
1 الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وقد قال الزيلعي في كتابه: "نصب الراية": "2/449": "حديث غريب بهذا اللفظ.. والحديث لم أجده.."، وقال صاحب "المسودة" ص"142" بعد أن ذكره: "إن صح الخبر".
وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب الحج "190-191": "عن يحيى بن الحماني، ثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر الذي أفطر يومًا من رمضان بكفارة الظهار"، ثم قال: "والمحفوظ عن هشيم بن إسماعيل بن سالم عن مجاهد مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم".(2/629)
شهرين؛ فغلب وجوب الكفارة في حق ذلك الواطئ بالخبرين جميعًا، وثبت وجوب الكفارة فيما عدا ذلك الواطئ بالخبر [86/ب] العام.
وإن كان له دليل خطاب؛ فإنه يقضي بدليل خطابه على العام؛ فيخرج منه ما تناوله دليله، وذلك مثل قوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة"، مع قوله: "في سائمة الغنم زكاة" 1؛ لأن دليل الخطاب بمنزلة النطق في وجوب العمل به، والنطق الخاص يقضي به على النطق العام، وكذلك ههنا في قوله عليه السلام: "إذا كان الماء قلتين" 2،
__________
= وأخرجه أيضًا عن الليث عن مجاهد عن أبي هريرة، ثم قال: "وليث ليس بالقوي".
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم "2/782".
ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا".
وحديث مسلم هذا أخرجه غير واحد من المحدثين، ومنهم البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب رواية من روى هذا الحديث مطلقة.. "4/225". وهو حديث كما ترى مطلقًا للكفارة على كل من أفطر في رمضان بجماع أو غيره؛ ولكن جمهور العلماء حملوا الروايات المطلقة على المقيدة، كما قال البيهقي في: "سننه الكبرى": "4/225": " ... ورواية الجماعة عن الزهري مقيدة بالوطء ناقلة للفظ صاحب الشرع أولى بالقبول؛ لزيادة حفظهم وأدائهم الحديث على وجهه؛ كيف وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك عن الزهري نحو رواية الجماعة".
1 سبق تخريج هذا الحديث ص"448".
2 تثنية "قلة" وجمعها "قلال"، وقد تجمع على "قلل"، والقلة: إناء للعرب كالجرة الكبيرة. وقد قيل: إن القلة من قلال هجر تسع فرقًا، والفرق يسع أربعة أصواع نبوي. وقيل غير ذلك. راجع: "مختار الصحاح" ص"575" مادة: "قلل"، و"المصباح المنير": "2/792" المادة المذكورة، و"المطلع على أبواب المقنع" ص"7".(2/630)
لم ينجسه شيء1"، مع قوله: "الماء طهور، لا ينجسه إلا ما غير
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء "1/15".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء "1/42".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب منه [أي من باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء] آخر "1/95".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس "1/172".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الوضوء، باب قدر الماء الذي لا ينجس "1/152".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب الفرق بين القليل الذي ينجس والكثير الذي لا ينجس ما لم يتغير "1/260".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة "13/25".
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/15".
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الطهارة، باب طهورية الماء المطلق "1/41-42".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "2/12".
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الطهارة، باب أحكام المياه التي يجوز التطهير بها "1/19".
وأخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء "1/80" والحديث قد روي بلفظ المؤلف الذي ساقه. وروي بلفظ: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث".
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب إذا كان الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء =(2/631)
..............................................................................................................
__________
= 1/132-133 والحديث قد روي مرفوعًا، كما روي موقوفًا على ابن عمر.
وهو حديث اختلف العلماء فيه:
فذهب بعضهم إلى تصحيحه، ومنهم الحاكم، حيث قال في "مستدركه": "1/132" عن رواية الوليد بن كثير -إحدى روايات الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فقد احتجا بجميع رواته"، ووافقه الذهبي. وصوب ذلك الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي "1/99".
وسئل يحيى بن معين عن رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإن ابن علية؛ لم يرفعه؛ فقال: وإن لم يحفظه ابن علية؛ فالحديث جيد الإسناد.
ونقل عن ابن مندة قوله: إسناده على شرط مسلم.
وذهب بعضهم إلى تضعيفه، ومنهم ابن دقيق العيد، فقد قال: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو: صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه -وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا في بعض ألفاظه- فإنه يجاب عنها بجواب صحيح، بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته؛ لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعًا في تعيين مقدار القلتين.
وقال ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين؛ مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع.
وقال في كتابه "الاستذكار": حديث معلول، رده إسماعيل القاضي.
وقال الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": 1/16 ما محصله: أننا لم نعمل بالحديث؛ لأنه لم يتبين لنا مقدار هاتين القلتين، بدليل يستند إليه.
وقد وفى الكلام في هذا الحديث الزيلعي في كتابه "نصب الراية": "1/104-109"، والحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص" "1/16-20"، فارجع إليهما إن شئت.
راجع بالإضافة إلى ما سبق: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"12"، و"علل الحديث" لابن أبي حاتم "1/44"، و"بلوغ المرام": "1/3".(2/632)
طعمه أو ريحه" 1؛ فإنه يحمل على القلتين؛ فيقضي بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه.
__________
1 هذا الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الحياض "1/174". ولفظه: "إن الماء لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" وفي إسناده: "رشدين بن سعد".
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الطهارة، باب ما نجاسة الماء الكثير "1/259" وفي إسناده أيضًا: "رشدين بن سعد".. ولم يذكر في هذه الرواية "اللون".
كما أخرجه بطريقين آخرين، غير الطريق الأولى، ولفظه في إحداهما: "إن الماء طاهر؛ إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه".
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب الماء المتغير "1/28-29"، وفي إسناده "رشدين بن سعد". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "لم يرفعه غير "رشدين بن سعد" عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي، والصواب في قول راشد".
وتعقب الدارقطني في قوله: "لم يرفعه غير رشدين بن سعد" بأن الحديث أخرجه البيهقي في سننه "1/259-260" من طريقين آخرين، وقد مضى الإشارة إلى ذلك.
كما أخرجه الدارقطني عن "راشد بن سعد" مرسلًا، ولم يذكر في هذه الرواية: "اللون".
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الطهارة، باب الماء يقع فيه النجاسة "1/6" عن "راشد بن سعد" مرسلًا.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطهارة، باب الماء لا ينجسه شيء وما جاء في ذلك "1/80"، عن "راشد بن سعد" مرسلًا.
وهذا الحديث متكلم فيه؛ فقد قال الإمام الشافعي فيما نقله عنه البيهقي فيه سننه=(2/633)
فإن قيل: فقد ناقضتم في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع ما لم يقبض"، وروي أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"؛ فكان يجب أن يقضي بدليل خطابه على اللفظ العام، ويخرج منه ما عدا الطعام.
قيل: تخصيص العام بدليل الخطاب واجب، إلا أن يمنع منه دليل أقوى من دليل الخطاب؛ فيسقط ويبقى دليل الخطاب، ويجب حمل العام على عمومه، وهذا دليل أقوى من دليل الخطاب، وهو التنبيه؛ فإن التنبيه آكد من الدليل؛ لأنه مجمع عليه، ودليل الخطاب مختلف فيه، فوجب ترك الدليل للتنبيه، ووجه التنبيه: أن الطعام إذا لم يجز بيعه قبل القبض مع حاجة الناس إليه؛ فلأن لا يجوز غيره أولى.
موجود في حال تلف السلعة، والقياس يترك له دليل الخطاب؛ لأنه يجري مجرى التخصيص؛ لأنه إسقاط بعض حكم اللفظ؛ فإن اللفظ يوجب إثباتًا ونفيًا؛ فإسقاط أحدهما بالقياس بمنزلة التخصيص بالقياس.
__________
= "1/260": "وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء ولونه وريحه، كان نجسًا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله. وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا".
على أن البيهقي نفسه قال قبل ذلك: "الحديث غير قوي".
وقال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث.
وقال النووري: اتفق المحدثون على تضعيفه.
ونقل ابن أبي حاتم في كتابه "علل الحديث": "1/44" عن أبيه قوله: ".. يوصله رشدين بن سعد"، يقول عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورشدين ليس بقوي. والصحيح مرسل".
ومعنى الحديث قد قام الإجماع على اعتباره، قال ابن المنذر، كما نقل عنه ابن حجر في التلخيص "1/15": "أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير، إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا؛ فهو نجس".
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى: "تلخيص الحبير": "1/14-16"، و"بلوغ المرام" ص"3"، و"نصب الراية": "1/94-95"، و"التعليق المغني على سنن الدارقطني": "1/28-29".(2/634)
ولأن القياس يقدم على دليل الخطاب؛ لأن ترك دليل الخطاب يجري مجرى تخصيص اللفظ العام، والقياس يدل على أن غير الطعام بمنزلته؛ لأنه إنما لم يجز بيع الطعام؛ لأنه لم يتعين بالعقد، وهذه العلة موجودة في غير الطعام.
وفي معنى هذا قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة؛ فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" 1؛ لم يقض2 بدليل خطابه على عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان؛ فالقول قول البائع" 3 ولم يختص ذلك بقيام السلعة؛ لأن التنبيه مقدم على دليل الخطاب؛ لأنه متفق عليه، ووجه التنبيه: أنه إذا أمر بالتحالف، وهناك سلعة قائمة، يمكن أن يستدل بها على صدق أحدهما؛ فإذا كانت تالفة، لا يمكن الاستدلال على صدق أحدهما أولى.
ولأن القياس يوجب ترك دليل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بالتحالف؛ لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعًى عليه، وهذا المعنى
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، أخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب إذا اختلف المتبايعان "2/166".
وأخرجه عنه الدراقطني في كتاب البيوع "3/20".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان "2/737".
2 في الأصل: "يقضي".
3 هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم "2/255".
وأخرجه عنه الترمذي مرسلًا، في كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان "3/561".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن "7/266".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب البيوع "3/21".(2/635)
الوجه الثاني:
إذا كان الخبر مختلفًا، مثل صيام وإطعام، صيام وصلاة؛ فإنه لا ينبني المطلق على [87/أ] المقيد، سواء كان السبب واحدًا، كالكفارة فيها صيام شهرين متتابعين وإطعام مطلق، أو كان مختلفًا، مثل الصيام يقيده بالبالغ، والزكاة أطلقها؛ فإنه لا يبنى المطلق على المقيد.
ولهذا قال أحمد رضي الله عنه في رواية ابن منصور: إذا أخذ في الصوم، فجامع بالليل؛ يستقبل، فإن أطعم بوطء شيء؛ ليس هذا من نحو هذا.
قال أبو بكر من أصحابنا: لأنه لم يشترط في الإطعام المسيس كما شرط في الأولين؛ فما شَرَطَه على شرطه، وما أطلقه على إطلاقه. والوجه في ذلك أنه إنما يحمل المطلق على المقيد، إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين؛ إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر، وهذا معدوم في الجنسين.
ولأن المقيد مع المطلق بمثابة الخاص مع العام والمفسر مع المجمل، وهناك يجب أن يكون كل واحد من جنس الآخر، كذلك ههنا.(2/636)
والوجه الثالث:
إذا كان الخبر واحدًا، والسبب مختلفًا؛ لكن [قيد] في موضعين بقيدين مختلفين، وأطلق في الثالث، كالصيام، قيد بالتتابع في الكفارة: فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1، وقيل: بالتفريق في التمتع،
__________
1 "4" سورة المجادلة.(2/636)
فقال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 1، وأطلق في كفارة الأيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 2، وفي رمضان، فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ} 3؛ ولهذا المطلق مثلان مقيدان مختلفان؛ فإنما يحمل المطلق على إطلاقه، ولا شيء على واحد منهما؛ لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر.
وإنما أوجب أصحابنا التتابع في صيام كفارة اليمين، بدليل، لا أنه4 يحمله على المقيد.
وقد بين أحمد رحمه الله هذا في رواية صالح فقال: "وإن لم يكن فصيام5 ثلاثة أيام متتابعة" في قراءة ابن مسعود.
فبين أنه صار إلى التتابع في ذلك لهذا الدليل، وهي قراءة ابن مسعود6.
__________
1 "196" سورة البقرة.
2 "89" سورة المائدة.
3 "184" سورة البقرة.
4 في الأصل: "أنه لا".
5 في الأصل: "صيام".
6 وهي قراءة ثبتت بطريق الآحاد، وقد فصل الآمدي القول في ذلك في كتابه الإحكام "148/1".(2/637)
الوجه الرابع:
إذا كان الجنس واحدًا والسبب مختلفًا، كالرقبة في كفارة القتل والظهار؛ فالرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان.
وكما قيد الأيدي إلى المرافق في موضع، وهو الغسل، وأطلقها في موضع، وهو المسح في التيمم؛ فهذا على روايتين:(2/637)
إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب فقال: أحب إلي أن يعتق في الظهار مثله.
واحتج من قال بذلك:
بقول1 الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، ولم يذكر عدلا، ولا يجوز إلا عدل، كذلك يكونون4 مسلمين، وظاهر هذا أنه بني5 المطلق على المقيد من طريق اللغة، كما بني الإطلاق في العدالة على المقيد منها.
وبهذه الرواية [87/ب] قال أصحاب مالك6.
وفيه رواية أخرى: لا يبنى المطلق على المقيد، ويحمل المطلق على إطلاقه.
أومأ إليه أحمد رضي الله عنه في رواية أبي الحارث فقال: التيمم ضربة للوجه والكفين، فقيل له: أليس التيمم بدلا من الوضوء، والوضوء إلى المرفقين؟ فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} 7، ولم يقل: إلى المرفقين، وقال في
__________
1 في الأصل: "قال".
2 "2" سورة الطلاق.
3 "282" سورة البقرة.
4 في الأصل: "يكون".
5 في الأصل: "بناء".
6 هذا العزو غير محرر، فأكثر المالكية على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، كما صرح بذلك القرافي في كتابه: شرح تنقيح الفصول ص266.
7 "6" سورة المائدة.(2/638)
الوضوء: {إِلَى الْمَرَافِقِ} 1، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 فمن أين تقطع يد السارق؟ من الكف.
وظاهر هذا: أنه لم يبن3 المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه.
وهو اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، ذكره فيما وجدته بخطه معلقًا فقال: للمظاهر أن يطأ قبل الإطعام، وليس له ذلك في الصيام والعتق، وقال:
فإن قيل: المطلق يحمل على المقيد.
فقال:
إذا كان المذكور واحدًا في حكم واحد، كالشاهدين؛ فأما مثل رقبة القتل، ورقبة الظهار؛ فلأنهما حكمان، كذلك الإطعام والصيام؛ لأنهما جنسان، بلى لو ذكر الإطعام في موضع فأبهمه وذكره في موضع آخر فقيده؛ حملنا المطلق على المقيد.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال: مثل قولنا، وأنه يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة.
ومنهم من حمل المطلق على المقيد بالقياس عليه؛ لا من جهة اللغة وهو قول الأكثر منهم. وهو اختيار أبي بكر بن الباقلاني.
وهكذا الاختلاف في العام والخاص، نحو قوله: "فيما سقت السماء
__________
1 "6" سورة المائدة والآية في الأصل: "إلى المرفقين".
2 "38" سورة المائدة.
3 في الأصل: "يبني".(2/639)
العشر" عام في القليل والكثير، وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" خاص في المقدار؛ فهل يحمل العام على الخاص، على ما حكينا من الاختلاف في حمل المطلق على المقيد؟
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل وصالح: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح"؛ فهو جملة1، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها"؛ فكان هذا مخصوصًا من جملة نهيه عن الصلاة بعد العصر.
__________
1 في الأصل: بدون إعجام لهذه الكلمة.(2/640)
دليلنا:
أن العرب تطلق الحكم في موضع، وتقيده في موضع، والمراد بالمطلق المقيد.
يدل عليه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 1. وكذلك قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 2 وتقديره: والحافظات فروجهن3، والذاكرات الله كثيرًا.
وكذلك قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 4 وتقديره: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد.
__________
1 "155" سورة البقرة.
2 "35" سورة الأحزاب.
3 في الأصل: "فروجهم".
4 "17" سورة "ق".(2/640)
وكذلك قول الشاعر:
[88/أ]
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف1
يعني: بما عندنا راضون2.
وقال آخر:
وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير، أيهما يليني3؟
__________
1 هذا البيت نسبه سيبويه في "كتابه": "1/37-38" للشاعر قيس بن الخطيم واستشهد به المبرد في كتابه: "المقتضب": "3/112"، ولم ينسبه لأحد.
أما البغدادي في كتابه: "خزانة الأدب": "4/283" تحقيق عبد السلام هارون؛ فقد نسبه للشاعر: عمرو بن امرئ القيس، ثم بين بعد ذلك غلط من نسب البيت إلى قيس بن الخطيم بقوله: "وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد، كما فعل ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل، وتبعهما العيني والعباسي في شرح أبيات التلخيص؛ فإنهم جعلوا ما نقلنا من شعر قيس بن الخطيم مطلع القصيدة، ثم أوردوا فيها البيت الشاهد، وهو: "الحافظو عورة العشيرة"، والشاهد الثاني، وهو: "نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راض"، والحال: أن هذين البيتين من قصيدة عمرو بن امرئ القيس".
راجع بالإضافة إلى ما سبق: تعليق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمة في هامش المقتضب "3/113-122".
2 في الأصل: "راضي".
3 هذا البيت للشاعر المثقب العبدي. وهو من قصيدة، يقول في مطلعها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت، كأن تبيني
والبيت الذي بعد البيت الشاهد هو:
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني؟
راجع في نسبة هذا البيت للشاعر المذكور: "معاني القرآن" للفراء "1/231"، والبيت عنده هكذا:
وما أدري إذا يممت وجهًا ...
و"شرح اختيارات المفضل" للخطيب التبريزي "3/1267"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"228"، و"الشعر والشعراء" له: "1/396"، و"الخزانة" للبغدادي "4/49" طبعة بولاق.(2/641)
يعني: أريد الخير، وأتوقى الشر.
فإن قيل: إنما حملنا المطلق ههنا على المقيد؛ لأن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه ولا مفيد؛ لأن قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَات} ابتداء لا خبر له وكذلك قوله: "عين اليمين"، وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَات} ، وليس كذلك في مسألة الخلاف؛ لأن المطلق مقيد1 مستقل بنفسه؛ لأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِم} 2 يفيد إطلاقه: إخراج ما يتناوله اسم الرقبة.
قيل: لا فصل بينهما؛ وذلك أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} مفيد أيضًا؛ فإنه يحمل على عمومه في ذكر الله وأنبيائه ورسله، وغير ذلك.
وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} يحمل على عمومه في كونه قعيدًا3 أو غير قعيد؛ لأن قعيدًا صفة زائدة.
وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} يحمل على عمومه في الابتداء بالنفس والنقصان منها.
فإن قيل: إنما وجب حمل4 المطلق هناك على المقيد بالعطف؛ فإن العطف يجعل المعطوف بمنزلة المعطوف عليه، كما إذا قال: "خرج
__________
1 في الأصل: "مقيد" بالقاف، وهو تصحيف عن "مفيد" بالفاء.
2 "3" سورة المجادلة.
3 في الأصل: "قعيد".
4 في الأصل: "حمله".(2/642)
زيد وعمرو"، يكون تقديره: "وخرج عمرو"؛ فأما ههنا؛ فلم يعطف أحدهما على الآخر.
قيل: العطف إنما حمل على المعطوف لإطلاقه، لا لأجل حروف العطف.
يبين صحة هذا: أنه لو قيد العطف بحكم آخر، فقال: والحافظات ألسنتهن؛ لم يجب حمله على المعطوف في حفظ الفرج؛ لأنه مقيد1 بغيره2. وكذلك لو قال: والذاكرات رسل الله؛ لم يجب حمله على ما قبله من ذكر الله، لأجل تقيده3؛ فلما حمل على ما قبله عند الإطلاق؛ علم أن الموجب لذلك: الإطلاق، لا حرف العطف.
يبين صحة هذا: أنه قد يخالف العطف المعطوف4 عليه في الحكم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 5، معلوم أن صلاة الملائكة غير صلاته.
وقد قيل: إنه لا يجوز أن يكون حمل عليه لهذه العلة، ألا ترى أن العموم يحمل على الخصوص إذا كانا في حكم واحد، نحوه قوله: "فيما سقت السماء العشر" هو عام في القليل والكثير، وقوله: "إذا كان خمسة أوسق" خاص؛ فيحمل عليه، وإن لم يكن عطفًا عليه، كذلك ههنا يجب أن يكون الحمل عليه، لا من جهة العطف.
__________
1 في الأصل: "مفيد" بالفاء المعجمة، وهو تصحيف عن "مقيد" بالقاف المعجمة.
2 في الأصل: "يغيره" بالمثناة التحتية فيهما، وهو تصحيف عن "بغير" بالتحتية الموحدة في الأولى، وبالمثناة التحية في الثانية.
3 الكلمة في الأصل بدون إعجام إلا للياء، وإعجامها اجتهادي بحسب السياق.
4 في الأصل: "للمعطوف"، والفعل: "يخالف" يتعدى بنفسه.
5 "43" سورة الأحزاب.(2/643)
فإن قيل: لو كان هذا مقتضاه في اللغة؛ لوجب إذا انتفى هذا المعنى بلفظ يفارق المطلق، أن يكون مخرجًا له عن حقيقة كالعموم الذي يخرج عن موضوعه بدليل.
قيل: [88/ب] العموم إذا دخله التخصيص؛ لا يصير مجازًا عندنا. ويبين صحة هذا: أن الصحابة جعلت القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال للخوارج1 -لما احتجوا عليه بآية من القرآن: "من فاتحته إلى خاتمته"، ومعناه: يجب أن يلتزم جميع ما فيه.
وأيضًا: فإن في بناء الخاص على العام جمعًا بين الخبرين وأخذًا بهما؛ فكان أولى من اطراح أحدهما، وفيما ذكرنا دلالة على من قال: لا يحمل المطلق على المقيد، وعلى من قال: يحمل عليه بالقياس.
واحتج من قال: لا يحمل عليه:
__________
1 الخوارج -كما يقول الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": "1/114": "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة، يسمى خارجيًا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان".
وكان أول ظهور هذه الفرقة الضالة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حرب "صفين".
وقد كان من رأيهم قبول التحكيم، وقد حملوا علي بن أبي طالب على قبوله قائلين: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف".
ثم صارت بعد ذلك فرقًا شتى يجمعها -كما يقول الشهرستاني في المرجع السابق: "القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقًا واجبًا".
راجع أيضًا: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم "2/107".(2/644)
بأنه المطلق المراد به معلوم بظاهره؛ فوجب أن يحمل عليه، ولا يعدل به عنه إلا بدليل، والخاص ليس بدليل؛ لأن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه؛ فأما بما يوافقه فلا، والمقيد يوافق المطلق؛ فوجب أن لا يخص به.
والجواب: أن المقيد يخالف المطلق ويعارضه؛ لأن تقييده يدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا كان كذلك فقد خصصناه بما عارضه.
وجواب آخر، وهو: أن المطلق وإن كان معلومًا؛ فإنه معلوم من حيث الظاهر، والخاص معلوم من حيث القطع؛ فيجب أن يحمل عليه، كالخاص والعام إذا تعارضا في حكم واحد؛ فإنه يقضى بالخاص عليه؛ لأنه مقطوع عليه، وإن كنا نعلم أن العام معلوم ظاهره؛ فكان يجب أن يتعارضا فيسقطا، أعني: العام والخاص؛ لأن كل واحد منهما معلوم بظاهره، ولما قضي بالخاص على العام، كذلك ههنا.
وقولهم: إن التخصيص إنما يقع بما يخالف الظاهر ويعارضه، وكذا نقول؛ إلا أن دليل الخطاب الخاص يعارض الظاهر عندنا ويخالفه، وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في دليل الخطاب.
واحتج: بأن شروط الإيمان في كفارة الظهار زيادة في النص، وذلك نسخ؛ والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بخبر الواحد، قالوا: والذي يدل على أنه نسخ: أن النسخ هو حظر ما أباحته الآية، وإباحة ما حظرته؛ فلما كان شرط الإيمان في رقبة الظهار يوجب حظر ما أباحته الآية من جوازها عن الكفارة؛ وجب أن تكون هذه الزيادة نسخًا.
والجواب: أن هذين ليس بزيادة؛ وإنما هو تخصيص ونقصان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1 شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة،
__________
1 "92" سورة النساء.(2/645)
وسليمة ومعيبة.
وقوله: لا تجزي إلا مؤمنة نقصان؛ فهو كما لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة؛ فإذا قال: إلا زيدًا فلا تعطه؛ هذا نقصان وتخصيص، كذلك ههنا.
وعلى أنها لو كانت زيادة في النص؛ [89/أ] لم تكن نسخًا؛ وإنما هي زيادة حكم؛ لأن النسخ هو الإسقاط.
واحتج: بأن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها، دون المعاني التي لم ينطق بها، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق بها؛ فأما صفاتها مؤمنة وكافرة، وسليمة ومعيبة، فما تناولها.
والجواب: أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان؛ لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت؛ فإذا قلنا: إلا مؤمنة؛ كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عينًا موصوفة، فالتخصيص دل على الأعيان. ومثال هذا: لو قال: أعط درهمًا من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم؛ فإنه قد أخرج منهم واحدا موصوفا، كذلك ههنا، وإذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة؛ أخرج رقبة موصوفة.
واحتج: بأن قياس المنصوصات بعضها على بعض لا يجوز؛ لأنها قد استغنت بدخولها تحت النص على القياس على غيرها، ولهذا لم يجز قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والقدمين، ولا قياس السارق على المحارب في قطع رجله، ولا قياس كفارة القتل على الظهار في إيجاب الإطعام؛ لأن كل واحد من ذلك منصوص عليه، كذلك ههنا.
والجواب: أن هذا ليس بقياس المنصوص عليه على المنصوص؛ وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه.(2/646)
وإنما لم يحمل التيمم على الوضوء في إيجاب [مسح] الرأس والقدمين؛ لأنهما غير مذكروين في التيمم؛ وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين إلا أنه مطلق في أحدهما مقيد في الآخر كالرقبة هي مذكورة في الظهار والقتل؛ إلا أنها مقيدة في أحدهما، مطلقة في الآخر، وكذلك الإطعام غير مذكور في كفارة القتل. وكذلك قطع الرجل غير مذكور في قطع السارق؛ وإنما اعتبرنا وجود الحكم المختلف فيه في الموضعين؛ لأن المطلق والمقيد كالفرع والمقيد كالأصل.
واحتج: بأنه ليس حمل المطلق على المقيد بأولى من حمل المقيد على المطلق.
والجواب: أن في بناء المقيد على المطلق إسقاط ما تناوله النص، وبناء المطلق على المقيد تخصيص، والتخصيص جائز، والإسقاط غير جائز؛ فهو كما قلنا في العموم والخصوص: يخص العموم، ولا يسقط الخصوص.
وهكذا الجواب عن أن الرقبة لو كانت مفسرة؛ لم يجز البناء، كذلك إذا كانت مطلقة؛ لأنها إذا كانت مقيدة، كان في البناء إسقاط النص، وهذا معدوم في بناء المطلق على المقيد.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إذا كان أول الآية عامًا وآخرها خاصًا، أو كان [89/ب] أولها مطلقًا وآخرها مفسرًا؛ لم تقضوا بآخرها على أولها، نحو [89/ب] قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2، حملتم أولها
__________
1 "228" سورة البقرة.
2 "228" سورة البقرة.(2/647)
على عمومه في البوائن والرجعيات، ولم تخصوه بآخرها في الرجعيات.
قيل: هذا ليس من قبيل1 المطلق والمقيد؛ لما بينا أن من شرطه أن يكون الحكم المختلف فيه مذكورًا في الموضعين، وهذا غير مذكور في آخر الآية، ولا هو أيضًا من قبيل الخاص والعام بآيتين؛ لأنه إذا قضينا بآخرها على أولها؛ منعنا2 صيغة العموم في أولها، وإذا كان آيتين؛ لم يمنع العموم من أحدهما.
واحتج: بأن حمل العام على الخاص إهمال العام؛ لأنه يقتضي الاستغراق؛ فإذا خصصناه أهملناه.
والجواب: أنه ليس بإهمال؛ وإنما هو جمع، ولا يمكن إلا على هذا الوجه.
واحتج من قال: يحمل عليه بالقياس.
بأن هذا تخصيص في الحقيقة؛ لأنه إذا قال: أعتق رقبة؛ فإن هذا لفظ شائع عام في الرقاب كلها؛ فإذا قلنا: إن الرقبة الكافرة لا تجزي؛ خصصنا بعض الرقاب، وأخرجناها عن كونها مجزئة؛ فيكون ذلك تخصيصًا للعموم، والتخصيص جائز بالقياس.
والجواب: أنه تخصيص كما ذكرت؛ ولكن ليس يجب أن يكون التخصيص بالقياس، بل يجوز أن يكون التخصيص، وبلفظ خاص، كما كان تخصيص العموم بالخصوص إذا تعارضا في حكم واحد.
واحتج: بأن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3
__________
1 في الأصل: "قيض" بدون إعجام.
2 في الأصل: "ومنعنا"، وهذه الواو زائدة؛ لذلك حذفناها.
3 "92" سورة النساء.(2/648)
لا يصلح لقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ فلم يجز أن يكون أحدهما قاضيًا على الآخر بلفظه: ولا مشاركًا له من جهة العطف؛ فوجب اعتبار المعنى.
والجواب: أن قوله: {وَالذَّاكِرَاتِ} 2، لا يصلح، لقوله: {وَالذَّاكِرِينَ} ومع هذا فقد قضى بأحدهما على الآخر. وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3. وكذلك قوله: {وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} 4 لا يصلح، لقوله: {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ، وقد منعنا أن يكون الموجب لذلك حرف العطف، وبينا أن الموجب لذلك الإطلاق، بدليل أنه لو قيد العطف؛ لم يجز حمله على المعطوف عليه.
__________
1 "3" سورة المجادلة.
2 "35" سورة الأحزاب.
3 "17" سورة ق.
4 "155" سورة البقرة.(2/649)
مسألة أقل الجمع المطلق ثلاثة
مدخل
...
مسألة 1: أقل الجمع المطلق ثلاثة:
وعلى هذا الأصل قال أحمد رحمه الله في رواية حنبل في رجل وصى أن يكفر عنه فقال: أقل ما يكفر ثلاثة أيمان.
قال الخرقي فيمن قالت له زوجته: "اخلعني على ما في يدي من الدراهم"؛ ففعل، فلم يكن في يدها شيء: لزمها ثلاثة دراهم2.
__________
1 راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص149، و"روضة الناظر" وشرحها، "نزهة الخاطر العاطر" 2/137-140.
2 كلام الخرقي هذا موجود بنصه في "مختصره"، في كتاب الخلع ص"151".(2/649)
وقال رحمه الله في رواية صالح: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1؛ فيلزمه أن لا [90/أ] يحجب بالأخوين؛ لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، والإخوة ثلاثة.
وبهذا قال مالك2 وأصحاب أبي حنيفة3 وأكثر أصحاب الشافعي4.
وحكى عن أصحاب مالك5، وقوم من النحويين منهم علي بن عيسى6،
__________
1 "11" سورة النساء.
2 نقله عبد الوهاب عن الإمام مالك، كما حكى ذلك القرافي في كتابه: "شرح تنقيح الفصول" ص"233".
3 راجع في مذهب الحنفية: "أصول السرخسي": "1/151-154"، و "تيسير التحرير": "1/206-209"، و "مسلم الثبوت" الطبعة المجردة "1/203-205".
4 راجع في هذا: "نهاية السول": "2/349"، و "جمع الجوامع" مع شرحها للجلال المحلى "1/419" ونسبه الآمدي في كتابه "الإحكام": "2/204"، إلى الإمام الشافعي وجماعة من أصحابه.
5 نقله القاضي أبو بكر عن الإمام مالك، ذكر ذلك القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233".
6 هو: علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أبو الحسن الربعي الزهري، من أئمة النحو وحذاقهم. أخذ عن السيرافي، ورحل إلى "شيراز" فأخذ عن أبي علي الفارسي، ولازمه مدة عشرين سنة تقريبًا، وبعد ذلك عاد إلى بغداد، وأقام بها بقية عمره. له مؤلفات، منها: "البديع" في النحو، و "شرح كتاب الإيضاح" لأبي علي الفارسي، مات لعشر بقين من شهر محرم سنة 420هـ، وله من العمر اثنتان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "البداية والنهاية": "12/27"، و"بغية الوعاة": "2/181"، و"شذرات الذهب": "3/216"، و"نزهة الألباء" ص"414".(2/650)
وأبو بكر ابن الباقلاني1، وبعض الشافعية: أقله اثنان2.
__________
1 حكى ذلك عنه القرافي في كتابه: "تنقيح الفصول" ص"233".
2 وعلى رأس هؤلاء الغزالي، كما حكى ذلك عنه الآمدي في "الإحكام": "2/204"، ولكن الأصح عند الشافعية أن أقل الجمع ثلاثة، كما صرح بذلك الجلال المحلى في شرحه على "جمع الجوامع": "1/419".(2/651)
دليلنا:
إجماع الصحابة، روي عن عبد الله بن عباس أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: أن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس؛ إنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 1، وليس أخوان إخوة في لسان قومك؛ فقال عثمان: لا أستطيع2 أمرًا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار3.
وهذا يدل على أن أقل الجمع ثلاثة؛ لأن ابن عباس قاله، وأقره عثمان عليه؛ وإنما صرفه عنه بالإجماع الذي ذكره.
__________
1 "11" سورة النساء.
2 في الأصل: "أنقص" بالصاد المهملة، وفي رواية الحاكم والبيهقي ".. أن أرد".
3 أثر ابن عباس -رضي الله عنه- هذا أخرجه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة من الأب والأم "4/335"، وقال بعد ذلك: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه على ذلك الذهبي في تعليقه على المستدرك.
وتعقب الحافظ ابن حجر في كتابه "تلخيص الحبير": "3/85"، الحاكم في تصحيحه، حيث قال: "وفيه نظر؛ فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي".
وأخرجه البيهقي في: "السنن الكبرى"، وفي كتاب الفرائض، باب: فرض الأم "6/227".(2/651)
فإن قيل: فقد روي عن زيد بن ثابت: أقل الجمع اثنان1.
قيل: إن صح هذا؛ فيحتمل أن يكون معناه، أن الاثنين في حكم الجمع في حجب الأم.
وأيضًا: فإن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها؛ فلو كان اسم الجمع يقع على الاثنين حقيقة؛ لم يحسن أن يقول القائل: ما رأيت رجالًا؛ وإنما رأيت رجلين؛ فلما صح نفي ذلك؛ دل على أن الرجلين إذا سميا رجالًا كان مجازًا، وكان بمنزلة قوله: ما هذا أبي وإنا هو جدي، وما هذا بابني وإنما هو ابن ابني.
وأيضًا: فإن أهل اللغة فرقوا بين التوحيد والتثنية والجمع، وجعلوا للإفراد بابًا وللتثنية بابًا وللجمع بابًا، ولا يخلو لهم كتاب من هذا الترتيب، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يختص الجمع بما زاد على الاثنين، كما اختصت التثنية بما زاد على الواحد.
وأيضًا: فإنهم إذا أرادوا بيان عدد الجمع ومقداره؛ بدءوا من الثلاثة، فقالوا: "ثلاثة رجال"، و"أربعة رجال" ولم يقولوا: "اثنان رجال"، وقالوا: "جماعة رجال"، ولم يقولون: "جماعة رجلين"؛ فدل هذا على ما ذكرنا.
__________
1 هذا الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه عنه الحاكم في: "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب ميراث الإخوة "4/335"، ولفظه: " ... عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول: الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدًا"، ثم عقب عليه بقوله: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
وأخرجه عنه البيهقي في: "السنن الكبرى"، في كتاب الفرائض، باب فرض الأم "6/227".(2/652)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ(2/652)
مُسْتَمِعُونَ} 1 ولم يقل: معكما؛ فدل على أن معنى اللفظين واحد.
والجواب: أن الله تعالى إنما أراد بذلك: موسى وهارون، ومن آمن معهما من قومهما.
واحتج: بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2؛ فعبر عن الإخوة بالأخوين.
والجواب: أن المراد به: أيها المؤمنون أنتم إخوة، يعني كل واحد منكم أخ لصاحبه، فأصلحوا بين كل أخ قاتَلَ أخاه.
ويحتمل أن يكون المراد بالأخوين: الطائفتين [و] الجماعتين [90/ب] والقبيلتين لأن اسم الأخوين يقع على ذلك. قال الشاعر:
فالْحَقْ بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندف أخوان3ِ
فسمى القبيلتين أخوين، فيصير تقدير الآية: أيها المؤمنون أنتم الإخوة، فأصلحوا بين كل طائفتين من المؤمنين اقتتلوا.
وعلى أنه لا حجة في ذلك؛ لأنه عبر عن الإخوة بالأخوين.
واحتج بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4؛ فجعلهما طائفتين، ثم أضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.
والجواب: أن الطائفة اسم للجماعة، بدلالة قوله: {وَلْتَأْتِ
__________
1 "15" سورة الشعراء.
2 "10" سورة الحجرات.
3 لم أقف على قائله.
4 "9" سورة الحجرات.(2/653)
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} 1، ولو كانت الطائفة واحدًا، لم يقل: {لَمْ يُصَلُّوا} ؛ فصار المراد به: وإن جماعة من المؤمنين اقتتلوا.
واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 2؛ وإنما هما قلبان.
والجواب: أن هذا ليس مما نحن فيه بشيء3؛ لأن كل شيء يكون بعضًا لشيء؛ فإن أهل اللسان يعبرون عنه في حال التثنية بلفظ الجمع؛ ليفصلوا به بين ذلك وبين الشيء الذي ليس بعضًا من المضاف إليه، يقولون للاثنين: هذه رءوسكما، وهذه وجوهكما؛ ألا ترى أن الشيء إذا لم يكن بعضًا من المضاف إليه؛ لم يصح ذلك فيه؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذه أثوابكما4، وهذه دوركما، ويريد به ثوبيهما وداريهما، ولكن يقول: هذان ثوباكما وداراكما.
وقيل فيه: إنه لما كان أكثر ما في البدن من الجوارح اثنين اثنين، أقيم القلب أيضًا مقام عضوين؛ فصار في التقدير: كما لهما5 أربعة قلوب؛ فلهذا صح أن يقول: {قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} .
واحتج بقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 6؛ فأضاف الفعل إليهما بلفظ الجمع.
__________
1 "102" سورة النساء. والآية في الأصل: "وليأت" بالمثناة التحتية.
2 "4" سورة التحريم.
3 في الأصل: "سيل" بدون إعجام للحرف الأول والثاني.
4 في الأصل: "أبوابكما".
5 في الأصل: "كان لها".
6 "19" سورة الحج.(2/654)
والجواب: أن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، يقال: رجل خصم، ورجال خصم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون ذلك عبارة عن جمعين.
فإن قيل: كان جبريل وميكائيل.
قيل: يجوز أن يكون مع كل واحد منهما ملائكة، وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 1؛ لأنه يجوز أن يكون المراد به الجماعة, وتكلم الواحد منهم، وهو القائل منهم: {هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2، يبين ذلك قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 3، ولو كانا اثنين لقال: بغى أحدنا على الآخر. ولم يقل: بغى بعضنا على بعض؛ لأن ذلك إنما يقال: في الجماعتين والقبيلتين.
واحتج بقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 4، فأضاف الفعل إليهما في أول الآية بلفظ التثنية، وفي آخرها [91/أ] بلفظ الجمع.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: حكم داود وسليمان وقومهما؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} .
ويحتمل أن يكون المراد به: الحكم المشروع لأمة داود، كما يقال: هذا حكم المسلمين، يريد به: الحكم المشروع لهم.
وقيل: المراد به: حكم الأنبياء، والكناية عن جماعتهم.
__________
1 "21" سورة ص.
2 "23" سورة ص.
3 "22" سورة ص.
4 "78" سورة الأنبياء.(2/655)
وقيل: إنه لا بد من محكوم له، فيكون داود وسليمان والمحكوم له، وهو صاحب الكرم؛ لأن الحكم يضاف إلى الحاكم بفعله، وإلى المحكوم له باستحقاقه؛ ولذلك يجوز له مطالبة الحاكم به، فلهذا قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} .
فإن قيل: لم يجر ذكر المحكوم له؛ وإنما جرى ذكر الحاكمين.
قيل: ذكر الحاكمين يتضمن ذكر المحكوم له، فكني عن الجميع.
وقيل: إنه على سبيل التفخيم والتعظيم، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وهو واحد لا شريك له، وقال: {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونََ} 1 وأراد به عائشة رضي الله عنها2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 3، يعني عائشة.
واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} 4 وكان الاثنان في حكم الثلاثة.
والجواب: أن ظاهر الآية كان يقتضي أن لا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة؛ إلا أنا عدلنا بالآية عن ظاهرها لقيام الدلالة.
واحتج بقوله تعالى في يوسف وأخيه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} 5.
__________
1 "26" سورة النور.
2 وقال ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"284": "يعني عائشة وصفوان بن المعطل".
3 "11" سورة النور.
4 "11" سورة النساء.
5 "83" سورة يوسف.(2/656)
والجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد به: يوسف وأخوه الذي وجدت السقاية في رحله، والأخ الذي يخالف وقال: {لَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 1.
ويحتمل أن يكون أطلق لفظ الجمع مجازًا، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 2، وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} 3 قيل: إنه كان واحدًا.
واحتج بقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 4.
__________
1 "80" سورة يوسف، والآية في الأصل بحذف كلمة "لي" الأخيرة في الآية.
2 "99" سورة المؤمنون.
3 "173" سورة آل عمران.
4 هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/312"، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "اثنان فما فوقهما جماعة".
وأخرجه عنه الحاكم في كتابه "المستدرك" في كتاب الفرائض، باب الاثنان فما فوقهما جماعة "4/334".
وفي إسنادهما: "الربيع بن بدر"، وهو -كما يقول الحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص": "3/81-82": ضعيف، وأبوه مجهول.
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب الاثنان جماعة "1/280-281"، وفيه: "الربيع بن بدر"، كما أخرجه في الموضع المذكور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولفظه فيهما مثل لفظ ابن ماجه، وفي إسناده الأخير: عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، قال فيه البخاري: "تركوه"، وبمثل قوله قال الحافظ في "التلخيص".
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه مثل لفظ ابن ماجه: قال الحافظ الهيثمي في كتابه الزوائد "2/45"، بعد سياق الحديث: "وفيه: مسلمة بن علي، وهو ضعيف".
كما أخرجه عنه الطبراني أيضًا والإمام أحمد بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي وحده؛ فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه"؟ فقام رجل، فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" قال الهيثمي -بعد سياقه: "وله طرق كلها ضعيفة".
وقد بوب البخاري في "صحيحه" في كتاب الأذان "1/158" بقوله: باب اثنان فما فوقهما جماعة، وساق حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما".(2/657)
الجواب: أنه قصد به بيان حكم الجمع في الصلاة، وأنه يحصل بالاثنين، وإن لم يكن في اللغة جميعًا، ولم يقصد به بيان الجمع؛ لمشاركة الصحابة له في معرفة الأسماء اللغوية.
واحتج: بأن الجمع معناه: الضم؛ فإذا ضم واحد إلى واحد؛ وجد معنى الجمع.
والجواب: أن الاشتقاق لا يدل على حقيقة الاسم؛ لأن اسم الدابة مشتق من دب يدب على الأرض، ولا يسمى الآدمي دابة، وسائر ما يدب على الأرض دابة حقيقة؛ لوجود المعنى الذي اشتق منه. وكذلك سميت الخابية1؛ لما يخبأ فيها، ولا يسمى الصندوق خابية، وإن كان يخبأ فيه.
وجواب آخر، وهو: أن الضم قد يوجد في الأعداد المختلفة، والأجسام المتقاربة، ولم يكن ذلك [91/ب] موجبًا لكون جميع ما ضم في حكم الشيء الواحد.
وهكذا الجواب عن قولهم: إن الواو حقيقتها الجمع.
__________
1 "الخابية" أصلها: "الخابئة" بالهمز، ولكن العرب تركت الهمزة استثقالًا لها.
انظر: "اللسان"، مادة "خبأ": "1/55".(2/658)
واحتج: بأن الاثنين قد يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع، فيقولان: فعلنا كذا وكذا.
والجواب: أنه باطل بالواحد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، على أنه إنما يخبر بذلك الاثنان عن أنفسهما؛ لأن الإضافة إليهما كافية في التمييز، يعلم2 بهذا أن هذا اسم للاثنين؛ فأما حالة الإطلاق؛ فليس هناك ما يقع به التمييز لتعرفه بلفظ التثنية والجمع.
ثم نعارض هذا بمثله، فنقول: قد فرقوا بين الاثنين والجماعة في المواجهة؛ فقالوا: أنت وأنتما وأنتم، وكذلك: هو3 وهما وهم، فسقط ما قالوه.
__________
1 "9" سورة الحجر.
2 كلمة "نعلم" بدون إعجام في الأصل.
3 في الأصل: "هذا".(2/659)
مسائل الإستثناء
مدخل
...
مسائل الاستثناء: 1
الاستثناء: كلام ذو صيغ2 محصورة، تدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول3.
__________
1 راجع مسائل الاستثناء في: "المسودة" ص"152-160"، و "شرح الكوكب المنير" ص"183-199".
2 في الأصل: "ذو صيغة"، وقد ذكر المؤلف بعد ذلك الكلمة: "صيغ" كما أثبتناها.
3 تعقب المؤلف في "المسودة" ص"154"، بأن هذا التعريف، إنما هو تعريف "الاستنثاء" عند النحاة؛ أما تعريفه عند الفقهاء، فهو أعم من ذلك، إذ إن الاستثناء عندهم يكون بالمفرد، كما عند النحاة، ويكون بالجملة، كقولك: له هذه الدار، ولي منها هذا البيت.(2/659)
ولا يدخل على هذا التخصيص وأدلته المنفصلة، أنها ليست باستثناء وإن كان هذا المعنى موجودًا فيها؛ لأن تلك الأشياء ليست تختص بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول؟
ولا يلزم عليه القول المتصل بلفظ العموم، نحو قولهم: "رأيت المؤمنين، وما رأيت زيدًا، ولم أر عمرًا وخالدًا"؛ لقولنا: "كلام ذو صيغ محصورة". وحروف الاستثناء محصورة، وليس الواو منها.(2/660)
مسألة الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام
مدخل
...
مسألة 1: الاستثناء إنما يصح إذا اتصل بالكلام:
فأما إذا انقطع فإنه لا يعمل.
وقد ذكره الخرقي في كتاب الإقرار2 فقال: "ومن أقر بعشرة دراهم وسكت3 سكوتًا يمكنه4 الكلام فيه، ثم قال: زيوفًا، أو صغارًا، أو إلى شهر؛ كانت عشرة وافية جيادًا5 حالة".
وقد اختلفت الرواية عنه في الاستثناء في اليمين6.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"152-153"، و "شرح الكوكب المنير" ص"188-190".
2 ص"99" من "مختصر الخرقي".
3 في "مختصر الخرقي" ص"99": "ثم سكت ... ".
4 في "مختصر الخرقي" ص"99": " ... كان يمكنه الكلام فيه..".
5 في "مختصر الخرقي" ص"99" تقديم كلمة: "جياد" على كلمة "وافية".
6 فصل المرداوي في كتابه: "الإنصاف" في كتاب "الأيمان": "11/25-27" القول في الروايات في هذه المسألة، فارجع إليه إن شئت.(2/660)
فقال في رواية أبي طالب: إذا حلف بالله، وسكت قليلًا، ثم قال: إن شاء الله؛ فله استنثاؤه؛ لأنه يكفر.
وكذلك نقل المروزي عنه رضي الله عنه: إذا كان بالقرب ولم يختلط كلامه بغيره.
وظاهر هذا جواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس.
وقد نقل أبو النصر1 وأبو طالب عن أحمد رحمه الله: ما يدل على أنه لا يصح إذا فصل.
وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: "إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء فصل2".
وهو الصحيح.
وبه قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.
وحكي عن عبد الله بن عباس: جواز الاستثناء، وإن كان منطقعًا.
__________
1 هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون أبو النضر العجلي المروزي، سمع من الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، كما سمع عبيد الله بن موسى العبسي، وعبد الرحمن بن قيس الزعفراني وغيرهما. وروى عنه محمد بن خلف الدوري وأبو الحسن المنادي وغيرهما. مات سنة 270هـ.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة": "1/105-106".
2 انظر: "مختصر الخرقي" ص"217"، والعبارة فيه: " ... إذا لم يكن بين اليمين والاسثتناء كلام".(2/661)
دليلنا:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر [92/أ] عن يمينه" 1، ولو
__________
1 هذا الحديث رواه عبد الرحمن بن سمرة القرشي العبشمي رضي الله عنه مرفوعًا.(2/661)
كان الاستثناء يرفعهما بعد مدة، كان الخلاص به أسهل من الحنث والكفارة؛ فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاصه منها بالحنث والكفارة؛ ثبت أنه لا خلاص له بغير ذلك.
ولأن الاستثناء جارٍ1 مجرى الشرط؛ لأنه إذا انفصل عما قبله لم يعد، ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدًا أو أعطه درهمًا، ثم قال بعد يوم: إذا قام، أو أكل؛ لم يعد ذلك، ولم يكن شرطًا صحيحًا. كذلك قوله: له عشرة، أو قال: والله لا أكلت الخبز، ثم قال بعد شهر: يومي هذا، لم يقبل2 ذلك؛ فلم يكن صحيحًا.
ويفارق هذا النسخ والتخصيص؛ لأن لفظ النسخ ولفظ التخصيص
__________
= أخرجه عنه البخاري في كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعد": "8/184".
وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها.. "3/1273".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث "2/205".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها "4/106".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور باب الكفارة قبل الحنث "7/10".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الكفارات، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها "1/681".
وأخرجه عنه الدارقمي في كتاب الأيمان والنذور "2/107".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "بلوغ المرام" ص"173".
1 في الأصل: "جاري".
2 في الأصل: "يقل".(2/662)
مقيد بانفراده؛ فلهذا جاز أن يتأخر.
ولأن تصحيحه يفضي إلى أن لا يستقر حكم الخطاب أبدًا، ولا يعتقد وجوب ما أمر به الرسول ويتعبد به؛ لجواز أن يعقبه باستثناء يرفعه، وهذا ظاهر الفساد.
ويفارق هذا النسخ؛ لأن النسخ يرفع الحكم حال وجوده، بعد أن سبق اعتقاد الحكم وثبت قبل ورود النسخ، فلا يرفع الحكم حال وجوده؛ فلا يرفع حكم الخطاب بكل حال. والاستثناء إذا ورد؛ تبينا أنه لم يثبت للخطاب حكم فيرفعه بكل حال.
ويفارق هذا التخصيص؛ لأنه يجوز تأخيره عن وقت الخطاب1 ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة؛ فلا يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ على التأبيد، والاستثناء على قول غيره يرد أبدًا، فيرفع حكم الخطاب.
__________
1 من قوله: "لأنه يجوز ... " إلى هنا مكرر في الأصل.(2/663)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا"، ثم سكت ساعة ثم قال: "إن شاء الله" 1؛ فلولا صحة الاستثناء لم يذكره.
__________
1 هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. أخرجه عنه أبو داود، في كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "207/2"، كما أخرجه عن عكرمة مرسلًا.
وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن حبان في "صحيحه" وأبو يعلى في "مسنده"، قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": هذا حديث رواه شريك ومسعر؛ فأسنداه مرة، وأرسلاه أخرى.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" عن عبد الواحد بن صفوان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. أما ابن القطان فقد ذكره من جهة ابن عدي، وقال: و "عبد الواحد" هذا ليس حديث بشيء، والصحيح مرسل.
انظر: "نصب الراية": "3/302-303"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"793".(2/663)
والجواب: أن قوله: "إن شاء الله"؛ لم يكن على وجه الاستثناء؛ وإنما كان على معنى أن الأفعال المستقبلة تقع بمشيئة الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1.
واحتج: بأنه معنى يرفع اليمين؛ فجاز أن يقع منفصلًا كالكفارة.
والجواب: عن الكفارة ما ذكرناه في النسخ، وهو أن تأخر الكفارة لا يرفع حكم اليمين بكل حال، والاستثناء يرفع حكمها، وإن قاسوا على النسخ وعلى التخصيص؛ فالكلام عليه ما ذكرنا.
وفيما ذكرنا من الخبر والشرط دلالة على من أجاز ذلك في المجلس؛ لأن الشرط والجزاء متى تفرقا بقدر المجلس لم يصح، كذلك الاستثناء.
فإن قيل: المجلس يجري مجرى حال العقد، بدليل قبض رأس مال السلم وثمن الصرف.
قيل: اعتبار هذا بالشرط والجزء أشبه، لما ذكرنا.
__________
1 "23" سورة الكهف.(2/664)
يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه
...
فصل: يجوز أن يقدم الاستثناء [92/ب] على المستثنى منه
إذا كان متصلًا به، نحو قوله: ما جاءني إلا أخاك من أحد، وما مررت إلا إياك بأحد.(2/664)
وقد قال حسان:1
الناسَ ألِّب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر2
فقدم قوله:
إلا السيوف وأطراف القنا ...
وجعله بمثابة قوله: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا.
وقال الكميت:3
فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب4
فنصبا جميعًا بالاستثناء مما هو في موضع النصب والخفض، وقد قال أهل العربية: إن الاستثناء إذا تقدم نصب أبدًا المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا إياك أحد، وما مررت إلا إياك أحد، واستشهدوا بهذين البيتين.
__________
1 هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام أبو الوليد الأنصاري النجاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، نافح عن الدعوة الإسلامية في فجر تاريخها، وكان لشعره أثر كبير على الكفار، وبخاصة قريش، مات قبل الأربعين في خلافة علي رضي الله عنه، وله من العمر عشرون ومائة سنة، عاش نصفها في الجاهلية.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/341"، و"الإصابة": "2/8".
2 هذا البيت ليس لحسان بن ثابت رضي الله عنه، كما ذهب المؤلف؛ وإنما هو لكعب بن مالك رضي الله عنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد نسب البيت إليه سيبويه في "الكتاب": "1/371" طبعة بولاق، والمبرد في كتابه "المقتضب": "4/397"، وابن يعيش في "شرحه للمفصل": "2/79".
3 هو: الكميت بن زيد أبو المستهل الأسدي. كان معلم صبيان الكوفة، وكان به صمم. كما كان رافضيًا متعصبًا لأهل الكوفة، في شعره تكلف شديد وسرقة كثيرة. ولد سنة 60هـ، ومات سنة 126هـ.
له ترجمة في "الأعلام": "6/92"، و"الشعر والشعراء": "2/581"، و"طبقات الشعراء" لابن سلام الجمحي ص"45".
4 هذا البيت لكميت بن زيد، كما ذكر المؤلف، وقد نسبه إليه المبرد في كتابه: "المقتضب": "4/398"، وابن يعيش في كتابه: "شرح المفصل": "2/79"، وخالد الأزهري في كتابه: "التصريح": "1/355"، وابن منظور في كتابه: "اللسان" مادة "شعب".(2/665)
يجوز الاستثناء من الاستثناء
مدخل
...
فصل: يجوز الاستثناء من الاستثناء
قال تعالى: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} 1.
__________
1 "59-60" سورة الحجر.(2/666)
مسألة لا يصح استثناء الأكثر
مدخل
...
مسألة: لا يصح استثناء الأكثر
ذكره الخرقي في كتاب الإقرار1.
وحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي2، ونصره ابن الباقلاني في كتاب التقريب من أصول الفقه.
وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جواز ذلك.
__________
1 وذلك في "مختصره" ص"99-100"، وعبارته هكذا: "ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير -وهو أكثر من النصف- أخذ بالكل، وكان استثناؤه باطلًا".
2 هو: عبد الله بن جعفر بن درستويه -بضم الدال والراء المهملتين، وقيل: بفتحهما- ابن المرزبان أبو محمد. أحد النحاة المشهورين. بصري المدرسة؛ شديد الانتصار لهم. وثقه ابن مندة، وضعفه هبة الله اللالكائي. له كتب كثيرة منها: "الإرشاد في النحو" و"شرح الفصيح". مات سنة 347هـ، وله من العمر تسع وثمانون سنة. له ترجمة في: "البداية والنهاية": "1/233"، و"بغية الوعاة": "2/36"، و"تاريخ بغداد": "9/428"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/223"، و"مفتاح السعادة": "1/166"، و"النجوم الزاهرة": "3/321".(2/666)
دليلنا:
أن الاستثناء لغة، وأهل اللغة قد نفوا ذلك وأنكروه.
قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني لما تكلم على قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} 1: ولم يأت في كلام العرب إلا في القليل من الكثير2.
وقال أبو الفتح ابن جني3 ولو قال قائل: هذه مائة إلا تسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامه عيًا ولكنةً.
وقال القتبي4 في جوابات المسائل5، وذكر أيضًا في كتاب
__________
1 "14" سورة العنكبوت.
2 المطبوع من الكتاب إلى آخر سورة "براءة"، والآية المشار إليها من سورة العنكبوت.
3 هو: عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي. كان أبوه مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي. كان إمامًا في النحو والأدب. تتلمذ على أبي علي الفارسي مدة أربعين سنة، وبعد موت أستاذه أبي علي؛ تولى مكانه في بغداد. له مؤلفات كثيرة، منها: "الخصائص"، و"شرح المقصور والممدود"، و"المذكر والمؤنث". مات سنة 392هـ، وله من العمر خمس وستون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "الأعلام": "4/364"، و"بغية الوعاة": "2/132"، و"شذرات الذهب": "3/140"، و"نزهة الألباء" ص"406"، ومقدمة كتاب الخصائص للأستاذ محمد علي النجار.
4 هو: ابن قتيبة عبد الله بن مسلم أبو محمد الدينوري، وقد سبقت ترجمته.
5 هذا الكتاب طبع سنة 1349هـ بمطبعة السعادة بمصر، باعتناء مكتبة القدسي، وقد طبع بعنوان: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة"، ويقع في 26 صحيفة، وقد أشار إليه المؤلف في أول الكتاب عند تعريفه للفقه لغة، أما الكلام الذي أشار إليه هنا؛ فلم أجده في الكتاب المذكور.(2/667)
الجامع في النحو1 فقال: يجوز أن يقول: صمت الشهر كله [إلا يومًا، ولا يجوز أن يقول: صمت الشهر كله] 2 إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم جميعًا إلا أكثرهم، وأنشد:
عداني أن أزورك أن بهمي ... عجاف3 كلها إلا قليلًا4
ولأنه لو جاز استنثاء الأكثر؛ جاز استثناء الكل، ألا ترى أن التخصيص لما جاز في أكثر العموم؛ جاز في جميعه، وهو النسخ؛ فلما لم يجز في الكل؛ لم يجز في الأكثر؛ لأن الأكثر قد أجري مجرى الكل.
ولأنه استثناء الأكثر؛ فلم يصح، كالراهن إذا استثنى الأكثر في الإقرار.
ولأنه استثنى الأكثر؛ فلم يصح، كما لو قال: أنت طالق، وطالق،
__________
1 ذكر هذا الكتاب منسوبًا إلى ابن قتيبة ابن النديم في "الفهرست" ص"116" من الطبعة التجارية سنة 1348هـ.
2 الكلام لا يستقيم بدون هذه الزيادة، وقد استعنَّا في ذلك بابن قدامة، حيث نقل نص ابن قتيبة في كتابه "المغني" في كتاب الإقرار "5/147" هكذا: "وقال القتيبي: يقال: صمت الشهر إلا يومًا، ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا، ويقال: لقيت القوم جميعهم إلا واحدًا أو اثنين، ولا يجوز أن يقال: لقيت القوم إلا أكثرهم".
3 هكذا في الأصل، وفي مراجع تخريج البيت: "عجايا".
4 هذا البيت ذكره ابن فارس في كتابه: "معجم مقاييس اللغة": "243/4" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد.
كما ذكره ابن منظور في كتابه: "اللسان" "255/19" مادة: "عجا"، ولم ينسبه لأحد أيضًا.(2/668)
وطالق؛ إلا طالق طلقتين؛ فإنه لا يصح.
فإن قيل: هناك لو استثنى [93/أ] الأقل، وهو طلقة؛ لم يصح، وكان المعنى فيه أن هناك جملًا1؛ فالاستثناء عدد، فرفع جملتين؛ فلم يصح.
قيل: عندنا لو استثنى طلقة صح؛ فلا نسلم هذه المعارضة، وقولهم: إن هناك جملًا2؛ فهو يرفع جملتها؛ فلا يصح؛ لأنها في حكم الجملة الواحدة، فالواو تجعل الكلام بمنزلة جملة واحدة، بدليل أن الاسثتناء يرجع إلى الجميع، وكذلك الشرط.
__________
1 في الأصل: "جمل".
2 في الأصل: "جمل".(2/669)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 1، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينََ} 2، فاستثنى الغاوين من المخلصين، والمخلصين من الغاوين وأيهما كان الأكثر؛ فقد استثنى الأكثر وأبقى الأقل؛ على أن الغاوين أكثر من غير ذلك.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما أن هذا استثناء من جميع الجنس؛ فيجوز أن يقال فيه: إنه يجوز إخراج الأكثر من الأقل؛ فأما استثناء الأكثر من الأعداد المحصورة فلا، ويكون الفرق بينهما: أن اللغة وردت بجواز ذلك في الجنس، وهو ما ذكروه من الآية، ومنعت من ذلك في الأعداد، وهو ما حكيناه عنهم.
__________
1 "42" سورة الحجر.
2 "82" سورة ص.(2/669)
ولأن حمل جميع الجنس على العموم؛ إنما هو بطريق الظاهر، لا من جهة القطع على جميع الجنس، وليس كذلك في الأعداد؛ لأن جميعها منطوق به نصًا وصريحًا؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وجواب آخر عن الآية وهو: أنه يحمل هذا على الاستثناء المنقطع، وهو بمعنى: لكن من اتبعك من الغاوين، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 1 معناه: لكن رب العالمين، وكقوله: {إِلاَّ خَطَأً} 2 يعني: لكن خطأ.
واحتج بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} 3؛ فقد استثنى النصف.
والجواب: أن أصحابنا اختلفوا في استثناء النصف.
فالخرقي أجاز ذلك؛ لأنه قال: إذا استثنى منه الكثير، وهو أكثر من النصف4. فعلى هذا يقول بظاهر الآية.
وأبو بكر منع استثناء النصف5؛ فعلى هذا: قوله تعالى: {نِصْفَهُ} كلام مبتدأ، وليس باستثناء.
واحتج بقول الشاعر:
__________
1 "77" سورة الشعراء.
2 "92" سورة النساء.
3 "2-4" سورة المزمل.
4 وذلك في "مختصره" ص"99".
5 حكى ذلك عنه أيضًا ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/147"، معللًا ما ذهب إليه من أنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير، والنصف ليس بقليل.(2/670)
أدوا التي نقصت تسعين1 من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا2
والجواب: أن هذا ليس باستنثناء؛ لأنه لم يأت بحرف الاستثناء؛ وإنما ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم.
واحتج: بأنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فصح في الأكثر كما يصح في الأقل، كالتخصيص.
والجواب: أن التخصيص أوسع، ألا ترى أنه يصح بدليل منفصل، والاستثناء لا يصح إلا متصلًا، والتخصيص لا يختص بعبارة، والاستثناء [93/ب] يختص بحروف مختصة، والتخصيص يجوز بسائر الأدلة: الشرع والعقل، والاستثناء لا يقع إلا باللفظ.
ولأن من جنس التخصيص ما يرفع الجملة، وهو النسخ؛ لأن التخصيص تخصيص الأعيان، والنسخ تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع الجملة.
وقد ذكر هذا ابن عرفة النحوي3 في كتاب الاستثناء
__________
1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: "سبعين" بدليل كلام ابن عرفة الآتي ذكره.
2 نقل ابن قدامة في "الروضة" ص"134" عن ابن فضالة النحوي قوله: "هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب".
3 هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان أبو عبد الله العتكي الأزدي الواسطي، المعروف بنفطويه. كان عالمًا بالعربية واللغة والحديث. أخذ عن ثعلب والمبرد. له مؤلفات كثيرة، منها: "غريب القرآن"، و"إعراب القرآن"، و"الاستثناء والشروط في القراءات".
مات في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 323هـ، وله من العمر تسع وسبعون سنة تقريبًا.
له ترجمة في: "إنباه الرواة": "1/176"، و"البداية والنهاية": "1/1831"، و"بغية الوعاة": "1/428"، و"تاريخ بغداد": "6/159"، و"شذرات الذهب": "2/298"، و"غاية النهاية": "1/25"، و"طبقات المفسرين" للداودي "1/19"، و"المنتظم": "6/277"، و"ميزان الاعتدال": "1/64".(2/671)
والشروط1، وأنه لم يخرج مخرج الاستثناء؛ وإنما خرج مخرج الاقتضاء لبقية دية المقتول فيما أنشدوه من البيت، وأعلم أنه أعطى ثلاثين، ونفى سبعين، وأنشد أمام هذا البيت:
إن الذين قتلتم أمس سيدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما2
ثم قال: أدوا التي نقصت.
واحتج: بأنه استثنى إبقاء بعض الجملة؛ فوجب أن يصح، كما إذا أبقى الأكثر.
والجواب: أن الاستثناء للأقل يطابق اللغة، والأكثر يخالف اللغة، وقد بينا: أن الاستثناء لغة؛ فلهذا فرقنا بينهما.
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن يصح إذا بقي الأكثر دون الأقل، كما قال أصحاب أبي حنيفة: يصح ترك بعض الطواف واللعان إذا أتى بالأكثر، وكذلك قال الجميع: يصح إدراك بعض الركعة مع الإمام إذا فاته الأكثر.
__________
1 اسم الكتاب كاملا: "الاستثناء والشروط في القراءات"، وقد ذكرته بعض المراجع السابق ذكرها منسوبًا إليه.
2 هذا البيت لأبي مكعت منقذ بن خنيس، والبيت مذكور في: "الأمالي الشجرية": "1/332"، و"المغني" لابن هشام ص"762" تحقيق مازن المبارك ورفيقه، و"همع الهوامع": "1/135".(2/672)
مسألة لا يصح الاستثناء من غير الجنس
مدخل
...
مسألة 1: لا يصح الاستثناء من غير الجنس
وقد ذكر أصحابنا هذا في الإقرار، فقال الخرقي: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ كان الاستثناء باطلًا2.
وذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك إلى جواز ذلك.
وهو اختيار أصحاب الشافعي: فذهب بعضهم إلى جوازه، ومنهم من قال: لا يصح، مثل قولنا.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156".
2 هكذا في "مختصر الخرقي" ص"99"، وتكلمة العبارة هي: ".. إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين".(2/673)
دليلنا:
أن الاستثناء هو إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه غير داخل فيه؛ فلا يصح الاستثناء منه.
والدليل على أن الاستثناء ما ذكرته: أنه مشتق من قولهم: ثنيت فلانًا عن رأيه، وثنيت عنان دابتي، إذا رده ومنعه؛ فدل على أن الاستثناء يرد بعض ما يجب دخوله في اللفظ ويثنيه عنه،
وقد قيل: إنه يسمى استثناء لشبه الخبر بعد الخبر، وعلى هذا يجب أن يكون المستثنى منه والاستثناء قد تناولاه جميعًا؛ فإذا كان كذلك؛ وجب أن يصح الاستثناء في بعض ما دخل في اللفظ.
وأيضًا: فإنه إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ؛ فوجب أن لا(2/673)
يصح من غيره؛ كالتخصيص.
وأيضًا: فإن الاستثناء [94/أ] لا ينفرد1 بنفسه؛ فلا يجوز الابتداء به؛ وإنما يصح إذا كان متصلًا بالمستثنى منه؛ فدل على أنه متعلق به، واستنثاؤه لبعض ما شمله اللفظ وتناوله.
وأيضًا: فإنه قبيح في الخطاب أن يقول: خرج القوم إلا الحمير، ورأيت الناس إلا الحمير والكلاب. وليس قبحه إلا لما ذكرته.
__________
1 في الأصل: "لا تنفرد".(2/674)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن هذا جائز في القرآن وفي أشعار العرب:
قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ} 1، وليس إبليس من الملائكة، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2 وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3، وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 4. وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} 5. وقال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 6، والظن ليس بعلم، وقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 "77" سورة الشعراء.
3 "25" سورة الواقعة.
4 "29" سورة النساء.
5 "43-44" سورة يس.
6 "157" سورة النساء.(2/674)
أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمْ} 1، ومعلوم أن من رحم معصوم، وليس بعاصم.
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس2
فاستثنى من الأنيس ما ليس من جنسه.
وقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب3
فاستثنى الفلول من العيب.
وتقول العرب: ما نفع إلا ما ضر، وما زاد إلا ما نقص، وما بالدار أحد إلا الحمار، وما جاءني زيد إلا عمرًا، ونظائر ذلك.
والجواب عن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
__________
1 "43" سورة هود.
2 هذا البيت لجران العود. وهو في "ديوانه" ص"53"، و"الكتاب" لسيبويه: "1/133-365"، و"التصريح" لخالد "1/353"، و"شرح المفصل" لابن يعيش "1/80، 117"، و"المقتضب" للمبرد "2/319-347"، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/225، 2/144"، والشطر الأول في بعض الروايات:
وبلدة ليس بها أنيس
واليعافير: أولاد الظباء.
والعيس: بقر الوحش.
3 هذا البيت للنابغة الذبياني. وهو في "ديوانه" ص"6"، و"الخزانة" للبغدادي "2/9" طبعة بولاق، و"المغني" لابن هشام ص"155" تحقيق مازن المبارك وصاحبه، و"همع الهوامع" للسيوطي "1/232".(2/675)
إلا إبليس} 1؛ فهو أن إبليس من الملائكة.
قال أبو إسحاق2: سمعت الشيخ يعني أبا بكر3، وقد سئل عن إبليس أمن الملائكة؟ فقال: أمر الله بالسجود الملائكة؛ فلولا أن إبليس منهم ما كان مأمورًا.
قال أبو إسحاق: فقلت له: أجمعنا على أن الملائكة لا تناكح، ولا يكون لها ذرية، وقد كان لإبليس ذرية؛ دل على أنه من غيرها.
وأما غيره من الآيات: فإنما معناه: لكن، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} 4، وأراد: لكن إن قتل خطأ، تقول العرب: "ما لي ابن بنت" و"ما لي نخل إلا شجر"، والمراد به: لكن، ولا "تلق فلانًا إلا ما لقيت"، معناه: لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه.
وقال ابن قتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن" قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} 5 أي: لكن من رحم. وكذلك قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} 6 معناه: لكن قليلًا.
وكذلك قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا [94/ب]
__________
1 "30" سورة الحجر.
2 يعني: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا.
3 يعني: عبد العزيز بن جعفر، المعروف: بغلام الخلال.
4 "92" سورة النساء.
5 "43" سورة هود.
6 "116" سورة هود.(2/676)
إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} 1 يعني: لكن. وهذا قول سيبويه2.
وأما قول الشاعر:
إلا اليعافير وإلا العيس
فإنه استثناء من الأنيس وهذا مما يستأنس به.
فأما الفلول في السيوف في البيت الآخر؛ فهو عيب؛ وإنما سببه هو الذي يمدح به.
وما حكوه عن العرب؛ فقد حكينا خلافه.
واحتج: بأنه استثناء لا يرفع الجملة؛ فصح كما لو كان من جنسه، وكما لو استثنى عينًا من ورق.
والجواب: أنه لا يجوز اعتبار الجنس بغيره، كما لم يجز اعتبار التخصيص بغيره، ولأن الاستثناء من الجنس يوجد فيه معنى الاستثناء، وههنا لا يوجد معناه؛ لأن معناه إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ.
وأما استثناء العين من الورق: ففيه خلاف بين أصحابنا؛ فأبو بكر يمنع منه3. والخرقي يجيزه4؛ لأنهما أجريا مجرى الجنس الواحد في أشياء، مثل كونها قيم الأشياء والأروض وغير ذلك.
__________
1 "98" سورة يونس.
2 وذلك في كتابه: "1/366-368" طبعة بولاق، ولكنه قدر المعنى في آية هود الأولى: ".. ولكن من رحم.."، وقدر الآية الثانية بقوله: ".. ولكن قليلا ممن أنجيناهم"، كما قدر آية يونس بقوله: ".. ولكن قوم يونس.."، ويلاحظ أنه في كل تقديراته، يثبت "الواو" قبل "لكن".
3 هكذا حكى عنه ابن قدامة في كتابه: "المغني: "5/130"، كما حكى عن ابن أبي موسى قوله: إنه رواية في المذهب.
4 لأنه قال في "مختصره" في كتاب الإقرار ص"99": "ومن أقر بشيء، واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلًا؛ إلا أن يستثنى عينًا من ورق، أو ورقًا من عين". ونقل ابن قدامة في كتابه: "المغني": "5/130"، عن ابن أبي موسى، أنه رواية في المذهب أيضًا.(2/677)
مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا عطف بعضها على بعض
مدخل
...
مسألة 1: الاستثناء إذا تعقب جملًا عطف بعضها على بعض
وصلح أن يعود إلى كل واحد منها لو انفرد؛ فإنه يعود إلى جميع ما تقدم ذكره.
وذلك مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 2؛ فإنه يرجع الاستثناء إلى نفي الفسق وقبول الشهادة، ونظائر ذلك.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وقيل له: قوله: "لا يُؤَم الرجل في أهله، ولا يُجلَس على تكرمته؛ إلا بإذنه" 3،
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"156"، و"روضة الناظر" ص"134"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "59".
2 "4" سورة النور.
3 هذا الحديث رواه عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري مرفوعًا.
أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/464".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/137".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء من أحق بالإمامة "1/458-459"، وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/313-314".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإمامة، باب من أحق بالإمامة "2/59".
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده "4/118-121".
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "1/279-280".
وأخرجه الطيالسي عنه في كتاب الصلاة، باب الإمام ضامن، ومن أحق بالإمامة "1/131".
وراجع في هذا الحديث أيضًا: "ذخائر المواريث": "3/8"، و"نصب الراية": "2/24"، و"بلوغ المرام" ص"48"، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص"225".(2/678)
قال: "أرجو أن يكون الاستثناء على كله".
وبهذا قال أصحاب الشافعي1.
وقال أصحاب أبي حنيفة2 وجماعة من المعتزلة3: يعود إلى أقرب مذكور.
وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يبينه الدليل4.
__________
1 راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص"160"، و"المستصفى" له "2/174"، و"جمع الجوامع" مع شرحه "2/17"، و"الإحكام" للآمدي "2/279".
2 راجع في هذا: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت "1/332"، و"تيسير التحرير": "1/302".
3 راجع في هذا: "المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/264"، فقد فصل القول في ذلك، ونقل عن القاضي عبد الجبار تفصيلًا في ذلك، حيث قال: "قال قاضي القضاة: إذا لم يكن الثاني منهما إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، وصح رجوع الاستثناء إليهما، وجب رجوعه إليهما. وإن كان إضرابًا عن الأول وخروجًا عنه إلى قصة أخرى، فإنه يرجع إلى ما يليه ... ".
ثم بين بعد ذلك المسائل المندرجة تحت كل حالة من الحالتين.
4 واختاره الغزالي في كتابه "المنخول" ص"161"، و"المستصفى": "2/178"، ونسبه الآمدي في كتابه: "الأحكام": "2/280" إلى القاضي أبي بكر وجماعة من الشافعية. كما ذكر الآمدي رأيًا آخر، وهو القول بالاشتراك، ونسبه للمرتضى من الشيعة.(2/679)
دليلنا:
أن الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره؛ لأنه لو قال: نساؤه طوالق وعبيده أحرار، وماله صدقة إن شاء زيد، وإن دخلت الدار لم يقع شيء من ذلك قبل مشيئته، وكان الشرط راجعًا إلى الجميع، كذلك الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه؛ وإنما هو متعلق بما قبله من الكلام، ويجب أن يكون متصلًا به، وإذا انفصل؛ سقط حكمه، والشرط بمثابته في ذلك، فكانا سواء.
فإن قيل: الشرط يؤثر في الجملة، والاستثناء يؤثر في بعضها.
قيل: هذا لا يوجب الفرق بينهما في الجملة الواحدة، ولأن الاستثناء بمشيئة الله يرجع إلى الجميع عندهم؛ يجب أن يكون الاستثناء بغيره [95/أ] كذلك.
ولأن الجملة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، لأنه لا فرق بين أن يقول: "رأيت رجلًا ورجلًا"، وبين أن يقول: "رأيت رجلين"، وإذا كان كذلك وجب أن يرجع إلى جميعها، ويكون بمنزلة جملة واحدة.
وهذا صحيح على مذهب أحمد رحمه الله؛ لأنه قال1: "إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق؛ يقع عليها ثلاث، فتكون بمنزلة الجملة الواحدة".
وعلى هذا الأصل إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة؛ تقع
__________
1 في الأصل: "لو قال"، و "لو" هنا لا معنى لها، ولا يستقيم الكلام بوجودها؛ لذلك حذفناها.(2/680)
عليها طلقتان، ويصح الاستثناء؛ لأنه يكون استثناء واحدة من ثلاث ولا يكون استثناؤه واحدة من واحدة.
فإن قيل: الجملة الواحدة ليس بينهما وبين الاستثناء حائل؛ لهذا رفعها، وإذا فرقها فقد جعل بينهما وبينه حائل؛ فلهذا لم يرفعها، وإنما يرفع ما يتعقبه.
قيل: وأول العطف يقتضي الاشتراك، ويجعل الثاني والأول كأنهما معا مذكوران بلفظ واحد؛ فلا يصح أن يكون بينهما حائل في الحكم، وإن كان بينهما حائل في الصورة.
ولأن الاستثناء إذا تعقب جملًا، وصلح أن يعود إلى كل واحد منهما؛ فليس عوده إلى بعضها بأولى من البعض؛ فوجب رده إلى الجميع، كالعموم لما لم يكن حمله على بعض مسمياته أولى من بعض؛ حمل على الجميع.(2/681)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن العموم قد ثبت في جملة من الجمل المتقدمة، وعود الاستثناء إلى الجميع مشكوك فيه؛ فلا يجوز أن يزيل العموم بالشك.
والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن العموم إنما ثبت بوقوع السكوت عن الكلام من غير استثناء، وإذا اتصل به الاستثناء؛ لم يثبت العموم، وعلى هذا يلزم عليه العموم؛ لأنه قد يخص بأمر مقطوع عليه، كالنص، وقد يخص بأمر غير مقطوع عليه، كالقياس، وإن كان العموم قد ثبت في جميع المسميات.
واحتج: بأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يفيد بانفراده؛ فوجب رده إلى ما تقدم ذكره؛ فإذا رد إلى ما يليه، فقد استقل وأفاد؛ فلا تجب الزيادة عليه.(2/681)
والجواب: أنه يبطل بالشرط، ويلزم عليه لفظ العموم؛ فإنه إذا حمل على أقل الجمع أفاد، ومع ذلك لا يقضي عليه، بل يحمل على جميع الجنس، وكذلك الاستثناء إذا تعقب جملة تناولت أشياء؛ فإنه إذا علق ببعض تلك الأشياء أفاد، ومع ذلك فإنه يرد إلى جميعها.
واحتج: بأن الاستثناء إذا تعقب الاستثناء بغير الواو رجع إلى ما يليه، ولا يرجع إليهما، كذلك ههنا. وبيانه: أن يقول: "له علي عشرة إلا أربعة إلا درهمين1"، إن الاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء [95/ب] الأول، ولا يرجع إليه وإلى العدد الذي قبله، فيلزمه ثمانية دراهم".
والجواب: أنه إنما رجع إلى ما يليه؛ لأنه لا يصح رجوعه إليهما2؛ فإن أحدهما نفي والآخر إثبات؛ فإذا رجع إليهما تناقض.
واحتج: لو قال: "أنت طالق وطالق وطالق إلا طالق"؛ لم يصح الاستثناء، وهذا يدل على أنه رجع إلى ما يليه؛ فلا يرجع إلى الجميع، إذ لو رجع إلى الجميع؛ لصح الاستثناء؛ لأنه قد رفع الأقل، ولما لم يصح؛ دل على أنه رجع إلى ما يليه، فقد رفع جميعه؛ فلهذا لم يصح.
والجواب: أنه يصح الاستثناء، هذا قياس المذهب؛ لأنه قد قال في غير المدخول بها: "أنت طالق وطالق وطالق، يقع ثلاثًا"، وجعل الواو للجمع؛ فحصلت في حكم الجملة الواحدة؛ فعلى قياس هذا يصح الاستثناء؛ لأنها جملة واحدة.
وقد سلم أصحاب الشافعي هذا، وقالوا: لا يصح الاستثناء؛ لأنه يرفع الجملة؛ وإنما يرجع إلى الجميع، إذا لم يرفع جميع الجملة من الجمل المتقدمة.
__________
1 في الأصل: "إلا درهم".
2 في الأصل: "إليها".(2/682)
وهذا غير صحيح؛ لأن الواو للعطف يجعل الجمل1 كالجملة الواحدة لعطف بعضها على بعض، وإذا جعلت كالجملة الواحدة؛ صح الاستثناء، وكان راجع إلى الجميع.
فأما من قال بالوقف؛ فقوله ظاهر الفساد؛ لأن السلف اختلفوا في هذه المسألة على قولين: منهم من قال: إنه يعود إلى الكل، ومنهم من قال: إنه يعود إلى الأقرب، ولم يقل أحد: إنه موقوف؛ فالقول بالوقف إحداث قول ثالث، لا يجوز إثباته.
وأيضًا: فإن الاستثناء يؤثر في الكلام كالشرط، ومعلوم أن الشرط يرجع إلى ما يليه، ولا يتوقف فيه، كذلك الاستثناء.
واحتج المخالف:
بأن الاستثناء يصح أن يعود إلى البعض، ويصح أن يعود إلى الجميع؛ فوجب التوقف فيه.
والجواب: أن عوده إلى الجميع هو الظاهر؛ وإنما يعود إلى الأقرب بقرينة ودليل؛ فلا نسلم لهم تساوي الأمرين.
__________
1 في الأصل: "الجملة" والصواب: ما أثبتناه.(2/683)
مسألة: في المحكم والمتشابه 1
ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان.
و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان2.
لأنه قال في كتاب "السنة": بيان ما ضلت فيه الزنادقة في القرآن.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"161"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"روضة الناظر" ص"35-36"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "ب/83-84"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص"86-102".
2 كلام الإمام أحمد هذا نقله ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" وقد سبق للمؤلف ص"152": أن عرف المحكم بقوله: "ما ينبئ عن المراد بنفسه، أو يعقل معناه من لفظه".
كما عرف المتشابه بأنه: "المشتبه المحتمل، الذي يحتاج في معرفة معناه إلى تأمل وتفكر وتدبر وقرائن تبينه وتزيل إشكاله".(2/684)
ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان1.
وقال في رواية ابن إبراهيم "المحكم": الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا.
ومعناه: ما ذكرنا؛ لأن قوله: "المحكم": الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا، معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، وذلك نحو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2؛ لأن القرء من الأسماء المشتركة، تارة يعبر عن الحيض، وتارة عن الطهر. ونحو قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3.
وهذا قول عامة الفقهاء.
وقد اختلف في ذلك:
__________
1 هذه رسالة صغيرة للإمام أحمد رحمه الله، طبعها الشيخ محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1375هـ-1956م، ضمن مجموع سماه: "شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين" الجزء الأول وصفحاتها من "41-52".
ولم أجد كلام الإمام أحمد رحمه الله المشار إليه في هذه الرسالة؛ وإنما وجدته في رسالة: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"، وقد طبعها الشيخ محمد حامد الفقي ضمن المجموع المذكور، والنص المشار إليه يقع في ص"4" وما بعدها. ويلاحظ أن هذه الرسالة قد طبعت في المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1393هـ والنص المشار إليه يقع في هذه الطبعة في ص"7" وما بعدها.
2 "228" سورة البقرة.
3 "141" سورة الأنعام.(2/685)
فقال قوم: "المحكم": هو الأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد1.
و"المتشابه": ما كان من ذكر القصص والأمثال.
قالوا: لأن "المحكم" ما استفيد الحكم منه، و"المتشابه" ما لا يفيد حكمًا.
ومنهم من قال: "المحكم" ما وصلت حروفه، و"المتشابه": ما فصلت حروفه، وتفصيلها: أن ينطق بكل حرف كالكلمة، كقوله: {الم} 2، {المص} 3، {الر} 4، و {كهيعص} 5، ونحو ذلك. والموصولة: ما لاينطق بكل حرف وحده، كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} 6، ونحو ذلك.
وذلك أن "المحكم": ما عرف معناه، و"المتشابه": ما لا يعقل معناه، وهو أوائل السور، بالحروف المقطعة7.
ومنهم من قال: "المحكم": الناسخ، و"المتشابه": المنسوخ8.
__________
1 نسبه ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350" إلى ابن عباس ومجاهد.
2 "1" سورة البقرة.
3 "1" سورة الأعراف.
4 "1" سورة هود.
5 "1" سورة مريم.
6 "2" سورة البقرة.
7 القول بأن "المحكم": ما علم العلماء تأويله. و"المتشابه": ما لم يعلم العلماء تأويله، منسوب إلى جابر بن عبد الله بن رئاب، كما ذكر الطبري في "تفسيره": "6/180"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/350-351".
8 نقل هذا القول -عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك- ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، والطبري في تفسيره "جامع البيان": "6/175-176"، والطبري في كتابه: "مجمع البيان": "3/15".(2/686)
فإن المنسوخ ما لا يستفاد منه حكم؛ وإنما يستفاد من الناسخ.
وذكر أبو الحسين البصري1 عن أصحابه: أن "المحكم" يستعمل على وجهين:
أحدهما: أنها محكمة الصيغة والفصاحة.
والآخر: أنه لا يحتمل تأويلين مشتبهين، وأما "المتشابه": [ف] يستعمل أيضًا على وجهين: أحدهما: أنه متشابه ومتساوٍ في الحكمة.
والآخر: يحتمل تأويلين مختلفين مشتبهين احتمالًا شديدًا2.
والدلالة على ما قلناه:
قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
__________
1 هو محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري، المعتزلي، الأصولي المتكلم. كانت له حلقة كبيرة في بغداد يقرئ فيها الاعتزال. له كتب كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وكتاب في الإمامة وأصول الدين. توفي ببغداد سنة 436هـ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "3/100"، و"شذرات الذهب": "3/259"، و"طبقات المعتزلة" ص"387"، و"لسان الميزان" "5/289"، و"ميزان الاعتدال": "3/106"، و"فيات الأعيان": "1/482".
2 القول بأن المحكم ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد"، والمتشابه "ما احتمل من التأويل أوجهًا" نسبه الطبري في تفسيره "6/177" إلى محمد بن جعفر بن الزبير، ونسبه الطبري في تفسيره "3/15" إلى محمد بن جعفر، المذكور، وإلى أبي علي الجبائي.
وهناك أقوال أخرى في المحكم والمتشابه، لخص أهمها ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/350-351"، على أن للإمام ابن تيمية رسالة في هذا الموضوع نقلها القاسمي في "تفسيره": "4/752"، وما بعدها.(2/687)
مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وأم الشيء: هو الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فاقتضى ذلك، أن "المحكم": ما كان أصلًا بنفسه، مستغنيًا عن غيره، لا يحتاج إلى بيان ولا من لفظ قرينة ولا غيره.
و"المتشابه": ما خالف ذلك، وافتقر إلى بيان ودليل يعرف به المراد.
وإنما يكون هذا فيما ذكرناه من المحتمل، دون ما ذكروه من القصص والناسخ والمنسوخ.
يبين صحة هذا: قوله تعالى في سياق الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 2 فثبت أن المتشابه هو الذي يحتاج إلى تأويل وبيان.
يبين صحة هذا: أن المتشابه والقصص يعقل معناها، وكذلك المنسوخ، فكيف يقال متشابه؟!
ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} اختلفوا في هذه "الواو"، هل هي واو عطف أو ابتداء كلام؟
فمنهم من قال: الواو للابتداء، وليست للعطف؛ فهذا [96/ب]
__________
1 "7" سورة آل عمران.
راجع في تفسير هذه الآية: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي "4/8"، و"جامع البيان" للطبري "6/175"، و"مجمع البيان" للطبري "3/12"، و"التفسير الكبير" للرازي "7/138"، و"زاد المسير" لابن الجوزي "1/350"، و"محاسن التأويل": "4/751".
2 "7" سورة آل عمران.(2/688)
القائل يقول: الله تعالى يعلم تأويل المتشابه وحده، وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معناه: يقولون آمنا به؛ فأما أن يعلموا ذلك فلا1.
ومنهم من قال: الواو واو العطف، ويكون معناه: الله يعلم تأويله، وأهل العلم يعلمون ذلك أيضًا2.
والوجه الأول أشبه بأصولنا. وقد بينا ذلك في أول كتاب "إبطال التأويل لأخبار الصفات"3.
والوجه فيه" ما ذكره أبو بكر ابن الأنباري4 في كتاب "الرد على أهل الإلحاد" ما ذهب إليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي5 وابن مسعود وابن عباس.
__________
1 وبهذا قال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبو عبيدة وثعلب وابن الأنباري وجمهور العلماء، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/354".
2 وبهذا قال الربيع، وأبو سليمان الدمشقي، نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير": "1/354".
كما قال به ابن قتبية، وانتصر له في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص98"-1001".
3 هذا أحد كتب القاضي أبي يعلى، وهو مفقود -حسب علمي- وإن كان يوجد منه نقول: ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، واستفاد منها.
4 هو: محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر الأنباري، علامة في النحو واللغة. كان زاهد متواضعًا، ثقة صدوقًا، كما كان آية في الحفظ، له مصنفات كثيرة، منها: "غريب الحديث"، و"كتاب الوقف"، و"كتاب المشكل". مات سنة 328هـ وله 57 سنة.
له ترجمة في: "شذرات الذهب": "2/315"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"330".
5 هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري. صحابي جليل، شهد بيعة العقبة الثانية، وشهد بدرًا، كان أحد القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. مات في خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة 19هـ، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "الاستيعاب": "1/65"، و"الإصابة" القسم الأول ص"27" طبعة دار نهضة مصر.(2/689)
ففي قراءة عبد الله1: "إن تأويله إلا عند الله والراسخون يقولون2".
وفي قراءة أبي: "ويقول الراسخون في العلم"3. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: "ويقول الراسخون في العلم"4. وكان الفراء5 وأبو عبيدة6 يقولان: الراسخون مستأنفون، والله هو المنفرد؛ لأن الله تعالى
__________
1 المراد: عبد الله بن مسعود.
2 وقد نسب هذه القراءة إلى عبد الله بن مسعود الطبري في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354".
3 نسب هذه القراءة إلى أبي الطبريُّ في "تفسيره": "6/204"، وابن الجوزي في "تفسيره": "1/354".
4 انظر: "تفسير" ابن جرير الطبري "6/204"، و"تفسير ابن الجوزي" "1/354"؛ فإنهما قد نسبا هذه القراءة إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وراجع الإعراب على كل قراءة كتاب: "إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن" للعكبري "1/73".
5 هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، نعت بذلك لأنه كان يفري الكلام، إمام في النحو، كوفي المدرسة. بل كان أعلم أصحاب هذه المدرسة بعد إمامها الكسائي. كان يميل إلى الاعتزال. ذو دين وورع. مع عجب وعظم نفس، له كتب كثيرة منها: معاني القرآن، والجمع والتثنية في القرآن. مات بطريق مكة سنة 207هـ، وله من العمر 67 سنة.
له ترجمة في: "بغية الوعاة": "2/333"، و"تذكرة الحفاظ": "1/372"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء".
6 هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، النحوي، كان عالما بالشعر والغريب والأخبار والنسب، كما قال المبرد. له أخبار مع الأصمعي وأبي نواس وغيرهما. كان يميل إلى رأي الخوارج. له مؤلفات كثيرة، منها: "المجاز في القرآن"، و"كتاب صفة الخيل". ولد سنة 110هـ على الأرجح، وتوفي بالبصرة سنة 209هـ وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/371"، و"نزهة الألباء في طبقات الأدباء" ص"137"، و"وفيات الأعيان": "4/323".(2/690)
قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ومعناه: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولم يقل: "والراسخون في العلم يقولون علمنا به"، وإذا كان كذلك لم يقتضِ1 العطف المشاركة في العلم، وجرى هذا مجرى قول القائل: ما يعلم ما في هذا البيت إلا زيد، وعمرو يقول: آمنا به، ومعناه: أنه مصدق له، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت، كذلك ههنا.
ووجه من قال: إنها عاطفة احتج:
بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وعلى قولكم، ليس فيه بيان المشكل.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام 3 بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس" 4؛ فدل على أن القليل
__________
1 في الأصل: "يقتضي".
2 "89" سورة النحل.
3 في الأصل: "حلال بين، وحرام بين" وما أثبتناه هو الموافق للفظ الحديث، كما في مصادر تخريجه التي سنذكرها.
4 هذا الحديث رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا. أخرجه عنه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه "1/21".
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات "3/1219".
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات "3/502".
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات "2/218".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات في الكسب "7/213".
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات "2/1318".
وأخرجه عند الدارمي في كتاب البيوع، باب في الحلال بين الحرام بين "2/161".(2/691)
من الناس يعلمها، وهم العلماء.
ولأنه لو لم يكن ذلك مع العلم؛ لم يكن للراسخين على العامة فضيلة؛ لأن الجميع يقولون: آمنا به.
ولأنه لو لم يكن معلومًا؛ أفضى ذلك إلى أن يتعبد بالشيء المجهول, لا يعلم ما هو.
ومن نصر الأول أجاب عن قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1؛ فلا يقتضي جميع الأشياء، كما قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 2 ولم تؤت مثل ذكر الذكر ومثل لحيته. وقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} 3، ولم تدمر السموات والأرض.
وأما قوله: "لا يعلمها4 كثير من الناس"؛ فهو محمول على الأحكام الشرعية؛ لأن الحلال والحرام يرجع إلى ذلك.
__________
1 "89" سورة النحل.
2 "23" سورة النمل.
3 "25" سورة الأحقاف.
4 في الأصل: "فلا يعلمها" بزيادة الفاء، ومأ أثبتناه هو الصواب، الموافق لنص الحديث، الذي ذكره المؤلف.(2/692)
وأما قوله: لو لم يعلموه؛ لم يكن للراسخين فضيلة؛ لأن لهم مزية بمعرفة غيره من الأحكام.
وأما قوله: إنه يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول؛ فغير ممتنع مثل هذا، كما تعبدنا بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وإن لم نعرف ملائكته ورسله وما في كتبه؛ كذلك ههنا.(2/693)
فصل جواز ورود القرآن بآيات متشابهة
مدخل
...
فصل 1: يجوز أن يرد القرآن بآيات متشابهة
يدل ظاهرها على التشبيه، وقد ذكر أحمد رحمه الله آيات من المتشابه، وتكلم عليها [97/أ] وبين وجوهها في رواية عبد الله عن أبيه.
فإن قيل: يجب أن لا يجوز هذا؛ لأن في جوازه ما يدل على أنه يشبه الأشياء.
قيل: لا يدل على ذلك؛ لأنه قد نصب لنا أدلة تدلنا على أنه منزه عن التشبيه، وأنه أراد بكلامه التأويل.
فإن قيل: فلو كان الغرض ما ذكرتم، لاقتصر على الدليل المحكم دون المتشابه.
قيل: لا يجب ذلك، كما لم يجب أن يقتصر على رفع الشبه، التي ضل بها الضالون، كإيلام الأطفال وغيره.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"164"، و"رسالة الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "83/ب-84/أ"، و"روضة الناظر" ص"35"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، باب المتشابه ص"86-102".(2/693)
فإن قيل: لا يجب هذا؛ لأن الوصول إلى الحق ممكن مع هذه الشبه؛ وإنما يؤتى المكلف من قبل نفسه، ولا يمتنع أن يكون في إيلام الأطفال مصالح لا نعلمها.
ولأن وصولنا إلى الحق مع اعتراض الشبه وإمعان الفكر والنظر تخريجًا1 للأفهام، وزيادة في الثواب.
قيل: مثله في الآيات المتشابهة.
فإن قيل: فما الفائدة في إنزال بعض القرآن متشابها؟
قيل: يجوز أن يكون في ذلك فائدة يعلمها الله ولا نعلمها؛ على أنا نذكر في ذلك فوائد، منها:
أنه لو كان كل القرآن محكمًا دالًا ظاهره على التوحيد؛ لاحتج أكثر الناس به في التوحيد، وأعرضوا [عن] الاستدلال بأدلة العقول، لما في طباع أكثره من استثقال الفكر والفحص؛ فكانوا يتوصلون إلى الشيء من غير طريقه؛ لأن صحة القرآن إنما تعرف بعد المعرفة بالتوحيد، وإذا كان بعض القرآن ظاهره يفيد التوحيد، وينفي2 التشبيه، وبعضه يوهم التشبيه؛ لم يكن المكلف بأن يصير إلى أحدهما أولى من أن يصير إلى الآخر فاضطر عند ذلك إلى إعمال عقله، ولو كان كله محكمًا لم يكن إلى ذلك مضطرًا.
ومنها: أن في ذلك زيادة للأذهان، وتخريجًا للعقول مع زيادة الدرجات.
ومنها: أن العرب كانت تمنع من استماع القرآن، من أن يستميل
__________
1 في الأصل بدون إعجام.
2 في الأصل: "بقي".(2/694)
السامع إلى الإسلام؛ فكان إنزاله محكمًا ومتشابهًا يوهم مستمعهم أنه متناقض، ويطعمه في الظفر بمثله من المتناقض عنده، فيدعوه إلى إعمال الإصغاء إليه؛ فإذا تأمله، وطال استماعه، علم أنه لا تناقض فيه، واستماله ودعاه إلى الإسلام بما فيه من الفصاحة وغيرها.(2/695)
مسألة في القرآن مجاز
مدخل
...
مسألة: [في القرآن مجاز] : 1
نص عليه أحمد رحمه الله فيما خرجه في متشابه القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2 هذا في مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرًا3.
وهو قول الجماعة.
خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا، وطائفة من أهل الظاهر.
__________
1 راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص"164"، و"روضة الناظر" ص"34"، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة "82/ب-83/أ"، و"شرح الكوكب المنير" ص"60"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة باب القول في المجاز ص"103-134".
2 "15" سورة الشعراء.
3 كلام الإمام أحمد هنا موجود بنصه مع اختلاف طفيف، في رسالته "الرد على الزنادقة والجهمية" ص"18-19".(2/695)
دليلنا:
أن الله تعالى تكلم بالقرآن على لغة العرب، ووجدناهم تكلموا [97/ب] بالمجاز والحقيقة؛ فوجب أن يجوز ذلك في كلام الله تعالى.(2/695)
ولأن المجاز تارة يكون بزيادة حرف، لو حذف استقل الكلام بحذفه.
وتارة يكون بنقصان حرف، ولا بد من إضمار فيه، وقد وجدا جميعًا في القرآن.
أما الزيادة فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، ومعناه ليس مثله شيء. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 2، وتقديره: تجري تحتها. وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 3 وتقديره: بما كسبتم. وهذا نفس المجاز.
والنقصان نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} 4 معناه: حب العجل؛ فحذف الحب، وأقام ذكر العجل مقامه5. وكذلك قوله: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} 6 معناه: أهلها7.
وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ} 8 معناه: صاحب قول الحق.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 9 وتقديره: أولياء
__________
1 "11" سورة الشورى.
2 "25" سورة البقرة.
3 "30" سورة الشورى.
4 "93" سورة البقرة.
5 انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210".
6 "82" سورة يوسف.
7 انظر: المرجعين السابقين.
8 "34" سورة مريم.
9 "57" سورة الأحزاب.(2/696)
الله، وأولياء رسوله.
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 وتقديره: أفعال الحج في أشهر معلومات؛ لأن الأشهر لا تكون حجًا2.
ورأيت في كتاب أصول الفقه في كتب أبي الفضل التميمي قوله3: والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا، واستدل بأن المجاز لا حقيقة له، ثم قال: فأما قوله: "واسأل القرية ... والعير" فيجوز أن تكلم الجمادات الأنبياء، ثم قال: وسمعت قول الخرزي رحمه الله، وقد قيل: قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، أو حب العجل؟ فقال: قيل: العجل في نفسه، مثل القرية والعير سواء.
وذكر أبو بكر في تفسيره: اختلاف الناس في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} ، فقال: حدثنا معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أشربوا حب العجل بكفرهم4.
وعن أحمد حدثنا هاشم حدثنا أبو جعفر5 عن الربيع6: {وَأُشْرِبُوا
__________
1 "197" سورة البقرة.
2 وقدره ابن قتيبة في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص"210": "أي: وقت الحج".
3 في الأصل: "فقال".
4 أخرج هذا الطبري بإسناده عن قتادة، عن تفسيره لهذه الآية "1/442" طبعة الحلبي.
5 هو: عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي. روى عن الربيع بن أنس وقتادة والشعبي وجماعة، وعنه ابنه عبد الله وأبو نعيم وغيرهما، وثقه ابن معين وابن أبي حاتم وغيرهما، وقال فيه الإمام أحمد والنسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد": "11/143"، و"المغني في الضعفاء": "2/500"، و"ميزان الاعتدال": "3/319".
6 هو: الربيع بن أنس البكري الخراساني البصري، روى عن أنس والحسن وأبي العالية. وعنه أبو جعفر الرازي وسليمان التميمي وغيرهما. قال فيه ابن أبي حاتم: "صدوق".
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" للبخاري "ج1 ق2 ص271"، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم "ج1 ق2 ص454".(2/697)
فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ} قال: أشربوا العجل في قلوبهم1.
وقال أسباط2 عن السدي3: [لما] 4 رجع موسى5 أخذ العجل الذي وجد قومه قد عبدوه، وهم عاكفون عليه، فذبحه، ثم حرقه، ثم ذراه في اليم؛ فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه، ثم قال لهم موسى:
__________
1 أخرج هذا الطبري في "تفسيره": "1/424" طبعة الحلبي بإسناده إلى الربيع.
2 هو: أسباط بن نصر الهمداني الكوفي المفسر، روى عن السماك والسدي وإسماعيل السندي، وعنه أبو غسان النهدي وعمرو بن حماد وغيرهما، قال النسائي فيه: ليس بالقوي، وضعفه أبو نعيم، ووثقه ابن معين، وتوقف فيه أحمد. مات سنة 170هـ.
وله ترجمة في: شذرات الذهب "1/279"، والمغني في الضعفاء "1/66"، وميزان الاعتدال "1/175".
3 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، الهاشمي بالولاء، السدي الكبير، أبو محمد، الكوفي الأعور، روى عن ابن عباس وأنس وغيرهما. وعنه الثوري وزائدة وغيرهما. وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: "لايحتج به" وقال ابن عدي: "صدوق". رمي بالتشيع. مات سنة 127هـ.
له ترجمة في: خلاصة تذهيب الكمال ص"30"، وشذرات الذهب "1/174"، وطبقات المفسرين للداودي "1/109"، وميزان الاعتدال "1/236"، والمغني في الضعفاء "1/83"، والنجوم الزاهرة "1/304".
4 الزيادة من تفسير الطبري "2/74، 358"؛ فإنه ساق هذا الأثر بسنده إلى السدي.
5 في تفسير الطبري زيادة: "إلى قومه".(2/698)
اشربوا منه؛ فشربوا؛ فمن كان يحبه خرج على شاربه؛ فلذلك قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} 1.
قال أبو بكر2: وأولى التأويلين [تأول] 3 من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأن الماء لا يقال: أشرب فلان في قلبه؛ وإنما يقال ذلك في حب الشيء، كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} 4 وأنشد قول طرفة بن العبد5:
ألا إنني6 سُقِّيتُ أسود كالحًا7
__________
1 "93" سورة البقرة.
2 هذا قول الطبري، وأبو بكر إنما نقل ذلك منه؛ لأن الطبري متوفى سنة 310هـ، وأبو بكر متوفى سنة 363هـ.
3 الزيادة من تفسير الطبري.
4 "82" سورة يوسف.
5 هو: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك، ويقال: إن اسمه عمرو، وسمي طرفة بسبب بيت قاله، وهو شاعر جاهلي، له معلقة مشهورة يقول في مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
مات مقتولًا، وعمره عشرون سنة، ودفن بالبحرين.
انظر ترجمته في كتاب الشعر والشعراء "1/185-196"، وطبقات الفحول الشعراء ص"115-116".
6 في الأصل: "إني".
7 هذا البيت موجود في ديوانه طرفة ص"20"، وفي تفسير الطبري "2/359" كما هو موجود في نوادر اللغة للأنصاري ص"83"، وفي لسان العرب في مادة: "سود" والبيت هو:
ألا إنني سقيت أسود حالكًا ... ألا بجلي من الشراب ألا بجل
ويروى: "سالخًا" بدل "حالكا" كما يروى "من الحياة" بدل "من الشراب" وقد روى المؤلف: "كالحًا" بدل "حالكًا".(2/699)
يعني: سقيت سمًا1 أسود، فاكتفي بذكر "أسود"، عن2 ذكر "السم" لمعرفة السامع؛ فقد صرح أبو بكر بأن هناك مضمرًا محذوفًا3.
ويبين صحة هذا أن الموضع المذكور فيه "القرية"، والمراد أهلها، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} 4 [98/أ] ، ومعلوم أن المحاسبة والعذاب لم يقعا5 على الجدار. وقال {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} إلى قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 6.
فإن قيل: هناك حذف في الكلام.
قيل: إلا أن هذه الألفاظ لم يوضع لها في صميم اللغة؛ فإن لم تسمها مجازًا؛ فذلك منازعة في عبارة، مع تسليم المعنى الموجود في المجاز.
وأيضًا: فإن أهل اللغة قد صنفوا في ذلك كتبًا؛ فمن منع ذلك؛ فهو كمن دفع أن يكون في اللسان مجاز.
__________
1 في الأصل: "سم"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360"، وفي كتاب النوادر لأبي زيد الأنصاري ص"83": أن المراد بالأسود الماء.
2 في الأصل: "من"، والتصويب من تفسير الطبري "2/360".
3 في الأصل: "مضمر محذوف"، وهو خطأ عربية.
4 "8" سورة الطلاق.
5 في الأصل: "لم يقع".
6 "112" سورة النحل.(2/700)
حجة المخالف
...
واحتج المخالف:
بأن المجاز كذب؛ لأنه يتناول الشيء على خلاف الوضع.(2/700)
والجواب: أن هذا خرق الإجماع؛ لأنهم استحسنوا التكلم بالمجاز مع استقباحهم الكذب، وعلى أن الكذب يتناول الشيء على غير سبيل المطابقة، والمجاز فيه تطابق الخبر من طريق العرف، وإن كان لا يطابق اللغة.
واحتج: بأنه لو تكلم بالمجاز؛ لكان به حاجة إليه.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يتكلم بالحقيقة؛ لأنه يقتضي الحاجة أيضًا؛ فإن قيل: إنما يتكلم بالحقيقة لحاجة عبيده، لا لحاجة نفسه، قيل: وكذلك المجاز.
واحتج: بأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للضرورة؛ فلا يجوز وصف الله تعالى بالحاجة والضرورة إليه.
والجواب: أنه يستعمل في غير ضرورة؛ بل ذلك يستحسن في لغتهم، كما تستحسن الحقيقة، كما أن الإطالة قد تستحسن في موضع من كتاب الله تعالى، ولم يدل ذلك على أنه إنما يحتاج إليها من لا يقدر على الإيجاز، كذلك ههنا.(2/701)
فصل: يصح الاحتجاج بالمجاز 1
والدلالة عليه: أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع، كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع. ألا ترى أن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 2 يفيد المعنى، وإن كان مجازًا؛ لأن الغائط هو المكان
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"170".
2 "43" سورة النساء.(2/701)
المطمئن في الأرض، استعمل في الخارج.
وكذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 ومعلوم أنه أراد أعين الوجوه ناظرة؛ لأن الوجوه لا تنظر؛ وإنما العين.
وقد احتج بهذه الآية في وجوب النظر في يوم النظر يوم القيامة، في رواية المروذي، والفضل بن زياد، وأبي الحارث.
وأيضًا: فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل لصاحبه: "تعال"، أبلغ من قوله: يمنة ويسرة، وكذلك قوله: لزيد علي درهم، مجاز، وهو أسبق إلى النفس، من قوله: يلزمني لزيد درهم. وإذا كان يقع المجاز أكثر مما يقع بالحقيقة؛ صح الاحتجاج به.
__________
1 "23" سورة القيامة.(2/702)
مجاز من وجه آخر
...
فصل: 1
[98/ب] قد قيل في المجاز2: لا يقاس عليه؛ لأنه غير موضوع لما تناوله3 في أصل اللغة؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: وأسأل الثوب والقلنسوة، ويريد صاحب الثوب وصاحب القلنسوة، قياسًا على قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 4 أو يقول: فبما كسبت أرجلكم، كما قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5، ولا يقول: تحرير صدر، كما قال:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 6.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"173".
2 نقل في المسودة ص"174"، أن أبا بكر الطرطوشي قال: "أجمع العلماء على أن المجاز لا يقاس عليه في موضع القياس".
3 في الأصل: "ما تناوله".
4 "82" سورة يوسف.
5 "30" سورة الشورى.
6 "92" سورة النساء.(2/702)
تناول اللفظ الواحد للحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر
...
فصل 1: يجوز أن يكون اللفظ الواحد متناولًا لموضع الحقيقة والمجاز؛ فيكون حقيقة من وجه، مجازًا من وجه آخر:
نحو قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2 حقيقة في الوطء؛ بدليل أنه يستعمل في موضع لا يجوز فيه العقد، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ناكح البهيمة 3، والناكح يده" 4.
وقولهم: "انحكنا الفرا فسنرى"5، ثم استعمل في الموضعين جميعًا
__________
1 راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص"168".
2 "22" سورة النساء.
3 في الأصل: "اليتيمة".
4 النهي عن نكاح البهيمة ثابت بالسنة؛ ولكن المؤلف جمع بينه وبين النهي عن نكاح اليد، ولم أجدهما مجتمعين إلا في حديث ذكره الذهبي في كتابه: "الكبائر" ص"59"، ولفظه: "وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يلعنهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به -يعني اللواط- وناكح البهيمة، وناكح الأم وابنتها، وناكح يده، إلا أن يتوبوا".
وفي مسألة: "الاستمناء" آثار عن السلف؛ ساقها عبد الرزاق في كتابه "المصنف" في كتاب الطلاق باب الاستمناء "7/390"، كما ساق بعضها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب الاستمناء "7/199".
5 هذا مثل يضرب للتحذير من سوء العاقبة، وهو مثل قاله رجل لامرأته لما أكرهته على أن يزوج ابنتهما من رجل لا يريده، وكانت النتيجة كما توقع الأب، إساءة عشرة، أعقبها الطلاق.
انظر: "مجمع الأمثال" للميداني "2/335".(2/703)
في العقد؛ فيحرم عليه أن يتزوج بمن تزوجها أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء.
وكذلك قوله: "أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ" 1، حقيقة في اللمس باليد؛ إلا أنه يطلق على الجماع مجازًا؛ فيحمل عليهما جميعًا، ويوجب الوضوء منهما جميعًا.
والدلالة عليه:
أنه لا تدافع بين الإرادتين2 اللتين تتناول اللفظ بوضع الحقيقة والمجاز؛ فجاز اجتماعهما؛ ليكون اللفظ متناولًا لهما جميعًا.
يبين صحة هذا: أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3 متناول للرقبة الحقيقية ولغيرها من الأعضاء على طريق المجاز. وكذلك قوله: اشتريت كذا وكذا رأسًا من الغنم؛ فيتناول الرأس الذي هو العضو المخصوص وسائر الأعضاء.
ويبين صحة هذا: اشتهار قولهم: "عدل العمرين"، يريدون أبا بكر وعمر، وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وكذلك قولهم: ما لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء.
__________
1 "43" سورة النساء.
قراءة: {لَمَسْتُمْ} بحذف الألف التي اختارها المؤلف، هي قرءة حمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون: {لامَسْتُمْ} بإثبات الألف، كما هو في المصحف العثماني.
راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري "2/250"، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" للقيسي "1/391"، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص"191".
2 في الأصل: "أن الإرادتين".
3 "92" سورة النساء.(2/704)
وقد نقل مهنا قال: سألت أبا عبد الله رحمه الله من العمران؟ قال: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز1.
__________
1 هو: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، المدني، ثم الدمشقي، الخليفة العادل. روى عن أنس وسعيد بن المسيب، وجماعة، وعنه سلمة بن عبد الرحمن والزهري وغيرهما، كان زاهدًا ورعًا متواضعًا مع الثقة والأمانة، كانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا. مات سنة 101هـ.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ": "1/118"، و "تهذيب التهذيب": "7/475"، و "خلاصة تذهيب الكمال" ص"241"، و "طبقات الحفاظ" ص"46"، و "غاية النهاية في طبقات القراء": "1/593"، و "النجوم الزاهرة": "1/246".(2/705)
فصل: في وجوه المجاز: 1
منها: أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له، نحو اسم "الحمار"، أطلقوه على البليد، واسم "الأسد" أطلقوه على الرجل الشجاع.
ومنها: المستعمل في موضوعه وغير موضوعه، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2 يتناول الرقبة وجيمع الذات. وقوله: "اشتريت كذا رأسًا من الغنم" يتناول الرأس وسائر الأعضاء.
وكذلك إطلاق اسم الشيء على ضده؛ كإطلاقهم "السليم" على اللديغ، و"المفازة" على المهلكة.
__________
1 راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص"169"، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة "1/8-16"؛ فإنه ذكر كثيرًا من وجوه المجاز.
2 "92" سورة النساء.(2/705)
ومنها: الحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 حذف الأهل2: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} 3 حذف: حب العجل4. ومنها: الصلة [ك] قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 5 يعني: بما كسبتم.
ومنها: [99/أ] أن يطلق اسم المصدر على المفعول، كقولك: "هذا الدرهم ضرب فلان، والعالم خلق الله"، أي: مخلوقه ومضروبه.
ومنها: إطلاق اسم الفاعل على المفعول، كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 6، أي مرضية. واسم المصدر على الفاعل، كقولك: "رجل عدل"، أي عادل.
ومنها: أن يطلق اسم الفاعل على المصدر، كقولهم: "لحقتني اللائمة"، يعني: اللوم.
ومنها: أن يطلق اسم المدلول على الدليل، يقال: "سمعت علم فلان"، أي: عبارته عن علمه الدال عليه.
ومنها: أن يطلق اسم المسبب على السبب، كإطلاقهم اسم الرحمة على المطر.
فهذه جملة وجوه المجاز.
__________
1 "82" سورة يوسف.
2 انظر: "مجاز القرآن": "1/8-47"، و "تأويل مشكل القرآن" ص"210".
3 "93" سورة البقرة.
4 انظر: "مجاز القرآن": "1/47"، و"تأويل مشكل القرآن" ص"210".
5 "30" سورة الشورى.
6 "21" سورة الحاقة.(2/706)
مسألة
ليس في القرآن شيء بغير العربية (1) .
ذكر ذلك أبو بكر في أول كتاب التفسير. وهو قول عامة الفقهاء والمتكلمين.
وروي عن ابن عباس وعكرمة (2) : أن في القرآن شيئا بغير العربية (3) نحو قوله تعالى (طه) (4) و (نَاشِئَةَ الليل) (5) وغير ذلك، فقالوا: هي بالحبشية والسريانية، وغير ذلك من اللغات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (164) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84) ، و"روضة الناظر" ص (35) .
(2) هو عكرمة أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عباس. بربري الأصل. أحد المفسرين المشهورين. وأحد الرواة المكثرين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
رحل في طلب العلم إلى اليمن ومصر والمغرب وخراسان وأصبهان. مات سنة (105 هـ) أو سنة (106 هـ) أو سنة (107 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/95) ، و"تهذيب التهذيب" (7/163) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (229) ، و"شذرات الذهب" (1/130) ، و"طبقات الفسرين" الداودي (1/380) ، و"طبقات الحفاظ" ص (37) ، و"النجوم الزاهرة" (1/263) .
(3) أخرج ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - ابنُ جرير الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب. (1/8) طبعة الحلبي.
(4) (1) سورة طه.
(5) (6) سورة المزمل.(3/707)
دليلنا:
قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عَرَبيا لَعلكُم تَعْقِلُونَ) (1) ، وقال في آية أخرى: (قُرْآنا عَربَياً غَيْرَ ذي عِوَج) (2) ، وآيات كثيرة في هذا المعنى، فثبت أن جميع القرآن عربي لا شيء سواه.
ولأن الله تعالى تحدى العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن وبمثل سورة منه، فلولا أن القرآن كله عربي (3) لما صح أن، يتحداهم بأن يأتوا بما ليس في لسانهم ولا يحسنونه، فثبت أنه كله عربي لا شيء سواه.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى أهل اللغات كلها، فيجب أن يكون في كتابه من سائر اللغات.
والجواب: أن هذا مطرح بالإجماع، فإنه ليس في القرآن من الزنجية، ولا من التركية، ولا من الخوارزمية، وهو كل مبعوث إلى هؤلاء.
وعلى أنه لو اعتبر ما ذكروه لكان يجب أن يكون في القرآن من كل لغة قدر يقع به التبليغ، وإلا فإذا لم يكن فيه ما يقع به التبليغ لم يكن له معنى.
ثم نقول (4) : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد بُعِثَ إلى الكافة إلا أن المقصود العرب، الذين هم أهل الفصاحة واللسان، وغيرهم تبع لهم، فإذا بلغ العرب دخل الباقون على وجه التبع لهم، كا أن موسى لما أعجز السحرة كان الناس تبعاً لهم، وكذلك عيسى مع الطب.
__________
(1) (2) سورة يوسف.
(2) (28) سورة الزمر.
(3) في الأصل: (عربياً) .
(4) في الأصل بدون إعجام.(3/708)
واحتج: بأنا نجد في القرآن شيئا بغير العربية، نحو قوله: (كَمشْكَاة) (1) قيل: كلمة هندية. و (اسْتَبْرَق) (2) كلمة فارسية، وقولهَ: (القِسْطَاس) (3) قيل: كلمة رومية. وقوله: (وَفَاكِهَة وَأبا) (4) الأب: لا يعرف في العربية، [99/ب] فثبت: أنها بغير العربية.
والجواب: أن هذه الأشياء عربية، يجهلها بعض العرب، ويعرفها البعض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف كلمات من القرآن بلسان قومي حتى عرفتها من غيرهم. من ذلك قوله (5) : (فَاطِرِ السموات) (6) سمعت امرأة تقول: أنا فطرته، يعني ابتدأته، فعلمت أنه أراد مبتدأ السموات ومنشأها (7) .
__________
(1) (35) سورة النور.
(2) (31) سورة الكهف.
(3) (35) سورة الاسراء.
(4) (31) سورة عبس.
(5) في الأصل: (قولهم) .
(6) (14) سورة الأنعام.
(7) لم أجد أن ابن عباس - رضي الله عنه - سمع ذلك من امرأة، وإنما الذي وجدته: أنه أتاه أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها قال ابتدأتها.
وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان"، حكى ذلك السيوطي في كتابه "الدر المنثور" (5/244) .
والأثر موجود في: "تفسير" ابن كثير (3/546) ، و"الكشاف" للزمخشري (3/595) ، و"فتح القدير" للشوكاني (4/339) ، و"اللسان" لابن منظور (6/362) مادة: (فطر) .(3/709)
ومثل هذا في العجمية، قد يكون ألفاظ يعرفها بعض العجم، ولا يعرفها البعض، فلا يخرجها ذلك عن أن تكون من جملة العجمية.
والذي يبين صحة هذا، وأن هذه عربية: أن الله تعالى أضاف ذلك اليهم، فاقتضى الظاهر أن الكل لغة لهم.
فصل
تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد غير جائز (1) .
لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلىَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) (2) .
وقال تعالى: (لتُبين للناس مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) فأضاف البيان إليه. وروى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (4) ، وروي أيضا بإسناده
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (174) .
(2) (169) سورة البقرة.
(3) (44) سورة النحل.
(4) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/199) ، وقال فيه: "حديث حسن صحيح"، وفيه: (بغير علم) ، بدل (برأيه) ، وقد أخرجه جزء من حديث عن ابن عباس أيضا بسند آخر، ولفظه كلفظ المؤلف، وقال فيه: "حديث حسن".
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عنه: (1/233، 269، 323، 327) .
وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن: (1/34-35) .
وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة"، كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/257-258) . =(3/710)
عن جندب (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال برأيه فأصاب فقد أخطأ) (2) .
__________
= ورمز له السيوطي في "جامعه الصغير" بالصحة، وقد عقب عليه المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/190) بقوله: (.. ثم إن فيه من جميع جهاته "عبد الأعلى بن عامر الكوفي". قال أحمد وغيره: ضعيف، وردوا تصحيح الترمذي له) .
وراجع في هذا الحديث أيضا: "تيسير الوصول" (1/80) .
(1) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، أبو عبد الله. له صحبة. كان بالكوفة ثم انتقل منها إلى البصرة. له رواية عن أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان.
وعنه روى جماعة من أهل البصرة، وآخرون من أهل الكوفة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/256) ، و"الإصابة" القسم الأول، ص (509) طبعة دار نهضة مصر.
(2) هذا الحديث رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/200) بمثل لفظ المؤلف.
كما أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم (2/287) ، بمثل لفظ المؤلف، غير أنه أبدل كلمة (القرآن) بكلمة (كتاب الله) .
وأخرجه عنه الطبري في "تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) طبعة الحلبي.
وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب العلم، باب من قال في القرآن بغير علم (1/259) .
وقد رمز له السيوطي في كتابه "الجامع الصغير" بالحسن. وقال المناوي في شرحه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (6/191) تعقيباً على ذلك: (ولعله لاعتضاده، وإلا ففيه "سهل بن عبد الله بن أبي حزم" تكلم فيه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الترمذي: تكلم فيه بعضهم) . =(3/711)
قال أبو بكر (1) : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنه "أخطأ" في فعله بِقيله فيه برأيه، وإن وافق قيلُه عينَ الصواب عند الله؛ لأن قيلَه فيه برأيه ليس فعِل عالم (2) ، فإن الذي قال، نُهي عنه وحظر عليه (3) .
وبإسناده عن عائشة قالت ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن إلا آيا بعدد، علمهن إياه جبريل عليه السلام (4) .
وروي بإسناده عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (5) .
وبإسناده عن سعيد بن المسيب (6) أنه سُئل عن آية من القرآن فقال:
__________
= راجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (1/80) ، و"ذخائر المواريث" (1/183) .
(1) يعني: عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال.
(2) في تفسير الطبري: (1/35) : (ليس بقيل عالم) .
(3) هذا القول قاله أيضا الطبري، ذكره في مقدمة تفسيره، في باب ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي (1/35) مطبعة الحلبي.
(4) هذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها، أخرجه عنها أبو يعلى، حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في أول كتاب التفسير (6/303) ولفظه. (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آيا بعدد علمه إياهُن جبريلُ) ، كما حكى الهيثمي: أن البزار أخرجه بنحوه. ثم عقب عليه بقوله: (وفيه راوٍ لم يتحرر اسمه عند واحد منهما، وبقية رجاله رجال الصحيح) .
وأخرجه عنها الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن (1/37) مطبعة الحلبي.
(5) هذا الحديث سبق تخريجه قريباً عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً ص (710) .
(6) هو: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي المدني، أبو محمد. سيد التابعين.
محدث ومفسر وفقيه، مع زهد وورع وتقى. حج أربعين حجة. أكثر روايته =(3/712)