|
المؤلف: أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج ويقال له ابن الموقت الحنفي (المتوفى: 879هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية
الطبعة: الثانية، 1403هـ - 1983م
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الْآيَة وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً إلَّا عِنْدَ شِرْذِمَةٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ.
وَأَمَّا تَعْمِيمُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَخْلُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ مِنْ غَرَضٍ فَمَحَلُّ بَحْثٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ (الْأَقْرَبُ) إلَى تَحْقِيقِ الْعُقَلَاءِ (أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْخِلَافَ (لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْنَى الْغَرَضِ) فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ أَنَّهُ الْمَنْفَعَةُ الْعَائِدَةُ إلَى الْفَاعِلِ قَالَ لَا تُعَلَّلُ بِالْغَرَضِ وَمَرِيدُ هَذَا بِالْغَرَضِ لَا يُخَالِفُهُ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ التَّكْلِيفِيَّةِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ نَحَارِيرِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَبَحِّرِينَ وَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ أَنَّهُ الْفَائِدَةُ الْعَائِدَةُ إلَى الْعِبَادِ قَالَ إنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ تُعَلَّلُ بِهَا وَمُرِيدُ هَذَا أَنْ لَا يَظُنّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ لَا يُخَالِفُهُ فِي كَوْنِ الْوَاقِعِ كَذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ نَاقَضَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ حَيْثُ يَقُولُ الْمُنَاسَبَةُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (أَوْ) أَنَّهُ (غَلَطٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ فَاذْكُرْ مَا قَدَّمْنَاهُ) فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (مِنْ أَنَّهُ) عَزَّ وَجَلَّ (غَيْرُ مُخْتَارٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَدِيمًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ كَيْفَ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا (بِخِلَافِ الْفِعْلِ) فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِيهِ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ إنَّ الْفِعْلَ لَا يُعَلَّلُ بِالْغَرَضِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ بِالْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْفِعْلِ (غَيْرَ أَنَّ اتِّصَافَهُ) أَيْ الْبَارِئِ تَعَالَى (بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنْ الْكَمَالَاتِ مُوجِبٌ لِمُوَافَقَةِ حُكْمِهِ لِلْحِكْمَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَافِقِ لِلْحِكْمَةِ فَعَلَى هَذَا الْكُلُّ وَاقِعٌ لِلْحِكْمَةِ فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الِاشْتِبَاهِ فَإِذَنْ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَإِذْ لَزِمَ فِيهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (الْمُنَاسَبَةُ بَطَلَتْ الطَّرْدِيَّةُ) أَيْ كَوْنُهَا غَيْرَ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ وَلَا شَبِيهٍ بِهِ بَلْ هِيَ مَحْضُ كَوْنِهَا مُعَرِّفَةً لِلْحُكْمِ (لِأَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ) لِلْحُكْمِ (حُكْمٌ) خَبَرِيٌّ (نَظَرِيٌّ يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ) تَعَالَى (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَصْفِ (وَهِيَ) أَيْ الطَّرْدِيَّةُ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بِهَا قَوْلٌ (بِلَا دَلِيلٍ فَبَطَلَتْ وَمَا قِيلَ) وَقَائِلُهُ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أَنَّ بُطْلَانَ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ (لِلدُّورِ لِأَنَّهَا) أَيْ الطَّرْدِيَّةَ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ كَوْنِهَا طَرْدِيَّةً (أَمَارَةٌ مُجَرَّدَةٌ لَا فَائِدَةَ لَهَا إلَّا تَعْرِيفُ الْحُكْمِ) لِلْأَصْلِ (فَتَوَقَّفَ) الْحُكْمُ عَلَيْهَا (وَكَوْنُهَا مُسْتَنْبَطَةً مِنْهُ) أَيْ الْحُكْمِ (يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمِ (مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُعَرِّفَ لِحُكْمِ الْأَصْلِ النَّصُّ وَهِيَ) أَيْ الطَّرْدِيَّةُ مُعَرِّفَةً (أَفْرَادَ الْأَصْلِ فَيُعْرَفُ حُكْمُهَا) أَيْ أَفْرَادِ الْأَصْلِ (بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ) أَيْ عِرْفَانِ أَفْرَادِ الْأَصْلِ (مَثَلًا مُعَرِّفُ حُرْمَةِ الْخَمْرِ النَّصُّ وَالْإِسْكَارُ) الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ حُرْمَتِهِ (يُعْرَفُ) الْجُزْئِيُّ (الْمُشَاهَدُ أَنَّهُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَفْرَادِ الْأَصْلِ (فَيُعْرَفُ حُرْمَتُهُ) أَيْ الْأَصْلِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْمُشَاهَدِ (فَلَا دَوْرَ ثُمَّ لَيْسَ) تَعْرِيفُهَا لِأَفْرَادِ الْأَصْلِ أَمْرًا (كُلِّيًّا بَلْ) إنَّمَا هُوَ (فِيمَا) أَيْ أَصْلٍ (لَهُ لَازِمٌ ظَاهِرٌ خَاصٌّ كَرَائِحَةِ الْمُشْتَدِّ أَنْ لَمْ يُشْرِكْهَا) أَيْ الْخَمْرَ (فِيهَا) أَيْ الرَّائِحَةِ (غَيْرُهَا) أَيْ غَيْرُ الْخَمْرِ (وَإِلَّا فَتَعْرِيفُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِشُرْبِ الْمُشَاهَدِ) لِأَنَّ هَذَا اللَّازِمَ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالشُّرْبُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ فَتَتَوَقَّفُ حُرْمَتُهُ عَلَى شُرْبِهِ (وَهُوَ) أَيْ وَتَوَقُّفُهَا عَلَيْهِ (بَاطِلٌ) بِالْإِجْمَاعِ (وَكَوْنُهُ الْإِسْكَارَ طَرْدًا) إنَّمَا هُوَ (عَلَى) قَوْلِ (الْحَنَفِيَّةِ) لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ لِعَيْنِهَا (وَعَلَى) قَوْلِهِ (غَيْرُهُمْ هُوَ) أَيْ كَوْنُ الْإِسْكَارِ طَرْدًا (مِثَالٌ) لِذَلِكَ.
[الْكَلَامُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ وَشُرُوطِهَا وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا]
[الْمَرْصَدُ الْأَوَّلُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةُ]
(وَالْكَلَامُ فِي تَقْسِيمِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (وَشُرُوطِهَا وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا) أَيْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مُعْتَبَرٌ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عِلَّةٌ (فِي مَرَاصِدَ) ثَلَاثَةٍ (الْمَرْصَدُ الْأَوَّلُ) فِي تَقْسِيمِهَا (تَنْقَسِمُ) الْعِلَّةُ (بِحَسْبِ الْمَقَاصِدِ وَ) بِحَسْبِ (الْإِفْضَاءِ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْمَقَاصِدِ (وَ) بِحَسْبِ (اعْتِبَارِ الشَّارِعِ) لَهَا عِلَّةً (فَالْأَوَّلُ) أَيْ انْقِسَامُهَا بِحَسْبِ الْمَقَاصِدِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِانْقِسَامُ (بِالذَّاتِ لِلْمَقَاصِدِ وَيَسْتَتْبِعُهُ) أَيْ هَذَا الِانْقِسَامَ لَهَا بِحَسْبِ الْمَقَاصِدِ انْقِسَامُهَا (وَهِيَ) أَيْ الْمَقَاصِدُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْفِ (ضَرُورِيَّةً) وَهِيَ مَا انْتَهَتْ الْحَاجَةُ فِيهَا إلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ ثُمَّ (لَمْ تُهْدَرْ فِي مِلَّةٍ) مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ بَلْ رُوعِيَتْ فِيهَا لِكَوْنِهَا مِنْ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي نِظَامُ الْعَالَمِ مُرْتَبِطٌ بِهَا وَلَا يَبْقَى النَّوْعُ مُسْتَقِيمَ الْأَحْوَالِ بِدُونِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ (حِفْظُ الدِّينِ بِوُجُوبِ الْجِهَادِ وَعُقُوبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ) وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الْآيَة
(3/143)
(وَقَدْ يُوَجَّهُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ) أَيْ وُجُوبَ الْجِهَادِ (لِكَوْنِهِمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (حَرْبًا عَلَيْنَا لَا لِكُفْرِهِمْ وَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْعِلَّةِ كَوْنَهُمْ حَرْبًا عَلَيْنَا (لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ وَالرُّهْبَانُ) إذَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْكُفْرِ بِسَلْطَنَةٍ أَوْ قِتَالٍ أَوْ رَأْيٍ فِيهِ أَوْ حَثٍّ عَلَيْهِ بِمَالٍ أَوْ مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ الْحِرَابَةِ (وَقُبِلَتْ الْجِزْيَةُ) مِنْ بَاذِلِيهَا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا (وَلَزِمَتْ الْمُهَادَنَةُ) أَيْ الْمُصَالَحَةُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا لِانْتِفَاءِ حِرَابِهِمْ مَعَ وُجُودِ كُفْرِهِمْ (وَلَا يُنَافِيه) أَيْ وُجُوبَ الْجِهَادِ لِكَوْنِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا وُجُوبُهُ لِحِفْظِ الدِّينِ فَإِنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حِفْظِ الدِّينِ لَا يَتِمُّ مَعَ حِرَابَتِهِمْ فَإِنَّهَا مُفْضِيَةٌ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْ لِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَكَوْنُهُ وَاجِبًا لِحِفْظِ الدِّينِ هُوَ مَعْنَى وُجُوبِهِ لِحِرَابَتِهِمْ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُنَافِيه لَوْ كَانَ وُجُوبُهُ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ يَكُونُ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ أَخَصُّ ثُمَّ أَوْجَهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَمَنْ لَا يُحَارِبُ مِنْ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ وَغَيْرِهِمَا (وَ) حِفْظُ (النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ مَعَ الْكِتَابِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
(وَ) حِفْظُ (الْعَقْلِ بِكُلٍّ مِنْ حُرْمَةِ الْمُسْكِرِ) الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ (وَحِّدْهُ) أَيْ الْمُسْكِرِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ (وَ) حِفْظُ (النَّسَبِ بِكُلٍّ مِنْ حُرْمَةِ الزِّنَا) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ (وَحْدَهُ) الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ بِهَذِهِ أَيْضًا وَاَلَّذِي هُوَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الْأَبْضَاعِ تُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ الْمُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ التَّعَهُّدِ مِنْ الْآبَاءِ الْمُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ النَّسْلِ وَارْتِفَاعِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ الْوُجُودِ (وَ) حِفْظُ (الْمَالِ بِعُقُوبَةِ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتُسَمَّى هَذِهِ بِالْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ وَكُلٌّ مِنْهَا دُونَ مَا قَبْلَهُ وَحَصْرُ الْمَقَاصِدِ فِي هَذِهِ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَاقِعِ وَعَادَاتِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَزَادَ الطُّوفِيُّ وَالسُّبْكِيُّ حِفْظَ الْعِرْضِ بِحَدِّ الْقَذْفِ (وَيَلْحَقُ بِهِ) أَيْ بِالضَّرُورِيِّ (مُكَمِّلُهُ مِنْ حُرْمَةِ قَلِيلِ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ وَحَدِّهِ) أَيْ حَدُّ قَلِيلِهَا إذْ قَلِيلُهَا لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَحِفْظُ الْعَقْلِ حَاصِلٌ بِتَحْرِيمِ السُّكْرِ وَالْحَدِّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ حُرِّمَ لِلتَّتْمِيمِ وَالتَّكْمِيلِ (إذْ كَانَ) قَلِيلُهَا (يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ) أَيْ الْخَمْرِ بِمَا يُوَرِّثُ النَّفْسَ مِنْ الطَّرَبِ الْمَطْلُوبِ زِيَادَتُهُ بِزِيَادَةِ سَبَبِهِ وَذِكْرُهَا أَمَّا كَمَا هُوَ لُغَةٌ فِيهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُسْكِرِ (فَيُزِيلُ) كَثِيرُهَا (الْعَقْلَ فَتَحْرِيمُ كُلِّ دَاعِيَةٍ) إلَى مُحَرَّمٍ (مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ثَبَتَ الشَّرْعُ عَلَى وَفْقِهِ) أَيْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ (فِي الِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ) فَحَرُمَتْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فِيهِمَا كَمَا حَرُمَ نَفْسُ الْجِمَاعِ (وَعَلَى خِلَافِهِ) أَيْ وَثَبَتَ الشَّرْعُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ (فِي الصَّوْمِ) فَلَمْ تَحْرُمْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فِيهِ كَمَا حَرُمَ الْجِمَاعُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ (وَلَمْ يُثْبِتْ) الشَّرْعُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ (فِي الظِّهَارِ فَتَحْرِيمُ الْحَنَفِيَّةِ إيَّاهَا) أَيْ الدَّوَاعِي (فِيهِ) أَيْ فِي الظِّهَارِ (عَلَى وَفْقِهِ) أَيْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ.
(وَهَذَا) الْمَقْصُودُ الضَّرُورِيُّ وَالْمُلْحَقُ بِهِ الْمُكَمِّلُ لَهُ هُوَ (الْمُنَاسِبُ الْحَقِيقِيُّ وَدُونَهَا) أَيْ الضَّرُورِيَّةِ مَقَاصِدُ (حَاجِيَةٌ) وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَنْتَهِ الْحَاجَةُ إلَيْهَا إلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ (شُرِعَ) الْحُكْمُ (لَهَا) أَيْ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا (نَحْوُ الْبَيْعِ) لِمِلْكِ الْعَيْنِ بِعِوَضِ مَالٍ (وَالْإِجَارَةِ) لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضِ مَالٍ (وَالْقِرَاضِ) لِلشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ وَاحِدٍ وَعَمَلٍ فِيهِ مِنْ آخَرَ (وَالْمُسَاقَاةِ) لِدَفْعِ الشَّجَرِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ (فَإِنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَشْرُوعَاتِ (لَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَمْ يَلْزَمْ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ) الْخَمْسِ (إلَّا قَلِيلًا كَالِاسْتِئْجَارِ لِإِرْضَاعِ مَنْ لَا مُرْضِعَةَ لَهُ وَتَرْبِيَتِهِ وَشِرَاءِ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ لِلْعَجْزِ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِالتَّسَبُّبِ فِي وُجُودِهَا) أَيْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَاحْتِيجَ (إلَى دَفْعِ حَاجَتِهِ) أَيْ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا (بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْعُقُودِ فَهَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيِّ لِحِفْظِ النَّفْسِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ قَدْ يَحْصُلُ بِتَرْكِهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ عَدَّهَا الْآمِدِيُّ مِنْهُ (فَالتَّسْمِيَةُ) أَيْ إطْلَاقُ الْحَاجِيِّ عَلَى هَذِهِ الْمَشْرُوعَاتِ (بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ) فَإِنَّ غَالِبَ الشِّرَاءَاتِ وَالْإِجَازَاتِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا ضَرُورِيٌّ فَدَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْبَيْعَ ضَرُورِيٌّ لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهَا (وَمُكَمِّلُهَا) أَيْ وَدُونَ الضَّرُورِيَّةِ أَيْضًا مَقْصُودٌ حَاجِيٌّ لَكِنْ لَا فِي نَفْسِهِ
(3/144)
بَلْ مُكَمِّلُ الْحَاجِيِّ فِي نَفْسِهِ (كَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْكَفَّارَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْوَلِيِّ فِي) تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ (الصَّغِيرَةِ) فَإِنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ.
وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِدُونِهَا لَكِنَّهُمَا أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى دَوَامِ النِّكَاحِ وَإِتْمَامِ الْأُلْفَةِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا وَدَوَامُهُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ مَقْصُودِهِ فَوَجَبَ رِعَايَتُهُمَا (إلَّا لِدَلَالَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَدَّهُ عَلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ دُونَهَا) أَيْ رِعَايَتِهَا (كَتَزْوِيجِ أَبِيهَا) أَيْ الصَّغِيرَةِ أَوْ جَدِّهَا الصَّحِيحِ إيَّاهَا (مِنْ عَبْدٍ وَبِأَقَلَّ) مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ وَلَا بِالْمَجَانَةِ وَالْفِسْقِ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ قُرْبُ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ الدَّاعِيَةُ إلَى وُفُورِ الشُّفْعَةِ مَعَ كَمَالِ الرَّأْيِ ظَاهِرًا فَإِنَّ مَنْ قَامَ بِهِ هَذَا لَا يَتْرُكُ كُلًّا مِنْهُمَا ظَاهِرًا إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْبُو عَلَى كِلَيْهِمَا وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ لَهَا فِي ذَلِكَ بَاطِنًا وَهَذَا دَلِيلُهُ اُعْتُبِرَ دَلِيلُهُ وَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ وَمِنْ الْأُمِّ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْعَصَبَاتِ وَنُقْصَانِ الرَّأْيِ فِي الْأُمِّ (وَهَذَا) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَتُكْمِلُهُ (الْمُنَاسِبُ الْمَصْلَحِيُّ وَغَيْرُ الْحَاجِيِّ تَحْسِينِي) أَيْ مِنْ قَبِيلِ رِعَايَةِ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ (كَحُرْمَةِ الْقَاذُورَاتِ حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْتِزَامِ الْمُرُوءَةِ) وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْصُوفٌ بِتَشْرِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمِ (وَكَسَلَبِ الْعَبْدِ) وَإِنْ كَانَ ذَا دَيْنٍ يَغْلِبُ ظَنُّ صِدْقِهِ (أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِهِمَا) كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ عَنْ الْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُسْتَسْخَرًا لِلْمَالِكِ مَشْغُولًا بِخِدْمَتِهِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ الْمَنَاصِبُ الشَّرِيفَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ وَلَا تَكْمِيلٌ لِإِحْدَاهُمَا بَلْ إجْرَاءٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنْ الْعَادَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ ذُو فَضَائِلَ وَآخَرُ دُونَهُ فِيهَا اُسْتُحْسِنَ عُرْفًا أَنْ يُفَوِّضَ الْعَمَلَ إلَيْهِمَا بِحَسْبِ فَضِيلَتِهِمَا فَيُجْعَلُ الْأَفْضَلُ لِلْأَفْضَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا يَقُومُ بِهِ الْآخَرُ.
(الثَّانِي) انْقِسَامُهَا بِحَسْبِ الْإِفْضَاءِ وَأَقْسَامُهُ (خَمْسَةٌ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ) مِنْ شَرْعِ الشَّارِعِ الْحُكْمُ عِنْدَ الْوَصْفِ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ لِلْعَبْدِ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَنْهُ أَوْ لِكِلَيْهِمَا تَحْصِيلًا لِأَصْلِ الْمَقْصُودِ أَوْ تَكْمِيلًا لَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ جَلْبًا لِلثَّوَابِ أَوْ دَفْعًا لِلْعِقَابِ فِي الْأُخْرَى (أَمَّا) أَنْ يَكُونَ (يَقِينًا كَالْبَيْعِ) الصَّحِيحِ (لِلْحِلِّ) أَيْ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ حَلَالًا لِلْمَالِكِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُ يَقِينًا (أَوْ ظَنًّا كَالْقِصَاصِ لِلِانْزِجَارِ) عَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ صِيَانَةُ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ عَنْ الْهَلَاكِ وَهَذَا يَحْصُلُ ظَنًّا مِنْهُ (لَا لِأَكْثَرِيَّةِ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقْدِمِينَ عَلَيْهِ (وَالِاتِّفَاقُ) ثَابِتٌ (عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ (أَوْ شَكًّا أَوْ وَهْمًا) وَهَذَانِ فِيهِمَا خِلَافٌ (وَالْمُخْتَارُ فِيهِمَا الِاعْتِبَارُ) ثُمَّ مَا يُسَاوِي فِيهِ حُصُولُهُ وَنَفْيُهُ لَا مِثَالَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى التَّحْقِيقِ بَلْ عَلَى التَّقْرِيبِ (كَحَدِّ الْخَمْرِ) فَإِنَّهُ شُرِعَ (لِلزَّجْرِ) عَنْ شُرْبِهَا لِحِفْظِ الْعَقْلِ (وَقَدْ ثَبَتَ) حَدُّهَا (مَعَ الشَّكِّ فِيهِ) أَيْ فِي الِانْزِجَارِ عَنْ شُرْبِهَا بِهِ لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الطِّبَاعِ شُرْبَهَا يُقَاوِمُ خَوْفَ عِقَابِ الْحَدِّ وَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ وَالْمُقْدِمِ مُتَقَارِبَانِ وَلَا قَطْعَ عَادَةً لِغَلَبَةِ أَحَدِهِمَا وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلتَّسَامُحِ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَأَمَّا مَعَ إقَامَتِهَا فَلَا وَنَحْنُ إنَّمَا نَعْتَبِرُ كَوْنَهُ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ أَوَّلًا عَلَى تَقْدِيرِ رِعَايَةِ الْمَشْرُوعِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّشْرِيعِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا رِعَايَةَ الْمَشْرُوعِ لَكَانَ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الْخَمْرِ أَقَلَّ مَنْعًا لِلشَّارِبِينَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْقَاتِلِينَ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ إزْهَاقِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (وَرُخْصَةُ السَّفَرِ) شُرِعَتْ (لِلْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحُ) شُرِعَ (لِلنَّسْلِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا وَيَقُولُ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» وَقَدْ (جَازَا) أَيْ التَّرَخُّصُ الْمَذْكُورُ وَالنِّكَاحُ (مَعَ ظَنِّ الْعَدَمِ) لِكُلٍّ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالنَّسْلِ (فِي) سَفَرِ (مَلِكٍ مُرَفَّهٍ) يُسَارُ بِهِ عَلَى الْمِحَفَّةِ فِي الْيَوْمِ مِقْدَارًا لَا يُصِيبُهُ فِيهِ نَصَبٌ وَلَا ظَمَأٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ بَلْ يَتَنَعَّمُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْإِقَامَةِ.
(وَ) نِكَاحِ (آيِسَةٍ فَعُلِمَ
(3/145)
أَنَّ الْمُعْتَبَرَ) فِي كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً فِي إفْضَائِهِ لِلْحُكْمِ (الْحُصُولُ فِي جِنْسِ الْوَصْفِ لَا فِي كُلِّ جُزْئِيٍّ وَلَا) فِي (أَكْثَرِهَا) أَيْ الْجُزْئِيَّاتِ (أَوْ) يَكُونُ (يَقِينُ الْعَدَمِ كَإِلْحَاقِ وَلَدِ مَغْرِبِيَّةٍ بِمَشْرِقِيٍّ) تَزَوَّجَ بِهَا وَقَدْ (عُلِمَ عَدَمُ تَلَاقِيهِمَا جَعْلًا لِلْعَقْدِ مَظِنَّةَ حُصُولِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ وَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ) الْمَجْعُولِ مَظِنَّةً لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْوَلَدِ (عَلَى مَنْ اشْتَرَاهَا) أَيْ الْأَمَةَ (فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِ) إيَّاهَا الْآخَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَغِيبَا عَنْهُ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا (وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهِ) أَيْ اعْتِبَارِ هَذَا الطَّرِيقِ (لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْمَظِنَّةِ) أَيْ بِمَكَانِ ظَنِّ وُجُودِ الْحِكْمَةِ (مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ الْمِئِنَّةِ) أَيْ نَفْسِ الْحِكْمَةِ (وَنُسِبَ) فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْبَدِيعِ (إلَى الْحَنَفِيَّةِ اعْتِبَارُهُ) أَيْ هَذَا الطَّرِيقِ (وَلَا شَكَّ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (بِخِلَافِ الْأَوَّلِ) أَيْ وَلَدِ الْمَغْرِبِيَّةِ بِالْمَشْرِقِيِّ الْمَذْكُورِ (لِتَعَذُّرِ الْقَطْعِ بِعَدَمِ الْمُلَاقَاةِ) بَيْنَهُمَا بَلْ ثُبُوتُهَا جَائِزٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ كَرَامَةِ الطَّيْرِ أَوْ صَاحِبَ جِنِّيٍّ (وَمُجِيزُهُ) أَيْ هَذَا إنَّمَا هُوَ (أَبُو حَنِيفَةَ لَا هُمَا) أَيْ صَاحِبَاهُ وَإِنَّمَا أَجَازَهُ (نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْعِلَّةِ) الَّتِي هِيَ الْعَقْدُ (لَا إلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ) الْعِلَّةُ (مِنْ الْحِكْمَةِ) الَّتِي هِيَ حُصُولُ النَّسْلِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ (أَمَّا لَوْ لَمْ تَخْلُ مَصْلَحَةُ الْوَصْفِ) أَيْ لَمْ تَثْبُتْ الْمَصْلَحَةُ مِنْهُ بَلْ ثَابِتَةٌ فِيهِ (لَكِنْ اسْتَلْزَمَ شَرْعُ الْحُكْمِ لَهَا) أَيْ لِلْمَصْلَحَةِ (مُفْسِدَ تُسَاوِيهَا أَوْ تَرَجُّحِهَا فَقِيلَ لَا تَنْخَرِمُ الْمُنَاسَبَةُ الْمُوجِبَةُ لِلِاعْتِبَارِ) نَعَمْ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ.
وَهَذَا اخْتِبَارُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ (وَمُخْتَارُ الْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ الِانْخِرَامُ) فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى (لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ مَعَ مُعَارَضَةٍ مَفْسَدَةِ مِثْلِهَا وَمَنْ قَالَ بِعْهُ بِرِبْحِ مِثْلِ مَا تَخْسَرُ) أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ (عُدَّ) قَوْلُهُ هَذَا (خَارِجًا عَنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الِانْخِرَامِ (لَا تُرَجِّحُ مَصْلَحَةٌ) صِحَّةَ (الصَّلَاةِ فِي) الْأَرْضِ (الْمَغْصُوبَةِ) عَلَى حُرْمَةِ مَفْسَدَتِهَا فِيهَا بَلْ هِيَ إمَّا مُسَاوِيَةٌ لِلْمَفْسَدَةِ أَوْ دُونَهَا وَقَدْ جَازَتْ فِيهَا فَظَهَرَ أَنَّ رُجْحَانَ الْمَصْلَحَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ (وَإِلَّا) لَوْ رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهَا عَلَى مَفْسَدَتِهَا (أُجْمِعَ عَلَى الْحِلِّ) لَهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ مَعَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ (أُجِيبُ لَمْ يَنْشَأْ) أَيْ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ (مِنْ) شَيْءٍ (وَاحِدٍ كَالصَّلَاةِ) فَلَمْ تَنْشَأْ الْمَفْسَدَةُ مِنْهَا بَلْ مِنْ الْغَصْبِ وَلِذَا لَوْ شَغَلَهَا بِغَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً وَالْمَصْلَحَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْغَصْبِ بَلْ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَوْ نَشَآ مَعًا مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ قَطْعًا (وَإِذَا لَزِمَ) فِي عَدَمِ انْخِرَامِ الْمُنَاسَبَةِ (رُجْحَانُهَا) أَيْ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُرَجِّحِ (فِي تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا) وَالْوَجْهُ فِي تَرْجِيحِهَا أَيْ الْمَصْلَحَةِ (عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا) أَيْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ أَوْ مَا كَانَتْ النُّسْخَةُ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَهُوَ فَلَهُ أَيْ لِلتَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِهِمَا (طُرُقٌ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَسَائِلِ تَنْشَأُ) تِلْكَ الطُّرُقُ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْمَسَائِلِ (وَ) طَرِيقٌ (إجْمَالِيٌّ شَامِلٌ) لِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ (يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ) وَهَذَا الطَّرِيقُ الْإِجْمَالِيُّ هُوَ (لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ رُجْحَانُهَا) أَيْ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ (هُنَا) أَيْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ (لَزِمَ التَّعَبُّدُ الْبَاطِلُ) أَيْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَهَذَا (بِخِلَافِ مَا قَصُرَ) الْفَهْمُ (عَنْ دَرْكِهِ) مِنْ الْأَوْصَافِ الصَّالِحَةِ لِإِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِهَا إذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ فِي مَحَالِّهَا الْوَارِدَةِ فِيهِ فَإِنَّ ثُبُوتَهَا فِيهِ تَعَبُّدٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْفِ عِنْدَ رُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى إلْغَاءِ الْوَصْفِ عِنْدَ رُجْحَانِ الْمَفْسَدَةِ (قِيلَ وَوُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الِاعْتِبَارِ عِنْدَ رُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ دُونَ الْإِلْغَاءِ لِرُجْحَانِ الْمَفْسَدَةِ) أَيْ وَلَمْ يَقَعْ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ عِنْدَ رُجْحَانٍ لِمَفْسَدَةٍ (لِشِدَّةِ اهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَابْتِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا فَلَمْ تُهْمَلْ) الْمَصْلَحَةُ (مَرْجُوحَةً عَلَى الِاتِّفَاقِ) أَيْ فَلَمْ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ إذْ كَانَتْ مَرْجُوحَةً بَلْ كَانَتْ عَلَى الْخِلَافِ.
(وَأَمَّا الثَّالِثُ) أَيْ انْقِسَامُهَا بِحَسْبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةً (فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ اصْطِلَاحَ الْمَذْهَبَيْنِ) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (فَاخْتَلَفَ طُرُقُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ الْغَزَالِيِّ وَشَيْخِهِ) إمَامِ الْحَرَمَيْنِ (وَالرَّازِيِّ وَالْآمِدِيّ
(3/146)
اقْتَصَرْنَا عَلَى) الطُّرُقِ (الشَّهِيرَةِ الْمُثْبِتَةِ وَالْمُنَاسِبُ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ) أَيْ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً أَرْبَعَةٌ (مُؤَثِّرٌ وَمُلَائِمٌ وَغَرِيبٌ وَمُرْسَلٌ فَالْمُؤَثِّرُ مَا) أَيْ وَصْفٌ (اُعْتُبِرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ (كَالْحَدَثِ بِالْمَسِّ) أَيْ بِمَسِّ الذَّكَرِ فَإِنَّ عَيْنَ الْمَسِّ مُعْتَبَرَةٌ فِي عَيْنِ الْحَدَثِ بِمَا تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي مَسْأَلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا عَمّ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» (وَعَلَى) قَوْلِ (الْحَنَفِيَّةِ سُقُوطُ نَجَاسَةِ الْهِرَّةِ بِالطَّوْفِ) فَإِنَّ عَيْنَ الطَّوْفِ مُعْتَبَرَةٌ فِي عَيْنِ سُقُوطِ نَجَاسَةِ الْهِرَّةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ (فَتَعَدَّى) سُقُوطَ النَّجَاسَةِ (إلَى الْفَأْرَةِ) بِعَيْنِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الطَّوْفُ (وَالْأَوْضَحُ) فِي التَّمْثِيلِ (السُّكْرُ فِي الْحُرْمَةِ) فَإِنَّ عَيْنَ السُّكْرِ مُعْتَبَرٌ فِي عَيْنِ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَى نَصٍّ (أَوْ إجْمَاعٍ كَوِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ) فَإِنَّ عَيْنَ الصِّغَرِ مُعْتَبَرٌ فِي عَيْنِ الْوِلَايَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَقَدْ يُقَالُ) بَدَلُ مَا اُعْتُبِرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ مَا اُعْتُبِرَ (نَوْعُهُ) فِي نَوْعِ الْحُكْمِ كَمَا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (نَفْيًا لِتَوَهُّمِ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (مُضَافًا لِمَحَلٍّ) كَالسُّكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالْخَمْرِ وَالْحُرْمَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا فَيَكُونُ لِلْخُصُوصِيَّةِ مَدْخَلٌ فِي الْعِلِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا بِالْمُؤَثِّرِ لِظُهُورِ تَأْثِيرِهِ فِي الْحُكْمِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِثُبُوتِهِ ثُبُوتُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِذِكْرِ الْمُرْسَلِ فِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا وَقَيَّدَ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ أَمْرٌ شُرِعَ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ مُنْحَصِرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ (وَالْمُلَائِمُ مَا) أَيْ وَصْفٌ (ثَبَتَ) عَيْنُهُ (مَعَهُ) أَيْ مَعَ عَيْنِ الْحُكْمِ (فِي الْأَصْلِ) بِمُجَرَّدِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ (مَعَ ثُبُوتِهِ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي جِنْسِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قَلْبِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مَعَ ثُبُوتِ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَسُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ (أَوْ) الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مَعَ ثُبُوتِ (جِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ.
(فَالْأَوَّلُ) أَيْ الْوَصْفُ الثَّابِتُ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ مَعَ ثُبُوتِ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي حُكْمِ الْجِنْسِ (كَالصِّغَرِ فِي حَمْلِ إنْكَاحِهَا عَلَى مَالَهَا فِي وِلَايَةِ الْأَبِ) أَيْ كَكَوْنِ الصِّغَرِ وَصْفًا مُلَائِمًا لِتَرْتِيبِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ لِإِنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَتَرَتَّبُ ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَى مَا لَهَا عَلَيْهِ (فَإِنَّ عَيْنَ الصِّغَرِ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الصِّغَرِ (فِي وِلَايَةِ الْمَالِ) لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ إجْمَاعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ اعْتِبَارِهِ فِي غَيْرِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ حَيْثُ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ لِلصِّغَرِ أَوْ لِلْبَكَارَةِ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي كَوْنِ هَذَا مِثَالًا لِلْمُلَائِمِ نُظِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ أَوَّلًا عَيْنُ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِابْتِدَاءِ جَعْلِ عَيْنِ الْوَصْفِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ الْحُكْمِ فَسَقَطَ الْأَصْلُ مِنْهُ فَلَا يَتِمُّ كَوْنُهُ مِثَالًا لَهُ بَلْ هُوَ مِثَالٌ لِلْمُؤَثِّرِ قَالَ (وَصَوَابُ الْمِثَالِ لِلْحَنَفِيَّةِ الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِالصِّغَرِ) أَيْ ثُبُوتِ وِلَايَةِ إنْكَاحِ الْأَبِ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ قِيَاسًا عَلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ إنْكَاحِهِ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ بِجَامِعِ الصِّغَرِ (وَعَيْنُهُ) أَيْ الصِّغَرِ اُعْتُبِرَ (فِي جِنْسِهَا) أَيْ الْوِلَايَةِ (لِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الصِّغَرِ (إلَخْ) أَيْ فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ بِاعْتِبَارِهِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ لِثُبُوتِهَا لَهُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّ إثْبَاتَ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْوَصْفِ عِلَّةٌ (بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فِي الْجِنْسِ) إنَّمَا هُوَ (بِإِظْهَارِهِ) أَيْ اعْتِبَارٍ (فِي) مَحَلٍّ (آخَرَ لَا فِي عَيْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ اعْتِبَارَهُ فِي عَيْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ هُوَ (الْمُؤَثِّرُ) لَا الْمُلَائِمُ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَعَدُّدَ بَيْنَهُمَا وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ التَّقْسِيمُ فَإِنَّهُمَا قَسِيمَانِ وَالْقَسِيمُ مُخَالِفٌ لِلْقَسِيمِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي الْمِثَالِ فَإِنَّ فِيهِ ظَهَرَتْ ثَلَاثَةُ مَحَالِّ الْأَصْلِ وَهُوَ نِكَاحُ الْبِكْرُ وَالْفَرْعِ وَهُوَ نِكَاحُ الثَّيِّبِ وَمَحَلُّ الْجِنْسِ وَهُوَ الْمَالُ.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْجِنْسِ الْجِنْسَ الْمُجَرَّدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَلْ مَا ظَهَرَ فِي جُزْئِيٍّ غَيْرِ الْجُزْئِيِّ الَّذِي
(3/147)
هُوَ الْأَصْلُ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَالثَّانِي) أَيْ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ مَعَ ثُبُوتِ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ ثَابِتٌ (فِي حَمْلِ الْحَضَرِ حَالَةَ الْمَطَرِ عَلَى السَّفَرِ فِي الْجَمْعِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ) أَيْ فِي قِيَاسِ الْحَضَرِ حَالَةَ الْمَطَرِ عَلَى السَّفَرِ فِي حُكْمٍ هُوَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَكْتُوبَتَيْنِ بِوَصْفِ عُذْرِ الْمَطَرِ (وَجِنْسِهِ) أَيْ عُذْرِ الْمَطَرِ (الْحَرَجُ) أَيْ الضِّيقُ يُؤَثِّرُ (فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الْجَمْعِ) فِي الْحَضَرِ (بِالنَّصِّ عَلَى اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْحَرَجُ (فِي عَيْنِ الْجَمْعِ) فِي السَّفَرِ إذْ الْحَرَجُ جِنْسٌ يَجْمَعُ الْحَاصِلَ بِالسَّفَرِ وَهُوَ خَوْفُ الضَّلَالِ وَالِانْقِطَاعِ وَبِالْمَطَرِ وَهُوَ التَّأَذِّي بِهِ ثُمَّ كَانَ مُرَادُهُمْ بِالنَّصِّ عَلَى اعْتِبَارِ جِنْسِهِ مَا تُعْطِيه قُوَّةً سِيَاقُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (أَمَّا حَرَجُ السَّفَرِ فَبِالثُّبُوتِ مَعَهُ فَقَطْ) أَيْ إنَّمَا اُعْتُبِرَ عَيْنُ حَرَجِ السَّفَرِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ بِمُجَرَّدِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ إذْ لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى عِلَّةِ نَفْسِ حَرَجِ السَّفَرِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
قُلْت وَيَطْرُقُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلْيُتَأَمَّلْ هَذَا وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُضَافَ هُوَ مَحَلُّ النَّصِّ) أَيْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ هُوَ الْمُضَافُ إلَى السَّفَرِ يَعْنِي حَرَجَ السَّفَرِ وَلِذَا نِيطَ بِعَيْنِ السَّفَرِ (فَلَا يَتَعَدَّى) حُكْمُ الْأَصْلِ إلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَحَلَّ جُزْءٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِ فِي حُكْمِهِ (لَا) أَنَّ مَحَلَّ النَّصِّ هُوَ الْحَرَجُ (الْمُطْلَقُ) عَنْ الْإِضَافَةِ (وَإِلَّا تَعَدَّى) هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ جَوَازُ الْجَمْعِ (إلَى ذِي الصَّنْعَةِ الشَّاقَّةِ لِوُجُودِ الْحَرَجِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِنَاطَةِ بِالسَّفَرِ) بَلْ كَانَ يُضَافُ إلَى الْجُرْحِ مُطْلَقًا (إذْ لَا خَفَاءَ فِي) الْجُرْحِ (الْمُطْلَقِ) وَلَا فِي انْضِبَاطِهِ أَعْنِي مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَرَجٌ (كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ) وَالْإِنَاطَةُ بِالسَّفَرِ لَيْسَ إلَّا لِعَدَمِ انْضِبَاطِ مَا هُوَ الْعِلَّةُ بِالْحَقِيقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ إنَّمَا أُنِيطَ بِالْحَرَجِ الْمُضَافِ إلَى السَّفَرِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْحَضَرِ فِي الْمَطَرِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِلْمُلَائِمِ الَّذِي اُعْتُبِرَ صِحَّةُ جِنْسِ الْوَصْفِ فِيهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ (وَأَيْضًا فَذَلِكَ) أَيْ دَلَالَةُ ثُبُوتِ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْعَيْنِ الْمَوْجُودَةِ إنَّمَا يَكُونُ (بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَيْنِ فِي الْمَحَلَّيْنِ) الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَالصِّغَرِ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ (وَلَيْسَ الْمَطَرُ) الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ هُنَا (فِي الْأَصْلِ) الَّذِي هُوَ السَّفَرُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْفَرْعِ فَقَطْ وَهُوَ الْحَضَرُ فَلَا يُفِيدُ اعْتِبَارَ جِنْسِيَّةِ الْحَرَجِ فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ الْمَطَرُ لِجَوَازِ الْجَمْعِ.
قُلْت عَلَى أَنَّ هَذَا مِثَالٌ تَقْدِيرِيٌّ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِلَا عُذْرٍ فِي الْحَضَرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَّخَذَ عَادَةً وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ هَذَا ابْنُ سِيرِينَ وَرَبِيعَةُ وَأَشْهَبُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ خِلَافًا لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ تَمَسُّكًا بِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا تُحْرَجَ أُمَّتُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَلِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) كَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي التَّمْثِيلِ الثَّانِي (كَاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَضْمَضَةِ الْمُومَأِ إلَيْهَا فِي عَدَمِ إفْسَادِهَا الصَّوْمَ) فِي حَدِيثِ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ هَشَشْتُ فَقَبَّلْت وَأَنَا صَائِمٌ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ ثُمَّ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ مَضْمَضْت بِالْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ قُلْتُ لَا بَأْسَ قَالَ فَمَهْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ النَّوَوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. .
وَقَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحُ إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ وَقَدْ وَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَأَشَارَ الْبَزَّارُ إلَى أَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ وَاسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ انْتَهَى وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَمَا وَصَفَهُ بِهِ شَيْخُنَا الْحَافِظِ
وَمَعْنَى فَمَهْ أَيْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ الْمَضْمَضَةُ اُعْتُبِرَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْإِفْسَادِ وَهُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ وَلَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بَلْ اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ (وَهُوَ) أَيْ جِنْسُهُ (عَدَمُ دُخُولِ شَيْءٍ إلَى الْجَوْفِ) فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ) أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ (الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ بَلْ الِانْتِفَاءُ) لِلْإِفْسَادِ (لِانْتِفَاءِ ضِدِّ الرُّكْنِ) لِلصَّوْمِ وَهُوَ أَعْنِي ضِدَّهُ دُخُولُ شَيْءِ إلَى الْجَوْفِ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا (مِنْ الْعَيْنِ) أَيْ اعْتِبَارِ عَيْنِ الْوَصْفِ وَهُوَ عَدَمُ دُخُولِ شَيْءٍ إلَى
(3/148)
الْجَوْفِ (فِي الْعَيْنِ) أَيْ عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ عَدَمُ إفْسَادِ الصَّوْمِ فَهُوَ مِنْ مِثْلِ الْمُؤَثِّرِ (وَالثَّالِثُ) أَيْ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ مَعَ ثُبُوتِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ (كَالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ) أَيْ كَقِيَاسِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقَتْلِ (بِالْمُحَدَّدِ) فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ (بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ) أَيْ بِهَذَا الْجَامِعِ كَمَا عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ (وَجِنْسِهِ) أَيْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ (الْجِنَايَةُ عَلَى الْبِنْيَةِ) لِلْإِنْسَانِ وَقَدْ اُعْتُبِرَ (فِي جِنْسِ) أَيْ جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ أَيْ (الْقِصَاصِ) كَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ) مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤَثِّرِ) لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا وَجْهُ التَّفْتَازَانِيِّ كَوْنُهُ مِنْ الْمُلَائِمِ دُونَ الْمُؤَثِّرِ بِتَوْجِيهٍ غَيْرِ وَجِيهٍ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ (فَقِيلَ لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ) فِي الْأَصْلِ (الْقَتْلُ وَحْدَهُ أَوْ) الْقَتْلُ (مَعَ قَيْدِ كَوْنِهِ بِالْمُحَدَّدِ) وَإِلَى دَفْعِهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ (وَلَوْ صَحَّ) هَذَا الْكَلَامُ (لَزِمَ انْتِفَاءُ الْمُؤَثِّرِ لِتَأَتِّيهِ) أَيْ مِثْلِ هَذَا (فِي كُلِّ وَصْفٍ مَنْصُوصٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَيْدٍ بِفَرْضٍ) وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنَاطُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ ذَلِكَ الْقَيْدِ الَّذِي يُفْرَضُ (فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا قُلْنَا) ذَلِكَ أَيْ أَنَّ الْوَصْفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَنَاطُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْقَيْدِ الَّذِي يُبْدِيه النَّاظِرُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُعْتَبَرًا بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ (إذَا قَالَ بِالْقَيْدِ) الَّذِي يُفْرَضُ (مُجْتَهِدٌ وَلَيْسَ) هَذَا بِمُتَأَتٍّ (فِي الْكُلِّ) أَيْ فِي كُلِّ أَمْثِلَةِ الْمُؤَثِّرِ (قُلْنَا إنْ سَلَّمَ) أَنَّ إبْدَاءَ قَيْدٍ يُفْرَضُ إنَّمَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ لَا مَعَ ذَلِكَ الْقَيْدِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَنَاطُ إيَّاهُ مَعَ ذَلِكَ الْقَيْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَالَ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مُجْتَهِدٌ (فَمُنْتَفٍ) أَيْ فَهَذَا الشَّرْطُ مُنْتَفٍ (فِي الْمِثَالِ) الْمَذْكُورِ (فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْعِلَّةِ) أَيْ فِي كَوْنِ الْقَتْلِ عِلَّةً لِلْقِصَاصِ (سِوَاهُ) أَيْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ (غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ أَبَا حَنِيفَةَ (يَقُولُ انْتَفَتْ الْعِلَّةُ) فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ (بِانْتِفَاءِ دَلِيلِ الْعَمْدِيَّةِ) وَهُوَ الْقَتْلُ بِمَا لَا يَلْبَثُ مِمَّا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ لِأَنَّ الْعَمْدِيَّةَ أَمْرٌ بَاطِنٌ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْمُفَرِّقَةِ لِلْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَصْدِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ غَيْرِهَا مِمَّا لَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ بَلْ يُرْضِهَا فَالْإِجْمَاعُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ عِلَّةٌ لِلْقِصَاصِ أَيْضًا كَالنَّصِّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَمْدِيَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَلِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) أَيْ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي التَّمْثِيلِ لِلثَّالِثِ (الطَّوْفُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ) اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ (وَجِنْسِهِ) أَيْ الطَّوْفِ (لِضَرُورَةٍ أَيْ الْحَرَجِ فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الطَّهَارَةُ أَيْ (التَّخْفِيفِ) .
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ (عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى عَيْنِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الطَّوْفُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ (كَاَلَّذِي قَبْلَهُ) مِنْ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ كَمَا ذَكَرَ أَوَّلًا (وَالْغَرِيبُ مَا) أَيْ وَصْفٌ (لَمْ يَثْبُتْ) فِيهِ (سِوَى الْعَيْنُ) أَيْ سِوَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ عَيْنَهُ (مَعَ الْعَيْنِ) أَيْ عَيْنِ الْحُكْمِ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَقَطْ (فِي الْمَحَلِّ كَالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ) الْإِرْثَ مِنْ مَقْتُولِهِ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ (ثَبَتَ) الْحُكْمُ وَهُوَ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ (مَعَهُ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي الْأَصْلِ) أَيْ قَتْلِ الْوَارِثِ مُورِثَهُ (وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (أَوْ) عَلَى اعْتِبَارِ (جِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي أَحَدِهِمَا) أَيْ عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ (لِيَلْحَقَ بِهِ) أَيْ بِالْفِعْلِ فِعْلًا مُحَرَّمًا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ (الْفَارُّ) مِنْ تَوْرِيثِ زَوْجَتِهِ مِنْهُ بِطَلَاقِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَيُعَامَلُ بِنَقِيضِ مَطْلُوبِهِ كَمَا هُنَاكَ ثُمَّ قَدْ كَانَ فِي النُّسْخَةِ مَكَانٌ ثَبَتَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ فَقَالَ هُنَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ (وَقَوْلُنَا فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْمَحْرُومُ (قَدْ ثَبَتَ مَعَ عَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ (فِيمَا لَمْ يَقْصِدْ الْمَالَ) أَيْ أَخْذِهِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَجْنَبِيًّا وَلَيْسَ بِزَوْجٍ وَلَا زَوْجَةٍ فَإِنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ فَرْعُ مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرِثُ مِنْهُ (وَبِالثُّبُوتِ) أَيْ ثُبُوتِ الْوَصْفِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ (بَعْدَ مَا قِيلَ) أَيْ مَا قَالَهُ غَيْرُ
(3/149)
وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا (إنَّمَا هُوَ مِثَالُ غَرِيبِ الْمُرْسَلِ) الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ إلْغَاؤُهُ وَلَا اعْتِبَارُهُ كَمَا سَيَتَّضِحُ قَرِيبًا وَحَيْثُ كَانَ ذَاكِرًا وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ
(وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْأَصْلِ اعْتِبَارَانِ الْقَتْلُ) فِي الْوَصْفِ (وَالْحِرْمَانُ) فِي الْحُكْمِ (فَيَكُونُ) الْوَصْفُ مُنَاسِبًا (مُؤَثِّرًا) فِي الْحُكْمِ.
فَإِنْ عَيَّنَ الْوَصْفَ اُعْتُبِرَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مُرْسَلًا (أَوْ الْمُحَرَّمُ) فِي الْوَصْفِ (وَنَقِيضُ قَصْدِهِ) أَيْ الْفَاعِلِ فِي الْحُكْمِ (وَيَتَعَيَّنُ) هَذَا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي (فِي الْمِثَالِ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ (اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا) أَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (إذْ هُوَ) أَيْ الْحُكْمُ (فِي الْأَصْلِ عَدَمُ الْمِيرَاثِ وَالْفَرْعِ الْمِيرَاثُ) فَلَا يَكُونُ مِنْ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ (فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ) الْوَصْفُ مَعَ الْحُكْمِ (أَصْلًا فَالْمُرْسَلُ وَيَنْقَسِمُ) الْمُرْسَلُ (إلَى مَا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفِ (كَصَوْمِ الْمَلِكِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِمَشَقَّتِهِ) أَيْ الصَّوْمِ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ إعْتَاقِهِ) فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ إيجَابَ الصِّيَامِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَهَذَا الْقِسْمُ الْمُرْسَلُ الْمَعْلُومُ الْإِلْغَاءِ (وَمَا لَمْ يُعْلَمْ) إلْغَاؤُهُ (وَلَمْ يُعْلَمْ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (أَوْ) لَمْ يُعْلَمْ اعْتِبَارُ (عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (أَوْ) لَمْ يُعْلَمْ اعْتِبَارُ (قَلْبِهِ) أَيْ جِنْسِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي (الْغَرِيبُ الْمُرْسَلُ وَهُمَا) أَيْ هَذَانِ الْقِسْمَانِ (مَرْدُودَانِ اتِّفَاقًا وَأُنْكِرَ عَلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى) تِلْمِيذِ الْإِمَامِ مَالِكٍ (إفْتَاؤُهُ) بَعْضَ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ فِي كَفَّارَةٍ (بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِحُكْمِ مَا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ وَهُوَ الصَّوْمُ (بِخِلَافِ الْحَنَفِيِّ) أَيْ إفْتَاءِ مَنْ أَفْتَى مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَلِي خُرَاسَانَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ بِالصَّوْمِ (مُعَلِّلًا) تَعَيُّنَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ (بِفَقْرِهِ لِتَبِعَاتِهِ) أَيْ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَا لَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا (وَهُوَ) أَيْ هَذَا التَّعْلِيلُ (ثَانِي تَعْلِيلَيْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى حَكَاهُمَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ) الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ابْنُ عَرَفَةَ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ مُتَّجَهٌ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُنَاسِبِ الْمَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ فَلْيَكُنْ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ عِلَاوَةٌ فَلَا يَضُرُّ بُطْلَانُهُ (وَمَا عُلِمَ اعْتِبَارُ أَحَدِهَا) أَيْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ فِي جِنْسِهِ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ (الْمُرْسَلُ الْمُلَائِمُ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ قَبُولُهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا وَالسُّبْكِيُّ أَنَّ الَّذِي صَحَّ عَنْ مَالِكٍ اعْتِبَارُ جِنْسِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى مَقَالَةِ مَالِكٍ وَلَا يَسْتَجِيزُ التَّنَائِيَ وَالْإِفْرَاطَ فِي الْبُعْدِ وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ بِمَصَالِحَ يَرَاهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وِفَاقًا وَبِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنَدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ تَارَةً فِي الشَّرِيعَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَخْتَارُ نَحْوَ ذَلِكَ (وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ) فِي قَبُولِهِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ (كَوْنَ مَصْلَحَتِهِ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً أَيْ ظَنًّا يَقْرُبُ مِنْهُ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ مَعَ أَنَّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَغَيْرِهِ الظَّنُّ الْقَرِيبُ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْقَطْعِ لِأَنَّ الْقَطْعَ بِهَا فِي الْمِثَالِ الْآتِي مَمْنُوعٌ كَمَا يُعْلَمُ (كُلِّيَّةً) كَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْبِهِمْ وَعَلِمْنَا أَنَّا إنْ لَمْ نَرْمِ التُّرْسَ اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ وَغَيْرِهِمْ بِالْقَتْلِ وَإِنْ رَمَيْنَا التُّرْسَ سَلِمَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ قَتْلُ مُسْلِمٍ بِلَا ذَنْبٍ لِحِفْظِ بَاقِي الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الشَّرْعَ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَ سَبِيلِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَنَحْنُ إنْ لَمْ نَقْدِرْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ فَكَانَ هَذَا الْتِفَاتًا إلَى مَصْلَحَةٍ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنْ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِحِفْظِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ قَطْعِيَّةً أَيْ ظَنِّيَّةً ظَنًّا قَرِيبًا مِنْ الْقَطْعِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لِجَوَازِ دَفْعِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ رَمْيِهِمْ كُلِّيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِبَيْضَةِ الْإِسْلَامِ لَا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ قَبُولُهُ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْ يَلْزَمُ الْإِخْلَالُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ
(3/150)
ضَرُورِيٌّ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عُمُومًا.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ يُؤْثِرُ الْكُلِّيَّ عَلَى الْجُزْئِيِّ وَأَنَّ حِفْظَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ وَالدَّلِيلُ أَنَّ التُّرْسَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْمُلَائِمِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ الْجِنْسَ الْقَرِيبَ لِهَذَا الْوَصْفِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِهَذَا الْحُكْمِ إذْ لَمْ يُعْلَمْ فِي الشَّرْعِ إبَاحَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِعِلَّةٍ مِنْ الْعِلَلِ لَكِنَّهُ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ الْبَعِيدَ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ وُجِدَ اعْتِبَارُ الضَّرُورَةِ فِي الرُّخْصَةِ فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ لِلْجِنْسِ الْأَبْعَدِ مِنْ الْوَصْفِ أَعْنِي الْأَعَمَّ مِنْ ضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفْسِ وَهُوَ مُطْلَقُ الضَّرُورَةِ وَالْأَبْعَدُ غَيْرُ كَافٍ فِي الْمُلَاءَمَةِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعِيدُ هُنَا الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ ضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفْسِ فَضْلًا عَنْ مُطْلَقِ الضَّرُورَةِ وَأُجِيبُ بِمَنْعِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ ضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفْسِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ هُنَا الْأَخَصُّ مِنْهَا وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَفِي التَّلْوِيحِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ حُصُولَ الْمَنْعِ الْكَثِيرِ فِي تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ وَجَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ هَذَا وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ بَلْ يَمْتَنِعُ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَغِيبٌ عَنَّا لَا بِالْيَقِينِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يُدَارُ عَلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ (فَلَا يُرْمَى الْمُتَتَرِّسُونَ بِالْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ حِصْنٍ) لِأَنَّ فَتْحَهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا (وَلَا) يُرْمَى الْمُتَتَرِّسُونَ بِالْمُسْلِمِينَ (لِظَنِّ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ) ظَنًّا بَعِيدًا مِنْ الْقَطْعِ لِانْتِفَاءِ الْقَطْعِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ (وَلَا يُرْمَى بَعْضُ أَهْلِ السَّفِينَةِ لِنَجَاةِ بَعْضٍ) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلُّ الْأُمَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَاحْتِمَالُ كَوْنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَقَاءِ مَنْ أَبْقَى (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ (الْمُسَمَّى
بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ
) لِإِرْسَالِهَا أَيْ إطْلَاقِهَا عَمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا أَوْ إلْغَائِهَا شَرْعًا (وَالْمُخْتَارُ) عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ (رَدُّهُ) مُطْلَقًا (إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الِاعْتِبَارِ) أَيْ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ إيَّاهُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ إذَا قِيلَ بِهِ (دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَوَجَبَ رَدُّهُ) فَانْتَفَى تَخْصِيصُ رَدِّهِ بِكَوْنِهِ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِيهَا لِلْمَصْلَحَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا كَالْبَيْعِ وَالْحَدِّ (قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِهِ (فَتَخْلُو وَقَائِعُ) مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى تَقْدِيرِ رَدِّهَا وَخُلُوُّهَا مِنْهُ بَاطِلٌ.
(قُلْنَا نَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ لِأَنَّ الْعُمُومَاتِ وَالْأَقْيِسَةَ شَامِلَةٌ) لِتِلْكَ الْوَقَائِعِ (وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ شُمُولِهَا لَهَا (فَنَفْيُ كُلِّ مُدْرَكٍ خَاصٍّ) لِلدَّلِيلِ الْخَاصِّ (حُكْمُهُ) أَيْ ذَلِكَ النَّفْيِ (الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَلَمْ تَخْلُ) تِلْكَ الْوَقَائِعُ (عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ) أَيْ وَخُلُوُّهَا هُوَ (الْمُبْطِلُ فَظَهَرَ) مِمَّا تَقَدَّمَ (اشْتِرَاطُ لَفْظِ الْغَرِيبِ وَالْمُلَائِمِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ لِلْمُنَاسِبِ وَالثَّوَانِي لِلْمُرْسَلِ وَسَنَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَبُولُ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ) أَيْ الْمُلَائِمِ (مِنْ الْمُرْسَلِ فَاتِّفَاقُهُمْ) أَيْ الْعُلَمَاءِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ نَفْيَ الْمُرْسَلِ إنَّمَا هُوَ (فِي نَفْيِ الْأَوَّلِينَ) مَا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ وَالْغَرِيبُ الْمُرْسَلُ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيه سَوْقُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشَارِحِيهِ وَاَلَّذِي فِي تَنْقِيحِ الْمَحْصُولِ لِلْقَرَافِيِّ أَنَّ مَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْ الْإِلْغَاءِ وَالِاعْتِبَارِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي تَقُولُ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ وَيُوَافِقُهُ تَفْسِيرُ الْإِسْنَوِيِّ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِهَذَا وَمَشَى عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ ثُمَّ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَقَالَ الْآمِدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَدْ نُقِلَ أَيْضًا عَنْ الشَّافِعِيِّ.
وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصَالِحُ شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَالثَّالِثُ وَهُوَ رَأْيُ الْغَزَالِيِّ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً اُعْتُبِرَتْ وَإِلَّا فَلَا اهـ فَجَعَلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَعَدَمِهِ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا مَحَلَّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُرْسَلِ الْمُلَائِمِ نَعَمْ نِسْبَةُ الْإِسْنَوِيِّ ابْنَ الْحَاجِبِ إلَى أَنَّهُ قَالَ فِيمَا جُهِلَ حَالُهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي سَبِيلِ الْمُلَائِمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ الْخَارِجِيَّ) أَيْ الْمُحَقَّقَ فِي الْخَارِجِ (مِنْ الْمُلَائِمِ) قِسْمًا (وَاحِدًا) وَهُوَ مَا اُعْتُبِرَ فِيهِ خُصُوصُ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ وَعُمُومِهِ
(3/151)
فِي عُمُومِهِ
(قَالَ) (الْمُنَاسِبُ إنْ) كَانَ (مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ) (فَالْمُؤَثِّرُ وَإِلَّا فَإِنْ) كَانَ مُعْتَبَرًا (بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فَتِسْعَةٌ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ خُصُوصُ الْوَصْفِ أَوْ عُمُومُهُ أَوْ خُصُوصُهُ وَعُمُومُهُ) مَعًا (فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ) جَمِيعًا (ثُمَّ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ إلْغَاؤُهُ أَوْ لَا) فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْسَامِ (وَالْوَاقِعُ مِنْهَا فِي الشَّرْعِ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ مَا اُعْتُبِرَ خُصُوصُ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ وَعُمُومُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي عُمُومِهِ) أَيْ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ (وَيُسَمَّى الْمُلَائِمَ كَقَتْلِ الْمُثْقَلِ إلَخْ) أَيْ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ بِجَامِعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ فِي الْمُحَدَّدِ وَتَأْثِيرُ جِنْسِهِ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَعْصُومِ بِالْقَوَدِ فِي جِنْسِ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ الْقِصَاصُ فِي الْأَيْدِي فَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَّفَقٌ عَلَى قَبُولِهِ بَيْنَ الْقَائِسِينَ وَمَا عَدَاهُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ (وَمَا اُعْتُبِرَ الْخُصُوصُ) فِي الْخُصُوصِ (فَقَطْ) لَكِنْ (لَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَوْ لَمْ يَنُصَّ) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ (إنَّمَا عَلَى عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (إذْ لَمْ يَظْهَرْ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ (وَلَا) اعْتِبَارُ (جِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (أَوْ عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمِ فَهَذَا هُوَ الثَّانِي (وَمَا اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فَقَطْ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ إلَّا أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمَ (دُونَ مَا سَبَقَ وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ الْمُتَنَاوِلِ لِإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ) أَصْلًا (وَ) إسْقَاطِ (الرَّكْعَتَيْنِ) مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ (وَمَا لَمْ يَثْبُتْ) اعْتِبَارُهُ وَلَا إلْغَاؤُهُ (كَالتَّتَرُّسِ) أَيْ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ سَبَقَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُرْسَلُ فَهَذَا هُوَ الرَّابِعُ (أَوْ) الْمُنَاسِبُ الَّذِي (ثَبَتَ إلْغَاؤُهُ) وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ كَمَا فِي إيجَابِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ فِي كَفَّارَةٍ لِفِطْرٍ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا هُوَ الْخَامِسُ
(ثُمَّ جِنْسُ كُلٍّ) مِنْ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ (قَرِيبٌ) أَيْ سَافِلٌ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ (وَبَعِيدٌ) أَيْ عَالٍ وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ جِنْسٌ لَيْسَ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ الْأَجْنَاسِ (وَمُتَوَسِّطٌ) بَيْنَهُمَا وَهُوَ جِنْسٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَمَّا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ (فَالْعَالِي) مِنْ الْحُكْمِ (الْحُكْمُ ثُمَّ الْوُجُوبُ وَأَحَدُ مُقَابِلَاتِهِ) مِنْ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ (ثُمَّ الْعِبَادَةُ) فِي الْعِبَادَاتِ (أَوْ الْمُعَامَلَةُ) فِي الْمُعَامَلَاتِ (ثُمَّ الصَّلَاةُ) فِي الْعِبَادَاتِ (أَوْ الْبَيْعُ) فِي الْمُعَامَلَاتِ (ثُمَّ الْمَكْتُوبَةُ أَوْ النَّافِلَةُ) فِي الْعِبَادَاتِ (أَوْ الْبَيْعُ بِشَرْطِهِ) فِي الْمُعَامَلَاتِ (عَلَى تَسَاهُلٍ) فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ (لَا يَخْفَى لِأَنَّهَا) أَيْ الْعِبَادَةَ وَمَا بَعْدَهَا (أَفْعَالٌ لَا أَحْكَامٌ وَالْوَصْفُ) أَيْ وَالْجِنْسُ الْعَالِي مِنْهُ (كَوْنُهُ وَصْفًا يُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ ثُمَّ الْمُنَاسِبُ ثُمَّ الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ ثُمَّ حِفْظُ النَّفْسِ أَوْ مُقَابِلَاتُهُ) أَيْ حِفْظُ الدِّينِ وَحِفْظُ الْعَقْلِ وَحِفْظُ النَّسَبِ وَحِفْظُ الْمَالِ.
وَهَذَا جِنْسٌ سَافِلٌ لَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا أَجْنَاسٌ مُتَوَسِّطَةٌ (وَمِثْلُ الْوَصْفِ أَيْضًا) فِي تَرَتُّبِ أَجْنَاسِهِ (بِعَجْزِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَعَجْزِ الْمَجْنُونِ نَوْعَانِ) مِنْ الْعَجْزِ (جِنْسُهُمَا الْعَجْزُ لِعَدَمِ الْعَقْلِ وَفَوْقَهُ) أَيْ الْعَجْزِ لِعَدَمِ الْعَقْلِ (الْعَجْزُ لِضَعْفِ الْقُوَى أَعَمُّ مِنْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَرِيضَ) وَفَوْقَهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ الْفَاعِلِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ الْمَحْبُوسَ وَفَوْقَهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ الْفَاعِلِ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ الْمُسَافِرَ أَيْضًا وَفَوْقَهُ مُطْلَقُ الْعَجْزِ الشَّامِلِ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ الْفَاعِلِ وَعَنْ مَحَلِّ الْفِعْلِ وَعَنْ الْخَارِجِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ فَهَذَا هُوَ الْجِنْسُ الْعَالِي بِالنِّسْبَةِ إلَى عَجْزِ الْإِنْسَانِ وَتَحْتَهُ أَجْنَاسٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَهِيَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ الْفَاعِلِ وَالْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ مَحَلِّ الْفِعْلِ وَالْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ الْخَارِجِ وَتَحْتَ كُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسٌ مَثَلًا تَحْتَ الْعَجْزِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَاعِلِ مُطْلَقًا جِنْسٌ هُوَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ عَنْ الْفَاعِلِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ وَتَحْتَهُ جِنْسٌ هُوَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْقُوَى وَتَحْتَهُ جِنْسٌ أَيْضًا هُوَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ وَتَحْتَهُ نَوْعٌ هُوَ عَجْزُ الصَّبِيِّ وَعَجْزُ الْمَجْنُونِ وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ حُكْمٌ هُوَ
(3/152)
سُقُوطُ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْقُوَى حُكْمٌ هُوَ سُقُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَاعِلِ بِدُونِ اخْتِبَارِهِ حُكْمٌ هُوَ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَاعِلِ مُطْلَقًا حُكْمٌ هُوَ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالتَّرَخُّصُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ وَيَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْعَجْزِ حُكْمٌ فِيهِ تَخْفِيفٌ فِي الْجُمْلَةِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْحَرَجِ وَالضَّرَرِ (وَلَا يُشْكِلُ أَنَّ الظَّنَّ بِاعْتِبَارِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَقْوَى لِكَثْرَةِ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ) فِي الْأَقْرَبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَبْعَدِ مَثَلًا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَسَّاسُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النَّامِي وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّامِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْجِسْمُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْجِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانُ فَمَا يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ يُشَارِكُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِخِلَافِ مُشَارِكِهِ فِي الْجِسْمِيَّةِ أَوْ النُّمُوِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَقْوَى الْأَوْصَافِ فِي الْعَلِيَّةِ السَّافِلُ وَأَضْعَفَهَا الْعَالِي وَالْمُتَوَسِّطَات مُتَرَتِّبَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ تَرَتُّبِهَا فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ فَمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى السَّافِلِ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَالِي.
(وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمُلَائِمِ (شَهَادَةَ الْأُصُولِ) مُرِيدِينَ بِهَا بَعْدَ أَنْ يُقَابِلَ الْوَصْفَ بِقَوَانِينَ الشَّرْعِ فَيُطَابِقَهَا (سَلَامَتُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (مِنْ إبْطَالِهِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ تَخَلُّفٍ) لِلْحُكْمِ الْمَنُوطِ بِهِ (عَنْهُ) فِي بَعْضِ صُوَرِ وُجُودِهِ (أَوْ وُجُودِ وَصْفٍ يَقْتَضِي ضِدَّ مُوجِبِهِ) مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْسِ الْوَصْفِ (كَلَا زَكَاةَ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ فَلَا) زَكَاةَ (فِي إنَاثِهَا بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ بِالتَّسْوِيَةِ) بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي سَائِرِ السَّوَائِمِ فِي الزَّكَاةِ وُجُوبًا وَسُقُوطًا لِأَنَّ الْأُصُولَ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى أَحْكَامِهِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَكُونُ الْعَرْضُ عَلَيْهَا وَامْتِنَاعُهَا مِنْ رَدِّهِ دَلِيلُ عَدَالَتِهِ كَالْعَرْضِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَسُكُوتِهِ عَنْ الرَّدِّ ثُمَّ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْعَرْضِ عَلَى كُلِّ الْأُصُولِ لِأَنَّ احْتِمَالَ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِهِ.
وَقِيلَ أَدْنَى مَا يَجِبُ الْعَرْضُ عَلَيْهِ أَصْلَانِ لِأَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَصْلَيْنِ كَمَا فِي الِاقْتِصَارِ فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ عَلَى اثْنَيْنِ قُلْت وَرَدُّ الْأَوَّلِ لَا شَكَّ فِيهِ لِإِسْقَاطِ الشَّارِعِ الْحَرَجَ فِي الْمُتَعَسِّرِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْمُتَعَذِّرِ عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَمَنْ شَرَطَ الْعَرْضَ عَلَى كُلِّ الْأُصُولِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ اسْتَقْصَى فِي الْعَرْضِ فَالْخَصْمُ يَقُولُ وَرَاءَ هَذَا أَصْلٌ آخَرُ هُوَ مُعَارِضٌ أَوْ نَاقِضٌ لَا يَدَّعِيه فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَقُمْ عِنْدِي دَلِيلُ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ حَيْثُ كَانَ الْعَرْضُ تَزْكِيَةً أَوْ كَالتَّزْكِيَةِ فِي الشَّاهِدِ فَيَنْبَغِي الِاكْتِفَاءُ بِالْعَرْضِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يَكْتَفِي فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ بِالْوَاحِدِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِمَا يَعْرِضُ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَأَجَابَ مَشَايِخُنَا بِأَنَّ عَدَالَةَ الْوَصْفِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّأْثِيرِ وَالْفَرْضُ ظُهُورُهُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ لَا يَقَعُ بِهِ التَّعْدِيلُ وَالْأُصُولُ شُهُودٌ لِلْحُكْمِ كَمَا تُوصَفُ الْعِلَلُ بِالْحُكْمِ لَا مُزَكُّونَ فَهِيَ كَثْرَةُ نَظَائِرَ وَذِكْرُ النَّظَائِرِ لَهُ لَا يُحْدِثُ لَهُ قُوَّةً كَالشَّاهِدِ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَفْعَالُهُ لَا تَظْهَرُ بِهِ عَدَالَتُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ) قَائِلُونَ (التَّعْلِيلُ بِكُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ) أَيْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَفِي الْعَيْنِ (مَقْبُولٌ فَإِنْ) كَانَ التَّعْلِيلُ (بِمَا عَيْنُهُ أَوْ جِنْسُهُ) مُؤَثِّرٌ (فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَقِيَاسٌ اتِّفَاقًا لِلُزُومِ أَصْلِ الْقِيَاسِ) فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ وَيُقَالُ لِمَا تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ إنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي رُبَّمَا يُقِرُّ بِهِ مُنْكِرٌ وَالْقِيَاسُ إذْ لَا فَرْقَ إلَّا بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ (وَإِلَّا) فَإِنْ كَانَ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ (فَقَدْ) يَكُونُ قِيَاسًا (بِأَنْ يَكُونَ) مَا عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَكُونُ (الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ أَيْضًا) فَيُسْتَدْعَى أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ (فَيَكُونُ مُرَكَّبًا) .
وَكَذَا مَا جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ قَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ فِي عَيْنِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فَيَكُونُ قِيَاسًا وَقَدْ لَا فَيَكُونُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُرْسَلِ
(3/153)
الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا لِلْحَنَفِيَّةِ إذْ كُلٌّ مِنْ أَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُؤَثِّرِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ) السَّرَخْسِيُّ قَالَ الْأَصَحُّ عِنْدِي (الْكُلُّ قِيَاسٌ دَائِمًا لِأَنَّ مِثْلَهُ) أَيْ هَذَا الْوَصْفِ (لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلِ قِيَاسٍ) فِي الشَّرْعِ لَا مَحَالَةَ (إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُتْرَكُ لِظُهُورِهِ) كَمَا قُلْنَا فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِهَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ مَقِيسًا عَلَى أَصْلٍ وَاضِحٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَبَاحَ الصَّبِيَّ طَعَامًا فَتَنَاوَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاحَةِ سَلَّطَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ فَتَرَكْنَا ذِكْرَ هَذَا الْأَصْلِ لِوُضُوحِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فَيُذْكَرُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأَمَةِ: إنَّ كُلَّ نِكَاحٍ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ الْحُرِّ كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَعْنًى مُؤَثِّرٍ وَهُوَ أَنَّ الرِّقَّ يُنَصِّفُ الْحِلَّ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ شَرْعًا وَلَا يُبَدِّلُهُ بِحِلٍّ آخَرَ فَيَكُونُ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِعَيْنِهِ وَلَكِنْ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْغُمُوضِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِ الْأَصْلِ (وَعَلَى هَذَا) الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ (لَا بُدَّ فِي التَّعْلِيلِ مُطْلَقًا مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْجِنْسِ فِيهِ) أَيْ الْعَيْنِ (فَإِنَّ أَصْلَ الْقِيَاسِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِذَلِكَ) أَيْ بِتَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ (فَلَا يُعَلَّلُ بِالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ تَعْلِيلًا بَسِيطًا أَصْلًا وَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِقْرَاءٍ يُفِيدُهُ) أَيْ هَذَا الْمَطْلُوبَ (ثُمَّ قَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِكُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ) الْمَذْكُورَةِ (يَشْمَلُ الْعَيْنَ فِي الْعَيْنِ فَقَطْ) كَمَا يَشْمَلُ الثَّلَاثَةَ الْأَقْسَامَ الْأُخَرَ: جِنْسَهُ فِي عَيْنِهِ فَقَطْ وَجِنْسَهُ فِي جِنْسِهِ فَقَطْ وَعَيْنَهُ فِي جِنْسِهِ فَقَطْ.
(وَمُرَادُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (إذَا ثَبَتَ) التَّأْثِيرُ الْمَذْكُورُ (بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَإِلَّا لَزِمَهُ) أَيْ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ (التَّرْكِيبُ) وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْبَسِيطِ (وَسَمَّى بَعْضُهُمْ) أَيْ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ (مَا يُوجَدُ مِنْ أَصْلِ الْقِيَاسِ) أَيْ مَا يَكُونُ لِحُكْمِهِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ (شَهَادَةَ الْأَصْلِ فَشَهَادَةُ الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ) أَيْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ وَاعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ (مُطْلَقًا أَيْ بِصِدْقِ) شَهَادَةِ الْأَصْلِ (عِنْدَهُ) أَيْ مَا يُوجَدُ مِنْ أَصْلِ الْقِيَاسِ أَيْ لِأَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ اعْتِبَارَ نَوْعِ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسَهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ فَقَدْ وُجِدَ لِلْحُكْمِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعٍ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ فَقَدْ وُجِدَ اعْتِبَارُ نَوْعِ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ مَعَ وُجُودِهِ (وَمِنْ الْآخَرِينَ) أَيْ وَشَهَادَةُ الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَاعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ (مِنْ وَجْهٍ) فَتُوجَدُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ بِدُونِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيُوجَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِدُونِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ يُوجَدَانِ مَعًا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ شَهَادَةِ الْأَصْلِ بِدُونِ التَّأْثِيرِ وَتَعَقَّبَهُ فِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِأَنَّ التَّحَقُّقَ بِدُونِ كُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّحَقُّقِ بِدُونِ الْمَجْمُوعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِينَ بِاعْتِبَارِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْآخَرِينَ وَبِالْعَكْسِ فَبِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ بِدُونِ التَّأْثِيرِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْغَرِيبِ وَهُوَ الْمَرْدُودُ مِمَّا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ أَمْ لَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي انْفِكَاكَهُ عَنْ التَّأْثِيرِ فِي الْجُمْلَةِ وَالِانْفِكَاكُ عَنْ التَّأْثِيرِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّحَقُّقِ بِدُونِ الْمَجْمُوعِ وَنَظَرُ الْمُتَعَقِّبِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إذَا لُوحِظَتْ النِّسْبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي الْغَرِيبِ الْمَرْدُودِ (وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا) أَوَّلًا (ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقِيَاسِ مِمَّا جِنْسُهُ) أَيْ جِنْسُ عَيْنِ الْوَصْفِ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ (فِي الْعَيْنِ) أَيْ عَيْنِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ (لَيْسَ إلَّا بِجَعْلِ الْعَيْنِ) أَيْ عَيْنِ الْوَصْفِ (عِلَّةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهَا) أَيْ عَيْنِ الْوَصْفِ (الْعِلَّةَ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ أَعْنِي بِهَا (جِنْسَهُ) أَيْ جِنْسَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فَيَرْجِعُ إلَى اعْتِبَارِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ) وَيَنْتَفِي هَذَا الْقِسْمُ فِي التَّحْقِيقِ مَثَلًا إذَا عُلِّلَ عِتْقُ الْأَخِ عِنْدَ شِرَاءِ أَخِيهِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ.
وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِتَأْثِيرِ مِلْكِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْجِنْسُ فِي الْعَيْنِ كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْعَيْنِ لَيْسَ إلَّا مِلْكَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَثُبُوتُ الْعِتْقِ مَعَ مِلْكِ الْأَخِ لَيْسَ لِمِلْكِ الْأَخِ بَلْ
(3/154)
لِمِلْكِ ذِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَلَيْسَ فِي التَّحْقِيقِ إلَّا قِسْمَانِ مِنْ الدَّالِ عَلَى الِاعْتِبَارِ ثُبُوتُ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَالْبَسَائِطُ أَرْبَعٌ مِنْ الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ) حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ عَيْنٌ فِي عَيْنٍ جِنْسٌ فِي جِنْسٍ عَيْنٌ فِي جِنْسِ قَلْبِهِ (هِيَ) أَيْ هَذِهِ الْأَرْبَعُ هِيَ (الْمُؤَثِّرُ وَثَلَاثَةٌ مُلَائِمُ الْمُرْسَلِ) الْمُتَقَدِّمَةِ (أَمَّا الْمُلَائِمُ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَوَّلِ الْمُقَابِلِ لِلْمُرْسَلِ (فَيَلْزَمُهُ التَّرْكِيبُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ مَعَهُ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ ثُبُوتِ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ) ثُبُوتِ اعْتِبَارِ (قَلْبِهِ) أَيْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا مَا فِيهِ مِنْ الْبَحْثِ (أَوْ) ثُبُوتِ اعْتِبَارِ (جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُلَائِمِ تَرْكِيبُهُ مِنْ اثْنَيْنِ) وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا سَيُعْلَمُ (وَالْمُرَكَّبُ إمَّا مِنْ الْأَرْبَعَةِ قِيلَ) أَيْ ذَكَرَ فِي التَّلْوِيحِ (كَالسُّكْرِ) فَإِنَّ عَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ مُؤَثِّرٌ (فِي الْحُرْمَةِ) أَيْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ حُرْمَةُ الشُّرْبِ (وَجِنْسِهِ) أَيْ السُّكْرِ وَهُوَ (إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ) مُؤَثِّرٌ (فِيهَا) أَيْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ إيقَاعَ الْعَدَاوَةِ كَمَا يَكُونُ بِسَبَبِ السُّكْرِ يَكُونُ بِغَيْرِهِ (ثُمَّ) السُّكْرُ مُؤَثِّرٌ (فِي وُجُوبِ الزَّاجِرِ أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَوِيِّ كَالْحَرْقِ وَالدُّنْيَوِيِّ كَالْحَدِّ) وَهَذَا جِنْسُ الْحُكْمِ (وَجِنْسُهُ) أَيْ السُّكْرِ (الْإِيقَاعُ) فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مُؤَثِّرٌ (فِي الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ) وَهُوَ جِنْسُ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السُّكْرَ لَمَّا كَانَ مَظِنَّةً لِلْقَذْفِ صَارَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مُؤَثِّرًا فِي وُجُوبِ الزَّاجِرِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَرْقِ) فِي النَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (بَعُدَ أَنَّهُ اعْتِزَالٌ) لِجَوَازِ عَدَمِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ) وَهُوَ التَّكْلِيفِيِّ (وَأَنَّ تَأْثِيرَهُ) أَيْ السُّكْرِ (فِي وُجُوبِ الزَّاجِرِ لَيْسَ) تَأْثِيرًا (فِي جِنْسِ حُرْمَةِ الشُّرْبِ) لِيَكُونَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ) أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ (لِتَأْثِيرِ السُّكْرِ فِي حُرْمَةِ الْإِيقَاعِ) فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَيْضًا كَمَا أَثَّرَ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ فَيَكُونُ الْعَيْنُ قَدْ أَثَّرَ فِي الْجِنْسِ وَأَثَّرَ فِي الْعَيْنِ (وَالْإِيقَاعُ) فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَثَّرَ (فِي حُرْمَةِ الْقَذْفِ كَمَا أَثَّرَ فِي) حُرْمَةِ (الشُّرْبِ) أَيْضًا فَيَكُونُ جِنْسُ الْوَصْفِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ قَدْ أَثَّرَ فِي الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ مِنْ حُرْمَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ كَمَا أَثَّرَ فِي الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ حُرْمَةُ الشُّرْبِ (لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِجِنْسِهِمَا) أَيْ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ (مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ) مِنْهُمَا (فَيَلْزَمُ التَّصَادُقُ لَا يُقَالُ مَجِيءُ مِثْلِهِ) أَيْ هَذَا الْكَلَامِ (فِي الْإِيقَاعِ مَعَ السُّكْرِ) لِأَنَّا نَقُولُ لَا (لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ) أَيْ بِالْإِيقَاعِ (مَوْقِعُ الْعَدَاوَةِ وَهُوَ) أَيْ مَوْقِعُهَا (أَعَمُّ مِنْ السُّكْرِ وَالْقَذْفِ) أَيْ زَمَنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ قَذْفٌ فَيُصَدَّقُ السُّكْرُ مَوْقِعَ الْعَدَاوَةِ وَالْكَلَامُ الَّذِي هُوَ قَذْفٌ مَوْقِعَ الْعَدَاوَةِ (فَيُحَرِّمُهُمَا) أَيْ مَوْقِعُ الْعَدَاوَةِ السُّكْرَ وَالْقَذْفَ (وَأَمَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ فَأَرْبَعَةٍ فَمَا سِوَى الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ) لِأَنَّ التَّرْكِيبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بِإِسْقَاطِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِي الْجِنْسِ وَفِي الْعَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْعَيْنَ فِي الْعَيْنِ كَانَ الْمُرَكَّبُ مِمَّا سِوَاهُ وَهُوَ الْعَيْنُ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْعَيْنَ فِي الْجِنْسَ فَالْمُرَكَّبُ الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسُ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ وَهُوَ ثَانٍ وَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْجِنْسَ فِي الْجِنْسِ فَالْمُرَكَّبُ حِينَئِذٍ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ وَالْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ ثَالِثٌ وَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْجِنْسَ فِي الْعَيْنِ فَالْمُرَكَّبُ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ، وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ رَابِعٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَنَقُولُ (التَّيَمُّمُ) أَيْ صِحَّتُهُ وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ (عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ) وَهَذَا عَيْنُ الْوَصْفِ (فَالْجِنْسُ) لِلْوَصْفِ (الْعَجْزُ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ) عَمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ شَرْعًا وَهُوَ فِي هَذَا الْمِثَالِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْوَصْفُ مُؤْثَرٌ (فِي الْجِنْسِ) أَيْ جِنْسِ التَّيَمُّمِ أَيْ (سُقُوطُ مَا يُحْتَاجُ) إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ (وَ) مُؤَثِّرٌ (فِي الْعَيْنِ التَّيَمُّمُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] إقَامَةً لِأَحَدِ الْعَنَاصِرِ مَقَامَ الْآخَرِ فَإِنَّ التُّرَابَ مُطَهِّرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ يُنَشِّفُ النَّجَاسَاتِ (وَالْعَيْنُ) لِلْوَصْفِ (الْعَجْزُ عَنْ الْمَاءِ) مُؤَثِّرٌ (فِي الْجِنْسِ) لِلْحُكْمِ أَيْ (سُقُوطُ
(3/155)
اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ (فَإِنَّهُ) أَيْ اسْتِعْمَالَهُ (أَعَمُّ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ لَكِنَّ الْعَيْنَ) لِلْوَصْفِ وَهُوَ (خَوْفُ الْفَوْتِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَيْنِ) لِلْحُكْمِ أَيْ (التَّيَمُّمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَيَمُّمٌ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَقَدْ جُعِلَتْ) الْعَيْنُ لِلْوَصْفِ (مَرَّةً خَوْفَ الْفَوْتِ وَمَرَّةً الْعَجْزَ عَنْ الْمَاءِ لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْخَوْفَ وَالْعَجْزَ (وَاحِدٌ) مَعْنًى (لِأَنَّ الْعَجْزَ مُخِيفٌ. فَإِنْ قُلْت خَوْفُ الْفَوْتِ وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ الْفَرْعُ)
أَيْ صَلَاةُ الْعِيدِ (وَالْمُرَادُ مِنْ الْوَصْفِ الْمَنْظُورُ فِي أَنَّ جِنْسَهُ أَثَّرَ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (مَا فِي الْأَصْلِ لِيَدُلَّ بِهِ) أَيْ بِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ عَيْنِهِ (عَلَى اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ الْمَذْكُورِ (عِلَّةً فِي نَظَرِ الشَّارِعِ قُلْت ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مَا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ (فِي غَيْرِ الْمُرْسَلِ وَالتَّعْلِيلُ بِهِ) أَيْ بِغَيْرِ الْمُرْسَلِ (قِيَاسٌ وَلَيْسَ هَذَا الْقِسْمُ) أَيْ الْمُرَكَّبُ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ مِنْهَا الْعَيْنُ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْمَحَلِّ (إلَّا مُرْسَلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قِيَاسٌ وَلَا اسْتَدْعَى أَصْلًا فَلَزِمَهُ) حِينَئِذٍ (الْعَيْنُ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَالْمُرْسَلُ مَأْخُوذٌ فِيهِ عَدَمُهُ) أَيْ الْعَيْنِ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْأَصْلِ (فَالتَّعْلِيلُ بِالْمُرْسَلِ) تَعْلِيلٌ (بِمَصَالِحَ خَاصَّةٍ ابْتِدَاءً اُعْتُبِرَتْ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الَّذِي يُرَادُ إثْبَاتُهُ أَوْ جِنْسُهَا) أَيْ الْمَصَالِحِ (فِي عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (أَوْ جِنْسِهِ لَكِنْ تُشْتَرَطُ الضَّرُورِيَّةُ وَالْكُلِّيَّةُ) فِيهَا (عَلَى مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَائِلِهِ) أَيْ الْمُرْسَلِ وَهُوَ الْغَزَالِيُّ (فَإِنْ قُلْت الْمِثَالُ حَنَفِيٌّ وَهُوَ) أَيْ الْحَنَفِيُّ (يَمْنَعُ الْمُرْسَلَ) فَكَيْفَ يَتِمُّ عَلَى قَوْلِهِ (قُلْنَا سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِعَمَلِهِمْ بِبَعْضٍ مَا يُسَمَّى مُرْسَلًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَدْخُلُ) ذَلِكَ (فِي الْمُؤَثِّرِ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (كَمَا سَيَظْهَرُ وَالْمُرَكَّبُ مِمَّا سِوَى الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ الْعَجْزُ عَنْ غَيْرِ مَاءِ الشُّرْبِ فِي التَّيَمُّمِ) أَيْ جَوَازُهُ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا هُوَ (الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ) أَيْ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا} [النساء: 43] الْآيَةَ (وَجِنْسُهُ) أَيْ عَيْنِ هَذَا الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ (الْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ) عَنْ الْمَاءِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ حُكْمِيًّا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ غَيْرِ مَاءِ الشُّرْبِ فَقَطْ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ الشُّرْبُ كَانَ كَأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لَهُ فَكَانَ عَجْزُهُ عَنْهُ حُكْمِيًّا لَا حَقِيقِيًّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُؤَثِّرٌ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ أَيْ (سُقُوطُ اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ مَاءِ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ (وَعَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (عَدَمُ وِجْدَانِهِ) أَيْ مَاءِ الشُّرْبِ مُؤَثِّرٌ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ سُقُوطُ اسْتِعْمَالِهِ أَيْ (السُّقُوطِ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ وَالْجِنْسُ غَيْرُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ) أَيْ الْعَيْنِ (لِأَنَّ الْعَجْزَ الْمَذْكُورَ) وَهُوَ الْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ مُطْلَقًا (غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي) جَوَازِ أَوْ وُجُوبِ (التَّيَمُّمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَيَمُّمٌ) بَلْ إنَّمَا أَثَّرَ فِي سُقُوطِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مُطْلَقًا مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ كَمَا ذَكَرَ آنِفًا.
(وَ) الْمُرَكَّبُ (مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ كَالْحَيْضِ فِي حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ) أَيْ وَهَذَا هُوَ (الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ وَجِنْسُهُ) أَيْ الْحَيْضِ (الْأَذَى) مُؤَثِّرٌ (فِيهِ) أَيْ فِي تَحْرِيمِ الْقُرْبَانِ (أَيْضًا وَ) مُؤَثِّرٌ (فِي الْجِنْسِ) لِحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ أَيْ (حُرْمَةِ الْجِمَاعِ مُطْلَقًا) فَتَدْخُلُ حُرْمَةُ اللِّوَاطِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مِمَّا فِي التَّلْوِيحِ أَنَّهُ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ (وَ) الْمُرَكَّبُ (مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ كَالْحَيْضِ عِلَّةً لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا هُوَ (الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ وَ) عِلَّةُ (جِنْسِهِ) أَيْ عَيْنِ الْحُكْمِ (حُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ) حَالَ كَوْنِهَا (أَعَمَّ مِمَّا فِي الصَّلَاةِ) وَخَارِجِهَا (وَجِنْسُهُ) أَيْ الْحَيْضِ (الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ) مُؤَثِّرٌ (فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا الْجِنْسِ) أَيْ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَيْ (حُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اثْنَيْنِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ مَعَ الْجِنْسِ فِيهِ) أَيْ الْعَيْنِ (الطَّوْفُ) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ (فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ (وَجِنْسِهِ) أَيْ الطَّوْفِ وَهُوَ (مُخَالَطَةُ نَجَاسَةٍ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا) عِلَّةً لِلطَّهَارَةِ كَآبَارِ الْفَلَوَاتِ (وَ) الْمُرَكَّبُ (مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْجِنْسِ الْمَرَضِ) فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ (فِي الْفِطْرِ وَ) مُؤَثِّرٌ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْمَرَضِ (التَّخْفِيفُ فِي الْعِبَادَةِ بِثُبُوتِ الْقُعُودِ) فِي الْمَكْتُوبَةِ (وَ) الْمُرَكَّبُ (مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ مَعَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ كَالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ) فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ (فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ) فَهَذَا مِنْ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ (وَجِنْسُهُ) أَيْ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ (الْعَجْزُ بِعَدَمِ
(3/156)
الْعَقْلِ لِشُمُولِهِ) أَيْ الْعَجْزِ (الصِّغَرَ) مُؤَثِّرٌ (فِي جِنْسِهَا) أَيْ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُطْلَقًا (لِثُبُوتِهَا) أَيْ الْوِلَايَةِ (فِي الْمَالِ وَ) الْمُرَكَّبُ (مِنْ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ كَجِنْسِ الصِّغَرِ الْعَجْزُ لِعَدَمِ الْعَقْلِ) مُؤَثِّرٌ (فِي وِلَايَةِ الْمَالِ) لِلْحَاجَةِ إلَى بَقَاءِ النَّفْسِ (وَ) فِي (مُطْلَقِهَا) أَيْ الْوِلَايَةِ (فَتَثْبُتُ) الْوِلَايَةُ (فِي كُلٍّ مِنْهُ) أَيْ الْمَالِ (وَمِنْ النَّفْسِ وَ) الْمُرَكَّبِ (مِنْ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَقَلْبِهِ) أَيْ وَمِنْ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ (خُرُوجُ النَّجَاسَةِ) لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَهُوَ مُؤَثِّرٌ (فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ ثُمَّ خُرُوجُهَا مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ) مُؤَثِّرٌ (فِي وُجُوبِ إزَالَتِهَا) وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَعَمُّ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ فَكَانَ جِنْسَ الْوُضُوءِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِانْتِفَاءِ تَأْثِيرِ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ إلَّا فِي الْحَدَثِ ثُمَّ بِوُجُوبِ مَا شُرِطَ لَهُ) إزَالَتُهَا (تَجِبُ) إزَالَتُهَا.
(وَ) الْمُرَكَّبِ (مِنْ الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَالْجُنُونِ وَالصِّبَا) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَثِّرٌ (فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ) لِلِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ (وَجِنْسُهُ) أَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ بِعَدَمِ الْعَقْلِ (الْعَجْزُ لِخَلَلِ الْقُوَى) فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ (فِيهِ) أَيْ فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ (وَظَهَرَ أَنَّ سِتَّةَ) الْمُرَكَّبِ (الثُّنَائِيِّ ثَلَاثَةٌ قِيَاسٌ) وَهِيَ الْأُولَى (وَثَلَاثَةٌ مُرْسَلٌ) وَهِيَ الْأَخِيرَةُ (وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ) الْمُرَكَّبِ (الثُّلَاثِيِّ قِيَاسٌ) وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا (وَوَاحِدٌ لَا) أَيْ لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْهَا (هَذَا وَالْأَكْثَرُ تَرْكِيبًا يُقَدَّمُ عِنْدَ تَعَارُضِهَا) أَيْ الْمُرَكَّبَاتِ (وَالْمُرَكَّبُ) يُقَدَّمُ (عَلَى الْبَسِيطِ) عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا لِأَنَّ قُوَّةَ الْوَصْفِ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ التَّأْثِيرِ وَالتَّأْثِيرُ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ فَكُلَّمَا كَثُرَ الِاعْتِبَارُ قَوِيَ الْآثَارَ فَيَكُونُ الْمُرَكَّبُ أَقْوَى مِنْ الْبَسِيطِ وَالْمُرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ أَكْثَرَ أَقْوَى مِنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ أَجْزَاءٍ أَقَلَّ لَكِنْ كَمَا قَالَ فِي التَّلْوِيحِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا سِوَى اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ فَإِنَّهُ أَقْوَى الْكُلِّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ حَتَّى كَادَ يُقِرُّ بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ إذْ لَا فَرْقَ إلَّا بِتَعَدِّي الْمَحَلِّ فَالْمُرَكَّبُ فِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ (وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ) وَالسَّرَخْسِيُّ وَأَبُو زَيْدٍ (لَا بُدَّ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فِي الْمُنَاظَرَةِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْلُولِيَّةِ هَذَا الْأَصْلِ) الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ السَّرَخْسِيُّ وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأُصُولَ مَعْلُولَةٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ دَلِيلٍ مُمَيِّزٍ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنْ قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا فِي الْحَالِ انْتَهَى إلَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِمُسَاعَدَةِ الْخَصْمِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَيْهِ.
(وَلَا يَكْفِي) قَوْلُ الْمُعَلِّلِ (الْأَصْلُ) فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ كَمَا عَزَاهُ فِي الْمِيزَانِ إلَى عَامَّةِ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَصْلَ (مُسْتَصْحَبٌ يَكْفِي لِلدَّفْعِ) أَيْ لِدَفْعِ ثُبُوتِ مَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ (لَا الْإِثْبَاتِ) عَلَى الْخَصْمِ (كَمَا سَيُعْلَمُ) فِي بَحْثِ الِاسْتِصْحَابِ آخِرَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَهَذَا (بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ لِنَفْسِهِ) فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ التَّعْلِيلِ لِنَفْسِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْلُولِيَّةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ (كَنَقْضِ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَعْلُولِيَّتِهِ) أَيْ كَوْنِ الْخَارِجِ النَّجِسِ الْمَذْكُورِ عِلَّةً لِلنَّقْضِ (بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِهِ) أَيْ النَّقْضِ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ (فِي مَثْقُوبِ السُّرَّةِ) إذَا خَرَجَ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى النَّقْضِ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ (فَعُلِمَ) بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ (تَعَدِّيهِ) أَيْ النَّقْضِ (عَنْ مَحَلِّ النَّصِّ) الَّذِي هُوَ السَّيَلَانُ إلَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْبَدَنِ إذْ لَوْ كَانَ خُصُوصُ الْمَحَلِّ مُعْتَبَرًا فِي النَّقْضِ بِالْخَارِجِ مِنْهُ لَمَا جَازَ قِيَامُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ بِالرَّأْيِ لِأَنَّ الْأَبْدَالَ لَا تُنَصَّبَ بِالرَّأْيِ (فَصَحَّ تَعْلِيلُهُ) أَيْ النَّقْضِ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ (بِنَجَاسَةِ الْخَارِجِ) وَإِنَّمَا قَالَ هَكَذَا لِأَنَّ الضِّدَّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ ضِدِّهِ فَصِفَةُ النَّجَاسَةِ هِيَ الرَّافِعَةُ لِلطَّهَارَةِ وَالْعَيْنُ الْخَارِجَةُ مَعْرُوضُهَا الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ بِهَا (لِيَثْبُتَ النَّقْضُ بِهِ) أَيْ الْخَارِجِ النَّجِسِ (مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ وَطَائِفَةٌ لَا) تَشْتَرِطُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْلُولِيَّةِ الْأَصْلِ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فِي الْمُنَاظَرَةِ (إذْ لَمْ يُعْرَفْ) ذَلِكَ (فِي مُنَاظَرَةٍ قَطُّ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ) وَكَفَى بِهِمْ قُدْرَةً (وَلِأَنَّ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ) فِي إلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ
(3/157)
بِوَاسِطَتِهِ (يَتَضَمَّنُهُ) أَيْ كَوْنُ الْأَصْلِ مَعْلُولًا (فَأَغْنَى) بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا.
(وَهَذَا) الْقَوْلُ (أَوْجَهُ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (ثُمَّ دَلِيلُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ بِعَيْنِهِ فِي الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ (النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَسَيَأْتِيَانِ وَالتَّأْثِيرُ) وَهُوَ (ظُهُورُ أَثَرِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (شَرْعًا وَيُسَمُّونَهُ) أَيْ التَّأْثِيرَ (عَدَالَتَهُ) أَيْ الْوَصْفِ (وَيَسْتَلْزِمُ) التَّأْثِيرُ (مُنَاسَبَتَهُ) أَيْ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِأَنْ يَصِحَّ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ (وَيُسَمُّونَهَا) أَيْ مُنَاسَبَتَهُ (مُلَاءَمَتَهُ) بِالْهَمْزَةِ أَيْ مُوَافَقَتَهُ لِلْحُكْمِ (وَتَسْتَلْزِمُ) مُنَاسَبَتُهُ (كَوْنَهُ) أَيْ الْوَصْفِ (غَيْرَ نَابٍ) أَيْ بَعِيدٍ (عَنْ الْحُكْمِ) وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى بِصَلَاحِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ (كَتَعْلِيلِ) وُقُوعِ (الْفُرْقَةِ) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى (بِالْإِبَاءِ) فَإِنَّهُ يُنَاسِبُهُ (بِخِلَافِهَا) أَيْ الْفُرْقَةِ (بِإِسْلَامِ الزَّوْجَةِ) فَإِنَّهُ نَابٍ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ وَالْأَمْلَاكِ قَاطِعًا لَهَا وَكَيْفَ لَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنَى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» وَالْمَحْظُورُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَانْقِطَاعُ النِّكَاحِ عُقُوبَةٌ وَإِبَاءُ الْإِسْلَامِ رَأْسُ أَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ (كَمَا سَيَأْتِي) ذِكْرُهُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ صَلَاحُ الْوَصْفِ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِلْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ مُنَاسَبَةَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ نَابِيَةٍ عَنْهَا فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهَا يَصْلُحُ عِلَّةً وَمَا لَا فَلَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شُرِعَ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِمَا نُقِلَ عَمَّنْ عُرِفَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِبَيَانِهِمْ (وَفُسِّرَ) التَّأْثِيرُ (بِأَنْ يَكُونَ لِجِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (تَأْثِيرٌ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ الْكَثِيرَةِ) بِأَنْ تَزِيدَ عَلَى خَمْسٍ (بِالْإِغْمَاءِ) إذْ (لِجِنْسِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْإِغْمَاءُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ تَأْثِيرٌ (فِيهِ) أَيْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ إسْقَاطُ الصَّلَاةِ وَمَا يُقَالُ إنَّهُ الْحَرَجُ حَتَّى لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ إذَا ذَهَبَ الْعَجْزُ فَهُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ (أَوْ) لِجِنْسِهِ تَأْثِيرٌ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (كَالْإِسْقَاطِ) لِلصَّلَاةِ عَنْ الْحَائِضِ (بِمَشَقَّتِهِ) أَيْ فِعْلِهَا بِوَاسِطَةِ كَثْرَتِهَا.
(وَجِنْسُهُ) أَيْ هَذَا الْوَصْفِ (الْمَشَقَّةُ الْمُتَحَقِّقَةُ فِي مَشَقَّةِ السَّفَرِ) مُؤَثِّرٌ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (السُّقُوطُ الْكَائِنُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ (وَعَنْ بَعْضِهِمْ نَفْيُهُ) أَيْ كَوْنِ تَأْثِيرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ مِنْ التَّأْثِيرِ (وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ هُوَ اعْتِبَارُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا كَمَا عَزَاهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ إلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَقَبْلَهُ وَالْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ مِنْ التَّأْثِيرِ وَبَعْضُهُ مُتَّجَهٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ دُونَ الْبَعْضِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْوَجْهُ سُقُوطُ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ) مِنْ التَّأْثِيرِ (بِمَا قَدَّمْنَا) كَأَنَّهُ يُرِيدُ قَوْلَهُ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقِيَاسِ مِمَّا جِنْسُهُ فِي الْعَيْنِ لَيْسَ إلَّا بِجَعْلِ الْعَيْنِ عِلَّةً بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهَا لِعِلَّةِ جِنْسِهِ فَيُرْجَعُ إلَى اعْتِبَارِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ (دُونَ) سُقُوطِ (قَبْلِهِ) أَيْ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ مِنْ التَّأْثِيرِ (بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ) لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ (أَوْ) يَكُونُ (لِعَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ تَأْثِيرٌ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ (كَالْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي التَّقَدُّمِ) عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ (فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ) لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْحُكْمِ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ عَيْنُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ (فِي جِنْسِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (التَّقْدِيمُ) الصَّادِقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقَدُّمِ (فِي الْمِيرَاثِ) وَالْإِنْكَاحِ (أَوْ) يَكُونُ لِعَيْنِهِ تَأْثِيرٌ (فِي عَيْنِهِ ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ الصَّغِيرِ) ثُمَّ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (كَوْنُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَالسُّكْرِ فِي الْحُرْمَةِ) إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنٌ وَالسُّكْرُ عِلَّةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
(وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ الْحُكْمِ بِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا (مُخْرِجٌ لَهُ) أَيْ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (عَنْ دَلَالَةِ التَّأْثِيرِ عَلَى الِاعْتِبَارِ) أَيْ كَوْنِ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا بِالتَّأْثِيرِ فَتَكُونُ عِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةً (إلَى الْمَنْصُوصَةِ) أَيْ إلَى أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً فَلَا تَكُونُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُؤَثِّرِ بَلْ مِنْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا الْكَلَامَ هَذَا (إذْ لَمْ يَبْقَ مَعَ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ) بَعْدَ النَّصِّ
(3/158)
وَالْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ (إلَّا الْإِخَالَةُ) فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ إذَا ظَهَرَتْ فَدَلِيلُ اعْتِبَارِ مَا قَامَتْ بِهِ أَمَّا النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ التَّأْثِيرُ وَهُوَ بِثُبُوتِ تَأْثِيرِ جِنْسِ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الَّذِي يُرَادُ إثْبَاتُهُ أَوْ الْإِخَالَةُ فَإِذَا فُرِضَ ثُبُوتُ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ بِنَصٍّ خَرَجَ عَنْ التَّأْثِيرِ.
(وَيَنْفُونَ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (إيجَابَهَا) أَيْ الْإِخَالَةِ الْحُكْمَ (مُجَوِّزِي الْعَمَلِ قَبْلَهُ) أَيْ التَّأْثِيرِ (بِهَا) أَيْ الْإِخَالَةِ (كَالْقَضَاءِ بِالْمَسْتُورِينَ يَنْفُذُ وَلَا يَجِبُ) هَذَا وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْلَى فِي حُسْنِ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ لِعَيْنِهِ فِي جِنْسِهِ كَالْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِي جِنْسِهِ التَّقَدُّمُ فِي الْمِيرَاثِ أَوْ لِعَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ كَمَا فِي كَشْفِ الْمَنَارِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ عَنْ بَعْضِهِمْ نُفِيَ الْجِنْسُ فِي الْجِنْسِ مِنْ التَّأْثِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ وَهُوَ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَالْوَجْهُ سُقُوطُ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ مِنْهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ دُونَ قَلْبِهِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ ثُمَّ يَلْزَمُ الْكَشْفَ كَوْنُهُ إلَخْ (وَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (أَعَمُّ مِنْهُ) أَيْ الْمُؤَثِّرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ (وَمِنْ الْمُلَائِمِ الْأَوَّلُ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ بِأَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِهِ مَعَ الْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ مَعَ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ (وَمَا مِنْ الْمُرْسَلِ) أَيْ وَثَلَاثَةِ أَقْسَامِ الْمُلَائِمِ الْمُرْسَلِ وَهِيَ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَيْنُ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْمَحَلِّ لَكِنْ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ أَوْ جِنْسِهِ (فَشَمِلَ) الْمُؤَثِّرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ (سَبْعَةُ أَقْسَامٍ فِي عُرْفِ الشَّافِعِيَّةِ إذْ لَمْ يُقَيِّدُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (الثَّلَاثَةَ) الَّتِي هِيَ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ وَتَأْثِيرُ الْعَيْنِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ
(بِوُجُودِ الْعَيْنِ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْمَحَلِّ أَيْ الْأَصْلِ. وَكَذَا تَصْرِيحُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِمَا اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ إلَخْ) أَيْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ، وَمَا اُعْتُبِرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ (مَقْبُولٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ) التَّعْلِيلُ بِأَحَدِهِمَا (قِيَاسًا بِأَنْ لَمْ يَتَرَكَّبْ مَعَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ) أَيْ الْعَيْنِ أَوْ الْجِنْسِ مَعَ الْعَيْنِ (وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ) أَيْ الْمَقْبُولِ (لِغَيْرِ مَا جِنْسُهُ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفِ (أَبْعَدُ) أَيْ مَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ جِنْسَهُ الْأَبْعَدَ (كَتَضَمُّنِ مُطْلَقِ مَصْلَحَةٍ) أَيْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ (بِخِلَافِ) جِنْسِهِ (الْبَعِيدِ) الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الْأَبْعَدِ وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً فَإِنَّهُ يُقْبَلُ (كَالرَّمْيِ) أَيْ كَجَوَازِهِ (إلَى التُّرْسِ الْمُسْلِمِ إذَا غَلَبَ ظَنُّ نَجَاتِهِمْ) أَيْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالرَّمْيِ إلَيْهِ (إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَطْعِ) بِالنَّجَاةِ (كَالْغَزَالِيِّ بِخِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي السَّفِينَةِ) أَيْ رَمْيِ بَعْضِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ إذَا عُلِمَتْ نَجَاةُ الْبَعْضِ الْآخَرِينَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ غَيْرُ كُلِّيَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى هَذَا التَّقْيِيدِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَادَةً فِي تَوْضِيحِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ (إذْ دَلِيلُ الِاعْتِبَارِ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي مُطْلَقِهَا) وَالْكَلَامُ فِيمَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ الْإِخَالَةُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ وَلَا مُجَوِّزًا لَهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ (وَالْإِخَالَةُ إبْدَاءُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ) حُكْمِ (الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ بِمُلَاحَظَتِهِمَا) أَيْ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَذْكُورَةَ يُخَالُ أَيْ يُظَنُّ أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ (فَيَنْتَهِضُ) إبْدَاءُ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ (عَلَى الْخَصْمِ الْمُنْكِرِ لِلْمُنَاسَبَةِ) أَيْ لِمُنَاسَبَةِ الْحُكْمِ لَا الْمُنْكِرِ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْمُنَاسَبَةِ لَا تُوجِبُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْإِخَالَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ (مَا عَنْ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ) وَلَفْظُهُ فِي التَّقْوِيمِ بِدُونِ ذِكْرِ الْأُمَّةِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ النُّسْخَةُ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ فَصْلٍ فِي الْعِلَّةِ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا زَادَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَامَّةُ الْعُقُولِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ فَيَتَّضِحُ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ (فَإِنَّ الْمُنْكِرَ حِينَئِذٍ مُكَابِرٌ) أَيْ مُعَانِدٌ فَلَا يُقْبَلُ إنْكَارُهُ.
(وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ
(3/159)
(أَرَادَ) أَبُو زَيْدٍ بِكَوْنِ الْمُنَاسِبِ مَا ذَكَرَهُ (حُجِّيَّتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ) أَيْ يَكْفِي هَذَا لِلنَّاظِرِ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ عَقْلَهُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ لَا لِلْمُنَاظِرِ إذْ رُبَّمَا يَقُولُ الْخَصْمُ هَذَا مِمَّا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ عَلَيَّ أَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ وَمِنْ ثَمَّةَ مَنَعَ أَبُو زَيْدٍ التَّمَسُّكَ بِالْمُنَاسَبَةِ فِي إثْبَاتِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ بَلْ شَرَطَ ضَمَّ الْعَدَالَةِ إلَيْهَا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا مُؤَثِّرًا لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (فِي نَفْيِهِ) أَيْ هَذَا الطَّرِيقِ الْمُسَمَّى بِالْإِخَالَةِ لِأَنَّهُ (لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ إذْ يُقَالُ) أَيْ يَقُولُ الْمُنَاظِرُ (لَمْ يَقْبَلْهُ عَقْلِي) عِنْدَ قَوْلِ الْمُنَاظِرِ هَذَا مُنَاسِبٌ لِأَنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ (يُفِيدُهُ) أَيْ أَنَّ مُرَادَ أَبِي زَيْدٍ كَوْنُ الْمُنَاسِبِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَإِلَّا) لَوْ كَانُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ مُرَادَ أَبِي زَيْدٍ حُجِّيَّتُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَيْضًا (لَمْ يُسْمَعْ) قَوْلُهُ لَمْ يَقْبَلْهُ عَقْلِي لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ حِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُمْ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ (وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ تَفْصِيلُهَا لِلْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ الْإِسْكَارُ إزَالَةُ الْعَقْلِ وَهُوَ) أَيْ إزَالَةُ الْعَقْلِ (مَفْسَدَةٌ يُنَاسِبُ حُرْمَةَ مَا تَحْصُلُ بِهِ) الْإِزَالَةُ (وَ) يُنَاسِبُ (الزَّجْرَ عَنْهُ) أَيْ عَمَّا تَحْصُلُ بِهِ الْإِزَالَةُ وَهَذَا لَا تَتَأَتَّى فِيهِ الْمُعَارَضَةُ (وَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْإِجْمَالِيِّ) أَيْ دَعْوَةِ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَاعِ (كَقَبِلَهُ عَقْلِيٌّ أَوْ نَاسَبَ عِنْدِي) وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ فَانْتَفَى نَفْيُهُمْ صِحَّةَ اعْتِبَارِ الْإِخَالَةِ بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ (نَعَمْ يَنْتَهِضُ) فِي دَفْعِ الْإِخَالَةِ وَكَوْنُ الْوَصْفِ بَعْدَ ظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ لَا تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهُ لِلْحُكْمِ (أَنَّهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةَ (لَيْسَتْ مَلْزُومَةً لِوَضْعِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ مَا قَامَتْ بِهِ) الْمُنَاسَبَةُ أَيْ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مُنَاسَبَةِ وَصْفٍ لِحُكْمٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِشَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ (لِلتَّخَلُّفِ) لِلْحُكْمِ (فِي مَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ) أَيْ فِي وَصْفِ الْمُنَاسِبِ الْمَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ (مِنْ الْمُرْسَلِ وَغَيْرِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ.
(فَإِنْ قِيلَ الظَّنُّ حَاصِلٌ قُلْنَا إنْ عَنِيَ ظَنَّ الْمُنَاسَبَةِ لِلْحُكْمِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يَسْتَلْزِمُ وَضْعَ الشَّارِعِ إيَّاهُ) أَيْ الْوَصْفَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ التَّخَلُّفِ فِي الْمَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ (وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا) الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِبَيَانِ إبْطَالِ كَوْنِ الْإِخَالَةِ طَرِيقًا مُعْتَبَرًا لِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ (وَمَا زَادُوهُ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (مِنْ أَوْجُهِ الْإِبْطَالِ) لِكَوْنِهَا طَرِيقًا مُعْتَبَرًا أَيْضًا (عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُخَالِ (قَبْلَ ظُهُورِ الْأَثَرِ) بِأَحَدِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهَا لِأَنَّ الْأَوْجُهَ الْمَذْكُورَةَ اقْتَضَتْ إهْدَارَ اعْتِبَارِ الْإِخَالَةِ شَرْعًا فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ لَكَانَ تَأْثِيرًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَعْنِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (وَلَيْسَ الْقِيَاسُ) لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ (عَلَى) جَوَازِ (الْقَضَاءِ بِمَسْتُورَيْنِ) كَمَا قَالُوا (صَحِيحًا لِأَنَّهُ إنْ فُرِضَ فِيهِ) أَيْ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ بِهِمَا (دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ) أَيْ الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ مَا لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُمَا (فَهُوَ) أَيْ الدَّلِيلُ الْمَفْرُوضُ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ بِهِمَا (مُنْتَفٍ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ) بِالْإِخَالَةِ فَيَبْقَى مَا يُنْسَبُ حُكْمًا إلَى الْإِخَالَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا قَالَ إنْ فُرِضَ فِيهِ دَلِيلٌ لِانْتِقَائِهِ فِيمَا يَظْهَرُ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَنْتَفِ بَلْ كَانَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْوَصْفِ ثَابِتًا (وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ) الْعَمَلُ بِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْوَصْفِ عَنْ وُجُوبِهِ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ (يُفِيدُ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ) إيَّاهُ (وَهُوَ) أَيْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ (تَرْتِيبُ الْحُكْمِ) عَلَيْهِ أَيْ وَاعْتِبَارُ الشَّارِعِ الْوَصْفَ لَيْسَ إلَّا بِكَوْنِهِ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ حَيْثُمَا وُجِدَ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ فِي مُحَالِ وُجُودِهِ لَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَأَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إذْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِهِ بَعْدَ جَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ أَيْنَمَا كَانَ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. (وَاعْلَمْ أَنَّ) (الْمُنَاسَبَةَ لَوْ) كَانَتْ (بِحِفْظِ أَحَدِ الضَّرُورِيَّاتِ) الْخَمْسِ (لَزِمَ) الْعَمَلُ بِهَا (عَلَى) قَوْلِ (الْكُلِّ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَلَيْسَ) هَذَا الطَّرِيقُ (إخَالَةً بَلْ مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَى اعْتِبَارِهِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ فَلَا تَذْهَلْ عَنْهُ
[تَتِمَّةٌ تَقْسِيمَ لَفْظُ الْعِلَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَجَازِ]
(تَتِمَّةٌ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ) اللَّفْظِيِّ (أَوْ الْمَجَازِ لَا حَقِيقَتِهَا إذْ لَيْسَتْ) حَقِيقَتُهَا (إلَّا الْخَارِجَ)
(3/160)
عَنْ الْمَعْلُولِ (الْمُؤَثِّرِ) فِيهِ فَقَسَّمُوا مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُهَا بِأَحَدِ ذَيْنِك الِاعْتِبَارَيْنِ (إلَى سَبْعَةٍ) مِنْ الْأَقْسَامِ (ثَلَاثَةٌ) مِنْهَا (بَسَائِطُ) وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُرَكَّبَةٌ فَالْبَسَائِطُ (إلَى عِلَّةٍ اسْمًا وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ لِمُوجَبِهَا أَوْ الْمُضَافُ إلَيْهَا) الْحُكْمُ (بِلَا وَاسِطَةٍ) وَإِنْ كَانَتْ الْوَاسِطَةُ ثَابِتَةً فِي الْوَاقِعِ وَمَعْنَى إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا قَتَلَهُ بِالرَّمْيِ وَعَتَقَ بِالشِّرَاءِ وَهَلَكَ بِالْجَرْحِ وَتَفْسِيرُهَا اسْمًا بِمَا تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ الْحُكْمِ وَمَشْرُوعَةً لَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَا فِي مِثْلِ الرَّمْيِ وَالْجَرْحِ (وَ) إلَى عِلَّةٍ (مَعْنًى بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا) فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ (وَ) إلَى عِلَّةٍ (حُكْمًا بِأَنْ يَتَّصِلَ بِهَا) الْحُكْمُ (بِلَا تَرَاخٍ وَهِيَ) أَيْ الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا الْعِلَّةُ (الْحَقِيقِيَّةُ وَمَا سِوَاهُ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعِ (مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ) كَمَا هُوَ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ (وَالْحَقُّ أَنَّ تِلْكَ) أَيْ الْعِلَّةَ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا الْعِلَّةُ (التَّامَّةُ تُلَازِمُهَا وَمَا سِوَاهَا) أَيْ تِلْكَ (قَدْ يَكُونُ) عِلَّةً (حَقِيقِيَّةً لِدَوَرَانِهَا) أَيْ الْحَقِيقَةِ (مَعَ الْعِلَّةِ مَعْنًى فَتَثْبُتُ) الْحَقِيقَةُ (فِي أَرْبَعَةٍ) التَّامَّةِ (كَالْبَيْعِ) الصَّحِيحِ (الْمُطْلَقِ) عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ (لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ) الصَّحِيحِ (لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ) الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ (لِلْقِصَاصِ) وَفِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ (وَالْإِعْتَاقِ لِزَوَالِ الرِّقِّ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ عِلَّةٌ اسْمًا لِوَضْعِهِ لِمُوجِبِهِ الْمَذْكُورِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَمَعْنًى لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ وَحُكْمًا لِأَنَّ مُوجِبَهُ غَيْرُ مُتَرَاخٍ عَنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ كَمَا قَالَ (وَيَجِبُ كَوْنُهُ) أَيْ الْإِعْتَاقِ لِزَوَالِ الرِّقِّ (عَلَى قَوْلِهِمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا (أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ (فَلِإِزَالَةِ الْمِلْكِ) أَيْ فَالْإِعْتَاقُ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ أَوْ زَوَالِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَهَذَا فِي الْبَيِّنِ.
وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمُرَكَّبَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ السَّبْعَةِ فَنَقُولُ (وَإِلَى الْعِلَّةِ اسْمًا فَقَطْ كَالْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ) بِشَرْطٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَمَّا أَنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا فَلِوَضْعِهِ لِحُكْمِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ يَثْبُتُ بِهِ وَيُضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ مَعْنًى فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي حُكْمِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا فَلِتَرَاخِي حُكْمِهِ عَنْهُ إلَى زَمَانِ وُجُوبِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ (قِيلَ) أَيْ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَارِ (وَالْيَمِينُ قَبْلَ الْحِنْثِ لِلْإِضَافَةِ) لِلْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ إلَيْهَا (يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَكِنْ لَا يُؤَثِّرُ) الْيَمِينُ (فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْحُكْمِ قَبْلَ الْحُكْمِ (وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْحَالِ وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ الْيَمِينِ عِلَّةً اسْمًا إنَّمَا هُوَ (عَلَى) التَّعْرِيفِ (الثَّانِي) لِلْعِلَّةِ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهَا الْحُكْمُ بِلَا وَاسِطَةٍ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْيَمِينَ (لَيْسَتْ بِمَوْضُوعَةٍ إلَّا لِلْبِرِّ وَإِلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى فَقَطْ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ) الشَّرْعِيِّ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا (وَ) الْبَيْعُ (الْمَوْقُوفُ) كَبَيْعِ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا وَكَالَةٍ وَيُسَمَّى بَيْعَ الْفُضُولِيِّ (لِوَضْعِهِ) أَيْ الْبَيْعِ شَرْعًا لِحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ (وَتَأْثِيرِهِ فِي) إثْبَاتِ (الْحُكْمِ) عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ (وَإِنَّمَا تَرَاخَى) الْحُكْمُ عَنْهُ (لِمَانِعٍ) وَهُوَ اقْتِرَانُهُ بِالشَّرْعِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ وَعُدِمَ إذْنُ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُحْتَرَمَ لَا يَزُولُ بِدُونِ رِضَا الْمَالِكِ أَوْ الْقَائِمِ مَقَامَهُ (حَتَّى يَثْبُتَ) الْحُكْمُ (عِنْدَ زَوَالِهِ) أَيْ الْمَانِعِ بِأَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ أَوْ يُجِيزَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ (وَمِنْ وَقْتِ الْإِيجَابِ) أَيْ الْعَقْدِ (فَيَمْلِكُ) الْمُشْتَرِي (الْمَبِيعَ بِوَلَدِهِ الَّذِي حَدَثَ قَبْلَ زَوَالِهِ) أَيْ الْمَانِعِ.
وَكَذَا سَائِرُ زَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ (بَعْدَ الْإِيجَابِ) وَهَذِهِ آيَةُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةً لَا سَبَبًا لِأَنَّ السَّبَبَ يَثْبُتُ مَقْصُودًا لَا مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ نَعَمْ فُرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ لِمَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَفِي الْمَوْقُوفِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِصِفَةِ التَّوَقُّفِ وَتَوَقُّفُ الشَّيْءِ لَا يُعْدِمُ أَصْلَهُ فَيَتَوَقَّفُ إعْتَاقُهُ عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ فِي هَذَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ حُكْمًا فَعِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَصِيرُ مُؤَثِّرًا مِنْ الْأَصْلِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ الْإِسْقَاطِ أَوْ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَنِدَةٌ إلَى زَمَانِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَعَهُ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ تَأَخَّرَ صُورَةً
(3/161)
لِمَا عُلِمَ مِنْ تَحْقِيقِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فِي الزَّوَائِدِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَوْقُوفِ فَلَا تَأْخِيرَ لِلْحُكْمِ عَنْهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَ الْحُكْمِ فِي السَّبَبِ فِي صُورَةِ الِاسْتِنَادِ مَمْنُوعٌ إذْ الْإِجَازَةُ وَغَيْرُهَا مُتَأَخِّرَةٌ حَقِيقَةً وَصُورَةً وَأَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي الزَّوَائِدِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَوْقُوفِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَلَكِنَّهُ إذَا ثَبَتَ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا تَحَقُّقُ الْأَحْكَامِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّابِتِ بِهِ وَالثَّابِتِ بِالِاسْتِنَادِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالِاسْتِنَادِ مَا لَا يَكُونُ ثَابِتًا حَقِيقَةً وَشَرْعًا ثُمَّ يَثْبُتُ وَيَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَعَهُ حَقِيقَةً بَلْ يُوجِبُ خِلَافَ ذَلِكَ وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ ثَابِتٌ حَقِيقَةً مَعَ السَّبَبِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ فَيَنْظَهِرُ بَعْدَ زَمَانٍ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ حُكْمُ الِاسْتِنَادِ يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْفَائِتِ حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ وَمَاتَ الْوَلَدُ ثُمَّ سَقَطَ الْخِيَارُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِنَادِ فِي حَقِّ الْهَالِكِ حَتَّى لَا يَنْقُصَ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ التَّبْيِينِ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِنَادِ مُتَأَخِّرٌ حَقِيقَةً وَصُورَةً وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ تَقْدِيرًا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّرَاخِي هَذَا وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تَرَاخَى لِمَانِعٍ عَلَى قَوْلِ مُجَوِّزِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُنْكِرِهِ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَيْهِ فَيُجَابُ بِمَا فِي التَّلْوِيحِ الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ انْتَهَى عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَوْ كَانَ فِي تَخْصِيصِهَا مُطْلَقًا لَكَانَ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُنْكِرَ يَقُولُ الْعِلَّةُ الْوَصْفُ الْمُدَّعَى عِلَّةً مَعَ خُلُوِّهِ عَنْ الْمَانِعِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَالْوَصْفُ مَعَ الْمَانِعِ جُزْءُ عِلَّةٍ وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْعِلَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى وَإِنَّمَا تَرَاخَى لِمَانِعٍ أَيْ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِعَدَمِ تَمَامِ عِلَّتِهِ لِفَوَاتِ جُزْئِهَا وَهُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ لِوُجُودِهِ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ تَمَّتْ الْعِلَّةُ وَالْمُجِيزُ يَقُولُ الْخُلُوُّ عَنْ الْمَانِعِ لَيْسَ بِجُزْءِ عِلَّةٍ بَلْ الْوَصْفُ وَحْدَهُ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخَلُّفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ مُمْكِنٌ وَلَا يَظْهَرُ بِالتَّخَلُّفِ كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ عِلَّةٍ بَلْ هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقَةً مَعَ التَّخَلُّفِ وَلَا إشْكَالَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (وَالْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ) كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا لِوَضْعِهِ شَرْعًا لِحُكْمِهِ وَإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ.
(وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمُضَافِ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا (أَسْقَطَ التَّصَدُّقَ الْيَوْمَ مَا أَوْجَبَهُ قَوْلُهُ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِدِرْهَمٍ غَدًا) لِأَنَّهُ إذْ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ وَ (لَمْ يَلْزَمْهُ) التَّصَدُّقُ (فِي الْحَالِّ) لِتَرَاخِيهِ عَنْهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَنْهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ لَا مُسْتَنِدًا إلَى زَمَانِ الْإِيجَابِ (وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (النِّصَابُ) لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ عِلَّتُهُ اسْمًا لِوَضْعِهِ فِي الشَّرْعِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ وَمَعْنًى لِتَأْثِيرِهِ فِيهِ لِأَنَّ النَّمَاءَ يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ فِي وُجُوبِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي النِّصَابِ لَا حُكْمًا لِتَرَاخِيهِ إلَى تَحَقُّقِ زَمَانِ النَّمَاءِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ لِهَذَا) أَيْ النِّصَابِ (شَبَهًا بِالسَّبَبِ لِتَرَاخِي حُكْمِهِ إلَى مَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ) مِنْ جِهَةِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ مَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ (النَّمَاءُ الَّذِي أُقِيمَ الْحَوْلُ الْمُمْكِنُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النَّمَاءِ (مُقَامَهُ) أَيْ النَّمَاءِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالنَّمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ فَضْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ مُوجِبٌ لِلْإِحْسَانِ كَأَصْلِ الْغَنِيِّ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْيُسْرُ فِي الْوَاجِبِ وَيَزْدَادُ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ فَكَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْوُجُوبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَ شَبِيهًا بِعِلَّةِ الْوُجُوبِ (لَا) إلَى (الْعِلَّةِ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ إلَى الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ حَقِيقَةُ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ (تَمَحَّضَ) النِّصَابُ (سَبَبًا) لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَحِّضٍ سَبَبًا لَهُ لِأَنَّ النَّمَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّكَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الْوُجُودِ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ النَّمَاءَ حَقِيقَةُ الْعِلِّيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَكَانَ لِلنِّصَابِ حَقِيقَةُ السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا دَلَّ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ فَسَرَقَهُ فَإِنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ أَصْلًا فَإِذَا كَانَ لِلنَّمَاءِ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَانَ لِلنِّصَابِ شَبَهُ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ تَوَسُّطَ حَقِيقَةِ الْعِلِّيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ يُوجِبُ حَقِيقَةَ السَّبَبِيَّةِ فَتَوَسُّطُ شَبَهِ الْعِلِّيَّةِ يُوجِبُ شَبَهَ السَّبَبِيَّةِ ثُمَّ شَبَهُ النِّصَابِ غَالِبٌ عَلَى شَبَهِهِ بِالسَّبَبِ لِأَنَّ شَبَهَهُ بِالْعِلِّيَّةِ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ إذْ النِّصَابُ
(3/162)
أَصْلٌ لِوَصْفِهِ وَشَبَهُهُ بِالسَّبَبِ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى النَّمَاءِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَتَابِعٌ لَهُ.
وَالشَّبَهُ الْحَاصِلُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ لِأَصَالَتِهِ رَاجِحٌ عَلَى الشَّبَهِ الْمُتَحَقِّقِ لَهُ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ التَّابِعِ لَهُ إذْ الْحَاصِلُ بِالذَّاتِ لِأَصَالَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا رَاجِحٌ عَلَى الْحَاصِلِ بِوَاسِطَةِ الْوَصْفِ التَّابِعِ الْغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ النِّصَابُ قَبْلَ الْحَوْلِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لَيْسَ فِيهِ شَبَهُ السَّبَبِ وَالْحَوْلُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ تَيْسِيرًا كَالسَّفَرِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَلِهَذَا صَحَّ تَعْجِيلُهُ قَبْلَهُ وَلَوْ كَانَ وَصْفُ كَوْنِهِ حَوْلِيًّا مِنْ الْعِلِّيَّةِ لَمَا صَحَّ التَّعْجِيلُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ قُلْنَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ عِلَّةً تَامَّةً لِوُجُوبِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ لَوَجَبَتْ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي الْحَوْلِ كَمَا فِيمَا بَعْدَهُ وَإِنَّمَا صَحَّ التَّعْجِيلُ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَبَهِ الرَّاجِعَةِ بِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ وَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ غَيْرَ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْمَوْصُوفِ اسْتَنَدَ عِنْدَ ثُبُوتِهِ إلَى أَصْلِ النِّصَابِ فَصَارَ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَوْلِيٌّ وَاسْتَنَدَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إلَى أَوَّلِهِ أَيْضًا فَصَحَّ التَّعْجِيلُ بِنَاءً عَلَى هَذَا لِوُقُوعِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْعِلِّيَّةِ تَقْدِيرًا وَبِهَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ النِّصَابَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ وَصْفَ النَّمَاءِ كَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ فَلَا يَصِحُّ التَّعْجِيلُ قَبْلَ الْحَوْلِ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ نَعَمْ هَذَا الْمُعَجَّلُ إنَّمَا يَصِيرُ زَكَاةً إذَا انْقَضَى الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وَصْفِ الْعِلِّيَّةِ أَوَّلَ الْحَوْلِ ثُمَّ اسْتِنَادِ وَصْفِهَا إلَى أَوَّلِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَدْيُونِ وَيَصِيرُ الدَّيْنُ حَالًّا وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَوْ مَاتَ الْمُزَكِّي فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ سَقَطَ الْوَاجِبُ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْمَدْيُونُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الْأَجَلِ وَالْمُزَكِّي لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ الْحَوْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ) إذْ هُوَ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْأُجْرَةِ اسْمًا لِأَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهِ وَمَعْنًى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ مِلْكِهِمَا (وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ عِلَّةً لَهُ اسْمًا وَمَعْنًى (صَحَّ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ) قَبْلَ الْوُجُوبِ وَاشْتِرَاطُ تَعْجِيلِهَا كَمَا صَحَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ (وَلَيْسَ) عَقْدُ الْإِجَارَةِ (عِلَّةً حُكْمًا) لِلْمَنَافِعِ (لِعَدَمِ الْمَنَافِعِ) الَّتِي تُوجَدُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقْتَ عَقْدِهَا (وَ) عَدَمِ (ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا) أَيْ الْمَنَافِعِ (فِي الْحَالِ) لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ.
(وَكَذَا) هُوَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا (فِي الْأُجْرَةِ) أَيْ لَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ فِي الْحَالِ فَكَذَا هِيَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْإِجَارَةِ (وُضِعَ لِمِلْكِهِمَا) أَيْ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ (وَ) هُوَ (الْمُؤَثِّرُ فِيهِمَا) أَيْ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مِلْكًا كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَكَانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ هَذَا أَوَّلًا كَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى (وَيُشْبِهُ) عَقْدُ الْإِجَارَةِ (السَّبَبَ لِمَا فِيهِ) أَيْ عَقْدِهَا (مِنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ إلَى مُقَارَنَتِهِ) أَيْ انْعِقَادِهَا (الِاسْتِيفَاءَ) لِلْمَنْفَعَةِ (إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا) أَيْ لِلْمَنْفَعَةِ يَعْنِي الْإِجَارَةَ.
فَإِنْ صَحَّتْ فِي الْحَالِ بِإِقَامَةِ الْعَيْنِ مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّهَا فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مُضَافَةٌ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهَا تَنْعَقِدُ حِينَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْإِجَارَةُ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ (وَمِمَّا يُشْبِهُ السَّبَبَ) أَيْ وَمِنْ الْعِلَلِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا الشَّبِيهَةُ بِالسَّبَبِ (مَرَضُ الْمَوْتِ) إذْ هُوَ (عِلَّةُ) اسْمًا وَمَعْنًى (الْحَجْرِ عَنْ التَّبَرُّعِ) بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَنَحْوِهَا (لِحَقِّ الْوَارِثِ) أَيْ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَعْنِي (مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي الشَّرْعِ لِلتَّغْيِيرِ مِنْ الْإِطْلَاقِ إلَى الْحَجْرِ ثُمَّ الْحَجْرُ عَنْ هَذَا مُضَافٌ إلَيْهِ شَرْعًا وَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ أَيْضًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ حَدِيثُ «سَعِيدٍ حَيْثُ قَالَ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَالَ فَبِالنِّصْفِ قَالَ لَا قَالَ فَبِالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَيُشْبِهُ) مَرَضُ الْمَوْتِ (السَّبَبَ لِأَنَّ الْحُكْمَ) الَّذِي هُوَ الْحَجْرُ (يَثْبُتُ بِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَرَضٌ مُمِيتٌ وَلَمَّا كَانَ) الْمَوْتُ (مُنْعَدِمًا فِي الْحَالِ لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ فَصَارَ الْمُتَبَرَّعُ بِهِ مِلْكًا) لِلْمُتَبَرَّعِ لَهُ (لِلْحَالِ) لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ حِينَئِذٍ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَمْلِيكٍ) جَدِيدٍ (لَوْ بَرِئَ) لِاسْتِمْرَارِ الْمَانِعِ عَلَى الْعَدَمِ.
(وَإِذَا مَاتَ صَارَ
(3/163)
كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ) لِاتِّصَافِ الْمَرَضِ بِكَوْنِهِ مُمِيتًا مِنْ أَوَّلِ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْدُثُ بِآلَامٍ وَعَوَارِضَ مُزِيلَةٍ لِقُوَى الْحَيَاةِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ فَيُضَافُ إلَيْهِ كُلِّهِ وَإِذَا اسْتَنَدَ الْوَصْفُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ اسْتَنَدَ بِحُكْمِهِ (فَتَوَقَّفَ) نَفَاذُهُ (عَلَى إجَازَتِهِمْ) أَيْ الْوَرَثَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.
(وَكَذَا التَّزْكِيَةُ) أَيْ تَعْدِيلُ شُهُودِ الزِّنَا (عِلَّةُ وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالرَّجْمِ) لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لَهُ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّبَبَ وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ عِلَّةً لَهُ اسْمًا وَمَعْنًى وَشَبَهِهِ بِالسَّبَبِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا فَلَا لِعَدَمِ تَرَاخِيهِ عَنْهُ (لَكِنَّ) كَوْنَ التَّزْكِيَةِ عِلَّةً (بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ (فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ دُونَهَا) أَيْ التَّزْكِيَةِ بَلْ تُفِيدُ ظُهُورَهُ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ كَمَا يُعْلَمُ قَرِيبًا فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى التَّزْكِيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (فَلَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ) وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ (ضَمِنُوا الدِّيَةَ عِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ (غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ) التَّزْكِيَةُ وَذِكْرُ الرَّاجِعِ إلَيْهَا بِاعْتِبَارِ التَّعْدِيلِ (صِفَةً لِلشَّهَادَةِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الشَّهَادَةِ أَيْضًا فَأَيِّ الْفَرِيقَيْنِ رَجَعَ ضَمِنَ (وَعِنْدَهُمَا لَا) يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ إذَا رَجَعُوا لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ قَالُوا هُوَ مُحْصَنٌ وَالضَّمَانُ يُضَافُ إلَى سَبَبٍ هُوَ تَعَدٍّ لَا إلَى مَا هُوَ حَسَنٌ وَخَيْرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ رَجَعُوا مَعَ الْمُزَكِّينَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُزَكُّونَ شَيْئًا وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُزَكِّينَ لَيْسُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ مُوجِبًا إذْ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَالْمُزَكُّونَ أَعْمَلُوا سَبَبَ التَّلَفِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَضَمِنُوا.
وَأَمَّا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ مَعَهُمْ فَقَدْ انْقَلَبَتْ الشَّهَادَةُ تَعَدِّيًا وَأَمْكَنَ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا عَلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهَا تَعَدٍّ لَمْ يَحْدُثْ بِالتَّزْكِيَةِ لِاخْتِيَارِهِمْ فِي الْأَدَاءِ فَلَمْ يُضَفْ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ
(وَكُلُّ عِلَّةِ عِلَّةٍ) هِيَ (عِلَّةٌ شَبِيهَةٌ بِالسَّبَبِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَهُوَ) أَيْ عِلَّةُ الْعِلَّةِ الشَّبِيهَةِ بِالسَّبَبِ (السَّبَبُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ أَمَّا عِلَّةٌ فَلِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى) هِيَ الْأُولَى (كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهَا) أَيْ الْأُولَى (بِوَاسِطَةِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ) أَيْ الْأُولَى (كَعِلَّةٍ تُوجِبُ) الْحُكْمَ (يُوصَفُ لَهَا) قَائِمٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ (فَيُضَافُ) الْحُكْمُ (إلَيْهَا) أَيْ الْأُولَى (دُونَ) الْمُتَخَلِّلَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ (الصِّفَةِ) كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الْوَصْفِ (وَأَمَّا الشَّبَهُ) بِالسَّبَبِ (فَلِأَنَّهَا) أَيْ الْأُولَى (لَا تُوجِبُ) الْحُكْمَ (إلَّا بِوَاسِطَةٍ) بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَهِيَ الثَّانِيَةُ كَمَا أَنَّ السَّبَبَ كَذَلِكَ (وَحَقِيقَةُ هَذَا نَفْيُ الْعِلَّةِ) لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وَاسِطَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْلُولِ (مِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ عِلَّةِ الْعِلَّةِ الشَّبِيهَةِ بِالسَّبَبِ (شِرَاءُ الْقَرِيبِ فَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْعِلَّةِ لِلْعِتْقِ فَهُوَ) أَيْ شِرَاؤُهُ (عِلَّةُ الْعِلَّةِ) لِلْعِتْقِ (فَبَيْنَ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَالْعِلَّةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِهِمَا فِيمَا قَبْلَهُ) أَيْ قِسْمِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ النِّصَابِ وَمَا بَعْدَهُ (وَانْفِرَادِ) قِسْمِ الْعِلَّةِ (الْمُشَبَّهَةِ) بِالسَّبَبِ (فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ) فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّرَاخِي لِيَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا أَيْضًا (وَ) انْفِرَادُ (الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ) الْخِيَارِ الشَّرْعِيِّ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا (وَالْمَوْقُوفُ وَإِلَى عِلَّةٍ مَعْنًى وَحُكْمًا كَآخِرِ) أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ (الْمُرَكَّبَةِ) مِنْ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ فِي الْوُجُودِ لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ وَالِاتِّصَالِ (لَا اسْمًا إذَا لَمْ يُضَفْ) الْحُكْمُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى هَذَا الْجُزْءِ الْأَخِيرِ (فَقَطْ) بَلْ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمَجْمُوعِ وَهَذَا قَوْلُ الْبَعْضِ وَمَشَى عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ إلَى أَنَّ مَا عَدَا الْأَخِيرِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَمَا فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ وَعَزَاهُ فِي التَّلْوِيحِ إلَى الْمُحَقِّقِينَ.
قُلْت وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا.
فَإِنْ قُلْت لَا لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ عِلَّةً اسْمًا أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْأَخِيرِ بِوَاسِطَةِ تَحْقِيقِ مَا قَبْلَهُ مَعَهُ.
قُلْت كَوْنُ الْحُكْمِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا قَبْلَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَيْسَ الشَّرْطُ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً اسْمًا انْتِفَاءَ الْوَاسِطَةِ فِي إضَافَتِهِ إلَيْهِ
(3/164)
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ فِي إطْلَاقِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مِثَالِهِمْ لَهُ وَهُوَ مِلْكُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِلْعِتْقِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ وَالْمِلْكِ مُؤَثِّرٌ فِي الْعِتْقِ أَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالرِّقُّ يُوجِبُ الْمَذَلَّةَ وَإِذَا صِينَتْ عَنْ أَدْنَى الرِّقَّيْنِ وَهُوَ النِّكَاحُ احْتِرَازًا عَنْ الْقَطْعِ فَلَأَنْ تُصَانَ عَنْ أَعْلَاهُمَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» وَيَفُوتُ الْعِتْقُ بِفَوَاتِ كِلَيْهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ إنْ تَأَخَّرَ الْمِلْكُ عَنْ الْقَرَابَةِ أُضِيفَ الْعِتْقُ إلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ بَلْ إلَى الْمَجْمُوعِ لَمَا كَانَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا وَلَمَا وَقَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْقَرَابَةُ أُضِيفَ الْعِتْقُ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ وَرِثَا عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ اشْتَرَيَا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَصِيرُ مُعْتِقًا بِوَاسِطَةِ الْقَرَابَةِ وَإِلَّا لَمَا غَرِمَ لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ كَمَا لَوْ وَرِثَا قَرِيبَ أَحَدِهِمَا نَعَمْ إذَا قِيلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ صَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ اسْمًا لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ لَمْ يُوضَعْ فِي الشَّرْعِ لِلْعِتْقِ وَإِنَّمَا الْمَوْضُوعُ لَهُ مِلْكُ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ الْمُحَرَّمِ لَكِنَّ فِي وُجُوبِهِ نَظَرًا لِجَعْلِ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِلَّةً اسْمًا لِلْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ إلَّا لِلْبِرِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ سَالِفًا ثُمَّ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الشَّاهِدِ الْأَخِيرِ حَتَّى يَضْمَنَ كُلَّ الْمُتْلَفِ إذَا رَجَعَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِالْمَجْمُوعِ فَيَضْمَنُ الرَّاجِعُ أَيًّا كَانَ نِصْفَ الْمُتْلَفِ ثُمَّ قِيلَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الْعِلَّةِ إذَا تَرَكَّبَتْ مِنْ وَصْفَيْنِ أَوْ أَوْصَافٍ هَلْ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ عِلَّةً أَوْ صِفَةُ الِاجْتِمَاعِ أَوْ وَصْفٌ مِنْهَا غَيْرُ عَيْنٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ الِاجْتِمَاعُ فَاخْتَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلَ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ فَسَفِينَةٌ لَا تَغْرَقُ بِوَضْعِ كُرٍّ فِيهَا وَتَغْرَقُ إذَا زِيدَ عَلَيْهِ قَفِيزٌ فَوَضَعَهُمَا إنْسَانٌ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِيهَا فَغَرِقَتْ وَتَلِفَ مَا فِيهَا فَعِنْدَ الْأَوَّلِينَ يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمَا وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي إلَى صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ إلَى قَفِيزٍ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَهُمَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْكُلُّ لَا يَتَحَقَّقُ التَّلَفُ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ الطَّرْحُ مِنْ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْكُلِّ إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا طَرَحَهُمَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مِنْ صَاحِبِهَا بِطَرْحِ الْكُرِّ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِوَضْعِ مُتْلِفٍ وَإِنْ كَانَ الطَّرْحُ مِنْ اثْنَيْنِ.
فَإِنْ طَرَحَا مَعًا فَعَلَيْهِمَا أَوْ مُتَعَاقِبًا فَعَلَى الْأَخِيرِ مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَعَلَيْهِمَا عِنْدَ زُفَرَ لِأَنَّ التَّلَفَ حَقِيقَةً حَصَلَ بِالْكُلِّ أَوْ تَزَايُدِ غَيْرِ عَيْنٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعَاقُبِ وَالْقِرَانِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا التَّلَفُ حَقِيقَةً وَإِنْ حَصَلَ كَمَا قَالَ فَالْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَنْعَقِدُ عِلَّةُ التَّلَفِ بِدُونِ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَصَارَ هُوَ الْمُحَصِّلَ لِوَصْفِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُتْلِفُ هُوَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ أَوْ لِأَنَّ بِالْأَخِيرِ يَصِيرُ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَلَمْ يَعْمَلْ فِي التَّلَفِ فَصَارَ هُوَ الْجَاعِلَ إيَّاهُ عِلَّةً وَالْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا إلَى نَفْسِهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ مُلَخَّصٌ فِي الْمِيزَانِ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمَجْمُوعِ قَوْلُ زُفَرَ وَإِلَى الْأَخِيرِ قَوْلُ الْبَاقِينَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ (وَإِلَى عِلَّةٍ اسْمًا وَحُكْمًا كُلُّ مَظِنَّةٍ) لِلْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ (أُقِيمَتْ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمُؤَثِّرِ) لِخَفَائِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ أَوْ احْتِيَاطًا (كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ لِلتَّرَخُّصِ) بِرُخْصِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِلَّةٌ لَهُ اسْمًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ الرُّخْصُ يُضَافُ إلَيْهِمَا فَيُقَالُ رُخْصَةُ السَّفَرِ وَرُخْصَةُ الْمَرَضِ وَحُكْمًا لِأَنَّ الرُّخْصَ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهَا (لَا مَعْنًى لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ) فِي تَرَخُّصِهِمَا هُوَ (الْمَشَقَّةُ) لَا نَفْسُ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ لَكِنَّهُمَا أُقِيمَا مُقَامَهَا لِخَفَائِهَا وَلِكَوْنِهِمَا سَبَبَهَا إقَامَةً لِسَبَبِ الشَّيْءِ مَقَامَ الشَّيْءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي السَّفَرِ فَإِنَّ جَوَازَ التَّرَخُّصِ لِلْمُسَافِرِ مَنُوطٌ بِمُطْلَقِهِ لِعَدَمِ تَنَوُّعِهِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ وَإِنْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ لَا يَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ عَادَةً وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ هُوَ قَطْعُ مَسَافَاتٍ وَفِيهِ مَسَافَاتٌ لَا فِي الْمَرَضِ لِتَنَوُّعِهِ إلَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ وَهُوَ الْمُنَاطُ بِهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنُوطَةٍ بِهِ
(3/165)
(وَكَالنَّوْمِ) مُضْطَجِعًا وَنَحْوِهِ (لِلْحَدَثِ إذْ الْمُعْتَبَرُ) فِي تَحَقُّقِ الْحَدَثِ (خُرُوجُ النَّجَسِ) مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ أَوْ مِنْ الْبَدَنِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ النَّوْمَ (عِلَّةُ سَبَبِهِ) أَيْ خُرُوجِ النَّجَسِ (الِاسْتِرْخَاءِ) بِالْجَرِّ أَيْ عِلَّةُ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ الْمُوجِبِ لِزَوَالِ الْمَسْكَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخُرُوجِ لَا عِلَّةُ نَفْسِ الْخُرُوجِ (فَأُقِيمَ) النَّوْمُ (مُقَامَهُ) أَيْ خُرُوجِ النَّجَسِ إقَامَةً لِعِلَّةِ السَّبَبِ لِلشَّيْءِ مُقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَاتِ (فَكَانَ) النَّوْمُ (عِلَّةً اسْمًا) لِلْحَدَثِ (لِإِضَافَةِ الْحَدَثِ) إلَيْهِ فَيُقَالُ حَدَثُ النَّوْمِ وَحُكْمًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ النَّوْمِ لَا مَعْنًى لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَدَثِ إنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ الْمَذْكُورُ (وَإِلَى عِلَّةٍ مَعْنًى فَقَطْ وَهُوَ بَعْضُ أَجْزَاءِ) الْعِلَّةِ (الْمُرَكَّبَةِ) مِنْ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ فِي حُكْمٍ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَعْضِ (غَيْرَ) الْجُزْءِ (الْأَخِيرِ) مِنْهَا إذْ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُؤَثِّرٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْحُكْمِ وَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ بَلْ إلَى الْمَجْمُوعِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (وَلَيْسَ) هَذَا الْبَعْضُ (سَبَبًا) لِلْحُكْمِ (لَوْ تَقَدَّمَ) عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مَوْضُوعٍ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ (خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ) السَّرَخْسِيِّ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمَا سَبَبٌ إذَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ تَتِمَّ الْعِلَّةُ فَكَانَ الْمَبْدَأُ مُعْتَبَرًا لِتَمَامِ الْعِلَّةِ وَكَالطَّرِيقِ إلَى الْمَقْصُودِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْبَاقِي وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ وُجُودُ غَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ فَكَانَ سَبَبًا وَإِنَّمَا ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ بَلْ لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ (وَإِنْ لَمْ يَجِبْ) الْحُكْمُ (عِنْدَهُ لِفَرْضِ عَقْلِيَّةِ دَخْلِهِ فِي التَّأْثِيرِ) فِي الْحُكْمِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا فَانْتَفَى مَا فِي التَّلْوِيحِ وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ فِي أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ تَمَامُ الْعِلَّةِ فِي تَمَامِ الْمَعْلُولِ انْتَهَى.
إذْ لَا مُخَالَفَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ إذْ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: الْمُؤَثِّرُ تَمَامُ الْعِلَّةِ فِي تَمَامِ الْمَعْلُولِ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِلْجُزْءِ أَثَرٌ مَا فِي تَمَامِ الْمَعْلُولِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْعِلِّيَّةِ (وَلِذَا) أَيْ فَرْضِ عَقْلِيَّةِ دَخْلِهِ فِي التَّأْثِيرِ (جَعَلُوا) أَيْ أَصْحَابُنَا (كُلًّا مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ مُحَرِّمًا لِلنَّسِيئَةِ لِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ بِالْجُزْئِيَّةِ) أَيْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ لِأَنَّ لِرِبَا النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ فَإِنَّ لِلنَّقْدِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ عُرْفًا حَتَّى كَانَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ نَقْدًا (فَامْتَنَعَ إسْلَامُ حِنْطَةٍ فِي شَعِيرٍ وَ) إسْلَامُ ثَوْبٍ (قُوهِيٍّ فِي) ثَوْبٍ (قُوهِيٍّ) وَهُوَ نِسْبَةٌ إلَى قُوهِسْتَانَ كُورَةٍ مِنْ كُوَرِ فَارِسٍ لِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ (وَالشُّبْهَةُ مَانِعَةٌ هُنَا) أَيْ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ (لِلنَّهْيِ عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ) أَيْ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَشَبَهِهِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الرِّيبَةِ أَفَادَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» فَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ وَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ أَيْ مَا يُشَكِّكُ وَيُحَصِّلُ فِيك الرِّيبَةَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا فَهِيَ إذَنْ بِكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ السَّاكِنَةِ ثُمَّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَفَادَ أَنَّ مَنْ رَوَى الرِّيبَةَ عَلَى حُسْبَانِ أَنَّهَا تَصْغِيرُ الرِّبَا فَقَدْ أَخْطَأَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَعَلَى هَذَا فَفِي ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ بِهِ نَظَرٌ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِأَنَّ حُرْمَةَ النِّسَاءِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ حُرْمَةِ الْفَضْلِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونُ يَدًا بِيَدٍ» فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْفَضْلِ لِأَنَّهَا أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ وَلَهَا عِلَّةٌ مَعْلُومَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ دُونَهَا فِي الدَّرَجَةِ (وَخَرَجَ الْعِلَّةُ حُكْمًا فَقَطْ عَلَى الشَّرْطِ) كَدُخُولِ الدَّارِ (فِي تَعْلِيقِ الْإِيجَابِ) كَأَنْتِ طَالِقٌ (لِثُبُوتِ الْحُكْمِ) وَهُوَ الطَّلَاقُ (عِنْدَهُ) أَيْ دُخُولِ الدَّارِ (مَعَ انْتِفَاءِ الْوَضْعِ) أَيْ وَضْعِ دُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ (وَالتَّأْثِيرِ) لَهُ فِيهِ.
(وَكَذَا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ السَّبَبِ الدَّاعِي) أَيْ الْحُكْمِ (الْمُقَامِ) مُقَامَ الْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ (إذَا كَانَ) السَّبَبُ الدَّاعِي (مُرَكَّبًا) مِنْ جُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا عِلَّةً حُكْمًا فَقَطْ لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ مِنْ غَيْرِ وَضْعٍ لَهُ وَلَا إضَافَةٍ إلَيْهِ وَلَا تَأْثِيرٍ لَهُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ الدَّاعِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ فَكَيْفَ بِجُزْئِهِ وَالْمُخْرِجُ لِلْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ عَلَى هَذَيْنِ
(3/166)
صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (وَمَا أُقِيمَ مِنْ دَلِيلٍ مُقَامَ مَدْلُولِهِ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ) فِي إنْ كُنْت تُحِبِّينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ عِنْدَ إخْبَارِهَا عَنْ حُبِّهَا لَهُ مَعَ انْتِفَاءِ وَضْعِهِ لَهُ وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ الدَّلِيلُ مُقَامَ الْمَدْلُولِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَمْ لَهُ مِنْ نَظِيرٍ ثُمَّ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَلَكِنَّهُ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَتْ عَنْ الْمَحَبَّةِ خَارِجَ الْمَجْلِسِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ إلَى إخْبَارِهَا وَالتَّخْيِيرَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ وَلَوْ كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْأَخْبَارِ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهَا وَلَا مِنْ جِهَتِهَا لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ فَصَارَ الشَّرْطُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَقَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْعِلَّةِ حُكْمًا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ غَيْرِ الْمُصَنِّفِ فَلَعَلَّهُ مِنْ تَخْرِيجِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
[الْمَرْصَدُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ]
(الْمَرْصَدُ الثَّانِي فِي شُرُوطِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (اسْتَلْزَمَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْرِيفِهَا اشْتِرَاطَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ) أَيْ كَوْنِهَا وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا فِي نَفْسِهِ (وَمَظِنِّيَّةَ الْحِكْمَةِ) أَيْ وَكَوْنِهَا مَظِنَّةً لِلْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا (أَوَّلًا أَوْ بِوَاسِطَةِ مَظِنَّةٍ أُخْرَى فَلَزِمَتْ الْمُنَاسَبَةُ) أَيْ كَوْنُهَا مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ (وَعَدَمُ الطَّرْدِ) أَيْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهَا كَمَا سَلَفَ بَيَانُهُ (وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ (أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمًا لِوُجُودِيٍّ لِطَائِفَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ) مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ (وَغَيْرِهِمْ) كَابْنِ الْحَاجِبِ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَعَزَاهُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ فِي شَرْحِهِ إلَى الْجُمْهُورِ (وَالْأَكْثَرُ) مِنْهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ مَذْهَبُهُمْ (الْجَوَازُ) أَيْ جَوَازُ كَوْنِهَا عَدَمًا لِوُجُودِيٍّ كَقَلْبِهِ اتِّفَاقًا (قِيلَ وَجَوَازُ) تَعْلِيلِ (الْعَدَمِيِّ بِهِ) أَيْ بِالْعَدَمِيِّ كَعَدَمِ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ الْعَقْلِ (اتِّفَاقٌ) ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ قَالَ (النَّافِي) لِتَعْلِيلِ الْوُجُودِيِّ بِالْعَدَمِيِّ (الْعِلَّةُ) هِيَ الْأَمْرُ (الْمُنَاسِبُ) لِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُكْمِ (أَوْ مَظِنَّتِهِ) أَيْ الْمُنَاسِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ بِحَسَبِ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ وَأَنَّ الْبَاعِثَ مُنْحَصِرٌ فِي الْمُنَاسِبِ وَمَظِنَّتِهِ وَهُوَ مَا يُلَازِمُهُ (وَالْعَدَمُ الْمُطْلَقُ ظَاهِرٌ) أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ وَلَا مَظِنَّتُهُ بَلْ نِسْبَتُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُحَالِ وَالْأَحْكَامِ سَوَاءٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً.
(وَ) الْعَدَمُ (الْمُضَافُ إمَّا) مُضَافٌ (إلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّةِ) أَيْ إلَى شَيْءٍ فِي شَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ (مَعَهُ) أَيْ مَعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ (مَصْلَحَةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (فَهُوَ) أَيْ الْعَدَمُ الْمُضَافُ (مَانِعٌ) مِنْ الْحُكْمِ لِعَدَمِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمُ الْمَصْلَحَةِ مَانِعٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ عَدَمُهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْوُجُودِيِّ وَلَا مَظِنَّتُهُ مُنَاسِبٌ لَهُ فَإِنَّ مَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لَهُ (أَوْ) مُضَافٌ إلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّةِ مَعَهُ (مَفْسَدَةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (فَهُوَ) أَيْ الْعَدَمُ الْمُضَافُ إلَيْهِ (عَدَمُهُ) أَيْ عَدَمُ الْمَانِعِ مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَانِعِ لَيْسَ مُنَاسِبًا وَلَا مَظِنَّةً مُنَاسِبٌ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ مُقْتَضٍ يُقَالُ أَعْطَاهُ لِعِلْمِهِ أَوْ لِفَقْرِهِ وَلَوْ قِيلَ لِعَدَمِ الْمَانِعِ عُدَّ سُخْفًا لَكِنْ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ مُنْشِئًا لِمَصْلَحَةٍ وَدَافِعًا لِمَفْسَدَةٍ تَنْشَأُ مِنْ وُجُودِهِ فَيَكُونُ مُقْتَضِيًا وَعَدَمًا لِلْمَانِعِ وَمِثْلُهُ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ (أَوْ) إلَى (مُنَافٍ مُنَاسِبٍ) لِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُكْمِ (حَتَّى جَازَ أَنْ يَسْتَلْزِمَ) عَدَمُ الْمُنَافِي لِلْمُنَاسِبِ الْمُنَاسِبَ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُكْمِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ عَدَمُ الْمُنَافِي لِلْمُنَاسِبِ (الْمُنَاسِبَ) لِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُكْمِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الْعَدَمِ الْحِكْمَةُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ (فَيَكُونُ) عَدَمُ الْمُنَافِي لِلْمُنَاسِبِ (مَظِنَّتَهُ) أَيْ الْمُنَاسِبِ (ثُمَّ لَا يَصْلُحُ) عَدَمُ الْمُنَافِي لِلْمُنَاسِبِ مَظِنَّةً لِلْمُنَاسِبِ (لِأَنَّ مَا) أَيْ الْمُنَاسِبَ الَّذِي (هُوَ) أَيْ الْعَدَمُ (مَظِنَّةٌ لَهُ) أَيْ لِلْمُنَاسِبِ (إنْ كَانَ) وَصْفًا مُنْضَبِطًا (ظَاهِرًا) بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (أَغْنَى) بِنَفْسِهِ عَنْ الْمَظِنَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَدَمُ فَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ بِالْحَقِيقَةِ (أَوْ) كَانَ (خَفِيًّا فَنَقِيضُهُ وَهُوَ مَا عَدَمُهُ مَظِنَّةٌ خَفِيٌّ) أَيْضًا (لِاسْتِوَاءِ النَّقِيضَيْنِ جَلَاءً وَخَفَاءً) وَالْخَفِيُّ لَا يَصْلُحُ مَظِنَّةً لِلْخَفِيِّ لِأَنَّ الْخَفِيَّ لَا يَعْرِفُ الْخَفِيَّ وَقَدْ تَعَقَّبَ هَذَا بِالْمَنْعِ لِجَوَازِ اخْتِلَافِ النَّقِيضَيْنِ جَلَاءً وَخَفَاءً لِتَكْرَارٍ وَإِلْفٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ وَكَيْفَ وَالْمَلَكَاتُ أَجْلَى مِنْ الْإِعْدَامِ.
(أَوْ)
(3/167)
مُضَافٌ إلَى (غَيْرِ مُنَافٍ) لِلْمُنَاسِبِ (فَوُجُودُهُ) أَيْ غَيْرِ الْمُنَافِي (وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ) فِي تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ (فَلَيْسَ عَدَمُهُ بِخُصُوصِهِ عِلَّةً بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ بِخُصُوصِهِ عِلَّةً فَلَا يَصْلُحُ عِلَّةً وَقَدْ فَرَضْنَاهُ عِلَّةً هَذَا خُلْفٌ ثُمَّ أَشَارَ إلَى إيضَاحِهِ بِمِثَالٍ وَهُوَ (كَمَا لَوْ قِيلَ يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ لِعَدَمِ إسْلَامِهِ فَلَوْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَعَ إسْلَامِهِ مَصْلَحَةٌ فَاتَتْ) فَيَكُونُ عَدَمُ الْإِسْلَامِ مَانِعًا مِنْ الْقَتْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ (أَوْ) كَانَ فِي قَتْلِهِ مَعَ إسْلَامِهِ (مَفْسَدَةٌ فَعَدَمُ مَانِعٍ) أَيْ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقَتْلِ فَمَا الْمُقْتَضِي لِقَتْلِهِ (أَوْ) كَانَ الْقَتْلُ مَعَ الْإِسْلَامِ (يُنَافِي مُنَاسِبًا لِلْقَتْلِ ظَاهِرًا وَهُوَ) أَيْ الْمُنَاسِبُ الظَّاهِرُ لِلْقَتْلِ (الْكُفْرُ فَهُوَ) أَيْ الْكُفْرُ الْعِلَّةُ فَلْيُقَلْ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ كَافِرٌ (أَوْ) كَانَ الْقَتْلُ مَعَ الْإِسْلَامِ يُنَافِي مُنَاسِبًا لِلْقَتْلِ (خَفِيًّا) وَهُوَ الْكُفْرُ مَثَلًا (فَالْإِسْلَامُ كَذَلِكَ) أَيْ خَفِيٌّ لِأَنَّهُ نَقِيضُهُ وَالنَّقِيضَانِ مِثْلَانِ (فَعَدَمُهُ) أَيْ الْإِسْلَامِ (كَذَلِكَ) أَيْ خَفِيٌّ فَلَا فَرْقَ ضَرُورَةً بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْكُفْرِ وَمَعْرِفَةِ عَدَمِ الْإِسْلَامِ فِي الْخَفَاءِ (أَوْ) كَانَ الْقَتْلُ مَعَ الْإِسْلَامِ (لَا) يُنَافِي مُنَاسِبًا إذْ لَيْسَ الْكُفْرُ هُوَ الْمُنَاسِبُ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ يَقْتُلُ وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ (فَالْمُنَاسِبُ) شَيْءٌ (آخَرُ يُجَامِعُ كُلًّا مِنْ الْإِسْلَامِ وَعَدَمِهِ) أَيْ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً مَظِنَّةَ الْحِلِّ.
(وَدُفِعَ) هَذَا الدَّلِيلُ (مِنْ الْأَكْثَرِ بِاخْتِيَارِ أَنَّهُ) أَيْ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَدَمُ (يُنَافِيهِ) أَيْ الْمُنَاسِبَ (وَجَازَ كَوْنُهُ) أَيْ الْمُنَاسِبِ الَّذِي يُنَافِيهِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَدَمُ (الْعَدَمَ نَفْسَهُ لَا) كَوْنُ عَدَمِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَدَمُ (مَظِنَّتَهُ) أَيْ الْمُنَاسِبِ وَالْمُسْتَدِلُّ إنَّمَا أَبْطَلَ هَذَا.
وَأَمَّا كَوْنُ عَدَمِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَدَمُ هُوَ عَيْنُ الْمُنَاسِبِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا يَجُوزُ (لِاشْتِمَالِهِ) أَيْ الْعَدَمِ (عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَعَدَمِ الْإِسْلَامِ) فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ (عَلَى مَصْلَحَةِ الْتِزَامِهِ) أَيْ الْإِسْلَامِ (بِالْقَتْلِ) أَيْ بِسَبَبِ خَوْفِهِ مِنْ الْقَتْلِ (وَالْحَنَفِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْعَدَمَ مُطْلَقًا) أَيْ الْمُطْلَقَ وَالْمُضَافَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِوُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ (فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ السَّابِقُ) أَيْ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْعَدَمِيِّ بِالْعَدَمِيِّ (وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ) لِلنَّافِينَ لِلْوُجُودِيِّ خَاصَّةً (يَصْلُحُ لَهُمْ) أَيْ لِلْحَنَفِيَّةِ النَّافِينَ لَهُ مُطْلَقًا (لِأَنَّهُ) أَيْ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ (يُبْطِلُ الْعَدَمَ مُطْلَقًا) أَيْ كَوْنَهُ عِلَّةً لِوُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ وَمَظِنَّتِهَا فِيهِ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَعَدَمُ الْحُكْمِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَصْلُحُ الْعَدَمُ لَهُ لَا لِلْعَدَمِ وَلَا لِلْوُجُودِ (وَيَرُدُّ) عَدَمَ جَوَازِ كَوْنِ الْعَدَمِيِّ عِلَّةً لِلْعَدَمِيِّ (نَقْضًا مِنْ الْأَكْثَرِ عَلَى) دَلِيلِ (الطَّائِفَةِ) الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ الْعَدَمِيِّ عِلَّةً لِوُجُودِيٍّ وَجَوَازِ كَوْنِهِ عِلَّةً لِعَدَمِيٍّ (وَكَوْنُ الْعَدَمِ نَفْسِهِ الْمُنَاسِبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَالْمُنَاسِبُ فِي الْمِثَالِ) الْمَذْكُورِ (الْكُفْرُ وَهُوَ) أَيْ الْكُفْرُ (اعْتِقَادٌ قَائِمٌ وُجُودِيٌّ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَلْزِمُ) الْكُفْرُ (عَدَمَهُ) أَيْ الْإِسْلَامِ (كَمَا هُوَ شَأْنُ الضِّدَّيْنِ فِي اسْتِلْزَامِ كُلٍّ عَدَمَ الْآخَرِ فَالْإِضَافَةُ) لِلْقَتْلِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْمِثَالِ (إلَى الْعَدَمِ) أَيْ عَدَمِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا هُوَ (لَفْظًا) وَإِلَّا فَفِي التَّحْقِيقِ مَا هُوَ مُضَافًا إلَّا إلَى الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ غَيْرَ أَنَّهُ تَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ إلَى لَازِمِهِ (وَيَطَّرِدُ) مَا قُلْنَا مِنْ كَوْنِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعَدَمِ لَفْظًا فَقَطْ (فِي عَدَمِ عِلَّةٍ ثَبَتَ اتِّحَادُهَا لِعَدَمِ حُكْمِهَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يُغْصَبُ) فَإِنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ مُعَيِّنٌ لِلضَّمَانِ وَالْخِلَافُ لَمْ يَقَعْ فِي مُطْلَقِ الضَّمَانِ بَلْ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ هَلْ يَجِبُ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ أَمْ لَا فَصَحَّ تَعْلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْوَلَدِ بِعَدَمِ الْغَصْبِ إذْ لَا سَبَبَ لِلضَّمَانِ هُنَا إلَّا هُوَ فَعَدَمُهُ دَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَرُورَةً (وَأَبِي حَنِيفَةَ) وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا (فِي نَفْسِ خُمُسِ الْعَنْبَرِ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ) أَيْ لَمْ يَعْمَلْ الْمُسْلِمُونَ خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْإِيجَافُ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَصَحَّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخُمُسِ وَهَذَا لِأَنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا أَخْذٌ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ لَيْسَ فِي يَدِهِمْ فَإِنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يُخَمَّسُ.
(وَالْوَجْهُ)
(3/168)
فِيهِمَا (مَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعَدَمِ لَفْظًا إذْ مِنْ الظَّاهِرِ (أَنَّهُ) أَيْ تَعْلِيلَهُمَا (لَيْسَ حَقِيقِيًّا وَإِضَافَتَهُمَا) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمَ الْخُمُسِ وَمُحَمَّدٍ عَدَمَ الضَّمَانِ (إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ وَلَيْسَ) ذَلِكَ (مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعِلَّةِ) بِمَعْنَى الْبَاعِثِ (قَالُوا) أَيْ الْأَكْثَرُونَ (عُلِّلَ الضَّرْبُ بِعَدَمِ الِامْتِثَالِ) وَهُوَ عَدَمِيٌّ (وَالضَّرْبُ ثُبُوتِيٌّ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَا إذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِفِعْلٍ وَلَمْ يَمْتَثِلْ فَضَرَبَهُ السَّيِّدُ إنَّمَا ضَرَبَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ لَمَا صَحَّ هَذَا (أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ التَّعْلِيلَ إنَّمَا هُوَ (بِالْكَفِّ) أَيْ كَفِّ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عَنْ الِامْتِثَالِ وَهُوَ ثُبُوتِيٌّ (قَالُوا) أَيْ الْأَكْثَرُونَ أَيْضًا (مَعْرِفَةُ الْمُعْجِزِ) أَيْ كَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا أَمْرٌ (ثُبُوتِيٌّ مُعَلَّلٌ بِالتَّحَدِّي) بِالْمُعْجِزَةِ (مَعَ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ) لَهَا بِمِثْلِهَا (وَهُوَ) أَيْ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ (جُزْءُ الْعِلَّةِ) الْمُعَرِّفَةِ لِلْمُعْجِزَةِ لِأَنَّهَا الْإِتْيَانُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَةِ مَعَ التَّحَدِّي وَانْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْتِفَاءَ الْمُعَارِضِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ وَمَا جُزْؤُهُ عَدَمٌ فَهُوَ عَدَمٌ فَبَطَلَ سَلْبُكُمْ الْكُلِّيَّ.
(وَكَذَا مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً) لِلدَّائِرِ (بِالدَّوَرَانِ) وَعَلَيْهِ الْمَدَارُ لِلدَّائِرِ وُجُودِيَّةً (وَجُزْؤُهُ) أَيْ الدَّوْرَانِ (عَدَمٌ) لِأَنَّ الدَّوَرَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالْعَكْسُ عَدَمِيٌّ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ مَعَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعَ الْعَدَمِ وَمَا جُزْؤُهُ عَدَمٌ فَهُوَ عَدَمٌ وَقَدْ عُلِّلَ بِهِ وُجُودِيٌّ فَبَطَلَ سَلْبُكُمْ الْكُلِّيَّ أَيْضًا (أُجِيبَ بِكَوْنِهِ) أَيْ الْعَدَمِ (فِيهِمَا) أَيْ فِي مَعْرِفَةِ الْمُعْجِزِ وَعَلَيْهِ الدَّوَرَانُ (شَرْطًا) لَا جُزْءًا وَكَوْنُ الْعَكْسِ مُعْتَبَرًا فِي الدَّوْرَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهُ فِي مَاهِيَّتِه لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ جُزْأَيْهِ وَهُوَ الطَّرْدُ عِلَّةً وَالْآخَرُ وَهُوَ الْعَكْسُ شَرْطًا فَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ الطَّرْدُ بِمُجَرَّدِهِ وَيُؤَثِّرُ مَعَهُ وَلَا بِدَعَ فِي جَوَازِ كَوْنِ شَرْطِ الثُّبُوتِيِّ عَدَمِيًّا (وَلَوْ سُلِّمَ كَوْنُ التَّحَدِّي لَا يَسْتَقِلُّ) عِلَّةً لِمَعْرِفَةِ الْمُعْجِزِ بِمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ مُدْخَلٌ مَعَهُ فِي التَّعْرِيفِ (فَمُعَرِّفٌ) أَيْ فَهُوَ مُعَرِّفٌ لَهَا (وَالْكَلَامُ فِي الْعِلَّةِ بِمَعْنَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْحُكْمِ لَا بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ (عَلَى مَا لِجَمْعٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ) الْكَرْخِيِّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَبِي زَيْدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمَا بَلْ حَكَاهُ فِي الْمِيزَانِ عَنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَنْ لَا تَكُونَ) الْعِلَّةُ (قَاصِرَةً) عَلَى الْأَصْلِ مُسْتَنْبَطَةً وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَشَايِخُنَا السَّمَرْقَنْدِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَالْبَاقِلَّانِيّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالْمُصَنِّفُ فَقَالَ (لَنَا) فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا (ظَنُّ كَوْنِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهَا) أَيْ الْقَاصِرَةِ (لَا يَنْدَفِعُ) عَنْ النَّظَرِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَنْدَفِعُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الظَّنُّ (التَّعْلِيلُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى) صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ (الْمَنْصُوصَةِ) أَيْ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَعَلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُفِدْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا الظَّنَّ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِأَجْلِهَا لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِهَا وَنَقْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخِلَافَ فِيهِمَا أَيْضًا غَرِيبٌ ثُمَّ مِثَالُ الْقَاصِرَةِ (كَجَوْهَرِيَّةِ النَّقْدَيْنِ) أَيْ كَوْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَوْهَرَيْنِ مُتَعَيِّنَيْنِ لِثَمَنِيَّةِ الْأَشْيَاءِ فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِيهِمَا فَإِنَّهُ وَصْفٌ قَاصِرٌ عَلَيْهِمَا (وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال) لِلْمُخْتَارِ (لَوْ تَوَقَّفَ صِحَّتُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (عَلَى تَعَدِّيهَا لَزِمَ الدَّوْرُ) لِتَوَقُّفِ تَعَدِّيهَا عَلَى صِحَّتِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَالدَّوْرُ بَاطِلٌ (فَدَوْرُ مَعِيَّةٍ) كَتَوَقُّفِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَضَايِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ جَائِزٌ وَالْبَاطِلُ إنَّمَا هُوَ دَوْرُ التَّقَدُّمِ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا مُتَعَدِّيَةً لَا أَنَّ كَوْنَهَا مُتَعَدِّيَةً يَثْبُتُ أَوَّلًا ثُمَّ تَكُونُ عِلَّةً وَالْمُتَعَدِّيَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عِلَّةً لَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ عِلَّةً ثُمَّ عِلَّةً مُتَعَدِّيَةً.
(قَالُوا) أَيْ مَانِعُو صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ (لَا فَائِدَةَ) فِيهَا لِأَنَّ فَائِدَةَ الْعِلَّةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا وَهُوَ مُنْتَفٍ أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَلِثُبُوتِهِ فِيهِ بِغَيْرِهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنْ لَا فَرْعَ وَإِثْبَاتُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَصِحُّ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا (أُجِيبَ بِمَنْعِ حَصْرِهَا) أَيْ الْفَائِدَةِ (فِي التَّعْدِيَةِ بَلْ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الشَّرْعِيَّةِ) لِلْحُكْمِ (لَهَا) أَيْ لِلْعِلَّةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى لَهَا (أَيْضًا
(3/169)
لِأَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ شَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ لَهَا (شَرْحٌ لِلصَّدْرِ بِالْحُكْمِ لِلِاطِّلَاعِ) عَلَى الْمُنَاسِبِ الْبَاعِثِ لَهُ فَإِنَّ الْقُلُوبَ إلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ أَمْيَلُ مِنْهَا إلَى قَهْرِ التَّحَكُّمِ وَمَرَارَةِ التَّعَبُّدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ) أَيْ الْخِلَافَ (لَفْظِيٌّ فَقِيلَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْقِيَاسُ بِاصْطِلَاحٍ) لِلْحَنَفِيَّةِ فَهُمَا مُتَّحِدَانِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ بِاصْطِلَاحِ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ فَالنَّافِي لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ يُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَاسُ عِنْدَ أَحَدٍ بِدُونِ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْمُثْبِتُ لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا يُرِيدُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ قِيَاسًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ أَيْضًا فَلَمْ يَتَوَارَدْ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تُفِيدُ أَنَّ مَوْرِدَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْلِيلُ الْكَائِنُ فِي الْقِيَاسِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي عِلَّةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شُرُوطِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ (وَأَرْكَانِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ الَّتِي مِنْهَا الْعِلَّةُ فَيَنْصَرِفُ إطْلَاقُ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ وَعَدَمِهِ إلَى مَا هُوَ الْعِلَّةُ فِيهِ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَقَعْ هَذَا التَّعْلِيلُ مَوْقِعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ لَفْظِيًّا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ بَلْ هُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ التَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرَةِ.
فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَصْلُحُ ذَلِكَ قَرِينَةً لِهَذَا لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مُمْكِنًا مَعَ الْقَاصِرَةِ وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ كَانَ عَدَمُ إمْكَانِهِ مَعَهَا صَارِفًا عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِلْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قُلْت فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الْمُفِيدِ لَهَا بَلْ يَجِبُ سُقُوطُهُ وَقَوْلُهُ (وَإِلَّا فَلَهُمْ كَثِيرٌ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيلُ هُوَ الْقِيَاسُ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمْ مَنْعُ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِ الْحَجِّ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا فِي الْحَجِّ إلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ وَكَأَنَّ سَبَبَهُ إظْهَارُ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ حَتَّى قَالُوا أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ انْتَهَى وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبِمَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ إلَى مِثْلِ تَعْلِيلِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الرَّجُلِ فِيمَا إذَا حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِتَعَرُّفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ قَاصِرٌ عَنْ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْفُرْقَةِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ بِهَذَا أَيْضًا فَإِنَّهُ قَاصِرٌ عَنْهُمَا أَيْضًا (لَكِنْ رُبَّمَا سَمُّوهُ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ (أَبَدًا حِكْمَةً لَا تَعْلِيلًا) كَأَنَّهُ تَمْيِيزٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُتَعَدِّيَةِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ يَعْنِي وَحَمْلُ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ النُّبَلَاءِ عَلَى عَدَمِ التَّنَاقُضِ مَا أَمْكَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا كَمَا ذَكَرْنَا فَيَتَعَيَّنُ هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ لِي فِي شَرْحِ هَذَا الْكَلَامِ وَيَتَلَخَّصُ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْقِيَاسُ بِاصْطِلَاحٍ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِآخَرَ فَيُحْمَلُ النَّفْيُ عَلَى الْقَوْلِ بِاتِّحَادِهِمَا وَالْإِثْبَاتُ عَلَى كَوْنِ التَّعْلِيلِ أَعَمَّ حَالَ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ مَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَهَذَا حَقٌّ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَا تَفِي الْعِبَارَةُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ ثَانِيًا أَفَادَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ عِلَّةُ الْقِيَاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِلَافَ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لَفْظِيًّا بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ خِلَافٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ لَفْظِيًّا وَأَنَّهُ ثَالِثًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقِيَاسَ لَمْ يَسْتَقِمْ لِمَانِعِيهِ بِالْقَاصِرَةِ مِنْهُمْ التَّعْلِيلُ بِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ حَقُّ التَّحْرِيرِ أَنْ يُقَالَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَعَمُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَالنَّافِي يُرِيدُ الْقِيَاسَ وَالْمُجِيزُ يُرِيدُ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِقِيَاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ إذْ لَا قِيَاسَ بِدُونِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إبْدَاءِ الْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ مَوَاقِعَ الْحُكْمِ كُلَّهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَجَعْلُهُ) أَيْ الْخِلَافِ (حَقِيقِيًّا مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ) فِي التَّعْلِيلِ (أَوْ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِخَالَةِ) فِيهِ (فَعَلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ اشْتِرَاطُ التَّأْثِيرِ فِيهِ كَمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ (تَلْزَمُ التَّعْدِيَةُ) وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِخَالَةِ كَمَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ لَا تَلْزَمُ التَّعْدِيَةُ وَطَوَاهُ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ وَخَصَّهُ بِالطَّيِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ لِإِفَادَةِ تَعَقُّبِهِ وَالْجَاعِلُ: صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (غَلِطَ إذْ لَا يَلْزَمُ فِيهِ) أَيْ التَّأْثِيرِ (وُجُودُ عَيْنِ عِلَّةٍ لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي) مَحَلٍّ (آخَرَ يَكُونُ فَرْعًا لِلِاكْتِفَاءِ بِجِنْسِهِ) أَيْ الْمُدَّعَى عِلَّةً (فِي)
(3/170)
مَحَلٍّ (آخَرَ لِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِلَا قِيَاسٍ) وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ اللَّازِمَ فِي التَّأْثِيرِ كَوْنُ الْعَيْنِ الْمُعَلَّلِ بِهَا الْحُكْمُ ثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِهَا فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ عَيْنِهِ وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْعَيْنِ الَّذِي عُلِّلَ بِهَا ثَابِتًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ بَلْ جَازَ كَوْنُ ذَلِكَ الْمُعَلَّلِ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرَ ثَابِتٍ بِعَيْنِهِ فِي غَيْرِهِ وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ثُبُوتُ اعْتِبَارِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ عَيْنِهِ (بِذَلِكَ) أَيْ الِاكْتِفَاءِ بِالْجِنْسِ فِي آخَرَ (إنَّمَا تَعَدَّدَ مَحَلُّ الْجِنْسِ) وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ مَحَلِّ ذَلِكَ الْعَيْنِ لِجَوَازِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي فَرْدٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْعَيْنِ فَلَمْ يَتَعَدَّدْ مَحَلُّ مَا جُعِلَ عِلَّةً (وَلَيْسَ) الْجِنْسُ هُوَ (الْمُعَلَّلُ بِهِ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ هُوَ الْمُعَلَّلَ بِهِ (لَكَانَ الْأَخَصُّ عَيْنَ الْأَعَمِّ وَكَانَتْ الْعِلَّةُ جِنْسَهُ) أَيْ جِنْسَ الْعَيْنِ (لَا هُوَ) أَيْ الْعَيْنَ (وَهُوَ) أَيْ وَكَوْنُهَا جِنْسَهُ (غَيْرُ الْفَرْضِ) لِأَنَّ الْفَرْضَ وُجُودُ عَيْنِ الْمُدَّعَى عِلَّةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي آخَرَ (فَلَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْثِيرُ تَعَدِّيَ مَا عُلِّلَ بِهِ) بِعَيْنِهِ إلَى آخَرَ (وَجُعِلَ ثَمَرَتُهُ) أَيْ هَذَا الْخِلَافِ (مَنْعُ تَعْدِيَةِ حُكْمِ أَصْلٍ فِيهِ) وَصْفَانِ (مُتَعَدٍّ وَقَاصِرٍ لِلْمُجِيزِ) لِلتَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ (لَا الْمَانِعِ) لِلتَّعْلِيلِ بِهَا كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (كَذَلِكَ) أَيْ غَلَطُ أَيْضًا (بَلْ الْوَجْهُ إنْ ظَهَرَ اسْتِقْلَالُ) الْوَصْفِ (الْمُتَعَدِّي) فِي الْعِلِّيَّةِ (لَا يُمْنَعُ اتِّفَاقًا أَوْ) ظَهَرَ (التَّرْكِيبُ) لِلْعِلَّةِ مِنْ الْمُتَعَدِّي وَالْقَاصِرِ (مُنِعَ اتِّفَاقًا) وَفِي التَّلْوِيحِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّزَاعِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْغَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْجَزْمِ بِذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الظَّنِّ فَبَعْدَ مَا غَلَبَ عَلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْقَاصِرُ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِأَمَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي اسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ لَمْ يَصِحَّ نَفْيُ الظَّنِّ ذَهَابًا إلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ وَهْمٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ رُجْحَانِ ذَلِكَ أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ وَعَدَمِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلنِّزَاعِ مَعْنًى ظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنْ اشْتَرَطَ التَّأْثِيرَ فِي التَّعْلِيلِ لَا يَغْلِبُ عَلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ كَوْنُ الْقَاصِرَةِ عِلَّةً بِخِلَافِ مَنْ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْإِخَالَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَحْصُلُ الْوُقُوفُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ انْتَهَى وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا اجْتَمَعَتْ الْقَاصِرَةُ وَالْمُتَعَدِّيَةُ وَتَعَارَضَتَا فَالْجُمْهُورُ رَجَّحَ الْمُتَعَدِّيَةَ.
وَقِيلَ الْقَاصِرَةَ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ ثُمَّ أَفَادَ إنَّمَا تُرَجَّحُ الْمُتَعَدِّيَةُ عَلَى الْقَاصِرَةِ إذَا تَسَاوَتَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا وَجْهَيْ التَّصَوُّرِ وَالتَّعَدِّي أَمَّا لَوْ رَجَحَتْ الْقَاصِرَةُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِهِ فَهِيَ أَرْجَحُ وَقَدْ تَتَرَجَّحُ الْقَاصِرَةُ بِوَجْهٍ يُقَابِلُ وَجْهَ التَّعَدِّي فَيَتَعَادَلَانِ فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ الْوَقْفَ وَمَنْعَ التَّعْدِيَةِ مِنْ الْمُتَعَدِّي (وَمَا أُورِدَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ) الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ (مِنْ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ لِلزَّكَاةِ) فِي الْمَضْرُوبِ (عَلَى ظَنِّ الْخِلَافِ) الْمَعْنَوِيِّ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ (وَهُوَ) أَيْ التَّعْلِيلُ بِالثَّمَنِيَّةِ لَهَا وَصْفٌ (قَاصِرٌ مُنِعَ) وُرُودُهُ (بِتَعَدِّيهِ) أَيْ وَصْفِ الثَّمَنِيَّةِ (إلَى الْحُلِيِّ) فَهُوَ تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُتَعَدٍّ (وَلَقَدْ كَانَ الْأَوْجَهُ جَعْلَ الْخِلَافِ عَلَى عَكْسِهِ) أَيْ عَكْسِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ (مِنْ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ مَحَلٍّ غَيْرِ مَنْصُوصٍ) فَيُنْسَبُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ الْجَوَازُ وَإِلَى الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُهُ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَوْجَهَ (لِمَا تَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ (مِنْ قَبُولِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (التَّعْلِيلَ بِلَا قِيَاسٍ بِمَا ثَبَتَ لِجِنْسِهَا إلَخْ) أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَ لِجِنْسِهَا أَوْ لَعَيْنِهَا اعْتِبَارٌ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
(وَهُوَ) أَيْ التَّعْلِيلُ بِمَا اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ (بِقَاصِرَةٍ إذْ لَمْ تُوجَدْ) تِلْكَ الْعِلَّةُ (بِعَيْنِهَا فِي مَحَلَّيْنِ) وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ (فَالْحَنَفِيَّةُ نَعَمْ) يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ مَحَلٍّ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ (إذَا ثَبَتَ الِاعْتِبَارُ) لَهَا (بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ) مِنْ تَأْثِيرِ جِنْسِهَا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ وَتَأْثِيرِ عَيْنِهَا فِي جِنْسِ الْحُكْمِ (وَالشَّافِعِيَّةُ لَا) يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفَ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ (مِنْ الْمُرْسَلِ) الْمُلَائِمِ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمُوَافِقُوهُ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَأَنَّ الْآمِدِيَّ ذَكَرَ أَنَّ مَا اُعْتُبِرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ فَقَطْ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ مِنْ جِنْسِ الْمُنَاسِبِ الْقَرِيبِ وَأَنَّهُ مَقْبُولٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ صِحَّةِ
(3/171)
الْعِلَّةِ (عَلَى) قَوْلِ (مَنْ قَدَّمَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ) عَلَى الْقِيَاسِ (أَنْ لَا تَكُونَ) الْعِلَّةُ (مُعَدِّيَةً) مِنْ الْأَصْلِ (إلَى الْفَرْعِ حُكْمًا يُخَالِفُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْعِ (بِشَرْطِهِ) أَيْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ (السَّابِقِ فِي وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ) الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَةٍ قُبَيْلَ فَصْلٍ فِي التَّعَارُضِ (وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ) أَيْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي الْفَرْعِ وَاقِعًا (عَنْ) عِلَّةٍ (مُسْتَنْبَطَةٍ) مِنْ أَصْلٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً قَوْلَهُ دَافِعَةً لِلظَّنِّ بِعِلِّيَّةِ مَا جُعِلَ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ الَّذِي قُصِدَ تَعَدِّيَةُ حُكْمِهِ إلَى ذَلِكَ الْفَرْعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُجَوِّزُونَ (وَذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ أَنَّهُ الْحَقُّ) (عِنْدَ هَؤُلَاءِ) الْقَائِلِينَ بِتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عَلَى الْقِيَاسِ (احْتِمَالٌ مُقَابِلٌ لِظُهُورِ كَوْنِهِ) أَيْ قَوْلِهِ وَاقِعًا (عَنْ نَصٍّ) فِيهِ (كَمَا سَبَقَ) ثَمَّةَ حَيْثُ قَالَ بَلْ يَفُوتُ فِيهِ احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَلَوْ انْتَفَى فَإِصَابَتُهُ أَقْرَبُ إلَخْ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْحُجِّيَّةِ ثُمَّ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ قَوْلًا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ أَمَّا مَا لَا يُدْرَكُ بِهِ فَيُشْتَرَطُ خُلُوُّهُ عَنْهُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
(وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ (عَدَمُ نَقْضِ) الْعِلَّةِ (الْمُسْتَنْبَطَةِ عِنْدَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي مَحَلٍّ) وَلَوْ بِمَانِعٍ أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ (لِمَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ) وَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ (وَأَبِي الْحُسَيْنِ) الْبَصْرِيِّ (إلَّا أَبَا زَيْدٍ) مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَإِنَّهُ وَأَكْثَرَ الْعِرَاقِيِّينَ أَيْضًا وَمِنْهُمْ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ وَمَالِكًا وَأَحْمَدَ وَعَامَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ (وَاخْتَلَفُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ الشَّارِطُونَ عَدَمَ النَّقْضِ فِي صِحَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ (فِي الْمَنْصُوصِيَّةِ فَمَانِعٌ أَيْضًا) عِنْدَهُمْ وَبِهِ قَالَ الْإسْفَرايِينِيّ وَعَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ.
وَقِيلَ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ (وَمُجَوِّزٌ) وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ (وَالْأَكْثَرُ وَمِنْهُمْ عِرَاقِيُّو الْحَنَفِيَّةِ كَالْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ) وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا فِي الْبَدِيعِ (يَجُوزُ) التَّخَلُّفُ فِي مَحَلٍّ (بِمَانِعٍ أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ فِيهِمَا) أَيْ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ فَقِيلَ يَقْدَحُ مُطْلَقًا قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَيَعُدُّهُ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ مُرَجَّحَاتِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقُولُونَ عِلَلُهُ سَلِيمَةٌ عَنْ الِانْتِقَاضِ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا لَا يَصُدُّهَا صَادٌّ ثُمَّ قَالَ وَعَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُحَقِّقِينَ (وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ) كَابْنِ الْحَاجِبِ (الْجَوَازَ) لِلنَّقْضِ (فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إذَا تَعَيَّنَ الْمَانِعُ) مِنْ الْعِلِّيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ وَلَوْ عُدِمَ شَرْطٌ فَإِنَّهُ مَانِعٌ أَيْضًا (وَفِي الْمَنْصُوصَةِ بِنَصٍّ عَامٍّ) يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ وَيُعَارِضُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِيهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فِيهِ (لَكِنْ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ) الْمَانِعُ مِنْ الْعِلِّيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ (قُدِّرَ) وُجُودُهُ فِيهِ مِثَالُهُ أَنْ يَرِدَ الْخَارِجُ النَّجَسَ نَاقِضٌ وَيَثْبُتَ أَنَّ الْفَصْدَ لَا يَنْقُضُ فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْفَصْدِ وَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَانِعٍ إنْ لَمْ يَعْلَمْهُ (أَمَّا) إذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً (بِقَاطِعٍ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ فَيَلْزَمُ الثُّبُوتُ فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ لِعَدَمِ جَوَازِ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ الْقَطْعِيِّ (أَوْ فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَحَلِّ النَّقْضِ (فَقَطْ فَلَا تَعَارُضَ) لِأَنَّ النَّصَّ الْقَاطِعَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ. وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ إنَّمَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ وَلَا تَعَارُضَ عِنْدَ تَغَايُرِ الْمَحَلَّيْنِ فَلَا نَقْضَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِيهِ وَتَخَلُّفَ الْحُكْمِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ (قِيلَ وَلَا فَائِدَةَ فِي قَيْدِ الْقَاطِعِ لِأَنَّ الظَّنِّيَّ كَذَلِكَ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ بِقَوْلِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْعِلِّيَّةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّقْضِ خَاصَّةً بِظَنِّيٍّ فَلَا تَعَارُضَ أَيْضًا انْتَهَى لِتَغَايُرِ الْمَحَلَّيْنِ وَيَزْدَادُ انْتِفَاءً إنْ كَانَ حُكْمُ مَحَلِّ النَّقْضِ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ (وَهَذَا) التَّفْصِيلُ (مُرَادُ الْأَكْثَرِ) بِقَوْلِهِمْ يَجُوزُ بِمَانِعٍ أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ فِيهِمَا لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَيَبْعُدُ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ (وَلَيْسَ) هَذَا مَذْهَبًا (آخَرَ) غَيْرَهُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ.
(وَنُقِلَ الْجَوَازُ) أَيْ جَوَازُ النَّقْضِ (فِيهِمَا) أَيْ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ (بِلَا مَانِعٍ) وَعَبَّرَ عَنْهُ السُّبْكِيُّ بِلَا يُقْدَحُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ (وَ) جَوَازِ النَّقْضِ (كَذَلِكَ) أَيْ بِلَا مَانِعٍ (فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فَقَطْ) نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ (وَالْحَقُّ نَقْلُ بَعْضِهِمْ) وَهُوَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ
(3/172)
(الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ) مِنْ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ مَنْقُوضَةٍ (بِلَا مَانِعٍ) لِأَنَّ الْمَنْقُوضَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ يَجُوزُ فِيهِمَا أَوْ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ بِلَا مَانِعٍ (الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ بِالْمَانِعِ (إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ) الْمَانِعُ (لِدَلِيلِهِمْ) أَيْ الْمُجَوِّزِينَ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ بِلَا مَانِعٍ (الْقَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةُ عِلَّةٌ) بِمَا يُوجِبُ الظَّنَّ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ مِنْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِلَّةِ تُوجِبُ ظَنَّهَا (وَالتَّخَلُّفُ مُشَكِّكٌ) أَيْ مُوجِبٌ لِلشَّكِّ (فِي عَدَمِهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (فَلَا يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِهَا) بَلْ إنَّمَا يُوجِبُ الشَّكَّ فِيهِ (فَإِنَّهُ) أَيْ التَّخَلُّفَ (إنْ) كَانَ (بِلَا مَانِعٍ فَلَا عِلَّةَ) لِاسْتِنَادِ التَّخَلُّفِ حِينَئِذٍ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضِي (وَ) إنْ كَانَ (مَعَهُ) أَيْ الْمَانِعِ فَالْعِلَّةُ (ثَابِتَةٌ) لِأَنَّ الظَّنَّ كَمَا هُوَ (وَجَوَازُهُمَا) أَيْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ (عَلَى السَّوَاءِ) وَالظَّنُّ لَا يَرْفَعُ الشَّكَّ فَالتَّخَلُّفُ لَا يُبْطِلُ الْعِلِّيَّةَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَوَجْهُ دَلَالَةِ دَلِيلِهِمْ عَلَى اشْتِرَاطِ تَقْدِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَنَّ بِلَا مَانِعٍ لَا عِلَّةَ وَمَعَ الْمَانِعِ الْعِلِّيَّةُ ثَابِتَةٌ فَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ الْوَاقِعُ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَدَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ الْقَائِمُ أَوْجَبَ ظَنَّهَا لَزِمَ اعْتِبَارُ عِلِّيَّتِهَا فَلُزُومُ اعْتِبَارِ عِلِّيَّتِهَا مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ يُوجِبُ مِنْهُمْ تَقْدِيرَهُ مَعَ حُكْمِهِمْ بِقِيَامِ الْعِلِّيَّةِ مَعَ التَّخَلُّفِ بِالضَّرُورَةِ انْتَهَى وَمِثْلُ هَذَا يَجِيءُ فِي الْمَنْصُوصَةِ (وَأُجِيبَ) عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ التَّخَلُّفَ (إنْ) كَانَ (أَوْجَبَ الشَّكَّ فِي عَدَمِهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (أَوْجَبَ فِي نَقِيضِهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُوجِبُهُ فِي الْآخَرِ إذْ حَقِيقَةُ احْتِمَالِ الْمُتَقَابِلَيْنِ سَوَاءٌ (فَنَاقَضَ قَوْلَكُمْ) الْعِلَّةُ (مَظْنُونَةٌ) قَوْلَكُمْ الْعِلَّةُ (مَشْكُوكَةٌ) لِأَنَّ الْمَظْنُونَ مَحَلُّ الظَّنِّ وَلَا يَجْتَمِعُ الظَّنُّ مَعَ الشَّكِّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِتَضَادِّهِمَا وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ قَوْلَكُمْ مَفْعُولُ نَاقَضَ وَ " مَشْكُوكَةٌ " فَاعِلُهُ وَفِي الْحَقِيقَةِ خَبَرُ جُمْلَةِ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ كَمَا رَأَيْت وَالْكَلَامُ الْمُتَنَاقِضُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ (وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَا يُرْفَعُ الظَّنُّ بِالشَّكِّ أَيْ حُكْمُهُ) أَيْ الظَّنُّ (السَّابِقُ لَا يُرْفَعُ شَرْعًا لِطُرُوِّ الشَّكِّ فِيهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِارْتِفَاعِهِ عَنْ الْبَقَاءِ) لِجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ حُكْمَ الضِّدِّ الزَّائِلِ بَاقِيًا بِأَنْ يُجَوِّزَ الصَّلَاةُ مَعَ زَوَالِ ظَنِّ الطَّهَارَةِ بِالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ لَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَ الظَّنِّ لَا يَزُولُ بِنَفْسِ الشَّكِّ فَإِنَّ زَوَالَ الضِّدِّ عِنْدَ طُرُوِّ الضِّدِّ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ اجْتِمَاعُ الظَّنِّ وَالشَّكِّ فِي مُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ (وَلَا يُمْكِنُ مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ هَذَا الْمُرَادِ (هُنَا) أَيْ فِي مَظْنُونِيَّةِ الْعِلَّةِ وَمَشْكُوكِيَّةِ عَدَمِهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَلَامَ (فِي ظَنِّ الْعِلِّيَّةِ لَا حُكْمِهَا) فَإِذَا زَالَ بِالشَّكِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَكَمْنَا بِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ نَعَمْ لَوْ ثَبَتَ مِنْ الشَّارِعِ جَوَازُ الْقِيَاسِ مَعَ زَوَالِ ظَنِّ الْعِلِّيَّةِ بِالشَّكِّ لَتَابَعْنَاهُ وَقُلْنَا فِيهِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ (وَإِذَا لَزِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ تَقْدِيرُ الْمَانِعِ) إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ (كَفَاهُمْ) فِي الْجَوَابِ (التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ يُوجِبُ نَفْيَ ظَنِّهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (وَالدَّلِيلُ أَوْجَبَهُ) أَيْ ظَنَّهَا (وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ) بَيْنَهُمَا (بِتَقْدِيرِهِ) أَيْ الْمَانِعِ فِي التَّخَلُّفِ إذْ يُعْمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِظَنِّيِّهَا فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّقْضِ وَبِالْمُوجِبِ لِلْإِهْدَارِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
(قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ ثَانِيًا (لَوْ تَوَقَّفَ الثُّبُوتُ) لِلْحُكْمِ (بِهَا) أَيْ بِالْعِلِّيَّةِ (فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخَلُّفِ) لِلْحُكْمِ (عَلَيْهِ) أَيْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ (بِهَا) أَيْ بِالْعِلِّيَّةِ (فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (انْعَكَسَ) أَيْ تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ عَلَيْهِ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (فَدَارَ أَوْ لَا) يَنْعَكِسُ (فَتَحَكُّمٌ) لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَلْبُ هَذَا وَهَذَا أَوْجَهُ (أُجِيبَ) بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَلَا ضَيْرَ فِي لُزُومِ الدَّوْرِ الْمَذْكُورِ إذْ هُوَ (دَوْرُ مَعِيَّةٍ) لَا دَوْرُ تَقَدُّمٍ (وَهَذَا) الْجَوَابُ (صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ تَوَقُّفُ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ) كَوْنَهَا عِلَّةً (لَكِنَّ الْكَلَامَ) لَيْسَ فِيهِ بَلْ (فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى عِلِّيَّتِهَا (أَيْ لَوْ تَوَقَّفَ الْعِلْمُ بِالثُّبُوتِ بِهَا أَيْ بِعِلِّيَّتِهَا) تَفْسِيرٌ لِلثُّبُوتِ بِهَا (إلَخْ) أَيْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخَلُّفِ عَلَيْهِ بِهَا فِيهِ انْعَكَسَ فَدَارَ (وَإِذَنْ فَتَرَتُّبٌ) أَيْ فَهُوَ دَوْرُ تَرَتُّبٍ (لِأَنَّا لَا نَعْلَمُهَا) أَيْ عِلِّيَّتَهَا (إلَّا بِالثُّبُوتِ) أَيْ بِالْعِلْمِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا (فِي الْكُلِّ) أَيْ فِي جَمِيعِ صُوَرِ وُجُودِهَا إذْ كَاسِبُ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ إلَّا عَالِمًا وَلِذَا قَالَ (فَلَوْ عَلِمَ بِهَا) أَيْ بِالْعِلِّيَّةِ (الثُّبُوتَ) لِلْحُكْمِ (تَقَدَّمَ
(3/173)
كُلٌّ) مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ (لِأَنَّ مَا بِهِ الْعِلْمُ) بِالشَّيْءِ (قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ فَيَلْزَمُ تَوَقُّفُ الْعِلْمِ بِعِلِّيَّتِهَا عَلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْعِلْمِ بِعِلِّيَّتِهَا.؛
(وَحِينَئِذٍ) أَيْ وَحِينَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا (الْجَوَابُ مَنْعُ لُزُومُ الِانْعِكَاسِ وَالتَّحَكُّمِ إذْ ابْتِدَاءُ ظَنِّ الْعِلِّيَّةِ) إنَّمَا هُوَ (بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ) لِلْعِلَّةِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ وَغَيْرِهَا (فَإِذَا اسْتَقْرَأْت الْمُحَالَّ) لِلْعِلَّةِ (لِاسْتِعْلَامِ مُعَارَضَةِ مِنْ التَّخَلُّفِ لَا لِمَانِعٍ فَلَمْ يُوجَدْ) التَّخَلُّفُ لَا لِمَانِعٍ فِي مَحَلٍّ مِنْهُمَا (اسْتَمَرَّ) ظَنُّ الْعِلِّيَّةِ (فَاسْتِمْرَارُهُ) أَيْ ظَنِّهَا هُوَ (الْمَوْقُوفُ عَلَى الثُّبُوتِ) لِلْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْمَحَالَّ (أَوْ) عَلَى (عَدَمِهِ) أَيْ الثُّبُوتِ فِي بَعْضِ الْمُحَالَّ (مَعَ الْمَانِعِ وَالْحُكْمُ بِالثُّبُوتِ بِهِ) أَيْ بِالْوَصْفِ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ (عَلَى ابْتِدَاءِ ظَنِّهَا) أَيْ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ (فِي الْجُمْلَةِ) فَلَا دَوْرَ (وَاسْتُشْكِلَ) هَذَا (بِمَا إذَا قَارَنَ) ظَنُّ الْعِلِّيَّةِ (الْعِلْمَ بِالتَّخَلُّفِ) إذْ لَا يَتَأَتَّى حِينَئِذٍ ذِكْرُ الِاسْتِمْرَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا (كَمَا لَوْ سَأَلَهُ فَقِيرَانِ) غَيْرُ فَاسِقٍ وَفَاسِقٌ (فَأَعْطَى أَحَدَهُمَا) وَهُوَ غَيْرُ الْفَاسِقِ (وَمَنَعَ الْفَاسِقَ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِعِلِّيَّةِ الْفَقْرِ) لِإِعْطَائِهِ (يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِمَانِعِيَّةِ الْفِسْقِ) لِلْإِعْطَاءِ (وَبِالْعَكْسِ) أَيْ وَالْعِلْمُ بِمَانِعِيَّةِ الْفِسْقِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِعِلِّيَّةِ الْفَقْرِ (فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْعِلْمِ بِالْعِلِّيَّةِ الْعِلْمُ بِالْمَانِعِيَّةِ بِالْفِعْلِ وَالْمُتَوَقِّفَ عَلَيْهِ الْعِلِّيَّةُ هُوَ الْمَانِعِيَّةُ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ) أَيْ الْمَانِعُ بِالْقُوَّةِ (كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ إذَا جَامَعَ بَاعِثًا مَنَعَهُ) أَيْ الْبَاعِثُ (مُقْتَضَاهُ) وَالْفِسْقُ لِلْإِعْطَاءِ كَذَلِكَ إذْ الْفِسْقُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ إذَا جَامَعَ الْفَقْرَ مَنَعَهُ مُقْتَضَاهُ الَّذِي هُوَ الْإِعْطَاءُ وُجِدَ الْفَقْرُ أَوْ لَا لَا أَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ الْمَانِعِيَّةُ بِالْفِعْلِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ شَرْحِ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) الدَّلِيلُ مَعَ جَوَابِهِ (مُشْتَرَكُ الْقَوْلَيْنِ) اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا يُجَوِّزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَة وَالْآخَرُ يُجَوِّزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فَقَطْ (وَيَزِيدُ الْمَانِعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ بِاسْتِلْزَامِهِ) أَيْ النَّقْضِ فِيهَا (بُطْلَانَ النَّصِّ الْمُقْتَضِي الثُّبُوتَ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ) لِتَنَاوُلِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَحَلَّ التَّخَلُّفِ (بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ) فَإِنَّ دَلِيلَهَا تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا عِنْدَ خُلُوِّهَا عَنْ الْمَانِعِ وَلَا تَخَلُّفَ لِلْحُكْمِ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلِّيَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ.
(أُجِيبَ) عَنْ هَذَا (إنْ) كَانَ النَّصُّ (قَطْعِيًّا بِالثُّبُوتِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ لَمْ يُقْبَلْ التَّخْصِيصُ) كَغَيْرِهِ مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الَّتِي تُتَصَوَّرُ لِلْقَوَاطِعِ فَإِنَّ الْقَاطِعَ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنْهَا (أَوْ) كَانَ (ظَنِّيًّا وَجَبَ قَبُولُهُ وَتَقْدِيرُ الْمَانِعِ جَمْعًا) بَيْنَ دَلِيلَيْ الِاعْتِبَارِ وَالْإِهْدَارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا (وَأَنْتَ عَلِمْت مَا يَكْفِيهِمْ) فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا مِنْ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا لِمَانِعٍ يُوجِبُ نَفْيَ ظَنِّهَا وَالدَّلِيلُ أَوْجَبَهُ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بِتَقْدِيرِهِ فَوَجَبَ كَمَا فِي غَيْرِهِ فَلْيُقْتَصَرْ عَلَيْهِ (فَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُولَعِينَ بِنَقْلِ الْخِلَافِ دُونَ تَحْرِيرٍ وَلِلْعَاكِسِ) لِلْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا الْمَنْصُوصَةِ وَهُوَ الْقَائِلُ بِالْجَوَازِ فِي الْمَنْصُوصَةِ لَا الْمُسْتَنْبَطَةِ (نَحْوُهُ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ لِلْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ وَهُوَ (لَوْ صَحَّتْ الْمُسْتَنْبَطَةُ مَعَ نَقْضِهَا كَانَ) كَوْنُهَا صَحِيحَةً (لِلْمَانِعِ) أَيْ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (فَتَوَقَّفَتْ صِحَّتُهَا) حَالَ كَوْنِهَا (مَنْقُوضَةً عَلَيْهِ) أَيْ الْمَانِعِ (وَإِلَّا) لَوْ تَخَلَّفَتْ بِلَا مَانِعٍ (فَلَا اقْتِضَاءَ وَتَحَقُّقُهُ) أَيْ الْمَانِعِ (فَرْعُ صِحَّةِ عِلِّيَّتِهَا) إذْ لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْعِلِّيَّةُ لَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَلَا أَثَرَ لِمَا يُتَصَوَّرُ مَانِعًا فَلَا يَكُونُ مَانِعًا فَتَتَوَقَّفُ الصِّحَّةُ عَلَى الْمَانِعِ وَالْمَانِعُ عَلَى الصِّحَّةِ (فَدَارَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الدَّوْرَ دَوْرُ (مَعِيَّةٍ) إذْ غَايَتُهُ امْتِنَاعُ انْفِكَاكِ كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الِانْفِكَاكِ بِصَفِّهِ التَّقَدُّمِ فَلَا (وَدُفِعَ) هَذَا الْجَوَابُ (بِأَنَّ حَقِيَةَ الْمُرَادِ) مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ (الْعِلْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْمَانِعِيَّةِ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ هُوَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِيَتَأَتَّى تَرْتِيبُ الْحُكْمِ (وَهُوَ) أَيْ تَوَقُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ (تَرَتُّبٌ) أَيْ دَوْرٌ مُرَتَّبٌ لِظُهُورِ تَقَدُّمِ كُلٍّ عَلَى الْآخَرِ إذْ لَا تُعْلَمُ الْمَانِعِيَّةُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالِاقْتِضَاءِ وَلَا يُعْلَمُ الِاقْتِضَاءُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَانِعِيَّةِ (بَلْ الْجَوَابُ أَنَّا نَظُنُّ صِحَّتَهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (أَوَّلًا بِمُوجَبِهِ) أَيْ الظَّنِّ (ثُمَّ نَسْتَقْرِئُ إلَخْ) أَيْ الْمَحَالَّ لِاسْتِعْلَامِ مُعَارِضِهِ مِنْ التَّخَلُّفِ لَا لِمَانِعٍ.
فَإِنْ لَمْ نَجِدْ اسْتَمَرَّ الظَّنُّ بِصِحَّتِهَا وَإِنْ وَجَدْنَا التَّخَلُّفَ فِي
(3/174)
بَعْضِ الْمُحَالِ.
فَإِنْ وَجَدْنَا أَمْرًا يَصْلُحُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ حَكَمْنَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ بِأَنَّهُ مَانِعٌ وَاسْتَمَرَّ ظَنُّ الصِّحَّةِ وَإِلَّا زَالَ فَإِذًا اسْتِمْرَارُ الظَّنِّ بِصِحَّتِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَكَوْنُهُ مَانِعًا بِالْفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ظُهُورِ الصِّحَّةِ وَظَنِّهَا لَا عَلَى اسْتِمْرَارِهِ فَزَالَ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ هُوَ اسْتِمْرَارُ الظَّنِّ وَالْمُتَوَقَّفَ عَلَيْهِ نَفْسُ الظَّنِّ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى فَقِيرًا يَظُنُّ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ فَإِذَا لَمْ يُعْطِ آخَرَ تَوَقَّفَ الظَّنُّ لِجَوَازِ وُجُودِ الْمَانِعِ وَعَدَمِهِ.
فَإِنْ تَبَيَّنَ مَانِعٌ كَفِسْقِهِ اسْتَمَرَّ ظَنٌّ أَنَّهُ كَانَ لِلْفَقْرِ وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ الْآخَرَ مَعَ وُجُودِ الْبَاعِثِ لِفِسْقِهِ وَإِلَّا زَالَ ظَنُّ كَوْنِهِ لِلْفَقْرِ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَقْرَ مُقْتَضٍ وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْإِعْطَاءِ بِنَاءً عَلَى الْمُقْتَضِي وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْفَقْرَ مُقْتَضٍ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْفِسْقَ كَانَ مَانِعًا وَإِلَّا لَكَانَ التَّخَلُّفُ قَاطِعًا فِي عَدَمِ الْمُقْتَضِي (وَيَجْرِي فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْجَوَابِ (إشْكَالُ الْمُقَارَنَةِ) أَيْ مَا إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّخَلُّفِ مُقَارِنًا لِظُهُورِ الْعِلِّيَّةِ إذْ لَا يَتَأَتَّى حِينَئِذٍ ذِكْرُ الِاسْتِمْرَارِ (وَدَفْعُهُ) أَيْ إشْكَالِهَا بِأَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْعِلِّيَّةِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَانِعِيَّةِ بِالْفِعْلِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلِّيَّةُ هُوَ الْمَانِعِيَّةُ بِالْقُوَّةِ بِمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ بِحَيْثُ إذَا جَامَعَ الْبَاعِثَ مَنَعَ مُقْتَضَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا آنِفًا (وَجْهُ الْمُخْتَارِ) وَأَنَّ عَدَمَ النَّقْضِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَة لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا (أَنَّهُ) أَيْ التَّخَلُّفَ (تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ دَلِيلِ حُكْمٍ) وَهُوَ كَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً (فَوَجَبَ قَبُولُهُ كَاللَّفْظِ) أَيْ كَمَا يَجِبُ قَبُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ إذْ لَا فَرْقَ مُؤَثِّرٌ بَيْنَهُمَا.
(وَمَا قِيلَ الْخِلَافُ) فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ مَنْقُوضَةٍ (مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ الْمَعَانِي الْعُمُومَ فَالْمَانِعُ) أَنَّ لَهَا عُمُومًا (إذْ) الْمَعْنَى وَاحِدٌ (لَا تَعَدُّدَ إلَّا فِي مَحَالَّهُ) فَلَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ (مَانِعٌ هُنَا) أَيْ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا مَعْنًى وَالْقَائِلُ بِأَنَّ لَهَا عُمُومًا يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لِعُمُومِهَا ثُمَّ الْخِلَافُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (غَيْرُ لَازِمٍ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ كَانَتْ حُجَّةُ الْمَانِعِ هَذَا (عَلَى تَعَدُّدِ مَحَالَّهُ) أَيْ الْمَعْنَى (وَالْكَلَامُ هُنَا) أَيْ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِهَا) أَيْ مَحَالِّهَا (إذْ حَاصِلُهُ) أَيْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (أَنَّهُ) أَيْ الْمَعْنَى (يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي مَحَالَّهُ إلَّا مَحَلَّ الْمَانِعِ) مِنْ الْحُكْمِ (وَالْمَانِعُ هُوَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا التَّقْرِيرِ (انْدَفَعَ قَوْلُ الْمَانِعِينَ) مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (أَنَّهُ) أَيْ تَخْصِيصُهَا (تَنَاقُضٌ لَا تَخْصِيصٌ) قَالُوا (لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلِّيَّةِ يُوجِبُ قَوْلَهُ) أَيْ الْمُعَلَّلِ (هَذَا الْوَصْفُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ جَعَلْتُهُ) أَيْ الْوَصْفَ (أَمَارَةً عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمِ (أَيْنَمَا وُجِدَ) أَيْ الْوَصْفُ وَإِنَّمَا انْدَفَعَ قَوْلُهُمْ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلِيلَ الْعِلِّيَّةِ يُوجِبُ جَعْلَهُ أَمَارَةً عَلَيْهِ أَيْنَمَا وُجِدَ (بَلْ) إنَّمَا يُوجِبُ جَعْلَهُ أَمَارَةً عَلَيْهِ (فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخَلُّفِ غَيْرَ أَنَّا إذَا قَطَعْنَا بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ مَحَالَّهُ) أَيْ الْحُكْمِ (مَعَ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَصِحُّ إضَافَةُ التَّخَلُّفِ إلَيْهِ قَدَّرْنَا مَانِعًا) مِنْ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ (جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ) دَلِيلِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخَلُّفِ وَدَلِيلِ التَّخَلُّفِ فِي مَحَلِّهِ.
(وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ وَمَا قِيلَ) أَيْ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَقَرَّرَهُ فِي التَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهَا مِنْ الْأَصْلِ أَعْنِي الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ إلَى الْفَرْعِ أَعْنِي الْمُعَلَّلَ إذْ (التَّخْصِيصُ مَلْزُومٌ لِلْمَجَازِ الْمَلْزُومِ اللَّفْظِ) لِأَنَّ الْمَجَازَ مِنْ خَوَاصِّ اللَّفْظِ وَاخْتِصَاصُ اللَّازِمِ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ وَإِلَّا لَزِمَ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ وَهُوَ مُحَالٌ (مُنِعَ بِأَنَّ الْمَلْزُومَ لِلْمَجَازِ مِنْهُ) أَيْ التَّخْصِيصِ (تَخْصِيصُ اللَّفْظِ لَا) التَّخْصِيصُ (مُطْلَقًا بَلْ هُوَ) أَيْ التَّخْصِيصُ مُطْلَقًا (أَعَمُّ) مِنْ أَنْ يَكُونَ مَلْزُومًا لِلْمَجَازِ أَوْ لَا وَمَعْنَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إثْبَاتُ مِثْلِهِ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ فَيَثْبُتُ فِي الْعِلَلِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمَوَارِدِ كَتَخْصِيصِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَيَتَّصِفُ بِهِ اللَّفْظُ ضَرُورَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُ الْعِلَّةِ بِهِ إذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الِاتِّصَافُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ وَبَعْدَ إصْلَاحِهِ إلَى وَمَعْنَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إثْبَاتُهُ فِي صُوَرِ الْفَرْعِ لِمَا حَقَّقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ فِي الْفَرْعِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي فِي الْأَصْلِ لَا مِثْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ تُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي إثْبَاتِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ قِيَاسًا عَلَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجَامِعِ الْمُفِيدِ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَمْ يُوجَدْ
(3/175)
هُنَا بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْمَحْصُولِ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخَصِّصِ إلَّا أَنَّ عَدَمَ الْمُخَصِّصِ إذَا ضُمَّ إلَى الْعَامِّ صَارَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُخَصِّصِ وَذَلِكَ الْعَدَمُ لَا يَجُوزُ ضَمُّهُ إلَى الْعِلَّةِ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْقَيْدِ الْعَدَمِيِّ جُزْءًا مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْوُجُودِيِّ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُجَوِّزِ فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (إذْ لَا بُدَّ فِي صِحَّتِهَا مِنْ الْمَانِعِ) وَالْوَجْهُ مِنْ عَدَمِ الْمَانِعِ فَسَقَطَ لَفْظُ عَدَمٍ مِنْ الْقَلَمِ (وَوُجُودِ الشَّرْطِ فَعَدَمُهُ) أَيْ الْمَانِعِ (وَوُجُودُهُ) أَيْ الشَّرْطِ (جُزْءُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ) مِنْهُمَا وَمِنْ الْوَصْفِ هُوَ (الْمُسْتَلْزِمُ) لِلْحُكْمِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ أَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ فَلَمْ يُوجَدْ تَمَامُ الْعِلَّةِ (قُلْنَا فَرَجَعَ) الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ خِلَافًا (لَفْظِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى تَفْسِيرِهَا أَهِيَ الْبَاعِثُ) عَلَى الْحُكْمِ (أَوْ) هِيَ (جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) الْحُكْمُ.
فَإِنْ فُسِّرَتْ بِالْبَاعِثِ عَلَى الْحُكْمِ فَلَيْسَ عَدَمُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ مِنْ الْبَاعِثِ فِي شَيْءٍ فَجَازَ النَّقْضُ وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالْمُسْتَلْزِمِ فَوُجُودُهُ وُجُودُ الْحُكْمِ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَجُزْ النَّقْضُ (لَكِنَّ الْحَقَّ خَطَؤُكُمْ) فِي دَعَوَاكُمْ عَدَمَ جَوَازِ النَّقْضِ (لِتَفْسِيرِكُمْ) الْعِلَّةَ (بِالْمُؤَثِّرِ وَالشَّرْطُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ لَا دَخْلَ لَهُمَا فِي التَّأْثِيرِ بِمُوَافَقَتِكُمْ) .
(وَأَمَّا إلْزَامُ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ) لِلْقَوْلِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِسَلَامَتِهِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ وَفَسَادُهُ وَخَطَؤُهُ بِانْتِقَاضِهِ فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَمْكَنَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّقْضُ فِي عِلَّتِهِ أَنْ يَقُولَ امْتَنَعَ حُكْمُ عِلَّتِي ثَمَّةَ لِمَانِعٍ وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدِ قَوْلٍ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ عَلَى اللَّهِ إذْ الْأَصْلَحُ فِي كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ بَاطِلٌ فَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ كَذَلِكَ (فَمُنْتَفٍ لِأَنَّ ادِّعَاءَهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ (عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَوَّلًا إلَّا بِدَلِيلٍ وَمَعَ التَّخَلُّفِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) كَوْنُ الْعِلَّةِ هِيَ وَصْفُ كَذَا لَكِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهَا فِي مَحَلِّ كَذَا الْمَانِعِ (إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مَانِعًا) صَالِحًا لِلتَّخْصِيصِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ عِنْدَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَى عِلَّتِهِ بَيَانُ مَانِعٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُجِيزِينَ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا عَلَى الْمَانِعِينَ بِأَنْ يَقُولُوا لَمَّا كَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَكُمْ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ مُضَافًا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ بِتَغَيُّرِ مَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ أَنْ يَقُولَ عَدِمْت عِلَّتِي فِي صُورَتَيْ النَّقْضِ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ فِيهَا أَوْ نُقْصَانِهِ عَنْهَا وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ فَتَبْقَى عِلَّتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا.
(وَإِنَّمَا ذَلِكَ) أَيْ إلْزَامُ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ (لَازِمٌ) لِلْقَوْلِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (مَعَ إجَازَتِهِ) أَيْ النَّقْضِ (بِلَا تَعَيُّنِهِ) أَيْ الْمَانِعِ مِنْ الْحُكْمِ (كَمَا حَرَّرْنَاهُ أَوْ بِلَا مَانِعٍ كَمَا قِيلَ أَوْ دَلِيلٍ) وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَانِعٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَصْوِيبُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لِجَوَازِ إبْطَالِ عِلَّتِهِ بِسَائِرِ الطُّرُقِ مِنْ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالْقَلْبِ وَغَيْرِهَا وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ ذَلِكَ لَكِنْ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّصْوِيبُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الثَّابِتِ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَهَذَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ غَايَتُهُ وُقُوعُ الْأَصْلَحِ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ بَاطِلٌ لَا بِوُقُوعِهِ مِنْهُ تَعَالَى لِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَحْكَامَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ كَمَا تُنَادِي بِهِ تَعْلِيلَاتُهُمْ فِي شَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ (صِحَّةُ الْعِلِّيَّةِ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ) لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهَا لُزُومُ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ (لَيْسَ بِشَيْءٍ بَعْد مَا ذَكَرْنَا) آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ الْبَاعِثُ وَالْمُؤَثِّرُ لَا لُزُومُ الْحُكْمِ لَهَا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا لُزُومُهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَيْسَا مِنْ الْبَاعِثِ وَالْمُؤَثِّرِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ أَيْضًا (تَعَارُضُ دَلِيلِ الِاعْتِبَارِ) لِلْعِلَّةِ وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ (وَ) دَلِيلُ (الْإِهْدَارِ) وَهُوَ التَّخَلُّفُ عَنْهُ فَتَسَاقَطَا (فَلَا اعْتِبَارَ) بِدَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (مَمْنُوعٌ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ دَلِيلَ الْإِهْدَارِ إلَّا) إذَا كَانَ (بِلَا مَانِعٍ) لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي حِينَئِذٍ فَبَطَلَ الِاقْتِضَاءُ لَكِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لِمَانِعٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
(3/176)
أَعْلَمُ هَذَا وَقَدْ قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ نَصٌّ فِيهِ وَادَّعَى قَوْمٌ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِنَا كَالْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالدَّبُوسِيِّ وَالْقَاضِي خَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الشَّجَرِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاسْتَشْهَدُوا بِمَسَائِلَ.
وَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيُّ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ وَعَدَّهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَلَفْظُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ تَخْصِيصُ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبَاهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ وَالشَّافِعِيُّ وَاَلَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ أَخَذْنَاهُ عَمَّنْ شَاهَدْنَاهُ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ بِمَدِينَةِ الْإِسْلَامِ يَعْزُونَهُ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَيَحْكُونَ عَنْ شُيُوخِهِمْ الَّذِينَ شَاهَدُوهُمْ وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَمَا عَرَفْنَا مِنْ مَقَالَتِهِمْ فِيهَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَنْ كَانَ هَا هُنَا بِمَدِينَةِ الْإِسْلَامِ فِي عَصْرِنَا مِنْ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ وَلَهُ مَنَاكِيرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِهِمْ انْتَهَى وَفِي التَّحْقِيقِ ثُمَّ مَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ مِنْ مَشَايِخِنَا زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِالِاسْتِحْسَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ وَالِاسْتِحْسَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَنَسَبَهُ فِي الْكَشْفِ إلَى الْكَرْخِيِّ وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالُوا هُوَ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بَلْ الْحُكْمُ إنَّمَا انْعَدَمَ فِيهِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إذَا عَارِضَهُ اسْتِحْسَانٌ لَمْ يَبْقَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ نَصًّا فَلَا اعْتِبَارَ لِعِلَّةِ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَتِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ عَدَمُ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِثْلُ النَّصِّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْعِلَّةِ وَالضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ مَعْدُومٌ حُكْمًا.
وَكَذَا إنْ كَانَ ضَرُورَةً لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْمَرْجُوحُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ بِسَبَبِ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ قِيَامِهَا وَقَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَالْحَقُّ عِنْدِي هُوَ التَّفْضِيلُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ اسْتَحْسَنَّا فِيهِ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ يُصَارُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ وَإِلَّا يَلْزَمُ الْفَسَادُ وَالتَّنَاقُضُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ التَّخْصِيصُ بَاطِلٌ وَقَوْلِهِمْ شَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِيهَا كَيْفَ يَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ وَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُخِّصَ فِي السَّلَمِ مَعْنًى لِأَنَّ التَّرَخُّصَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ وَكُلُّ مَوْضِعٍ اسْتَحْسَنَّا فِيهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ لَا يُصَارُ إلَى التَّخْصِيصِ لِانْتِفَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَحْذُورَاتِ أَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ بِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ يَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ يَتَرَاءَى عِلَّةً لَمْ يَكُنْ عِلَّةً حَقِيقَةً حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ بَلْ الْعِلَّةُ كَانَتْ غَيْرَهُ لِمَا قُلْنَا فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ بِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ظَهَرَ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِنَجَاسَةِ سُؤْرَ سِبَاعِ الْوَحْشِ مِنْ الْبَهَائِمِ بَلْ الرُّطُوبَةَ النَّجِسَةَ فِي الْآلَةِ الَّتِي تُشْرَبُ بِهَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَلَمْ يَتَنَجَّسُ سُؤْرُهَا لِعَدَمِ عِلَّةٍ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ إنَّ الْمُسْتَحْسَنَ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ انْتَهَى.
[تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ إلَى خَمْسَةٍ]
(تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ) لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْمَوَانِعَ إلَى خَمْسَةٍ مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ كَبَيْعِ الْحُرِّ) إذْ الْبَيْعُ عِلَّةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَفِي الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ لَكِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْ انْعِقَادِهِ عِلَّةً لِذَلِكَ هُنَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَانِعُ مِنْ انْعِقَادِهَا فِيهِ (انْتِفَاءُ مَحَلِّهَا) وَهُوَ الْمَالُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ بِالتَّرَاضِي وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ (وَلَا عِلَّةَ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ) فَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الْأَوَّلُ (وَ) مَا يَمْنَعُ (تَمَامَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدِ) أَيْ فِي حَقِّ الْمَالِكِ (كَبَيْعِ عَبْدِ الْغَيْرِ) بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ عِلَّةٌ (تَامَّةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ) حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهِ (لَا) فِي حَقِّ (الْمَالِكِ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَاقِدِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلَا
(3/177)
يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَارِثِهِ نَعَمْ أَصْلُ الِانْعِقَادِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ إذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهِ (فَجَازَ بِإِجَازَتِهِ وَبَطَلَ بِإِبْطَالِهِ) وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمْ يَلْزَمْ بِالْإِجَازَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الثَّانِي (وَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ يَمْنَعُ الْمِلْكَ) فِي الْمَبِيعِ (لِلْمُشْتَرِي) وَإِنْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّمَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الثَّالِثُ (وَ) مَا يَمْنَعُ (تَمَامَهُ) أَيْ الْحُكْمِ لَا أَصْلِهِ (كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُهُ) أَيْ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ (لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ مَعَهُ) أَيْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ (وَيَتَمَكَّنُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ الْفَسْخِ بِلَا قَضَاءٍ وَ) لَا (رِضَاءٍ) فَكَانَ غَيْرَ لَازِمٍ لِعَدَمِ التَّمَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الرَّابِعُ (وَ) مَا يَمْنَعُ (لُزُومَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (كَخِيَارِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ) الْحُكْمُ (مَعَهُ تَامًّا) حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ (وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَّا بِتَرَاضٍ أَوْ قَضَاءٍ) .
وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الْخَامِسُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ كَمَا عُرِفَ كَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِهِ فَيَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِهِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ صَدَرَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ فَأَوْجَبَ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمِلْكُ لَكِنْ لَمْ يَتِمَّ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَفِي خِيَارِ الْعَيْبِ حَصَلَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ بَاتًّا لِتَمَامِ الرِّضَا لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَيْبِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي فَقُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُومِ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي فِي خِيَارِ الْعَيْبِ مِنْ رَدِّ بَعْضِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مُطْلَقًا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ التَّمَامِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَأَوْرَدَ بِأَنَّ هَذَا يُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُدَّعَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِدُونِ الرِّضَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ مُطْلَقًا ثُمَّ كَوْنُ الْمَوَانِعِ خَمْسَةً هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَمُوَافِقِيهِمَا قَالُوا وَالْحَصْرُ فِيهَا اسْتِقْرَائِيٌّ قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا وَلِلْأَوَّلِ مَانِعَانِ وَلِلثَّانِي ثَلَاثَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّامِيَ إذَا قَصَدَ الرَّمْيَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُصْدِرَ السَّهْمَ مِنْ قَوْسِهِ رَمْيًا أَوْ لَا وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ عِلَّةً وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَرْمَى أَوْ لَا وَالثَّانِي هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الرَّامِي وَالْمَقْصِدِ حَائِلٌ فَالْحَائِلُ مَانِعٌ تَمَامَ الْعِلَّةِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ ثَمَّ عِلَّةٌ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْعِلَلِ بَلْ فِي الْمَوَانِعِ ثُمَّ إذَا أَصَابَ السَّهْمُ الْمَرْمَى فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ لَا وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ أَيْ الَّذِي مَنَعَ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بِدَفْعِهِ بِقَوْسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَزُولَ الْجُرْحُ بِالِانْدِمَالِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ تَمَامَ الْحُكْمِ وَالثَّانِي هُوَ الثَّالِثُ الَّذِي يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ وَهَذِهِ قِسْمَةٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَتُفِيدُ الْجَزْمَ وَلَا مَحَالَةَ.
وَالْمَذْكُورُ فِي تَقْوِيمِ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْدُثُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالِانْعِقَادِ وَإِلَّا فَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّمَامِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلَّةِ أَوْ الْحُكْمِ وَوَافَقَهُ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي عَلَى هَذَا فَقَالَ وَلَوْ جَعَلَ أَقْسَامَ الْمَوَانِعِ أَرْبَعَةً وَجَعَلَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ مِمَّا يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ لَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْفَسْخِ فِيهِمَا كَمَا جَعَلَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ لَكَانَ أَوْجَهَ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ يَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (عَلَى الْخِلَافِ) فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (فَرْعًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ) أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ الصَّائِمُ (النَّائِمُ إذَا صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَاءٌ فَسَدَ) صَوْمُهُ (عِنْدَهُمْ لِفَوَاتِ رُكْنِهِ) أَيْ الصَّوْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرِ لِوُصُولِ الْمَاءِ إلَى جَوْفِهِ (فَهُوَ) أَيْ فَوَاتُ رُكْنِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَى جَوْفِهِ (عِلَّةُ الْفَسَادِ) لِلصَّوْمِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ مُؤَثِّرٌ فِيهِ الْفَسَادُ وَقَدْ (تَخَلَّفَ) الْفَسَادُ (عَنْهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي صَوْمِ الشَّارِبِ (النَّاسِي) لِصَوْمِهِ لِأَنَّ بِشُرْبِهِ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ (فَالْمُجِيزُ) تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ (لِمَانِعٍ هُوَ الْحَدِيثُ) وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي شَرْطِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ مِنْ سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي كُنْت صَائِمًا فَأَكَلْت وَشَرِبْت نَاسِيًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتِمَّ صَوْمَك فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك» (مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ) وَهُوَ فَوْتُ
(3/178)
الرُّكْنِ.
(وَالْمَانِعُ) تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ (لِعَدَمِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ فِيهِ (حُكْمًا لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي نُسِبَ إلَى مُسْتَحِقِّ الصَّوْمِ) وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» فَكَانَ أَكْلُهُ كَلَا أَكْلٍ فَبَقِيَ الرُّكْنُ حُكْمًا وَ) الصَّائِمُ النَّائِمُ (الْمَصْبُوبُ فِي فِيهِ) الْمَاءُ (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أَيْ الصَّائِمِ النَّاسِي (إذْ لَيْسَ) فِعْلُهُ الْمُفَوِّتُ لِلرُّكْنِ (مُضَافًا إلَى الْمُسْتَحِقِّ) لِلصَّوْمِ (فَلَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُهُ بِخِلَافِ السَّاقِطِ فِي حَلْقِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (نَائِمًا) مَاءُ (مَطَرٍ) لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ (كَمَا هُوَ مُقْتَضَى النَّظَرِ) لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ شُرْبِ النَّاسِي لِعَدَمِ إضَافَتِهِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي حَلْقِ الْمُسْتَيْقِظِ مَطَرٌ أَوْ ثَلْجٌ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِلضَّرُورَةِ فَمَا الظَّنُّ بِهَذَا نَعَمْ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَفْسُدُ فِي هَذِهِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ الْأَصَحُّ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إلَى خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ فَيَنْقَدِحُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ فِيمَا نَحْنُ فِيهَا إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنَامَ مَسْتُورًا بِمَا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمُسْتَوْضِحِ بِهَا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ سَائِرًا فِي فَلَاةٍ وَلَا خَيْمَةَ وَلَا سَقْفَ أَوْ ثَمَّ أَحَدُهُمَا وَهُوَ بِحَيْثُ يُمْنَعُ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِ الْمَاضِينَ ثُمَّ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ غُبَارٌ لَا يَفْسُدُ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِشَيْءٍ وَقَالُوا إنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِأَنْ يَكُونَ إثَارَةُ الْغُبَارِ مِنْ تَعَاطِيهِ أَوْ بِدُنُوِّهِ.
فَإِنْ تَمَّ إطْلَاقَ عَدَمِ الْفَسَادِ فِيهِ مَعَ هَذَا تَمَّ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُ النَّائِمِ السَّاقِطِ فِي حَلْقِهِ مَاءُ مَطَرٍ مُطْلَقًا وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ خَاضَ الْمَاءَ فَدَخَلَ أُذُنَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَإِنْ صُبَّ الْمَاءُ فِي أُذُنِهِ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ بِفِعْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ انْتَهَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوْضَ الْمَاءِ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَنْهُ بُدٌّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ) أَيْ مَا يُسَمَّى عِلَّةً فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ (غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ) مِنْ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَإِنَّ عَدَمَ الرُّكْنِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ (فَظَهَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَانِعِ) مِنْ فَسَادِ صَوْمِ النَّاسِي (الْإِضَافَةُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ) وَبِهَذَا يَظْهَرُ عَدَمُ إلْحَاقِ الشَّارِبِ نَائِمًا بِالشَّارِبِ نَاسِيًا فَإِنَّ فِي الْمُنْتَقَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ رَاجِعٌ إلَى الْعِبَارَةِ فِي التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي مَوْضِعِ التَّخَلُّفِ الْحُكْمُ مَعْدُومٌ بِلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى الْمَانِعِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِيٍّ بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ فَيَمْتَنِعُ إنْ قُدِحَ التَّخَلُّفُ وَإِلَّا فَلَا وَنُسِبَ إلَى السَّهْوِ وَفِي هَذَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي تَخَلُّفِ الْعِلَّةِ عَنْ الْحُكْمِ وَالْكَلَامُ فِي عَكْسِ ذَلِكَ وَثَانِيًا الْخِلَافُ فِي انْقِطَاعِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّ النَّقْضَ مِنْ عَظَائِمِ أَبْوَابِ الْجَدَلِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الْخَصْمِ فَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ يَقُولُونَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت الْعِلِّيَّةَ فِي غَيْرِ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَوْ هَذِهِ مِنْ الْبَعْضِ الَّذِي لَا يَلْزَمُنِي الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ جَوَازِهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا نَسْمَعُ هَذَا مِنْك فَإِنَّ كَلَامَك مُطْلَقٌ وَأَنْتَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاحْتِرَازِ فَلِمَ لَا احْتَرَزْت.
وَثَالِثًا الْخِلَافُ فِي انْخِرَامِ الْمُنَاسِبَةِ بِمُفْسِدَةٍ تَلْزَمُ رَاجِحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً فَيَحْصُلُ إنْ قُدِحَ التَّخَلُّفُ عَلَى قَوْلِ الْمَانِعِينَ وَلَا يَحْصُلُ عَلَى قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ (وَأَمَّا نَقْضُ الْحِكْمَةِ فَقَطْ بِأَنْ تُوجَدَ الْحِكْمَةُ دُونَ الْعِلَّةِ) أَيْ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ (فِي مَحَلٍّ وَلَمْ يُوجَدْ الْحُكْمُ وَيُسَمَّى كَسْرًا بِاصْطِلَاحٍ فَشُرِطَ عَدَمُهُ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَالْمُخْتَارُ) عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْآمِدِيِّ وَعَزَاهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ (نَفْيُهُ) أَيْ شَرْطِ عَدَمِهِ (فَلَوْ قَالَ) قَائِلٌ لِلْقَائِلِ بِأَنَّ عِلَّةَ التَّرَخُّصِ بِالْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ هِيَ السَّفَرُ (لَا تَصِحُّ عِلِّيَّة السَّفَرِ) لِلتَّرَخُّصِ الْمَذْكُورِ (لِانْتِقَاضِ حِكْمَتِهَا الْمَشَقَّةِ بِصَنْعَةٍ شَاقَّةٍ) كَحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَضَرْبِ الْمَعَاوِلِ وَمَا يُوجِبُ قُرْبَ النَّارِ فِي ظَهِيرَةِ الْقَيْظِ فِي الْقُطْرِ الْحَارِّ (فِي الْحَضَرِ) لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ الصَّنْعَةُ الشَّاقَّةُ بِدُونِ عِلَّتِهَا الَّتِي هِيَ السَّفَرُ وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ وَهُوَ رُخْصَةُ الْقَصْرِ (لَمْ يُقْبَلْ لِأَنَّهَا) أَيْ الْحِكْمَةَ
(3/179)
(غَيْرُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (وَكَوْنُهَا) أَيْ الْحِكْمَةِ هِيَ (الْمَقْصُودَةُ) مِنْ الْعِلَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَسَرَ ضَبْطُهَا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَلَيْسَ كُلُّ قَدْرٍ مِنْهَا يُوجِبُ التَّرَخُّصَ وَتَعْيِينُ الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُهُ مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ وَانْضِبَاطِهِ ضُبِطَتْ بِالْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ السَّفَرُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ (فَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهَا) أَيْ الْحِكْمَةِ وَفَاعِلُ يَبْطُلُ (مَا لَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا لَهَا) أَيْ الْحِكْمَةِ وَهُوَ عِلِّيَّةُ السَّفَرِ (إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ اُعْتُبِرَ مُطْلَقُهَا) أَيْ الْمَشَقَّةُ.
(وَهُوَ) أَيْ اعْتِبَارُ مُطْلَقِهَا (مُنْتَفٍ بِالصَّنْعَةِ) الشَّاقَّةِ لِأَنَّ غَيْرَ السَّفَرِ مِنْ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ مَعْلُومٌ فِيهَا انْتِفَاءُ التَّرَخُّصِ بِالْقَصْرِ (فَالْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ مَشَقَّةُ السَّفَرِ وَلَمْ يُعْلَمْ مُسَاوَاتُهَا) الْعِلَّةَ (الْمَنْقُوضَةَ) وَهِيَ مَشَقَّةُ الصَّنْعَةِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ (وَلَوْ فُرِضَ الْعِلْمُ بِرُجْحَانِ الْمَنْقُوضَةِ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْعِلَّةِ) فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (إلَّا أَنَّ شَرْعَ حُكْمٍ) آخَرَ هُوَ (أَلْيَقُ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالْبُطْلَانُ فِي صُورَةٍ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْعِلِّيَّةِ وَصَلَاحِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مَقِيسًا عَلَيْهِ (كَالْقَطْعِ بِالْقَطْعِ) أَيْ كَقَطْعِ الْيَدِ بِقَطْعِ الْيَدِ شُرِعَ (لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ) لِلْمُكَلَّفِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (تَخَلَّفَ) الْقَطْعُ (فِي الْقَتْلِ) الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مَعَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَزْيَدُ مِمَّا لَوْ قُطِعَ (لِشَرْعِ مَا هُوَ أَنْسَبُ بِهِ) أَيْ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ (وَهُوَ) أَيْ مَا هُوَ أَنْسَبُ بِهِ مِنْ الْقَطْعِ (الْقَتْلُ) إذْ الْقَتْلُ أَكْثَرُ عُدْوَانًا مِنْ الْقَطْعِ فَيَلِيقُ بِالزَّجْرِ عَنْهُ حُكْمٌ يَحْصُلُ بِهِ زَجْرٌ أَكْثَرُ مِنْ زَجْرِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ الْحُكْمُ أَمْرٌ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَشُرِعَ الْقَتْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِيَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْقَطْعِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ بِهِ سِوَى إبْطَالِ الْيَدِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ أَقْوَى افْتَقَرَ إلَى زَجْرٍ أَقْوَى فَشُرِعَ زَاجِرٌ أَقْوَى وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ حِكْمَةِ الزَّجْرِ بَلْ قُوَّةُ اعْتِبَارِهِ.
(وَأَنْتَ إذْ عَلِمْت أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمُعْتَبَرَةَ) لِعُسْرِ ضَبْطِهَا وَتَعَذُّرِ تَعَيُّنِ الْقَدْرِ الَّذِي تُوجِبُهُ (ضُبِطَتْ شَرْعًا) بِمَظِنَّةٍ خَاصَّةٍ وَهُوَ الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ (لَمْ تَكَدْ تَقِفُ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ التَّخَلُّفَ) لِلْحُكْمِ (عَنْ مِثْلِهَا أَوْ أَكْبَرَ مِمَّا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ ضَابِطِهَا) وَلَوْ كَانَ عَدَمُ دُخُولِهِ (بِلَا مَانِعٍ) لَا يَنْقُضُ عِلِّيَّتَهَا خُصُوصًا إذَا (كَانَتْ مُومًى إلَيْهَا) أَيْضًا مِثْلُ {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا مِثْلًا مَشَقَّةُ السَّفَرِ بِخُصُوصِهِ (أَلَّا يُرَى أَنَّ الْبَكَارَةَ عِلِّيَّةُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْإِذْنِ) أَيْ فِي إذْنِ الْحُرَّةِ الْبِكْرِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ لِوَلِيِّهَا أَوْ رَسُولِهِ فِي نِكَاحِهَا (بِالسُّكُوتِ) فِي النِّكَاحِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْهَا (لِحِكْمَةِ الْحَيَاءِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ لَسْنَا مِنْ النِّسَاءِ قَالَ نَعَمْ قُلْت إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ قَالَ سُكُوتُهَا إذْنُهَا» (وَلَوْ فُرِضَ ثَيِّبٌ أَوْفَرُ حَيَاءً) مِنْهَا (أَوْ سَبَبٌ اقْتَضَاهُ) أَيْ حَيَاءً أَوْفَرَ مِنْ حَيَائِهَا (كَزِنًا اُشْتُهِرَ لَمْ يُكْتَفَ بِسُكُوتِهَا إجْمَاعًا) وَإِنْ ثَبَتَ قَدْرٌ مِنْ الْحِكْمَةِ وَهُوَ الْحَيَاءُ فِي هَاتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ حِكْمَةِ الْبَكَارَةِ وَهُوَ حَيَاؤُهَا (فَتَخَلَّفَ) الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الِاكْتِفَاءُ فِي الْإِذْنِ بِالسُّكُوتِ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ حِكْمَةٍ تَفُوقُ حِكْمَةَ الْبَكَارَةِ (وَلَمْ تَبْطُلْ عِلِّيَّةُ الْبَكَارَةِ) لِلِاكْتِفَاءِ بِالسُّكُوتِ (وَمَا ذَاكَ) أَيْ عَدَمُ بُطْلَانِ عِلِّيَّتِهَا (إلَّا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ حَيْثُ ضُبِطَتْ بِالْبَكَارَةِ كَانَتْ الْعِلَّةُ بِالْحَقِيقَةِ حَيَاءَ الْبِكْرِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي حَيَاءٍ فَوْقَهُ) أَيْ حَيَاءِ الْبِكْرِ (ثُبُوتُ الْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالسُّكُوتِ فِي ذَلِكَ (مَعَهُ) أَيْ مَعَ حَيَاءٍ فَوْقَهُ (لِعَدَمِ دَلِيلِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (بِخُصُوصِهِ) وَهُوَ الْمَجْعُولُ ضَابِطًا (فَلَا تُنْتَقَضُ الْعِلَّةُ بِنَقْضِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ. وَأَمَّا النَّقْضُ الْمَكْسُورُ وَهُوَ نَقْضُ بَعْضِ)
الْعِلَّةِ (الْمُرَكَّبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ اسْتِقْلَالِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمَنْقُوضِ (بِالْحِكْمَةِ) حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ الْحِكْمَةُ الْمُعْتَبَرَةُ تَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْبَعْضِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ الْحُكْمُ فِيهِ وَهُوَ نَقْضٌ لِمَا ادَّعَاهُ عِلِّيَّةً بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ (كَمَا لَوْ قَالَ) الشَّافِعِيُّ (فِي مَنْعِ بَيْعِ الْغَائِبِ) هُوَ بَيْعٌ (مَجْهُولُ الصِّفَةِ) عِنْدَ الْعَاقِدِ حَالَ الْعَقْدِ (فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ) (كَبَيْعِ عَبْدٍ بِلَا تَعْيِينٍ) لَهُ وَالْجَامِعُ الْجَهْلُ بِصِفَةِ الْمَبِيعِ (فَنَقَضَ) الْمُعْتَرِضُ (الْمَجْهُولِيَّةَ بِتَزَوُّجِ مَنْ لَمْ يَرَهَا) فَإِنَّهَا مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ حَالَ الْعَقْدِ (مَعَ الصِّحَّةِ) لِتَزَوُّجِهَا إجْمَاعًا (وَحَذْفِ الْمَبِيعِ) فَاخْتُلِفَ فِي إبْطَالِهِ لِلْعِلِّيَّةِ قِيلَ يُبْطِلُهَا (وَالْمُخْتَارُ) عِنْدَ الْمُصَنِّفِ كَمَا عِنْدَ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ (لَا يَمْنَعُ) الْعِلِّيَّةَ (لِأَنَّهَا)
(3/180)
أَيْ الْعِلِّيَّةَ (الْمَجْمُوعُ وَلَمْ يَنْتَقِضْ) الْمَجْمُوعُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْبَعْضِ عَدَمُ عِلِّيَّةِ الْجَمِيعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ مَا لَيْسَ لِلْجُزْءِ هَذَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى نَقْضِ الْبَعْضِ (فَلَوْ أَضَافَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمَنْقُوضِ (إلْغَاءَ) الْوَصْفِ (الْمَتْرُوكِ) وَأَنَّهُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ بِأَنْ بَيَّنَ عَدَمَ تَأْثِيرِ كَوْنِهِ مَبِيعًا (بِأَنْ قَالَ الْجَهَالَةُ) لِلصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ حَالَ الْعَقْدِ (مُسْتَقِلَّةٌ بِالْمُبَاشَرَةِ وَلَا دَخْلَ لِكَوْنِهِ مَبِيعًا) فِي مَنْعِ الصِّحَّةِ (صَحَّ) النَّقْضُ لِوُرُودِهِ عَلَى مَا يَصْلُحُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْمُسْتَدِلِّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي أَلْغَاهُ الْمُعْتَرِضُ رَافِعًا لِلنَّقْضِ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ لَا يَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ لِلْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِصُلُوحِ الْعِلِّيَّةِ فَيُبْطِلُهُ بِالنَّقْضِ إذْ النَّقْضُ عَلَى الْعِلَّةِ لَا عَلَى مَانِعِهَا فَظَهَرَ انْتِفَاءُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ سِوَاهُ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِهِ يَكُونُ دَافِعًا لِلنَّقْضِ.
(وَحَاصِلُهُ) أَيْ النَّقْضِ الْمَكْسُورِ سُؤَالُ تَرْدِيدٍ وَهُوَ (إنْ عَيَّنَ الْمَجْمُوعَ) الْعِلَّةُ (لَمْ يَصِحَّ) تَعَيُّنُهُ لَهَا (لِإِلْغَاءِ الْمَلْغِيِّ أَوْ) عَيَّنَتْ (مَا سِوَاهُ) أَيْ الْمَلْغِيِّ الْعِلَّةِ (فَكَذَا) لَا يَصِحُّ (لِلنَّقْضِ) هَذَا وَكَوْنُ الْكَسْرِ وَالنَّقْضِ الْمَكْسُورِ مَا تَقَدَّمَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَكَانَ إلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِاصْطِلَاحٍ وَعَرَّفَ الْكَسْرَ الْبَيْضَاوِيُّ كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ أَحَدِ جُزْأَيْ الْعِلَّةِ وَنَقْضِ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ فِي إثْبَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ هِيَ صَلَاةٌ يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا لَمْ تُفْعَلْ فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا كَصَلَاةِ الْآمِنِ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ خُصُوصُ كَوْنِهَا صَلَاةً مَلْغِيٌّ لِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبُ الْأَدَاءِ كَالْقَضَاءِ فَلَمْ يَبْقَ عِلَّةً إلَّا قَوْلُك يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ يُؤَدَّى فَإِنَّ الْحَائِضَ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ دُونَ أَدَائِهِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ الْكَسْرُ عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ الِاعْتِبَارِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَهُوَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَنْتَهِي إلَى بَيَانِ الْفِقْهِ وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ النَّقْضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْإِلْزَامَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ انْتَهَى وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ النَّقْضُ الْمَكْسُورُ.
(وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ (انْعِكَاسُهَا عِنْدَ قَوْمٍ وَهُوَ) أَيْ انْعِكَاسُهَا (انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَائِهَا لِمَنْعِ تَعَدُّدِ) الْعِلَلِ (الْمُسْتَقِلَّةِ فَيَنْتَفِي) الْحُكْمُ (لِانْتِفَاءِ خُصُوصِ هَذَا الدَّلِيلِ وَهُوَ الْعِلَّةُ) الَّتِي لَمْ تَنْعَكِسْ (إذْ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِلَا بَاعِثٍ تَفَضُّلًا) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ مَعْشَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ وُجُوبًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ثُمَّ مِنْ مُشْتَرَطِي الْعَكْسِ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا فِي الِاطِّرَادِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ يُكْتَفَى بِهِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْقَاضِي فَمَنْ سَعِدَ بِالْوَجْهِ فِيهِ سَعِدَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ اشْتَغَلَ بِهِ فَقَالَ (وَالْمُخْتَارُ) كَمَا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ الْقَاضِي كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّقْرِيبِ (جَوَازُ التَّعَدُّدِ مُطْلَقًا) أَيْ مَنْصُوصَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةً (وَالْوُقُوعِ فَلَا يُشْتَرَطُ انْعِكَاسُهَا) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِوَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْمَفْرُوضِ عِلَّةً وَقَالَ (الْقَاضِي) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ بُرْهَانُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ (فِي الْمَنْصُوصَةِ لَا الْمُسْتَنْبَطَةِ) وَهُوَ رَأْيُ ابْنُ فُورَكٍ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ (وَقِيلَ عَكْسُهُ) أَيْ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا الْمَنْصُوصَةِ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ السُّبْكِيُّ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَقَالَ (الْإِمَامُ) أَيْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ (يَجُوزُ) عَقْلًا (وَلَمْ يَقَعْ) لَا أَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْبُرْهَانِ نَحْنُ نَقُولُ تَعْلِيلُ حُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَقْلًا نَظَرًا إلَى الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا.
وَقِيلَ مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ (لَنَا) عَلَى الْمُخْتَارِ (أَنَّ الْبَوْلَ وَالْمَذْيَ وَالرُّعَافَ) أُمُورٌ مُخْتَلِفَةُ الْحَقِيقَةِ (ثُمَّ كُلٌّ) مِنْهَا وَحْدَهُ (يُوجِبُ الْحَدَثَ وَهُوَ) أَيْ وَإِيجَابُ كُلٍّ مِنْهَا الْحَدَثَ هُوَ (الِاسْتِقْلَالُ وَكَذَا الْقَتْلُ) الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ (وَالرِّدَّةُ) كُلٌّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ (تُحِلُّهُ) أَيْ الْقَتْلَ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ حَيَاةُ الْوَاحِدِ بِوَاحِدٍ (فَإِنَّ مَنْعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ بَلْ وُجُوبَ الْقَتْلِ قِصَاصًا غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ وُجُوبِهِ
(3/181)
(بِالرِّدَّةِ وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْآخَرِ (انْتَفَى) قَتْلُ الْقِصَاصِ (بِالْعَفْوِ) مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ طَلَبِ الْقِصَاصِ (أَوْ الْإِسْلَامِ) أَيْ انْتَفَى قَتْلُ الرِّدَّةِ بِالْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ (وَبَقِيَ الْآخَرُ) أَيْ قَتْلُ الرِّدَّةِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَقَتْلُ الْقِصَاصِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَفْوِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي (عُورِضَ لَوْ تَعَدَّدَتْ) الْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ (كَانَ) تَعَدُّدُهَا (بِالْإِضَافَاتِ) إلَى أَدِلَّتِهَا (إذْ لَيْسَ مَا بِهِ الِاخْتِلَافُ) أَيْ اخْتِلَافُهَا (سِوَاهُ) أَيْ إضَافَتِهَا إلَى أَدِلَّتِهَا (وَاللَّازِمُ) أَيْ تَعَدُّدُهَا بِالْإِضَافَاتِ (بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِضَافَاتِ لَا تُوجِبُ تَعَدُّدًا فِي ذَاتِ الْمُضَافِ) وَهُوَ الْحُكْمُ كَالْحَدَثِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ (وَإِلَّا) لَوْ أَوْجَبْته (لَوَجَبَ) فِيهِ (لِكُلِّ حَدَثٍ وُضُوءٌ وَكَانَ يَرْتَفِعُ أَحَدُهَا) أَيْ الْأَحْدَاثِ بِالْوُضُوءِ الْوَاحِدِ (وَيَبْقَى الْآخَرُ) .
هَذَا (ثُمَّ الْجَوَابُ) عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ (أَنَّ ذَلِكَ) أَيْ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِكُلٍّ وَارْتِفَاعَ أَحَدِهَا بِهِ مَرَّةً دُونَ الْآخَرِ إنَّمَا هُوَ (إلَى الشَّرْعِ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّلَازُمُ بَيْنَ مُسَبَّبَاتٍ فِي الِارْتِفَاعِ) كَالْحَدَثِ الْمُسَبَّبِ عَنْ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَالرُّعَافِ مَثَلًا فَإِذَا ارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْقَى الْآخَرُ (وَلَا يُعْتَبَرُ) التَّلَازُمُ فِي الِارْتِفَاعِ (فِي) مُسَبَّبَاتٍ (أُخْرَى) كَالْقَتْلِ الْمُسَبَّبِ عَنْ الرِّدَّةِ وَعَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَعَنْ الزِّنَا إذْ يَرْتَفِعُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَرْتَفِعُ الْآخَرُ ثُمَّ الْجَوَابُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ) أَيْ قَوْلِهِ وَإِلَّا وَجَبَ لِكُلِّ حَدَثٍ وُضُوءٌ إلَى آخِرِهِ (وَالْمَطْلُوبُ) وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ الْمَذْكُورَةُ (ثَابِتٌ دُونَهُ) أَيْ ذِكْرِ السَّنَدِ (لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَعَدُّدَ الْإِضَافَةِ لَا يُوجِبُهُ) أَيْ التَّعَدُّدَ (فِي ذَاتِهِ) أَيْ الْمُضَافِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعَدُّدُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ الْإِضَافَاتُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالْجُدُودَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ ضَرُورِيُّ الْبُطْلَانِ (وَثُبُوتُ ارْتِفَاعِ بَعْضِهِمَا) أَيْ الْأَحْكَامِ (دُونَ بَعْضٍ فِي صُورَةٍ) أَيْ الْقَتْلِ قِصَاصًا وَرِدَّةً (إنَّمَا يَكْفِي دَلِيلًا عَلَى التَّعَدُّدِ) لِلْأَحْكَامِ (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِسَبَبِ خَصِّهَا (لَا فِي غَيْرِهَا كَمَا فِي الْقَتْلِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا) أَيْ الْقَتْلَيْنِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ (حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْعَفْوُ وَلَا الْبَدَلُ (وَالْآخَرَ) وَهُوَ الْقَتْلُ قِصَاصًا (حَقُّ الْعَبْدِ) يَجُوزُ لَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيُجْزِئُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالْبَدَلُ.
(وَمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ فَبَالَ ثُمَّ رَعَفَ فَتَوَضَّأَ حَنِثَ لَا يُشْكِلُ مَعَ قَوْلِهِ بِاتِّحَادِ الْحُكْمِ لَا الْعُرْفِ فِي مِثْلِهِ) إذْ الْعُرْفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ بَوْلٍ وَرُعَافٍ (تَوَضَّأَ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ) وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ (قِيلَ) أَيْ قَالَ الْآمِدِيُّ (وَالْخِلَافُ فِي) الْحُكْمِ (الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ وَالْمُخَالِفُ) فِي جَوَازِ التَّعَدُّدِ (يَمْنَعُهُ) أَيْ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ (فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ) بَلْ الْحُكْمُ فِيهَا وَهُوَ الْحَدَثُ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ (وَالظَّاهِرُ بَعْدَهُ) أَيْ الْوَاحِدِ الشَّخْصِيِّ (مِنْ الشَّرْعِ وَشَخْصِيَّةِ مُتَعَلِّقِهِ) أَيْ الْحُكْمِ كَمَا عَزَّ مَثَلًا (لَا تُوجِبُهُ) أَيْ تَشَخُّصَ الْحُكْمِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ انْدِرَاجِهِ فِي كُلِّيٍّ كَالزَّانِي مَثَلًا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (بَلْ) إنَّمَا يُوجِبُ شَخْصِيَّةَ الْحُكْمِ (مَا) يَكُونُ مَخْصُوصًا بِمُتَعَلِّقٍ خَاصٍّ بِعَيْنِهِ شَرْعًا (كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ) فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَا وَحْدَهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَعَلِّقُهَا (وَلَا يَتَعَدَّدُ فِي مِثْلِهِ) أَيْ مِثْلِ هَذَا (عِلَلٌ) .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاحِدَ الشَّخْصِيَّ بَعِيدٌ وَالْحَقِيقِيَّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي الْوَاحِدِ النَّوْعِيِّ (وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال) لِلْمُخْتَارِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ (لَوْ امْتَنَعَ) تَعَدُّدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ (امْتَنَعَ تَعَدُّدُ الْأَدِلَّةِ) لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَدِلَّةٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ (فَقَدْ مُنِعَتْ الْمُلَازَمَةُ) وَأُسْنِدَ الْمَنْعُ كَمَا ذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْبَاعِثَةَ أَخَصُّ) مِنْ مُطْلَقِ الْأَدِلَّةِ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْعِلَلَ أَدِلَّةٌ بَاعِثَةٌ لَا مُجَرَّدُ أَمَارَةٍ فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْمُلَازَمَةِ لَوْ امْتَنَعَ تَعَدُّدُ الْأَدِلَّةِ الْبَاعِثَةِ لَامْتَنَعَ تَعَدُّدُ الْأَدِلَّةِ فَيَلْحَقُهَا الْمَنْعُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ الْأَوَّلِ امْتِنَاعُ الثَّانِي إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ الْأَخَصِّ امْتِنَاعُ الْأَعَمِّ فَلَا يَصِحُّ لَامْتَنَعَ تَعَدُّدُ الْأَدِلَّةِ مُطْلَقًا (الْمَانِعُونَ) تَعَدُّدَ الْعِلَلِ قَالُوا (لَوْ تَعَدَّدَتْ) الْعِلَلُ الْمُسْتَقِلَّةُ (لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ) أَيْ التَّنَاقُضُ اللَّازِمُ (الِاسْتِقْلَالُ) أَيْ اسْتِقْلَالُهَا (وَعَدَمُهُ) أَيْ وَعَدَمُ اسْتِقْلَالِهَا (لِلثُّبُوتِ) أَيْ لِفَرْضِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ (بِكُلٍّ) مِنْهَا (بِلَا حَاجَةٍ إلَى غَيْرِهِ) مِنْ الْبَاقِيَةِ (وَهُوَ) أَيْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أُخْرَى هُوَ (الِاسْتِقْلَالُ وَعَدَمُهُ) أَيْ وَالْفَرْضُ عَدَمُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا (لِاسْتِقْلَالِ غَيْرِهِ) أَيْ لِفَرْضِ اسْتِقْلَالِ غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ
(3/182)
ذَلِكَ الْحُكْمُ (بِهِ) أَيْ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ (وَاسْتِغْنَاءِ الْمَحَلِّ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الثُّبُوتِ (فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ عَنْ كُلٍّ بِالْآخَرِ وَعَدَمِهِ) أَيْ وَلِعَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الْمَحَلِّ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ عَنْ كُلٍّ بِالْآخَرِ (مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ تَرَتَّبَتْ الْأَوْصَافُ أَوْ وُجِدْت مَعًا وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ إلْزَامُ التَّنَاقُضِ فِي الْمَحَلِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ (وَ) لَزِمَ (الثُّبُوتُ) لِلْحُكْمِ (بِهِمَا) أَيْ بِالْعِلَّتَيْنِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ (لَا بِهِمَا) لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِكُلٍّ يَمْنَعُ الثُّبُوتَ بِالْآخَرِ (فِي الْمَعِيَّةِ) وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.
(وَ) لَزِمَ (تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ فِي التَّرْتِيبِ) أَيْ فِي حُصُولِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ مَا كَانَ حَاصِلًا بِالْأُولَى وَهَذَا لَازِمٌ آخَرُ فَوْقَ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَالْجَوَابُ الِاسْتِقْلَالُ) أَيْ مَعْنَاهُ فِيهَا (كَوْنُهَا بِحَيْثُ إذَا انْفَرَدَتْ ثَبَتَ بِهَا أَيْ عِنْدَهَا) الْحُكْمُ (وَالْحَيْثِيَّةُ) أَيْ وَهَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ ثَابِتَةٌ (لَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي الْمَعِيَّةِ وَالتَّرْتِيبِ) كَمَا فِي الِانْفِرَادِ (لَا) أَنَّ الِاسْتِقْلَالَ فِيهَا (بِمَعْنَى إفَادَتِهَا الْوُجُودَ كَالْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ) أَيْ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ تُفِيدُ الْوُجُودَ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا تُفِيدُهُ عِلَّةٌ أَصْلًا بَلْ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ جَلَّ وَعَلَا وَبِهَذَا ظَهَرَ وَجْهُ تَفْسِيرٍ بِهَا بِعِنْدِهَا (فَانْتَفَى الْكُلُّ) أَيْ لُزُومُ التَّنَاقُضِ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ تَعَدُّدَ الْعِلَلِ مُطْلَقًا (أَيْضًا أَجْمَعُوا) أَيْ الْأَئِمَّةُ (عَلَى التَّرْجِيحِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا) أَهِيَ (الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ) كَمَا تَقَوَّلَهُ أَصْحَابُنَا (أَوْ الطَّعْمُ) كَمَا تَقَوَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ (أَوْ الِاقْتِيَاتُ) كَمَا تَقَوَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ (وَهُوَ) أَيْ التَّرْجِيحُ (فَرْعُ صِحَّةِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ) مِنْهَا إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ (وَ) فَرْعُ (لُزُومِ انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ) أَيْ لَوْ جَازَ التَّعَدُّدُ لَقَالُوا بِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِالتَّرْجِيحِ لِتَعْيِينِ وَاحِدَةٍ وَنَفْيِ مَا سِوَاهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَبَثًا بَلْ بَاطِلًا.
(وَالْجَوَابُ أَنَّهُ) أَيْ الْإِجْمَاعَ عَلَى التَّرْجِيحِ (لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (هُنَا) أَيْ فِي الرِّبَا (إحْدَاهَا) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ (وَإِلَّا) لَوْ انْتَفَى الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا (جَعَلُوهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (الْكُلَّ) أَيْ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ صَلَاحِيَّةَ كُلٍّ لِلْعِلِّيَّةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى إلْغَاءِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا جَمِيعًا وَذَلِكَ قَوْلٌ بِجُزْئِيَّةِ كُلٍّ لِلْعِلَّةِ لِيَكُونَ لِكُلٍّ دَخْلٌ فِي الْعِلِّيَّةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ التَّرْجِيحِ وَقَالَ (الْقَاضِي) حَالَ كَوْنِهِ مُجَوِّزًا فِي الْمَنْصُوصَةِ لَا الْمُسْتَنْبَطَةِ (إذَا نَصَّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْ مُتَعَدِّدٍ) مِنْ الْأَوْصَافِ بِالْعِلِّيَّةِ (فِي مَحَلٍّ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ) أَيْ التَّعَدُّدِ (ارْتَفَعَ احْتِمَالُ التَّرْكِيبِ) لِمُنَافَاتِهِ الِاسْتِقْلَالَ وَالْفَرْضُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْمَنْصُوصَةِ فَجَازَ التَّعَدُّدُ فِيهَا (وَمَا لَمْ يَنُصَّ) فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي مَحَلٍّ (مَعَ الصَّلَاحِيَّةِ) أَيْ صَلَاحِيَّةِ كُلٍّ مِنْهَا لِلْعِلِّيَّةِ (بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ) بِخُصُوصِهِ (مِنْ الْجُزْئِيَّةِ) أَيْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ (أَوْ الِاسْتِقْلَالِ) أَيْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً (فَتَعْيِينُ إحْدَاهُمَا) أَيْ الْجُزْئِيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ (تَحَكُّمٌ) لِقِيَامِ الِاحْتِمَالِ عَلَى السَّوَاءِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ وَفَرْضِ انْتِفَاءِ النَّصِّ عَلَى أَحَدِهِمَا (فَظَهَرَ أَنَّ اعْتِقَادَهُ) أَيْ الْقَاضِي (جَوَازَ التَّعَدُّدِ فِيهِمَا) أَيْ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَة (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ) أَيْ التَّعَدُّدِ (فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لِلِاحْتِمَالِ) أَيْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَيَقْدِرُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ فِي الْمَنْصُوصَةِ لِلنَّصِّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنْ التَّعَدُّدِ (فَإِذَا اجْتَمَعَتْ) الْعِلَلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ (يَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ) مِنْ الْجُزْئِيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ لَا بِنَاءً عَلَى الْجُزْئِيَّةِ عَيْنًا.
(وَالْجَوَابُ مَنْعُهُ) أَيْ لُزُومِ التَّحَكُّمِ عَلَى تَقْدِيرِ تَعْيِينِ إحْدَاهُمَا لِجَوَازِ اسْتِنْبَاطِ الِاسْتِقْلَالِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعَقْلِ وَذَلِكَ (بِالْعِلْمِ بِالْحُكْمِ) أَيْ بِثُبُوتِهِ (مَعَ إحْدَاهُمَا فِي مَحَلٍّ كَمَا) يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ (مَعَ) عِلَّةٍ (أُخْرَى فِي) مَحَلٍّ (آخَرَ فَيُحْكَمُ بِهِ) أَيْ الِاسْتِقْلَالِ (لِكُلٍّ) مِنْهَا (فِي مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ وَعَاكَسَهُ) أَيْ مَذْهَبُ الْقَاضِي يَقُولُ (يُقْطَعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ بِأَنَّهَا الْبَاعِثُ) لِلشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ لِتَعْيِينِهِ إيَّاهَا لَهُ (فَانْتَفَى احْتِمَالُ غَيْرِهَا) لِلْعِلِّيَّةِ كُلًّا وَجُزْءًا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا (وَالْمُسْتَنْبَطَة وَهْمِيَّةٌ) بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَيْ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ (لَا يَنْتَفِي فِيهَا ذَلِكَ) أَيْ احْتِمَالُ غَيْرِهَا لِلْعِلِّيَّةِ جُزْءًا وَكُلًّا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ الْمَجْمُوعَ مِنْهُمَا وَأَنْ يَكُونَ
(3/183)
هَذَا كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ عَلَى سَوَاءٍ وَقَدْ تَرَجَّحَ كُلٌّ بِدَلِيلِهِ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِعِلِّيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ (وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْكُلِّ) أَيْ الْقَطْعِ بِالْمَنْصُوصَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَلْفُوظَةُ السَّمْعِيَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهَا ظَنِّيَّةً أَوْ إسْنَادُهَا ظَنِّيًّا وَانْتِفَاءُ احْتِمَالِ غَيْرِهَا لِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْبَوَاعِثِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِمَصَالِحَ مُتَعَدِّدَةٍ وَدَافِعًا لِمَفَاسِدَ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَالَ (الْإِمَامُ لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ) التَّعَدُّدُ (شَرْعًا وَقَعَ عَادَةً وَلَوْ) كَانَ الْوُقُوعُ (نَادِرًا) لِأَنَّ النَّادِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَلَمْ يَقَعْ (وَالثَّابِتُ بِأَسْبَابِ الْحَدَثِ مُتَعَدِّدٌ كَمَا تَقَدَّمَ) حَتَّى قِيلَ إذَا نَوَى رَفْعَ أَحَدِ أَحْدَاثِهِ لَمْ يَرْفَعْ الْآخَرُ (أُجِيبَ بِمَنْعِ عَدَمِ الْوُقُوفِ بَلْ مَا ذَكَرَ) مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ وَالْقَتْلِ يُفِيدُ الْوُقُوعَ (وَكَوْنُ الثَّابِتِ بِكُلٍّ) مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ (غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ الثَّابِتِ (بِالْآخَرِ إنْ أَثْبَتَهُ) أَيْ كَوْنَ غَيْرِهِ (بِالِانْفِكَاكِ نَفْيًا) أَيْ بِأَنْ يَنْتَفِيَ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ (فَتَقَدَّمَ اقْتِصَارُهُ) فِي الْقَتْلِ لِتَحَقُّقِ تَعَدُّدِ الْمُسْتَحِقِّ وَالْأَحْكَامِ (وَانْتِفَاؤُهُ) أَيْ الِانْفِكَاكِ (فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ) وَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ إذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ مَعَ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ صَحَّ وُضُوءُهُ (وَتَجْوِيزُهُ) أَيْ تَعَدُّدِ الْحُكْمِ لِتَعَدُّدِ الْعِلَلِ (لَا يَكْفِيهِ) أَيْ الْإِمَامَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُثَبِّتِ لَهُ (لِأَنَّهُ مُسْتَدِلٌّ) لَا مُعْتَرِضٌ (ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُعَدِّدُونَ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ الْعِلَّةِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ (أَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ يَثْبُتُ (بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِالْوَصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ الْعِلَلُ إذَا اجْتَمَعَتْ (فِي التَّرَتُّبِ) أَيْ إذَا وُجِدَتْ مُتَرَتِّبَةً (وَفِي الْمَعِيَّةِ) اخْتَلَفُوا (قِيلَ بِالْمَجْمُوعِ) مِنْهَا (فَكُلٌّ) مِنْهَا (جُزْءٌ) مِنْ الْعِلَّةِ.
(وَقِيلَ) الْعِلَّةُ (وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا وَالْمُخْتَارُ) أَنَّهُ يَثْبُتُ (بِكُلٍّ) مِنْهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً (لِأَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ كُلٍّ مِنْهَا عِلَّةً (لَوْ امْتَنَعَ كَانَ) الِامْتِنَاعُ (لِاجْتِمَاعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَدْلُولٍ) وَاحِدٍ (وَهُوَ) أَيْ وَاجْتِمَاعُهَا عَلَيْهِ (حَقٌّ اتِّفَاقًا) فَلَا امْتِنَاعَ وَقَالَ الذَّاهِبُ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ (الْمَجْمُوعُ لَوْ اسْتَقَلَّ) كُلٌّ مِنْهَا (فِي الْمَعِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ) إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا (بِلُزُومِ الثُّبُوتِ بِكُلٍّ وَ) بِلُزُومِ (عَدَمِهِ) أَيْ الثُّبُوتِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ (وَمَرَّ جَوَابُهُ) وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ لَهَا كَوْنُهَا بِحَيْثُ إذَا انْفَرَدَتْ يَثْبُتُ عِنْدَهَا الْحُكْمُ وَهَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ ثَابِتَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ (وَ) لَزِمَ (التَّحَكُّمُ) إنْ ثَبَتَ بِوَاحِدٍ فَقَطْ (قُلْنَا) إنَّمَا يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ (وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ) الْحُكْمُ (بِكُلٍّ) مِنْهَا أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِكُلٍّ مِنْهَا (كَالشَّاهِدِ فِي) الْأَدِلَّةِ (السَّمْعِيَّةِ عَلَى حُكْمٍ) فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ وَقَالَ (غَيْرُ الْمُعَيِّنِ) أَيْ الذَّاهِبُ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَعِيَّةِ يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ (لَوْلَاهُ) أَيْ أَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ (لَزِمَ التَّحَكُّمُ فِي التَّعْيِينِ) أَيْ فِي كَوْنِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَ) لَزِمَ (خِلَافُ الْوَاقِعِ فِي الْجُزْئِيَّةِ) أَيْ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا جُزْءَ الْعِلَّةِ حَتَّى كَانَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ (لِثُبُوتِ الِاسْتِقْلَالِ لِكُلٍّ) مِنْهَا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَا.
(الْجَوَابُ اخْتِيَارٌ ثَالِثٌ كَمَا ذَكَرْنَا) وَهُوَ أَنَّهُ بِكُلٍّ وَلَا يُنَافِي الِاسْتِقْلَالَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلًّا أَمَارَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا مُؤَثِّرٌ فِي وُجُودِهِ فَلَا مَانِعَ كَمَا فِي السَّمْعِيَّةِ وَأَنَّهُ حَيْثِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِكُلٍّ وَاجْتِمَاعُهَا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ (وَلَنَا فِي عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ) وَهُوَ ثُبُوتُ أَحْكَامٍ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ (تَعَدُّدُ حُكْمِ عِلَّةٍ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ) أَيْ مَحْضُ التَّعْرِيفِ لِلْحُكْمِ (كَالْغُرُوبِ لِجَوَازِ الْإِفْطَارِ وَوُجُوبِ الْمَغْرِبِ) ثَابِتٌ (بِلَا خِلَافٍ وَتَسْمِيَةُ هَذَا) الْمُعَرَّفِ (عِلَّةً اصْطِلَاحٌ وَبِمَعْنَى الْبَاعِثِ فِي الْمُخْتَارِ لَا بُعْدَ فِي مُنَاسَبَةِ وَصْفٍ لِحُكْمَيْنِ كَالزِّنَا لِلْحُرْمَةِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ لِهَذَا (فِيهِ) أَيْ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ حُكْمِ عِلَّةٍ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ (تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ) الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي بُعِثَتْ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ (بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِالْوَصْفِ) الْوَاحِدِ (مَصْلَحَتَانِ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ) الْمَصْلَحَةُ (الْمَقْصُودَةُ إلَّا بِهِمَا) أَيْ بِالْحُكْمَيْنِ أَمَّا إذَا حَصَلَ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ مَصْلَحَتَانِ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ إلَّا بِالْحُكْمَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ.
وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ إنْ لَمْ يَتَضَادَّا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يُنَاسِبُ الْمُتَضَادَّيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ (أَنْ لَا تَتَأَخَّرَ) الْعِلَّةُ (عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَإِلَّا) لَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ (ثَبَتَ) حُكْمُ الْأَصْلِ (بِلَا بَاعِثٍ) وَهُوَ مُحَالٌ (وَأَيْضًا) لَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ (يَثْبُتُ بِذَلِكَ) أَيْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ (لَمْ يُشْرَعْ لَهَا) أَيْ لِلْعِلَّةِ (وَمِثْلُ) هَذَا كَمَا فِي حَاشِيَةِ التَّفْتَازَانِيِّ (بِتَعْلِيلِ نَجَاسَةِ مُصَابِ عَرَقِ
(3/184)
الْخِنْزِيرِ بِأَنَّهُ) أَيْ عَرَقَهُ (مُسْتَقْذَرٌ) كَاللُّعَابِ فَيَكُونُ نَجِسًا مِثْلَهُ (وَهُوَ) أَيْ الِاسْتِقْذَارُ (تَعْلِيلُ نَجَاسَةِ اللُّعَابِ بِهِ) أَيْ بِالِاسْتِقْذَارِ (وَهُوَ) أَيْ إثْبَاتُ نَجَاسَةِ الْعَرَقِ (قِيَاسٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى كَوْنِ اللُّعَابِ نَجِسًا (وَهُوَ) أَيْ الِاسْتِقْذَارُ (مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا) أَيْ النَّجَاسَةِ (وَهُوَ) أَيْ تَأَخُّرُهُ عَنْهَا (غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ الْمُقَارَنَةِ) أَيْ أَنْ يَثْبُتَا مَعًا (وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ) مِثَالًا لِهَذَا (تَعْلِيلُ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ الْجُنُونُ بِالْجُنُونِ) لِيَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ وِلَايَتِهِ عَلَى الْبَالِغِ الْمَجْنُونِ قِيَاسًا عَلَيْهِ (لِأَنَّ وِلَايَتَهُ) أَيْ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ ثَابِتَةٌ (قَبْلَهُ) أَيْ عُرُوضِ الْجُنُونِ لَهُ بِالصِّغَرِ (وَأَمَّا سَلْبُهَا) أَيْ وَأَمَّا التَّمْثِيلُ لَهُ كَمَا ذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ بِتَعْلِيلِ سَلْبِ الْوِلَايَةِ عَنْ الصِّغَرِ (بِعُرُوضِهِ) أَيْ الْجُنُونِ (لِلْوَلِيِّ فَعَكْسُ الْمُرَادِ) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَإِنَّمَا سَلَبَهَا عَنْهُ عُرُوضُ جُنُونِهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَأَخُّرُ الْعِلَّةِ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ بِلَا تَقَدُّمِهَا عَلَيْهِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ سَلْبُ وِلَايَتِهِ عَنْ الْبَالِغِ الْمَجْنُونِ بِعِلَّةِ جُنُونِهِ نَفْسِهِ قِيَاسًا فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي قَوْلِهِ لِلْوَلِيِّ أَيْ الَّذِي هُوَ الصَّغِيرُ وَهُوَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى سَلْبَ الْوِلَايَةِ عَنْ الصَّغِيرِ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ لَهُ.
وَحُكْمُ الْأَصْلِ سَلْبُ الْوِلَايَةِ وَالْعِلَّةُ الْجُنُونُ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ السَّلْبِ إذْ السَّلْبُ حَاصِلٌ قَبْلَ الْجُنُونِ بِعِلَّةِ الصِّغَرِ مَثَلًا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُجْعَلَ سَلْبُ الْوِلَايَةِ عَنْ الْوَلِيِّ الَّذِي عَرَضَ لَهُ الْجُنُونُ كَالْأَبِ مَثَلًا فَرْعًا وَعَنْ الصَّغِيرِ الْمَجْنُونِ أَصْلًا وَالْجُنُونُ عِلَّةٌ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ قَبْلَهُ لِعِلَّةِ الصِّغَرِ وَالْمَعْنَى كَأَنْ يُعَلَّلَ سَلْبُ الْوِلَايَةِ عَنْ الصَّغِيرِ الْمَجْنُونِ بِالْجُنُونِ الَّذِي هُوَ عَارِضٌ فِي الْوَلِيِّ الْبَالِغِ الْمَقِيسِ عَلَى الصَّغِيرِ الْمَجْنُونِ وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ اعْلَمْ أَنَّ الصِّبَا وَالْجُنُونَ وَالرِّقَّ يَسْلُبُ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ اتِّفَاقًا وَيَنْقُلُهَا إلَى الْبَعِيدِ وَالْغَيْبَةَ الْبَعِيدَةَ لَا تَسْلُبُ الْوِلَايَةَ وَلَا تَنْقُلُهَا إلَى الْبَعِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ لَهُ وَالسُّلْطَانُ يَنُوبُ عَنْهُ فَقَاسَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ ثُبُوتَهَا لَهُ عَلَى سَلْبِهَا عَنْ الصَّغِيرِ وَالْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ عَدَمُ الْعَقْلِ وَفِي الْفَرْعِ الْعَقْلُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قِيَاسِ الْعَكْسِ.
فَإِنْ عُلِّلَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ لَهُ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مَسْلُوبَةٌ عَنْ الصَّغِيرِ قَبْلَ الْجُنُونِ الْعَارِضِ لَهُ (وَأَمَّا مَنْعُهُ) أَيْ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ (إذَا قُدِّرَ) الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ (أَمَارَةً) عَلَى الْحُكْمِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ حِينَئِذٍ (تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ) فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ قَبْلَ هَذَا (فَلَا) يَصِحُّ (لِاجْتِمَاعِ الْأَمَارَاتِ) أَيْ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهَا (وَلَيْسَ تَعَاقُبُهَا) أَيْ الْأَمَارَاتِ (مَانِعًا) مِنْ اجْتِمَاعِهَا بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّ الْمُعَرَّفَاتِ إذَا تَرَتَّبَتْ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ بِالْأَوَّلِ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ الثَّانِي مَعْرِفَةَ جِهَةِ دَلَالَتِهِ لَا مَعْرِفَةَ الْمَدْلُولِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ حَاصِلٌ بِوَاحِدٍ مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ) أَيْ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ التَّعْلِيلِ بِهَا بُطْلَانُ حُكْمِ الْقِيَاسِ أَعْنِي حُكْمَ الْمَحَلِّ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُعَلَّلُ بِهَا فَأَرَادَ بِالْأَصْلِ هُنَا الْحُكْمَ كَمَا هُوَ أَحَدُ اسْتِعْمَالَاتِهِ (فَتَبْطُلُ هِيَ) أَيْ تِلْكَ الْعِلَّةُ حِينَئِذٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَصْلُهَا وَالْفَرْعُ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ أَصْلِهِ (مِثَالُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ تَعْلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ) مَا سَبَقَ تَخْرِيجُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» ) مَعَ أَنَّهُ (يَعُمُّ مَا لَا يُكَالُ قِلَّةً) لِعُمُومِ لَفْظِ الطَّعَامِ فَيَكُونُ مِنْ حُكْمِهِ حُرْمَةُ بَيْعِ بَعْضِهِ الْقَلِيلِ بِبَعْضِهِ الْقَلِيلِ مُتَفَاضِلًا (بِالْكَيْلِ) وَهَذَا هُوَ الْمُعَلَّلُ بِهِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَعْلِيلٍ (فَخَرَجَ) بِهَذَا التَّعْلِيلِ مَا لَا يُكَالُ قِلَّةً فَيَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ حُرْمَةِ بَيْعِ بَعْضِهِ الْقَلِيلِ بِبَعْضِهِ الْقَلِيلِ مُتَفَاضِلًا فَيَبْطُلُ عُمُومُ حُكْمِ الْأَصْلِ «وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» ) أَيْ وَتَعْلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا النَّصَّ النَّبَوِيَّ السَّابِقَ تَخْرِيجُهُ فِي التَّأْوِيلَاتِ الْمَحْكِيَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَيْلِ التَّقْسِيمِ الثَّانِي لِلْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ دَلَالَتِهِ الْمُفِيدَةِ ظَاهِرُهُ تَعْيِينُ الشَّاةِ (بِسَدِّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ فَانْتَفَى وُجُوبُهَا) أَيْ عَيْنِ الشَّاةِ (إلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قِيمَتِهَا) حِينَئِذٍ لِأَنَّ سَدَّ خُلَّتِهِ كَمَا يَكُونُ بِعَيْنِهَا يَكُونُ بِقِيمَتِهَا فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ تَعْيِينُ عَيْنِهَا (وَتَقَدَّمَ دَفْعُهُ) أَيْ هَذَا (فِي التَّأْوِيلَاتِ وَ) دَفْعُ (الْأَوَّلِ
(3/185)
فِي الِاسْتِثْنَاءِ) فَرَاجَعَهُمَا مِنْهُمَا (ثُمَّ الْمُرَادُ) مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُتَفَاضِلًا مِمَّا يُكَالُ (عَدَمُ الْكَيْلِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ) فَلَيْسَ هُوَ حِينَئِذٍ بِمِثَالٍ مُطَابِقٍ.
(وَ) مِثَالُهُ (لِلْحَنَفِيَّةِ تَعْلِيلُ نَصِّ السَّلَمِ) السَّابِقِ فِي أَوَّلِ شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُفِيدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهِ حَالًّا أَيْضًا (يَخْرُجُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ) مَجْلِسَ الْعَقْدِ وَنَحْوُهُ (الْمُبْطِلُ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) الْمَذْكُورُ فِي النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ (وَأَمَّا الِافْتِتَاحُ بِنَحْوِ اللَّهُ أَعْظَمُ) أَوْ أَجَلُّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَبِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (إذْ التَّكْبِيرُ التَّعْظِيمُ) لَا بِتَعْلِيلٍ غَيْرِ حُكْمِ الْأَصْلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ مَنْ تَوَهَّمَهُ وَقَوْلُهُ (وَتَقَدَّمَ) سَهْوٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ (وَمِنْهَا) أَيْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ (أَنْ لَا تُخَالِفَ نَصًّا) أَيْ أَنْ لَا تَكُونَ نَاشِئَةً فِي الْفَرْعِ حُكْمًا يُخَالِفُ النَّصَّ ثُمَّ أَشَارَ إلَى مِثَالِهِ بِقَوْلِهِ (تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ كَالْكِسْوَةِ) أَيْ قِيَاسُهُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيهَا (وَشَرْطُ الْأَيْمَانِ) فِي الرَّقَبَةِ الْمُحَرَّرَةِ كَفَّارَةٌ (فِي الْيَمِينِ كَالْقَتْلِ) أَيْ: قِيَاسًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الرَّقَبَةِ الْمُحَرَّرَةِ كَفَّارَةً فِي الْقَتْلِ (يَبْطُلُ إطْلَاقُ نَصِّ الْإِطْعَامِ وَالرَّقَبَةِ) لِأَنَّ الْإِطْعَامَ أَعَمُّ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَمُطْلَقُ الرَّقَبَةِ أَعَمُّ مِنْ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ لَا يَجُوزُ كُلٌّ مِنْهُمَا وَالْأَوَّلُ تَقَدَّمَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ الْفَرْعِ وَنِسْبَتُهُ إلَى الثَّانِي سَهْوٌ (أَوْ) أَنْ لَا تُخَالِفَ (إجْمَاعًا) أَيْ وَأَنْ لَا تَكُونَ نَاشِئَةً فِي الْفَرْعِ حُكْمًا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ.
وَمِثَالُهُ (مَا مَرَّ مِنْ مَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ) فَلَا تُقَاسُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ عَلَى صَوْمِهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ أَدَائِهِ عَلَيْهِ بِجَامِعِ السَّفَرِ الْمُوجِبِ لِلْمَشَقَّةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لِعَدَمِ وُجُوبِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ أَدَائِهَا عَلَيْهِ (وَأَنْ لَا تَكُونَ الْمُسْتَنْبَطَةُ بِمُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ) أَيْ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ إذَا كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارَضَةً بِمُعَارِضٍ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ (أَيْ وَصْفٍ) مَوْجُودٍ فِيهِ (يَصِحُّ) لِلْعِلِّيَّةِ حَالَ كَوْنِهِ (غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْفَرْعِ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُعَارِضُ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَاهَا بِنَاءً (عَلَى عَدَمِ) جَوَازِ (تَعَدُّدِ) الْعِلَلِ (الْمُسْتَقِلَّةِ لَا مَعَ جَوَازِهِ) أَيْ تَعَدُّدِهَا (إلَّا مَعَ عَدَمِ تَرْجِيحِهِ) أَيْ التَّعَدُّدِ (عَلَى التَّرْكِيبِ فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ التَّرَكُّبُ فِيهِ رَاجِحًا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُعَارِضُ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَاهَا فَلَا رَيْبَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِهِ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ اللَّهُمَّ إلَّا بِمُرَجِّحٍ لَهَا عَلَى الْمُعَارِضِ (وَمَا قِيلَ وَلَا) بِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ أَوْ مُسَاوٍ (فِي الْفَرْعِ تَقَدَّمَ) فِي شُرُوطِ الْفَرْعِ وَأَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ شَرْطُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ لَا شَرْطُ تَحَقُّقِهَا وَرَاجَعَ ثَمَّةَ (وَأَنْ لَا تُوجِبَ) الْمُسْتَنْبَطَةُ (زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْأَصْلِ) لَمْ يُثْبِتْهَا النَّصُّ أَيْ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ إذَا كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً هَذَا وَذَلِكَ (كَتَعْلِيلِ) حُرْمَةِ بَيْعِ الطَّعَامِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ (حَدِيثِ الطَّعَامِ) الْمَذْكُورِ آنِفًا (بِأَنَّهُ رِبًا) فِيمَا يُوزَنُ كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ (فَيَلْزَمُ التَّقَابُضُ) فِي الْمَجْلِسِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ النَّقْدَانِ فَكَذَا فِي الْفَرْعِ وَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ لِمَا فِي النَّقْدِ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى السُّنَّةِ (وَلَيْسَ) لُزُومُ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ مَذْكُورًا (فِي نَصِّ الْأَصْلِ) الَّذِي اُسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ الْعِلَّةُ (وَقِيلَ إنْ كَانَتْ) الزِّيَادَةُ (مُنَافِيَةً لَهُ) أَيْ لِحُكْمِ الْأَصْلِ اُشْتُرِطَ عَدَمُ إيجَابِ الْعِلَّةِ لَهَا إلَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْوَجْهُ) وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ لِأَنَّهُ نُسِخَ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (وَيَرْجِعُ) هَذَا الشَّرْطُ حِينَئِذٍ (إلَى مَا يَبْطُلُ أَصْلُهُ) أَيْ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي تَكْرَارِهِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً (لَا مُوجِبَ) لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ إيجَابِ الْعِلَّةِ لَهَا قُلْت وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِاتِّجَاهِ الْإِطْلَاقِ عَلَى أُصُولِ مَشَايِخِنَا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ مُطْلَقًا عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ نَسْخًا بِالِاجْتِهَادِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَإِنَّهَا بِالنَّصِّ فَتَلْزَمُ الزِّيَادَةُ بِالنَّصِّ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ كَانَا مُتَكَافِئَيْنِ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ (وَأَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ بِعُمُومِهِ أَوْ بِخُصُوصِهِ (مُتَنَاوِلًا حُكْمَ الْفَرْعِ) أَيْ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ هَذَا أَيْضًا
(3/186)
لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِهِ فَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى إثْبَاتِ الْأَصْلِ ثُمَّ الْعِلَّةِ ثُمَّ بَيَانِ وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ ثُمَّ بَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَيْضًا رُجُوعٌ عَنْ الْقِيَاسِ إلَى النَّصِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ لَا بِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ.
وَالرُّجُوعُ عَنْ دَلِيلٍ إلَى آخَرَ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ (وَالْوَجْهُ نَفْيُهُ) أَيْ هَذَا الشَّرْطِ (لِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ) وَالْغَرَضُ حَاصِلٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا مُوجِبَ لِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا (وَلَا يَسْتَلْزِمُ) تَنَاوُلُ الدَّلِيلِ حُكْمَ الْفَرْعِ (الرُّجُوعَ عَنْ الْقِيَاسِ بَلْ) يَسْتَلْزِمُ (الْإِفَادَةَ) لِلْحُكْمِ (بِهِ) أَيْ بِالْقِيَاسِ (غَيْرَ مُلَاحَظٍ غَيْرَهُ) أَيْ الْقِيَاسِ (وَبِغَيْرِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ وَهُوَ النَّصُّ أَيْضًا فَانْتَفَى قَوْلُ السُّبْكِيّ إنْ وَضَحَ فِي التَّطْوِيلِ مَقْصِدٌ فِقْهِيٌّ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَلَا وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الطَّرِيقِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لَكِنَّ الطَّرِيقَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا وَالْآخَرُ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ يَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ وَيُلْغَى الثَّانِي فَيَلْزَمُ الرُّجُوعُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ طَرِيقٍ قَبْلَ إتْمَامِهِ إلَى آخَرَ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَنَازُعٌ فِي دَلَالَةِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ.
(أَمَّا لَوْ تُنُوزِعَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ) مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا مَخْصُوصًا وَالْمُعَلَّلُ لَا يَرَى عُمُومَهُ (فَجَوَازُهُ) أَيْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ (اتِّفَاقٌ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (يُثْبِتُ بِهِ) أَيْ بِدَلِيلِهَا (الْعِلِّيَّةَ) لَهَا (ثُمَّ يُعَمِّمُ بِهَا) أَيْ بِالْعِلَّةِ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ وُجُودِهَا ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ تَقَدَّمَ فِي شُرُوطِ الْفَرْعِ وَسَمَّيْنَا ثَمَّةَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَقَدْ كَانَ فِي إسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ وَذِكْرِ مَا عَدَاهُ فِيمَا سَلَفَ أَوْ هُنَا كِفَايَةٌ (وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ كَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (حُكْمًا شَرْعِيًّا مِثَالُهُ لِلْحَنَفِيَّةِ) مَا رَوَوْا «عَنْ الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيَجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَهَذَا السِّيَاقُ لِحَدِيثِهَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ سَوْدَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَيُجْزِي عَنْهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَحُجَّ عَنْهُ» وَلَوْلَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيَذْكُرُ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ لَقُلْنَا هَذَا الْمَذْكُورُ قِطْعَةٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا مِثَالٌ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَاسَ) إجْزَاءَ الْحَجِّ عَنْهُ بِإِجْزَاءِ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ (بِعِلَّةِ كَوْنِهِ) أَيْ الْمَقْضِيِّ (دَيْنًا) فَإِنَّهُ فِي قُوَّةٍ يُجْزِئُ عَنْهُ فِي دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُجْزِئُ عَنْهُ فِي دَيْنِ الْعِبَادِ (وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ لُزُومُ أَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ) ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ قُلْت لَكِنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى مَا نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي مَسْأَلَةٍ تُثْبِتُ السَّبَبِيَّةَ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (فِي الْمُدَبَّرِ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يُبَاعُ كَأُمِّ الْوَلَدِ) فَإِنَّ فِيهِ قِيَاسَ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا مَمْلُوكَيْنِ تَعَلَّقَ عِتْقُهُمَا بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا قَالَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى احْتِرَازًا عَنْ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ كَإِنْ مِتُّ فِي هَذَا الْمَرَضِ فَأَنْتَ حُرٌّ.
(وَقِيلَ لَا) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا (لِلُزُومِ النَّقْضِ فِي التَّقَدُّمِ) أَيْ تَخَلُّفِ مَا فُرِضَ مَعْلُولًا عَمَّا فُرِضَ عِلَّةً إذَا كَانَ مَا فُرِضَ عِلَّةً مُتَقَدِّمًا بِالزَّمَانِ عَلَيْهِ (وَ) لُزُومُ (ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِلَا بَاعِثٍ فِي التَّأَخُّرِ) لِمَا فُرِضَ عِلَّةً عَلَيْهِ (وَ) لُزُومُ (التَّحَكُّمِ فِي الْمُقَارَنَةِ) أَيْ تَقَارُنِهِمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالْعِلِّيَّةِ مِنْ الْآخَرِ (وَمُنِعَ الْأَخِيرُ) أَيْ لُزُومُ التَّحَكُّمِ فِي الْمُقَارَنَةِ (لِتَمْيِيزِ الْمُنَاسَبَةِ وَغَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْمُنَاسِبَةِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ عِلِّيَّةَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَنْتَفِي لُزُومُ التَّحَكُّمِ (وَتَقَدَّمَ مَا فِيمَا قَبْلَهُ) أَيْ مَا قَبْلَ الْأَخِيرِ وَهُوَ كَوْنُ الْحُكْمِ يَثْبُتُ بِلَا بَاعِثٍ وَلُزُومُ النَّقْضِ فِي التَّخَلُّفِ مِنْ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ وَالتَّحْصِيلِ حَتَّى يَمْتَنِعَ فِيهَا التَّقَدُّمُ أَوْ التَّخَلُّفُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ لَا بِمَعْنَى إفَادَتِهَا الْوُجُودَ كَالْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ فِي جَوَابِ
(3/187)
الْمَانِعِينَ لِتَعَدُّدِ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ (ثُمَّ اُخْتِيرَ) أَيْ اخْتَارَ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ (تَعَيُّنُ كَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ) يَقْتَضِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ (كَبُطْلَانِ بَيْعِ الْخَمْرِ بِالنَّجَاسَةِ) الَّتِي هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِمُنَاسَبَتِهَا الْمَنْعَ مِنْ الْمُلَابَسَةِ تَكْمِيلًا لِمَقْصُودِ الْبُطْلَانِ وَهُوَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ (لَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ) يَقْتَضِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ (لِأَنَّ) الْحُكْمَ (الشَّرْعِيَّ لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى مَفْسَدَةٍ مَطْلُوبَةِ الدَّفْعِ وَإِلَّا لَمْ يُشْرَعْ ابْتِدَاءً.
(وَحَقَّقَ) الْمُحَقِّقُ عَضُدُ الدِّينِ (جَوَازَهَا) أَيْ جَوَازَ كَوْنِ الْعِلَّةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا مُشْتَمِلًا عَلَى مَفْسَدَةٍ (لِجَوَازِ اشْتِمَالِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ (عَلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ) مَرْجُوحَةٍ مَطْلُوبَةِ الدَّفْعِ (تُدْفَعُ بِحُكْمٍ آخَرَ) شَرْعِيٍّ (كَوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا لِحِفْظِ النَّسَبِ عَلَى الْإِمَامِ) فَوُجُوبُهُ عَلَى الْإِمَامِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ هِيَ حِفْظُ النَّسَبِ وَهُوَ حَدٌّ (ثَقِيلٌ يُؤَدِّي) تَكْرَارُ وُقُوعِهِ كَثِيرًا (إلَى مَفْسَدَةِ إتْلَافِ النُّفُوسِ) وَإِيلَامِهَا لِكَوْنِهِ دَائِرًا بَيْنَ رَجْمٍ كَمَا فِي الْمُحْصَنِ وَجَلْدٍ كَمَا فِي غَيْرِهِ (فَعُلِّلَ) وُجُوبُ الْحَدِّ (بِوُجُوبِ شَهَادَةِ الْأَرْبَعِ) مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْعُدُولِ بِأَنَّ الزَّانِيَ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْكَثِيرِ الَّتِي هِيَ الْإِتْلَافُ وَالْإِيلَامُ الشَّدِيدُ لِتَبْقَى مَصْلَحَةُ حِفْظِ النَّسَبِ خَالِصَةً (وَالْمُخْتَارُ) كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ (جَوَازُ كَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (مَجْمُوعَ صِفَاتٍ وَهِيَ الْمُرَكَّبَةُ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ جَوَازِهِ (فِي الْعَقْلِ وَوَقَعَ) كَوْنُهَا كَذَلِكَ (كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ) لِلْقِصَاصِ.
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ مَانِعِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَ صِفَاتٍ (لَوْ كَانَ) أَيْ لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا مَجْمُوعُ صِفَاتٍ (وَالْعِلِّيَّةُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ) عَلَى ذَاتِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ صِفَاتٍ (فَقِيَامُهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (إنْ) كَانَ (بِجُزْءٍ) وَاحِدٍ مِنْهَا (أَوْ بِكُلِّ جُزْءٍ) مِنْ أَجْزَائِهَا عَلَى حِدَةٍ (فَهُوَ) أَيْ الْجُزْءُ الْوَاحِدُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ كُلُّ جُزْءٍ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي (الْعِلَّةُ) .
وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ وَلَا مَدْخَلَ لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِمَحَالَّ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي (أَوْ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ) بِهَا يَكُونُ الْمَجْمُوعُ مَجْمُوعًا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ (لَمْ تَقُمْ) الْكُلِّيَّةُ (بِهِ) أَيْ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَلَا تَكُونُ الْعِلِّيَّةُ قَائِمَةً بِشَيْءٍ وَاحِدٍ (وَيَعُودُ مَعَهَا) أَيْ مَعَ جِهَةِ الْوَاحِدَةِ لِلْمَجْمُوعِ (الْكَلَامُ) فِي جِهَةِ الْوَحْدَةِ (بِقِيَامِهَا) أَيْ بِسَبَبِ قِيَامِهَا بِمَا تَقُومُ بِهِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ فَنَقُولُ هِيَ قَائِمَةٌ (إمَّا بِكُلٍّ إلَى آخِرِهِ) أَيْ بِكُلِّ جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ أَوْ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ فَلَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِ فَهِيَ قَائِمَةٌ بِالْجَمِيعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمِيعٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جِهَةِ وَحْدَةٍ (فَتَتَحَقَّقُ وَحْدَةٌ أُخْرَى وَيَتَسَلْسَلُ قُلْنَا تَشْكِيكٌ فِي ضَرُورِيٍّ لِلْقَطْعِ بِنَحْوِ خَبَرِيَّةِ الْكَلَامِ) أَيْ بِأَنَّهُ خَبَرٌ أَوْ اسْتِفْهَامٌ أَوْ تَعَجُّبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ الْكَلَامُ (مُتَعَدِّدٌ) لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَكَوْنُهُ خَبَرًا أَوْ غَيْرَهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَامَ كَوْنُهُ خَبَرًا مَثَلًا بِكُلِّ حَرْفٍ فَكُلُّ حَرْفٍ خَبَرٌ أَوْ بِحَرْفٍ مِنْهَا فَهُوَ الْخَبَرُ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ (وَإِنَّمَا هِيَ) أَيْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لِلْمَانِعِينَ (مُغَلِّطَةٌ يَطْرُدُهَا) الْإِمَامُ (الرَّازِيّ لِلشَّافِعِيِّ فِي نَفْيِ التَّرْكِيبِ) فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ مَنْشَؤُهَا عَدَمُ اسْتِيفَاءِ الْأَقْسَامِ حَيْثُ تَرْكُ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ.
(وَالْحَلُّ أَنَّهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةَ قَائِمَةٌ (بِالْمَجْمُوعِ) الَّذِي صَارَ وَاحِدًا (بِاعْتِبَارِ جِهَةِ وَحْدَتِهِ الْمُعَيِّنَةِ هَيْئَتَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْدِيدُ ثَانِيًا) فِي تِلْكَ الْوَحْدَةِ (وَلَا وَحْدَةٍ أُخْرَى مَعَ أَنَّهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةَ صِفَةٌ (اعْتِبَارِيَّةٌ، كَوْنُ الشَّارِعِ قَضَى بِالْحُكْمِ عِنْدَهَا وَالْمُسْتَدْعِي مَحَلًّا) مَوْجُودًا يَقُومُ بِهِ هِيَ الصِّفَةُ (الْحَقِيقِيَّةُ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ تَكُنْ اعْتِبَارِيَّةً بَلْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً (بَطَلَتْ عِلِّيَّةُ الْوَاحِدِ لِلُزُومِ قِيَامِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ) لِأَنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ مَعْنًى وَالْعِلِّيَّةَ الْقَائِمَةَ بِهِ مَعْنًى فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى فَيَتَلَخَّصُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّدِ لِلُزُومِ الْمُحَالِ الَّذِي هُوَ كَوْنُ الْعِلِّيَّةِ صِفَةً زَائِدَةً وُجُودِيَّةً لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ لِمُحَالٍ لَازِمٍ لِلْمُحَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قِيَامُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ اتِّفَاقًا فَبَطَلَ عَدَمُ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمُتَعَدِّدِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ مَنْعِ قِيَامِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ فَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّرْعَةَ وَالْبُطْءَ عَرَضَانِ قَائِمَانِ بِالْحَرَكَةِ وَهِيَ عَرَضٌ أَيْضًا (وَجَعْلُهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (صِفَةً لَهُ) أَيْ لِلشَّارِعِ (تَعَالَى بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ) أَيْ الشَّارِعِ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةً (يَضْعُفُ بِأَنَّهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةَ (كَوْنُ الْوَصْفِ كَذَلِكَ) أَيْ
(3/188)
مَجْعُولًا عِلَّةً وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ كَوْنُهُ صِفَةً لَهُ كَالْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَعْدُومَاتِ (لَا) أَنَّ الْعِلِّيَّةَ (جَعْلُهُ) أَيْ نَفْسِ جَعْلِ الشَّارِعِ ذَلِكَ عِلَّةً.
(وَقَوْلُهُمْ نَفَى كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةَ انْتِفَائِهَا) أَيْ مَانِعِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاؤُهَا لِانْتِفَاءِ كُلِّ وَصْفٍ (وَيَلْزَمُ النَّقْضُ) لِلْعِلِّيَّةِ (بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ آخَرَ بَعْدَ انْتِفَاءِ جُزْءٍ أَوَّلٍ) لِأَنَّ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَنْتَفِ عَدَمُ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْعِلِّيَّةَ عُدِمَتْ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَتَجَدُّدُ عَدَمٍ عَلَى عَدَمٍ لَا يُتَصَوَّرُ (لِاسْتِحَالَةِ إعْدَامِ الْمَعْدُومِ) كَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ فَيَلْزَمُ النَّقْضُ بِالنِّسْبَةِ إلَى انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْآخَرِ أَيْضًا لِتَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ عَدَمِ جُزْءٍ مِنْ الْمَجْمُوعِ قُلْت وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى هَذَا كَابْنِ الْحَاجِبِ لِاسْتِبْعَادِ فَرْضِ عَدَمِ انْتِفَاءِ عِلِّيَّةِ الْمَجْمُوعِ بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ مَعَ تَقَدُّمِ الْقَوْلِ بِانْتِفَائِهَا بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ التَّنَاقُضِ لَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ كَوْنُ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجُزْءِ الثَّانِي ثَابِتَةً لِلْمَجْمُوعِ وَمُنْتَفِيَةً عَنْهُ ثُمَّ قَوْلُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (إنَّمَا يَجِيءُ فِي) الْعِلَلِ (الْعَقْلِيَّةِ لَا الْمَوْضُوعَةِ) لِلشَّارِعِ (عَلَامَةً عِنْدَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ عَلَى الِانْتِفَاءِ) لِلْحُكْمِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ ارْتِفَاعُ جَمِيعِ الِانْتِفَاءَاتِ وَهُوَ نَفْسُ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَيَجِبُ تَرْكُ الْأَمَارَةِ فِي طَرَفِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ أَوْصَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ (إذْ حَاصِلُهُ تَعَدُّدُ أَمَارَاتٍ) عَلَى الْعَدَمِ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ.
[لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ]
(مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ) لَهُ مِنْ الثُّبُوتِ كَعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ (أَوْ) بِسَبَبِ (انْتِفَاءِ شَرْطٍ) لَهُ كَعَدَمِ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي لِانْتِفَاءِ إحْصَانِهِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ رَجْمِهِ (وُجُودُ مُقْتَضِيهِ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ (خِلَافًا لِلْبَعْضِ) أَيْ لِلْآمِدِيِّ بَلْ عَزَاهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْجُمْهُورِ قَالَ الْأَوَّلُونَ وَإِنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ (لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا) أَيْ وُجُودِ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءِ الشَّرْطِ (وَعَدَمِ الْمُقْتَضَى) عَلَى حِيَالِهِ (عِلَّةُ عَدَمِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فَجَازَ إسْنَادُهُ) أَيْ عَدَمُهُ (إلَى كُلٍّ) مِنْهَا (بِمَعْنَى لَوْ كَانَ لَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (مُقْتَضًى مَنَعَهُ) أَيْ الْمَانِعُ حُكْمَهُ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ هَذَا بَلْ أُرِيدَ بِوُجُودِ الْمَانِعِ الْمَانِعُ حَقِيقَةً (فَحَقِيقَةُ الْمَانِعِيَّةِ) إنَّمَا هِيَ (بِالْفِعْلِ وَهُوَ) أَيْ وُجُودُ الْمَانِعِ بِالْفِعْلِ (فَرْعُ) وُجُودِ (الْمُقْتَضَى فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ) الْحُكْمُ (لِعَدَمِ وُجُودِهِ) أَيْ الْمُقْتَضَى (فَيَمْنَعُ) الْمَانِعُ (مَاذَا؟ وَاذْكُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي فَكِّ الدُّورِ لَهُمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نَقْضِ الْعِلَّةِ (فِي مَسْأَلَةِ النَّقْضِ) لَهَا فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ هَذَا فَاسْتَذْكِرْهُ بِالْمُرَاجَعَةِ ثُمَّ بَعْدَ كَوْنِ الْمُرَادِ مَا ذُكِرَ فَفِي الْمَحْصُولِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ انْتِفَائِهِ لِحُضُورِ الْمَانِعِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَعَلَى هَذَا فَمُدَّعَى الْأَوَّلِ أَرْجَحُ مِنْ مُدَّعَى الثَّانِي.
(الْمَرْصَدُ الثَّالِثُ) فِي طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةَ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَلَهُ مَسَالِكُ صَحِيحَةٌ وَأُخْرَى يُتَوَهَّمُ صِحَّتُهَا فَيَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لَهَا وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَنَقُولُ (طُرُقُ إثْبَاتِهَا) أَيْ الطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ شَرْعًا هِيَ (مَسَالِكُ الْعِلَّةِ) وَهِيَ (مُتَّفِقَةٌ تَقَدَّمَ مِنْهَا الْمُنَاسَبَةُ عَلَى الِاصْطِلَاحَيْنِ) لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ الْإِخَالَةُ وَلِلْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ التَّأْثِيرُ عَلَى اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحِ فِيهِ فَعِنْدَهُمْ كَوْنُ الْوَصْفِ ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اعْتِبَارِ جِنْسِهِ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَوَّلُ فَقَطْ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ تَخْصِيصُ الْمُنَاسَبَةِ هُنَا عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُؤَثِّرِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَالْخِلَافُ فِي الْإِخَالَةِ) فِي كَوْنِهَا طَرِيقًا مُثْبِتًا لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ الْوَصْفُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنَاسَبَةُ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بِاصْطِلَاحِ غَيْرِهِمْ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الثَّانِي الْإِجْمَاعُ) فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَالظَّنُّ كَافٍ فِيهِ (فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْفَرْعِ) كَمَا فِي الْأَصْلِ (إلَّا إنْ كَانَ ثُبُوتُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (أَوْ طَرِيقُهُ) أَيْ الْإِجْمَاعُ (ظَنِّيًّا) كَالثَّابِتِ بِالْآحَادِ (أَوْ ذَاتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعُ ظَنِّيًّا (كَالسُّكُوتِيِّ) أَيْ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (عَلَى الْخِلَافِ) فِي أَنَّهُ ظَنِّيٌّ أَوْ قَطْعِيٌّ مُطْلَقًا أَوْ إذَا كَثُرَ وَتَكَرَّرَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ (أَوْ يَدَّعِي فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْعِ (مُعَارِضٌ) أَوْ يَدَّعِي الْمُخَالِفُ اخْتِصَاصَ عِلِّيَّتِهِ بِالْأَصْلِ أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ أَوْ يَدَّعِي تَخْصِيصَهَا فِي فَرْعِ الْمَانِعِ وَالْخَصْمُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْمَانِعِ فَيُسَوِّغُ الِاخْتِلَافَ مَعَهَا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَذَا فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ ثُمَّ مِثْلُ مَا هُوَ عِلَّةٌ
(3/189)
بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي حُكْمِهَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِقَوْلِهِ (كَالصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِلَلِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الثَّالِثُ النَّصُّ) وَهُوَ (صَرِيحٌ لِلْوَضْعِ) أَيْ مَا دَلَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالْوَضْعِ وَهُوَ (مَرَاتِبُ كَعِلَّةِ) كَذَا أَوْ بِسَبَبِ كَذَا (أَوْ لِأَجْلِ كَذَا) كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ» أَوْ مِنْ أَجْلِ كَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ» (أَوْ كَيْ) مُجَرَّدَةً عَنْ حَرْفِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه: 40] أَوْ مُتَّصِلَةً بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ لِأَجْلِ وَكَيْ دُونَ مَا قَبْلَهُمَا فِي الصَّرَاحَةِ (أَوْ إذَنْ) فَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ «قُلْت أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَنْ تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك» فَهَذَا الْقِسْمُ أَقْوَاهَا لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ غَيْرَ الْعِلَّةِ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (مَا) يَكُونُ (بِحَرْفٍ ظَاهِرٍ فِيهِ) أَيْ فِي التَّعْلِيلِ.
(كَذَلِكَ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1] (أَوْ بِهِ) أَيْ بِكَذَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (أَوْ إنْ شَرْطًا أَوْ) إنْ (النَّاصِبَةَ) نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَبِفَتْحِهَا كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ (أَوْ) إنَّ (الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ بَعْدَ جُمْلَةٍ وَالْمَفْتُوحَةَ) كَإِنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ وَإِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك فِي التَّلْبِيَةِ فَإِنَّ فِي " إنَّ فِيهِمَا الْوَجْهَيْنِ " إذْ هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَجِيءُ لِغَيْرِ الْعِلَّةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود: 48] وَإِنْ لِمُجَرَّدِ اللُّزُومِ مِنْ غَيْرٍ وَسَبَبِيَّةٍ وَتَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ وَأَنْ لِمُجَرَّدِ نَصْبِ الْمُضَارِعِ وَإِنَّ وَأَنَّ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ وَأَنْكَرَ السُّبْكِيُّ كَوْنَ إنْ بِالْكَسْرِ تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ قَالَ وَإِنَّمَا تَرِدُ لِلشَّرْطِ وَالنَّفْيِ وَالزِّيَادَةِ وَإِنْ فُهِمَ التَّعْلِيلُ فِي الشَّرْطِيَّةِ فَهُوَ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ لَا مِنْ الْحَرْفِ انْتَهَى وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُسَبِّبِ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سِوَاهُ فَعِنْدَهُ تَتِمُّ الْعِلَّةُ وَفِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بِتَثْقِيلِ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا مِنْ الْحُرُوفِ الظَّاهِرَةِ لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ مَا وَرَدَ فِي الْأَدْعِيَةِ نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْفَتْحَ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ وَالْكَسْرَ لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَنْ الْعِلَّةِ انْتَهَى قُلْت وَالْأَوَّلُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْتِرَافٌ بِكَوْنِهَا لِلْعِلَّةِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (الْفَاءُ فِي الْوَصْفِ) الصَّالِحِ عِلَّةً لِحُكْمٍ تَقَدَّمَهُ مِثْلُ مَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» لَكِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ وَأَنَا لَا أَحْفَظُ هَذَا اللَّفْظَ فِي رِوَايَةٍ وَيُؤَدِّي الْغَرَضَ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كَلْمٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ يُسَمَّى بِعَبْدِ رَبٍّ انْتَهَى وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ وَعَبْدُ رَبٍّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ رَاوِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ جَابِرٍ وَلِجَابِرٍ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ مِمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَقِيلٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَمُحَمَّدٌ وَأَشْهَرُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ وَحَدِيثُ عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد (أَوْ) فِي (الْحُكْمِ) الْوَاقِعِ بَعْدَ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْفَاءُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ (لِلتَّعْقِيبِ) وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا تَرَتُّبُ حُكْمٍ عَلَى الْبَاعِثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ عَقْلًا أَوْ تَرَتُّبُ الْبَاعِثِ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْبَاعِثُ مُقَدَّمٌ عَقْلًا) عَلَى الْحُكْمِ (مُتَأَخِّرٌ خَارِجًا) عَنْهُ (فَلَوْ خَطَأَ) أَيْ التَّقَدُّمُ الْعَقْلِيُّ وَالتَّأَخُّرُ الْخَارِجِيُّ (فِيهَا) أَيْ فِي الْفَاءِ أَيْ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْحُكْمِ.
(وَإِذًا فَلَا دَلَالَةَ لَهَا) وَضْعِيَّةً (عَلَى عِلِّيَّةِ مَا بَعْدَهَا) لِمَا قَبْلَهَا (أَوْ) عَلَى (حُكْمِيَّتِهِ)
(3/190)
أَيْ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا (بَلْ) إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا (بِخَارِجٍ) هَذَا وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عَكْسِهِ وَنَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (ذَلِكَ) أَيْ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْحُكْمِ (فِي لَفْظِ الرَّاوِي سَهَا فَسَجَدَ) كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فِي صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ» «وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» ) كَمَا أَقَرَّ بِلَفْظِ أَنِّي إفَادَتُهُ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّهُ زَنَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَانْطَلَقَ بِهِ فَرُجِمَ» وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ لَمْ يَنْقُلْهُ وَإِلَّا كَانَ مُلْبِسًا وَمَنْصِبُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ هَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ (لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ) لِلرَّاوِي فِي تَصَوُّرِ السَّبَبِيَّةِ (وَلَا يَنْفِي الظُّهُورَ) الْمُفِيدَ لِلظَّنِّ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ حِينَئِذٍ.
(وَقِيلَ هَذَا) أَيْ مَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ (كَمَا قِيلَ فِي) قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهَا يَعْنِي الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي بَحْثِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً وَأَنَّهُ إيمَاءٌ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لِتَقْوِيَةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْمُخَاطَبُ وَتُرُدِّدَ فِيهَا وَيُسْأَلُ عَنْهَا وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَفِي التَّلْوِيحِ وَبِالْجُمْلَةِ كَلِمَةُ إنَّ مَعَ الْفَاءِ أَوْ بِدُونِهَا قَدْ تُورِدُ فِي أَمْثِلَةِ الْإِيمَاءِ وَيُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنْ وَالْفَاءِ وَإِيمَاءٌ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ ثُمَّ شَرَعَ فِي قَسِيمِ قَوْلِهِ صَرِيحٌ فَقَالَ (وَإِيمَاءٌ وَتَنْبِيهٌ تَرْتِيبُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (عَلَى الْوَصْفِ فَيُفْهَمُ لُغَةً أَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ (عِلَّةٌ لَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ (كَانَ) ذَلِكَ التَّرْتِيبُ (مُسْتَبْعَدًا) مِنْ الْعَارِفِ بِمَوَاقِعِ التَّرَاكِيبِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيلِ دَفْعًا لِلِاسْتِبْعَادِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ (إيمَاءُ اللَّفْظِ) مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ اصْطِلَاحِ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْفُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُفْرَدِ.
(وَلَا يَخُصُّ الشَّارِعُ إلَّا أَنَّهُ) أَيْ عَدَمَ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ (فِيهِ) أَيْ فِي الشَّارِعِ (أَبْعَدُ) لِنُنَزِّهَ فَصَاحَتَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ أَلِف مِنْ عَادَتِهِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالْأَحْكَامِ دُونَ إلْغَائِهَا فَإِذَا قُرِنَ فِي الشَّرْعِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ بِالْحُكْمِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ نَظَرًا إلَى عَادَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَظَانِّ بَيَانِ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ (وَلِذَا) أَيْ الِاسْتِبْعَادِ (يَجِبُ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ (الْمُنَاسَبَةُ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (مِنْ الشَّارِعِ لِلْقَطْعِ بِحِكْمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَفَسَدَتْ الْجَاهِلُ) إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّارِعِ (وَإِنْ قَضَى بِحُمْقِهِ) أَيْ قَائِلُ هَذَا لَكِنْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى هَذَا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ وَلَكِنْ لَا يَقَعُ حُكْمٌ إلَّا بِحِكْمَةٍ وَالْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ قَدْ يَقَعُ بِحِكْمَةٍ وَقَدْ يَقَعُ وَلَا حِكْمَةَ قَالَ وَهُوَ الْحَقُّ انْتَهَى وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْجَهَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوُجُوبِ الْوُجُوبُ تَفَضُّلًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ فَصْلِ الْعِلَّةِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّ وَسَنَذْكُرُ فِي ذَيْلِ هَذَا الطَّرِيقِ فِي اشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ مَذَاهِبَ (وَمِنْهُ) أَيْ الْإِيمَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ إذْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ عِلَّةُ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ ذَكَرَهُ عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي الْحُكْمِ بِشَغْلِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ وَالْوَصْفُ الْمَذْكُورُ عِلَّةٌ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْجَائِعِ وَالْحَاقِنِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ سِوَاهُ كَالْغَضَبِ إذَا كَانَ فَقَدْ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى قُلْت: وَفِي خُرُوجِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ كَمَا فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ كَوْنُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ إذَا ذُكِرَ كِلَاهُمَا إيمَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ (فَإِنْ ذَكَرَ الْوَصْفَ فَقَطْ كَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فَإِنَّ الْوَصْفَ وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ مُصَرَّحٌ بِهِ وَالْحُكْمَ وَهُوَ الصِّحَّةُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بَلْ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ الْحِلِّ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِغَايَتِهِ لِأَنَّهُ مَعْنَى عَدَمُ الصِّحَّةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِغَايَتِهِ كَانَ عَبَثًا وَهُوَ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ حَرَامٌ فَلَمْ يَكُنْ حَلَالًا فَإِذَا كَانَ حَلَالًا كَانَ صَحِيحًا ضَرُورَةً (أَوْ)
(3/191)
ذَكَرَ (الْحُكْمَ) فَقَطْ (كَأَكْثَرِ) الْعِلَلِ (الْمُسْتَنْبَطَةِ) نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَذْكُورٌ وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَالْوَصْفُ وَهُوَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ (فَفِي كَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (إيمَاءٌ تَقَدُّمَ عَلَى غَيْرِهَا) أَيْ عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ بِلَا إيمَاءٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ ثَلَاثَةُ (مَذَاهِبَ) :
الْأَوَّلُ (نَعَمْ) هُوَ إيمَاءٌ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الْإِيمَاءَ اقْتِرَانٌ) لِلْوَصْفِ بِالْحُكْمِ (مَعَ ذِكْرِهِمَا) أَيْ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ (أَوْ) مَعَ ذِكْرِ (أَحَدِهِمَا) وَتَقْدِيرُ الْآخَرِ (وَ) الثَّانِي (لَا) يَكُونُ إيمَاءً (عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْإِيمَاءَ إنَّمَا يَكُونُ (مَعَ ذِكْرِهِمَا) أَيْ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْأَمْرَانِ فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ كَلَامُهُمَا فَلَا اقْتِرَانَ وَحَيْثُ لَا اقْتِرَانَ فَلَا إيمَاءَ لِانْتِفَاءِ حَدِّهِ (وَ) الثَّالِثُ (التَّفْصِيلُ) وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْبَدِيعِ (فَمَعَ ذِكْرِ الْوَصْفِ لَا الْحُكْمِ) يَكُونُ الْوَصْفُ إيمَاءً لَا الْحُكْمُ بَلْ بَعْضُهُمْ ادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِإِيمَاءٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفُ هُوَ (الْمُسْتَلْزِمُ) لِلْحُكْمِ (فَذِكْرُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (ذِكْرُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (فَيَدُلُّ الْحِلُّ عَلَى الصِّحَّةِ) كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُومَ فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الْمَذْكُورِ فَيَتَحَقَّقُ الِاقْتِرَانُ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ الْوَصْفُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالِاسْتِلْزَامِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي طَرِيقِهِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ صَرِيحًا وَالْآخَرُ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلَّةَ الْمُعَيَّنَةَ وَكَيْفَ وَهُوَ لَازِمٌ لَهَا وَإِثْبَاتُ لَازِمِ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَلْزُومِهِ لِجَوَازِ كَوْنِ اللَّازِمِ أَعُمَّ مِنْ الْمَلْزُومِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَذْهَبٍ رَابِعٍ هُوَ عَكْسُ هَذَا الثَّالِثِ (مِثَالُ الْمُتَّفَقِ) عَلَيْهِ أَنَّهُ إيمَاءٌ مَا أَخْرَجَ الْحُفَّاظُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْت فَقَالَ وَيْحَك قَالَ وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ مَا أَجِدُ قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ مَا أَجِدُ» الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَاقَعْت أَهْلِي فَقَالَ كَفِّرْ) فَرِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى (وَالْمُسْتَبْعَدُ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (إخْلَاءُ السُّؤَالِ عَنْ جَوَابِهِ) فَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ جِدًّا وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (وَمَنْعُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ) أَيْ الْبَيَانِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حُكْمٌ (شَرْعِيٌّ) لَا يَقَعُ مِنْ الشَّارِعِ (وَالظَّاهِرُ عَلَيْهِ عَيْنُ الْوِقَاعِ) لِلْإِعْتَاقِ وَأَخَوَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (وَكَوْنُهُ) أَيْ انْتِسَابُ الْحُكْمِ إلَى الْوِقَاعِ لَا لِعِلِّيَّةِ عَيْنِهِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ (لِمَا تَضَمَّنَهُ) الْوِقَاعُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مَثَلًا كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (احْتِمَالُ) غَيْرِ الظَّاهِرِ (وَحَذْفُ بَعْضِ الصِّفَاتِ) الَّذِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ (فِي مِثْلِهِ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِيمَاءِ (وَاسْتِيفَاءُ الْبَاقِي يُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ) أَيْ تَلْخِيصُ مَا نَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ أَيْ رَبَطَهُ بِهِ وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعِلَّةُ عَنْ الزَّوَائِدِ (فِي اصْطِلَاحِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَحَذْفِ أَعْرَابِيَّتِهِ) أَيْ السَّائِلِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا (وَالْأَهْلِ) إذْ لَا مَدْخَلَ فِي الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَامَّةِ لِلْمُكَلَّفِينَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ أَعْرَابًا أَوْ غَيْرَهُمْ وَلَا لِكَوْنِ مَحَلِّ الْوِقَاعِ أَهْلًا لَهُ فَإِنَّ الزِّنَا بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَجْدَرُ تَغْلِيظًا عَلَى الزَّانِي (وَتَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ) عَلَى هَذَا الْحَذْفِ (كَوْنَهُ) أَيْ الْفِعْلِ الْمُفْطِرِ (وِقَاعًا) لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِهِ فِي الْعِلَّةِ لِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ فِي تَفْوِيتِ رُكْنِ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ الْإِمْسَاكُ الْخَاصُّ (فَيَبْقَى كَوْنُهُ) أَيْ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْوِقَاعُ (إفْسَادًا عَمْدًا بِمُشْتَهًى) فَيَكُونُ الْمَنَاطَ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَتَجِبُ بِعَمْدِ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ لِمُشْتَهًى كَمَا تَجِبُ بِالْعَمْدِ مِنْ الْجِمَاعِ فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ هُوَ النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِحَذْفِ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ لِلْعِلِّيَّةِ (وَ) يُسَمَّى (النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِهَا) أَيْ بَيَانِ وُجُودِهَا (فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ تَعَرُّفِهَا) أَيْ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا (بِنَصٍّ) كَمَا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَكَوْنُ هَذِهِ الْجِهَةِ هِيَ جِهَةُ الْقِبْلَةِ مَظْنُونٌ (أَوْ إجْمَاعٍ) كَالْعَدَالَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا عَدَالَةُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَمَظْنُونَةٌ لِأَنَّ إدْرَاكِ وُجُودِهَا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ وَمُوجِبُهُ الظَّنُّ
(3/192)
(تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ) أَيْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ ثُمَّ مَثَّلَ لِمَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَأُدْرِكَتْ فِي مَحَالِّهَا بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ (كَكَوْنِ هَذَا) الشَّاهِدِ (عَدْلًا فَيُقْبَلُ) قَوْلُهُ أَيْ شَهَادَتُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ (وَالْأَكْثَرُ) مِنْهُمْ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ (عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ الْقَوْلِ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَلَكِنَّهُ دُونَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ (وَ) يُسَمَّى النَّظَرُ (فِي تَعَرُّفِهَا) أَيْ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ (لِحُكْمِ نُصَّ عَلَيْهِ) أَوْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ (فَقَطْ) دُونَ عِلَّتِهِ بَلْ إنَّمَا عُرِفَتْ بِاسْتِخْرَاجِ الْمُجْتَهِدِ لَهَا بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ (تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ) كَالِاجْتِهَادِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهَذَا فِي الرُّتْبَة دُونَ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلِذَا أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ النَّظَرُ فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا بِنَفْسِهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اسْتِنْبَاطٍ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ أَخَصَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ فَكُلُّ تَخْرِيجِ مَنَاطٍ تَحْقِيقُهُ وَلَيْسَ كُلُّ تَحْقِيقِ مَنَاطٍ تَخْرِيجَهُ.
(وَهُوَ) أَيْ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ (أَعَمُّ مِنْ الْإِخَالَةِ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى مَا يَثْبُتُ بِالسَّبْرِ (وَفِي كَلَامِ بَعْضٍ) وَهُوَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمُوَافِقُوهُ (إفَادَةُ مُسَاوَاتِهَا) لِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ قَالَ الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِخَالَةُ وَتُسَمَّى تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ ذَاتِهِ لَا بِنَصٍّ وَغَيْرِهِ اهـ (وَعَنْهُ) أَيْ تَسَاوِيهِمَا (نُسِبَ لِلْحَنَفِيَّةِ نَفْيُهُ) أَيْ الْقَوْلِ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْبَدِيعِ لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْإِخَالَةَ وَيَقُولُونَ كَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ (وَاعْتَذَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ) وَهُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (عَنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى النَّصِّ) أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْمُنَاسَبَةِ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُمَا لِمَرْجِعِهِمَا إلَى النَّصِّ بِالْآخِرَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَنَفِيٍّ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا) لَوْلَا تَنْقِيحُ الْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَنَاطَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ فَيُحْذَفُ كَوْنُ الْفَاعِلِ أَعْرَابِيًّا وَكَوْنُ الْمُجَامَعَةِ زَوْجَتَهُ (مُنِعَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ) أَيْ لَقِيلَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي جِمَاعٍ هُوَ زِنًا وَنَحْوِهِ (غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يَضَعُوا لَهُ) أَيْ لِمَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ (اسْمًا اصْطِلَاحِيًّا كَمَا لَمْ يَضَعُوا الْمُنْفَرِدَ) لَمَّا وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَقَطْ كَمَا وَضَعُوا الْمُشْتَرَكَ لِمَا وُضِعَ لِمَعَانٍ (وَ) لَمْ يَضَعُوا (تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَتَحْقِيقَهُ) أَيْ الْمَنَاطِ (مَعَ الْعَمَلِ بِمَعَانِي الْكُلِّ) غَالِبًا لِنَفْيِهِمْ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مِنْ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ إخَالَةً وَلَوْ تَعَرَّضَ لَهُ لَكَانَ أَوْلَى (وَكَوْنُ مَرْجِعِ الِاسْتِدْلَالِ إذَا نَقَّحَ النَّصَّ الْمَنَاطَ) كَمَا يُفِيدُهُ اعْتِذَارُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ (لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوَضْعِ بَلْ ذَلِكَ) عَدَمُ الْوَضْعِ (رَاجِعٌ إلَى الِاخْتِيَارِ) لِذَلِكَ كَالْوَضْعِ.
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ الْإِيمَاءُ (اقْتِرَانُ) الْحُكْمِ (بِوَصْفٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ) أَيْ الْوَصْفُ (أَوْ نَظِيرُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (عِلَّةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (كَانَ) ذَلِكَ الِاقْتِرَانُ (بَعِيدًا ثُمَّ تَمْثِيلُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ عَنْ وَفَاةِ أَبِيهَا وَعَلَيْهِ الْحَجُّ أَفَيُجْزِيهِ حَجُّهَا عَنْهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ» إلَخْ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِأَنَّ النَّظِيرَ دَيْنُ الْعِبَادِ وَلَيْسَ) دَيْنُ الْعِبَادِ (الْعِلَّةَ) لِأَنَّهُ نَفْسُ الْأَصْلِ وَدَيْنُ اللَّهِ الْفَرْعُ (بَلْ) الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ سُقُوطُهُ بِفِعْلِ الْمُتَبَرِّعِ (كَوْنُهُ) أَيْ الْمُقْضَى (دَيْنًا وَذَكَرَهُ) أَيْ الشَّارِعُ دَيْنَ الْعِبَادِ (لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِكَ) بَيْنَهُمَا وَهُوَ كَوْنُهُ دَيْنًا (الْعِلَّةُ) لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (وَتَقَدَّمَ التَّمْثِيلُ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ (لِلْحَنَفِيَّةِ لِلْعِلَّةِ الْوَاقِعَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا) .
وَهَذَا مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيَذْكُرُ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَّةَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ وَذَكَرْنَا أَنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا وَذَكَرْنَا مَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ كَوْنِ الْعِلَّةِ لِلسُّقُوطِ فِي هَذَا كَوْنُ الْمُقْضَى دَيْنًا (يُسَمَّى مِثْلُهُ) عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ (تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ) فَتَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْعِبَادِ أَصْلُ الْقِيَاسِ لَا عِلَّتُهُ «وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلْ تُفْسِدُ الصَّوْمَ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يُفْسِدُ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا بِهَذَا السِّيَاقِ مُخَرَّجًا وَقَدَّمْته بِغَيْرِهِ مُخَرَّجًا فِي بَحْثِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْعِلَّةَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْفُوظًا فَهُوَ رِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ وَسَأَلْته أَيْ وَالتَّمْثِيلُ بِقَوْلِهِ لِعُمَرَ فَهُوَ
(3/193)
حِينَئِذٍ مُحْتَاجٌ إلَى خَبَرٍ وَلَعَلَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَتَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظَنِّ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْإِيمَاءِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيّ لِأَنَّ الشَّارِعَ ذَكَرَ الْوَصْفَ فِي نَظِيرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَةُ الشُّرْبِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ وَهُوَ عَدَمُ الْإِفْسَادِ دُونَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ مَعَ الْمَضْمَضَةِ وَالْفَرْعُ وَهُوَ الصَّوْمُ مَعَ الْقُبْلَةِ.
(وَقِيلَ لَيْسَ) هَذَا الْمِثَالُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالنَّظِيرِ قَالَهُ الْآمِدِيُّ (إذْ لَا يُنَاسِبُ كَوْنُهُ) أَيْ التَّمَضْمُضِ بِالْمَاءِ (مُقَدِّمَةً) لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ (غَيْرَ مُفْضِيَةٍ) إلَيْهِ (عَدَمُ الْفَسَادِ) لِيَكُونَ التَّمَضْمُضُ عِلَّةَ عَدَمِ إفْسَادِهِ (بَلْ) إنَّمَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْفَسَادِ (وُجُودُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّمَضْمُضُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ مَعَهُ الْفِطْرُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ مَعَهُ (وَوُجُودُ مَا يَتَّفِقُ مَعَهُ) الْفِطْرُ تَارَةً (وَلَا يَتَّفِقُ) مَعَهُ أُخْرَى (لَا يَلْزَمُ عِلَّةً) لِلْفِطْرِ (فَإِنَّمَا هُوَ) أَيْ النَّظِيرُ الْمَذْكُورُ (نَقْضٌ لِوَهْمِهِ) أَيْ عُمَرَ إفْسَادَ مُقَدِّمَةِ الْإِفْسَادِ كَالْإِفْسَادِ فَإِنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَمِنْهُ) أَيْ الْإِيمَاءِ (أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بِذِكْرِ وَصْفَيْنِ كَالْمَرَاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ) غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ بِذِكْرِ وَصْفَيْنِ هُمَا الرُّجُولِيَّةُ وَالْفُرُوسِيَّةُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ الْوَصْفُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ (أَوْ) بِذِكْرِ (أَحَدِهِمَا) أَيْ الْوَصْفَيْنِ لَا غَيْرُ «كَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» ) وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ وَإِرْثِهِ فَتَخْصِيصُ الْقَاتِلِ بِالْمَنْعِ مِنْ الْإِرْثِ (بَعْدَ ثُبُوتِ عُمُومِهِ) أَيْ الْإِرْثِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ الْقَتْلُ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْعِ الْإِرْثِ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ الْإِرْثِ الْمَعْلُومِ بِوَصْفِ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ مَعَ مَنْعِ الْإِرْثِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الْقَتْلِ لِمَنْعِ الْإِرْثِ لَكَانَ بَعِيدًا (أَوْ) يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا (فِي ضِمْنِ غَايَةٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَلَا مَنْعَ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمَنْعِ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ فِي الْحَيْضِ وَبَيْنَ جَوَازِهِ فِي الْمُطَهِّرِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الطُّهْرِ لِلْجَوَازِ لَكَانَ بَعِيدًا.
(أَوْ) فِي ضِمْنِ (اسْتِثْنَاءٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ الزَّوْجَاتُ عَنْ ذَلِكَ النِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ ثُبُوتِ النِّصْفِ لَهُنَّ وَبَيْنَ انْتِفَائِهِ عِنْدَ عَفْوِهِنَّ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الْعَفْوِ لِلِانْتِفَاءِ لَكَانَ بَعِيدًا (أَوْ) فِي ضِمْنِ (شَرْطٍ) كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ يَدًا بِيَدٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِلَفْظِ «إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» ) وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْعِ بَيْعِ جِنْسٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَبَيْنَ جَوَازِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الِاخْتِلَافِ لِلْجَوَازِ لَكَانَ بَعِيدًا ثُمَّ هَذَا فِي هَذَا الْمِثَالِ (لَوْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ لَمْ تُوجَدْ (الْفَاءُ) فِيهِ دَاخِلَةٌ عَلَى الْحُكْمِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] (عَلَى مَا قِيلَ) وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
(وَذُكِرَ فِي اشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ فِي) صِحَّةِ (عِلَلِ الْإِيمَاءِ) ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ (نَعَمْ) يُشْتَرَطُ وَلِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ عَنْ الْحُكْمِ إمَّا وُجُوبًا كَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ تَفْضِيلًا كَغَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَلِ الْمُنَاسِبَةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الِانْقِيَادِ وَأَفْضَى إلَيْهِ مِنْ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ فَيَلْحَقُ الْفَرْدُ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَكِيمِ مَا هُوَ أَفْضَى إلَى مَقْصُودِهِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ (و) الثَّانِي (لَا) يُشْتَرَطُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُفْهَمُ بِدُونِهَا.
(وَ) الثَّالِثُ (الْمُخْتَارُ) عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ (أَنَّ فَهْمَ التَّعْلِيلِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ) كَمَا فِيمَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (اُشْتُرِطَتْ) لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ فِيمَا الْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِيهِ تَنَاقُضٌ لِوُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ شَرْطِهِ وَعَدَمُهَا بِنَاءً عَلَى الْفَرْضِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُفْهَمْ التَّعْلِيلُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَلْ بِغَيْرِهَا مِنْ الطُّرُقِ كَمَا فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ (فَلَا) يُشْتَرَطُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ
(3/194)
يُفْهَمُ مِنْ غَيْرِهَا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ إذْ الْفَرْضُ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا فَإِنَّ وُجُودَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِلِّيَّةُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي بَابِ الْقِيَاسِ.
(قِيلَ) أَيْ قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ) عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا (إذَا أُرِيدَ بِالْمُنَاسَبَةِ ظُهُورُهَا) عِنْدَ النُّظَّارِ (وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (فِي الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ) وَإِلَّا فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهَا (بِخِلَافِ الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ) عَنْ الْمُنَاسَبَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (عُلِمَتْ مِنْ إيمَاءِ النَّصِّ فَكَيْفَ يَفْصِلُ إلَى أَنْ تُعْلَمَ بِالْمُنَاسَبَةِ يَعْنِي فَقَطْ فَيُشْتَرَطُ) الْمُنَاسَبَةُ (أَوْ) تُعْلَمَ (لَا بِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (فَلَا) تُشْتَرَطُ الْمُنَاسَبَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا أَنَّهُ تَجِبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَصْفِ الْمُومَأ إلَيْهِ مِنْ الشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَذَكَرْنَا أَنَّ السُّبْكِيَّ عَزَاهُ مِنْ الشَّارِعِ إلَى الْفُقَهَاءِ دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ أَوْجَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الرَّابِعُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ حَصْرُ الْأَوْصَافِ) الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَصْلِ الصَّالِحَةِ لِلْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا فِي عَدَدٍ (وَيَكْفِي) الْمُسْتَدِلُّ الْمُنَاظِرُ فِي حَصْرِهَا الْمُتَأَهِّلُ لِلنَّظَرِ بِأَنْ كَانَتْ مَدَارِكُ الْمَعْرِفَةِ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مُتَحَقِّقَةً عِنْدَهُ مِنْ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكَانَ عَدْلًا ثِقَةً صَادِقًا غَالِبًا فِيمَا يَقُولُهُ (عِنْدَ مَنْعِهِ) أَيْ حَصْرِهَا مِنْ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ (بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ) مَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ غَيْرَهَا وَيُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ وَأَهْلِيَّتَهُ لِلنَّظَرِ مِمَّا يُغَلِّبُ ظَنَّ عَدَمِ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ مِمَّا لَوْ كَانَتْ لَمَا خَفِيَتْ عَلَى الْبَاحِثِ عَنْهَا (أَوْ) يَقُولُ (الْأَصْلُ الْعَدَمُ) أَيْ عَدَمُ غَيْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَجَدْتهَا فَلَا نُثْبِتُ وُجُودَ غَيْرِهَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ فَإِنَّ بِذَلِكَ يَحْصُلُ الظَّنُّ الْمَقْصُودُ فِي إثْبَاتِ عِلِّيَّةِ أَحَدِهِمَا أَيْضًا فَيَنْدَفِعُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عِنْدَ مَنْعِ الْحَصْرِ (ثُمَّ حَذْفُ بَعْضِهَا) أَيْ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ مَا سِوَى أَنَّ الْمُدَّعَى عِلَّةٌ لِعَدَمِ صَلَاحِهِ لَهَا حَقِيقَةً وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى حَصْرٍ (فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي) بَعْدَ الْحَذْفِ لِلْعِلِّيَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّبْرَ اخْتِبَارُ الْوَصْفِ هَلْ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَوْ لَا وَالتَّقْسِيمُ هُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا فَقَدْ كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَدَّمَ التَّقْسِيمَ فِي اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الْخَارِجِ إلَّا أَنَّ اللَّقَبَ لِهَذَا الْمَسْلَكِ عِنْدَهُمْ هَكَذَا وَقَعَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
(تَنْبِيهٌ) وَقَدْ يَتَّفِقُ الْمُتَنَاظِرَانِ عَلَى إبْطَالِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَيِّهِمَا الْعِلَّةُ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى ضَمِّ مَا عَدَاهُمَا إلَيْهِمَا فَنَقُولُ الْعِلَّةُ إمَّا ذَا أَوْ ذَاكَ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَا (وَلَوْ أَبْدَى) الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا (آخَرَ) لَمْ يُكَلَّفْ بَيَانَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْحَصْرِ بِإِبْدَائِهِ كَافٍ فِي الِاعْتِرَاضِ وَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ (فَالْمُخْتَارُ لَا يَنْقَطِعُ) الْمُسْتَدِلُّ بَلْ عَلَيْهِ دَفْعُهُ بِإِبْطَالِ التَّعْلِيلِ بِهِ (إلَّا إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْوَصْفِ الْمُبْدَى عِلَّةً فَإِنَّ عَجْزَهُ عَنْ إبْطَالِهِ انْقِطَاعٌ لَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ الْمَنْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (لَمْ يَدَّعِ الْحَصْرَ قَطْعًا) بَلْ ظَنًّا وَلِهَذَا يَكْفِيهِ كَمَا سَيَذْكُرُ أَنْ يَقُولَ مَا وَجَدْت بَعْدَ الْفَحْصِ غَيْرَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ ظَنَنْت عَدَمَ هَذَا الْوَصْفِ وَيَصْدُقُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مَا كَانَ خَافِيًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ الْمُنَاظِرُ تِلْوَ النَّاظِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاظَرَةِ إلَّا إظْهَارُ مَأْخَذِ الْحُكْمِ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ إلَّا الْوَصْفَ الْفُلَانِيَّ يَجِبُ إتْبَاعُ الظَّنِّ ثُمَّ غَايَةُ إبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ وَصْفًا آخَرَ مَنَعَ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدَّمَاتِ دَلِيلِهِ وَمُقْتَضَى الْمَنْعِ لُزُومُ الدَّلَالَةِ لِلْمُسْتَدِلِّ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَا الِانْقِطَاعُ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مَنْعٍ قَطْعًا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى خِلَافِهِ.
(وَيَكْفِيهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ إذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحَصْرَ بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ آخَرَ وَأَبْطَلَهُ أَنْ يَقُولَ (عَلِمْته وَلَمْ أُدْخِلْهُ) فِي حَصْرِي (لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ) لِلْعِلِّيَّةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إبْطَالِ عِلِّيَّتِهِ إلَى دَلِيلٍ وَإِذَا أَبْطَلَ الْمُسْتَدِلُّ الْوَصْفَ الْمُظْهَرَ فَقَدْ سَلِمَ حَصْرُهُ الْمَذْكُورُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ وَقِيلَ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْحَصْرِ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَصْرًا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ وَقَدْ عَرَفْت جَوَابَهُ وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ كَانَ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ مُسَاوِيًا فِي الْعِلِّيَّةِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي حَصْرِهِ وَأَبْطَلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذِكْرُ الْمَذْكُورِ وَإِبْطَالُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَسْكُوتِ
(3/195)
وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَلَا انْقِطَاعَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مُخَيَّلًا أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْته وَأَبْطَلْته اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ مُسْتَدِلًّا لِغَيْرِهِ.
فَإِنْ كَانَ نَاظِرًا بِنَفْسِهِ يَرْجِعُ فِي حَصْرِ الْأَوْصَافِ إلَى ظَنِّهِ فَيَأْخُذَ بِهِ وَلَا يُكَابِرَ نَفْسَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْحَصْرِ وَالْإِبْطَالِ قَطْعِيًّا فَهَذَا الْمَسْلَكُ قَطْعِيٌّ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَهُوَ ظَنِّيٌّ ثُمَّ حُكِيَ فِي الظَّنِّيِّ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ وَالْمُنَاظِرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّيِّ وَعَزَاهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْأَكْثَرِ ثَانِيهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا لِجَوَازِ بُطْلَانِ الْبَاقِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ ثَالِثُهَا حُجَّةٌ لَهُمَا إنْ أُجْمِعَ عَلَى تَعْلِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَذَرًا مِنْ أَدَاءِ بُطْلَانِ الْبَاقِي إلَى خَطَأِ الْمُجْمِعِينَ وَعَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ رَابِعُهَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ لَا الْمُنَاظِرِ لِأَنَّ ظَنَّهُ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ ثُمَّ إذْ لَا بُدَّ لِلْمَحْذُوفِ مِنْ طَرِيقٍ يُفِيدُ عَدَمَ عِلِّيَّتِهِ وَقَدْ نُوِّعَ إلَى أَرْبَعَةٍ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (وَطُرُقُ الْحَذْفِ بَيَانُ إلْغَائِهِ) أَيْ الْمَحْذُوفِ (بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْبَاقِي فَقَطْ فِي مَحَلٍّ) آخَرَ (فَلَزِمَ) مِنْ هَذَا (اسْتِقْلَالُهُ) أَيْ الْمُسْتَبْقَى عِلَّةً وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ مَعَهُ (وَعَدَمُ جُزْئِيَّةِ الْمُلْغِي) لِلْعِلِّيَّةِ أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهَا لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِإِلْغَاءِ الْمَحْذُوفِ هَذَا بَلْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَحْذُوفُ عِلَّةً لَانْتَفَى الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَحَيْثُ لَمْ يَنْتَفِ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَحْذُوفِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ فَلَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ عِلَّةً (فَهُوَ) أَيْ الْإِلْغَاءُ حِينَئِذٍ (الْعَكْسُ) وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ عِلِّيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِالْإِلْغَاءِ وَهُوَ نَفْيُهَا بِنَفْيِ عَكْسِهَا الْمَبْنِيِّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.
(غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَحَلَّ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُسْتَبْقَى لَا غَيْرُ (أَصْلٌ آخَرَ) لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ غَيْرِهِمَا وَحِينَئِذٍ (فَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّهُ (يُسْقِطُ مُؤْنَةَ الْحَذْفِ) أَيْ الْإِلْغَاءِ اللَّازِمَةِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ قَبِيحٌ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ وَهَذَا بَحْثٌ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى رِبَوِيَّةِ الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَمَّا الطَّعْمُ أَوْ الْقُوتُ أَوْ الْكَيْلُ وَالْقُوتُ بَاطِلٌ لِثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْمِلْحِ وَلَا قُوتَ فَيَقُولَ الْمُعْتَرِضُ فَقِسْ عَلَى الْمِلْحِ ابْتِدَاءً تَسْتَغْنِ عَنْ ذِكْرِ الْبُرِّ وَإِبْطَالُ عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْقُوتِ فِيهِ (وَبَعُدَ أَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ (مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ) لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا تَفَاوُتٍ قَدْ لَا يَسْتَمِرُّ سُقُوطُ الْمُؤْنَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ (قَدْ تَكُونُ أَوْصَافُهُ) أَيْ الْأَصْلِ الْآخَرِ كَالْمِلْحِ (أَكْثَرَ) مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ كَالْبُرِّ فَيُحْتَاجُ فِي إبْطَالِ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ مِنْهَا بِطَرِيقَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبُرِّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (وَكَوْنِهِ) بِالْجَرِّ أَيْ وَيَكُونُ الْوَصْفُ الْمَحْذُوفُ طَرْدِيًّا أَعْنِي (مِمَّا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ مُطْلَقًا) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْإِرْثِ وَالْعِتْقِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ حُكْمٌ أَصْلًا.
وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (أَوْ) كَوْنِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ مِمَّا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ (فِي ذَلِكَ) الْحُكْمِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِي غَيْرِهِ (كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ) فَإِنَّ الشَّارِعَ وَإِنْ اعْتَبَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْإِرْثِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ مِنْ السِّرَايَةِ وَوُجُوبِ السِّعَايَةِ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (وَأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَدِلِّ (مُنَاسَبَةٌ) بَيْنَ الْمَحْذُوفِ وَذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا (وَيَكْفِي) لِلْمُسْتَدِلِّ الْمُنَاظِرِ أَنْ يَقُولَ (بَحَثْت) عَنْ مُنَاسَبَةِ الْمَحْذُوفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ (فَلَمْ أَجِدْهَا) وَيُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّهُ عَدْلٌ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ يُخْبِرُ عَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا خَبَرُهُ لِأَنَّ وِجْدَانَهُ لَهُ وِجْدَانِيٌّ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا نَفْسُهُ وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ دَالٌّ عَلَى عَدَمِهِ ظَنًّا أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ فَلَزِمَ حَذْفُهُ مِنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ.
(فَإِنْ قَالَ) الْمُعْتَرِضُ (الْبَاقِي كَذَلِكَ) أَيْ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِأَنِّي بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مُنَاسَبَةً (تَعَارَضَا) أَيْ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ وَوَصْفُ الْمُعْتَرِضِ إذْ الْحُكْمُ بِعِلِّيَّةِ الْمُسْتَبْقَى وَعَدَمِ عِلِّيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِحُكْمٍ بَاطِلٌ حِينَئِذٍ
(3/196)
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ فِي جَوَابِهِ لِمَا يُذْكَرُ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالتَّعَارُضِ.
(وَوَجَبَ التَّرْجِيحُ) عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِوَصْفِهِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ وَإِنَّمَا لَمْ يُوجَبُ عَلَى الْمُعَلِّلِ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ (إذْ لَوْ أَوْجَبْنَا بَيَانَهَا عَلَى الْمُعَلِّلِ انْتَقَلَ) مِنْ طَرِيقِ السَّبْرِ (إلَى الْإِخَالَةِ) إذْ هِيَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ انْقِطَاعٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الِانْتِشَارِ الْمَحْذُورِ قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا اخْتَلَفَ حَالُهُ) أَيْ الْمُعَلِّلِ (بِحَقِيقَةِ الْمُعَارَضَةِ) مِنْ الْمُعْتَرِضِ (فَكَأَنَّهُ) أَيْ التَّعْلِيلَ (ابْتِدَاءٌ) فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ (مَعَ أَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ أَعْنِي كَوْنَهُ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ السَّبْرِ إلَى الْإِخَالَةِ حَتَّى كَانَ بِالِانْتِقَالِ مُنْقَطِعًا فِي عُرْفِهِمْ طَرِيقَةٌ (تَحْسِينِيَّةٌ) مِنْهُمْ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْمَجْلِسُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَإِلَّا فَفِي الْعَقْلِ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ طَرِيقٍ إلَى آخَرَ وَهَلُمَّ جَرًّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا عَيَّنَهُ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا الِانْقِطَاعُ بِدَلِيلِ الْعَجْزِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْأُسُولَةِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْمُعَلِّلِ التَّرْجِيحُ لِلْوَصْفِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِهِ (بِالتَّعَدِّي وَكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ) فَيَقُولُ: سَبْرِي مُوَافِقٌ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اسْتَبْقَيْته بِسَبْرِي مُتَعَدٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ وَسَبْرُك مُوَافِقٌ لِعَدَمِ التَّعْدِيَةِ فَيَكُونُ وَصْفُك قَاصِرًا وَمَا يُوَافِقُ التَّعْدِيَةَ رَاجِحٌ إمَّا لِعُمُومِ الْحُكْمِ وَكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَالْقَاصِرُ مُخْتَلِفًا فِيهِ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ.
(فَإِنْ قُلْت عُلِمَ بِمَا ذُكِرَ) فِي هَذَا الطَّرِيقِ (اشْتِرَاطُ مُنَاسَبَتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى (فَلَمْ لَمْ تَتَّفِقْ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُولِهِ قُلْنَا يَجِبُ عَلَى أُصُولِهِمْ نَفْيُهُ) أَيْ نَفْيُ قَبُولِهِ (وَإِنْ رَضِيَهُ الْجَصَّاصُ وَالْمَرْغِنَانِيّ) مِنْهُمْ (لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَفْيِ غَيْرِهِ) أَيْ حَذْفِهِ (لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ بِظُهُورِ التَّأْثِيرِ وَالْمُلَاءَمَةِ) فَظُهُورُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً عِنْدَهُمْ نَعَمْ كَمَا فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ لِلْبَعْضِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَنَا أَيْضًا لَكِنْ مِثْلُ هَذَا يَكُونُ إثْبَاتًا لِلْعِلِّيَّةِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَيَرْجِعَانِ إلَيْهِمَا (فَلِذَا) أَيْ عَدَمُ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ (رَدَّهُ) أَيْ رَجَّعَهُ (مَنْ قَبِلَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ) وَهُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ قَالَ) هَذَا الْمُتَأَخِّرُ (أَوْ الْمُنَاسَبَةُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ) أَيْ رَدِّهِ إلَيْهِ (نَظَرٌ إذْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةَ (لَا تَسْتَلْزِمُ التَّأْثِيرَ وَشَرْطُهُ) أَيْ التَّأْخِيرِ (فِي بَيَانِ الْحَصْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَدَمُ عِلِّيَّةِ غَيْرِ الْمُسْتَبْقَى بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ النَّصُّ لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا) أَيْ عِلِّيَّةِ الْمُسْتَبْقَى (ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَعَ الْقَطْعِ بِالْحَذْفِ وَالْحَصْرِ وَلَيْسَ) الْقَطْعُ بِهِمَا (بِلَازِمٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بَلْ رُتْبَتُهُ) أَيْ ثُبُوتُ الْعِلِّيَّةِ لِلْمُسْتَبْقَى (الْإِخَالَةُ فَالْخِلَافُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِهَا بِهَا (ثَابِتٌ) فِي ثُبُوتِهَا بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الْخَامِسُ الدَّوَرَانُ) وَيُسَمَّى الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ (نَفَاهُ) أَيْ كَوْنَهُ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الْحَنَفِيَّةُ وَمُحَقِّقُو الْأَشَاعِرَةِ) كَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَالْأَكْثَرُ نَعَمْ) هُوَ مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِهَا.
(ثُمَّ قِيلَ يُفِيدُ ظَنًّا) وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعِهِ وَشُغِفَ بِهِ عِرَاقِيُّو الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ وِفَاقًا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ.
(وَقِيلَ قَطْعًا) وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ السُّبْكِيُّ وَأَنَا أَقُولُ لَعَلَّ مَنْ ادَّعَى الْقَطْعَ فِيهِ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ فِي قِيَاسِ الْعِلَلِ مُطْلَقًا وَلَا يَكْتَفِي بِالسَّبْرِ وَلَا بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا فَإِذَا انْضَمَّ الدَّوَرَانُ إلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ رُقِّيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَى الْيَقِينِ وَإِلَّا فَأَيُّ وَجْهٍ لِتَخَيُّلِ الْقَطْعِ فِي مُجَرَّدِ الدَّوْرَانِ انْتَهَى (وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ لِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الدَّوَرَانِ (قِيَامَ النَّصِّ فِي حَالَيْ وُجُودِ الْوَصْفِ وَعَدَمِهِ) وَلَا حُكْمَ لِلنَّصِّ بِأَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ بَلْ إلَى الْوَصْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ لِوُجُودِ عِلَّةِ النَّصِّ لَا لِصُورَةِ النَّصِّ (كَالْوُضُوءِ وَجَبَ لِلْقِيَامِ) إلَى الصَّلَاةِ حَالَ كَوْنِ الْقَائِمِ (مُحْدِثًا وَلَمْ يَجِبْ) الْوُضُوءُ (لَهُ) أَيْ لِلْقِيَامِ (دُونَهُ) أَيْ الْحَدَثِ أَيْ قَالُوا كَوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِالْحَدَثِ وَقَدْ دَارَ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَدَثِ بِلَا قِيَامٍ إلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا بِلَا حَدَثٍ وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْحَدَثِ وَحَالِ عَدَمِهِ وَلَا حُكْمَ لِلنَّصِّ لِأَنَّ
(3/197)
النَّصَّ يُوجِبُ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْقِيَامُ وَجَبَ الْوُضُوءُ وَكُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَجِبْ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَدَمُ وَمُوجِبُ النَّصِّ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالَيْنِ أَمَّا حَالُ عَدَمِ الْحَدَثِ فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقِيَامُ مَعَ عَدَمِ الْحَدَثِ يَجِبُ الْوُضُوءُ وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَالِ عَدَمِ الْحَدَثِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْحَدَثِ إذَا قَامَ إلَيْهَا.
وَأَمَّا حَالُ وُجُودِ الْحَدَثِ فَلِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَدَمُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ إذَا لَمْ يَقُمْ إلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَدْلُولُ النَّصِّ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَإِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَكِنْ جُعِلَ هَذَا الْحُكْمُ حُكْمَ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا تَعْبِيرًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُسْتَنِدِ إلَى النَّصِّ عَنْ مُطْلَقِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْوُجُوبُ) أَيْ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الْحَدَثِ (كَمَا) مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْقَائِمِ إلَيْهَا (مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْحَدَثِ (وَالْقَضَاءُ غَضْبَانَ بِلَا شَغْلِ بَالٍ) بِأَنْ لَا يَكُونَ غَضَبًا شَدِيدًا (جَائِزٌ وَالنَّصُّ) أَيْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» الْمُفِيدُ حُرْمَةُ الْقَضَاءِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ (قَائِمٌ) لِوُجُودِ الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقَضَاؤُهُ غَيْرَ غَضْبَانَ لَكِنْ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِنَحْوِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ أَوْ وَجَعٍ شَدِيدٍ أَوْ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ حَرَامٌ وَالنَّصُّ قَائِمٌ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ إبَاحَةُ الْقَضَاءِ إمَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَوْ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ النُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْقَضَاءِ وَيُجْعَلُ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا وَقَدْ أَجْحَفَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الِاخْتِصَارِ هُنَا لِعَدَمِ إفَادَةِ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (وَلَا دَلِيلَ لَهُ) أَيْ لِهَذَا الشَّارِطِ هَذَا الشَّرْطَ (غَيْرَ الْوُجُودِ) فِي هَذَيْنِ (وَمَنَعَ) الْوُجُودَ فِيهِمَا (بِأَنَّ مُرَادَهُ) تَعَالَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ (وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ) كَمَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ نَصٌّ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ بِسَبَبِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْهُ بَلْ كَانَ وَاجِبًا ابْتِدَاءً بِسَبَبٍ آخَرَ فَكَانَ النَّصُّ مُقَيَّدًا بِالْحَدَثِ وَمُفِيدًا وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْحَدَثِ بَلْ وَدَافِعًا كَوْنَ عِلَّةِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثَ فَلَمْ يُوجَدْ قِيَامُ النَّصِّ بِدُونِ الْحُكْمِ حَالَ عَدَمِ الْوَصْفِ.
(وَ) بِأَنَّ (الشُّغْلَ) لِلْقَلْبِ (لَازِمٌ) لِلْغَضَبِ فَلَا يُوجَدَ الْغَضَبُ بِدُونِهِ وَإِنْ قَلَّ الْغَضَبُ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ فَرَاغُ الْقَلْبِ مَا دَامَ غَضْبَانَ فَلَمْ يُوجَدْ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي حَالِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَقِيَامِ النَّصِّ (فَالنَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ) وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّصِّ حِلَّ الْقَضَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَضَبِ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلنَّصِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ.
وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ شُغْلِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ أَيْضًا فَثَبَتَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ النَّصُّ حِينَئِذٍ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ أَيْضًا وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ فَذَلِكَ النَّصُّ وَالنُّصُوصُ الْمُطْلَقَةُ لَيْسَتْ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَضَاءِ غَضْبَانَ وَلَا مُصَحِّحَ لِجَعْلِ الْإِبَاحَةِ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا فَلَيْسَ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ لِلْقَضَاءِ غَضْبَانَ فِي حَالِ عَدَمِ الْغَضَبِ قَائِمًا إذْ لَيْسَ مَعْنَى قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ النَّصُّ الْحُكْمَ مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لَا قِيَامَهُ فِي الْوَاقِعِ فَبَطَلَ دَعْوَى قِيَامِ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ (النَّافُونَ) لِكَوْنِ الدَّوَرَانِ مَسْلَكًا صَحِيحًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (قَالُوا تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (مَعَ وُجُودِهِ) أَيْ الدَّوَرَانِ (فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ) كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَ أَحَدُهُمَا تَحَقَّقَ الْآخَرُ وَكُلَّمَا انْتَفَى انْتَفَى وَلَا عِلِّيَّةَ وَلَا مُعْلَوْلِيَةَ بَيْنَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ (وَ) فِي (غَيْرِهِمَا) أَيْ الْمُتَضَايِفَيْنِ (كَالْحُرْمَةِ مَعَ رَائِحَةِ الْمُسْكِرِ) الْمَخْصُوصَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مَعَهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا (وَلَيْسَتْ) الرَّائِحَةُ (الْعِلَّةَ) لِلْحُرْمَةِ (وَلَوْ انْتَفَتْ إلَى نَفْيِ غَيْرِهِ) أَيْ الْمَدَارِ (بِالْأَصْلِ) بِأَنْ قِيلَ الْأَصْلُ عَدَمُ الْغَيْرِ (أَوْ السَّبْرِ خَرَجَ) كَوْنُ الْمَدَارِ عِلَّةً (عَنْهُ) أَيْ عَنْ ثُبُوتِهِ بِالدَّوَرَانِ.
(وَيُدْفَعُ) هَذَا الدَّلِيلُ (بِأَنَّهُ) أَيْ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ (فِيمَا ذُكِرَ) أَيْ فِي
(3/198)
الْمُتَضَايِفَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (لِمَانِعٍ) مِنْ الْعِلِّيَّةِ (كَمَا تَبَيَّنَ) قَرِيبًا وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ وَالتَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ غَيْرُ قَادِحٍ (فَلَا يَنْفِي) انْتِفَاؤُهَا لِمَانِعٍ (ظَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (إذَا تَجَرَّدَ) الدَّوَرَانُ (عَنْهُ) أَيْ الْمَانِعِ (وَالْكَلَامُ فِيهِ) أَيْ فِي الدَّوَرَانِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَانِعِ وَقَالَ (الْغَزَالِيُّ) مَنْ نَفَى كَوْنَ الدَّوَرَانِ مَسْلَكًا صَحِيحًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الْمُفِيدِ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ إذَا فُرِضَتْ إفَادَةُ الدَّوَرَانِ لَهُ إمَّا الِاطِّرَادُ فَقَطْ أَوْ مَعَ الْعَكْسِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ إذْ (الِاطِّرَادُ عَدَمُ النَّقْضِ) إذْ حَاصِلُ الِاطِّرَادِ أَنْ لَا يُوجَدَ الْوَصْفُ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْحُكْمِ وَوُجُودُهُ بِدُونِ الْحُكْمِ هُوَ النَّقْضُ إذْ مَعْنَاهُ إظْهَارُ الْوَصْفِ بِدُونِ الْحُكْمِ وَالنَّقْضُ أَحَدُ مُفْسِدَاتِ الْعِلَّةِ وَالسَّلَامَةُ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا تُوجِبُ انْتِفَاءَ كُلِّ مُفْسِدٍ وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا بِانْتِفَاءِ كُلِّ مُفْسِدٍ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ كُلِّ مُفْسِدٍ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ إذْ عَدَمُ الْمَانِعِ وَحْدَهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً مُقْتَضِيَةً فَلَا بُدَّ لِصِحَّتِهَا مِنْ مُقْتَضٍ لَهَا (فَأَيْنَ الْمُقْتَضِي لِلْعِلِّيَّةِ أَوَّلًا. وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ شَرْطًا لَهَا)
أَيْ الْعِلَّةِ (وَلَا لَازِمًا) لَهَا (أُجِيبَ الْمُدَّعِي) وَهُوَ الْعِلِّيَّةُ ثَابِتٌ (بِالْمَجْمُوعِ) مِنْ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ (لَا بِبَعْضِهِ) أَيْ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إفَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْعِلِّيَّةَ عَدَمُ إفَادَتِهِمَا إذْ قَدْ يَكُونُ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ الْأَثَرِ مَا لَا يَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْعِلَلِ مُطَّرِدَةً مُنْعَكِسَةً اشْتِرَاطُ الِانْعِكَاسِ فِي الْعِلَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَايَتُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي مَسْلَكُهَا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ تَكُونُ مَشْرُوطَةً بِذَلِكَ وَلَا فَسَادَ فِيهِ (الْقَاطِعُونَ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الدَّوَرَانَ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ قَطْعًا قَالُوا (إذَا وَقَعَ الدَّوَرَانُ وَعُلِمَ انْتِفَاءُ مَانِعِ الْمَعِيَّةِ فِي التَّضَايُفِ) لِأَنَّ الْمُتَضَايِفَيْنِ يُوجَدَانِ مَعًا (وَ) انْتِفَاءُ مَانِعٍ (عُدِمَ التَّأْثِيرُ) أَيْ الْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ (كَالشَّرْطِ الْمُسَاوِي) أَيْ كَعِلِّيَّةِ الشَّرْطِ الْمُسَاوِي لِمَشْرُوطِهِ وَقُيِّدَ بِهِ لِيَتَحَقَّقَ الطَّرْدُ أَعْنِي الدَّوَرَانَ وُجُودًا وَعَدَمًا إذْ مَعَ الْأَعَمِّ لَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ (وَ) انْتِفَاءُ مَانِعِ (التَّأْخِيرِ فِي الْمَعْلُولِيَّةِ) إذْ شَرْطُ الْمَعْلُولِ التَّأَخُّرُ عَنْ عِلَّتِهِ وَهَذَا مَا وَعَدَ بِبَيَانِهِ (قَطَعَ بِهَا) أَيْ بِالْعِلِّيَّةِ (لِلْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ) أَيْ لِقَطْعِهَا (فِيمَنْ تَكَرَّرَ دَوَرَانُ غَضَبِهِ عَنْ اسْمٍ) إذَا ذُكِرَ لَهُ وَعُدِمَ غَضَبُهُ إذَا لَمْ يُذْكَرْ لَهُ أَنَّ سَبَبَ غَضَبِهِ ذِكْرُ ذَلِكَ الِاسْمِ (حَتَّى عَلِمَهُ مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلنَّظَرِ كَالصِّبْيَانِ) حَتَّى إذَا قَصَدُوا إغْضَابَهُ اتَّبَعُوهُ فِي الطُّرُقِ وَدَعَوْهُ بِهِ.
(أُجِيبَ بِأَنَّ النِّزَاعَ) إنَّمَا هُوَ (فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ) وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالِ مَمْنُوعٌ بَلْ غَايَتُهُ حُصُولُ الظَّنِّ عِنْدَهُ (وَالظَّنُّ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الدَّوَرَانِ إنَّمَا هُوَ (مَعَ غَيْرِهِ مِنْ التَّكَرُّرِ لَا) أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الدَّوَرَانِ مَعَ (عَدَمِهِ) أَيْ الْغَيْرِ (بِعَدَمِ وُجْدَانِهِ) أَيْ الْغَيْرِ (مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ) أَيْ الْغَيْرِ (فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ) فَلَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا وَقَدْ انْدَرَجَ فِي هَذَا دَلِيلُ الظَّنِّ وَجَوَابُهُ (وَدُفِعَ) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَيْ إنْكَارُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّ (إنْكَارٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ وَقَدْحٌ فِي التَّجْرِيبِيَّاتِ فَإِنَّ الْأَطْفَالَ يَقْطَعُونَ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ (بِلَا أَهْلِيَّةِ اسْتِدْلَالٍ) بِالْبَحْثِ وَالْأَصْلِ وَنَحْوِهِمَا وَلَوْلَا أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَمَا عَلِمُوهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ وَأَهْلُ النَّظَرِ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَادَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ أَنَّ دَوَرَانَ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ أَنَّهُ كَوْنُ الْمَدَارِ عِلَّةَ الدَّائِرِ (وَيُجَابُ بِأَنَّ مِثْلَهُ) أَيْ الدَّوَرَانِ (يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ لِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ) وَهُوَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ (أَمَّا هِيَ) أَيْ الْأَحْكَامُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ الْجَائِزِ اخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ (فَلَا بُدَّ فِي بَيَانِ عِلَلِهَا مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ اعْتِبَارٍ مِنْ الشَّارِعِ إذْ فِي الْقَوْلِ) بِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ (بِالطَّرْدِ فَتْحُ بَابِ الْجَهْلِ) لِأَنَّ نِهَايَةَ الطَّرْدِ الْجَهْلُ بِوُجُودِ الْمُعَارِضِ وَالْمُنَاقِضِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِهَذَا الْوَصْفِ مُعَارِضٌ وَلَا مُنَاقِضٌ أَصْلًا بَلْ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَقُولَ مَا وَجَدْت لَهُ مُعَارِضًا وَلَا مُنَاقِضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الطَّرْدُ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ.
(وَ) فَتْحُ بَابِ (التَّصَرُّفِ فِي الشَّرْعِ) بِالرَّأْيِ فِي الْقَوَاطِعِ وَإِذَا انْتَهَى التَّصَرُّفُ فِي الشَّرْعِ إلَى هَذَا الْمُنْتَهَى كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَطْرِيقًا لِكُلِّ قَائِلٍ أَنْ يَقُولَ
(3/199)
مَا أَرَادَ وَيَحْكُمُ بِمَا شَاءَ وَلِهَذَا صَرَفَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ سَعْيَهُمْ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْمَعَانِي الْمُخَيَّلَةِ الْمُؤْثِرَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا مِنْ الْحَنَفِيِّ دَفْعٌ وَقَوْلُهُ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَيْ الْمُنَاسِبُ الْمَقْبُولُ إجْمَاعًا وَهُوَ) الْمُنَاسِبُ (الضَّرُورِيُّ أَوْ الْمَصْلَحِيُّ لَا) مِنْ (الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّافِعِيَّ (لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُثْبِتَ طَرِيقًا لِلْعِلِّيَّةِ لَا يَجِبُ فِيهَا ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ كَالسَّبْرِ وَالدَّوَرَانِ شَرَطَهَا) أَيْ الشَّافِعِيُّ الْمُنَاسَبَةَ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ) أَيْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ (يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِهَا بَيْنَهُمَا (كَمَا فِي الدَّوَرَانِ وَقِيلَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِيهِ) أَيْ فِي إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ (عَدَمُ أَخْذِ قَيْدِ صَلَاحِيَّةِ الْوَصْفِ) لِلْعِلِّيَّةِ.
(أَمَّا مَعَهُ) أَيْ صُلُوحِ الْوَصْفِ لِلْعِلِّيَّةِ وَقَدْ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا (وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْقَيْدَ (مُرَادٌ) لِمَنْ قَالَ الدَّوَرَانُ مُفِيدٌ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ كَمَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ (فَلَا خَفَاءَ فِي حُصُولِ ظَنِّ عَلِيَّتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (بِالدَّوَرَانِ بِخِلَافِ مَا) إذَا (لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ) أَيْ الْوَصْفِ (مُنَاسَبَةٌ كَالرَّائِحَةِ) أَيْ رَائِحَةِ الْمُسْكِرِ الْمَخْصُوصَةِ (لِلتَّحْرِيمِ) لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ عِلِّيَّتُهَا لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا الشَّبَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ الْمَسَالِكِ) لِلْعِلَّةِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْمَسَالِكَ هِيَ (الْمُثْبِتَةُ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ) لِلْحُكْمِ (وَالشَّبَهُ تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهُ بِهَا) أَيْ بِالْمَسَالِكِ ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يَتَحَرَّرُ فِي الشَّبَهِ عِبَارَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِي صِنَاعَةِ الْحُدُودِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَقَدْ تَكَاثَرَ التَّشَاجُرُ فِي تَعْرِيفِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ تَعْرِيفًا صَحِيحًا فِيهَا ثُمَّ هُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ (وَالْمُرَادُ) بِهِ هُنَا (مَا) أَيْ وَصْفُ (مُنَاسَبَتُهُ) لِلْحُكْمِ (لَيْسَتْ بِذَاتِهِ) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ الْوَصْفِ (بَلْ) مُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ (يُشْبِهُهُ) الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ الشَّبَهُ الْخَاصُّ وَإِلَّا فَكَمَا قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْمَحْصُولِ الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا يُظَنُّ كَوْنُهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ أَوْ الْمَعْنَى وَذَلِكَ كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تُنَاسِبُهُ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةٍ بِخِلَافِ الْإِسْكَارِ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا بِالذَّاتِ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْعَقْلُ مُنَاسَبَتَهُ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ شَرْعًا (فَيُحْتَاجُ) فِي إثْبَاتِ عِلِّيَّتِهِ (إلَى الْمُثْبِتِ) لَهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ وَصْفٌ لَمْ تَثْبُتْ مُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ (فَلَا يَصِحُّ إنْكَارُهُ) أَيْ الشَّبَهِ (بَعْدَ إثْبَاتِهِ) أَيْ كَوْنِهِ عَلِمَهُ (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْإِخَالَةِ) بَلْ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ السَّبْرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ (وَإِلَّا) لَوْ ثَبَتَ بِالْإِخَالَةِ أَيْضًا (كَانَ) الشَّبَهَ (الْمُنَاسِبَ الْمَشْهُورَ) وَلَيْسَ إيَّاهُ بَلْ بَيْنَهُمَا تَقَابُلٌ (كَطَهَارَةٍ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ) .
أَيْ مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ فِي إلْحَاقِ إزَالَةِ الْخَبَثِ بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ فِي تَعَيُّنِ الْمَاءِ لَهَا: إزَالَةُ الْخَبَثِ طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ (فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا غَيْرُ الْمَاءِ كَالْوُضُوءِ) فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ لِلصَّلَاةِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ غَيْرُ الْمَاءِ فَكَوْنُ كُلٌّ مِنْهُمَا طَهَارَةً تُرَادُ لِلصَّلَاةِ هُوَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا لِتَعَيُّنِ الْمَاءِ لَهُمَا وَهُوَ وَصْفٌ شَبَهِيٌّ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَعَيُّنِ الْمَاءِ فِي إزَالَةِ الْخَبَثِ.
(فَإِنْ ثَبَتَ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ) الْمُعْتَبَرَةِ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ (أَنَّ كَوْنَ الطَّهَارَةِ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ يَصِحُّ عِلَّةَ تَعَيُّنِ الْمَاءِ) فِي إزَالَةِ الْخَبَثِ (لَزِمَ) كَوْنُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَثْبُتْ صِحَّةُ كَوْنِهِ عِلَّةَ تَعَيُّنِهِ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ (لَا يُوجِبُهُ) أَيْ تَعَيُّنُ الْمَاءِ (مُجَرَّدُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ تَعَيُّنِ الْمَاءِ (فِي الْحَدَثِ وَعَلَى هَذَا) أَيْ أَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ إنَّمَا يَثْبُتُ عِلَّةً بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ الْمَذْكُورَةِ (فَمَرْجِعُهُ) أَيْ الشَّبَهِ (إلَى إثْبَاتِ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ وَلَيْسَ شَيْئًا آخَرَ) فَيَنْتَفِي تَصْرِيحُ الْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لَكِنْ قَوْلُ السُّبْكِيّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْقَائِلِينَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ يُفِيدُ أَنَّهُ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْمُثْبِتَ لِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ لِلْحُكْمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْخَارِجُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِهِ فِيهِ فَيُوهِمُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا لَهُ لَا النَّصُّ وَلَا الْإِجْمَاعُ وَلَا التَّأْثِيرُ الْمَاضِي بَيَانُهُ.
قَالُوا وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ قَبُولُهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ
(3/200)
كَأَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُوهُ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي اعْتِبَارِهِ إرْهَاقَ الضَّرُورَةِ إلَى الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لَا يُوجَدُ فِيهَا إلَّا الْوَصْفُ الشَّبَهِيُّ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ ثُمَّ قَالَ قِيَاسُ الْمَعْنَى مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيهِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَيُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعِ شَبَهٍ مُقَرِّبٍ أَيْ يُقَرِّبَ الْفَرْعَ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ (وَيُقَالُ) الشَّبَهُ (أَيْضًا لَا شَبَهِيَّةَ وَصْفَيْنِ فِي فَرْعٍ تَرَدَّدَ) الْفَرْعُ (بِهِمَا) أَيْ الْوَصْفَيْنِ (بَيْنَ أَصْلَيْنِ كَالْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ تَرَدُّدُ) الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ (بِهِمَا) أَيْ بِالْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) وَلَفْظُ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ كَالنَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ بِهِمَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْفَرَسِ وَهُوَ بِالْحُرِّ أَشْبَهُ إذْ مُشَارَكَتُهُ لَهُ فِي الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ أَكْثَرُ اهـ.
وَهُوَ أَوْلَى فَقِيَاسُ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ قَاتِلِهِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ نَفْسٌ مَنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دِيَتُهُ قِيمَتُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى تُؤْخَذَ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَالٌ كَسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ إذْ مُشَارَكَةُ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْأَوْصَافِ كَكَوْنِهِ نَاطِقًا قَابِلًا لِلصِّنَاعَاتِ وَالْأَحْكَامُ كَكَوْنِهِ مُكَلَّفًا أَكْثَرُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ لِلْفَرَسِ قَالُوا وَالشَّافِعِيُّ يُسَمِّي هَذَا قِيَاسَ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ أَعْلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ ثُمَّ الْقِيَاسُ الصُّورِيُّ كَقِيَاسِ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِلشَّبَهِ الصُّورِيِّ بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ (وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَنْسُبُونَ الدَّوَرَانَ لِأَهْلِ الطَّرْدِ وَكَذَا السَّبْرُ) يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِمْ (إذْ يُرِيدُونَ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِ الطَّرْدِ (مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ظُهُورَ التَّأْثِيرِ) فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً (وَعَلِمْتَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارَ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ (أَنَّهُ) أَيْ التَّأْثِيرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (يُسَاوِي الْمُلَاءَمَةَ عِنْدَهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ.
(وَعَلَى هَذَا) أَيْ تَسَاوِي التَّأْثِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُلَاءَمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (فَمِنْ الطَّرْدِ الْإِخَالَةُ) أَيْ يَكُونُ شَامِلًا لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ التَّأْثِيرِ (وَيُؤَيِّدُهُ) أَيْ كَوْنَ الْإِخَالَةِ مِنْ الطَّرْدِ عِنْدَهُمْ (تَصْرِيحُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ النَّظَرِ مَالُوا إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ) أَيْ بِالطَّرْدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ (وَمَعْلُومٌ تَصْرِيحُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَلَيْسَ أَهْلُهُ) أَيْ الطَّرْدِ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (إلَّا مَنْ ذَكَرْنَا) أَيْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ظُهُورَ التَّأْثِيرِ (فَلَا أَحَدَ يُضِيفُ حُكْمَ الشَّرْعِ إلَى مَا لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ أَصْلًا كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ فَالطَّرْدُ مَا لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهَا اتِّفَاقًا وَالْخِلَافُ) فِي الْمُنَاسَبَةِ إنَّمَا هُوَ (فِيمَا بِهِ) يَثْبُتُ اعْتِبَارُهَا (فَالْحَنَفِيَّةُ لَيْسَ) شَيْءٌ يُثْبِتُ اعْتِبَارَهَا (إلَّا التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ الْمُلَاءَمَةُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ) يُثْبِتُ اعْتِبَارَهَا (بِغَيْرِهَا) أَيْ الْمُلَاءَمَةِ (أَيْضًا وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ إذَا وَضَعَ أَمْرًا عَلَامَةً عَلَى حُكْمٍ كَالدُّلُوكِ) أَيْ كَوَضْعِهِ زَوَالَ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبَهَا عَلَامَةً (عَلَى الْوُجُوبِ) لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (أُضِيفَ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ عَلَامَةً عَلَيْهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرَ (لَيْسَ عِلَّةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (إلَّا مَجَازًا) وَالْعِلَّةُ لَهُ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ الْخِطَابُ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَارَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتْ بِشُهْرَةِ الْعَلَامَةِ) بَلْ الْعَلَامَةُ عِنْدَهُمْ أَشْهَرُ مِنْ الْأَمَارَةِ (وَتَقْسِيمُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (الْخَارِجَ) عَنْ الْحُكْمِ (الْمُتَعَلِّقَ بِالْحُكْمِ) أَيْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُفِيدِ كَوْنَ الْعَلَامَةِ مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ وَإِخْرَاجُ الرُّكْنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقْسَامِهِ أَنَّ مَا يَكُونُ حُكْمًا مُتَعَلِّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ يَنْقَسِمُ (إلَى مُؤَثَّرٍ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْآخَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً (وَ) إلَى (مُفْضٍ إلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ (بِلَا تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ) وَهُوَ الْأَوَّلُ (وَالسَّبَبُ) وَهُوَ الثَّانِي (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِيهِ وَلَا مُفْضِيًا إلَيْهِ.
(فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْخَارِجِ (الْوُجُودُ) أَيْ وُجُودُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ
(3/201)
الْآخَرُ (فَالشَّرْطُ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ الْوُجُودُ.
(فَإِنْ دَلَّ) الْحُكْمُ الْخَارِجُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْآخَرُ (فَالْعَلَامَةُ، فَالْعِلَّةُ تَقَدَّمَتْ بِأَقْسَامِهَا وَهَذَا) الَّذِي نَذْكُرُهُ (تَقْسِيمُهُمْ مَا سِوَاهَا) أَيْ الْعِلَّةِ قَالُوا (فَالسَّبَبُ تَجِبُ الْعِلَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ مَوْضُوعَةٍ لَهُ وَالسَّبَبُ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقٌ لَهُ لَا مَوْضُوعٌ لَهُ وَلَا مُؤَثِّرٌ فِيهِ وَلَهُ أَقْسَامٌ بِحَسَبِ إضَافَةِ الْعِلَّةِ إلَيْهِ وَعَدَمِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ (فَإِمَّا تُضَافُ) الْعِلَّةُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (كَالسَّوْقِ) لِلدَّابَّةِ (الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعِلَّةُ وَطْؤُهَا) أَيْ الدَّابَّةِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَالسَّوْقُ سَبَبُ التَّلَفِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ لِأَنَّهُ (لَمْ يُوضَعْ لِلتَّلَفِ) بَلْ وُضِعَ لِسَيْرِ الدَّابَّةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ (وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ) أَيْ فِي التَّلَفِ (بَلْ طَرِيقٌ إلَيْهِ) وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ لِلتَّلَفِ إنَّمَا هُوَ وَطْءُ الدَّابَّةِ بِقَوَائِمِهَا ذَلِكَ الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ (فَالسَّبَبُ) أَيْ فَهَذَا السَّبَبُ (فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) لِكَوْنِ الْعِلَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَحَادِثَةٌ بِهِ لِأَنَّ السَّوْقَ يَحْمِلُ الدَّابَّةَ عَلَى ذَلِكَ كُرْهًا وَلِهَذَا كَانَ مَشْيُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ طَبْعِ السَّائِقِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ (فَلَهُ) أَيْ هَذَا السَّبَبِ.
(حُكْمُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْمَحَلِّ) أَيْ مَحَلِّ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الضَّمَانُ (لَا) فِيمَا يَرْجِعُ إلَى (جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَيْهِ) أَيْ السَّائِقِ (الدِّيَةُ) إذَا وَطِئَتْ آدَمِيًّا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَحَلِّ وَالسَّوْقُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ شَرْعًا وَعَقْلًا لَكِنْ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لَا مُطْلَقًا وَقَدْ فَاتَتْ بِالتَّلَفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدٍ فَيُجْبَرُ بِالْبَدَلِ لِأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالْعَجْمَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِعْلُهَا جُبَارًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقَ ثَمَّ (لَا) يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (حِرْمَانُ الْإِرْثِ وَنَحْوُهُ) مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ.
(وَالشَّهَادَةُ) أَيْ وَكَشَهَادَةِ الشُّهُودِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ سَبَبٌ (لِلْقِصَاصِ) أَيْ لِوُجُوبِهِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ (لَمْ تُوضَعْ لَهُ) أَيْ لِلْقِصَاصِ (وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ بَلْ) هِيَ (طَرِيقُهُ) أَيْ الْقِصَاصِ (وَعِلَّتُهُ) أَيْ الْقِصَاصِ (الْمُتَوَسِّطِ) أَيْ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ (مِنْ فِعْلِ) الْفَاعِلِ (الْمُخْتَارِ الْمُبَاشِرِ لِلْقَتْلِ لَكِنْ فِيهِ) أَيْ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَةُ (مَعْنَى الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا) أَيْ الشَّهَادَةَ (مُؤَدِّيَةٌ إلَى الْقَتْلِ بِوَاسِطَةِ إيجَابِهَا الْقَضَاءَ) عَلَى الْقَاضِي بِهِ حَتَّى حَكَمَ بِوُجُوبِهِ (وَاخْتِيَارُ الْوَلِيِّ إيَّاهُ) أَيْ وَبِوَاسِطَةِ اخْتِيَارِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْقَتْلَ (عَلَى الْعَفْوِ) إذْ لَوْلَاهَا لَمْ يَتَسَلَّطْ الْوَلِيُّ عَلَى قَتْلِهِ (فَعَلَيْهِمْ) أَيْ الشُّهُودِ (بِرُجُوعِهِمْ) عَنْ الشَّهَادَةِ بِذَلِكَ (الدِّيَةُ) لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَحَلِّ (لَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ) أَيْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُبَاشَرَةَ مِنْهُمْ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَصُّ) مِنْ الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ (إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ) وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْبَلُ بِشَهَادَتِنَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْبَلُ بِهَا (وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ قَبُولُهُمْ) وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَلَفُوا عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَعُزِّرُوا وَتَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ فِي الصُّورَتَيْنِ (جَعْلًا لِلسَّبَبِ) الْقَوِيِّ (الْمُؤَكَّدِ بِالْقَصْدِ الْكَامِلِ كَالْمُبَاشَرَةِ) فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ (دَفَعَ) قَوْلُهُ (بِأَنَّ الْقِصَاصَ بِالْمُمَاثَلَةِ وَلَيْسَتْ) الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةً (بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ وَإِنْ قَوِيَ) السَّبَبُ وَتَأَكَّدَ وَفِي الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ لِهَذَا السَّبَبِ حُكْمُ الْعِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ لَمَّا حَدَثَتْ بِالْأُولَى صَارَتْ الْعِلَّةُ الْأَخِيرَةُ حُكْمًا لِلْأُولَى مَعَ حُكْمِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الثَّانِيَةِ مُضَافٌ إلَيْهَا وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْأُولَى فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ لَهَا حُكْمَانِ اهـ.
قُلْت فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ (وَمِنْهُ) أَيْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَضْعُ الْحَجَرِ) فِي الطَّرِيقِ (وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ) فِيهِ (وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ) أَيْ وَتَرْكُ هَدْمِ الْحَائِطِ إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ أَوْ إلَى دَارِ جَارِهِ بَعْدَ مُطَالَبَةِ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْجَارُ وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِيهَا عَلَى الثَّانِي صَاحِبُهُ يَنْقُضُهُ إذْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ أَنَّهُ) أَيْ كُلًّا مِنْ هَذِهِ (مِثْلُهُ) أَيْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فِي حُكْمِهِ (لِتَعَدِّيهِ فِي إبْقَاءِ الْفِعْلِ السَّبَبَ) لَا أَنَّهُ مِنْ السَّبَبِ
(3/202)
فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَإِمَّا لَا تُضَافُ) الْعِلَّةُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (لِكَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا كَدَلَالَةِ السَّارِقِ) أَيْ كَدَلَالَةِ إنْسَانٍ سَارِقًا عَلَى مَالِ آخَرَ لِيَسْرِقَهُ فَفَعَلَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِوَصْفِهِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ (الْمُتَوَسِّطِ سَرِقَتُهُ) الَّتِي هِيَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْمَدْلُولُ بِاخْتِيَارِهِ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَالِ وَأَخْذِهِ.
(فَالْحَقِيقِيُّ) أَيْ فَدَلَالَتُهُ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهَا طَرِيقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِتْلَافُ وَعِلَّتُهُ السَّرِقَةِ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَهِيَ مُتَخَلِّلَةٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ (فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (فَلَا يَضْمَنُ دَالُّ السَّارِقِ) الْمَسْرُوقَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُضَافٌ إلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لَا إلَى الدَّالِّ (وَلَا يُشْرَكُ فِي الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ) لِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (عَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ) بِوَصْفِ طَرِيقِهِ فَأَصَابُوهُ بِدَلَالَتِهِ وَحَصَلُوا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ (لِقَطْعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ) أَيْ لِقَطْعِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ اغْتِنَامُ الْمَدْلُولِينَ نِسْبَةَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحُصُولُ عَلَى الْغَنِيمَةِ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ دَلَالَةُ الدَّالِّ بِوَاسِطَةِ تَخَلُّلِ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فَدَلَالَتُهُ سَبَبٌ مَحْضٌ نَعَمْ لَوْ ذَهَبَ مَعَهُمْ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْحِصْنِ شَرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُصَابَةِ فِيهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ سَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ.
(وَلَا) يَضْمَنُ (دَافِعُ السِّكِّينِ لِصَبِيٍّ) لِيُمْسِكَهَا الصَّبِيُّ لِلدَّافِعِ (فَقَتَلَ) الصَّبِيُّ بِهَا (نَفْسَهُ) لِأَنَّ دَفْعَهَا إلَيْهِ سَبَبٌ مَحْضٌ لِلْهَلَاكِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْهَلَاكُ عِلَّتُهُ وَهُوَ قَتْلُ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الدَّافِعِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ إنَّمَا هَلَكَ بِالِاسْتِعْمَالِ (بِخِلَافِ سُقُوطِهَا) أَيْ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لِيُمْسِكَهَا فَسَقَطَتْ بِلَا قَصْدٍ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ الصَّبِيَّ لِإِضَافَةِ الْهَلَاكِ حِينَئِذٍ إلَيْهِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَحْصُلْ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْهَلَاكِ بِاخْتِيَارِ الصَّبِيِّ بَلْ بِإِمْسَاكِهِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ دَفْعِ الدَّافِعِ فَيُضَافُ مَا لَزِمَ مِنْ الْإِمْسَاكِ إلَيْهِ فَكَانَ الدَّفْعُ حِينَئِذٍ سَبَبًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِكَوْنِ عِلَّةِ التَّلَفِ وَهِيَ السُّقُوطَ تُضَافُ إلَيْهِ.
(وَلَا) يَضْمَنُ (الْقَائِلُ) لِغَيْرِهِ (تَزَوَّجْهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ (فَإِنَّهَا حُرَّةٌ) فَتَزَوَّجَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةُ إنْسَانٍ (لِقِيمَةِ الْوَلَدِ) الَّتِي أَدَّاهَا إلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ سَبَبٌ مَحْضٌ لِلِاسْتِيلَادِ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا عِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى الْأَخْبَارِ وَهِيَ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ بِاخْتِيَارِهِمَا (بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ أَوْ الْوَكِيلِ) أَيْ وَلِيِّهَا أَوْ وَكِيلِهَا (بِالشَّرْطِ) أَيْ بِشَرْطِ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِنَّ الزَّوْجَ الْمُسْتَوْلِدَ يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ (لِلْغُرُورِ) مِنْ الْمُزَوِّجِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحُرِّيَّةِ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لِهَذَا التَّزْوِيجِ وَالِاسْتِيلَادُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَصَارَ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ كَالتَّزْوِيجِ وَشَارِطُهَا صَاحِبُ عِلَّةٍ وَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَلْحَقُك بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ حُكْمُ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ النَّسْلِ فَكَانَ الْمُزَوِّجُ صَاحِبَ عِلَّةٍ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ.
(وَلَا يَلْزَمُ) عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يُضَفْ فِيهَا الْحُكْمُ إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ (الْمُودِعُ وَالْمُحْرِمُ) إذَا دَلَّ الْمُودِعُ سَارِقًا وَالْمُحْرِمُ صَائِدًا (عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالصَّيْدِ) فَسَرَقَ الْمَدْلُولُ الْوَدِيعَةَ وَقَتَلَ الصَّيْدَ حَيْثُ (يَضْمَنَانِ) أَيْ الْمُودِعُ وَالْمُحْرِمُ الدَّالَّانِ (وَهُمَا مُسَبِّبَانِ) عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَا قَامَ بِهِمَا مِنْ الدَّلَالَةِ سَبَبٌ مَحْضٌ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لَهُ وَهِيَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُشْكِلْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يُضَفْ الْحُكْمُ فِيهَا إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ (لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُودِعِ بِتَرْكِ الْحِفْظِ) الْمُلْتَزَمِ لِلْوَدِيعَةِ بِعَقْدِهَا الْمُبَاشِرِ لَهُ بِدَلَالَةِ السَّارِقِ عَلَيْهَا.
(وَ) ضَمَانُ (الْمُحْرِمِ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ) لِلصَّيْدِ الْمُلْتَزِمِ لَهُ بِالْإِحْرَامِ (الْمُتَقَرِّرِ بِالْقَتْلِ) لَهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا بِدَلَالَةِ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ (فَهُوَ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْمُودِعِ وَالْمُحْرِمِ الدَّالَّيْنِ (مُبَاشِرٌ) لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالصَّيْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لَا بِالتَّسَبُّبِ (بِخِلَافِهَا) أَيْ دَلَالَةِ الْحَلَالِ غَيْرَهُ (عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ) حَتَّى قَتَلَهُ الْمَدْلُولُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الدَّالِّ (لِأَنَّ أَمْنَهُ) أَيْ صَيْدِ الْحَرَمِ (بِالْمَكَانِ) الْخَاصِّ وَهُوَ الْحَرَمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَمْنًا لِيَبْقَى مُدَّةَ بَقَاءِ الدُّنْيَا (وَلَمْ يَزُلْ) أَمْنُهُ (بِالدَّلَالَةِ) فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا (بِخِلَافِ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ الصَّيُودِ (فَإِنَّهُ) أَيْ أَمْنَهُ (بِتَوَارِيهِ) وَبُعْدِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ (فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إزَالَةُ أَمْنِهِ وَهُوَ) أَيْ إذْهَابُ
(3/203)
أَمْنِهِ (الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِهِ) وَأَوْرَدَ الْأَجْنَبِيَّ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَدُلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَرَكَ مَا الْتَزَمَ بِالدَّلَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِعَقْدِ الْتِزَامِ الْأَمْنِ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتْبَعُهُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا وَالْتِزَامُهُ الْأَمْنَ وَالْحِفْظَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا لَهُمَا قَصْدًا وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَهَذَا الِالْتِزَامُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقَعُ فِعْلُهُ مُوجِبًا يُوجِبُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الْإِثْمُ وَهُنَا الْعَقْدُ وَاقِعٌ مَعَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقَعُ فِعْلُهُ مُوجِبًا يُوجِبُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الضَّمَانُ وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ الْأَمْنَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْأَجْنَبِيِّ إزَالَةُ الْأَمْنِ لِأَنَّ أَمْنَ الْأَمْوَالِ لَا يَثْبُتُ بِالْبُعْدِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَأَيْدِيهِمْ وَالْجَهْلِ بِمَحِلِّهَا بَلْ أَمْنُهَا بِالْأَيْدِي وَالْحِرْزِ وَبِالدَّلَالَةِ لَا يَزُولُ هَذَا الْأَمْنُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
(تَنْبِيهٌ) ثُمَّ حَقِيقَةُ الدَّلَالَةِ الْإِعْلَامُ أَيْ إحْدَاثُ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يَكْذِبَ الدَّالُّ فِي ذَلِكَ فَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا لَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ أَوْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ لِعَدَمِ زَوَالِ أَمْنِهِ بِهَا وَشُرُوطُ تَحَقُّقِهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ مَعَ تَحَقُّقِهَا فِي نَفْسِهَا أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا الْقَتْلُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آنِفًا بِقَوْلِهِ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ الْمُتَقَرِّرَةِ بِالْقَتْلِ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ بِدَلَالَتِهِ ثُمَّ انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ لِانْتِهَاءِ دَلَالَتِهِ بِالِانْفِلَاتِ وَالْأَخْذُ ثَانِيًا إنْشَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَأَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْآخِذُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ آنِفًا قَوْلُنَا وَالدَّالُّ مُحْرِمٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْقَتْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْجُودًا عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ يُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ فَتْوَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سَاعٍ بِغَيْرِهِ لَا بِحَقٍّ إلَى حَاكِمٍ ظَالِمٍ سِعَايَةً غَرَّمَتْهُ الْمَالَ ظُلْمًا بِضَمَانِهِ مَعَ أَنَّهَا سَبَبٌ مَحْضٌ تَخَلَّلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَالْجَوَابُ لَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الْإِسْلَامِ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةٍ وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْقَاضِي تَضْمِينَ السَّاعِي لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فَنَحْنُ نَكِلُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى تَنْزَجِرَ السُّعَاةُ عَنْ السَّعْيِ (وَفَتْوَى الْمُتَأَخِّرِينَ بِالضَّمَانِ بِالسِّعَايَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانٌ لِغَلَبَةِ السُّعَاةِ) بِغَيْرِ الْحَقِّ إلَى الظُّلْمَةِ فِي زَمَانِنَا وَبِهِ يُفْتَى لِأَنَّ مُجَرَّدَ وُكُولِ الْأَمْرِ إلَى الْقَاضِي لَا يُجْدِي فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ فِي زَمَانِنَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي مِثْلُهُ) أَيْ الْإِفْتَاءُ بِضَمَانِ إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مُطْلَقًا زَمَانًا وَمَكَانًا (وَلَوْ غَلَبَ غَصْبُ الْمَنَافِعِ) مُطْلَقًا فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي بَابِ الضَّمَانِ زَجْرًا لِلْغَصَبَةِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي أَوَاخِرِ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَقْتِ الْمُقَيَّدِ بِهِ الْوَاجِبُ تَقْيِيدَ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ بِالْأَوْقَافِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَحِكَايَةِ بَعْضِهِمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ضَمَانِ الْمَنَافِعِ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إذَا كَانَ الْعَيْنُ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الزَّجْرَ لِلْغَصَبَةِ وَالْحِفْظَ لِأَمْوَالِ الضَّعَفَةِ فَلَا بَأْسَ بِالْفَتْوَى بِضَمَانِهَا حِينَئِذٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِاحْتِيَاجِ مَا سِوَى هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الِارْتِفَاقِ وَحَسْمًا لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ بَيْنَ الْعِبَادِ (وَيُقَالُ لَفْظُ السَّبَبِ مَجَازًا عَلَى الْمُعَلَّقِ) بِشَرْطٍ (مِنْ تَطْلِيقٍ وَإِعْتَاقٍ وَنَذْرٍ) وَهَذَا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُعَلَّقًا (بِمَا) أَيْ بِشَرْطٍ (لَا يُرِيدُ) الْمُعَلِّقُ (كَوْنَهُ) أَيْ وُجُودِهِ كَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ حُرَّةٌ وَإِنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي فَعَلَيَّ لِلَّهِ صِيَامُ سَنَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ (وَعَلَى الْيَمِينِ) بِاَللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ (إذْ لَيْسَتْ) هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتُ وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ (مُفْضِيَةً إلَى الْوُقُوعِ) أَيْ وُقُوعِ مَعْنَاهَا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَوُجُوبِ الْمَنْذُورِ فِي الذِّمَّةِ (وَ) إلَى (الْحِنْثِ) أَمَّا الْمُعَلَّقَاتُ فَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعْلِيقِهَا عَلَيْهِ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ وَالْبِرُّ لَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحِنْثِ وَبِدُونِ الْحِنْثِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَالْمَانِعُ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (بَلْ) هِيَ (مَانِعَةٌ) مِنْ الْوُقُوعِ وَالْحِنْثِ.
(وَإِنَّمَا لَهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ (نَوْعُ إفْضَاءٍ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ وَقْتُ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالْحِنْثِ (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتُ وَالْيَمِينُ سَبَبٌ (مَجَازٌ) لِلْوُقُوعِ
(3/204)
وَالْكَفَّارَةِ (وَإِذَا صَدَرَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ صَارَ) الْمُعَلَّقُ نَفْسُهُ (عِلَّةً حَقِيقِيَّةً) لِلْوُقُوعِ لِتَأْثِيرِهِ فِيهِ مَعَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَإِيصَالِهِ بِهِ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ (بِخِلَافِ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَإِنْ وُجِدَ الْحُكْمُ (لِأَنَّهُ) أَيْ السَّبَبَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمُسَبَّبِ) الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ (وَإِنْ أَثَّرَ فِي عِلَّتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ كَمَا عَلِمْت فِي سَوْقِ الدَّابَّةِ إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ (فَلَمْ تَنْتَفِ حَقِيقَةُ السَّبَبِيَّةِ) فِي السَّبَبِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ (بِوُجُودِ التَّأْثِيرِ) أَيْ تَأْثِيرِهِ فِي الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ مَجَازِيٌّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ السَّبَبِيَّةِ انْتَفَتْ فِيهِ بِتَأْثِيرِهِ فِي الْحُكْمِ فَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُجْعَلْ مِنْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَا السَّبَبُ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ سَبَبًا مَجَازًا وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ الْمُعَلَّقَ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَصِيرُ عِلَّةَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَإِنَّمَا عِلَّتُهَا الْحِنْثُ لِأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا.
هَذَا وَتَقْيِيدُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ بِكَوْنِهِ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَقَعَ فِي الْمَنَارِ وَغَيْرِهِ وَلَفْظُ الْبَزْدَوِيِّ وَمِثْلُ الْمُنْذَرِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ انْتَهَى فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا إذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلْحَالِ إذْ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيقِ حُصُولُ الشَّرْطِ فَكَانَ مُفْضِيًا إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ سَبَبًا فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ " الْمُعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ " إلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ لِلْحَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَصِلْ إلَى ذِمَّتِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ سَبَبًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الصَّيْرُورَةِ لَا الْمَعْنَى كَبَيْعِ الْحُرِّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(ثُمَّ لِلْمُعَلَّقِ) الَّذِي هُوَ السَّبَبُ (الْمَجَازِ شَبَهُ الْعِلَّةِ الْحَقِيقَةِ) مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مَجَازٌ مَحْضٌ خَالٍ مِنْ هَذَا الشَّبَهِ (وَثَمَرَتُهُ) أَيْ الْخِلَافِ تَظْهَرُ (فِي تَنْجِيزِ الثَّلَاثِ) بَعْدَ تَعْلِيقِ بَعْضِهَا أَوْ جَمِيعِهَا عَلَى شَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ (يُبْطِلُ) تَنْجِيزُهَا (التَّعْلِيقَ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لَهُ) حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَوُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَهُمْ وَيَقَعُ عِنْدَهُ.
(وَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةٌ (طَوِيلَةٌ فِي فِقْهِهِمْ وَالْمَبْنَى) فِي إبْطَالِهِ التَّعْلِيقَ وَعَدَمِ إبْطَالِهِ (الِاحْتِيَاجُ) أَيْ احْتِيَاجُ الْمُعَلَّقِ فِي الْبَقَاءِ (إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ) لِتَنْجِيزِهِ عِنْدَهُمْ (لِلشُّبْهَةِ) أَيْ لِكَوْنِ الْمُعَلَّقِ لَهُ شَبَهُ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْيَمِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهُ وَهُوَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَعْنَى لَوْ فَاتَ الْبِرُّ لَزِمَ الْجَزَاءُ كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ مَضْمُونَةٌ بِالْكَفَّارَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا فَاتَ الْبِرُّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مِنْ الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ وَإِذَا كَانَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَانَ لِلْجَزَاءِ شَبَهُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ أَيْ قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ إذْ لِلضَّمَانِ شَبَهُ الثُّبُوتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْمَضْمُونِ كَمَا فِي الْغَصْبِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ رَدُّ الْعَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ رَدُّهَا لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً وَإِلَّا فَرَدُّ الْقِيمَةِ ثُمَّ لِلْقِيمَةِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ شَبَهُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَغْصُوبِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ إيَّاهُ قَبْلَ ضَمَانِهِ إذَا ضَمِنَهُ الْمَالِكُ إيَّاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ وَإِذَا كَانَ لِلْجَزَاءِ فِي الْحَالِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ وَثُبُوتُ الْجَزَاءِ حَقِيقَةً لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ حَتَّى يَبْطُلُ بِفَوَاتِهِ فَكَذَا شُبْهَتُهُ لَا تُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ لِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إذْ الشُّبْهَةُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ وَقَطُّ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ أَلَا تَرَى أَنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ فِي الرِّجَالِ اتِّفَاقًا وَشُبْهَةَ الْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحُرِّ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِيهِمَا وَقَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ فَبَطَلَ التَّعْلِيقُ ضَرُورَةً (وَعَدَمُهُ) أَيْ احْتِيَاجِ الْمُعَلَّقِ فِي الْبَقَاءِ إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِتَنْجِيزِهِ عِنْدَ زُفَرَ (لِعَدَمِهَا) أَيْ شُبْهَةِ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْمُعَلَّقِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ قَدْ حَالَ التَّعْلِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ فَأَوْجَبَ قَطْعَ السَّبَبِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالتُّرْسِ إذَا حَالَ بَيْنَ الرَّامِي وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ.
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ جِهَةُ السَّبَبِيَّةِ بِوَجْهٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَحَلِّ وَاحْتِمَالُ صَيْرُورَتِهِ سَبَبًا فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ بَلْ يَكْفِيهِ احْتِمَالُ حُدُوثِ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهَا إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ فِي الْحَالِ يَمِينٌ وَمَحِلُّهَا
(3/205)
ذِمَّةُ الْحَالِفِ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا فَلَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ وَاشْتِرَاطُ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ إنَّمَا كَانَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ حَتَّى يَصِحَّ إيجَابُ الْيَمِينِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَإِنْ عُدِمَ الْمَحِلُّ فَلَأَنْ يَبْقَى هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مُوجَبَ الْيَمِينِ شَرْعًا الْبِرُّ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ فَصَارَتْ طَلْقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ الَّتِي هِيَ الْجَزَاءُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ الْحِنْثِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ الشَّرْطِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى التَّخْوِيفِ.
وَأَمَّا طَلْقَاتُ مِلْكٍ سَيُوجَدُ فَغَيْرُ مُتَيَقَّنَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الشَّرْطِ إذَا الظَّاهِرُ عَدَمُ مَا سَيَحْدُثُ وَقَدْ فَاتَ مِلْكُ الثَّلَاثِ بِتَنْجِيزِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ زَوَالُ صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ عَنْ الْمَحِلِّ فَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ بَعْدَ حُرْمَةِ الْمَحِلِّ بِهَا فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ لِأَنَّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَقَاءُ وَالِابْتِدَاءُ ثُمَّ انْعِقَادُ التَّعْلِيقِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِي الْحَالِ بَلْ يَنْتَفِي الْمِلْكُ وَالْمَحَلِّيَّةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِدُونِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْجَزَاءِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِثْلَ التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ حَالَ حِلِّ الْمَحَلِّ بَلْ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِأَنَّ نُزُولَ الْجَزَاءِ قَطْعِيٌّ هُنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ نُزُولِهِ عِنْدَ سَائِرِ الشُّرُوطِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (أَنْ يُعَيِّنُوا أَسْبَابَ الْمَشْرُوعَاتِ) وَإِنْ كَانَ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ شَارِعَ الشَّرَائِعِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا تُضَافُ إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِجَعْلِ الْأَحْكَامِ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَقَطْعًا لِشُبْهَةِ الْمُعَانِدِينَ إذْ لَوْ لَمْ يُوضَعْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لَهَا رُبَّمَا أَنْكَرَ الْمُعَانِدُ وُجُوبَهَا وَلَمْ يُمْكِنْ إلْزَامُهُ لِأَنَّ إيجَابَهُ غَيْبٌ عَنَّا فَهِيَ عِلَلٌ جَعْلِيَّةٌ وَضَعَهَا الشَّارِعُ عَلَامَاتٍ عَلَى الْإِيجَابِ لَا مُؤَثِّرَاتٍ بِذَوَاتِهَا فَانْتَفَى نَفْيُ مَنْ نَفَاهَا أَصْلًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِهَا تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُضَافَةٌ إلَى إيجَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُ شَارِعُ الشَّرَائِعِ إجْمَاعًا وَنَفْيُ بَعْضِهِمْ إيَّاهَا فِي الْعِبَادَاتِ خَاصَّةً إذْ الْمَقْصُودُ فِيهَا الْفِعْلُ فَقَطْ وَوُجُوبُهُ بِالْخِطَابِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ تُضَافَ الْأَمْوَالُ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ لِلْعُقُوبَةِ إلَى الْأَسْبَابِ وَنَفْسُ الْوُجُوبِ إلَى الْخِطَابِ.
(قَالُوا السَّبَبُ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ) بِوُجُودِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ وَشَهِدَ بِهِ الْعَقْلُ (حُدُوثُ الْعَالَمِ) أَيْ كَوْنُ (كُلِّ مَا سِوَاهُ تَعَالَى مِمَّا فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ) مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَمَعْنَى سَبَبِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ لَا لِوُجُودِ الْبَارِئِ تَعَالَى أَوْ وَحْدَانِيِّتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَزَلِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَادِثَ لِإِمْكَانِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى مُؤَثِّرٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُحْدِثًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْعَالَمُ عَالَمًا فَإِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِهِ ثُمَّ وُجُوبُ الْوُجُودِ يُنْبِئُ عَنْ جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ وَيَنْفِي جَمِيعَ النَّقَائِصِ ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ فَقَطْ بَلْ مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] الْآيَةَ إلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ أَشَدُّ الْمَرَاتِبِ وُضُوحًا وَأَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَبْيَنُهَا دَوَامًا إذْ كُلٌّ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَكَانَ مُلَازِمًا لِكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ حُدُوثُ الْعَالَمِ قَدْ يُوهِمُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِهِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ عَلَى الْمُخْتَارِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (أَيْ أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِذَا) أَيْ كَوْنِ سَبَبِ أَصْلِ الْوُجُوبِ حُدُوثَ الْعَالَمِ (صَحَّ إيمَانُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ) لِتَحَقُّقِ سَبَبِ أَصْلِ وُجُوبِهِ فِي حَقِّهِ ثُمَّ وُجُودِ رُكْنِهِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرَانِ عَنْ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
(وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ الْإِيمَانِ (عَلَيْهِ شَرْعًا اتِّفَاقًا تَبَعًا) لِأَبَوَيْهِ
(3/206)
الْمُسْلِمَيْنِ (فَيَصِحُّ) إيمَانُهُ (مَعَ إقْرَارِهِ اخْتِيَارًا عَنْ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ) بِطَرِيقٍ (أَوْلَى وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ) أَيْ فِي تَحَقُّقِ أَصْلِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مِنْ خِلَافِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ (فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ) لِلْإِيمَانِ (فَأَبُو الْيُسْرِ) هُوَ (بِالْخِطَابِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَعُذِرَ مَنْ بَلَغَ بِشَاهِقٍ وَلَمْ تَبْلُغْهُ) الدَّعْوَةُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَإِنْ أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّجَارِبُ وَالنَّظَرُ فِي الْآيَاتِ.
(وَ) عِنْدَ (الْآخَرِينَ) مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ هُوَ (بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَا يُعْذَرُ بَعْدَ إمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ (وَشَرْطُ الْخِطَابِ) إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ (فِيمَا) أَيْ حُكْمٍ (يَحْتَمِلُ النَّسْخَ) وَالْإِيمَانُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ (بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ يُدْرِكُ إيجَابَهُ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِيمَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْآخَرِينَ (و) عَلَى (عَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَتَقَدَّمَ) الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ.
(وَ) السَّبَبُ (لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ) الْمَكْتُوبَةِ (الْوَقْتُ) أَيْ وَقْتُهَا الْمَشْرُوعَةُ هِيَ فِيهِ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] إذْ الْإِضَافَةُ مِنْ دَلَائِلِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَكَمَالُهُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُسَبَّبِ فِي سَبَبِهِ وَلِتَكَرُّرِ وُجُوبِهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَلِصِحَّتِهَا فِيهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهَا قَبْلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ ثُمَّ هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ مُتَأَخِّرِي مَشَايِخِنَا (وَالْوَجْهُ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ) مِنْهُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَصَدْرِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبِ الْمِيزَانِ (أَنَّهُ) أَيْ سَبَبَ الْوُجُوبِ (لِكُلٍّ) مِنْ (الْعِبَادَاتِ تَوَالِي النِّعَمِ الْمُفْضِيَةِ فِي الْعَقْلِ إلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْدَى إلَى كُلٍّ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا فَضْلًا عَنْ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَأَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمْ بِإِزَائِهَا وَرَضِيَ بِهَا شُكْرًا لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ اسْتِيفَاءَ شُكْرِ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ
إذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةٌ ... عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ ... وَإِنْ طَالَتْ الْأَيَّامُ وَاتَّسَعَ الْعُمُرُ
فَإِنْ مَنَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا ... وَإِنْ مَنَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الْأَجْرُ
(فَلِلْإِيمَانِ) أَيْ وَلِسَبَبٍ وُجُوبِهِ (شُكْرُ نِعْمَةِ الْوُجُودِ) وَقُوَّةِ النُّطْقِ (وَكَمَالِ الْعَقْلِ) الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْمَوَاهِبِ (وَإِلَّا فَالْعَالَمُ دَلِيلُ وُجُودِهِ تَعَالَى دُونَ إيجَابِهِ) عَلَى الْعُقَلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّلَاةِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ) فَيُعْرَفَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرَ الرَّاحَةِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّوْمِ شُكْرُ نِعْمَةِ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ) أَكْثَرَ السَّنَةِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلزَّكَاةِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ) الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ اللَّازِمَةِ وَيَقَعُ بِهِ التَّنَعُّمُ بِالْجَاهِ وَغَيْرِهِ فِي السَّنَةِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْحَجِّ شُكْرُ نِعْمَةِ الْبَيْتِ الْمَجْعُولِ هُدًى لِلْعَالَمِينَ وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ قِبْلَتُهُمْ وَمُتَعَبَّدُهُمْ وَفِيهِ آيَاتٌ عَجِيبَةٌ وَمَآثِرُ غَرِيبَةٌ وَهُوَ مَوْضِعُ ثَوَابِهِمْ بِحَجِّهِ وَاعْتِمَارِهِ وَأَمْنِهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ الْجَانِيَ الْمُلْتَجِئَ إلَيْهِ لَا يُؤَاخَذُ حَتَّى يَخْرُجَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» «وَالْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا وَالْوَجْهُ إمَّا حَذْفُ الْجَارِّ مِنْ كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ فَلِلْإِيمَانِ وَلِلصَّلَاةِ وَلِلزَّكَاةِ وَلِلصَّوْمِ وَلِلْحَجِّ أَوْ حَذْفُ شُكْرٍ فَإِنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ وَالنِّعَمُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ السَّبَبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَوَّلًا وَأَشَارَ إلَيْهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ (غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا اُعْتُبِرَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ النِّعَمِ (سَبَبًا بِوَقْتِهِ) أَيْ الْقَدْرِ الْمُعْتَبَرِ مِنْهَا لِلسَّبَبِيَّةِ (كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهُ ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرِ مِنْ نِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ أَوْ مُطْلَقِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ بِوَقْتِهَا (أَوْ قَدْرِهِ) أَيْ أَوْ قَدَّرَ مَا اُعْتُبِرَ مِنْهَا سَبَبًا بِقَدْرِ الْمِقْدَارِ الْمُعْتَبَرِ مِنْهَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنْ نِعْمَةِ الْمَالِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ النِّعْمَةِ
(3/207)
الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ النِّصَابُ النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا نَذْكُرُ قَرِيبًا (أَمَّا الْوَقْتُ) نَفْسُهُ لِلصَّلَاةِ (فَجَدِيرٌ بِهِ الْعَلَامَةُ) كَمَا سَيَأْتِي (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلزَّكَاةِ النِّصَابُ) النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا (لِعَقْلِيَّةِ الْغَنِيِّ سَبَبًا) لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ بِقَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ (وَشُرِطَ النَّمَاءُ) فِي النِّصَابِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ (تَيْسِيرًا) لِلْأَدَاءِ وَتَحْقِيقًا لِلْغِنَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ تَتَجَدَّدُ زَمَانًا فَزَمَانًا وَهُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ نَامِيًا تُغْنِيهِ الْحَوَائِجُ قَرِيبًا فَيَكُونُ الْغِنَى بِدُونِ الِاسْتِنْمَاءِ نَاقِصًا فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ وَإِذَا كَانَ نَامِيًا تَعَيَّنَ صَرْفُ النَّمَاءِ إلَى الْحَاجَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَوَائِجِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْأَدَاءُ (وَأُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَهُ) أَيْ مَقَامَ النَّمَاءِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحَوْلَ.
(طَرِيقُهُ) أَيْ النَّمَاءِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الْمُؤَدِّي إلَى الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النَّمَاءِ بِالدَّوْرِ وَالنَّسْلِ وَزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِي شِرَاءِ مَا يُنَاسِبُ كُلَّ فَصْلٍ فَصَارَ الْحَوْلُ شَرْطًا وَتَجَدُّدُهُ تَجَدُّدٌ لِلنَّمَاءِ وَتَجَدُّدُ النَّمَاءِ تَجَدُّدٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ بِوَصْفِ النَّمَاءِ وَالْمَالُ بِهَذَا النَّمَاءِ غَيْرُهُ بِذَلِكَ النَّمَاءِ ثُمَّ حَيْثُ أُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ كَانَ تَكَرُّرُ الْوُجُوبِ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ تَكَرُّرَ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ لَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ هَذَا وَاتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ هُوَ الشَّهْرُ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ ثُمَّ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُمْ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّوْمِ) أَيْ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ (الْجُزْءُ الْأَوَّلُ) الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ (مِنْ الْيَوْمِ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْوَقْتِ لِحَقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ صُنْعُ اللَّهِ وَالصَّوْمُ وَجَبَ فِي الْيَوْمِ.
(وَلَا دَخْلَ لِلَّيْلِ فِيهِ) أَيْ فِي الصَّوْمِ فَكَانَ السَّبَبُ الْيَوْمَ؛ ثُمَّ صَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ مُخْتَصٌّ بِشَرَائِطِ وُجُودِهِ مُنْفَرِدٌ بِالِانْتِقَاضِ بِطُرُوءِ نَوَاقِضِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى اسْتِوَاءِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي سَبَبِيَّتِهِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِمُطْلَقِ شُهُودِ الشَّهْرِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ لِإِظْهَارِ شَرَفِهِ وَشَرَفُهُ فِيهَا جَمِيعًا وَمِنْ ثَمَّةَ تَصِحُّ نِيَّةُ صَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَتِهِ وَلَا تَصِحُّ قَبْلَ دُخُولِ جُزْءٍ مِنْهَا لِأَنَّ نِيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَجُوزُ بَعْدَ تَصَوُّرِ سَبَبِهِ لَا قَبْلَهُ وَلَزِمَ قَضَاءُ الشَّهْرِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ وَاسْتَمَرَّ مَجْنُونًا حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ فَأَفَاقَ وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلَوْ لَمْ يَتَقَرَّرْ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ مِمَّا شَهِدَ مِنْ الشَّهْرِ حَالَةَ الْأَهْلِيَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ اللَّيَالِي لَهَا دَخْلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا جَوَازُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ اللَّيْلَ تَابِعٌ) لِلنَّهَارِ (فِي الشَّرَفِ) الَّذِي لِلنَّهَارِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَقْتًا لِلصَّوْمِ.
فَإِنْ قِيلَ لِلَّيْلِ شَرَفٌ مُسْتَقِلٌّ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتٌ لِقِيَامِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي شَرَفٍ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِأَدَاءِ مُسَبَّبِهِ (وَتَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي جَعْلِ اللَّيْلِ تَابِعًا لِلنَّهَارِ فِي جَوَازِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ شَرَفِهِ لِأَنَّ فِي اقْتِرَانِهَا بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ عُسْرًا وَحَرَجًا فَأُقِيمَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ مَقَامَ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
(وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ) لِأَنَّهُ بِجُمْلَتِهِ يَثْبُتُ بِهِ جَبْرًا (بَلْ) لَا يُنَافِيهَا (بِالْخِطَابِ) إذْ كَانَ وُجُوبُهُ (لِيَظْهَرَ) أَثَرُهُ (فِي الْحَالِ فِي) الْوَاجِبِ (الْمَالِيِّ غَيْرِ الزَّكَاةِ) مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَالُ وَوُصُولُهُ إلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيجَابِهَا إيجَادُ نَفْسِ الْفِعْلِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الطَّائِعُ مِنْ الْعَاصِي وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَنْ اخْتِيَارِ صَحِيحٍ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الْعَقْلِ فَانْتَفَى الْوُجُوبُ لِانْتِفَاءِ حُكْمِهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ (وَ) لِيَظْهَرَ (فِي الْمَالِ) أَيْ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ (فَائِدَةُ الْقَضَاءِ بِلَا حَرَجٍ وَهُوَ فِيهِ) أَيْ الْحَرَجِ فِي الْقَضَاءِ (بِالْكَثْرَةِ) وَهِيَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ فَفِي
(3/208)
الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ (اسْتِيعَابُ الشَّهْرِ جُنُونًا) لِأَنَّ الشَّهْرَ تَامٌّ وَقْتُهُ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْكَثْرَةُ فِيمَا إذَا أَفَاقَ بَعْضَ لَيْلَةٍ مِنْهُ لَكِنْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ) أَيْ تَقْدِيرُ الْكَثْرَةِ بِاسْتِيعَابِ الشَّهْرِ (تَأَمُّلٌ) إذْ يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ فِيمَا إذَا أَفَاقَ فِي سَاعَةٍ مِنْهُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ لَوْ اسْتَوْعَبَهُ وَإِذَا كَانَ الْحَرَجُ مُسْقِطًا فِي هَذَا فَكَذَا فِيمَا قَبْلَهُ وَإِلَّا عَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ثُمَّ قَدْ أُيِّدَ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ مِعْيَارًا لِلصَّوْمِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْأَدَاءِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاصِلًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ يَوْمٍ مِعْيَارًا لِصَوْمِهِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُؤَيَّدَ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هُنَا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُقَارِنًا لَهُ لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَارِنَةٌ لِأَحْكَامِهَا كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ اهـ.
(قُلْت) لَكِنَّ هَذَا الزَّعْمَ غَيْرُ تَامٍّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ هَذَا الْبَحْثِ ثُمَّ كَوْنُ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ شَرْعِيَّةً لَيْسَ بِالْمُتَّجَهِ بَلْ الْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ كَمَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَا بَأْسَ بِالْإِسْعَافِ بِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا فِي الْخَارِجِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ خَصَّصُوا الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَجَعَلُوهَا تَسْتَعْقِبُ الْمَعْلُولَ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ كَالْأَعْيَانِ بَاقِيَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا اعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ بِخِلَافِ نَحْوِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ تَقْدِيمِهَا وَإِلَّا بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الِانْكِسَارَ يَعْقُبُ الْكَسْرَ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ أَنَّهُ لِسُرْعَةِ إعْقَابِهِ مَعَ قِلَّةِ الزَّمَنِ إلَى الْغَايَةِ إذَا كَانَ آنِيًّا لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا يَقُومُ بِهِ التَّأْثِيرُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَحَالَةَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ هُوِيَّتُه لِيَقُومَ بِهِ عَارِضُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا اهـ.
وَعَلَى التَّعَقُّبِ مَشَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ مَا فَرْعٍ، ثُمَّ مِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَعْلُولِهَا بِالزَّمَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْإِيجَادِ بَعْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّأْثِيرِ بَعْدِيَّةً زَمَانِيَّةً مَمْنُوعٌ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَعْلُولِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ الْعِلَّةَ النَّاقِصَةَ أَوْ التَّامَّةُ الَّتِي هِيَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْحَجِّ الْبَيْتُ لِلْإِضَافَةِ) أَيْ الْحَجِّ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَالْإِضَافَةُ مِنْ دَلَائِلِ السَّبَبِيَّةِ (وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ سَبَبِ وُجُوبِهِ الْبَيْتَ (لَمْ يَتَكَرَّرْ) وُجُوبُ الْحَجِّ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَشَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ بِدُونِهِ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ وَإِلَّا تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطُ وُجُوبِهِ إذْ لَا وُجُوبَ بِدُونِهَا لَا شَرْطُ جَوَازِهِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَإِلَّا كَانَ أَدَاءً قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ حِينَئِذٍ (فَاتَّفَقُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ (فِيمَا سِوَى) سَبَبِ (الصَّلَاةِ) وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا سِوَى سَبَبِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِيهِ وَأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِالْوَقْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آنِفًا وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ حَيْثُ قَالَ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ سَبَبٌ مَحْضٌ عَلَامَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنِّعَمُ فِيهِ الْعِلَّةُ بِالْحَقِيقَةِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَهَا النِّعَمُ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهَا بِنِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ بِخِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ إذْ مِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نِعْمَةُ الْوُجُودِ وَكَمَالُ الْعَقْلِ وَمِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نَفْسُ حَدَثِ الْعَالَمِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ الرَّأْسُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ) أَيْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِكِفَايَتِهِ وَيَتَحَمَّلُ ثِقَلَهُ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْوِلَايَةُ نَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَلَا يَكُونُ الرَّأْسُ سَبَبًا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ الْوَصْفَانِ الْوِلَايَةُ
(3/209)
وَالْمُؤْنَةُ فَخَرَجَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَهُ مَالٌ تَجِب نَفَقَتُهُ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْمُؤْنَةِ عَلَى غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ حَتَّى الْأَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ وُجِدَتْ الْوِلَايَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وَالِابْنُ الْبَالِغُ الزَّمِنُ الْمُعْسِرُ وَالْمَرْأَةُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ الْمُطْلَقَةِ لِلْأَبِ وَالزَّوْجِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ وُجِدَتْ الْمُؤْنَةُ لَهُمَا عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ الرَّأْسَ الْمَذْكُورَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ الْحَدِيثِ وَيَبْقَى بَعْدَهُ عِلَاوَةً إضَافَةُ الصَّدَقَةِ إلَى الرَّأْسِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ
زَكَاةُ رُءُوسِ النَّاسِ ضَحْوَةَ فِطْرِهِمْ ... بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَاعٌ مِنْ الْبُرِّ
لِأَنَّهَا دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ فِي الْمَطْلُوبِ أَنَّ تَمَامَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِهِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ أَوْ صِحَّةِ مَا قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ الشَّرْطُ) لِوُجُوبِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ (مَجَازٌ) لِأَنَّهُ زَمَانُ الْوُجُوبِ فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُلَابَسَةِ (بِدَلِيلِ التَّعَدُّدِ) لِوُجُوبِهَا (بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ) تَقْدِيرًا لِأَنَّ الرَّأْسَ لَمَّا صَارَ سَبَبًا بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ وَهِيَ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ كَانَ الرَّأْسُ لِتَجَدُّدِهَا مُتَجَدِّدًا تَقْدِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي النِّصَابِ لِلزَّكَاةِ لَا إنْ تَكَرَّرَ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ سَبَبِيَّةُ الْوَقْتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ فِي هَذَا مَا فِيهِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» ) كَذَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ وَتَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيَّ رَوَيَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ» فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَفَادَ) بِهَذَا (تَعَلُّقَهَا) أَيْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالْمَأْمُورِينَ بِهَا مِنْ الْأَبِ وَالْمَوْلَى بِسَبَبِ الْمُشَارِ إلَيْهِمْ (بِالْمُؤَنِ) أَيْ بِسَبَبِ وُجُوبِ مُؤْنَتِهِمْ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ الْمَعْنَى تَحَمَّلُوا هَذِهِ الصَّدَقَةَ بِسَبَبِ مَنْ وَجَبَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْكُمْ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ دُونَ الْوَقْتِ إذْ الرَّأْسُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْوَقْتِ وَكَيْفَ لَا وَمُؤْنَةُ الشَّيْءِ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ دُونَ الْوَقْتِ فَيَتَلَخَّصُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ وَالْقَطْعُ مَعَ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مُؤْنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إجْمَاعًا عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَوَلَدِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَيْهِ وَمَانَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَزِمَ أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ نَعَمْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ فِي الْجَدِّ إذَا كَانَتْ نَوَافِلُهُ صِغَارًا فِي عِيَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ صَدَقَةَ فِطْرِهِمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْحَقِيقِيِّ) أَيْ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ النَّمَاءُ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعُشْرَ اسْمٌ (إضَافِيٌّ) إذْ هُوَ اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةٍ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خَارِجُهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرُهُ وَهُوَ (عِبَادَةٌ) أَيْ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (بِخِلَافِ الْخَرَاجِ) الْمُوَظَّفِ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ (بِالتَّقْدِيرِيِّ) أَيْ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ (وَهُوَ) أَيْ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ (بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ) وَالِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ إذْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالدَّرَاهِمِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْخَارِجِ (فَكَانَ) الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ (عُقُوبَةً) لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِتَحْصِيلِهِ بِالزِّرَاعَةِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَادِ وَهُوَ سَبَبُ الْمَذَلَّةِ (مُؤْنَةً لَهَا) أَيْ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهَا فِي أَيْدِي أَرْبَابِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (فَلَزِمَا) أَيْ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ (فِي مَمْلُوكَةِ الصَّبِيِّ) أَيْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَالْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ فَيَجِبُ فِيهِمَا الْعُشْرُ إنْ كَانَتَا عُشْرِيَّتَيْنِ وَالْخَرَاجُ إنْ كَانَتَا خَرَاجِيَّتَيْنِ لِوُجُودِ سَبَبِهِمَا فِيهِمَا (وَلَمْ يَجْتَمِعَا) أَيْ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ (فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا لِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى
(3/210)
الْعُقُوبَةِ، وَمَحَلًّا فَإِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ وَالْخَرَاجُ فِي الذِّمَّةِ، وَسَبَبًا لِأَنَّ سَبَبَ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا وَسَبَبَ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَقْدِيرًا بِهِ، وَمَصْرِفًا إذْ مَصْرِفُ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ السَّبَبَانِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَيَجِبَانِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا ذَاتًا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَهُمَا مُتَعَدِّدٌ بَلْ هُوَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَيْهَا فَيُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا كَانَ الْمُسَبَّبُ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا كَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ اتِّحَادَ السَّبَبِ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْحُكْمِ.
(وَقَدْ يُقَالُ جَازَ) أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ (الْوَاحِدُ سَبَبًا لِمُتَعَدِّدٍ) مِنْ الْأَحْكَامِ (كَالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ) أَيْ كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْوَاحِدَةُ عِلَّةً لِمُتَعَدِّدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالزِّنَا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ (وَيُجَابُ بِأَنَّ) الْجَوَازَ الْمَذْكُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جِهَتَيْ الْحُكْمِ تَنَافٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ (جِهَتَيْهِمَا) أَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ (مُتَنَافِيَةٌ) وَالْوَجْهُ مُتَنَافِيَتَانِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْجِهَةَ (فِي إحْدَاهُمَا) أَيْ أَرْضَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ (أَمَّا) أَرْضٌ تُسْقَى (بِمَاءٍ خَاصٍّ) وَهُوَ الْأَنْهَارُ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ كَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ حَوَيْنَاهَا قَهْرًا وَالْمُسْتَنْبَطَة مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (أَوْ) أَرْضٍ صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ (فَتْحٍ عَنْوَةً) أَيْ قَهْرًا لَهَا (إلَخْ) أَيْ وَأَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَيْهَا الْخَرَاجَ أَوْ صَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهَذِهِ الْأَرَاضِي كُلُّهَا خَرَاجِيَّةٌ (وَفِي) الْأَرْضِ (الْأُخْرَى) وَهِيَ الْعُشْرِيَّةُ الْأَمْرُ فِيهَا (بِخِلَافِهِمَا) أَيْ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ مَاءِ الْبِحَارِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي وَبِأَنْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (فَلَا يَجْتَمِعَانِ) أَيْ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ (فِي) مَحَلٍّ (وَاحِدٍ) لِتَنَافِي لَازِمَيْهِمَا إذْ لَازِمُ الْخَرَاجِ الْكَرَّةُ وَلَازِمُ الْعُشْرِ الطَّوْعُ وَتَنَافِي اجْتِمَاعِ اللَّوَازِمِ يُوجِبُ تَنَافِي اجْتِمَاعِ الْمَلْزُومَاتِ.
(قُلْت) وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ يَكُونُ مَعَ الْفَتْحِ عَنْوَةً وَهُوَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا.
وَكَذَا بَعْضُ صُوَرِ الْعُشْرِ وَهُوَ فِيمَا إذَا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَّمَهُمَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَنْوَةِ بَلْ لِلصُّلْحِ أَوْ بِأَنْ أَحْيَاهَا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا مُطْلَقًا نَعَمْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاشِدِينَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لَمْ يَأْخُذُوا عُشْرًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِلَّا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ تَفَاصِيلُ أَخْذِهِمْ الْخَرَاجَ بِهَذَا تَقْضِي الْعَادَةُ وَكَوْنُهُمْ فَوَّضُوا الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ أَرَأَيْت إذَا كَانَ الْعُشْرُ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ الَّتِي وُظِّفَ فِيهَا الْخَرَاجُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ فَهَلْ يَقْرُبُ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَخْذَ وَظِيفَةٍ وَيَكِلُوا الْأُخْرَى إلَيْهِمْ لَيْسَ لِهَذَا مَعْنًى وَكَيْفَ وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ عَدَمَ أَخْذِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ دَلِيلًا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا هَذَا وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً كَالْعُشْرِ ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْخَانِيَّةِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَيْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْعُشْرَ فِي الْمَصْرِفِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 6] {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْقِيَامِ) أَيْ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ الْقِيَامُ مُطْلَقًا السَّبَبَ (بَلْ) السَّبَبُ لِوُجُوبِهَا (الْإِرَادَةُ) لِلصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ شَرْطُ وُجُوبِهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَتَرْتِيبُهَا عَلَيْهَا يُشْعِرُ بِسَبَبِيَّتِهَا وَالْغَرَضُ مِنْ الطَّهَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَتِهَا فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا وَذَلِكَ بِالْحَدَثِ فَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَرْطًا وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِمَا فِي ذِكْرِهِ هُنَا طُولٌ
(3/211)
فَيُرَاجَعْ مِنْهُ (وَالْحَدَثُ) عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِدَوَرَانِهَا مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ الدَّوَرَانِ دَلِيلَ الْعِلِّيَّةِ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وُجُودٌ مَوْجُودٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَفِي حَقِّ غَيْرِ الْبَالِغِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ وَالْحَدَثُ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيُنَافِيهَا وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لِنَفْسِهَا بَلْ لِوُجُوبِهَا وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُفْضِي إلَيْهِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ إنْ نَقَضَهَا) أَيْ نَقَضَ الْحَدَثَ طَهَارَةٌ سَابِقَةٌ عَلَيْهِ (لَمْ يَمْتَنِعْ) مَعَهُ أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ (سَبَبًا لِوُجُوبِ) طَهَارَةٍ (أُخْرَى) لَاحِقَةٍ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (لَكِنْ مَعَ الصَّلَاحِيَّةِ) أَيْ صَلَاحِيَّةِ الْحَدَثِ لِسَبَبِيَّتِهِ لَهَا (يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الِاعْتِبَارِ) أَيْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى كَوْنِهِ سَبَّبَهَا لَهَا لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْجَعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ وَدَلِيلُ الْجَعْلِ مَفْقُودٌ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي آخَرِينَ سَبَبُ وُجُوبِهَا الصَّلَاةُ وَالْحَدَثُ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِإِضَافَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ فَيُقَالُ طَهَارَةُ الصَّلَاةِ وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا وَسُقُوطُهَا بِسُقُوطِهَا وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ كَوْنِ مُجَرَّدِ الصَّلَاةِ سَبَبًا مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ بَلْ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُوجِبَ لَهَا وُجُوبَ مَا يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيقَهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الصَّلَاةُ أَيْ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَوْجَهُ وُجُوبُ مَشْرُوطِهَا) لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ شَرْطِهِ (وَأَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْحُدُودِ مَحْظُورَاتٌ مَحْضَةٌ) مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهَا.
(وَ) أَسْبَابُ (مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إذْ لَمْ تَجِبْ) الْكَفَّارَاتُ (ابْتِدَاءً تَعْظِيمًا) لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ بَلْ أَجِزْيَةً عَلَى أَفْعَالٍ مِنْ الْعِبَادِ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ زَجْرًا عَنْهَا وَهَذَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إذْ الْعُقُوبَةُ مَا وَجَبَ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِهِ (وَشُرِعَ فِيهَا نَحْوُ الصَّوْمِ) مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ (وَلَزِمَتْ النِّيَّةُ) فِيهَا شَرْطًا لَهَا وَهَذَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُوَضَّحًا مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ ثُمَّ أَسْبَابُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ) لِتَقَعَ الْمُلَاءَمَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْحَظْرِ إذْ الْأَثَرُ أَبَدًا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ وَلِذَا لَا يَصْلُحُ الْمَحْظُورُ الْمَحْضُ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ سَبَبًا لَهَا كَمَا لَا يَصْلُحُ الْمُبَاحُ الْمَحْضُ كَالْقَتْلِ بِحَقٍّ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ سَبَبًا لَهَا وَذَلِكَ (كَالْإِفْطَارِ) الْعَمْدِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَمَحْظُورٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ بِالزِّنَا أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ كُلًّا حَرَامٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ يُلَاقِي الْإِمْسَاكَ وَالْإِمْسَاكُ حَقُّهُ وَلِهَذَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَبِّدًا لِلَّهِ تَعَالَى فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِفْطَارَ لَاقَى حَقَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ يَكُونُ مَحْظُورًا وَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لَهَا الْفِطْرُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِطْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ تَمَكَّنَتْ فِيهِ جِهَةُ الْإِبَاحَةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي تَحَقُّقِ هَذِهِ الْجِهَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ بِالْمُبَاحِ أَوْ الْحَرَامِ وَفِي شَرْحِ الْمُغْنِي لِلْقَآنِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْهُ انْتَهَى.
يَعْنِي فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ كَمَا تَقَدَّمَ (وَالظِّهَارُ) وَهُوَ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٌ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْحُرْمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ طَلَاقًا مُبَاحٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ مَحْظُورٌ وَالْعَوْدُ شَرْطٌ وَقَدْ أَسْلَفْت فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ أَنَّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَمِيعًا لِأَنَّ الظِّهَارَ كَبِيرَةٌ فَلَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَيَصْلُحُ مَعَ الْعَوْدِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَأَنَّ آخَرِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَالظِّهَارُ شَرْطٌ وَبَيَانُ الْوَجْهِ فِي كِلَيْهِمَا وَمَا عَلَيْهِمَا وَمَا لَعَلَّهُ الْأَشْبَهُ مَعَ زِيَادَةِ مَبَاحِثَ فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ ظِهَارِهِ قَدْرَ
(3/212)
مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا وَرُدَّ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَالْجِنَايَةِ وَالظِّهَارُ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِيَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا جِنَايَةً وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا لِلسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ الْكَفَّارَةِ أَوْ لِلتَّرَوِّي فِي طَلَاقِهَا فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُهُ جِنَايَةً فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لَهَا (وَالْقَتْلُ الْخَطَأُ) سَوَاءٌ كَانَ خَطَأً فِي الْقَصْدِ بِأَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ فِي الْفِعْلِ بِأَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا فَهُوَ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ مَعْصُومِ الدَّمِ وَمَحْظُورٌ بِاعْتِبَارِ إصَابَةِ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ وَلُبْسُهُ وَتَطَيُّبُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ وَجِمَاعُهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَتْلُ صَيْدٍ وَارْتِفَاقٌ بِاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالْجِمَاعِ مُبَاحَةٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ أَوْ الْحَرَمِ مَحْظُورَةٌ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ الْمُنْتَقِضَةُ بِالْحِنْثِ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي اجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أَيْ بَذْلُهُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ وَالْحِنْثَ شَرْطٌ ثَانِيهِمَا أَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَقْضِهِ بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الْحِنْثِ سَبَبٌ.
وَفِي التَّحْقِيقِ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ ذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِي الْكَشْفِ مَا مُلَخَّصُهُ الْيَمِينُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِلَا خِلَافٍ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا عِنْدَنَا سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً لِأَنَّهَا الدَّائِرَةُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَوَاتُ الْبِرِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ الْبِرُّ احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ فَشُرِطَ فَوَاتُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ انْعَدَمَتْ بَعْدَ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَعْنِي الْبِرَّ فَهِيَ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْخَلَفِ فَالسَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ وَاحِدٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لَا خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ بِشَرْطِ فَوَاتِ التَّصْدِيقِ مِنْ الْخَبَرِ فَلَا تَجِبُ فِي الْغَمُوسِ عِنْدَنَا وَتَجِبُ فِيهَا عِنْدَهُ (وَفِي تَحْرِيرِهِ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (نَوْعُ طُولٍ) لَا بَأْسَ بِطَيِّهِ فِي الْمُتُونِ كَمَا لَا بَأْسَ بِبَسْطِهِ فِي الشُّرُوحِ فَلَا جَرَمَ أَنْ طَوَاهُ وَبَسَطْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
(وَ) السَّبَبُ (لِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ) مِنْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِهِمَا (الْبَقَاءُ) لِلْعَالَمِ (عَلَى النِّظَامِ الْأَكْمَلِ إلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ) بَقَاؤُهُ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ لِهَذَا النِّظَامِ الْمَنُوطِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ بَقَاءً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِفْظِ الْأَشْخَاصِ إذْ بِهَا بَقَاءُ النَّوْعِ وَالْإِنْسَانُ لِفَرْطِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ يَفْتَقِرُ فِي الْبَقَاءِ إلَى أُمُورٍ صِنَاعِيَّةٍ فِي الْغِذَاءِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهِيَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ كُلِّ فَرْدٍ بِهَا وَعَدَمِ تَهَيُّئِهَا لَهُ يُفْتَقَرُ إلَى مُعَاوَنَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ ثُمَّ يَحْتَاجُ لِلتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ إلَى ازْدِوَاجٍ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَقِيَامٍ بِالْمَصَالِحِ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَفْتَقِرُ إلَى أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ مُقَرَّرَةٍ مِنْ الشَّارِعِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا الْأَحْكَامُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَصَالِح الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لِيَحْفَظَ بِهَا الْعَدْلَ وَالنِّظَامَ بَيْنَهُمْ فِي بَابِ الْمُنَاكَحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ النَّوْعِ وَالْمُبَايَعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الشَّخْصِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ يَشْتَهِي مَا يُلَائِمُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يُزَاحِمُهُ فَيَقَعُ الْجَوْرُ وَيَخْتَلُّ النِّظَامُ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ الْمَزْبُورَةُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَصَدَقَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَمَا تَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ (مِنْ حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ تَفْصِيلُ هَذَا) .
(وَ) السَّبَبُ (لَلِاخْتِصَاصَاتُ) الشَّرْعِيَّةُ (كَالْمِلْكِ) وَالْحُرْمَةِ وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقَبَةِ لَا إلَى أَحَدِ (التَّصَرُّفَاتِ) الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ (الْمَجْعُولَةِ أَسْبَابًا شَرْعًا) لَهَا (كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ السَّبَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ) فِي فَصْلِ الْعِلَّةِ إطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ (عِلَّةً) فَيَحْتَاجُ إلَى إعْطَاءِ ضَابِطٍ فِي ذَلِكَ بَيَانًا لِاصْطِلَاحِهِمْ فِيهِ وَنَفْيًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ (فَقِيلَ) أَيْ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَمْ يَعْقِلْ تَأْثِيرَهُ) فِي الْحُكْمِ (وَلَيْسَ) هُوَ (صُنْعَ الْمُكَلَّفِ خُصَّ بِاسْمِ السَّبَبِ) لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ (وَإِنْ) كَانَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَمْ يَعْقِلْ تَأْثِيرَهُ فِيهِ ثَابِتًا (بِصُنْعِهِ) أَيْ الْمُكَلَّفِ (وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ) أَيْ وَضْعِ ذَلِكَ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (فَعِلَّةٌ) أَيْ فَذَلِكَ الْمُتَرَتِّبُ
(3/213)
عَلَيْهِ الْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ (وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ سَبَبٌ مَجَازًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ كَالشِّرَاءِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ) أَيْ لَفْظِ الشِّرَاءِ فِي مِلْكِ الْمُتْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي (وَلَيْسَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ (الْغَرَضَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الشِّرَاءِ (بَلْ) الْغَرَضُ مِنْ الشِّرَاءِ (مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَسَبَبُهُ) أَيْ فَذَلِكَ سَبَبُ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَيْهِ (وَإِنْ عَقَلَ تَأْثِيرَهُ) أَيْ تَأْثِيرَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الْحُكْمِ (خَصَّ) ذَلِكَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (بِاسْمِ الْعِلَّةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالِاصْطِلَاحُ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا لَمْ يُعْقَلْ تَأْثِيرُهُ أَيْ مُنَاسَبَتُهُ بِنَفْسِهِ بَلْ) إنَّمَا تُعْقَلُ مُنَاسَبَتُهُ (بِمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا) فِي فَصْلِ الْعِلَّةِ (وَثَبَتَ) شَرْعًا (اعْتِبَارُهُ) أَيْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَظِنَّتُهُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ فَمَظِنَّتُهُ (عِلَّةٌ) لَهُ كَالسَّفَرِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ (وَمَا هُوَ مُفْضٍ) إلَى الْحُكْمِ (بِلَا تَأْثِيرٍ) فِيهِ (سَبَبٌ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ (خَصَّ اسْمَ الْعِلَّةِ الْحِكْمَةُ) اصْطِلَاحًا (وَالِاصْطِلَاحُ) الْأُصُولِيُّ (نَاطِقٌ بِخِلَافِهِ) أَيْ تَخْصِيصُ الْحِكْمَةِ بِاسْمِ الْعِلَّةِ (وَيُطْلَقُ كُلٌّ) مِنْ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ (عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا) وَمِنْ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ إطْلَاقُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا الشَّرْطُ) أَيْ أَقْسَامُهُ (فَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ) لَفْظُ شَرْطٍ (حَقِيقِيٌّ) وَهُوَ مَا (يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الْوَاقِعِ) كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ.
(وَ) شَرْطٌ (جَعْلِيٌّ) أَمَّا (لِلشَّرْعِ فَيَتَوَقَّفُ) الْمَشْرُوطُ أَيْ وُجُودُهُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ (شَرْعًا كَالشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ) إذْ لَا وُجُودَ لِلنِّكَاحِ وَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِهِمَا (وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى زَمَانٌ ثُمَّ عَلِمَ لَا يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْوَقْتُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ شُيُوعُ الْخِطَابِ فِي دَارِ السَّلَامِ وَتَيَسُّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِأَدْنَى طَلَبٍ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْعِلْمِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَمْ يُوجَدَا وَحَيْثُ فَاتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّهِ مُنِعَ السَّبَبُ مِنْ الِانْعِقَادِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ وَكَانَتْ الْأَسْبَابُ مِنْ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهَا حَقِيقَةً كَالْمَعْدُومَةِ حُكْمًا فِي حَقِّهِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَائِهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا حَتَّى مَضَى زَمَانٌ فَعَلَى فَرْضِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِهَا لَمْ يَنْتَفِ مَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَهُوَ شُيُوعُ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِالسَّبَبِ وَكَوْنِ السَّبَبِ سَبَبًا إذْ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا لَهُمَا لَمَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى إذَا لَمْ يَمْتَدَّ الْإِغْمَاءُ وَلَمَا وَجَبَ الصَّوْمُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِلْمُ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ اللَّازِمَ بَاطِلٌ لِتَحَقُّقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ فَكَذَا الْمَلْزُومُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ وَكَوْنُ السَّبَبِ سَبَبًا وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ حُصُولِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ تَقْدِيرُ الشُّيُوعِ الْخِطَابِ وَبُلُوغُهُ إلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَنْزِلَةِ بُلُوغِهِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.
(أَوْ لِلْمُكَلَّفِ بِتَعْلِيقِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لَهُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ (مَعَ إجَازَةِ الشَّرْعِ) لَهُ ذَلِكَ (كَإِنْ دَخَلْت) الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (أَوْ) عَلَى (مَعْنَاهُ) أَيْ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لَهُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ مَعَ إجَازَةِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَدُلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيقِ دَلَالَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ (كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا) طَالِقٌ لِوُقُوعِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ وَصْفًا لِامْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَالْوَصْفُ مُعْتَبَرٌ لِتَعَرُّفِهَا وَحُصُولِ تَعَيُّنِهَا الَّذِي لَا بُدَّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مِنْهُ لِأَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا صَارَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تَعْلِيقٌ لَهُ بِهِ كَالشَّرْطِ فَيَكُونُ شَرْطًا دَلَالَةً لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَيَتَوَقَّفُ نُزُولُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ هُنَا ذِكْرُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ صِيغَةٍ بَلْ شَرْطُ مَعْنًى فَاسْتَقَامَ ذِكْرُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهِ أَيْضًا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَهَذَا (بِخِلَافِ) مَا لَوْ دَخَلَ الْوَصْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِأَنْ أَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَكَرَهَا بِاسْمِهَا
(3/214)
الْعَلَمِ فَقَالَ (هَذِهِ) الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ (وَزَيْنَبُ إلَخْ) الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُعَيَّنِ لَغْوٌ (فَيَلْغُو) الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فَتَبْقَى هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ وَزَيْنَبُ طَالِقٌ فَيَلْغُو لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا كَإِنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِيهِمَا جَمِيعًا.
(وَيُسَمَّى) هَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ (شَرْطًا مَحْضًا لِامْتِنَاعِ الْعِلَّةِ) أَيْ وُجُودِهَا لِلْحُكْمِ (بِالتَّعْلِيقِ) أَيْ بِسَبَبِ التَّعْلِيقِ بِهِ فَهُوَ إذَنْ مَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ التَّعْلِيقِ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتْ وَيَصِيرُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَيْهِ دُونَ وُجُوبِهِ (وَلِمَا شَابَهَ) الشَّرْطَ (الْعِلَّةَ لِلتَّوَقُّفِ) أَيْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ فِي الشَّرْطِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَفِي الْعِلَّةِ لِوُجُوبِهِ (وَالْوَضْعُ) أَيْ وَلَاشْتَرَاكَهُمَا فِي كَوْنِهِمَا مَوْضُوعَيْنِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ شَرْعًا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ كَالشُّرُوطِ (أَضَافُوا إلَيْهِ) أَيْ إلَى الشَّرْطِ (الْحُكْمَ أَحْيَانًا فِي التَّعَدِّي وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ عِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِلْإِضَافَةِ) أَيْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِأَنَّ شَبِيهَ الشَّيْءِ قَدْ يَخْلُفُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ لَا يُعَارِضُهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَفِي شَرْحِ الْمُغْنِي لِلْقَآنِيِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ وَلَا سَبَبَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ الْعِلَّةُ وَصَلُحَ السَّبَبُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ كَمَا يَلُوحُ مِمَّا سَيَأْتِي وَهُوَ حَسَنٌ (وَسَمُّوهُ) أَيْ هَذَا الشَّرْطَ (شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ كَشِقِّ الزِّقِّ) الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَائِعٍ تَعَدِّيًا إذَا سَالَ مِنْهُ وَتَلِفَ (وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ) تَعَدِّيًا إذَا وَقَعَ فِيهَا مَالٌ فَتَلِفَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاقُّ وَالْحَافِرُ (لِأَنَّ الْعِلَّةَ) فِي تَلَفِ الْمَائِعِ أَعْنِي (السَّيَلَانَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ الضَّمَانَ) أَيْ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ (إذْ لَا تَعَدِّي فِيهِ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْمَائِعِ ثَابِتٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالشِّقُّ شَرْطُهُ) أَيْ السَّيْلَانِ (وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ) مِنْ السَّيْلَانِ (تَعَدِّيًا) عَلَى مَالِكِهِ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ (فَيُضَافُ) الضَّمَانُ (إلَيْهِ) وَعِلَّةُ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ الثِّقَلُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ طَبِيعِيٌّ لَا تَعَدِّيَ فِيهِ وَحَفْرُ الْبِئْرِ شَرْطُ السُّقُوطِ.
وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْهُ تَعَدِّيًا لِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَانِعَةً مِنْ عَمَلِ عِلَّتِهِ فَأُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي إذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى الثِّقَلِ أَنْ يُضَافَ إلَى الْمَشْيِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِلَّةِ مِنْ الشَّرْطِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الضَّمَانُ إلَى الْمَشْيِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ عُدْوَانٍ فَلَا بُدَّ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ صِفَةِ التَّعَدِّي وَلَا تَعَدِّيَ فِي الْمَشْيِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ صِفَةُ التَّعَدِّي بِأَنْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى الْبِئْرِ فَوَقَعَ فِيهَا وَهَلَكَ يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ لِصَلَاحِيَّةِ الْإِضَافَةِ لَا إلَى الشَّرْطِ فَلَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ فَظَهَرَ أَنَّ خِلَافَةَ الشَّرْطِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ لِصَلَاحِيَّةِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا (وَكَشُهُودِ وُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ مَثَلًا بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهِ فِيمَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَدْخُلْ بِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِهَا إيَّاهَا (فَإِذَا رَجَعُوا) أَيْ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ (بَعْدَ الْقَضَاءِ) بِالطَّلَاقِ وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ (ضَمِنُوا) نِصْفَ الْمَهْرِ لِلزَّوْجِ (لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ) وَلَفْظُهُ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنُوا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ عَيْنُ الزَّوْجِ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ لِخُلُوِّهَا عَنْ وَصْفِ التَّعَدِّي إذْ شُهُودُهَا ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَتَجِبُ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ لِظُهُورِ صِفَةِ التَّعَدِّي بِالرُّجُوعِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَقَالَ يَجِبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ انْتَهَى.
(قُلْت) وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّ شَاهِدَيْ الشَّرْطِ لَوْ رَجَعَا عَلَى الِانْفِرَادِ هَلْ يَضْمَنَانِ ثُمَّ قَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يَضْمَنَانِ لِأَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى مُحَصِّلِ الشَّرْطِ عِنْدَ انْعِدَامِ إمْكَانِ الْإِيجَابِ عَلَى صَاحِبِ الْعِلَّةِ وَاجِبٌ وَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْعَتَّابِيِّ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُونَ كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا وَحْدَهُمْ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِلتَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ
(3/215)
الْعِلَّةِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَكُونُ سَبَبُ الضَّمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْحِصَانِ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الزِّنَا لَا فِي وُجُودِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعِلَّةِ (وَاَلَّذِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لَا) يَضْمَنُونَ ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ نَقْلًا عَنْ أَبِي الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ وَفِي التَّلْوِيحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا فِي مَسَائِلِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلزَّعْفَرَانِيِّ وَلَا لِلْحَصِيرِيِّ وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْمُعِينِ وَالتَّحْقِيقُ يَنْفِيهِ أَيْضًا نَعَمْ عَزَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ إلَى الزِّيَادَاتِ وَفِي التَّحْقِيقِ إلَى عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ (وَعَلَيْهِ) شَمْسُ الْأَئِمَّةِ (السَّرَخْسِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَفِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْعَزِيَّةِ هُوَ) أَيْ ضَمَانُ شُهُودِ الشَّرْطِ (قَوْلُ زُفَرَ وَالثَّلَاثَةِ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالُوا (لَا تَضْمِينَ) نَصَّ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ.
(قِيلَ) وَقَائِلُهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ (لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِإِيجَابِهِ) أَيْ الضَّمَانِ لِخُلُوِّهَا عَنْ صِفَةِ التَّعَدِّي (صَالِحَةٌ لِقَطْعِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (عَنْ الشَّرْطِ إذْ كَانَتْ) الْعِلَّةُ (فِعْلَ مُخْتَارٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَيْ الْفَضَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ) عِلَّةً لِإِيجَابِ الضَّمَانِ (وَإِلَّا) لَوْ صَلُحَ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ (ضَمِنَ الْقَاضِي) لِأَنَّهُ صَاحِبُهَا وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَصْلُحْ هِيَ لِإِضَافَتِهِ لَهَا (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا التَّقْرِيرِ (يَنْتَفِي مَا قِيلَ) أَيْ مَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ (إنَّهُ) أَيْ هَذَا الْمِثَالَ (مِثَالُ مَا لَا عِلَّةَ فِيهِ أَصْلًا وَمِمَّا فِيهِ) أَيْ وَمِنْ الشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ.
(وَلَا تَصْلُحُ) الْعِلَّةُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (شَهَادَةُ شَرْطِ الْيَمِينِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ) لِعَبْدِهِ (إنْ كَانَ قَيْدُهُ عَشَرَةً) مِنْ الْأَرْطَالِ (فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ حَلَّ فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَا بِعَشَرَةٍ) أَيْ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ (فَقَضَى بِعِتْقِهِ) ثُمَّ حَلَّ الْقَيْدَ (ثُمَّ وُزِنَ فَبَلَغَ ثَمَانِيَةً) مِنْ الْأَرْطَالِ (ضَمِنَا) قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ (عِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا (لِنَفَاذِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ بِعِتْقِهِ (بَاطِنًا) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ كَنَفَاذِهِ ظَاهِرًا إجْمَاعًا (لِابْتِنَائِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ بِعِتْقِهِ (عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ) لِلْقَضَاءِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ صِيَانَتِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ الْمَشْهُودِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ بَاطِنًا عِنْدَهُ أَيْضًا بَعْدَ الْحِلِّ لِتَيَقُّنِ بُطْلَانِهِ بَعْدَهُ بِظُهُورِ كَذِبِهِمَا كَمَا لَوْ ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا فَالْجَوَابُ لَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ مَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ وَعَدَمِ نُفُوذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ وَكَوْنُ الشُّهُودِ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا مِنْ الثَّانِي كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا) فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِمْ لَيْسَ عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْ الْقَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْمَانِعِ مِنْ النُّفُوذِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِهِمْ (لِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى كُلٍّ مِنْ رَقِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْفُذْ (وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَقَطَ) عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ صِدْقِهِمْ لِأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ وَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ (مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ لِأَنَّهُ) أَيْ عِرْفَانَ وَزْنِهِ (بِحِلِّهِ) أَيْ الْقَيْدِ لِيُوزَنَ (وَبِهِ) أَيْ وَبِحِلِّهِ (يُعْتَقُ) فَلَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَا لَا طَرِيقَ إلَى تَعَرُّفِهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِدُونِ الْحِلِّ (وَإِذَا نَفَذَ) الْقَضَاءُ بِعِتْقِهِ بَاطِنًا كَمَا نَفَذَ ظَاهِرًا (عَتَقَ قَبْلَ الْحِلِّ فَامْتَنَعَ إضَافَتُهُ) أَيْ الْعِتْقِ (إلَيْهِ) أَيْ الْحِلِّ (وَالْعِلَّةُ وَهِيَ الْيَمِينُ أَيْ الْجَزَاءُ) وَهُوَ فَهُوَ حُرٌّ (فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (غَيْرُ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ) أَيْ الْعِلَّةِ وَذَكَرَ ضَمِيرَهَا بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْجَزَاءَ (تَصَرُّفُ الْمَالِكِ) فِي مِلْكِهِ (لَا تَعَدٍّ) مِنْهُ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ أَوْ أَكَلَهُ (فَتَعَيَّنَ) أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ (إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ (كَوْنُهُ) أَيْ الْقَيْدِ (عَشَرَةً وَقَدْ كَذَبَ بِهِ الشُّهُودُ تَعَدِّيًا فَيَضْمَنُونَهُ وَعِنْدَهُمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَمُحَمَّدٍ (لَا) يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ (إذْ لَا يَنْفُذُ) الْقَضَاءُ عِنْدَهُمَا (بَاطِنًا) لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ بَاطِلَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا كَذِبٌ إلَّا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ
(3/216)
دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَتْ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ التَّنْفِيذِ حَقِيقَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحُرِّيَّةِ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ لَا بَاطِنًا (فَهُوَ رَقِيقٌ بَاطِنًا بَعْدَ الْقَضَاءِ) بِالْعِتْقِ.
(ثُمَّ عَتَقَ بِالْحِلِّ) لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَضْمَنُونَ (وَمَا فِيهِ) أَيْ وَمِثَالُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطٌ وَعِلَّةٌ مُعَارِضَةٌ لَهُ (صَالِحَةٌ) لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (شَهَادَتَا الْيَمِينِ وَالشَّرْطِ) السَّالِفَانِ (فَيُضَافُ) الْحُكْمُ (إلَيْهَا) أَيْ شَهَادَةِ الْيَمِينِ (فَيَضْمَنُ شُهُودُ الْيَمِينِ) نِصْفَ الْمَهْرِ (إذَا رَجَعَ الْكُلُّ) أَيْ شُهُودُ الْيَمِينِ وَشُهُودُ الشَّرْطِ لِأَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ شُهُودُ عِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا قَوْلَ الزَّوْجِ هِيَ طَالِقٌ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَلَا جَرَمَ لِإِضَافَتِهِ إلَى الشُّهُودِ وَسَمَّوْا شُهُودَ التَّعْلِيقِ شُهُودَ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعَلَّقُ عِلَّةً إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إمَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِلَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَمِمَّا فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ بُعْدِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُعَلَّقِ اتِّصَالٌ بِالْمَحَلِّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي زَعْمِهِمْ وَصَارَتْ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً.
فَإِنْ قِيلَ شُهُودُ التَّعْلِيقِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِلَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا مُطْلَقًا وَتَحْقِيقُ الْعِلِّيَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَشُهُودُهُ أَوْلَى بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرِهَا أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بَلْ شَهِدُوا بِسَمَاعِ التَّعْلِيقِ مُطْلَقًا وَهُوَ عِلَّةٌ لَوْلَا الْمَانِعُ وَلَا تَعَلُّقَ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الشَّرْطِ بِتَحَقُّقِ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرِهَا فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا وَلَا بِتَحَقُّقِهَا وَتَأْثِيرِهَا بَلْ تَحَقُّقُهَا وَتَأْثِيرُهَا بِشَهَادَةِ شُهُودِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوهُ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَحْقِيقُ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرُهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالتَّعْلِيقِ ثُمَّ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ ضَمِنُوا وَلَوْ تَحَقَّقَ التَّعْلِيقُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ ثُمَّ شَهِدُوا بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا فَعَرَفْنَا أَنَّ تَحَقُّقَ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى شَهَادَةِ الشَّرْطِ بِوَجْهٍ
(وَمَا) أَيْ وَسَمَّوْا الشَّرْطَ الَّذِي (لَمْ يُضَفْ) الْحُكْمُ (إلَيْهِ أَصْلًا كَأَوَّلِ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ شَرْطَيْنِ عُلِّقَ عَلَيْهِمَا) طَلَاقٌ أَوْ غَيْرُهُ (كَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ) الدَّارَ (وَهَذِهِ) الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (شَرْطًا مَجَازًا اصْطِلَاحًا) لِتَخَلُّفِ حُكْمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْوُجُودُ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنْهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَرْطًا صُورَةً لَا مَعْنًى وَهَذِهِ هِيَ الْعَلَاقَةُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمُسَمَّى (جَدِيرٌ بِحَقِيقَتِهِ) أَيْ الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ وُجُودِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ وَلَا إفْضَاءٍ (وَيُقَالُ) لِهَذَا أَيْضًا (شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا) أَمَّا اسْمًا فَلِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةِ شَرْطًا سَوَاءٌ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَأَمَّا لَا حُكْمًا فَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ.
فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ وَهِيَ فِي نِكَاحِهَا طَلُقَتْ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْهُمَا أَوْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ زُفَرَ لِاسْتِوَاءِ الشَّرْطَيْنِ فِي تَوَقُّفِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَصَارَا كَشَرْطٍ وَاحِدٍ وَالْمِلْكُ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الثَّانِي فَكَذَا عِنْدَ الْأَوَّلِ وَطَلُقَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَا لِبَقَاءِ الْيَمِينِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ الذِّمَّةُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ إلَّا عِنْدَ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهُ حَالَ نُزُولِ الْجَزَاءِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْمِلْكِ (وَمَا) أَيْ وَسَمَّوْا الْفِعْلَ الَّذِي (اعْتَرَضَ بَعْدَهُ) أَيْ حَصَلَ بَعْدَ حُصُولِهِ (فِعْلٌ مُخْتَارٌ لَمْ يَتَّصِلْ) هَذَا الْفِعْلُ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ حَالَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ (غَيْرَ مَنْسُوبٍ إلَى الشَّرْطِ) أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلِ (كَحَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِ فَلَا ضَمَانَ بِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ (فَلَا يَضْمَنُ) الْحَالُّ (قِيمَتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ (إنْ أَبَقَ) لِأَنَّ حُكْمَهُ شَرْطُ الْإِبَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الْإِبَاقِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَلَفِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ التَّلَفِ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِبَاقُ فَيَمْنَعُ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ ثُمَّ لَمَّا سَبَقَ الْحِلُّ الْإِبَاقَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَلَفٍ كَانَ لِلْحِلِّ حُكْمُ
(3/217)
السَّبَبِ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ يَتَقَدَّمُهُ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَيْهِ وَشَرْطُهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ وُجُودًا فَخَرَجَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذْ التَّعْلِيقُ وَهُوَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ بِالْعَكْسِ وَمَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ فِعْلٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ بَلْ طَبِيعِيٌّ كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ الْغَيْرِ فَسَالَ الْمَائِعُ مِنْهُ فَتَلِفَ وَمَا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ لِأَنَّهُ وَإِنْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ فَالْأَمْرُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ فَيَصِيرُ غَاصِبًا بِهِ لِلْعَبْدِ فَعَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ اسْتِعْمَالِهِ كَالْآلَةِ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا وَمَا إذَا كَانَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ ضَمَانِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَاقِلًا.
فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَجْنُونًا كَانَ الْحَالُ ضَامِنًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اخْتِلَافٍ (وَكَذَا فِي فَتْحِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ لَا يَضْمَنُهَا) أَيْ الْفَاتِحُ الطَّيْرَ وَالدَّابَّةَ إذَا ذَهَبَا مِنْهُمَا عَلَى الْفَوْرِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَقَالَ يَضْمَنُهُمَا إذَا ذَهَبَا عَلَى الْفَوْرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (جَعَلَهُ) أَيْ مُحَمَّدٌ فَتْحَ كُلٍّ مِنْهُمَا (كَشَرْطٍ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ إذْ بَايَعَهُمَا) أَيْ الطَّيْرَ وَالدَّابَّةَ (الِانْتِقَالَ) أَيْ الْخُرُوجَ عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يَصْبِرَانِ عَنْهُ عَادَةً (عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ) مِنْهُ وَالْعَادَةُ إذَا تَأَكَّدَتْ صَارَتْ طَبِيعَةً لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا (فَهُوَ) أَيْ انْتِقَالُهُمَا مِنْهُمَا (كَسَيَلَانِ) الْمَائِعِ مِنْ (الزِّقِّ عِنْدَ الشَّقِّ وَلِأَنَّ فِعْلَهُمَا) أَيْ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ (هَدَرٌ) شَرْعًا لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِمَا كَمَا إذَا صَاحَ بِالدَّابَّةِ فَذَهَبَتْ صَارَ ضَامِنًا وَإِنْ ذَهَبَتْ مُخْتَارَةً لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّلَفِ إلَيْهِ (فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الشَّرْطِ) الَّذِي هُوَ الْفَتْحُ (وَهُمَا) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (مَنَعَا الْإِلْحَاقَ) أَيْ إلْحَاقَ الطَّائِرِ وَالدَّابَّةِ بِالْجَمَادِ الْمَائِعِ فِي إضَافَةِ التَّلَفِ إلَى الشَّرْطِ (بَعْدَ تَحْقِيقِ الِاخْتِيَارِ) لَهُمَا.
(وَكَوْنُهُ) أَيْ فِعْلِهَا (هَدَرًا) أَيْ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ حُكْمٍ بِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَحِلُّهُ الذِّمَّةُ وَلَا ذِمَّةَ لَهُمَا (لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ كَالْمُرْسَلِ) مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ الْمُصَادِ بِهَا (إلَى صَيْدٍ فَمَالَ) الْمُرْسَلُ (عَنْهُ) أَيْ الصَّيْدِ (ثُمَّ رَجَعَ) الْمُرْسَلُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى الصَّيْدِ (فَأَخَذَهُ مَيْلَةً هَدَرٌ) فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ بَهِيمَةً (وَقَطَعَ) مَيْلَهُ (النِّسْبَةَ) لِإِرْسَالِهِ (إلَى الْمُرْسَلِ) فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ (أَمَّا لَوْ نُسِبَ) خُرُوجُهُمَا (إلَيْهِ كَفَتْحِهِ) أَيْ الْفَاتِحِ (عَلَى وَجْهِ نَفْرِهِ) أَيْ مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ طَائِرٍ أَوْ دَابَّةٍ (فَفِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) أَيْ فَفَتْحُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ بَلْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (فَيَضْمَنُ) الْفَاتِحُ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ أَنَّ مَا ذَكَرَاهُ قِيَاسٌ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِالطَّبِيعَةِ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَإِهْدَارًا لِاخْتِيَارِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ حُكْمًا فَإِنَّهُ اخْتِيَارٌ لَا حُكْمَ لَهُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَعَلَى هَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ فِيهَا عَلَى الِاسْتِحْسَانِ قُلْت بَلْ فِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ الْفَتْوَى بِالِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْفَتْوَى بِالضَّمَانِ بِالسِّعَايَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ لُزُومُ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي فَوْرِ الْفَتْحِ بَلْ بَعْدَ لَحْظَةٍ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ عَدَمُ الضَّمَانِ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ عُلِمَ أَنَّهَا تَرَكَتْ عَادَتَهَا وَكَانَ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَأَشْبَهَ حِلَّ الْقَيْدِ وَسَاقَ هَذَا الْحُكْمَ مَسَاقَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.
(وَأَمَّا الْعَلَامَةُ) وَعَلِمْت أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فَالْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِهِ لَا هُوَ نَفْسُهُ (فَكَالْأَوْقَاتِ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) الْمَفْرُوضَيْنِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ وُجُوبِهِمَا مِنْ غَيْرِ إفْضَاءٍ وَلَا تَأْثِيرٍ (وَعُدَّ الْإِحْصَانُ) لِإِيجَابِ رَجْمِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ (مِنْهَا) أَيْ الْعَلَامَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ (لِثُبُوتِهِ) أَيْ الْإِحْصَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا (بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) أَيْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَزُفَرَ وَلَوْ كَانَ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ لِتَوَقُّفِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي الْحُدُودِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حِينَئِذٍ تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَالْمُكَمِّلُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ
(3/218)
الْمُوجِبِ لِأَصْلِهَا فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ كَالزِّنَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَإِنَّ تَكْمِيلَ الْحَدِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَالَا الْإِحْصَانُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ إذْ هُوَ عَلَى مَا قَالَ كَثِيرٌ كَوْنُ الْإِنْسَانِ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً تَزَوُّجًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَزَا السَّرَخْسِيُّ هَذَا إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ ثُمَّ تَعَقَّبَهُمْ بِأَنَّ شَرْطَهُ عَلَى الْخُصُوصِ شَيْئَانِ: الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطَا الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْقُدْرَةِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَبَعْضُهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لَهَا الْعِلَّةُ الصَّالِحَةُ وَهِيَ الزِّنَا فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا كَمَا قَبْلَ ثُبُوتِهِ (مُشْكِلٌ بَلْ هُوَ) أَيْ الْإِحْصَانُ (شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ) أَيْ الرَّجْمِ (كَمَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ) مِنْهُمْ مُتَقَدِّمُو مَشَايِخِنَا وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ (لِتَوَقُّفِهِ) أَيْ وُجُوبِ الْحَدِّ (عَلَيْهِ) أَيْ الْإِحْصَانِ (بِلَا عَقْلِيَّةِ تَأْثِيرٍ) لَهُ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِّ.
(وَلَا إفْضَاءَ) إلَيْهِ وَهَذَا شَأْنُ الشَّرْطِ (لَا) أَنَّهُ عَلَامَةٌ (لِتَوَقُّفِ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الزِّنَا إذَا ثَبَتَ لَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُهُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا كَانَتْ دَلِيلَ الْوُجُودِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ.
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ كَمَا هُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَكَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي شُهُودِ الشَّرْطِ إذَا رَجَعُوا وَحْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ فَالْجَوَابُ لَا (وَعَدَمُ الضَّمَانِ بِرُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ هُوَ الْمُخْتَارُ) كَمَا سَلَفَ وَجْهُهُ (وَإِنَّمَا تُكَلِّفُهُ) أَيْ الْإِحْصَانَ (عَلَامَةَ الْمُضَمَّنِ) شُهُودَ الشَّرْطِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ عَدَمُ تَضْمِينِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ (وَهُوَ) أَيْ تَكَلُّفُهُ عَلَامَةً لِيَنْدَفِعَ عَنْهُ إلْزَامُ تَضْمِينِهِمْ (غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ) كَانَ الْإِحْصَانُ (شَرْطًا لَمْ تَضْمَنْ) شُهُودُهُ (بِهِ) أَيْ بِالرُّجُوعِ أَيْضًا (إذْ شَرْطُهُ) أَيْ تَضْمِينِ شُهُودِ الشَّرْطِ (عَدَمُ) الْعِلَّةِ (الصَّالِحَةِ) لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (وَالزِّنَا عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحَدِّ) إلَيْهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْإِحْصَانُ.
فَإِنْ قِيلَ الشَّرْطُ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعِلَّةِ حَقِيقَةً بَعْدَ وُجُودِهَا صُورَةً إلَى حِينِ وُجُودِهِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ الْعَتَاقِ بِالدُّخُولِ مَثَلًا وَالزِّنَا إذَا تَحَقَّقَ لَمْ يَتَوَقَّفْ انْعِقَادُهُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانِ مُحْدِثٍ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُطْلَقًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَقَدَّمَهُ) أَيْ الشَّرْطَ الْإِحْصَانُ (عَلَى الْعِلَّةِ الزِّنَا غَيْرُ قَادِحٍ) فِي كَوْنِ الْإِحْصَانِ شَرْطًا لِإِيجَابِ الرَّجْمِ (إذْ تَأَخُّرُهُ) أَيْ الشَّرْطِ (عَنْهَا) أَيْ الْعِلَّةِ صُورَةً (غَيْرُ لَازِمٍ كَشَرْطِ الصَّلَاةِ) مِنْ إزَالَةِ حَدَثٍ وَخَبَثٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عِلَّةِ الصَّلَاةِ أَيْ الْخِطَابِ بِهَا أَوْ تَضْيِيقِ الْوَقْتِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُجُوبُ شَرْطِهَا فَيَكُونُ هَذَا مِثَالًا لِتَأَخُّرِ الشَّرْطِ عَنْ الْعِلَّةِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَهُ فَهُوَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ عِلَّتِهَا بِالتَّفْسِيرِ السَّابِقِ لَهَا إمَّا لِعُذْرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ أَوْ تَسَاهُلًا وَقَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا اسْتِعْدَادًا لِأَدَائِهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ عِلَّتِهَا وَعَلَى هَذَا فَجَعَلَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ مِثَالًا لِمَا لَا يَكُونُ الشَّرْطُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلَّةِ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ هَلْ يَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ أَوْ تَأَخُّرُهُ عَنْ عِلَّتِهِ أَوْ لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ بَلْ قَدْ وَقَدْ، وَتَقَدُّمُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ هَذَا بِشَيْءٍ؛ نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَأْخِيرَ الشَّرْطِ عَنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عِلَّةٌ لِأَحْكَامِهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهَا وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لَهَا وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا (إلَّا فِي) الشَّرْطِ (التَّعْلِيقِيِّ) فَإِنَّ تَأَخُّرَهُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لَازِمٌ (بَلْ قِيلَ) أَيْ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ.
(وَلَا فِيهِ) أَيْ وَلَيْسَ تَأَخُّرُ التَّعْلِيقِيِّ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ بِلَازِمٍ أَيْضًا (فَقَدْ يَتَقَدَّمُ) التَّعْلِيقِيُّ (وَيَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ الْعِلْمَ بِهِ) وَظُهُورُهُ (كَالتَّعْلِيقِ بِكَوْنِ قَيْدِهِ عَشَرَةً) بِأَنْ قَالَ إنْ كَانَ زِنَةُ قَيْدِ عَبْدِي عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَهُوَ حُرٌّ فَقَدْ سَبَقَ الشَّرْطُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَشَرَةً الْعِلَّةُ أَيْ الْيَمِينُ أَيْ الْجَزَاءُ مِنْهُ أَعْنِي قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ نَظَرَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ
(3/219)
ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ مَعْدُومٌ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَشَرَةً فَكَانَ هُوَ الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ خِلَافَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْلِيقَ فِي مِثْلِهِ) يَكُونُ (عَلَى الظُّهُورِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنْ ظَهَرَ أَنَّ زِنَةَ قَيْدِهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ (لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ) أَيْ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ تَعْلِيقٌ (عَلَى مَعْدُومٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَعَلَى كَائِنٍ تَنْجِيزُ) مَعْنًى وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى وَقَدْ أَسْلَفْنَا هَذَا فِي ذَيْلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ مِنْ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ التَّعْلِيقِيَّ قَدْ يُقْصَدُ فِيهِ وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَقَدْ يُقْصَدُ فِيهِ وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ دَائِمًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (فَكَوْنُهُ) أَيْ الْإِحْصَانِ (عَلَامَةً) لِوُجُوبِ الرَّجْمِ (مَجَازٌ) لِتَوَقُّفِ وُجُودِ وُجُوبِ الرَّجْمِ شَرْعًا عَلَى وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ وَلَا إفْضَاءٍ وَلَوْ كَانَ عَلَامَةً حَقِيقَةً لَمَا تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهِ.
(وَلَا تَتَقَدَّمُ الْعَلَامَةُ عَلَى مَا هِيَ) عَلَامَةٌ (لَهُ كَالدُّخَانِ) عَلَامَةٌ عَلَى النَّارِ فَلَا يَتَقَدَّمُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهَا قُلْت (وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ) إنْ تَمَّ اشْتِرَاطُ هَذَا فِي الْعَلَامَةِ اصْطِلَاحًا فِيهَا وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ عَلَامَةً عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَيْهِ سَابِقًا عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ كَالنَّارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّخَانِ وَقَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ كَالسَّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَلَامَاتِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَمَا تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَوْجُودٍ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَوْجُودٍ فِي الزَّمَانِ اللَّاحِقِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْعَلَامَةِ (وِلَادَةُ الْمَبْتُوتَةِ) أَيْ الْبَائِنَةِ بِثَلَاثٍ فَمَا دُونَهَا (وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا) زَوْجُهَا (عَلَامَةُ الْعُلُوقِ السَّابِقِ) عَلَى الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ إذَا أَتَتَا بِهِ فِي مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ (وَلَوْ) أَتَتَا بِهِ (بِلَا) تَقَدُّمِ (حَبَلٍ ظَاهِرٍ وَلَا اعْتِرَافٍ) مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ (عِنْدَهُمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (فَقَبِلَا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ) الْحُرَّةِ الْعَدْلَةِ (عَلَيْهَا) أَيْ الْوِلَادَةِ لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حِينَئِذٍ لَيْسَتْ إلَّا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ (وَهِيَ) أَيْ شَهَادَتُهَا (مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ) لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَةِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ» (ثُمَّ ثُبُوتُ نَسَبِهِ) أَيْ الْوَلَدِ إنَّمَا هُوَ (بِالْفِرَاشِ السَّابِقِ) عَلَى الْوِلَادَةِ وَهُوَ الْقَائِمُ عِنْدَ الْعُلُوقِ (وَعِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ (لَيْسَتْ) الْوِلَادَةُ (عَلَامَةً إلَّا مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْحَبَلِ الظَّاهِرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ الْمَوْتِ وَاعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِهِ (فَلَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ (دُونَهُ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ) أَيْ عَدَمُ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَعَدَمُ اعْتِرَافِهِ بِالْحَبَلِ سَابِقًا (كَالْعِلَّةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ) لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ إلَّا بِهَا (فَيَلْزَمُ النِّصَابُ) أَيْ فَيُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا أَوْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَتَكُونُ الْوِلَادَةُ حِينَئِذٍ عَلَامَةً مُعَرِّفَةً لَهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ الْوِلَادَةِ عَلَامَةً أَوْ لَا (إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَيْهَا) أَيْ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِهِ فَقَالَتْ وَلَدْت وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِهَا (قُبِلَتْ) فِي ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ اتِّفَاقًا.
وَكَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِهَا ضِمْنًا لَا قَصْدًا (عِنْدَهُمَا) اعْتِبَارًا لِجَانِبِ كَوْنِهَا عَلَامَةً (وَعِنْدَهُ) لَا تُقْبَلُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا بَلْ (يَلْزَمُ النِّصَابُ) لِثُبُوتِهِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِ كَوْنِهَا شَرْطًا لَهُ مَحْضًا لِلطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَمْنَعُ انْعِقَادَهُ عِلَّةً لِلْوُقُوعِ إلَى حِينِ وُجُودِهَا وَشَرْطُ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ تُقْبَلْ (لِأَنَّهَا) شَهَادَةٌ (عَلَى) وُقُوعِ (الطَّلَاقِ مَعْنًى) وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَلَيْسَ وُقُوعُهُ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِالْوِلَادَةِ لِوُجُودِ الِانْفِكَاكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَثُبُوتِ اللِّعَانِ عِنْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهَا لَازِمٌ لَهَا شَرْعًا فَإِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَ فَلَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا وَالْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِهَا لَا فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ (كَمَا عَلَى ثِيَابَةِ أَمَةٍ
(3/220)
بِيعَتْ بِكْرًا) أَيْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا ثَيِّبٌ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْبُولَةُ الشَّهَادَةِ بِثِيَابَتِهَا (لَا تُقْبَلُ اتِّفَاقًا لِلرَّدِّ) أَيْ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ (وَإِنْ قُبِلَتْ فِي الثِّيَابَةِ وَالْبَكَارَةِ) حَتَّى تَثْبُتَ الثِّيَابَةُ فِي هَذِهِ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ فَلَا تَنْدَفِعُ عَنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا بِحَلِفِهِ بِاَللَّهِ مَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمَهَا بِحُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ وَمَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ.
فَإِنْ حَلَفَ فَلَا خُصُومَةَ وَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ ثِيَابَتِهَا فِي نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْوِلَادَةِ أَصْلًا وَوَصْفًا وَهُوَ كَوْنُهَا شَرْطًا وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقْبَلُ فِي أَصْلِهَا لَا فِي وَصْفِهَا فَلَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ أَمَّا لَوْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ وَبِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَلَدْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْقَابِلَةُ بِهَا لِأَنَّهَا شَرْطُ وُقُوعِهِ وَهِيَ مِمَّا تَقِفُ عَلَيْهِ الْقَابِلَةُ فَلَا تُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا كَمَا لَا تُقْبَلُ فِي نَسَبِ الْمَوْلُودِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِبُرُوزٍ مَوْجُودٍ فِي بَاطِنِهَا فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُهَا كَمَا فِي: إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَيْفَ لَا وَالظَّاهِرُ بَلْ الْيَقِينُ وِلَادَتُهَا إذَا جَاءَتْ فَارِغَةً وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ مِنْ أَيِّ وَلَدٍ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ مُجَرَّدِ الْوِلَادَةِ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَلَدُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدٍ آخَرَ مَيِّتٍ ثُمَّ تُرِيدُ حَمْلَ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَعَيُّنِ الْوِلَادَةِ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَقْسِيم الْقِيَاسَ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ إلَى جَلِيٍّ وَخَفِيَ]
(فَصْلٌ قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْقِيَاسَ بِاعْتِبَارِ) التَّفَاوُتِ فِي (الْقُوَّةِ إلَى جَلِيٍّ مَا عُلِمَ فِيهِ نَفْيُ اعْتِبَارِ الْفَارِقِ) أَيْ إلْغَاؤُهُ (بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ مِنْ التَّقْوِيمِ عَلَى مُعْتِقِ الْبَعْضِ) الثَّابِتِ فِيهِ ذَلِكَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ بِهِ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» فَإِنَّا نَقْطَعُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ وَأَنْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا سِوَى ذَلِكَ (وَخَفِيَ بِظَنِّهِ) أَيْ مَا يَكُونُ نَفْيُ الْفَارِقِ فِيهِ مَظْنُونًا (كَالنَّبِيذِ) أَيْ كَقِيَاسِهِ (عَلَى الْخَمْرِ فِي حُرْمَةِ الْقَلِيلِ مِنْهُ) أَيْ الْخَمْرِ (لِتَجْوِيزِ اعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ الْخَمْرِ) أَيْ كَوْنِ الشَّرَابِ مَاءَ الْعِنَبِ الْخَاصِّ فِي الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ (وَلِذَا) أَيْ تَجْوِيزِ هَذَا الِاعْتِبَارِ (قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ) أَيْ ذَهَبُوا إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ لِمَا هُوَ مَسْطُورٌ لَهُمْ فِي مَوْضِعِهِ وَهَذَا التَّجْوِيزُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ فَلَا يُنَافِي ظَنَّ نَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا قَالَ السُّبْكِيُّ وَمِنْ الْجَلِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَا كَانَ احْتِمَالُ الْفَارِقِ فِيهِ احْتِمَالًا ضَعِيفًا بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ كَإِلْحَاقِ الْعَمْيَاءِ بِالْعَوْرَاءِ فِي حَدِيثِ الْمَنْعِ مِنْ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ يَعْنِي حَدِيثَ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا» إلَخْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ جَلِيٌّ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ وَخَفِيَ وَهُوَ الشَّبَهُ وَوَاضِحٌ وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا وَقِيلَ الْجَلِيُّ قِيَاسُ الْأُولَى كَقِيَاسِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ فِي التَّحْرِيمِ وَالْوَاضِحُ الْمُسَاوِي كَقِيَاسِ إحْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى أَكْلِهِ فِي التَّحْرِيمِ وَالْخَفِيُّ الْأَدْوَنُ كَقِيَاسِ التُّفَّاحِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا وَالْجَلِيُّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعَمُّ مِنْ الْجَلِيِّ بِهَذَا الْمَعْنَى.
(وَ) قَسَّمُوهُ (بِاعْتِبَارِ الْعِلَّةِ إلَى قِيَاسِ عِلَّةِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِهَا) أَيْ بِالْعِلَّةِ كَأَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ النَّبِيذُ لِلْإِسْكَارِ كَالْخَمْرِ (وَ) إلَى (قِيَاسِ دَلَالَةٍ أَنْ يَجْمَعَ) فِيهِ (بِمُلَازِمِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (كَرَائِحَةِ) الْعَصِيرِ (الْمُشْتَدِّ) بِالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ (بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ) فِي الْحُرْمَةِ (لِدَلَالَتِهِ) أَيْ الْمُلَازِمِ الَّذِي هُوَ الرَّائِحَةُ (عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ الْإِسْكَارِ) الْحَاصِلِ مِنْ ذِي الشِّدَّةِ (إذْ كَانَ) الْإِسْكَارُ (مُلَازِمًا لَهَا) أَيْ لِلرَّائِحَةِ فَيُقَالُ النَّبِيذُ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ بِجَامِعِ الرَّائِحَةِ الْمُشْتَدَّةِ وَحَاصِلُهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ فِي الْفَرْعِ هُوَ وَحُكْمٍ آخَرَ تُوجِبُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأَصْلِ فَيُقَالُ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ الْآخِرِ فِيهِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ فَيَكُون قَدْ جَمَعَ بِأَحَدِ مُوجِبَيْ الْعِلَّةِ أَيْ الْحُكْمَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ لِوُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمُوجِبِ الْآخَرِ لِمُلَازَمَةِ الْآخَرِ لَهُ وَيَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ عَلَى الْعِلَّةِ وَبِالْعِلَّةِ عَلَى الْمُوجِبِ الْآخَرِ لَكِنْ يُكْتَفَى بِذِكْرِ مُوجِبِ
(3/221)
الْعِلَّةِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِهَا (وَ) إلَى (قِيَاسٍ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنْ يَجْمَعَ) بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (بِنَفْيِ الْفَارِقِ أَيْ بِإِلْغَائِهِ) أَيْ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْفَارِقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِوَصْفٍ هُوَ الْعِلَّةُ (كَإِلْغَاءِ كَوْنِهِ) أَيْ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ (أَعْرَابِيًّا وَكَوْنِهَا) أَيْ الْمُجَامَعَةُ (أَهْلًا) لِلْمُجَامِعِ السَّائِلِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حُكْمِ وُقُوعِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ لَهُ الْمُجَابِ بِبَيَانِ الْكَفَّارَةِ (فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى غَيْرِهِ) أَيْ الْمَجَامِعِ غَيْرِ الْأَعْرَابِيِّ (وَبِالزِّنَا وَكَذَا إذَا أَلْغَى الْحَنَفِيُّ كَوْنَهُ) أَيْ الْمُفْطِرِ (جِمَاعًا فَتَجِبُ) الْكَفَّارَةُ (بِعَمْدِ الْأَكْلِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْإِيمَاءِ (وَلَوْ تَعَرَّضَ) الْقَائِسُ (لِغَيْرِ نَفْيِ الْفَارِقِ مِنْ عِلَّةٍ مَعَهُ) أَيْ مَعَ نَفْيِ الْفَارِقِ (وَكَانَ) نَفْيُ الْفَارِقِ (قَطْعِيًّا خَرَجَ) مِنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ (إلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْ) كَانَ نَفْيُ الْفَارِقِ (ظَنِّيًّا فَإِلَى) الْقِيَاسِ (الْخَفِيِّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا) التَّقْسِيمَ (تَقْسِيمٌ لِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقِيَاسِ إذْ الْجَمْعُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ.
(وَالْحَنَفِيَّةُ) قَسَّمُوا الْقِيَاسَ (إلَى جَلِيٍّ مَا تَبَادَرَ) أَيْ سَبَقَ إلَى الْأَفْهَامِ (وَ) إلَى (مَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْهُ فَالْأَوَّلُ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي الِاسْتِحْسَانُ فَهُوَ) أَيْ الِاسْتِحْسَانُ (الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى) قِيَاسٍ (ظَاهِرٍ مُتَبَادِرٍ وَيُقَالُ) الِاسْتِحْسَانُ (لِمَا هُوَ أَعَمُّ) مِنْ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَيْ (كُلُّ دَلِيلٍ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ نَصٌّ كَالسَّلَمِ) فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» السَّالِفَ تَخْرِيجُهُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُفِيدِ لِجَوَازِ السَّلَمِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْدِ فِي السَّلَمِ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ فَتُرِكَ هَذَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ وَأُقِيمَتْ الذِّمَّةُ مُقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَأُورِدَ النَّصُّ الْمَذْكُورُ مُخَصَّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» أَيْ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَك وَلَا وِلَايَةَ لَك عَلَى بَيْعِهِ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِهِ أُجِيبَ: سَلَّمْنَا كَوْنَهُ مُخَصَّصًا لَهُ لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُ مُوجِبِ قِيَاسِ السَّلَمِ عَلَى سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ بِهَذَا النَّصِّ (أَوْ إجْمَاعٌ كَالِاسْتِصْنَاعِ) أَيْ طَلَبِ صَنْعَةٍ لِمَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ خُفٍّ وَغَيْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ لِخَفَّافٍ اصْنَعْ لِي خُفًّا مِنْ جِلْدِ كَذَا صِفَتُهُ كَذَا وَمِقْدَارُهُ كَذَا بِكَذَا وَلَا يَذْكُرُ لَهُ أَجَلًا وَيُسَلِّمُ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسَلِّمُهُ فَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ كَمَا قَالَ بِهِ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً وَوَصْفًا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقِيقَةً وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ وَقَصُرُوا الْجَوَازَ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ التَّعَامُلِ عَلَى أَصْلِهِ وَخُصَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْ السَّلَمِ وَالِاسْتِصْنَاعِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفُرُوعِ.
(أَوْ ضَرُورَةً كَطَهَارَةِ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ) الْمُتَنَجِّسَةِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى طَهَارَتِهَا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِيهَا مِنْ نَزْحٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الضَّرُورَةُ الْمُحْوِجَةُ إلَى ذَلِكَ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَلِلضَّرُورَةِ أَثَرٌ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى طَهَارَتِهَا بَعْدَ تَنَجُّسِهَا وَهُوَ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ فِيهَا لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ الْمَاءِ النَّجِسِ فِي الْحَوْضِ وَالْبِئْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَاقِي وَلَوْ أَخْرَجَ الْكُلَّ فَمَا يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلَ أَوْ يَنْزِلُ مِنْ أَعْلَى يُلَاقِي نَجَسًا مِنْ طِينٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيُنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهِ قُلْت وَالْحَقُّ أَنَّ تَطْهِيرَ الْآبَارِ لَا يُعَدُّ مُطْلَقًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهَا نَزْحُ الْبَعْضِ فَهُوَ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ بَلْ قَوْلُهُمْ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ مَسَائِلُ الْآبَارُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ دُونَ الْقِيَاسِ يُفِيدُ أَنَّ تَطْهِيرَهَا مُطْلَقًا مِنْ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ ثُمَّ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ أَوْ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ (فَمُنْكِرُهُ) أَيْ الِاسْتِحْسَانِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ (لَمْ يَدْرِ الْمُرَادَ بِهِ) عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَارِعَ إلَى رَدِّهِ وَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِي تَفْسِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقَ لُغَةً عَلَى مَا يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ وَيَمِيلُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَ غَيْرِهِ وَكَثُرَ
(3/222)
اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ إنْكَارُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُ مُسْتَحْسَنًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذْ لَا وَجْهَ لِقَبُولِ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَفِي هَذَا الِاعْتِذَارِ مَا لَا يَخْفَى ثُمَّ بَعْدَمَا عُلِمَ أَنَّهُ اسْمٌ لِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ نَصًّا كَانَ أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا إذَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ يَسْبِقُ إلَيْهِ الْإِفْهَامُ حَتَّى لَا يُطْلَقَ عَلَى مَا لَا يُقَابِلُ مِنْهَا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ خِلَافٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
(وَقَسَّمُوا الِاسْتِحْسَانَ إلَى مَا قَوِيَ أَثَرُهُ) أَيْ تَأْثِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَ) إلَى (مَا خَفِيَ فَسَادُهُ) أَيْ ضَعْفُهُ لِأَنَّهُ إذَا ضَعُفَ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ فَسَدَ ثُمَّ خَفَاؤُهُ (بِالنِّسْبَةِ إلَى ظُهُورِ صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ) ظُهُورُ صِحَّتِهِ (خَفِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِيَاسِ) الْمُقَابِلِ لَهُ (وَظَهَرَ صِحَّتُهُ) عَطْفٌ عَلَى خَفِيَ يَعْنِي إذَا تُؤُمِّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ انْضَمَّ إلَى مُقَابِلِهِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ أَدْنَى النَّظَرِ يُرَى صَحِيحًا.
(وَ) قَسَّمُوا (الْقِيَاسَ إلَى مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ و) إلَى (مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى وَجْهِهِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُورِثُهُ قُوَّةً وَرُجْحَانًا عَلَى وَجْهِ مُقَابِلِهِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ (فَأَوَّلُ الْأَوَّلِ) أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ (مُقَدَّمٌ عَلَى أَوَّلِ الثَّانِي) أَيْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ (وَثَانِي الثَّانِي) أَيْ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ مُقَدَّمٌ (عَلَى ثَانِي الْأَوَّلِ) أَيْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلظَّاهِرِ بِظُهُورِهِ وَلَا لِلْبَاطِنِ بِبُطُونِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي مَضْمُونِهِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا صَارَتْ عِلَّةً بِأَثَرِهَا فَيَسْقُطُ ضَعِيفُ الْأَثَرِ بِمُقَابَلَةِ قَوِيِّ الْأَثَرِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا.
(مِثَالُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَوَّلُ كُلٍّ) مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ (سِبَاعُ الطَّيْرِ) أَيْ سُؤْرُهَا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي إذْ (الْقِيَاسُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا) قِيَاسًا وَالِاسْتِحْسَانُ (عَلَى) نَجَاسَةِ سُؤْرِ (سِبَاعِ الْبَهَائِمِ) كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ لِأَنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَحُرْمَتُهُ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْغِذَاءِ لَا لِلْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَإِنَّ لَحْمَهَا لَمَّا كَانَ حَرَامًا وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْغِذَاءِ لَا لِلْكَرَامَةِ آيَةَ النَّجَاسَةِ كَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا نَجَاسَةُ اللَّحْمِ وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرُ الْأَثَرِ ثُمَّ حَيْثُ اسْتَوَيَا فِيهِ اسْتَوَيَا فِي أَثَرِهِ وَهُوَ نَجَاسَةُ السُّؤْرِ (وَالِاسْتِحْسَانُ) طَهَارَةُ سُؤْرِهَا وَهُوَ (الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ عَلَى) طَهَارَةِ سُؤْرِ (الْآدَمِيِّ) بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَإِنْ كَانَ حُرْمَةُ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ لِلْكَرَامَةِ وَحُرْمَةُ أَكْلِ لَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ لِلنَّجَاسَةِ (لِضَعْفِ أَثَرِ الْقِيَاسِ) الْمَذْكُورِ (أَيْ مُؤَثِّرُهُ) أَيْ مُؤَثِّرُ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ نَجَاسَةُ السُّؤْرِ (وَهُوَ) أَيْ مُؤَثِّرُهُ (مُخَالَطَةُ اللُّعَابِ النَّجِسِ) لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهَا وَهِيَ تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا وَهُوَ رَطْبٌ بِهِ فَيَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْمَاءِ عَادَةً (لِانْتِفَائِهِ) أَيْ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ (إذْ تَشْرَبُ) سِبَاعُ الطَّيْرِ (بِمِنْقَارِهَا الْعَظْمِ الطَّاهِرِ) لِأَنَّهُ جَافٌّ وَلَا رُطُوبَةَ فِيهِ وَإِذْ كَانَ طَاهِرًا مِنْ الْمَيِّتِ فَمِنْ الْحَيِّ أَوْلَى ثُمَّ تَأْخُذُ الْمَاءَ بِهِ ثُمَّ تَبْتَلِعُهُ وَلَا يَنْفَصِلُ شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهَا فِي الْمَاءِ (فَانْتَفَتْ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ) وَهِيَ مُخَالَطَةُ النَّجَاسَةِ لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِهَا (فَكَانَ طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ وَأَثَرُهُ) أَيْ هَذَا الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ (أَقْوَى) مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الْأَثَرِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ مُلَاقَاةِ الطَّاهِرِ لِلطَّاهِرِ فِي تَبْقِيَتِهِ طَاهِرًا أَشَدُّ مِنْ مُجَرَّدِ تَأْثِيرِ نَجَاسَةٍ لِلَّحْمِ فِي نَجَاسَةِ السُّؤْرِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَضْبُوطَةً تُغَذَّى بِالطَّاهِرِ فَقَطْ لَا يُكْرَهُ سُؤْرُهَا كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَفْتَوْا بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهَا لَا تَتَحَامَى الْمَيْتَةُ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ مِنْهَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ لِأَنَّ مِنْقَارَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا تُدَلِّكُ مِنْقَارَهَا بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَهُوَ شَيْءٌ صُلْبٌ فَيَزُولُ مَا عَلَيْهِ بِالدَّلْكِ فَيَطْهُرُ وَلِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهَا مَعَ الْبَلْوَى بِهَا فَإِنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ عَلَى الْمَاءِ وَلَا سِيَّمَا فِي الصَّحَارِي فَتَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ لَا النَّجَاسَةُ كَمَا فِي الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ.
(فَإِنْ قُلْت سَبَقَ عِنْدَهُمْ) أَيْ
(3/223)
الْحَنَفِيَّةِ فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ (أَنْ لَا تَعْلِيلَ بِالْعَدَمِ وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ قِيَاسُ عِلَلٍ فِيهِ بِهِ) أَيْ بِالْعَدَمِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَعْلِيلُ الطَّهَارَةِ بِعَدَمِ مُخَالَطَةِ اللُّعَابِ النَّجِسِ (قُلْنَا تَقَدَّمَ) ثَمَّةَ (اسْتِثْنَاءُ عِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ) لِحُكْمٍ (فَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِهَا عَلَى عَدَمِ حُكْمِهَا لَا) أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ (تَعْلِيلٌ حَقِيقِيٌّ) وَهَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ سُؤْرِهَا مُخَالَطَةُ لُعَابِهَا النَّجِسِ لِلْمَاءِ فَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِهَا عَلَى عَدَمِهَا (وَمَثَّلُوا مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَانِيَاهُمَا) أَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَهُمَا الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ فَسَادُهُ، الْخَفِيُّ صِحَّتُهُ وَالِاسْتِحْسَانُ الظَّاهِرُ صِحَّتُهُ، الْخَفِيُّ فَسَادُهُ (بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الصَّلَاةِ الْقِيَاسُ) أَنَّهُ يَجُوزُ (أَنْ يَرْكَعَ بِهَا) فِي الصَّلَاةِ نَاوِيهَا بِهِ سَوَاءٌ كَانَ غَيْرَ رُكُوعِ الصَّلَاةِ أَوْ رُكُوعَهَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا (لِظُهُورِ أَنَّ إيجَابَهَا) أَيْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ (لِإِظْهَارِ التَّعْظِيمِ) لِلَّهِ تَعَالَى بِالْخُضُوعِ لَهُ مُوَافَقَةً لِمَنْ عَظَّمَ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ (وَهُوَ) أَيْ إظْهَارُ التَّعْظِيمِ بِالْخُضُوعِ مَوْجُودٌ (فِي الرُّكُوعِ) أَيْضًا (وَلِذَا) أَيْ وُجُودِ التَّعْظِيمِ بِالْخُضُوعِ فِي الرُّكُوعِ (أَطْلَقَ عَلَيْهَا) أَيْ السَّجْدَةِ (اسْمَهُ) أَيْ اسْمَ الرُّكُوعِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَقَطَ سَاجِدًا لِأَنَّ الْخُرُورَ السُّقُوطُ عَلَى الْوَجْهِ فَجَازَ إسْقَاطُهَا عَنْهُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِهَا عَنْهُ بِهَا نَفْسِهَا بِجَامِعِ الْخُضُوعِ تَعْظِيمًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْظِيمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَكَانَا فِي حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا.
نَعَمْ السُّجُودُ بِهَا أَفْضَلُ كَمَا ذَكَرَهُ هَكَذَا مُطْلَقًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبَدَائِعِ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ وَهُوَ السُّجُودُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37] بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَمَّا بِالرُّكُوعِ فَبِمَعْنَاهُ (وَهِيَ) أَيْ هَذِهِ النُّكْتَةُ (صِحَّتُهُ) أَيْ الْقِيَاسِ (الْخَفِيَّةُ وَفَسَادُهُ) أَيْ ضَعْفُهُ (الظَّاهِرُ لُزُومُ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ) وَهُوَ السُّجُودُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37] (بِغَيْرِهِ) أَيْ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ الرُّكُوعُ (وَ) لُزُومُ (الْعَمَلِ بِالْمَجَازِ) وَهُوَ الرُّكُوعُ (مَعَ إمْكَانِهِ) أَيْ الْعَمَلِ (بِالْحَقِيقَةِ) وَهُوَ السُّجُودُ (وَالِاسْتِحْسَانُ لَا) يَجُوزُ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (قِيَاسًا عَلَى سُجُودِ الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ رُكُوعُهَا) أَيْ الصَّلَاةِ (عَنْهُ) أَيْ سُجُودِهَا مَعَ قُرْبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمُوجِبَاتِ التَّحْرِيمَةِ فَلَأَنْ لَا يَنُوبَ الرُّكُوعُ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْلَى وَعَلَى عَدَمِ تَأَدِّيهَا بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَخُصُوصًا إذَا كَانَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ رُكُوعَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِجِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ خَارِجُهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لِجِهَةٍ أُخْرَى (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمَعْنَى (صِحَّتُهُ) أَيْ هَذَا الْقِيَاسِ (الظَّاهِرَةِ لِوَجْهِ فَسَادِ ذَلِكَ) الْقِيَاسِ (مِنْ تَأَدِّي إلَخْ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِغَيْرِهِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِهِ بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّ وَجْهَ فَسَادِ ذَلِكَ الظَّاهِرِ هُوَ هَذَا (وَفَسَادُ الْبَاطِنِ) أَيْ بَاطِنِ هَذَا الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ (أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ (قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ وَهُوَ) أَيْ الْفَارِقُ (أَنَّ فِي الصَّلَاةِ كُلًّا مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَطْلُوبٌ بِطَلَبٍ يَخُصُّهُ) عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 77] {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّجُودِ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (فَمَنْعُ) كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا بِطَلَبٍ يَخُصُّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (تَأَدَّى أَحَدُهُمَا فِي ضِمْنِ الْآخَرِ) أَيْ بِالْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجَمْعِ الْمَأْمُورِ بِهِ (بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ طُلِبَتْ وَحْدَهَا وَعُقِلَ أَنَّهُ) أَيْ طَلَبُهَا (لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ) لِلتَّعْظِيمِ (وَمُخَالَفَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ) عَنْ السُّجُودِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي مَوَاضِعِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
(وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ إظْهَارِ التَّعْظِيمِ وَمُخَالَفَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ (حَاصِلٌ بِمَا اُعْتُبِرَ عِبَادَةً) وَهُوَ الرُّكُوعُ.
(غَيْرَ أَنَّ الرُّكُوعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَمْ يُعْرَفْ عِبَادَةً فَتَعَيَّنَ) أَنْ يَكُونَ الرُّكُوعُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا (فِيهَا) أَيْ فِي الصَّلَاةِ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّوَاضُعِ تَعْظِيمًا وَالْعِبَادَةِ فِيهِ (فَتَرَجَّحَ الْقِيَاسُ) بِسَبَبِ قُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ الْمُتَضَمِّنِ فَسَادَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ لِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِقُوَّةِ الْأَثَرِ الْبَاطِنِ (وَنُظِرَ فِي أَنَّ ذَلِكَ) الْقِيَاسَ (ظَاهِرٌ وَهَذَا) الْقِيَاسُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ (خَفِيٌّ وَهُوَ) أَيْ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى (ظَاهِرٌ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ شَرْعًا بِغَيْرِهِ أَقْوَى تَبَادُرًا مِنْ جَوَازِهِ)
(3/224)
أَيْ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا بِغَيْرِهِ (لِمُشَارَكَتِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ (لَهُ) أَيْ لِلْمَأْمُورِ بِهِ (فِي مَعْنًى كَالتَّعْظِيمِ أَوْ لِإِطْلَاقِ لَفْظِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَاجِدًا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظٍ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ جَوَازُ إيقَاعِ مُسَمَّاهُ) أَيْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ (مَكَانَ مُسَمَّى الْآخَرِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ لَهُ (شَرْعًا وَإِنْ كَانَ الْمُطْلِقُ الشَّارِعَ) إذْ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ غَيْرُ طَرِيقِ الْقِيَاسِ إذْ الْأَوَّلُ يَصِحُّ مَعَ عَلَاقَةٍ مَا وَالثَّانِي يَتَوَقَّفُ عَلَى صَلَاحِ الْعِلَّةِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَعَدَالَتِهَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ طَرِيقَ الْقِيَاسِ لَصَحَّ أَنْ يَنُوبَ الرُّكُوعُ عَنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِثُبُوتِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ مُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ فِي النَّصِّ مُطْلَقُ الرُّكُوعِ لَا الرُّكُوعُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ (وَلَوْ فُرِضَ قِيَامُ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ جَوَازُ قِيَامِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ مَقَامَهَا (لَا يُصَيِّرُهُ) جَوَازُ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ مَقَامَهَا الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ (أَظْهَرَ) مِنْ عَدَمِ جَوَازِهِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِمَا ذَكَرْنَا بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ غَيْرُهُ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَنَّ الرُّكُوعَ أُطْلِقَ عَلَى السُّجُودِ فِي الْآيَةِ مَجَازًا وَالْإِطْلَاقُ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ يَعْتَمِدُ الْعَلَاقَةَ الْمُعْتَبَرَةَ وَعَلَى أَنَّ تِلْكَ هِيَ الْخُضُوعُ وَعَلَى أَنَّهَا تَصْلُحُ مَنَاطًا لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَنَاطَ ثَابِتٌ فِي الرُّكُوعِ فَيَصْلُحُ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ السُّجُودِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ تَوَقُّفُهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ أَقَلَّ يَكُونُ أَجْلَى عِنْدَ الْعَقْلِ مِمَّا يَكُونُ تَوَقُّفُهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ أَكْثَرَ.
وَلِهَذَا قِيلَ الْعَامُّ أَجْلَى عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ الْخَاصِّ فَلَا جَرَمَ أَنَّ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي هَذَا قَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا التَّكَلُّفَاتِ صَفْحًا وَيُقَالُ ظَاهِرُ النَّصِّ وَإِنْ وَرَدَ بِالسُّجُودِ إلَّا أَنَّ مَوَاضِعَ السَّجْدَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مُجَرَّدُ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِإِظْهَارِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ جَرَيَانِ التَّدَاخُلِ فِيهِ وَالرُّكُوعُ فِيهِ صَالِحٌ لِلتَّوَاضُعِ فَيُعْطِي مَعْنَاهُ كَأَدَاءِ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ انْتَهَى وَيُؤَيِّدُهُ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأَ وَالنَّجْمِ أَوْ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك فِي صَلَاةٍ وَبَلَغَ آخِرَهَا كَبَّرَ وَرَكَعَ وَإِنْ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ صَلَاةٍ سَجَدَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ السَّجْدَةِ تَكُونُ آخِرَ السُّورَةِ أَيَسْجُدُ لَهَا أَمْ يَرْكَعُ قَالَ إنْ شِئْت فَارْكَعْ وَإِنْ شِئْت فَاسْجُدْ ثُمَّ اقْرَأْ بَعْدَهَا سُورَةً رَوَاهُ سَعِيدٌ وَحَرْبٌ وَاللَّفْظُ لَهُ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُهُ بَلْ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْأَسْوَدِ وَطَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمَ وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَحِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إذْ كَانَ تَبَادُرُ عَدَمِ تَأَدِّيهَا بِالرُّكُوعِ أَظْهَرَ مِنْ تَبَادُرِ تَأَدِّيهَا بِهِ (وَجَبَ كَوْنُ الْحُكْمِ الْوَاقِعِ مِنْ تَأَدِّيهَا بِالرُّكُوعِ حُكْمَ الِاسْتِحْسَانِ) لِأَنَّهُ أَخْفَى مِنْ عَدَمِ تَأَدِّيهَا بِهِ (لَا كَوْنُهُ) أَيْ تَأَدِّيهَا بِهِ (مِمَّا قُدِّمَ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ وَحَيْثُ كَانَ فِي تَأَدِّيهَا بِالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ مَا ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ أَدَاؤُهَا بِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ غَيْرَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ فِعْلِ الصَّحَابِيِّ وَقَوْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ أَوْ لَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَلَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَظَهَرَ) مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (أَنْ لَا اسْتِحْسَانَ) وَلَوْ كَانَ إجْمَاعٌ أَوْ أَثَرٌ أَوْ ضَرُورَةٌ (إلَّا مُعَارِضًا لِقِيَاسٍ وَلَزِمَ أَنْ لَا يُعَدَّى مَا) ثَبَتَ (بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ) أَيْ غَيْرُ الْقِيَاسِ (اسْتِحْسَانٌ أَوْ لَا) أَيْ أَوْ لَيْسَ بِاسْتِحْسَانٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ مَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ (مَعْدُولٌ) عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا عَنْهُ (كَإِيجَابِ يَمِينِ الْبَائِعِ فِي اخْتِلَافِهِمَا) أَيْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي (فِي قَدْرِ الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ) وَقِيَامِهِ فَإِنَّهُ حُكْمُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا (بِإِطْلَاقِ النَّصِّ) النَّبَوِيِّ الْقَائِلِ «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ» كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ مُخَرَّجًا فِي مَسْأَلَةِ إذَا انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِزِيَادَةٍ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ (لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ) أَيْ الْبَائِعِ (مَبِيعًا لِتَسَلُّمِهِ) أَيْ الْمُشْتَرِي (إيَّاهُ) أَيْ الْمَبِيعَ وَالْبَائِعُ يُقِرُّ بِذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا لَمْ يَتَوَجَّهْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ
(3/225)
وَأَوْرَدَ صُورَةَ الدَّعْوَى حَاصِلَةً مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا حَقِيقَةً وَقَدْ اكْتَفَى بِهَا فِي قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِهَا فِي تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى الْبَائِعِ وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا الْمَانِعِ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاقِفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِصُورَةِ الدَّعْوَى بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُمْ لَا وُقُوفَ لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الدَّعْوَى فَاكْتَفَى بِصُورَتِهَا وَإِنَّمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يُحْمَلُ النَّصُّ الْمَذْكُورُ عَلَى مَا قَبْلَ الْقَبْضِ بِدَلِيلِ النَّصِّ الْآخَرِ وَهُوَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ؟ ، فَالْجَوَابُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ التَّرَادِّ رَدَّ الْمَأْخُوذِ حِسًّا فَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ رَدَّ الْعَقْدِ وَفَسْخَهُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ لَلَغَا قَوْلُهُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ إذْ هَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ لَكِنَّ الْفَرْضَ تَصَوَّرَهُ فَجَرَيَانُهُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَالُفِ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ لَغْوًا فَيَقْتَصِرُ ثُبُوتُ التَّحَالُفِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى هَذَا الْمَوْرِدِ (فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْإِجَارَةِ) أَيْ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَآجِرَانِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ (وَ) إلَى (الْوَارِثَيْنِ) بِلَفْظِ الْمُثَنَّى أَيْ وَارِثِ الْبَائِعِ وَوَارِثِ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَ وَارِثُ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَارِثُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ أَوْ وَارِثَاهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَارِثِهِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ قَالَ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَ الْوَارِثِينَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ (وَقَوْلُهُ) أَيْ مُحَمَّدٍ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ (إذْ كُلٌّ) مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ (يَدَّعِي) عَلَى صَاحِبِهِ (عَقْدًا غَيْرَ) الْعَقْدِ (الْآخَرِ) الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَيُنْكِرُ مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُهُ بِأَلْفَيْنِ فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْوَارِثِينَ (دُفِعَ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُهُ) أَيْ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ (كَمَا فِي زِيَادَتِهِ وَحَطِّهِ) أَيْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْحَطِّ مِنْهُ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ يَصِيرُ بِعَيْنِهِ بِأَلْفَيْنِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ يَصِيرُ بِعَيْنِهِ بِأَلْفٍ بِالْحَطِّ مِنْهُمَا وَوَافَقَهُمَا مُحَمَّدٌ عَلَى عَدَمِ التَّعْدِيَةِ إلَى الْإِجَارَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّرَادِّ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ لِتَلَاشِي الْمَنَافِعِ وَعَدَمِ تَقَوُّمِهَا بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَلَوْ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ تَبَيَّنَ أَنْ لَا عَقْدَ فَيَرْجِعُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ.
وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُقَيِّدْ خِلَافَهُ بِالْوَارِثَيْنِ لِإِرْشَادِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ وَاعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ كَوْنِهِ قَيْدًا لِمَا يَلِيهِ خَاصَّةً (بِخِلَافِ مَا) ثَبَتَ (بِهِ) أَيْ بِالْقِيَاسِ إنْ كَانَ عَلَى وَفْقِهِ اسْتِحْسَانًا كَانَ أَوْ لَا فَإِنَّهُ يُعَدَّى بِشَرْطِهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَزِمَ أَنْ لَا يُعَدَّى مَا بِغَيْرِ قِيَاسٍ (وَهُوَ) أَيْ مَا ثَبَتَ بِهِ (مَا) أَيْ تَحَالُفُهُمَا الَّذِي (قَبْلَ الْقَبْضِ) لِلْمَبِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ فَإِنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُ وُجُوبَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ الْيَمِينَ يَكُونُ عَلَى الْمُنْكِرِ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى الْبَائِعِ لِيَكُونَ الْبَائِعُ أَيْضًا مُنْكِرًا وَإِذَا كَانَ تَحَالُفُهُمَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ (فَتَعَدَّى) التَّحَالُفُ (إلَيْهِمَا) أَيْ إلَى الْوَارِثِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَاضِيَةِ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْحُكْمُ مَعْقُولٌ فَوَارِثُ الْبَائِعِ يُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ أَوْ وَارِثَهُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي يُطَالِبُ الْبَائِعَ أَوْ وَارِثَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا (وَإِلَى الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ كَتَحَالُفِ الْقَصَّارِ وَرَبَّيْ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُحُ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا (وَفُسِخَتْ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَفِي التَّحَالُفِ ثَمَّ الْفَسْخُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالتَّحَالُفُ مَشْرُوعٌ لِذَلِكَ فَيَجْرِي بَيْنَهُمَا (وَاسْتُشْكِلَ اخْتِصَاصُ قُوَّةِ الْأَثَرِ وَفَسَادِ الْبَاطِنِ مَعَ صِحَّةِ الظَّاهِرِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَقَلْبُهُمَا) أَيْ وَاخْتِصَاصُ ضَعْفُ الْأَثَرِ وَصِحَّةِ الظَّاهِرِ مَعَ فَسَادِ الْبَاطِنِ (بِالْقِيَاسِ) وَالْمُسْتَشْكِلُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ
(3/226)
قَالَ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ (فَأَجْرَى تَقْسِيمَ) أَيْ فَذَكَرَ أَنَّ بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ يَنْقَسِمُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ (بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ) أَيْ قُوَّةِ الْأَثَرِ وَضَعْفِهِ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُمَا (إمَّا قَوِيَّاهُ أَوْ ضَعِيفَاهُ أَوْ الْقِيَاسُ قَوِيُّهُ وَالِاسْتِحْسَانُ ضَعِيفُهُ أَوْ بِالْقَلْبِ) أَيْ الْقِيَاسُ ضَعِيفُهُ وَالِاسْتِحْسَانُ قَوِيُّهُ (وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الِاسْتِحْسَانُ) فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْقَلْبِ.
(وَ) يَتَرَجَّحُ (الْقِيَاسُ فِيمَا سِوَى) الْقِسْمِ (الثَّانِي) وَهُوَ ضَعِيفَاهُ (لِلظُّهُورِ) كَمَا فِي الْأَوَّلِ (وَالْقُوَّةِ) كَمَا فِي الثَّالِثِ (أَمَّا فِيهِ) أَيْ الثَّانِي (فَيَحْتَمِلُ سُقُوطَهُمَا) أَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِضَعْفِهِمَا كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ لِظُهُورِهِ (وَضُعِّفَ) وَفِي التَّلْوِيحِ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ (بِقَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ) وَلَمَّا صَارَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِ هَذَا (فَسَمَّيْنَا مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا) أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا ظَهَرَ أَوْ خَفِيَ وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا ظَهَرَ أَوْ خَفِيَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ نَوْعًا وَاحِدًا ضَعِيفَ الْأَثَرِ فِي الْأَوَّلِ قَوِيَّهُ فِي الثَّانِي وَدُفِعَ بِأَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ قَسَّمَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَمَّا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ فَمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَحَدَ نَوْعَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ النَّوْعِ الْآخَرِ فَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَمِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ بِقَرِينَةِ التَّقَابُلِ وَظَهَرَ مِنْهُ أَنْ لَيْسَ تَسْمِيَتُهُ بِالْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِاعْتِبَارِ ضَعْفِ الْأَثَرِ وَقُوَّتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ خَفَائِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا حَيْثُ اُعْتُبِرَ الْخَفَاءُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَالْجَلَاءُ فِي الْقِيَاسِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْكَلَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَهُوَ) أَيْ الِاصْطِلَاحُ (عَلَى اعْتِبَارِ الْخُلَفَاءِ فِيهِ وَفِي أَثَرِهِ وَفَسَادِهِ) وَالضَّمَائِرُ الْمَجْرُورَةُ لِلِاسْتِحْسَانِ.
وَقَدْ ظَهَرَ انْتِفَاءُ مَا فِي شَرْحِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ لِلشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ مِنْ أَنْ لَا شَيْءَ مِنْ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ مُسَمًّى بِمَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَلَا مِنْ نَوْعَيْ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ (وَبِالثَّانِي) أَيْ وَأَجْرَى التَّقْسِيمَ لَهُمَا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ مَعَ صِحَّةِ الظَّاهِرِ وَقَلْبِهِ أَيْ يَنْقَسِمَانِ بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إلَى أَقْسَامٍ تَظْهَرُ ثَمَرَتُهَا فِي تَعَارُضِهِمَا لِأَنَّهُمَا (إمَّا صَحِيحَا الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ فَاسِدَاهُمَا أَوْ الْقِيَاسُ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحُ الْبَاطِنِ وَالِاسْتِحْسَانُ قَلْبُهُ) أَيْ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ (أَوْ قَلْبُهُ) أَيْ أَوْ الْقِيَاسُ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ وَالِاسْتِحْسَانُ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحُ الْبَاطِنِ (فَصُوَرُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ (سِتَّةَ عَشَرَ) صُورَةً قِيَاسٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ قِيَاسٌ فَاسِدُهُمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ قِيَاسٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِ الْبَاطِنِ لَا الظَّاهِرِ مَعَ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِهِمَا قِيَاسٌ فَاسِدُ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ صَحِيحِهِمَا مَعَ فَاسِدِهِمَا حَاصِلَةٌ (مِنْ أَرْبَعَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ) أَيْ مِنْ ضَرْبِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقِيَاسِ فِي الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلِاسْتِحْسَانِ (فَصَحِيحُهُمَا) أَيْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (مِنْ الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ لِظُهُورِهِ أَوْ صِحَّتِهِ عَلَى أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَا شَكَّ فِي رَدِّ فَاسِدِهِمَا) أَيْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْقِيَاسِ لِفَسَادِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (فَتَسْقُطُ أَرْبَعَةٌ) أَيْ قِيَاسٌ فَاسِدُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِهِمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ كَمَا سَقَطَتْ أَرْبَعَةٌ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ قِيَاسٌ صَحِيحُهُمَا مَعَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ مَعَ اسْتِحْسَانٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ مَعَ اسْتِحْسَانٍ فَاسِدِهِمَا.
(تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ) حَاصِلَةٌ (مِنْ) ضَرْبِ (بَاقِي حَالَاتِ الْقِيَاسِ) وَهُمَا كَوْنُهُ فَاسِدًا لِظَاهِرٍ صَحِيحِ الْبَاطِنِ وَقَلْبِهِ
(3/227)
(مَعَ أَرْبَعَةِ الِاسْتِحْسَانِ) أَيْ فِيهِمَا (يُقَدَّمُ صَحِيحُهُمَا) أَيْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (مِنْهُ) أَيْ الِاسْتِحْسَانِ (عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى بَاقِي حَالَاتِ الْقِيَاسِ لِصِحَّتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَيُرَدُّ فَاسِدُهُمَا) أَيْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ لِفَسَادِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَسَقَطَتْ أَرْبَعَةٌ (تَبْقَى أَرْبَعَةٌ) حَاصِلَةٌ (مِنْ) ضَرْبِ (بَاقِي كُلٍّ) مِنْ حَالَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْآخَرَيْنِ أَحَدُهَا اسْتِحْسَانٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ مَعَ قِيَاسٍ بِالْقَلْبِ ثَانِيهَا اسْتِحْسَانٌ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحُ الْبَاطِنِ مَعَ قِيَاسٍ بِالْقَلْبِ ثَالِثُهَا اسْتِحْسَانٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ مَعَ قِيَاسٍ كَذَلِكَ رَابِعُهَا اسْتِحْسَانٌ صَحِيحُ الْبَاطِنِ فَاسِدُ الظَّاهِرِ مَعَ قِيَاسٍ كَذَلِكَ (فَالِاسْتِحْسَانُ الصَّحِيحُ الْبَاطِنِ الْفَاسِدُ الظَّاهِرِ مَعَ عَكْسِهِ) أَيْ فَاسِدِ الْبَاطِنِ صَحِيحِ الظَّاهِرِ (مِنْ الْقِيَاسِ مُقَدَّمٌ) عَلَى عَكْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ (وَفِي قَلْبِهِ) أَيْ الِاسْتِحْسَانِ الْفَاسِدِ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ الظَّاهِرِ مَعَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْبَاطِنِ الْفَاسِدِ الظَّاهِرِ (الْقِيَاسُ) مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ (كَمَا) الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ (مَعَ الِاسْتِحْسَانِ الصَّحِيحِ الْبَاطِنِ إلَخْ) أَيْ الْفَاسِدِ الظَّاهِرِ (مَعَ مِثْلِهِ) أَيْ الصَّحِيحِ الْبَاطِنِ الْفَاسِدِ الظَّاهِرِ (مِنْ الْقِيَاسِ لِلظُّهُورِ) فِي الْقِيَاسِ (وَيَرِدُ قَلْبُهُمَا) أَيْ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا أَنَّ الْقِيَاسَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَا كَمَا ذَكَرَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ.
(قِيلَ) أَيْ وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (وَالظَّاهِرُ امْتِنَاعُ التَّعَارُضِ فِي هَذَيْنِ) أَيْ صَحِيحِ الْبَاطِنِ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ صِحَّتُهُمَا الْبَاطِنَةُ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي صِحَّةِ الظَّاهِرِ أَوْ دُونَهُ (وَفِي قَوِيِّ الْأَثَرِ) مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ (لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ فِي الشَّرْعِ) عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِحُكْمٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُطْلَقًا أَوْ بِلَا مَانِعٍ يُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَكِنَّهُ قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي فَرْعٍ فَوُجِدَ الْحُكْمُ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ أَيْضًا وَصْفًا آخَرَ عِلَّةً لِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ثُمَّ يُوجَدُ هَذَا الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حُكْمُهُ بِالتَّنَاقُضِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّعَارُضُ لِجَهْلِنَا بِالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ (وَبِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ يَنْتَفِي التَّرْجِيحُ بِالظُّهُورِ أَيْ التَّبَادُرِ إذْ لَا أَثَرَ لَهُ) أَيْ لِلظُّهُورِ (مَعَ اتِّحَادِ جِهَةِ الْإِيجَابِ) لِلْحُكْمِ (بَلْ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ) لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الْكَائِنَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (إنْ جَازَ تَعَارُضُهُمَا بِمَا تَتَرَجَّحُ بِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ غَيْرَ أَنَّا لَا نُسَمِّي أَحَدَهُمَا اسْتِحْسَانًا اصْطِلَاحًا) .
وَحَيْثُ انْجَرَّ الْكَلَامُ إلَى التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ فَلْنُتِمَّهُ بِذِكْرِ التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ عِنْدَ تَعَارُضِهَا فَنَقُولُ (وَهَذِهِ تَتِمَّةٌ فِيهِ) أَيْ فِيمَا تُرَجَّحُ بِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ (يُقَدَّمُ) الْقِيَاسُ الَّذِي هُوَ (مَنْصُوصُ الْعِلَّةِ) أَيْ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ (صَرِيحًا عَلَى مَا) أَيْ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتَةِ عِلَّتُهُ (بِإِيمَاءٍ) مِنْ النَّصِّ لِأَنَّهُ دُونَ الصَّرِيحِ ثُمَّ فِي الْإِيمَاءِ يُرَجَّحُ مَا يُفِيدُ ظَنًّا أَغْلَبَ وَأَقْرَبَ إلَى الْقَطْعِ عَلَى غَيْرِهِ (وَمَا بِقَطْعِيٍّ عَلَى مَا بِظَنِّيٍّ وَمَا غَلَبَ ظَنُّهُ) أَيْ وَالْقِيَاسُ الثَّابِتُ عِلِّيَّةُ عِلَّتِهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتِ عِلِّيَّةُ عِلَّتِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ أَوْ غَالِبِ الظَّنِّ لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْعِلِّيَّةِ بِخِلَافِهِمَا وَمَا غَلَبَ ظَنُّهُ عَلَى مَا لَمْ يَغْلِبْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقَطْعِ مِنْهُ (وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ) الْعِلَّةِ (ذَاتِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ) أَيْ الثَّابِتَةِ بِهِ (عَلَى) الْعِلَّةِ (الْمَنْصُوصَةِ) بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ عَنْ الْأُصُولِيِّينَ تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ الثَّابِتِ حُكْمُ أَصْلِهِ بِالنَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتِ حُكْمُ أَصْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وَالْبَيْضَاوِيُّ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ قَابِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَاسْتَشْكَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ هَذَا بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعٌ عَلَى النَّصِّ لِأَنَّ حُجِّيَّتَهُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْأَصْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَرْعِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ نَعَمْ إنْ كَانَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَنْصُوصَةِ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ بِقَطْعِيٍّ غَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ الْإِجْمَاعِ التَّخْصِيصَ وَالتَّأْوِيلَ فَلَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَنْصُوصَةُ ثَابِتَةً بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ مُفَسَّرٍ أَوْ مُحْكَمٍ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِهَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مَا قِيلَ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ الْإِجْمَاعِ النَّسْخَ فَلَا يَتِمُّ فِي الْمَنْصُوصَةِ
(3/228)
بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ مُحْكَمٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَمَشَى السُّبْكِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَتَقْدِيمِ الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ عَلَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ (وَمَا بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَا بِالْمُنَاسَبَةِ) أَيْ وَتَقْدِيمُ الْقِيَاسِ الثَّابِتِ عِلِّيَّةُ عِلَّتِهِ بِإِيمَاءِ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتِ عِلِّيَّةُ عِلَّتِهِ بِالْمُنَاسَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْلَى بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ وَمَشَى الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْإِيمَاءِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي وَصْفًا مُنَاسِبًا وَالْإِيمَاءُ لَا لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ لَا وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ حَيْثُ تَوَافَقَا فِي الثُّبُوتِ بِالْمُنَاسَبَةِ (فَمَا) أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي (عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ) أَيْ الْحُكْمُ (أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ عَلَى مَا) أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي (عُرِفَ بِهِ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ (تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي نَوْعِهِ) أَيْ الْحُكْمِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَخَصَّ كَانَ الظَّنُّ بِالْعِلِّيَّةِ أَقْوَى وَالْأَقْوَى مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دُونَهُ.
(وَهَذَا) الْوَصْفُ الَّذِي عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ (أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ) وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ نَوْعِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ شَأْنِ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ شَأْنِ الْعِلَّةِ ذَكَرَهُ فِي التَّلْوِيحِ وَيُخَالِفُهُ مَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشُرُوحِهِ مِنْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ مِنْ اللَّذَيْنِ الْمُشَارَكَةُ فِيهِمَا فِي عَيْنٍ وَاحِدٍ وَجِنْسُ الْآخَرِ مَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي التَّعْدِيَةِ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ فَرْعُ تَعْدِيَتِهَا فَكُلَّمَا كَانَ التَّشَابُهُ فِي عَيْنِهَا أَكْثَرَ كَانَ أَقْوَى (وَكُلٌّ مِنْهُمَا) أَيْ هَذَيْنِ (أَوْلَى مِنْ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ) أَيْ مِمَّا عُرِفَ بِطَرِيقَةِ تَأْثِيرِ جِنْسِ الْوَصْفِ فِيهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا (ثُمَّ الْجِنْسُ الْقَرِيبُ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ) أَوْلَى (مِنْ) الْجِنْسِ (غَيْرِ الْقَرِيبِ) فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ (وَتَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ (أَنَّ الْمُرَكَّبَ أَوْلَى مِنْ الْبَسِيطِ) وَذَكَرْنَا ثَمَّةَ وَجْهَهُ وَمَا عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ التَّعَقُّبِ (وَأَقْسَامِ الْمُرَكَّبَاتِ) يُقَدَّمُ فِيهَا (مَا تَرْكِيبُهُ أَكْثَرُ) عَلَى مَا تَرْكِيبُهُ أَقَلُّ (وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ رَاجِحَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُرَكَّبِ (مِنْ مُسَاوٍ وَمَرْجُوحٍ) فَضْلًا عَنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ مَرْجُوحَيْنِ (فَيُقَدَّمُ مَا) أَيْ الْمُرَكَّبُ (مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ وَالْجِنْسِ الْقَرِيبِ) فِي الْعَيْنِ (عَلَى مَا) أَيْ الْمُرَكَّبِ (مِنْ) تَأْثِيرِ (الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ وَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا سَبَقَ) مِنْ الْمُرَكَّبَاتِ وَغَيْرِهَا (أَقْسَامٌ) أُخَرُ كَالْمُرَكَّبَيْنِ الْمُشْتَمِلِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى رَاجِحٍ وَمَرْجُوحٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِيهِ مَا يَكُونُ الرَّاجِحُ فِي جَانِبِ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْعِلَّةِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ.
وَيُعَارِضُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيُقَدِّمُ مَا يَقْطَعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي فَرْعِهِ عَلَى مَا يَظُنُّ وُجُودَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْقَادِحِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالتَّتَبُّعِ وَالتَّأَمُّلِ (وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَرَجُّحُ الْمَظِنَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ) أَيْ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ قَالُوا لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَظِنَّةِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ بِالْحِكْمَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي) أَنْ يَكُونَ هَذَا (عِنْدَ عَدَمِ انْضِبَاطِهَا) أَيْ الْحِكْمَةِ.
قُلْت حَكَى الْآمِدِيُّ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَعَارُضَ لِيَحْتَاجَ إلَى التَّرْجِيحِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْمَظِنَّةِ وَالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ تَرَجُّحُ الْمَظِنَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْبَيْضَاوِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَوْ بِمَا أَلْحَقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ وَالْجَوَازُ إنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ مُخْتَارُ الْآمِدِيِّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ جَرَيَانَ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا وَالتَّرْجِيحُ الْمَذْكُورُ بِلَا حَاجَةٍ إلَى الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ وَيَتَرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ عَلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَدْعُو إلَى شَرْعِ الْحُكْمِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِاشْتِمَالِ الْعَدَمِ عَلَى نَوْعِ مَصْلَحَةٍ فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ بِالْمَصْلَحَةِ أَوْلَى وَهَذَا وَإِنْ اقْتَضَى تَرْجِيحَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ لَكِنْ عَارَضَهُ كَوْنُ
(3/229)
الْحَقِيقِيِّ أَضْبَطَ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَعَلَى هَذَا فَالتَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ رَاجِحٌ عَلَيْهِ بِالْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ وَالتَّقْدِيرِيَّة لِأَنَّهَا عَدَمِيَّةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ) أَيْ التَّعْلِيلُ بِهِ لِلْحُكْمِ الْوُجُودِيِّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِيِّ لِلْعَدَمِيِّ أَوْ لِلْوُجُودِيِّ وَبِالْوُجُودِيِّ لِلْعَدَمِيِّ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ وَالْمَعْلُولِيَّة وَصْفَانِ ثُبُوتِيَّانِ فَحَمْلُهُمَا عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا قُدِّرَ الْمَعْدُومُ مَوْجُودًا وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّهُمَا عَدَمِيَّانِ كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لِكَوْنِهِمَا مِنْ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ ثُمَّ يَلِي هَذَا فِي الْأَوْلَوِيَّةِ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ تَعْلِيلُ الْعَدَمِيِّ بِالْعَدَمِيِّ لِلْمُشَابَهَةِ وَتَوَقَّفَ هُوَ وَصَاحِبُ التَّحْصِيلِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ وَعَكْسِهِ.
وَجَزَمَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ بِأَنَّ تَعْلِيلَ الْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ هَذَا وَهَلْ يَتَرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِيِّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَفِي الْمَحْصُولِ وَالْحَاصِلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ التَّرْجِيحُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْوُجُودِيَّ وَأَنْ يُقَالَ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ الْعَدَمَ أَشْبَهُ بِالْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ اتِّصَافَ الشَّيْءِ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعٍ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَرَجَّحَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ وَالْبَيْضَاوِيُّ الْعَدَمِيَّ وَيَلْزَمُهُ كَوْنُ التَّقْدِيرِيِّ أَوْلَى مِنْ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ التَّقْدِيرِيَّ عَدَمِيٌّ لَكِنْ جَزَمَ فِي الْمَحْصُولِ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالشَّرْعِيِّ تَعْلِيلٌ بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ فَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ فَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْعَدَمِيِّ أَيْضًا وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ مَشَى عَلَى هَذَا حَيْثُ قَالَ (وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ) أَيْ يَتَرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ بَلْ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْوُجُودِيَّ وَالْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ سَوَاءٌ (وَالْبَسِيطُ) أَيْ وَيَتَرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْبَسِيطِ عَلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِ أَقَلُّ فَيَبْعُدُ عَنْ الْخَطَأِ بِخِلَافِ الْمُرَكَّبِ وَقِيلَ الْكَثِيرُ الْأَوْصَافِ أَوْلَى (وَالْحَنَفِيَّةُ) عَلَى أَنَّ الْبَسِيطَ (كَالْمُرَكَّبِ) وَهُوَ مُقْتَضَى بُرْهَانِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ أَوْلَى مِنْ الْبَسِيطِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ ثَمَّةَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّدُ جِهَاتُ اعْتِبَارِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَعُدَ أَنَّهُ ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ فِي الْمَحَلِّ ثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ إلَخْ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ بَسِيطًا كَالْإِسْكَارِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ذُو جُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ (وَلَيْسَ الْبَسِيطُ مُقَابِلًا لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ وَمَا بِالْمُنَاسَبَةِ) أَيْ وَيُرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ عِلِّيَّتُهُ بِالْمُنَاسَبَةِ (أَيْ الْإِخَالَةِ عَلَى مَا بِالشَّبَهِ وَالدَّوَرَانِ) أَيْ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ عِلِّيَّتُهُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِالْمُنَاسَبَةِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِهِمَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَةِ الْمَصْلَحَةِ ثُمَّ مَا بِالشَّبَهِ عَلَى مَا بِالدَّوَرَانِ لِقُرْبِهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَقِيلَ يُقَدَّمُ مَا بِالدَّوَرَانِ عَلَى مَا بِالْمُنَاسَبَةِ وَالشَّبَهِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ اطِّرَادَ الْعِلَّةِ وَانْعِكَاسَهَا بِخِلَافِهِمَا (وَمَا بِالسَّبْرِ) أَيْ وَيُرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ عِلِّيَّتُهُ بِالسَّبْرِ (عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّابِتِ عِلِّيَّةُ وَصْفِهِ بِالشَّبَهِ وَالتَّعْلِيلِ الثَّابِتِ عِلِّيَّةُ وَصْفِهِ بِالدَّوَرَانِ كَمَا اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَعَلَّلَ) وَتَرْجِيحُ مَا بِالسَّبْرِ عَلَيْهِمَا كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشُرُوحِهِ (بِمَا فِيهِ) أَيْ السَّبْرِ (مِنْ التَّعَرُّضِ لِنَفْيِ الْمُعَارِضِ) بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ.
وَالْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ مُقْتَضِيهِ فِي الْأَصْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِفَاءِ مُعَارِضِ مُقْتَضِيهِ فِيهِ أَيْضًا فَمَا دَلَّ عَلَيْهِمَا أَوْلَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَقَدْ يُقَالُ فَكَذَا الدَّوَرَانُ) يَتَرَجَّحُ الْوَصْفُ الثَّابِتُ عِلِّيَّتُهُ بِهِ عَلَى الْوَصْفِ الثَّابِتِ عِلِّيَّتُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقِ (لِزِيَادَةِ إثْبَاتِ الِانْعِكَاسِ) أَيْ لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْهُ مُطَّرِدَةٌ مُنْعَكِسَةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ تَقْدِيمُ الدَّوَرَانِ لِإِثْبَاتِهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ (تَقْدِيمُ مَا بِالسَّبْرِ عَلَى مَا بِالدَّوَرَانِ) لِتَحَقُّقِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا فِيهِ (لِانْعِكَاسِ عِلَّتِهِ) أَيْ الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ بِهِ (لِلْحَصْرِ) أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ حَصْرُ الْأَوْصَافِ الصَّالِحَةِ لِلْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا فِي عَدَدٍ ثُمَّ إلْغَاءُ بَعْضِهَا بِطَرِيقِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ (وَيَزِيدُ) السَّبْرُ عَلَى الدَّوَرَانِ (بِنَفْيِ الْمُعَارِضِ فَيَبْطُلُ مَا قِيلَ) أَيْ مَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ (مِنْ عَكْسِهِ) أَيْ تَقْدِيمِ مَا بِالدَّوَرَانِ عَلَى مَا بِالسَّبْرِ قُلْت وَلَمْ يَظْهَرْ فِي السَّبْرِ تَعَرُّضٌ لِثُبُوتِ الِانْعِكَاسِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَصْرِ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَا الْإِلْغَاءُ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ
(3/230)
بَلْ إنَّمَا يُشْبِهُ بَعْضَ طُرُقِ الْإِلْغَاءِ الْعَكْسِ وَلَيْسَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ نَعَمْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ السَّبْرِ عَلَى الدَّوَرَانِ بِمَا تَقَدَّمَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ إلَّا بِنَفْيِ الْمُعَارِضِ وَالِاخْتِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ فِي الْعِلَّةِ ثُمَّ فِي الْمَحْصُولِ وَهَذَا إذَا كَانَ السَّبْرُ مَظْنُونًا. فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ.
(وَلَا يُتَصَوَّرُ) هَذَا التَّرْجِيحُ (لِلْحَنَفِيَّةِ) لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ هَذِهِ طُرُقًا صَحِيحَةً لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ؛ وَالتَّرْجِيحُ فَرْعُ كَوْنِهَا كَذَلِكَ بَلْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ السَّبْرَ مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَيَسْقُطُ مَا عَدَاهُ فَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا وُجُودُ التَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَالضَّرُورِيَّةُ عَلَى الْحَاجِيَّةِ وَالدِّينِيَّةُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهَا) أَيْ وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْسَامٌ مِنْ الْمُنَاسِبِ رَجَحَتْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَصْلَحَةِ فَرَجَحَتْ الْمَقَاصِدُ الْخَمْسَةُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسْلِ وَالْمَالِ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ
لِزِيَادَةِ مَصْلَحَةِ الضَّرُورِيَّةِ
وَلِذَا لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ مِنْ مُرَاعَاتِهَا (وَهِيَ) أَيْ وَرَجَحَتْ الْحَاجِيَّةُ (عَلَى مَا بَعْدَهَا) وَهِيَ الْمَقَاصِدُ التَّحْسِينِيَّةُ لِتَعَلُّقِ الْحَاجَةِ بِالْحَاجِيَّةِ دُونَ التَّحْسِينِيَّةِ (وَمُكَمِّلُ كُلٍّ) مِنْ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّة (مِثْلُهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمُكَمِّلُ (فَمُكَمِّلُهُ) أَيْ الضَّرُورِيِّ مُرَجَّحٌ (عَلَى الْحَاجِيِّ) فَضْلًا عَنْ مُكَمِّلِهِ لِقُرْبِ الْمُكَمِّلِ مِنْ الْمُكَمَّلِ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ مِثْلَهُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ كَوْنِ مُكَمِّلِ كُلٍّ مِثْلَهُ (ثَبَتَ) شَرْعًا مِنْ الْحَدِّ (فِي) شُرْبِ (قَلِيلِ الْخَمْرِ) وَلَوْ قَطْرَةً (مَا) ثَبَتَ مِنْهُ (فِي) شُرْبِ (كَثِيرِهَا وَيُقَدَّمُ حِفْظُ الدِّينِ) مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ عَلَى مَا عَدَاهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَغَيْرُهُ مَقْصُودٌ مِنْ أَجْلِهِ وَلِأَنَّ ثَمَرَتَهُ أَكْمَلُ الثَّمَرَاتِ وَهِيَ نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(ثُمَّ) يُقَدَّمُ حِفْظُ (النَّفْسِ) عَلَى حِفْظِ النَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْعِبَادَاتِ وَحُصُولُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ (ثُمَّ) يُقَدَّمُ حِفْظُ (النَّسَبِ) عَلَى الْبَاقِيَيْنِ لِأَنَّهُ لِبَقَاءِ نَفْسِ الْوَلَدِ إذْ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا لَا يَحْصُلُ اخْتِلَاطُ النَّسَبِ فَيُنْسَبُ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَهْتَمَّ بِتَرْبِيَتِهِ وَحِفْظِ نَفْسِهِ وَإِلَّا أُهْمِلَ فَتَفُوتُ نَفْسُهُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى حِفْظِهَا (ثُمَّ) يُقَدِّمُ حِفْظَ (الْعَقْلِ) عَلَى حِفْظِ الْمَالِ لِفَوَاتِ النَّفْسِ بِفَوَاتِهِ حَتَّى أَنَّ الْإِنْسَانَ بِفَوَاتِهِ يَلْتَحِقُ بِالْحَيَوَانَاتِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَمِنْ ثَمَّةَ وَجَبَ بِتَفْوِيتِهِ مَا وَجَبَ بِتَفْوِيتِ النَّفْسِ وَهِيَ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ قُلْت وَلَا يَعْرَى كَوْنُ بَعْضِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ مُفِيدَةً لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ تَأَمُّلٍ (ثُمَّ) حِفْظُ (الْمَالِ وَقِيلَ) يُقَدِّمُ (الْمَالَ) أَيْ حِفْظَهُ فَضْلًا عَنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ (عَلَى) حِفْظِ (الدِّينِ) كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَقَدْ كَانَ الْأَحْسَنُ تَقْدِيمَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الدِّينِيِّ لِأَنَّهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ وَالْمُشَاحَّةِ وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ وَالدِّينِيُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّيْسِيرِ وَالْمُسَامَحَةِ وَهُوَ لِغِنَاهُ وَتَعَالِيهِ لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ (وَلِذَا) أَيْ تَقْدِيمِ هَذِهِ عَلَى الدِّينِيِّ (تُتْرَكُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ) وَهُمَا دِينِيَّانِ (لِحِفْظِهِ) أَيْ الْمَالِ وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ (وَلِأَبِي يُوسُفَ تُقْطَعُ) الصَّلَاةُ (لِلدِّرْهَمِ) وَلَفْظُ الْخُلَاصَةِ وَلَوْ سُرِقَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ دِرْهَمٌ يَقْطَعُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ انْتَهَى وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى أَحَدٍ وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَطْعِ صَلَاتِهِ وَلَا فَصْلَ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَدَّرُوا ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ حَقِيرٌ فَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُ ذَمِيمٌ (وَقُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ) عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقَتْلِ بِهِمَا فَإِنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَأَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لِحِفْظِ النَّفْسِ وَقَتْلُ الرِّدَّةِ أَمْرٌ دِينِيٌّ (وَرَدُّ) كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي تَقْدِيمِ قَتْلِ الْقِصَاصِ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ تَقْدِيمُ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ (بِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقَّهُ تَعَالَى) وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَالتَّصَرُّفُ بِمَا يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِهَا فَقُدِّمَ لِتَرَجُّحِهِ بِاجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ وَإِيضَاحِهِ كَمَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الشَّارِعَ لَا مَقْصِدَ لَهُ فِي إزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ إنَّمَا مَقْصِدُهُ
(3/231)
دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَهُدَاهُمْ وَإِرْشَادُهُمْ.
فَإِنْ حَصَلَ فَهُوَ الْغَايَةُ وَإِلَّا تَعَيَّنَ حَسْمُ الْفَسَادِ بِإِرَاقَةِ دَمِ مَنْ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهِ فَإِرَاقَةُ دَمِ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَائِهِ لَا لِقَصْدٍ فِي الْإِزْهَاقِ فَإِذَا زَاحَمَهُ قَتْلُ الْقِصَاصِ وَكَانَ وَلِيُّ الدَّمِ لَا قَصْدَ لَهُ إلَّا التَّشَفِّيَ بِاسْتِيفَاءِ ثَأْرِ مُوَلِّيهِ سَلَّمْنَاهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ الْمَقْصِدَانِ جَمِيعًا لِتَطْهُرَ الْأَرْضُ مِنْ الْمُفْسِدِينَ بِإِرَاقَةِ دَمِ هَذَا الْكَافِرِ وَبِتَشَفِّي وَلِيِّ الدَّمِ وَلَا كَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الرِّدَّةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ مَقْصِدُ وَلِيِّ الدَّمِ بِالْأَصَالَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَى وَلِيِّ الدَّمِ لَيْسَ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا فِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْآدَمِيِّ إذْ لَوْ كَانَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ كَمَا قِيلَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَحْضَةِ وَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ بِاسْتِدْعَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ وَلَوْ عَفَا عَنْهُ كَانَ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاؤُهُ انْتَهَى فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ نَعَمْ الْغَالِبُ فِي الْقِصَاصِ حَقُّ الْعَبْدِ.
وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ كَمَا سَلَفَ ذَلِكَ فِي تَقْسِيمِ الْحَنَفِيَّةِ لِمُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَالْأَوَّلُ) أَيْ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِحِفْظِ الْمَالِ (لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ (إذْ لَهُ) أَيْ لِتَرْكِهِمَا (خَلَفٌ) يُجْبَرَانِ بِهِ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالِانْفِرَادُ بِالصَّلَاةِ وَإِنْ فَاتَ فِيهَا صِفَتُهَا الَّتِي هِيَ الْجَمَاعَةُ وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَائِتٍ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّرْكِ مُطْلَقًا وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ لِسَرِقَةِ دِرْهَمٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إلَى خَلَفٍ مِنْ إعَادَةٍ أَوْ قَضَاءٍ لَا إلَى تَرْكٍ بِالْكُلِّيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَأَمَّا) تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمُعَارِضِ لَهُ (بِتَرْجِيحِ دَلِيلِ حُكْمِ أَصْلِهِ عَلَى دَلِيلِ حُكْمِ) الْأَصْلِ (الْآخَرِ) كَكَوْنِ دَلِيلِ حُكْمِ أَصْلِ أَحَدِهِمَا مُتَوَاتِرًا أَوْ مُحْكَمًا أَوْ حَقِيقَةً أَوْ صَرِيحًا أَوْ عِبَارَةً بِخِلَافِ الْآخَرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (فَلِلنُّصُوصِ بِالذَّاتِ) لَا لِلْقِيَاسِ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ (وَتَرَكْنَا أَشْيَاءَ مُتَبَادِرَةً) مِنْ تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ الْمُتَعَارِضَةِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِهَا لِلْمُتْقِنِ مَا سَبَقَ مِنْ الْمَبَاحِثِ كَكَوْنِ أَحَدِهِمَا عِلَّتُهُ مُنْضَبِطَةٌ وَعِلَّةُ الْآخَرِ مُضْطَرِبَةٌ أَوْ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ فَكُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَتْ الْحِكْمَةُ وَكُلَّمَا انْتَفَتْ انْتَفَتْ الْحِكْمَةُ وَعِلَّةُ الْآخَرِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمُثَارُهَا زِيَادَةُ غَلَبَةِ الظَّنِّ (وَتَتَعَارَضُ الْمُرَجِّحَاتِ) لِلْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ كَمَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُتَعَارِضَاتِ (فَيَحْتَمِلُ) التَّرْجِيحُ (الِاجْتِهَادَ كَالْمُلَائِمَةِ وَالْبَسِيطَةِ) .
قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي أَنَّ الْقِيَاسَ بِعِلَّةٍ ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهَا بِالْمُلَائِمَةِ تُرَجَّحُ عَلَى مَا بِالدَّوَرَانِ مَثَلًا فَلَوْ كَانَتْ الْمُلَائِمَةُ مُرَكَّبَةً وَالْمُطَّرِدَةُ الْمُنْعَكِسَةُ بَسِيطَةً تَعَارَضَ مُرَجِّحَانِ وَاحْتَمَلَ التَّرْجِيحُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ (وَعَادَةُ الْحَنَفِيَّةِ ذِكْرُ أَرْبَعَةٍ) مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْقِيَاسِ (قُوَّةُ الْأَثَرِ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْحُكْمِ وَكَثْرَةُ الْأُصُولِ وَالْعَكْسُ فَأَمَّا قُوَّةُ الْأَثَرِ) أَيْ التَّأْثِيرِ فَلِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَ الْوَصْفُ حُجَّةً فَمَهْمَا قَوِيَ قَوِيَتْ لِأَنَّ قُوَّةَ الْمُسَبِّبِ يُسَبِّبُ قُوَّةَ سَبَبِهِ فَإِذَا قَوِيَ أَثَرُ وَصْفٍ عَلَى أَثَرِ وَصْفٍ آخَرَ زَادَتْ قُوَّتُهُ عَلَى قُوَّتِهِ فَتَرَجَّحَتْ حُجَّتُهُ عَلَى حُجَّتِهِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقُوَّةِ مُرَجَّحَةٌ فَتَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِهِ وَسَقَطَ الْآخَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ (مَا ذُكِرَ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ فَإِذَا تَعَارَضَا فَأَيُّهُمَا كَانَ أَثَرُ وَصْفِهِ أَقْوَى قُدِّمَ كَمَا تَقَدَّمَ (وَمِنْهُ) أَيْ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ (فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ) لِلْحُرِّ (مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ) أَيْ قُدْرَتِهِ عَلَى تَزَوُّجِهَا بِأَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَهْرِهَا وَنَفَقَتِهَا وَالْأَصْلُ الطَّوْلُ عَلَى الْحُرَّةِ أَيْ الْفَضْلُ فَاتَّسَعَ فِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ ثُمَّ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إلَى الْمَفْعُولِ فَقُلْنَا يَجُوزُ لَهُ إذْ (يَمْلِكُهُ) أَيْ نِكَاحَ الْأَمَةِ (الْعَبْدُ) مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي نِكَاحِ مَنْ شَاءَ مِنْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَيَدْفَعَ لَهُ مَهْرًا يَصْلُحُ لَهُمَا (فَكَذَا الْحُرُّ) يَمْلِكُهُ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ قِيَاسًا عَلَى الْحُرِّ الَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ إجْمَاعًا فَإِنَّ قِيَاسَنَا (أَقْوَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ بِجَامِعِ إرْقَاقِ مَائِهِ مَعَ غُنْيَتِهِ) عَنْ إرْقَاقِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا وَصْفًا بَيِّنَ الْأَثَرِ فِي الْمَنْعِ إذْ الْإِرْقَاقُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِأَنَّهُ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمًا فَكَمَا يَحْرُمُ قَتْلُ وَلَدِهِ شَرْعًا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إرْقَاقُهُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ وَلِهَذَا يُخَيَّرُ الْإِمَامُ
(3/232)
فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ فَلَا يُبَاحُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا قِيَاسُنَا أَقْوَى (لِأَنَّ أَثَرَ الْحُرِّيَّةِ فِي اتِّسَاعِ الْحِلِّ أَقْوَى مِنْ الرِّقِّ فِيهِ) أَيْ فِي اتِّسَاعِ الْحِلِّ (تَشْرِيفًا) لِلْحُرِّ (كَالطَّلَاقِ) فَإِنَّ كَوْنَهُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَاهَا فِي جَانِبِ الزَّوْجَةِ وَاعْتَبَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ (وَالْعِدَّةِ) فَإِنَّهَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْرُؤٍ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ وَفِي حَقِّ الْأَمَةِ قُرْآنِ، وَشَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ (وَالتَّزَوُّجِ) فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلْحُرِّ أَرْبَعٌ وَلِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ (وَكَثِيرٍ) مِنْ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا إذْ بِهَا يَكُونُ أَهْلًا لِلْوِلَايَاتِ وَيَمْلِكُ الْأَشْيَاءَ فَيَكُونُ تَأْثِيرُهَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالِاتِّسَاعِ فِي بَابِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ النِّعَمِ لَا فِي الْمَنْعِ وَالْحَجْرِ وَالرِّقِّ مِنْ أَوْصَافِ النُّقْصَانِ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْآدَمِيِّ بِهِ لِلْوِلَايَاتِ وَالتَّمَلُّكَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ فِي الْمَنْعِ وَالتَّضْيِيقِ فَلَوْ اتَّسَعَ الْحِلُّ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْعَبْدِ وَضَاقَ عَلَى الْحُرِّ بِأَنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ لَكَانَ قَلَبَ الْمَشْرُوعَ وَعَكَسَ الْمَعْقُولَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّرَفِ وَلِهَذَا جَازَ لِمَنْ كَانَ أَفْضَلَ الْبَشَرِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ.
قُلْت وَأَمَّا مَا فِي التَّلْوِيحِ وَرُبَّمَا يُجَابُ أَنَّ هَذَا التَّضْيِيقَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ حَيْثُ مُنِعَ الشَّرِيفُ مِنْ تَزَوُّجِ الْخَسِيسِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَظِنَّةِ الْإِرْقَاقِ وَذَلِكَ كَمَا جَازَ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ لِلْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ انْتَهَى فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إذْ لَا خِسَّةَ كَالْكُفْرِ وَقَدْ جَازَ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمِ الْقَادِرِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ بِالْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ
(وَمَنْعُ) الشَّارِعِ مِنْ (الْإِرْقَاقِ وَإِنْ تَضَمَّنَهُ) أَيْ التَّشْرِيفَ (لَكِنَّهُ) أَيْ الْإِرْقَاقَ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ (مُنْتَفٍ لِأَنَّ اللَّازِمَ) مِنْ تَزَوُّجِهَا (الِامْتِنَاعُ عَنْ) إيجَادِ (الْجُزْءِ) أَيْ الْوَلَدِ (الْحُرِّ) إذْ الْمَاءُ لَيْسَ بِوَلَدٍ وَلَا يُوصَفُ بِالْحُرِّيَّةِ بَلْ هُوَ قَابِلٌ لَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْحُرُّ وَالرَّقِيقُ فَتَزَوُّجُهَا امْتِنَاعٌ مِنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ فَحِينَ يُخْلَقُ يُخْلَقُ رَقِيقًا (لَا) أَنَّ اللَّازِمَ مِنْهُ (إرْقَاقُهُ) أَيْ الْجُزْءُ أَيْ لَا أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ إلَى الرِّقِّ وَالْهَلَاكُ إنَّمَا هُوَ فِي إرْقَاقِ الْحُرِّ (وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ) أَيْ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجُزْءِ الْحُرِّ هُوَ (الْمُرَادُ بِالْإِرْقَاقِ نُقِضَ بِنِكَاحِ الْعَبْدِ الْقَادِرِ) عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ (أَمَةً لِأَنَّ مَاءَهُ) أَيْ الْعَبْدِ إذَا تَخَلَّقَ مِنْهُ وَلَدٌ فِي الْحُرَّةِ (حُرٌّ إذْ الرِّقُّ مِنْ الْأُمِّ لَا الْأَبِ) وَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا (وَبِعَزْلِ الْحُرِّ) عَنْ أَمَتِهِ مُطْلَقًا وَعَنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ بِرِضَاهَا وَبِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَالْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَإِنَّ الْعَزْلَ وَمَا مَعَهُ إتْلَافٌ حَقِيقَةً وَالْإِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا إذْ فِي الْعَزْلِ وَنَحْوِهِ يَفُوتُ أَصْلُ الْوَلَدِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى وُجُودُهُ وَفِي الْإِرْقَاقِ إنَّمَا يَفُوتُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ لَا أَصْلُ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّهُ يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِتْقِ وَإِذَا جَازَ الْأَوَّلُ كَانَ الثَّانِي بِالْجَوَازِ أَحْرَى (وَمِنْهُ) أَيْ وَمِنْ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ فِي نَفْيِ اسْتِنَانِ تَثْلِيثِ مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى الْقِيَاسِ بِاسْتِنَانِ تَثْلِيثِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مَسْحُ الرَّأْسِ (مَسْحٌ فَلَا يُثَلَّثُ كَالْخُفِّ) أَيْ كَمَسْحِهِ فَإِنَّ قِيَاسَنَا هَذَا (أَقْوَى أَثَرًا) فِي مَنْعِ التَّثْلِيثِ (مِنْ) أَثَرِ (قِيَاسِهِ) فِي اسْتِنَانِ التَّثْلِيثِ وَهُوَ مَسْحُ الرَّأْسِ (رُكْنٌ فَيُثَلَّثُ كَالْمَغْسُولِ) أَيْ كَغُسْلِ الْوَجْهِ أَوْ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ كَوْنُ قِيَاسِنَا أَقْوَى أَثَرًا مِنْ أَثَرِ قِيَاسِهِ (بَعْدَ تَسْلِيمِ تَأْثِيرِهِ) أَيْ كَوْنِهِ رُكْنًا فِي التَّثْلِيثِ (فِي الْأَصْلِ) وَهُوَ الْمَغْسُولُ وَإِنَّمَا قُلْنَا قِيَاسُنَا أَقْوَى حِينَئِذٍ.
(فَإِنْ شَرْعَهُ) أَيْ مَسْحَ الرَّأْسِ (مَعَ إمْكَانِ شَرْعِ غَسْلِ الرَّأْسِ وَخُصُوصًا مَعَ عَدَمِ اسْتِيعَابِ الْمَحَلِّ) أَيْ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ فَرْضًا (لَيْسَ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ) وَهُوَ فِي عَدَمِ التَّكْرَارِ فَظَهَرَ أَنَّ تَأْثِيرَ قِيَاسِنَا أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ قِيَاسِهِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَسْلَمْ تَأْثِيرُ الرُّكْنِيَّةِ فِي التَّثْلِيثِ (فَقَدْ نُقِضَ) كَوْنُ الرُّكْنِيَّةِ مُؤَثِّرَةً فِي التَّثْلِيثِ (طَرْدًا وَعَكْسًا لِوُجُودِهِ) أَيْ التَّثْلِيثِ.
(وَلَا رُكْنَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَوُجُودُ الرُّكْنِ دُونَهُ) أَيْ التَّثْلِيثِ (كَثِيرٌ) كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَغَيْرِهِ وَأَرْكَانِ الْحَجِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ بِهَا أَصْلًا.
فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ رُكْنًا كَوْنُهُ رُكْنًا فِي الْوُضُوءِ لَا مُطْلَقُ الرُّكْنِيَّةِ فَلَا يَرِدُ أَرْكَانُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ
(3/233)
أُجِيبَ بِأَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إيرَادَ النَّقْضِ بِسَائِرِ الْأَرْكَانِ بَلْ بَيَانَ أَنَّ الرُّكْنِيَّةَ وَإِنْ سَلِمَ تَأْثِيرُهَا فِي الْوُضُوءِ فَلَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ فِي غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي التَّكْرَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَوَصْفُ الْمَسْحِ مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى.
(وَأَمَّا الثَّبَاتُ) أَيْ قُوَّةُ ثَبَاتِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي يَشْهَدُ الْوَصْفُ بِثُبُوتِهِ (فَكَثْرَةُ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ) أَيْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ ذَلِكَ الْوَصْفَ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَيْ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَلْزَمَ لِلْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنْ وَصْفِ الْقِيَاسِ الْآخَرِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَزْدَادُ قُوَّةً لِفَضْلِ مَعْنَاهُ الَّذِي صَارَ بِهِ حُجَّةً وَهُوَ رُجُوعُ أَثَرِهِ إلَى الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ الْمُتَوَقِّفِ اعْتِبَارُهُ عَلَى ثُبُوتِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَكَانَ زِيَادَةُ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ ثَابِتَةً بِأَحَدِهَا أَيْضًا كَثُبُوتِ أَصْلِ الْأَثَرِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ (كَالْمَسْحِ فِي) دَلَالَتِهِ عَلَى (التَّخْفِيفِ فِي كُلِّ تَطْهِيرٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالتَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَالْجَوْرَبِ وَالْخُفِّ) فَإِنَّ الْمَسْحَ فِي هَذِهِ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مَسْحٌ وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّكْرَارُ لِأَنَّهُ عَقْلٌ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ إذْ الْمَقْصُودُ التَّنْقِيَةُ وَالتَّكْرَارُ يُؤَثِّرُ فِي تَحْصِيلِهَا.
وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا حَصَلَتْ بِمَرَّةٍ لَا يُكَرَّرُ الْمَسْحُ فَكَانَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ لَهُ التَّكْرَارُ أَثْبَتُ مِنْ دَلَالَةِ الرُّكْنِ عَلَى التَّكْرَارِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ فَيُسَنُّ لَهُ التَّكْرَارُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الرُّكْنِ فَإِنَّ أَثَرَهُ) أَيْ الرُّكْنَ (فِي الْإِكْمَالِ وَهُوَ) أَيْ الْإِكْمَالُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (الْإِيعَابُ) بِالْمَسْحِ لِلْمَحَلِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ لَا فِي سُنِّيَّةِ التَّكْرَارِ لِانْتِفَائِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَرْكَانِ (وَكَقَوْلِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (فِي) صَوْمِ (رَمَضَانَ) صَوْمٌ (مُتَعَيِّنٌ فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ) فَيَسْقُطُ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ إذْ التَّعْيِينُ أَثْبَتُ فِي سُقُوطِ التَّعْيِينِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ صَوْمُ فَرْضٍ فِي دَلَالَةِ التَّعْيِينِ وَكَيْفَ لَا (وَهُوَ) أَيْ التَّعْيِينُ شَرْعًا (وَصْفٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ) فِي سُقُوطِ التَّعْيِينِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي سَائِرِ الْمُتَعَيِّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَفِي الْكَثِيرِ مِنْهَا كَمَا (فِي الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ) أَيْ دِرْهَمًا (وَرَدِّ الْمَبِيعِ فِي) الْبَيْعِ (الْفَاسِدِ) إلَى الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ الرَّدُّ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَيْعٍ يَقَعُ عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِوُجُودِ تَعَيُّنِ الْمَحَلِّ لِذَلِكَ شَرْعًا (وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ) وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ (لَا يُشْتَرَطُ) فِي خُرُوجِهِ بِهِ عَنْ الْفَرْضِ (تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ بِهِ) مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى الْفَرَائِضِ بَلْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا غَيْرَ مُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ بِخِلَافِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْفَرْضِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الِامْتِثَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا تَعْيِينَ النِّيَّةِ حَتَّى أَنَّ الْحَجَّ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَهُ فَيَكُونُ أَثَرُهُ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ.
(وَأَمَّا كَثْرَةُ الْأُصُولِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا جِنْسُ الْوَصْفِ) فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِ الْحُكْمِ (أَوْ عَيْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِلشَّافِعِيَّةِ) فِي الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ (فَقِيلَ لَا تُرَجَّحُ) الْوَصْفُ الْكَائِنَةُ لَهُ عَلَى الْوَصْفِ الْعَارِيَ عَنْهَا وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ (كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ) أَيْ كَالتَّرْجِيحِ بِهَا إذَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشُّهْرَةِ أَوْ التَّوَاتُرِ وَالْخَبَرُ لَا يُرَجَّحُ بِهِمَا فَالْوَصْفُ لَا يَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ (وَلِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ كَعِلَّةٍ) عَلَى حِدَةٍ (فَبِالْقِيَاسِ) أَيْ فَالتَّرْجِيحُ بِهَذَا النَّوْعِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (وَالْمُخْتَارُ) كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ (نَعَمْ) أَيْ تُرَجِّحُ كَثْرَةُ الْأُصُولِ الْوَصْفَ الْكَائِنَةَ لَهُ عَلَى الْوَصْفِ الْعَارِي عَنْهَا (لِأَنَّ مَرْجِعَهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ (اشْتِهَارُ الدَّلِيلِ أَيْ الْوَصْفِ) هُنَا فَصَارَ الْوَصْفُ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأُصُولِ (كَالْخَبَرِ الْمُشْتَهِرِ) .
وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ يَتَرَجَّحُ بِالشُّهْرَةِ فَكَذَا الْوَصْفُ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ لِأَنَّهَا شُهْرَةٌ لَهُ (فَازْدَادَ ظَنُّ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ حُكْمَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفِ بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ (بِخِلَافِ مَا) أَيْ الْوَصْفِ (إذَا لَمْ يَبْلُغْهَا) أَيْ لَمْ يَتَّصِفْ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الظَّنِّ كَالْخَبَرِ
(3/234)
الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ الشُّهْرَةَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّ أُصُولَهُ كَثِيرَةٌ وَكَثْرَةُ الْأَقْيِسَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ قِيَاسٍ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ وَذَلِكَ (كَالْمَسْحِ) فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَشْهَدُ لِتَأْثِيرِهِ (فِي التَّخْفِيفِ) أُصُولٌ إذْ (يُوجَدُ فِي التَّيَمُّمِ وَمَا ذَكَرْنَا) مِنْ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَالْجَوْرَبِ وَالْخُفِّ (فَيَتَرَجَّحُ عَلَى تَأْثِيرِ وَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ) فِي تَأْثِيرِهِ (فِي التَّثْلِيثِ) فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ إلَّا الْغُسْلُ (فَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْمَسْحِ فِي تَأْثِيرِهِ التَّخْفِيفُ مِثَالًا لِهَذَا وَلِلثَّانِي.
(قِيلَ) أَيْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَدْرُ الشَّرِيعَةِ (هُوَ) أَيْ هَذَا الثَّالِثُ (قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي) قِيلَ لِأَنَّ فِي الثَّالِثِ اُعْتُبِرَ الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ وَفِي الثَّانِي اُعْتُبِرَ الْأَثَرُ وَهُوَ ثَبَاتُهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَقِيلَ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الثَّالِثِ أُخِذَ مِنْ نَظَائِرِ الْوَصْفِ كَالتَّيَمُّمِ وَنَحْوِهِ وَفِي الثَّانِي أُخِذَ مِنْ قُوَّةِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَسْحُ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ مَثَلًا وَنُقِلَ فِي التَّلْوِيحِ عَنْ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّأْثِيرَ إذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ جِنْسَ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ فَقُوَّةُ الثَّبَاتِ حِينَئِذٍ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ جِنْسِ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ فَأَحَدُهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ (وَالْحَقُّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَرْجِعُ إلَى قُوَّةِ الْأَثَرِ وَالتَّفْرِقَةُ) بَيْنَهَا إنَّمَا هِيَ (بِالِاعْتِبَارِ فَهُوَ) أَيْ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ قُوَّةُ الْأَثَرِ (بِالنَّظَرِ إلَى) نَفْسِ (الْوَصْفِ وَالثَّبَاتِ) أَيْ وَقُوَّةِ الثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ بِالنَّظَرِ (إلَى الْحُكْمِ وَكَثْرَةِ الْأُصُولِ) بِالنَّظَرِ (إلَى الْأَصْلِ) وَعَزَاهُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ إلَى الْمُحَقِّقِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهَا وَمَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إذَا قَرَّرْته فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا وَتَبَيَّنَ بِهِ إمْكَانُ تَقْرِيرِ النَّوْعَيْنِ فِيهِ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَقَلَّمَا يُوجَدُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا وَمَعَهُ الْآخَرَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُوجَدُ عَلَى مَا قِيلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا الْعَكْسُ) وَيُسَمَّى الِانْعِكَاسَ أَيْضًا وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ وَلَا وُجُودَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِأَنَّ الرُّجْحَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَمُخْتَارُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ حُجَّةً دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَوَكَادَةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فَصَلُحَ مُرَجِّحَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ تَرْجِيحٌ ضَعِيفٌ كَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ قَرِيبًا (كَمَسْحٍ) أَيْ كَقَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ هُوَ مَسْحٌ لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ (فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ) فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ صَادِقًا إلَى كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَسْحٍ لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ (بِخِلَافِ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هُوَ (رُكْنٌ فَيُكَرَّرُ) لِأَنَّهُ لَا يَنْعَكِسُ صَادِقًا إلَى كُلِّ مَا لَيْسَ بِرُكْنٍ لَا يُكَرَّرُ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّكْرَارَ (يُوجَدُ مَعَ عَدَمِهِ) أَيْ الرُّكْنِ (كَمَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ.
(وَقَوْلُنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ) أَيْ الْمَطْعُومِ حِنْطَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا (مَبِيعٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ أَوْلَى مِنْ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا (مَأْكُولٌ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ حَرُمَ التَّفَاضُلُ) فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ (إذْ لَا يَنْعَكِسُ) هَذَا صَادِقًا إلَى كُلِّ مَا لَا يُقَابَلُ بِجِنْسِهِ لَا يَحْرُمُ الْفَضْلُ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ (لِاشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) حَالَ كَوْنِ رَأْسِ مَالِهِ (غَيْرَ رِبَوِيٍّ) مِنْ ثِيَابٍ وَغَيْرِهَا (بِخِلَافِ الْأَوَّلِ) أَيْ مَبِيعٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ (إذْ كُلَّمَا انْتَفَى) التَّعْلِيلُ الَّذِي هُوَ التَّعْيِينُ (انْتَفَى) الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ (وَلِذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ كَوْنِ عِلَّةِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ مَا ذَكَرْنَا (لَزِمَ الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ) أَيْ بَيْعُ جِنْسِ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ (لِأَنَّ النَّقْدَ لَا يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ) وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الصَّرْفِ فَانْتَفَى عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِانْتِفَاءِ التَّعْيِينِ فِي الْبَدَلَيْنِ وَلَوْ صَحَّ بِدُونِ الْقَبْضِ لَكَانَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
(وَ) فِي (السَّلَمِ لِانْتِفَاءِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ) وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ النَّقْدِ غَالِبًا فَيَكُونُ دَيْنًا فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَيْضًا فَيَكُونُ انْتِفَاءُ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ لِانْتِفَاءِ التَّعْيِينِ أَيْضًا.
قُلْت لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَ قَائِلًا بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ التَّعْيِينَ فِي الْعُقُودِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا تَمَّ عَلَيْهِ أَوْ لَا عُدِمَ تَعْيِينُهَا بِالتَّعْيِينِ هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ مَا ذَكَرْتُمْ غَيْرَ
(3/235)
مُطَّرِدٍ فَإِنَّ الْمَبِيعَ فِي بَيْعِ إنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ بِإِنَاءٍ كَذَلِكَ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ إذَا كَانَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَعَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وُرُودَهُمَا عَلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَقَعُ عَقْدُهُمَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى عَامَّةِ التُّجَّارِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ أُقِيمَ اسْمُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَقَامَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَعُلِّقَ وُجُوبُ الْقَبْضِ بِهِمَا تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ فَوَجَبَ الْقَبْضُ بِهِمَا سَوَاءٌ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى دَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ تَقْدِيرًا إذْ الشَّيْءُ إذَا أُقِيمَ مَقَامَ غَيْرِهِ فَالْمَنْظُورُ نَفْسُهُ لَا الشَّيْءُ الَّذِي أُقِيمَ هُوَ مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ صَارَ الْمَنْظُورُ السَّفَرَ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الْمَشَقَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي التَّلْوِيحِ فَإِنْ قِيلَ الْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ هُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ وَلَيْسَ بِمَقْبُوضٍ وَالْمَقْبُوضُ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ وَلَيْسَ بِمَبِيعٍ أُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَبِيعٍ مُتَعَيِّنٍ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ بَدَلِهِ وَيَنْعَكِسُ إلَى كُلِّ مَبِيعٍ لَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا يُشْتَرَطُ قَبْضُ بَدَلِهِ وَثَانِيهِمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ أَصْلًا وَيَنْعَكِسُ إلَى كُلِّ بَيْعٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَبِيعُ وَلَا ثَمَنُهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْجُمْلَةِ انْتَهَى وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ نَوْعَ نَبْوَةٍ مِنْ تَقْرِيرِ التَّرْجِيحِ بِالْعَكْسِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ حَاصِلَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلِ فِي الْأَصْلِ وَاشْتِرَاطُهُ فِي الِانْعِكَاسِ وَهُوَ خِلَافُ مَا صُرِّحَ بِهِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَاشْتِرَاطِهِ وَمُؤَدَّى الْوَجْهِ الثَّانِي عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ قَبَضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ أَوْ قَبَضَ أَحَدَهُمَا فِي الْأَصْلِ وَاشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْعَكْسِ فِي الْجُمْلَةِ أَيُّهُمَا كَانَ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْمُصَرَّحِ بِهِ ثُمَّ هَلْ الْقَبْضُ فِي هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ.
قِيلَ أَشَارَ مُحَمَّدٌ إلَى كُلٍّ وَصَحَّحَ الثَّانِي (وَهَذَا) أَيْ الْعَكْسُ (أَضْعَفُهَا) أَيْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِعِلَلٍ شَتَّى) فَيَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ مَعَ انْتِفَاءِ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهُ لِثُبُوتِهِ بِغَيْرِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ انْعِدَامُهُ عِنْدَ انْعِدَامِهَا مَعَ وُجُودِهِ عِنْدَ وُجُودِهَا مُطْلَقًا صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى وَكَادَةِ اتِّصَالِهِ بِهَا صَلُحَ مُرَجِّحًا عَلَى مَا يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ ضَعْفِهِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَهُ تَرْجِيحٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ (وَابْتَنَى عَلَى مَا سَلَفَ) فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ (مِنْ عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا فِي عَدَمِ التَّرْجِيحِ مِنْ بَحْثٍ تَقَدَّمَ فِيهِ (أَنْ لَا يُرَجَّحَ قِيَاسٌ بِآخَرَ بِأَنْ خَالَفَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْقِيَاسُ الْمُنْضَمُّ إلَيْهِ (فِي الْعِلَّةِ لَا الْحُكْمِ عَلَى) قِيَاسِ (مُعَارِضِهِ) لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ (وَلَوْ اتَّفَقَا) أَيْ الْقِيَاسَانِ (فِيهَا) أَيْ الْعِلَّةِ كَمَا فِي الْحُكْمِ (كَانَ) اتِّفَاقُهُمَا (مِنْ كَثْرَةِ الْأُصُولِ لَا) مِنْ كَثْرَةِ (الْأَدِلَّةِ) إذْ لَا يَتَحَقَّقُ تَعَدُّدُ الْقِيَاسَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا عِنْدَ تَعَدُّدِ الْعِلَّتَيْنِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ حُجَّةً هِيَ الْعِلَّةُ لَا الْأَصْلُ (فَيُرَجَّحُ) الْقِيَاسُ الْمُنْضَمُّ إلَيْهِ ذَلِكَ (عَلَى مُخَالِفِهِ) لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ مُرَجِّحٌ صَحِيحٌ.
(وَكَذَا كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً) مُسْتَقِلَّةً لِحُكْمٍ (لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا) لِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لَهَا فِيهِ إذْ تَقَوِّي الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ وَتَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَالْمُسْتَقِلُّ لِاسْتِقْلَالِهِ لَا يَنْضَمُّ إلَى الْآخَرِ وَلَا يَتَّحِدُ بِهِ فَلَا يُفِيدُ الْقُوَّةَ (فَلَمْ يَتَفَاوَتْ بِتَفَاوُتِ الْمِلْكِ لِلشَّفِيعَيْنِ) كَأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُ الدَّارِ وَلِلْآخَرِ سُدُسُهَا (مَا يَشْفَعَانِ فِيهِ) وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْهَا إذَا بَاعَهُ مَالِكُهُ وَطَلَبَا أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ بِأَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا النِّصْفِ الْمَبِيعِ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثُلُثَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَرَجَّحَ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْفَرِدُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَيَسْقُطُ صَاحِبُ السُّدُسِ بَلْ يَكُونُ النِّصْفُ الْمَبِيعُ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ نَصِيبِهِمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ الْأَكْثَرِ الْعِلَّةُ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّ عِنْدَهُ يَكُونُ الْمَبِيعُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ وَثُلُثَاهُ
(3/236)
لِصَاحِبِ الثُّلُثِ (قَالَ) الشَّافِعِيُّ (هِيَ) أَيْ الشُّفْعَةُ (مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ) أَيْ مَنَافِعِهِ (كَالْوَلَدِ) لِلْحَيَوَانِ (وَالثَّمَرَةِ) لِلشَّجَرَةِ الْمُشْتَرِكَيْنِ بَيْنَهُمَا فَيُقْسَمُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ (أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ انْقِسَامَ الْمَعْلُولِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ (فِي الْعِلَلِ الْمَادِّيَّةِ) الَّتِي يَتَوَلَّدُ الْمَعْلُولُ مِنْهَا كَالْحَيَوَانِ لِلْوَلَدِ وَالشَّجَرِ لِلثَّمَرِ (وَعِلَّةُ الْقِيَاسِ) لَيْسَتْ مِنْهَا بَلْ هِيَ (كَالْفَاعِلِيَّةِ) مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْمَعْلُولِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ الْفَاعِلَةِ فِي الْمَعْلُولِ لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ بَلْ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَقِبَهُ وَمِلْكُ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ تَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ لَا عِلَّةٌ مَادِّيَّةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ تَرَتُّبُ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ كَتَرَتُّبِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ فَلَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ هَذَا.
(وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ الْمِلْكَ عِلَّةً لِلشُّفْعَةِ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ الْمِلْكِ (فَجَعْلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ عِلَّةً لِجُزْءٍ مِنْ الْمَعْلُولِ نَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ) وَهُوَ بَاطِلٌ (وَلَوْ عَجَزَ) الْمُجْتَهِدُ (عَنْ التَّرْجِيحِ) لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ (عَمِلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ (وَقَابَلُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (أَرْبَعَةَ الصِّحَّةِ) أَيْ أَرْبَعَةَ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ الصَّحِيحَةِ السَّالِفَةِ الْآنَ (بِأَرْبَعَةٍ) مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ (فَاسِدَةِ التَّرْجِيحِ بِمَا يَصْلُحُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً) لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَهُ وَدَفْعَهُ فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ فَهَذَا أَحَدُهَا (وَبِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ) أَيْ وَالتَّرْجِيحُ بِهَا أَيْ (كَوْنُ الْفَرْعِ لَهُ بِأَصْلٍ أَوْ أُصُولِ وُجُوهِ شَبَهٍ فَلَا يُرَجَّحُ) أَيْ لَا يُقَدَّمُ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِذَلِكَ الْأَصْلِ أَوْ الْأُصُولِ بِوَاسِطَةِ تَعَدُّدِ شَبَهِهِ بِهِ أَوْ بِهَا (عَلَى مَا) أَيْ عَلَى إلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ آخَرَ يُخَالِفُ الْأَوَّلَ (لَهُ) أَيْ لِلْفَرْعِ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْأَصْلِ (شَبَهٌ) وَاحِدٌ (وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ نَعَمْ) يُرَجَّحُ مَا لَهُ وُجُوهُ شَبَهٍ بِأَصْلٍ أَوْ أُصُولٍ عَلَى مَا لَهُ شَبَهٌ بِأَصْلٍ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِإِفَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَهِيَ تَزْدَادُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ كَمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا تُرَجَّحُ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْأَشْبَاهَ (تَعَدُّدُ أَوْصَافٍ) تُجْعَلُ عِلَلًا فَكُلُّ شَبَهٍ وَصْفٌ عَلَى حِدَةٍ يَصْلُحُ عِلَّةً (فَتَرْجِيعُ) الْأَشْبَاهِ (إلَى تَعَدُّدِ الْأَقْيِسَةِ) فَالتَّرْجِيحُ بِهَا مِنْ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْأُصُولِ) فَإِنَّهُ لَيْسَ التَّرْجِيحُ بِهَا مِنْ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ (لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ) فِيهَا.
(وَكُلُّ أَصْلٍ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (فَيُوجِبُ ثَبَاتَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ وَقُوَّتِهِ (وَاعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ) تَكُونُ (بِوَحْدَةِ الْوَصْفِ) أَيْ مَعَهَا (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (مَحَلُّ التَّرْجِيحِ) أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ التَّرْجِيحُ فَيَكُونُ مُرَجِّحًا (وَ) تَكُونُ (مَهْ تَعَدُّدَهُ) أَيْ الْوَصْفِ (اتِّحَادُ الْحُكْمِ وَهِيَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ يَتَعَدَّدُ الْوَصْفُ وَيَتَّحِدُ الْحُكْمُ (أَقْيِسَةٌ مُتَمَاثِلَةٌ لَا تَرْجِيحَ مَعَهَا) لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ أَدِلَّةٌ مُتَكَثِّرَةٌ وَلَا تَرْجِيحَ بِهَا.
(وَ) تَكُونُ (مَعَ تَعَدُّدِهِ) أَيْ الْوَصْفِ حَالَ كَوْنِهَا (مُتَبَايِنَةً مُتَعَارِضَةً وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّرْجِيحُ) ثُمَّ مِثَالُ التَّرْجِيحِ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ (كَمَا لَوْ قِيلَ الْأَخُ كَالْأَبَوَيْنِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ و) مِثْلُ (ابْنِ الْعَمِّ فِي حِلِّ الْحَلِيلَةِ وَالزَّكَاةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ) إذْ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَخَوَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَلِيلَةَ أَخِيهِ وَأَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إلَيْهِ وَأَنْ يَشْهَدَ لَهُ وَأَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ إذَا وَجَدَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ وَانْتَفَى الْمَانِعُ مِنْهُ كَمَا فِي ابْنِ الْعَمِّ (فَيُرَجَّحُ إلْحَاقُهُ) أَيْ الْأَخِ (بِهِ) أَيْ بِابْنِ الْعَمِّ فَلَا يَعْتِقُ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ كَمَا لَا يُعْتِقُ ابْنُ عَمِّهِ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ لِأَنَّ شَبَهَ الْأَخِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَبَهِهِ بِالْأَبَوَيْنِ (فَيَمْنَعُ) تَرْجِيحَ إلْحَاقِ الْأَخِ بِابْنِ الْعَمِّ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ (بِأَنَّهُ) أَيْ التَّرْجِيحَ بِهَا (بِمُسْتَقِلٍّ) أَيْ تَرْجِيحٌ بِوَصْفٍ مُسْتَقِلٍّ (إذْ كُلٌّ) مِنْ وُجُوهِ الْمُشَبَّهِ بِهِ (يَسْتَقِلُّ) وَصْفًا (جَامِعًا) بَيْنَ الْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ فِي الْحُكْمِ وَلَا تَرْجِيحَ بِمُسْتَقِلٍّ وَهَذَا ثَانِيهَا (وَبِزِيَادَةِ التَّعْدِيَةِ) أَيْ وَالتَّرْجِيحُ بِكَوْنِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَكْثَرَ مَحَالَّ مِنْ الْأُخْرَى (كَتَرْجِيحِ الطُّعْمِ) أَيْ التَّعْلِيلِ بِهِ لِحُرْمَةِ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ عَلَى تَعْلِيلِ حُرْمَتِهِ فِيهَا بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ (لِتَعَدِّيهِ) أَيْ الطُّعْمِ (إلَى الْقَلِيلِ) كَمَا لِلْكَثِيرِ فَيَحْرُمُ بَيْعُ تُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ وَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ (دُونَ الْكَيْلِ) فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّى
(3/237)
إلَى الْقَلِيلِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ صَاعٍ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَا أَثَرَ لَهُ) أَيْ كَوْنُهَا أَكْثَرَ مَحَالَّ مِنْ مُعَارِضَتِهَا فِي تَأْثِيرِهَا وَقُوَّتِهَا الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّرْجِيحُ (بَلْ) الْأَثَرُ (لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ) أَيْ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ (عَلَى الْوَصْفِ) أَيْ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ قَلَّتْ مَحَالُّهُ أَوْ كَثُرَتْ وَهَذَا ثَالِثُهَا (وَبِالْبَسَاطَةِ) أَيْ وَالتَّرْجِيحِ بِكَوْنِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَصْفًا لَا جُزْءَ لَهُ عَلَى الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ وَصْفٌ ذُو أَجْزَاءَ لِسُهُولَةِ إثْبَاتِهَا وَالِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّتِهَا (كَالطُّعْمِ) أَيْ كَتَرْجِيحِ كَوْنِهِ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِيمَا تَقَدَّمَ (عَلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ) أَيْ كَوْنُهُمَا عِلَّتَهُ.
(وَلَا أَثَرَ لَهُ) أَيْ كَوْنِهَا لَا جُزْءَ لَهَا فِي تَأْثِيرِهَا وَقُوَّتِهَا؛ لِلَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّرْجِيحُ بَلْ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّتِهَا (كَمَا ذَكَرْنَا) آنِفًا فَالْمُرَكَّبُ وَالْبَسِيطُ سَوَاءٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ فَرْعُ ثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ الْمُوجَزُ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُطَوَّلِ فِي الْبَيَانِ فَكَذَا الْعِلَّةُ وَكَيْفَ لَا وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ صُورَةُ الْعِلَّةِ وَالتَّأْثِيرُ مَعْنَاهَا وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَقَعُ بِالْمَعَانِي بِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا وَتَأْثِيرِهَا لَا بِالصُّورَةِ وَمِنْ ثَمَّةَ رُبَّمَا كَانَ الْمُرَكَّبُ أَرْجَحَ وَالْوَصْفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقْوَى تَأْثِيرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ]
(مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ) لِحُكْمِ الْأَصْلِ (فِي الْفَرْعِ وَهُوَ) أَيْ ثُبُوتُهُ فِي الْفَرْعِ (التَّعَدِّيَةُ بِالِاصْطِلَاحِيَّةِ فَلَزِمَهُ) أَيْ الْقِيَاسُ (أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ ابْتِدَاءً كَإِبَاحَةِ الرَّكْعَةِ) الْوَاحِدَةِ (وَحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ) أَيْ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَرَمٌ كَحَرَمِ مَكَّةَ (أَوْ وَصْفُهُ) أَيْ الْحُكْمُ (كَصِفَةِ الْوِتْرِ) مِنْ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِنَانِ (بَعْدَ مَشْرُوعِيَّتِهِ) بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ، وَلِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ أَوْ كَوْنِ الْوِتْرِ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً إلَّا إلَى السَّمْعِ كَمَا عُرِفَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتَا بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً (لِانْتِفَاءِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَكَذَا) لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ (الشَّرْطِيَّةَ وَالْعِلِّيَّةَ كَكَوْنِ الْجِنْسِ فَقَطْ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ) أَيْ الْبَيْعَ نَسِيئَةً (إلَّا) أَيْ لَكِنْ يَثْبُتُ كُلٌّ مِنْهُمَا (بِالنَّصِّ دَلَالَةً وَغَيْرَهَا) أَيْ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ اقْتِضَاءً فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ كَمَا عُرِفَ (وَكَذَا) لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ (صِفَةَ السَّوْمِ) أَيْ اشْتِرَاطَهُ لِنَصْبِ الْأَنْعَامِ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا (وَالْحِلِّ) أَيْ وَكَذَا لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ اشْتِرَاطَ صِفَةِ الْحِلِّ (لِلْوَطْءِ الْمُوجِبِ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ) فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ (وَشَرْطِيَّةَ التَّسْمِيَةِ) أَيْ وَكَذَا لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ اشْتِرَاطَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَذْبُوحِ (لِلْحِلِّ) لَهُ (وَوَصْفِيَّةَ شَرْطِ النِّكَاحِ) أَيْ وَكَذَا لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ اشْتِرَاطَ وَصْفِيَّةِ شَرْطِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَةُ (بِالْعَدَالَةِ) وَالذُّكُورَةِ فِي شُهُودِهِ بَلْ إنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْأُمُورُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَلَا جَرَمَ أَنْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْجِنْسِ بِمُفْرَدِهِ مُحَرَّمًا لِلنَّسِيئَةِ وَأَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ فِي نَصْبِ الْأَنْعَامِ لِلزَّكَاةِ وَذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ فِي حِلِّهَا إنَّمَا هِيَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إبَاحَةَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَحُرْمَةَ الْمَدِينَةِ وَاشْتِرَاطَ وَصْفِ الْحِلِّ لِلْوَطْءِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالْعَدَالَةَ وَالذُّكُورَةَ فِي شُهُودِ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ بِالنُّصُوصِ فِيهَا كَمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَسْطُورٌ فِي فُرُوعِ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ وَمَحَلِّ الْخَوْضِ فِيهِ كُتُبُ الْفُرُوعِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَزِمَ حُكْمُ الْقِيَاسِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ مُفِيدَ الثُّبُوتِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ حُرْمَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فِي فَرْعٍ بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ إلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ مَوْجُودٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٍ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ عَدَمُ إثْبَاتِهِ ابْتِدَاءً لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عِلَّةٍ أَوْ شَرْطٍ لَهُ أَوْ صِفَةٍ لِأَحَدِهَا لِانْتِفَاءِ تَحَقُّقِ الْقِيَاسِ بِانْتِفَاءِ الْأَصْلِ الْمُعَدَّى مِنْهُ إلَى الْمَحَلِّ الْمُدَّعَى فَرْعِيَّتُهُ لَهُ فَيَتَمَحَّضُ إثْبَاتُ هَذِهِ إمَّا نَصْبًا لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ كَمَا فِيمَا عَدَا إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَوَصْفِهِ ابْتِدَاءً وَإِمَّا إبْطَالًا وَنَسْخًا بِالرَّأْيِ كَمَا فِي الشَّرْطِ وَوَصْفِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ وَقَبْلَ وَصْفِهِ وَبَعْدَ مَا شُرِطَ لَهُ شَرْطٌ أَوْ أُثْبِتَ لَهُ وَصْفٌ صَارَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَمَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِهِ، فَالتَّعْلِيلُ ابْتِدَاءً بِهِ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ وَنَسْخٌ لَهُ بِالضَّرُورَةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا إلَى الْعِبَادِ (وَ) لَزِمَهُ (أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ) بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ (مَنَاطُ عِلِّيَّةِ أَمْرٍ) لِشَيْءٍ (أَوْ شَرْطِيَّتُهُ) أَيْ أَمْرٌ لِشَيْءٍ (أَوْ وَصْفُهُمَا) أَيْ الْعِلِّيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ
(3/238)
لِشَيْءٍ (فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَيْضًا فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِثَبَتَ (كَانَ) غَيْرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ (فِي مِثْلِهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ (عِلَّةً وَشَرْطًا) بِوَاسِطَةِ تَحَقُّقِ مَنَاطِهِمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ (لِانْتِفَاءِ التَّحَكُّمِ) اللَّازِمِ مِنْ تَقْدِيرِ جَعْلِ بَعْضِ أَفْرَادِ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ الْمَنَاطُ لِعِلِّيَّةِ حُكْمٍ أَوْ شَرْطِيَّتِهِ عِلَّةً أَوْ شَرْطًا دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ الْمُتَحَقِّقِ فِيهِ ذَلِكَ أَيْضًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الصَّلَاحِيَّةِ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّحَكُّمُ اللَّازِمُ مِنْ جَعْلِ الْقِيَاسِ مُظْهِرًا لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِعِلِّيَّةٍ وَلَا شَرْطِيَّةٍ فِي فَرْعٍ بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ إلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٍ فِيهِ ذَلِكَ بِطَرِيقِهِ غَيْرَ مُظْهِرٍ لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ عِلِّيَّةُ شَيْءٍ أَوْ شَرْطِيَّتُهُ لِآخَرَ فِي مَحَلٍّ بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ إلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٍ فِيهِ ذَلِكَ بِطَرِيقِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الصَّلَاحِيَّةِ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ (وَالْخِلَافُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ) الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ (شَهِيرٌ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْأَخِيرِ (فَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعُهُ) وَصَدْرُ الشَّرِيعَةِ (وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ) وَعَزَاهُ إلَى مَشَايِخِنَا أَيْضًا (وَطَائِفَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ (نَعَمْ) يُعَلَّلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ (وَوُجِدَ) ذَلِكَ أَيْضًا (وَهُوَ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) الْمُعَيَّنِ (بِالطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ وُجِدَ لِإِثْبَاتِهِ) أَيْ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي هَذَا الْبَيْعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا (أَصْلٌ هُوَ الصَّرْفُ) فَإِنَّ التَّقَابُضَ فِيهِ شَرْطٌ (بِجَامِعِ أَنَّهُمَا.) أَيْ الْبَدَلَيْنِ فِيهِمَا (مَالَانِ يَجْرِي فِيهِمَا رِبَا الْفَضْلِ وَلِنَفْيِهِ) أَيْ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِيهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ (أَصْلٌ) هُوَ (بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِالدَّرَاهِمِ) لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ (وَقِيلَ لَا) يُعَلَّلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَالْآمِدِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْمَحْصُولِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ (لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ) مَنَاطَ شَرْطِيَّةِ التَّقَابُضِ (كَذَلِكَ) أَيْ فِي الصَّرْفِ ثُمَّ وُجِدَتْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ (قِيلَ وَلَوْ ثَبَتَ) مَنَاطُ عِلِّيَّةِ أَمْرٍ لِحُكْمٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَيْضًا (كَانَ السَّبَبُ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (ذَلِكَ الْمَنَاطُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا إنْ انْضَبَطَ) وَكَانَ ظَاهِرًا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَنْضَبِطْ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا (فَمَظِنَّتُهُ) أَيْ الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي ضُبِطَ هُوَ بِهِ (إنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ وَحِينَئِذٍ فَلَا قِيَاسَ (وَمَا يُخَالُ) أَيْ يُظَنُّ (أَصْلًا وَفَرْعًا) أَنَّهُمَا هُمَا (فَرْدَاهُ) أَيْ الْمَنَاطُ الْمَذْكُورُ (كَمَا لَوْ ثَبَتَ عِلِّيَّةُ الْوِقَاعِ) عَمْدًا مِنْ الْمُكَلَّفِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ (لِلْكَفَّارَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْجِنَايَةِ الْمُتَكَامِلَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ) وَهِيَ هَتْكُ حُرْمَتِهِ (فَهِيَ) أَيْ الْجِنَايَةُ الْمُتَكَامِلَةُ عَلَيْهِ (الْعِلَّةُ) لِلْكَفَّارَةِ (وَكُلٌّ مِنْ الْأَكْلِ) وَالشُّرْبِ (وَالْجِمَاعِ) فِيهِ مِنْ الْمُكَلَّفِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ عَمْدًا بِلَا عُذْرٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ (صُوَرُ وُجُودِهِ) أَيْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ لِتَحَقُّقِ هَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِكُلٍّ مِنْهَا (وَكَعِلِّيَّةِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَيْهِ) أَيْ الْقَتْلُ (بِالسَّيْفِ) لِلْقِصَاصِ إذْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَيْ عِلَّةَ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعِدْوَانُ (فَالْمُثْقَلُ) أَيْ فَالْقَتْلُ بِهِ (مِنْ مَحَالِّهِ) أَيْ مِنْ مَنَاطِ الْقِصَاصِ (وَقَدْ يُخَالُ عَدَمُ التَّوَارُدِ) لِهَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ (فَالْأَوَّلُ) أَيْ الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّعَدِّيَةِ فِي الْعِلِّيَّةِ مَعْنَاهُ (تَعَدِّي عِلِّيَّةِ الْوَاحِدِ لِشَيْءٍ) أَيْ الْحُكْمُ (إلَى شَيْءٍ آخَرَ) فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْآخَرُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِلَّةً لَهُ أَيْضًا فَتَتَعَدَّدُ الْعِلَّةُ وَيَتَّحِدُ الْحُكْمُ (وَالثَّانِي) أَيْ الْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّعَدِّيَةِ فِي الْعِلِّيَّةِ مَعْنَاهُ (تَعَدِّي عِلِّيَّتِهِ) أَيْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ لِحُكْمٍ (إلَى) شَيْءٍ (آخَرَ لِآخَرَ) أَيْ لِحُكْمٍ آخَرَ فَيَكُونُ الشَّيْءُ الْآخَرُ الْمُعَدَّى إلَيْهِ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ فَيَتَعَدَّدُ الْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ (وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ) كَوْنُ مَعْنَى الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَ ظَاهِرٌ وَأَمَّا أَنَّ مَعْنَى الثَّانِي مَا ذَكَرَ فَلَا بَلْ كُلٌّ مِنْ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ فِيهِ مُتَّحِدٌ لِلِاتِّحَادِ فِي النَّوْعِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّغَايُرِ بِحَسَبِ الشَّخْصِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْقِيَاسِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَتَّى إنْكَارُهُ مِنْ قَائِلٍ بِهِ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَا قَائِلَ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَمِمَّنْ أَنْكَرَهُ) أَيْ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِي السَّبَبِ أَيْ الْعِلَّةِ (مَنْ اعْتَرَفَ بِقِيَاسِ أَنْتِ حَرَامٌ) فِي إثْبَاتِهِ الطَّلَاقَ بَائِنًا (عَلَى طَالِقٍ بَائِنٍ وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِيَاسُ قِيَاسٌ (فِي السَّبَبِ) فَهُوَ بِهَذَا
(3/239)
مُنَاقِضٌ نَفْسَهُ فِي الْمَنْعِ حِينَئِذٍ (وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي هَذَا) أَيْ فِي أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عِلِّيَّةُ شَيْءٍ لِحُكْمٍ بِنَاءً عَلَى مَعْنًى صَالِحٍ لِتَعْلِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا أَوْ مُلَائِمًا وَوُجِدَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ أَوْ الْمُلَائِمُ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْآخَرُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ ثُمَّ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِالْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَقَدْ تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهُ بِمَا هُوَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ شَيْئًا وَاحِدًا لَهُ تَعَدُّدٌ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ (بَلْ) الْخِلَافُ (فِيمَا إذَا كَانَتْ) عِلِّيَّةُ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ (لِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَتِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِيَحْصُلَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ (مَحَلٌّ آخَرُ) تَحَقَّقَتْ فِيهِ عِلِّيَّتُهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ (لِأَنَّا إنَّمَا نُثْبِتُ سَبَبِيَّةَ) وَصْفٍ (آخَرَ) غَيْرِ الْوَصْفِ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ إذْ الْمَفْرُوضُ تَغَايُرُ الْوَصْفَيْنِ (فَلَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ إثْبَاتُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْهَدَ بِاعْتِبَارِهِ أَصْلٌ (إلَّا الْمُرْسَلُ) فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّأْثِيرَ أَوْ الْمُلَائَمَةَ (وَهَذَا عَلَى) قَوْلِ (الشَّافِعِيَّةِ أَمَّا مَا تَقَدَّمَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي سَبَبِيَّتِهِ) أَيْ الْأَوَّلِ (بِعَيْنِهِ لِآخَرَ) فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ بِالطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ (فَيَنْبَغِي كَوْنُهُ) أَيْ هَذَا التَّعْلِيلِ (الْقَرِيبَ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ) مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ (لِوُجُودِ أَصْلِهِ) أَيْ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّقَابُضِ وَهُوَ الصَّرْفُ (إذَا كَانَتْ سَبَبِيَّتُهُ) أَيْ أَصْلُهُ (لِشَيْءٍ) وَهُوَ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ (ثَابِتَةً شَرْعًا) بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدًا بِيَدٍ» كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَبِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (وَهُوَ الْعَيْنُ مَعَ الْعَيْنِ فِي الْمَحَلِّ لَكِنْ لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ وَ) هَذَا هُوَ الْقَرِيبُ الْمَذْكُورُ كَمَا تَقَدَّمَ (كَانَ الظَّاهِرُ اتِّفَاقَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (عَلَى مَنْعِهِ) أَيْ هَذَا (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخَالَةِ إنْ لَمْ يَكُنْهَا) أَيْ الْإِخَالَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هِيَ فِي الْمَعْنَى (لَكِنَّ الْخِلَافَ) فِي هَذَا ثَابِتٌ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ الْإِرْسَالِ) فِي ثُبُوتِ السَّبَبِيَّةِ بِالْقِيَاسِ (لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ) أَيْ ثُبُوتُهَا بِهِ أَيْضًا (لِأَنَّ الْوَصْفَ الْأَصْلُ أَنْ تَثْبُتَ عِلِّيَّتُهُ بِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ) أَيْ بِثُبُوتِهَا بِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ (فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُنَاسَبَةُ فِي) وَصْفٍ (آخَرَ كَانَ) الْوَصْفُ الْآخَرُ (عِلَّةً بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِالْإِلْحَاقِ بِالْأَوَّلِ لِاسْتِقْلَالِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (بِإِثْبَاتِ) عِلِّيَّةِ (مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ وَإِنْ ثَبَتَتْ) عِلِّيَّتُهُ (بِالنَّصِّ ثُمَّ عَقَلَتْ مُنَاسَبَتُهَا) لِلْحُكْمِ (وَوُجِدَتْ) الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ (فِي مَا) أَيْ وَصْفٍ (لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ) أَيْضًا (فَكَذَلِكَ) أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ عِلَّةٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ (لِلِاسْتِقْلَالِ) أَيْ اسْتِقْلَالِ الْمُنَاسَبَةِ بِإِثْبَاتِ عِلِّيَّةِ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ (وَحَاصِلُهُ) أَيْ هَذَا (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ كَانَ الْحَالُ هَذَا (ثُبُوتُ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِالنَّصِّ وَ) عِلِّيَّةِ وَصْفٍ (آخَرَ بِالْمُنَاسَبَةِ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِهِ خِلَافٌ (فَالْوَجْهُ أَنْ يُقْصَرَ الْخِلَافُ عَلَى مِثْلِ حَمْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ) أَيْ حَمْلُهُ أَيْ قِيَاسُهُ (أَنْ يَنُصَّ عَلَى عِلَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ بِنَفْسِهَا فَيَلْحَقُ بِهَا مَا تَصْلُحُ مَظِنَّةً لَهَا فَيَثْبُتُ مَعَهَا حُكْمُ الْمَنْصُوصَةِ كَمَا أَلْحَقَ) عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الشُّرْبَ) لِلْخَمْرِ (بِالْقَذْفِ) فِي الْحَدِّ بِهِ ثَمَانِينَ (بِجَامِعِ الِافْتِرَاءِ) بَيْنَهُمَا (لِكَوْنِهِ) أَيْ شُرْبِهَا (مَظِنَّتَهُ) أَيْ الِافْتِرَاءَ وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا مَخْرَجًا فِي مَسْأَلَةِ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قُلْت ثَمَّ قَدْ يُقَالُ وَإِذَا قَصُرَ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا هَلْ يَتَرَجَّحُ الْمُلْحَقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ السُّكُوتِيِّ عَلَى الْإِلْحَاقِ الْمَذْكُورِ وَالْجَوَابُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِمَّنْ يَرَى الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حَجَّةً، نَعَمْ وَعِنْدَهُمْ لَا كَمَا سَتَعْلَمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ وَلَكِنْ الشَّأْنُ فِي مُوجِبِ الْقَصْرِ عَلَيْهِ مَعَ نَقْلِ عُمُومِ الْخِلَافِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ثَمَّ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ إعْرَاضٌ عَمَّا أَفَادَهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَوَّلًا مِنْ جَوَازِ ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَيَنْدَفِعُ وَجْهُهُ الَّذِي هُوَ لُزُومُ التَّحَكُّمِ لَوْلَا جَوَازُهُ
(3/240)
بِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمُرْسَلِ الْمَرْدُودِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ وَالْغَرِيبُ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ فَلَا تَحَكُّمَ لَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَنَاطُ عِلِّيَّةِ أَمْرٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ كَانَ السَّبَبُ الْمَنَاطُ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا إنْ انْضَبَطَ وَإِلَّا مَظِنَّتُهُ وَأَيًّا مَا كَانَ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ هَذَا انْتَفَى الْقِيَاسُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْعِلِّيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ لِتَأَتِّي هَذَا بِعَيْنِهِ فِيهِ لَكِنْ انْتِفَاؤُهَا فِيهِ مَمْنُوعٌ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ الْحُدُودُ]
{مَسْأَلَةٌ} قَالَ (الْحَنَفِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ) أَيْ بِالْقِيَاسِ (الْحُدُودُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَقْدِيرَاتٍ لَا تُعْقَلُ) كَعَدَدِ الْمِائَةِ فِي الزِّنَا وَالثَّمَانِينَ فِي الْقَذْفِ وَالْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى (وَمَا يُعْقَلُ) مِنْهَا (كَالْقَطْعِ) لِيَدِ السَّارِقِ لِكَوْنِهَا الْجَانِيَةَ بِالسَّرِقَةِ (فَلِلشُّبْهَةِ) فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ «وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ» كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي مَسْأَلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْحَدِّ مَقْبُولٌ وَدَرْؤُهَا فِي عَدَمِ ثُبُوتِهَا بِهِ وَقَالَ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ بِهِ (قَالُوا أَدِلَّةُ الْقِيَاسِ) الدَّالَّةُ عَلَى حُجِّيَّتِهِ (مُعَمِّمَةٌ) لَهَا كَمَا لِغَيْرِهَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِيهِمَا (قُلْنَا) عُمُومُهَا (فِي مُسْتَكْمِلِ الشُّرُوطِ اتِّفَاقًا) وَالْحُدُودُ لَيْسَتْ بِمُسْتَكْمِلَةٍ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا (وَانْتِهَاضُ أَثَرِ عَلِيٍّ) السَّالِفِ (عَلَيْهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيزُونَ (مَوْقُوفٌ عَلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى صِحَّةِ طَرِيقِهِ) الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْقَذْفِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ بَلْ (أَنَّهُ) أَيْ إجْمَاعَهُمْ (عَلَى حُكْمِهِ) الَّذِي هُوَ وُجُوبُ جَلْدِ ثَمَانِينَ (بِاجْتِمَاعِ دَلَالَاتٍ سَمْعِيَّةٍ عَلَيْهِ) أَيْ حُكْمِهِ الْمَذْكُورِ (كَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي الْفِقْهِ) أَيْ فِي حَدِّ الشُّرْبِ مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَلَمْ نَذْكُرْهَا هُنَا تَحَامِيًا مِنْ التَّطْوِيلِ مَعَ أَنَّ كُتُبَ الْفُرُوعِ بِهَا أَلْيَقُ وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسَاتِ فَإِنْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى إثْبَاتِ حَدِّ الْخَمْرِ قِيَاسًا فَهَذَا إبْطَالٌ لِأَصْلِكُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ قِيَاسًا قِيلَ الَّذِي نَمْنَعُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ إيجَابُ حَدٍّ بِقِيَاسٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ فَيُتَحَرَّى فِيهِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَاسْتِعْمَالُ اجْتِهَادِ السَّلَفِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ضَرَبَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَرُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلُّ رَجُلٍ بِنَعْلِهِ ضَرْبَتَيْنِ فَتَحَرَّوْا فِي اجْتِهَادِهِمْ مُوَافَقَةَ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلُوهُ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَنَقَلُوا ضَرْبَهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ إلَى السَّوْطِ كَمَا يَجْتَهِدُ الْجَلَّادُ فِي الضَّرْبِ وَكَمَا يَخْتَارُ السَّوْطَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْجِلْدِ اجْتِهَادًا
[تَنْبِيهٌ] الْكَفَّارَاتُ فِي هَذَا كَالْحُدُودِ بَلْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ]
(مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ) لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (لِيَحْكُمَ فِي مَحَالِّهِ) أَيْ الْمَنَاطِ (بِحُكْمِهِ جَائِزٌ عَقْلًا) عِنْدَ الْجُمْهُورِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْأُصُولِيِّينَ التَّكْلِيفُ أَوْ التَّعَبُّدُ (بِالْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْقِيَاسَ (الْمُسَاوَاةُ) بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي عِلَّةِ حِكْمَةٍ لِأَنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَعَبُّدَ بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ فِعْلَ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي أَوَائِلِ الْقِيَاسِ (وَإِيجَابُ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْقِيَاسِ) أَيْ جَعْلُ هَذَا مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (فِيهِ قُصُورٌ عَنْ الْمَقْصُودِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا إذَا تَمَّ الْقِيَاسُ فَاعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَمَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ اُنْظُرْ لِيَظْهَرَ لَك فِي الْوَاقِعِ قِيَاسٌ أَوْ لَا وَهَذَا مَحَلٌّ آخَرُ لِلْوُجُوبِ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ اسْتِكْشَافِ الْحَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ هُوَ الْعَمَلُ بِهِ (لَا) أَنَّ تَكْلِيفَهُ بِذَلِكَ (وَاجِبٌ) عَقْلًا (كَالْقَفَّالِ) الشَّاشِيِّ (وَأَبِي الْحُسَيْنِ) الْبَصْرِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عَنْ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالنُّصُوصَ مَحْصُورَةٌ وَالْقِيَاسَ كَافِلٌ بِهَا فَاقْتَضَى التَّعَبُّدَ بِهِ وَالْجَوَابُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُوبِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاقِعَةٍ حُكْمٌ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ عَنْ الْحُكْمِ مَنَعَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّعَبُّدِ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَلُزُومُ خُلُوِّ وَقَائِعَ) عَنْ الْحُكْمِ (لَوْلَاهُ) أَيْ تَكْلِيفُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ الْمَذْكُورِ (مُنْتَفٍ لِانْضِبَاطِ أَجْنَاسِ الْأَحْكَامِ وَالْأَفْعَالِ وَإِمْكَانِ إفَادَتِهَا) أَيْ أَجْنَاسِ الْأَحْكَامِ الْكَائِنَةِ
(3/241)
لِأَجْنَاسِ الْأَفْعَالِ (الْعُمُومَاتُ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ إفَادَتِهَا وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْمَفْعُولِ فَتُعْلَمُ أَحْكَامُ جُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَنْحَصِرُ بِانْدِرَاجِهَا تَحْتَهَا مِثْلَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ وَكُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ.
(وَلَوْ لَمْ تُفِدْهَا) أَيْ الْعُمُومَاتُ أَحْكَامَ أَجْنَاسِ الْأَفْعَالِ عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ مِنْهُ أَحْكَامُ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ (ثَبَتَ فِيهَا) أَيْ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَمْ تُفِدْهَا الْعُمُومَاتُ (حُكْمُ الْأَصْلِ) وَهُوَ الْإِبَاحَةُ (فَلَا خُلُوَّ) لِوَاقِعَةٍ مِنْهَا عَنْ الْحُكْمِ (وَلَا مُمْتَنِعَ عَقْلًا) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّيْدِيَّةُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ النَّظَّامُ لَكِنَّهُ قَالَ فِي شَرِيعَتِنَا خَاصَّةً عَلَى مَا فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا التَّكْلِيفُ الْمَذْكُورُ جَائِزٌ (إذْ لَا يَلْزَمُ إلْزَامُهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ (بِحَالٍ) لَا لِنَفْسِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ (وَكَوْنُ الظَّنِّ مَمْنُوعًا عَقْلًا لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ) وَالْقِيَاسُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْخَطَأُ مَحْظُورٌ قَطْعًا وَالْعَقْلُ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمَحْذُورِ فَيَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِمَنَاطِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا (مَمْنُوعٌ) ثُبُوتُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا لَا يَغْلِبُ فِيهِ جَانِبُ الصَّوَابِ أَمَّا إذَا ظَنَّ وَكَانَ الْخَطَأُ مَرْجُوحًا فَلَا (بَلْ أَكْثَرُ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ لِفَوَائِدَ غَيْرِ مُتَيَقَّنَةٍ) إذْ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنِ الْحُصُولِ فَإِنَّ الزَّارِعَ لَا يَزْرَعُ وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ يَأْخُذُ الرِّيعَ وَالتَّاجِرَ لَا يُسَافِرُ وَهُوَ جَازِمٌ بِأَنْ يَرْبَحَ وَالْمُتَعَلِّمَ لَا يَتْعَبُ فِي تَعَلُّمِهِ وَهُوَ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ وَيُثْمِرُ عَلَيْهِ مَا يَتَعَلَّمُهُ لَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَبِهِ) أَيْ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ لِفَوَائِدَ مَظْنُونَةٍ (ظَهَرَ إيجَابُهُ) أَيْ الْعَقْلُ (الْعَمَلُ عِنْدَ ظَنِّ الثَّوَابِ) وَإِنْ أَمِنَ الْخَطَأَ تَحْصِيلًا لِفَوَائِدَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ.
(وَثَبَتَ) وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ (شَرْعًا بِتَتَبُّعِ مَوَارِدِهِ) أَيْ الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَكَيْفَ لَا وَالْمَظَانُّ الْأَكْثَرِيَّةُ لَا تُتْرَكُ بِالِاحْتِمَالَاتِ الْأَقَلِّيَّةِ وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ الْأَسْبَابُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَدِلَّتِهَا ظَنِّيَّةٌ (وَثُبُوتُ الْجَمْعِ) شَرْعًا (بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ) كَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا وَخَطَأً فِي الْفِدَاءِ وَبَيْنَ زِنَا الْمُحْصَنِ وَرِدَّةِ الْمُسْلِمِ فِي الْقَتْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَ) ثُبُوتُ (الْفَرْقِ) شَرْعًا (بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ) كَقَطْعِ سَارِقِ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَجَلْدِ مَنْ نَسَبَ الْعَفِيفَ إلَى الزِّنَا دُونَ مَنْ نَسَبَ الْمُسْلِمَ إلَى الْكُفْرِ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي نِسْبَةِ الْمُحَرَّمِ إلَى الْغَيْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (إنَّمَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ كَوْنُ التَّكْلِيفِ بِالْمَنَاطِ الْمَذْكُورِ مُسْتَحِيلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ ضِدُّ ذَلِكَ وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ كَمَا ذَكَرَ النَّظَّامُ (لَوْ لَمْ يَكُنْ) الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ (بِجَامِعٍ) اشْتَرَكَتْ فِيهِ وُجِدَ فِي الْكُلِّ يَقَعُ بِهِ (التَّمَاثُلُ) بَيْنَهَا فَإِنَّ الْمُخْتَلِفَاتِ لَا يُمْنَعُ اجْتِمَاعُهَا فِي صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ وَأَحْكَامٍ (أَوْ) لَمْ يَكُنْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ لِوُجُودِ (فَارِقٍ) بَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ (تَقْتَضِيهِ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ إنَّمَا يَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَصْلِ مُعَارِضٌ يَقْتَضِي حُكْمًا غَيْرَهُ وَلَا فِي الْفَرْعِ مُعَارِضٌ أَقْوَى يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَكُلٌّ مِنْ انْتِفَاءِ الْجَامِعِ وَالْفَارِقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ (وَلَا) مُمْتَنِعٍ (سَمْعًا خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَالْقَاسَانِيِّ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إلَى بَلْدَةٍ بِتُرْكِسْتَانَ (وَالنَّهْرَوَانِيّ) هَذَا عَلَى مَا فِي الْكَشْفِ وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ الْبَدِيعِ عَنْ دَاوُد وَابْنِهِ وَالْقَاسَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيّ إنْكَارَ وُقُوعِهِ شَرْعًا وَمَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ وُقُوعِهِ شَرْعًا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا ثُمَّ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ ذِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُومِي إلَيْهَا.
قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ وَلِذَا لَا يُنْكِرُونَ قِيَاسَ الْأَوْلَى وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ إنْكَارُ وُقُوعِ الْقِيَاسِ بِجُمْلَتِهِ إلَّا عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ ثُمَّ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ إلَى أَنَّ مَا صَارَ الْقَاسَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا لَيْسَ قَوْلًا بِالْقِيَاسِ بَلْ هُوَ يَتَتَبَّعُ النَّصَّ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي إنْكَارِهِ جُمْلَةً وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِبَعْضِ الْقِيَاسِ انْتَهَى وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْ الْقَاسَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ فِي صُورَتَيْنِ كَوْنِ عِلَّةِ الْأَصْلِ مَنْصُوصَةً بِصَرِيحِ اللَّفْظِ أَوْ بِإِيمَائِهِ وَكَوْنِ الْفَرْعِ بِالْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ الْأَصْلِ كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ
(3/242)
وَاعْتَرَفَا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ هُنَا مَدْخَلٌ لَا فِي الْوُجُوبِ وَلَا فِي عَدَمِهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَهَذَا الثَّانِي أَبْدَلَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ كَرَجْمِ مَاعِزٍ وَفِي الْبُرْهَانِ بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَقِيَاسِ صَبِّ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فِيهِ وَجَعْلِ الثَّانِي مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ هَذَا (وَاسْتِدْلَالُهُمْ) أَيْ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ شُرُوحِ أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لِمَانِعِيهِ عَقْلًا فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ لِمَانِعِيهِ سَمْعًا إمَّا عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ نَقْلِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِلسَّمَاعِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ إذْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ فَظَاهِرٌ وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَتَاهُ ثَابِتَتَيْنِ بِالنَّقْلِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مِنْهُ الْعَقْلَ نَعَمْ الْعِبَارَةُ مُوهِمَةٌ نَقْلَ هَذَا عَنْ الْمَانِعِينَ سَمْعًا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ (بِأَنَّ فِي حُكْمِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ (اخْتِلَافًا) مِنْ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَالْإِضَافَةِ وَعَدَمِهَا (فَهُوَ) أَيْ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ (مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ (مَدْفُوعٌ بِمَنْعِ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فِي الْآيَةِ مَا فِي الْأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ أَيْ فِي بَعْضِهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ.
(بَلْ) الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلرَّدِّ فِيهَا (التَّنَاقُضُ) فِي الْمَعْنَى (وَالْقُصُورُ) عَنْ الْبَلَاغَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ التَّحَدِّي وَالْإِلْزَامُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ بَعْضُ أَخْبَارِهِ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ دُونَ بَعْضٍ وَالْعَقْلُ مُوَافِقًا لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ دُونَ بَعْضٍ وَكَانَ مُتَفَاوِتًا فِي النَّظْمِ إلَى رَكِيكٍ وَفَصِيحٍ ثُمَّ إلَى فَصِيحٍ بَالِغٍ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَقَاصِرٍ عَنْهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ لِنُقْصَانِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأُورِدَ لِمَ قُلْتُمْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَزِمَهُ الِاخْتِلَافُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ هِيَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهَا لِإِتْقَانِ مُصَنِّفِيهَا إيَّاهَا وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ مِثْلَ الْقُرْآنِ نَظْمِهِ وَطَرِيقِ إعْجَازِهِ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَشَرًا تَكَلَّفَهُ فِي مِثْلِ حَجْمِهِ لَلَزِمَهُ الِاخْتِلَافُ لِوُعُورَةِ طَرِيقِهِ عَلَى السَّالِكِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ ثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَهُ بَشَرٌ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَهِيٍّ لَأَعْجَزَهُ اللَّهُ فِيهِ بِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الدَّالِّ عَلَى كَذِبِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَيِّدُهُ بِالْمُعْجِزَةِ تَمْيِيزًا لِلصَّادِقِ مِنْ غَيْرِهِ (وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) أَيْ وَاسْتِدْلَالُ مَانِعِيهِ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] (وَنَحْوِهِ) أَيْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] أَيْ عَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ كِتَابَهُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَجَمِيعَ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا كُلُّ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ الْقُرْآنُ لَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا عُزِيَ إلَى عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الْعُمُومُ فِيهِمَا (مَخْصُوصٌ قَطْعًا) إذْ لَيْسَ كُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فِي الْقُرْآنِ.
(أَوْ هُوَ) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ (فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ (إجْمَالًا) وَلَوْ بِالْإِحَالَةِ إلَى السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَيَكُونُ مُبَيِّنًا لَهُ بِطَرِيقٍ إجْمَالِيٍّ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظًا كَمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُبَيَّنٌ فِيهِ تَفْصِيلًا (فَجَازَ فِيهِ) أَيْ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا (حُكْمُ الْقِيَاسِ) وَهُوَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ أَيْ اعْتِبَارُهُ (فَيَعْلَمُهُ الْمُجْتَهِدُ) بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ (كَمَا جَازَ) أَنْ يَكُونَ (الْكُلُّ) أَيْ كُلُّ الْأَحْكَامِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ (وَيَعْلَمُهُ النَّبِيُّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قِيلَ جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ تَقَاصَرَتْ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ مُتَمَسَّكُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ الْقُرْآنِ حَجَّةً) بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوهُ (وَهُوَ) أَيْ انْتِفَاءُ حُجِّيَّةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ (مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ (أَيْضًا) فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذَا اللَّازِمِ لَهُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا (وَبِهِ) أَيْ وَبِانْتِفَاءِ هَذَا اللَّازِمِ عِنْدَهُمْ (يَبْعُدُ نِسْبَةُ هَذَا) الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَتَيْنِ (لَهُمْ عَلَى الِاقْتِصَارِ) عَلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حِكَايَةِ النَّاقِلِينَ لَهُ عَنْهُمْ (وَأَمَّا) الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَيْ الْقُرْآنُ تِبْيَانٌ لِلْقِيَاسِ (بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ) أَيْ الْقُرْآنِ (عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ نَصًّا) أَيْ لَفْظًا.
(وَحُكْمِ
(3/243)
الْفَرْعِ دَلَالَةً) أَيْ مَعْنًى (فَلَيْسَ) كَذَلِكَ (وَإِلَّا فَكُلُّ قِيَاسٍ مَفْهُومٌ مُوَافَقَةً) لِأَنَّهُ الَّذِي شَأْنُهُ هَذَا (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ كَوْنُ الْقُرْآنِ أَفَادَ الْأُصُولَ بِالنَّصِّ وَالْفُرُوعَ بِالدَّلَالَةِ (مَمْنُوعٌ فِي) الْأَشْيَاءِ (السِّتَّةِ) الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ (أُصُولُ الرِّبَا) الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ (وَ) فِي (كَثِيرٍ) مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا (بَلْ) بَيَانُ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ إنَّمَا هُوَ (بِالسُّنَّةِ فَقَطْ وَحَدِيثُ) «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا وَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَفِي سَنَدِهِ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ فِيهِ مَقَالٌ وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ (لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ) وَهُوَ إظْهَارُ مَا قَدْ كَانَ وَرَدُّ مَشْرُوعٍ إلَى نَظِيرِهِ فِي حُكْمِهِ بِالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ فِي نَصْبِ الشَّرَائِعِ بِالْآرَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا بِمَا كَانَ مَشْرُوعًا جَهْلًا مِنْهُمْ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ أَشَدُّ النَّاسِ نَكِيرًا لِذَلِكَ (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ لَهُ سَمْعًا أَيْضًا (أَرْشَدُ إلَى تَرْكِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ (بِإِيجَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْأَصْلِ) وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ (فِيمَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ) فِيهِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَكُلُّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُحَرَّمًا لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
(الْجَوَابُ) هَذَا (إنَّمَا يُفِيدُ مَنْعَ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً بِهِ) أَيْ بِالْقِيَاسِ (وَبِهِ) أَيْ وَبِمَنْعِ إثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً بِهِ (نَقُولُ كَمَا) نَقُولُ بِامْتِنَاعِهِ فِيمَا (لَمْ يُدْرَكْ مَنَاطُهُ قَالُوا) أَيْضًا الْقِيَاسُ (ظَنِّيٌّ) فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ حَقِّ الشَّارِعِ بِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَيَانِ الْقَطْعِيِّ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَالشُّبُهَاتِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِقَطْعِيٍّ (لَا) أَنَّهُ (كَخَبَرِ الْوَاحِدِ) فَإِنَّهُ بَيَانٌ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ قَطْعِيٌّ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا فَأَثَّرَ تَمَكُّنُهَا فِي انْتِفَاءِ الْيَقِينِ وَخَرَجَ الْخَبَرُ بِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعِلْمِ كَالنَّصِّ الْمُؤَوَّلِ (وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيمِهِ) أَيْ خَبَرِ الْوَاحِدِ (عَلَيْهِ) أَيْ الْقِيَاسِ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْ الْخَبَرِ الْحَاصِلِ الْآنَ وَهُوَ مَظْنُونٌ كَالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ عِنْدَنَا مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ كَمَا أَنَّ الْخَبَرَ أَصْلُهُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ لِأَنَّ الْوَصْفَ كَالْخَبَرِ وَالتَّعْلِيلَ كَالرِّوَايَةِ فَكَمَا احْتَمَلَتْ الرِّوَايَةُ الْغَلَطَ احْتَمَلَ التَّعْلِيلُ الْغَلَطَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ سَاقِطٌ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَيْهَا لِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَعَ ذَلِكَ أُطْلِقَ لَنَا الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ فِيهِ إمَّا التَّحْقِيقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَسِعْنَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْكَامِ (ثُمَّ بَعْدَ جَوَازِهِ) أَيْ تَكْلِيفِ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ مَنَاطِ الْحُكْمِ (وَقَعَ) التَّكْلِيفُ بِهِ (سَمْعًا قِيلَ ظَنًّا لِأَبِي الْحُسَيْنِ وَلِذَا) أَيْ وُقُوعِهِ ظَنًّا عِنْدَهُ (عَدَلَ) فِي إثْبَاتِهِ (إلَى مَا تَقَدَّمَ) مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَإِنَّ السَّمْعِيَّ يُفِيدُ ظَنَّ إيجَابِ الْقِيَاسِ حِينَئِذٍ وَإِثْبَاتُ أَصْلٍ دِينِيٍّ ثَبَتَ بِهِ الْأَحْكَامُ لَا يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ.
(وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ الْأَكْثَرُ وَقَعَ (قَطْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ بِأَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَصْلُ الَّذِي تُرَدُّ إلَيْهِ النَّظَائِرُ عِبْرَةً وَهَذَا يَشْمَلُ الِاتِّعَاظَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالشَّرْعِيَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ سَوْقَ الْآيَةِ لِلِاتِّعَاظِ فَتَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةً وَعَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً (وَكَوْنُهُ) أَيْ اعْتَبِرُوا (مَخْصُوصًا بِمَا انْتَفَتْ شَرَائِطُهُ) أَيْ خُصَّ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ مَا انْتَفَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْقِيَاسِ (وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ) أَيْ اعْتَبِرُوا (لِلنَّدْبِ وَ) احْتِمَالُ (كَوْنِهِ) أَيْ اعْتَبِرُوا خِطَابًا (لِلْحَاضِرِينَ) فَقَطْ (وَ) احْتِمَالُ (إرَادَةِ الْمَرَّةِ) مِنْ الِاعْتِبَارِ (وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ) فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ بِكُلِّ قِيَاسٍ صَحِيحٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ جَوَابُهُ أَنَّ اعْتَبِرُوا فِي مَعْنَى افْعَلُوا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ عَامٌّ وَالتَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ (لَا يَنْفِي الْقَطْعَ بِهِ) أَيْ بِمَا عَدَاهُ (لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالْعَقْلِ) عَلَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْعُمُومِ فَالْإِطْلَاقُ كَافٍ وَلَفْظُ {أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] يَعُمُّ الْمُجْتَهِدِينَ بِلَا نِزَاعٍ (وَلَيْسَ بِكُلِّ تَجْوِيزٍ عَقْلِيٍّ يَنْتَفِي الْقَطْعُ)
(3/244)
فَلَا عِبْرَةَ بِبَاقِي الِاحْتِمَالَاتِ (وَإِلَّا انْتَفَى) الْقَطْعُ (عَنْ السَّمْعِيَّاتِ) لِطُرُوقِهِ لَهَا بَلْ لَوْ اُعْتُبِرَ لَمْ يَصِحَّ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
(وَأَمَّا ظُهُورُ كَوْنِهِ) أَيْ الِاعْتِبَارِ (فِي الِاتِّعَاظِ بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِ السَّبَبِ) الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ (وَلِبُعْدِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ (فَقِيسُوا الذُّرَةَ بِالْبُرِّ) كَمَا هُوَ لَازِمُ الِاسْتِدْلَالِ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ (فَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ) لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ فَانْتَفَى الْأَوَّلُ وَظَهَرَ كَوْنُهُ فِي الِاتِّعَاظِ (وَبِهِ) أَيْ وَبِهَذَا (انْتَفَى الثَّانِي) أَيْضًا وَهُوَ بُعْدُ تَرْتِيبِ فَاعْتَبِرُوا عَلَيْهِ (إذْ الْمُرَتَّبُ) عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ الِاعْتِبَارُ (الْأَعَمُّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ (أَيْ فَاعْتَبِرُوا الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ فِي مَنَاطِهِ فِي الْمَثُلَاتِ) أَيْ الْعُقُوبَاتِ جَمْعُ مَثُلَةٍ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَضَمِّهَا (وَغَيْرِهَا وَهَذَا) الطَّرِيقُ فِي إثْبَاتِ التَّكْلِيفِ بِالْقِيَاسِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مِنْ الْآيَةِ (أَيْسَرُ مِنْ إثْبَاتِهِ) أَيْ التَّكْلِيفِ بِهِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مِنْهَا (دَلَالَةً) كَمَا تَنَزَّلَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَقَالَ وَطَرِيقُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَلَاكَ قَوْمٍ بِنَاءً عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ اعْتِزَازُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ لِيَكُفَّ عَنْ مِثَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحُكْمِهَا فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ مَفْهُومًا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَيَكُونُ دَلَالَةَ نَصٍّ لَا قِيَاسًا حَتَّى لَا يَكُونَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ بَلْ فِي التَّلْوِيحِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاءَ بَلْ صَرِيحُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَقْتَضِي الْعِلَّةَ التَّامَّةَ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ وُجُوبِ الِاتِّعَاظِ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ السَّابِقَةَ غَايَةُ فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ السَّبَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ بَلْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّحْقِيقِ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (إذْ لَا يَفْهَمُ مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ الْأَمْرَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ) الْأَمْرِ بِ (الِاتِّعَاظِ) وَقَدْ أُجِيبَ أَوَّلًا بِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ وَظَاهِرٌ أَنْ لَا عِلَّةَ هُنَا لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ سِوَى الْقَضِيَّةِ السَّابِقَةِ فَتَكُونُ كُلُّ الْعِلَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِكَوْنِهَا لَهَا دَخْلٌ فِي الْعِلَّةِ تَثْبُتُ أَيْضًا أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى الْعِلِّيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ وَثَانِيًا بِأَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ فِيهِ عَارِفٌ بِاللُّغَةِ فَلَوْ شَكَّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ أَوْ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشَّكَّ عِنَادًا، هَذَا وَالشَّرْطُ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ثَابِتًا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لُغَةً بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ (وَأَيْضًا قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ التَّفَاصِيلُ آحَادًا كَمَا تَقِفُ الْآنَ عَلَيْهِ عَنْ أَعْيَانٍ مِنْهُمْ.
(وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ فِي مِثْلِهِ) أَيْ الْعَمَلِ بِهِ (بِأَنَّهُ) إنَّمَا يَكُونُ (عَنْ قَاطِعٍ فِيهِ) أَيْ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى التَّعْيِينِ (وَأَيْضًا شَاعَ مُبَاحَثَتُهُمْ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ (وَتَرْجِيحُهُمْ) الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ (بِلَا نَكِيرٍ) لِذَلِكَ (فَكَانَ) ذَلِكَ (إجْمَاعًا مِنْهُمْ فِي حُجِّيَّتِهِ لِقَضَاءِ الْعَادَةِ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِهِ حُجَّةً (فِي مِثْلِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَا سُكُوتًا) يُفِيدُ الظَّنَّ (وَحَدِيثُ مُعَاذٍ) الْمُفِيدُ حُجِّيَّةَ الْقِيَاسِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مُخَرَّجًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَيْسَتْ لُغَوِيَّةً مَبْدَئِيَّةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ (يُفِيدُ طُمَأْنِينَةً) وَهُوَ فَوْقَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ بِالْآحَادِ (فَإِنَّهُ) أَيْ حَدِيثَهُ (مَشْهُورٌ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ) فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُصُولُ فَإِنْ قِيلَ الِاجْتِهَادُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَالْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْقِيَاسُ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةُ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ الدَّلَالَةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْجَوَازِ لِغَيْرِ مُعَاذٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ احْتِيَاجِهَا إلَى الِاجْتِهَادِ هِيَ مَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ فَقَطْ لَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ لِبَقَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ الَّتِي تَبْتَنِي عَلَى قِيَاسٍ غَيْرِ مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ (وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَنْصُوصِ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ) أَيْ مُعَاذٍ
(3/245)
أَقْضِي بِمَا فِي (كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) ثَابِتٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْهُمَا مَوْجُودٌ فِيهِمَا (فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِيَاسُ) مُطْلَقًا.
(وَالْقَطْعُ بِأَنَّ إطْلَاقَهُ) أَيْ إطْلَاقَ جَوَازِهِ لِمُعَاذٍ (لَيْسَ إلَّا لِاجْتِهَادِهِ لَا لِخُصُوصِهِ) فَثَبَتَ فِي غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَالصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (مِنْ ذَمِّهِ) أَيْ الْقِيَاسِ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ قَالَ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّقُوا الرَّأْيَ فِي دِينِكُمْ إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ اتَّهَمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَعَنْهُ أَيْضًا إيَّاكُمْ وَأَرَأَيْت وَأَرَأَيْت فَتَزَلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَرَوَى هُوَ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ يُحَدِّثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْثَلِمُ فَبَعْدَ صِحَّتِهِ عَنْهُمْ (فَالْقَطْعُ بِأَنَّهُ) أَيْ الذَّمَّ (فِي غَيْرِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرِّجًا بَلْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ رَأَيْت فِي الْكَلَالَةِ رَأْيًا فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ قِبَلِي وَالشَّيْطَانِ الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَالَ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي إلَخْ وَفِي مُسْنَدِ الطَّبَرَانِيِّ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ضَعِيفٌ وَفِيمَا وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ثُمَّ إنَّمَا كَانَ مُرَادُ الذَّامِّينَ غَيْرَ مَا نَحْنُ فِيهِ (إذْ قَاسَ كَثِيرٌ) وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ الصَّحَابَةُ (حَرَامٌ عَلَى طَالِقٍ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَخْرِيجٍ فِيهِ بَلْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ وَالْخِلْيَةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْبَتَّةِ هِيَ ثَلَاثٌ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الَّذِي يُحَرِّمُ أَهْلَهُ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَرِجَالُهُمَا ثِقَاتٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَعَلِيٍّ وَالثَّانِيَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ قَالَ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ اهـ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ رَوَى وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ.
ثُمَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِطَالِقٍ عِنْدَهُمْ سِوَى وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ وَاحِدَةٍ بِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهَذَا فِي تَمْشِيَتِهِ قِيَاسٌ عَلَى طَالِقٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ بِهِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِوُقُوعِهَا بَائِنَةً وَالْوَاقِعُ بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ثُمَّ إنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ بِالْحَرَامِ إذَا نَوَاهَا لَا بِطَالِقٍ (وَ) قَاسَ (عَلِيٌّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الشَّارِبَ) لِلْخَمْرِ (عَلَى الْقَاذِفِ) فِي الْحَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَبَعِيدًا (وَ) قَاسَ (الصِّدِّيقُ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ) فِي التَّرْكِ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ فَسَاقَهُ وَفِيهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمِنْ قَوْلِ عُمَرَ فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ (وَفِيهِ) أَيْ قِيَاسِ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ (إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا) فَإِنَّهُمْ وَافَقُوهُ عَلَيْهِ (وَوَرَّثَ) أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أُمَّ الْأُمِّ لَا أُمَّ الْأَبِ) لَمَّا اجْتَمَعَتَا (فَقِيلَ لَهُ) وَالْقَائِلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ كَمَا أَفَادَتْهُ رِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مَا مَعْنَاهُ (تَرَكْت الَّتِي لَوْ كَانَتْ الْمَيِّتَةَ) وَهُوَ حَيٌّ (وَرِثَ الْكُلَّ) مِنْهَا إذَا انْفَرَدَ (أَيْ هِيَ) أَيْ أُمُّ الْأَبِ (أَقْرَبُ) مِنْ أُمِّ الْأُمِّ (فَشَرَكَ) أَبُو بَكْرٍ (بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ) عَلَى السَّوَاءِ أَخْرَجَ مَعْنَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
(وَ) وَرَّثَ (عُمَرُ الْمَبْتُوتَةَ بِالرَّأْيِ) فَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَنَّهَا تَرِثُهُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا يَرِثُهَا وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ عُثْمَانَ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (وَابْنُ مَسْعُودٍ) قَاسَ (مَوْتَ زَوْجِ الْمُفَوَّضَةِ) قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي لُزُومِ جَمِيعِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَوْتِ زَوْجِ غَيْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي لُزُومِ
(3/246)
جَمِيعِ الْمُسَمَّى لَهَا وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُقَارَنَةَ فِي التَّخْصِيصِ وَفِي التَّنْبِيهِ بِذَيْلِ مَسْأَلَةِ " عِرْفَانُ الشُّهْرَةِ مُعَرِّفٌ لِلْعَدَالَةِ " نَعَمْ لَمْ يَقَعْ فِي الرِّوَايَةِ تَصْرِيحُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْقِيَاسِ وَلَا ضَيْرَ فَإِنَّهُ لَازِمُ قَوْلِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ لِلصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ (أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ وَاخْتِلَافُهُمْ) أَيْ الصَّحَابَةُ (فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ) لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ (كُلٌّ) مِنْهُمْ (قَالَ فِيهِ بِالتَّشْبِيهِ) فَقَدْ أَخْرَجَ طَلْحَةُ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ الصَّادِقِ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ عَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَرَأَيْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ شَجَرَةً انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ ثُمَّ انْشَعَبَ مِنْ الْغُصْنِ غُصْنٌ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إلَى أَحَدِ الْغُصْنَيْنِ أَصَاحِبُهُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أَمْ الشَّجَرَةُ وَقَالَ زَيْدٌ لَوْ أَنَّ جَدْوَلًا انْبَعَثَ مِنْ سَاقِيَةٍ ثُمَّ انْبَعَثَ مِنْ السَّاقِيَةِ سَاقِيَتَانِ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إحْدَى السَّاقِيَتَيْنِ إلَى صَاحِبَتِهَا أَمْ الْجَدْوَلُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ.
[مَسْأَلَةُ النَّصِّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا]
(مَسْأَلَةُ النَّصِّ) مِنْ الشَّارِعِ (عَلَى الْعِلَّةِ) لِلْحُكْمِ (يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا) أَيْ بِالْعِلَّةِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِيهَا (وَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ شَرْعِيَّةُ الْقِيَاسِ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ وَالنَّظَّامِ وَالْقَاسَانِيِّ) وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ (وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ) قَالَ يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا (فِي التَّحْرِيمِ) أَيْ إذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ الْفِعْلَ دُونَ غَيْرَهُ (خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ) فِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيهِ الْحُكْمَ بِهَا مُطْلَقًا (لَهُمْ) أَيْ الْجُمْهُورِ (انْتِفَاءُ دَلِيلِ الْوُجُوبِ) لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا ثَابِتٌ (وَهُوَ) أَيْ دَلِيلُهُ (الْأَمْرُ) بِالتَّعَدِّيَةِ بِهَا (أَوْ الْإِخْبَارُ بِهِ) أَيْ بِالْوُجُوبِ فَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ (وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال) لَهُمْ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ (بِلُزُومِ عِتْقِ كُلِّ) عَبْدٍ (أَسْوَدَ) لَهُ (لَوْ قَالَ أَعْتَقْت) عَبْدِي (غَانِمًا لِسَوَادِهِ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَثَابَةِ أَعْتَقْت كُلَّ عَبْدٍ لِي أَسْوَدَ وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ مَقْطُوعٌ بِهِ (فَمَرْدُودٌ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةَ وَمَنْ مَعَهُمْ (لَا يَقُولُونَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ مِنْ اللَّفْظِ لِيَلْزَمَ ذَلِكَ) اللُّزُومُ الْمَذْكُورُ (بَلْ) يَقُولُونَ (إنَّهُ) أَيْ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ (دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ) بِهَا عَلَى الْمُجْتَهِدِ (أَيْنَ وُجِدَ) الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَذَكَرَهَا بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى نَقْلِ الْأَكْثَرِينَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّنْصِيصَ عَلَى الْعِلَّةِ أَمْرًا بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَالْآمِدِيُّ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعِلَّةِ يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا بِطَرِيقِ عُمُومِ اللَّفْظِ فَيَتِمُّ اللُّزُومُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ.
(وَكَذَا) الِاسْتِدْلَال لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ (بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَرَّمْت الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهَا وَ) حَرَّمْت (كُلَّ مُسْكِرٍ إذَا كَانَ مِنْ وَاجِبِ الِامْتِثَالِ) وَالثَّانِي يُفِيدُ عُمُومَ الْحُرْمَةِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ فَكَذَا الْأَوَّلُ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرِ الْعِلَّةِ صَرِيحًا وَبَيْنَ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مَرْدُودٌ (لِمَا ذَكَرْنَا) آنِفًا مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ مِنْ اللَّفْظِ لِيَلْزَمَ عَدَمُ الْفَرْقِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّظَّامِ عَلَى نَقْلِ غَيْرِ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ (وَالْفَرْقُ) الْمُدَّعَى لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ بَيْنَ كَوْنِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ يُوجِبُ تَعَدِّيَةَ الْحُكْمِ بِهَا وَبَيْنَ عَدَمِ لُزُومِ الْعِتْقِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ (بِأَنَّ الْقِيَاسَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكْفِي فِيهِ الظُّهُورُ وَالْعِتْقُ زَوَالُ حَقِّ آدَمِيٍّ فَبِالصَّرِيحِ) أَيْ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ (مَمْنُوعٌ بِأَنَّ الْعِتْقَ كَذَلِكَ) أَيْ يَكْفِي فِيهِ الظُّهُورُ (لِتَشَوُّفِهِ) أَيْ الشَّارِعِ (إلَيْهِ) حَتَّى كَانَ أَحَبَّ الْمُبَاحَاتِ إلَيْهِ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ الْعِتْقِ (حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَلَنَا أَنَّ ذِكْرَ الْعِلَّةِ مَعَ الْحُكْمِ يُفِيدُ تَعْمِيمَهُ) أَيْ الْحُكْمَ (فِي مَحَالِّ وُجُودِهَا لِأَنَّهُ يَتَبَادَرُ إلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ سَمِعَ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا أَسْكَرَ وَمِنْ قَوْلِ طَبِيبٍ لَا تَأْكُلْهُ) أَيْ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ (لِبُرُودَتِهِ مَنَعَهُ) أَيْ الْمُخَاطَبَ (مِنْ) أَكْلِ (كُلِّ بَارِدٍ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ) أَيْ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ (لِبَيَانِ حِكْمَتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (مَعَ مَنْعِ الْمُجْتَهِدِ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ (أَوْ أَنَّهُ) أَيْ النَّصَّ عَلَيْهَا فِي نَحْوِ حَرَّمْت الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهَا إنَّمَا هُوَ (لِخُصُوصِ إسْكَارِ الْخَمْرِ) أَيْ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ
(3/247)
إسْكَارُ الْخَمْرِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَيْدُ الْإِضَافَةِ إلَى الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا فِي الْعِلَّةِ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ إسْكَارِهَا بِتَرَتُّبِ مَفْسَدَةٍ عَلَيْهِ دُونَ إسْكَارِ غَيْرِهَا لَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِسْكَارُ مُطْلَقًا احْتِمَالٌ (لَا يَقْدَحُ فِي الظُّهُورِ كَاحْتِمَالِ خُصُوصِ الْعَامِّ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ) وَعَدَمِ الْعُثُورِ عَلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَيْ الْعَامَّ (حِينَئِذٍ) أَيْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ وَعَدَمِ الْعُثُورِ عَلَيْهِ (ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ) فَإِنَّ الظُّهُورَ لَا يَدْفَعُ بِالِاحْتِمَالِ الْغَيْرَ الظَّاهِرَ وَكَيْفَ وَهُوَ لَازِمُهُ (فَبَطَلَ مَنْعُهُ) أَيْ كَوْنُ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ مُوجِبًا لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا (بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ) أَيْ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ (لِتُعْقَلَ فَائِدَةُ شَرْعِيَّتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مَعَ قَصْرِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (عَلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَإِنَّمَا بَطَلَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَأَبْعَدُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّجْوِيزِ الْمَذْكُورِ (تَعْلِيلُ كَوْنِهِ) أَيْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ (بِإِسْكَارِهَا بِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لَا تُعَلَّلُ بِكُلِّ إسْكَارٍ) بَلْ بِالْإِسْكَارِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهَا كَمَا ذَكَرَهُ عَضُدُ الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ أَبْعَدَ (لِأَنَّ الْمُدَّعَى ظُهُورُ) نَحْوِ (حُرْمَتِهَا لِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ فِي التَّعْلِيلِ بِالْإِسْكَارِ الدَّائِرِ فِي كُلِّ إسْكَارٍ دُونَ الْإِسْكَارِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ) وَهِيَ الْإِضَافَةُ إلَى الْخَمْرِ (لِتَبَادُرِ الْغَايَةِ) أَيْ خُصُوصِ الْإِضَافَةِ (إلَى عَقْلِ كُلِّ مَنْ فَهِمَ مَعْنَى السُّكْرِ وَاعْتَرَفَ هَذَا الْقَائِلُ) يَعْنِي عَضُدَ الدِّينِ (بِإِفَادَةِ قَوْلِ الطَّبِيبِ لَا تَأْكُلْهُ لِبَرْدِهِ التَّعْمِيمَ) أَيْ الْمَنْعَ مِنْ أَكْلِ كُلِّ بَارِدٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ.
(وَهُوَ) أَيْ وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ (مِثْلُهُ) فَيَكُونُ مُفِيدًا مَنْعَ شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ (دُونَ) أَنْ يَقُولَ (إنَّ الْمَنْعَ) فِيهِ إنَّمَا هُوَ (مِنْ ذَلِكَ الْبَارِدِ) بِخُصُوصِهِ (وَلَا يُعَلَّلُ) الْمَنْعُ مِنْهُ (بِكُلِّ بُرُودَةٍ) كَمَا قَالَ فِي حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِإِسْكَارِهَا لَا تَعْلِيلَ بِكُلِّ إسْكَارٍ بَلْ بِالْإِسْكَارِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهَا (وَفَرَّقَ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ مُوجِبٌ ضَرَرًا) لِأَنَّ النَّهْيَ الشَّرْعِيَّ الْمُفِيدُ لِلتَّحْرِيمِ إنَّمَا يَقَعُ عَنْ مُضِرٍّ (فَيُفِيدُ) النَّهْيُ عَنْهُ (الْعُمُومَ) فِي عِلَّتِهِ فَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ لِأَذَاهُ دَالٌّ عَلَى طَلَبِ تَرْكِ أَكْلِ كُلِّ مُؤْذٍ كَقَوْلِ الطَّبِيبِ الْمَذْكُورِ (وَالْفِعْلُ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ) كَالتَّصَدُّقِ عَلَى فَقِيرٍ لِلْمَثُوبَةِ (لَا يُوجِبُ كُلَّ تَحْصِيلٍ) لِكُلِّ مَثُوبَةٍ (لَا يُفِيدُ) مَطْلُوبَهُ (بَعْدَ ظُهُورِ أَنَّهُ) أَيْ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ (مِنْ الشَّارِعِ يُفِيدُ إيجَابَ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (وَيَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِاعْتِبَارِهِ وَمُسْتَلْزِمًا لِوُجُوبِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (لَزِمَتْ مُخَالَفَةُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (وَهُوَ) أَيْ خِلَافُ اعْتِبَارِهِ (مُضِرٌّ كَالنَّهْيِ وَهَذَا) الْجَوَابُ (تَفْصِيلُ رَدِّ دَلِيلِهِمْ) أَيْ الْجُمْهُورِ وَالظَّاهِرُ رَدُّ تَفْصِيلِ دَلِيلِهِمْ (الْأَوَّلِ) وَهُوَ انْتِفَاءُ الْأَمْرِ بِالتَّعَدِّيَةِ وَالْإِخْبَارِ بِوُجُوبِهَا بِهَا فَإِنَّ إفَادَةَ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ بِحَيْثُ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ إخْبَارُ مَعْنَى بِوُجُوبِهَا.
(وَأَمَّا مَا ذُكِرَ) فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ (مِنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَجْرِي الْخِلَافُ) فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ (فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ) بِمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ قَائِلًا بِجَرَيَانِهِ فِي جَمِيعِهَا وَقَائِلًا بِامْتِنَاعِهِ فِي بَعْضِهَا (فَمَعْلُومَةٌ مِنْ الشُّرُوطِ) لَهُ لِكَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَكَوْنِ الْفَرْعِ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهِ حُكْمُ نَصٍّ وَإِجْمَاعٍ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إفْرَادِ مَسْأَلَةٍ فِيهِ ثُمَّ الَّذِي فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشُرُوحِهِ وَغَيْرِهَا لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ خِلَافًا لِشُذُوذِ الْمُرَادِ وَاحِدٌ (وَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَنْقُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ) فِي هَذَا (بِالْخَطَأِ) إذْ لَا خِلَافَ يُنْقَلُ بَلْ وَلَا يُعْقَلُ فِي امْتِنَاعِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي حُكْمٍ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَاَلَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي امْتِنَاعِ جَرَيَانِهِ فِي بَعْضِهَا اتِّفَاقًا عَلَى مَا فِي بَعْضِهَا مِنْ خِلَافٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَمَا حَكَى مِنْ شُبْهَةِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَمَاثِلَةٌ لِشُمُولِ حَدِّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَهَا وَقَدْ جَرَى الْقِيَاسُ فِي الْبَعْضِ فَلْيَجْرِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ بِحَسَبِ اشْتِرَاكِهَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهَا فَسَاقِطٌ لِأَنَّ شُمُولَ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ تَمَاثُلَهَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُوجِبًا التَّمَاثُلَ لَكَانَ مُسَوِّغًا لِقِيَاسِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ ثُمَّ هَذَا.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ]
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ) وَنَذْكُرُ فِي طَيِّهَا مَا يَرِدُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا (يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ أَسْئِلَةٌ مَرْجِعُ مَا سِوَى الِاسْتِفْسَارِ إلَى الْمَنْعِ أَوْ الْمُعَارَضَةِ) لَا جَمِيعِهَا كَمَا أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْجَدَلِيِّينَ وَوَافَقَهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ
(3/248)
بِدَلِيلِهِ يَكُونُ بِصِحَّةِ مُقَدِّمَاتِهِ لِيَصْلُحَ لِلشَّهَادَةِ وَبِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ لِتَنْفُذَ شَهَادَتُهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَغَرَضُ الْمُعْتَرِضِ مِنْ عَدَمِ إثْبَاتِهِ بِهِ بِهَدْمِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ بِالْقَدْحِ فِي صِحَّةِ الدَّلِيلِ بِمَنْعِ مُقَدِّمَةٍ مِنْهُ أَوْ بِمُعَارَضَتِهِ بِمَا يُقَاوِمُهَا وَيَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهَا وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ الْقَبِيلَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَقْصُودِ الِاعْتِرَاضِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَمَشَى السُّبْكِيُّ عَلَى أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْمَنْعِ وَحْدَهُ مُوَافَقَةً لِبَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ مَنْعُ الْعِلَّةِ عَنْ الْجَرَيَانِ (أَوَّلُهَا) أَيْ الْأَسْئِلَةِ وَطَلِيعَتُهَا (الِاسْتِفْسَارُ) وَهُوَ طَلَبُ بَيَانِ مَعْنَى اللَّفْظِ (وَلَا يَخْتَصُّ) الْقِيَاسُ (بِهِ) بَلْ هُوَ جَارٍ فِي كُلِّ خَفِيِّ الْمُرَادِ وَهُوَ (مُتَّفَقٌ) عَلَيْهِ (وَلَمْ تَذْكُرْهُ الْحَنَفِيَّةُ لِثُبُوتِهِ بِالضَّرُورَةِ) إذْ بِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْمُخَاطَبُ يُسْتَفْسَرُ عَنْهُ.
(وَإِنَّمَا يَسْمَعُ فِي لَفْظٍ يُخْفَى مُرَادُهُ) وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْقَاضِي مَا تَمَكَّنَ فِيهِ الِاسْتِبْهَامُ حَسُنَ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ ظَاهِرًا (فَتَعَنُّتٌ) أَيْ فَالِاسْتِفْسَارُ تَعَنُّتٌ (مَرْدُودٌ) لِتَفْوِيتِهِ فَائِدَةَ الْمُنَاظَرَةِ إذْ يَأْتِي فِي كُلِّ لَفْظٍ يُفَسَّرُ بِهِ لَفْظٌ وَيَتَسَلْسَلُ وَفِي الصِّحَاحِ جَاءَنِي فُلَانٌ مُتَعَنِّتًا إذَا جَاءَ بِطَلَبِ زَلَّتِك (وَلَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (أَنْ لَا يَقْبَلَهُ) أَيْ اسْتِفْسَارَ الْمُعْتَرِضِ (حَتَّى يُبَيِّنَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ خَفَاءَ الْمُرَادِ مِنْهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْخَفَاءَ (خِلَافُ الْأَصْلِ) إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْخَفَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَضْعُ الْأَلْفَاظِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِي خِلَافِ الْأَصْلِ (وَيَكْفِيهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ فِي بَيَانِ الْخَفَاءِ (صِحَّةُ إطْلَاقِهِ) أَيْ اللَّفْظِ (لِمُتَعَدِّدٍ وَلَوْ) كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ (بِلَا تَسَاوٍ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (يُخْبِرُ بِالِاسْتِبْهَامِ عَلَيْهِ لِتِلْكَ الصِّحَّةِ) أَيْ صِحَّةِ إطْلَاقِهِ لِمُتَعَدِّدٍ فَيَكْفِيهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ظَنَّ التَّعَنُّتِ فِي حَقِّهِ وَيَصْدُقُ لِعَدَالَتِهِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ.
(وَجَوَابُهُ) أَيْ الِاسْتِفْسَارُ (بَيَانُ ظُهُورِهِ) أَيْ اللَّفْظِ (فِي مُرَادِهِ) مِنْهُ (بِالْوَضْعِ) أَيْ بِبَيَانِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمُرَادِ كَقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ لِانْتِهَاءِ حُرْمَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِوَطْءِ زَوْجٍ ثَانٍ شَرْعًا إذَا كَانَ قَائِلًا بِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْوَطْءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فِي جَوَابِ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ مَا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُقَالُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ وَالْعَقْدُ الْمُرَادُ الْوَطْءُ لِوَضْعِهِ لَهُ مَعَ عَدَمِ الْمُوجِبِ لِلْعُدُولِ عَنْهُ (أَوْ الْقَرِينَةِ) الْمُنْضَمَّةِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِلًا بِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ مُبَاشَرَتُهَا لَهُ فِي جَوَابِ الْمُعْتَرِضِ الْمَذْكُورِ الْمُرَادُ الْعَقْدُ بِقَرِينَةِ الْإِسْنَادِ إلَى الْمَرْأَةِ (أَوْ ذِكْرِ مَا أَرَادَ) بِهِ إذَا عَجَزَ عَنْ بَيَانِ ظُهُورِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ (بِلَا مُشَاحَّةِ تَكَلُّفِ نَقْلِ اللُّغَةِ أَوْ الْعُرْفِ فِيهِ) نَعَمْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ يَجِبُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ كَتَفْسِيرِ يُخْرِجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الثَّوْرَ لِقَائِلٍ مَا الثَّوْرُ الْقِطْعَةُ مِنْ الْأَقِطِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ فَيَخْرُجُ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُ وَقِيلَ يَسْمَعُ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ نَاظَرَهُ بِلُغَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَرُدَّ بِأَنَّ فِيهِ فَتْحَ بَابٍ لَا يَنْسَدُّ.
قَالَ السُّبْكِيُّ هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَشْهُورًا فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فَالْجَزْمُ تَبْكِيتُ الْمُعْتَرِضِ وَفِي مِثْلِهِ مَرَّ فَتَعَلَّمْ ثُمَّ ارْجِعْ فَتَكَلَّمْ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ التَّوْقَادِيُّ (وَأَمَّا) قَوْلُ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَفْعِ خَفَاءِ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِهِ لِلْمُعْتَرِضِ (يَلْزَمُ ظُهُورُهُ) أَيْ اللَّفْظِ (فِي أَحَدِهِمَا) أَيْ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي أَحَدِهِمَا (فَالْإِجْمَالُ) أَيْ فَيَلْزَمُ الْإِجْمَالُ لَهُ (وَهُوَ) أَيْ الْإِجْمَالُ (خِلَافُ الْأَصْلِ أَوْ) يَلْزَمُ ظُهُورُهُ (فِيمَا قَصَدْتَ إذْ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي الْآخَرِ) بِمُوَافَقَتِكَ إيَّايَ عَلَى ذَلِكَ (فَالْحَقُّ نَفْيُهُ) أَيْ هَذَا الدَّفْعِ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ نَفْيَهُ كَمَا عَلَيْهِ آخَرُونَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ وُرُودِهِ (فَاتَ الْغَرَضُ فَإِنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (ذَكَرَ عَدَمَ فَهْمِهِ) مُرَادُ الْمُسْتَدِلِّ (فَلَمْ يُبَيَّنْ) لَهُ مُرَادُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ فِي عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِالْقِيَاسِ (سُؤَالُ التَّقْسِيمِ) فَإِنَّهُ جَارٍ فِي جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ الْمَنْعَ وَلِذَا عَقَّبَهُ بِهِ وَهُوَ (مَنْعُ أَحَدِ مَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ) بِعَيْنِهِ (مَعَ تَسْلِيمِ الْآخَرِ) أَيْ كَوْنُهُ مُسْلِمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَالَ كَوْنِهِ الْمَنْعَ (مُقْتَصِرًا) إنْ لَمْ يَقْرُنْ بِذِكْرِ تَسْلِيمِ الْآخَرِ بِأَنْ سَكَتَ الْمُعْتَرِضُ عَنْ ذِكْرِ كَوْنِهِ مُسْلِمًا (أَوْ) قَرَنَ (بِذِكْرِهِ) أَيْ التَّسْلِيمِ لَهُ (كَفَى الصَّحِيحَ الْمُقِيمَ)
(3/249)
أَيْ كَمَا يُقَالُ فِي إجَازَةِ التَّيَمُّمِ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ (فَقْدُ الْمَاءِ فَوُجِدَ سَبَبُ التَّيَمُّمِ) وَهُوَ فَقْدُ الْمَاءِ (فَيَجُوزُ) التَّيَمُّمُ (فَيُقَالُ) مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَرِضِ (سَبَبِيَّةُ الْفَقْدِ) لِلْمَاءِ فَقْدُهُ (مُطْلَقًا أَوْ) فَقْدُهُ (فِي السَّفَرِ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ) وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ إذْ الْكَلَامُ فِي الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ.
(وَفِي الْمُلْتَجِئِ) أَيْ وَكَمَا يُقَالُ فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا إذَا لَاذَ بِالْحَرَمِ يُقْتَصُّ مِنْهُ إذْ (الْقَتْلُ) الْعَمْدُ (الْعُدْوَانُ سَبَبُهُ) أَيْ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ (فَيُقْتَصُّ فَيُقَالُ) الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ سَبَبُهُ (مُطْلَقًا) أَيْ مَعَ الِالْتِجَاءِ وَبِدُونِهِ (أَوْ) هُوَ سَبَبُهُ (مَا لَمْ يَلْتَجِ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ) وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَا يُلْزِمُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُلْتَجِئِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا السُّؤَالِ (فَقِيلَ لَا يُقْبَلُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَمْنُوعِ مُرَادًا) لِلْمُعْتَرِضِ وَلَا يَبْطُلُ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ حَتَّى يَكُونَ الْمَمْنُوعُ مُرَادَهُ (وَلِأَنَّ حَاصِلَهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ (ادِّعَاءُ الْمُعْتَرِضِ مَانِعًا) لِلْحُكْمِ (وَبَيَانُهُ) أَيْ الْمَانِعُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ لِدَعْوَاهُ أَمْرًا عَارِضًا (وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالُ (لِجَوَازِ عَجْزِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (عَنْ إثْبَاتِهِ) أَيْ الْمَمْنُوعِ وَلَهُ مَدْخَلٌ فِي هَدْمِ الدَّلِيلِ (وَاللَّفْظُ) لِلسَّائِلِ (يُفِيدُ نَفْيَ السَّبَبِيَّةِ لَا وُجُودَ الْمَانِعِ مَعَ السَّبَبِ وَأَمَّا كَوْنُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ (بِهِ) أَيْ بِالْإِبْطَالِ (يَتَبَيَّنُ مُرَادُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ وَرُبَّمَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَتْمِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ الْإِبْطَالِ كَمَا ذَكَرَهُ عَضُدُ الدِّينِ فِي تَوْجِيهِ هَذَا (فَلَيْسَ) كَذَلِكَ (بَلْ قِيَاسُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ (يُفِيدُهُ) أَيْ تَبْيِينُ مُرَادِهِ (إذْ تَرْتِيبُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ الْحُكْمَ إنَّمَا هُوَ (عَلَى الْفَقْدِ) لِلْمَاءِ مُطْلَقًا (وَالْقَتْلِ) الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ (مُطْلَقًا فَهُوَ) أَيْ مُرَادُهُ (مَعْلُومٌ) بِهَذَا.
(وَتَرْدِيدُ السَّائِلِ تَجَاهُلٌ أَوْ تَحْرِيرُ التَّرْتِيبِ عَلَى الْفَقْدِ الْمُقَيَّدِ) بِقَوْلِهِ فِي السَّفَرِ (مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِيضَاحِ وَيَكْفِيهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ (الْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ) وَلَا يَلْزَمُ بَيَانُهُ فَإِنَّ الدَّلِيلَ مَا لِوُجُودِ النَّظَرِ إلَيْهِ أَيْ بِلَا الْتِفَاتِ إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَعَدَمِهِ أَفَادَ الظَّنَّ وَإِنَّمَا بَيَانُ كَوْنِهِ مَانِعًا عَلَى الْمُعْتَرِضِ (هَذَا وَيُقْبَلُ) هَذَا السُّؤَالُ (وَإِنْ اشْتَرَكَا) أَيْ احْتِمَالًا لِلَّفْظِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَهُمَا (فِي التَّسْلِيمِ إذَا اخْتَلَفَا فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا مِنْ) الْأَسْئِلَةِ (الْفَوَادِحِ) فِيهِمَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي الْمَنْعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا وَالْآخَرُ مُسَلَّمًا هَذَا وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ هَذَا سُؤَالًا آخَرَ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِهِ وَاحِدًا مُسْتَقِلًّا مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ.
(ثُمَّ) قَالَ (الْحَنَفِيَّةُ الْعِلَلُ طَرْدِيَّةٌ وَمُؤَثِّرَةٌ) وَعَلِمْتُ أَنَّ (مِنْهَا) أَيْ الْمُؤَثِّرَةِ الْعِلَّةَ (الْمُلَائِمَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ فِيهَا) أَيْ الْمُؤَثِّرَةِ (إلَّا الْمَانِعَةُ) أَيْ مَنْعُ مُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ مَعَ السَّنَدِ أَيْ مَا الْمَنْعُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ أَوَّلًا مَعَهُ وَهِيَ مَنْعُ ثُبُوتِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ مَنْعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ مَنْعُ صَلَاحِيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ أَوْ مَنْعُ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ (وَالْمُعَارَضَةُ) وَهِيَ لُغَةً الْمُقَابَلَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ وَاصْطِلَاحًا تَسْلِيمُ دَلِيلِ الْمُعَلَّلِ دُونَ مَدْلُولِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَفْيِ مَدْلُولِهِ (لِأَنَّهُمَا لَا يَقْدَحَانِ فِي الدَّلِيلِ) كَمَا عَلِمْت (بِخِلَافِ فَسَادِ الْوَضْعِ) أَيْ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا نَقِيضُ مَا تَقْتَضِيهِ (وَ) فَسَادِ (الِاعْتِبَارِ) أَيْ كَوْنِ الْقِيَاسِ مُعَارَضًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَمَا سَنَذْكُرُ (وَالْمُنَاقَضَةُ) أَيْ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا قَالَ (أَيْ النَّقْضُ) لِئَلَّا يَتَبَادَرَ بِمَعْنَى مَنْعِ مُقَدِّمَةٍ بِعَيْنِهِ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْجَدَلِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ لِلسَّائِلِ فِي الْمُؤَثِّرَةِ (إذْ يُوجِبُ) كُلٌّ مِنْهَا (تَنَاقُضَ الشَّرْعِ) لِأَنَّ التَّأْثِيرَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ لَا تَحْتَمِلُ التَّنَاقُضَ فَكَذَا التَّأْثِيرُ الثَّابِتُ بِهَا لِأَنَّ فِي مُنَاقَضَتِهِ مُنَاقَضَتُهَا (وَهَذَا) أَيْ هَذَا النَّقْضُ إنَّمَا لَا يَكُونُ لِلسَّائِلِ فِي الْمُؤَثِّرَةِ (عَلَى مَنْعِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ) .
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهَا فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ الْمُنَاقَضَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ أَيْضًا فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أُجِيبَ بِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ الْمُعَارَضَةُ حَقِيقَةً تَحْتَمِلُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لِلْجَهْلِ بِالنَّاسِخِ بِخِلَافِ الْمُنَاقَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُهَا أَصْلًا لِأَنَّ التَّنَاقُضَ يُبْطِلُ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَةُ الْجَهْلِ إلَى الشَّارِعِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَافْتَرَقَا (وَأَمَّا وُجُودُ الْحُكْمِ دُونَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (وَهُوَ الْعَكْسُ فَعَامُّ الِانْتِفَاءِ) عَنْ
(3/250)
الْمُؤَثِّرَةِ وَالطَّرْدِيَّةِ عِنْدَ شَارِطِي انْعِكَاسِ الْعِلَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شُرُوطِهَا مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ (وَكَذَا الْمُفَارَقَةُ) أَيْ مَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَإِبْدَاءُ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ غَيْرَهُ أَوْ مَنْعُ اسْتِدْلَالِهِ بِالْعِلَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ الْعِلَّةُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ فَعَامُّ الِانْتِفَاءِ عَنْهُمَا أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنْ وُجِدَتْ صُورَةُ النَّقْضِ) فِي الْمُؤَثِّرَةِ (دُفِعَ بِأَرْبَعٍ) مِنْ الطُّرُقِ (نَذْكُرُهَا وَعَلَى الطَّرْدِ تَرِدُ) هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمُنَاقَضَةِ (مَعَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ) أَيْ الْتِزَامِ السَّائِلِ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ (وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا) أَيْ الطَّرْدِيَّةِ (بِهِ) أَيْ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا بَلْ قَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ الْعِلَلُ قِسْمَانِ طَرْدِيَّةٌ وَمُؤَثِّرَةٌ وَعَلَى كُلٍّ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّفْعِ أَمَّا الْمُؤَثِّرَةُ فَبِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَطَرِيقٍ فَاسِدٍ أَمَّا الْفَاسِدُ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْمُنَاقَضَةُ وَفَسَادُ الْوَضْعِ وَقِيَامُ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَوَجْهَانِ الْمُعَارَضَةُ وَالْمُمَانَعَةُ وَوُجُوهُ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ أَرْبَعَةٌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ ثُمَّ الْمُمَانَعَةُ ثُمَّ بَيَانُ فَسَادِ الْوَضْعِ ثُمَّ الْمُنَاقَضَةُ اهـ مُلَخَّصًا وَتَابَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى هَذَا يُوهِمُ اخْتِصَاصَ كُلٍّ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ بِمَا ذُكِرَ لَهَا مِنْ وُجُوهِ الدَّفْعِ وَمِنْ ثَمَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ فِي دَفْعِ الْمُؤَثِّرَةِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا الْمُمَانَعَةُ ثُمَّ الْقَلْبُ الْمُبْطِلُ ثُمَّ الْعَكْسُ الْكَاسِرُ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَوَّعَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا وَاَلَّتِي ذُكِرَتْ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ يَتَدَاخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَاَلَّتِي لَا تَدَاخُلَ فِيهَا لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا بَلْ تَجْرِي فِيهَا فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ هُنَا وَتِلْكَ الْأَرْبَعَةِ هُنَالِكَ لَا يَخْلُو عَنْ تَحَكُّمٍ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِي تَرْتِيبِ وُجُوهِ دَفْعِ الطَّرْدِيَّةِ مَا هُوَ الْمُتَدَاوَلُ مِنْ أَنَّهُ قَدَّمَ الْقَوْلَ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِتَسْلِيمِ مُوجِبِ عِلَّتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ إذْ الْمَصِيرُ إلَى الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْمُوَافَقَةِ ثُمَّ الْمُمَانَعَةِ عَلَى الْبَاقِيَيْنِ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْهُمَا ثُمَّ فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي الدَّفْعِ إذْ الْمُنَاقَضَةُ خَجَلُ مَجْلِسٍ وَهَذَا انْقِطَاعٌ كُلِّيٌّ.
قَالَ وَلَمْ أَدْرِ مَا دَعَاهُمْ إلَى تَرْكِ الْمُعَارَضَةِ هُنَا مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الطَّرْدِيَّةَ قَدْ تُدْفَعُ كَمَا تُدْفَعُ بِهَا الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الطَّرْدِيَّةَ تَنْدَفِعُ لَا مَحَالَةَ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ السَّائِلُ إلَى الِاشْتِغَالِ بِهَا هَذَا وَقَدْ وَافَقَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى فَسَادِ الِاعْتِرَاضِ بِالْمُنَاقَضَةِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ عَلَى الْمُؤَثِّرَةِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا فَسَادَهَا قَبْلَ ظُهُورِ أَثَرِ الْوَصْفِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِالْمُمَانَعَةِ لَمَّا صَحَّ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصْفُ مُؤَثِّرًا صَحَّ الِاعْتِرَاضُ بِهِمَا أَيْضًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَإِنْ أَرَادُوا بَعْدَ ظُهُورِ تَأْثِيرِهِ فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَانِعَةِ فِي الْفَسَادِ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ لَمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ الْمُمَانَعَةِ كَمَا لَمْ يَبْقَ مَحَلُّهَا وَأُجِيبُ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ بُطْلَانُ دَفْعِ السَّائِلِ بِهِمَا بَعْد ظُهُورِ أَثَرِ الْوَصْفِ عِنْدَ الْمُجِيبِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَا يَحْتَمِلُهُمَا وَلَكِنَّهُ يَقْبَلُ الْمُمَانَعَةَ لِأَنَّ السَّائِلَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ حَتَّى تَظْهَرَ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُجِيبِ فَتَنْفَعُهُ الْمُمَانَعَةُ وَجَوَّزَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وُرُودَ النَّقْضِ وَفَسَادَ الْوَضْعِ عَلَى الْمُؤَثِّرَةِ لِأَنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَرِدَانِ عَلَى عِلَّةِ الشَّارِعِ بَلْ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْمُجِيبُ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً وَذَا فِي الْحَقِيقَةِ يَثْبُتُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَدُفِعَ) التَّخْصِيصُ مُطْلَقًا (بِأَنَّ الْإِيرَادَ) لِلِاعْتِرَاضِ إنَّمَا هُوَ (بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (لِلْعِلِّيَّةِ إنْكَارِ ظَنِّهِ) أَيْ إنْكَارِ السَّائِلِ مُطَابَقَةَ ظَنِّ الْمُسْتَدِلِّ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (لَا عَلَى) الْعِلَلِ (الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِلَّا) إذَا كَانَ الْإِيرَادُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (فَيَجِبُ نَفْيُ) إيرَادِ (الْمُعَارَضَةِ أَيْضًا) عَلَى الْمُؤَثِّرَةِ (إذْ بَعْدَ ظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ) يَلْزَمُ (فِي الْمُعَارَضَةِ الْمُنَاقَضَةُ) لِلشَّرْعِ (خُصُوصًا بِطَرِيقِ الْقَلْبِ) وَمُنَاقَضَتُهُ بَاطِلَةٌ فَالْمُعَارَضَةُ بَاطِلَةٌ بَلْ وَعَزَا فِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ كَوْنَ النَّقِيضِ سُؤَالًا صَحِيحًا تَبْطُلُ بِهِ الْعِلَّةُ خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَهَا إلَى غَايَةِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ
(3/251)
فَسَادَهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ فَأَمَّا قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مُمَانَعَتُهُ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ فِي التَّحْقِيقِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فَالِاعْتِرَاضَاتُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْعِلَلِ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ الْمُمَانَعَةُ ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ ثُمَّ الْمُنَاقَضَةُ ثُمَّ الْقَلْبُ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا الِاعْتِرَاضَاتُ الْفَاسِدَةُ عَلَى الْعِلَلِ وَالطَّرْدِيَّاتِ الْفَاسِدَةِ فَلَا نِهَايَةَ لَهَا لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فَاسِدُ الْخَاطِرِ يَعْتَرِضُ بِأَلْفِ أَلْفِ اعْتِرَاضَاتٍ فَاسِدَةٍ وَيَأْتِي بِأَلْفِ أَلْفِ طَرْدِيَّاتٍ فَاسِدَةٍ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى حَصْرِهَا وَفِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَإِذْ لَا تَخْصِيصَ) لِبَعْضِ الِاعْتِرَاضَاتِ بِالْمُؤَثِّرَةِ دُونَ الطَّرْدِيَّةِ وَبِالْعَكْسِ (نَذْكُرُهَا) أَيْ الِاعْتِرَاضَاتِ (بِلَا تَفْصِيلٍ وَتَعَرُّضٍ لِخُصُوصِيَّاتِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ فِيهَا (الْأَوَّلُ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ كَوْنُ الْقِيَاسِ مُعَارَضًا بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَلَا وُجُودَ لَهُ) أَيْ الْقِيَاسِ لَهُ (حِينَئِذٍ لِيَنْظُرَ فِي مُقَدِّمَاتِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ وَتَرْكِيبُهُ صَحِيحًا لِكَوْنِهِ عَلَى الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (وَتَخَلُّصِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (بِالطَّعْنِ فِي السَّنَدِ) لِلنَّصِّ (إنْ أَمْكَنَ) بِأَنْ لَا يَكُونَ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً بِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ أَوْ كَذَّبَ الْأَصْلُ الْفَرْعَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ (أَوْ) فِي (دَلَالَتِهِ) عَلَى مَطْلُوبِ الْمُعْتَرِضِ بِأَنَّهُ غَيْرُ شَامِلٍ لَهُ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ (أَوْ أَنَّهُ) وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مَا ذَكَرْتُ فَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بَلْ هُوَ (مَا دَلَّ بِدَلِيلِهِ) أَيْ التَّأْوِيلِ الْمُفِيدِ يُرَجِّحُهُ عَلَى الظَّاهِرِ (أَوْ) أَنَّهُ (خَصَّ مِنْهُ حُكْمَ الْقِيَاسِ) مَعَ بَيَانِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ إضْمَارٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(وَمُعَارَضَتِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ نَصُّ الْمُعْتَرِضِ (بِمُسَاوٍ فِي النَّوْعِ) لَهُ كَالْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسَّنَةِ (وَالتَّرْجِيحِ) لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ التَّسَاوِي (بِالْخُصُوصِيَّةِ) الْمُمْتَازِ بِهَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَالْمُحْكَمِ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَهُوَ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ انْتَفَتْ الْخُصُوصِيَّةُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَتَسَاقَطَ النَّصَّانِ سَلِمَ قِيَاسُ الْمُسْتَدِلِّ (فَلَوْ عَارَضَ الْآخَرَ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (بِآخَرَ) أَيْ بِنَصٍّ آخَرَ مَعَ الْأَوَّلِ (مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ) أَيْ نَوْعِ الْأَوَّلِ (وَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ) تَرْجِيحَ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي (عَلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ) وَالْوَجْهُ الرُّوَاةُ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ (وَعَلَى) الْقَوْلِ بِأَنْ (لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ) الرُّوَاةِ (لَا يُعَارِضُ النَّصُّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ لِيَقِفَ الْقِيَاسُ لِلْعِلْمِ بِسُقُوطِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الصَّحَابَةِ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ عِنْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ إلَى الْقِيَاسِ فَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ أَخَذُوا بِهِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ تَتَبُّعُ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْمُنَاظَرُ تِلْوَ الْمُنَاظَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَصْدِ إلَى إظْهَارِ الصَّوَابِ (وَمِنْ نَوْعِهِ) أَيْ لَوْ عَارَضَ الْمُعْتَرِضَ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ بِنَصٍّ آخَرَ مِنْ نَوْعِ دَلِيلِهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا مَعَ دَلِيلِهِ الْأَوَّلِ (لَا يَرْجَحُ) دَلِيلُ الْمُعْتَرِضِ الْأَوَّلِ بِهِ (اتِّفَاقًا) بَلْ كِلَاهُمَا يُعَارِضُهُمَا نَصُّ الْمُسْتَدِلِّ الْوَاحِدِ كَمَا يُعَارِضُ شَهَادَةُ الِاثْنَيْنِ شَهَادَةَ الْأَرْبَعِ (وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ) لِلْمُعْتَرِضِ (عَارَضَ نَصُّك قِيَاسِي فَسَلِمَ نَصِّي فَبَعُدَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ هُوَ (الِانْتِقَالُ الْمَمْنُوعُ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُثْبَتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْقِيَاسِ (مُعْتَرِفٌ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ عَلَى قِيَاسِهِ) لِاعْتِرَافِهِ بِمُعَارَضَةِ قِيَاسِهِ النَّصَّ مِثَالُهُ (نَحْوَ) أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ فِي حِلِّ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ الْمَتْرُوكَةِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا (ذَبْحِ التَّارِكِ) لَهَا ذَبْحٌ (مِنْ أَهْلِهِ) وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا (فِي مَحَلِّهِ) أَيْ فِيمَا جَازَ أَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا (فَيَحِلُّهَا كَالنَّاسِي) أَيْ كَذَبْحِ نَاسِي التَّسْمِيَةِ.
(فَيُقَالُ) فِي جَوَابِهِ هَذَا قِيَاسٌ (فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُعَارَضَةِ {وَلا تَأْكُلُوا} [الأنعام: 121] الْآيَةَ) أَيْ {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] (فَالْمُسْتَدِلُّ) الشَّافِعِيُّ يَقُولُ هَذَا (مُؤَوَّلٌ بِذَبْحِ الْوَثَنِيِّ بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» ) وَيَتَمَشَّى لَهُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا أَثْبَتَ هَذَا وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد عَنْ الصَّلْتِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إنَّهُ إذَا ذَكَرَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا اسْمَ اللَّهِ» وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ فَلَا
(3/252)
يَضُرُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ السُّبْكِيّ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ (وَمَا قِيلَ) فِي دَفْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (خَصَّ) مَذْبُوحَ (النَّاسِي) مِنْ نَصِّ {وَلا تَأْكُلُوا} [الأنعام: 121] الْآيَةَ (بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ قِيسَ عَلَيْهِ) أَيْ النَّاسِي (الْعَامِدُ أَوْجَبَ) الْقِيَاسُ عَلَيْهِ (كَوْنَهُ) أَيْ الْقِيَاسِ (نَاسِخًا) لِلنَّصِّ (لَا مُخَصِّصًا إذَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ الْعَامِّ) يَعْنِي مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ (شَيْءٌ) لِأَنَّ تَحْتَهُ النَّاسِيَ وَالْعَامِدَ وَقَدْ خَرَجَا (إنَّمَا يَنْتَهِضُ) دَافِعًا لَهُ (إذَا لَمْ يَلْزَمْ) أَنْ يَكُونَ النَّصُّ (مُؤَوَّلًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ الْحَاصِلُ أَنَّ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي إفْسَادِ هَذَا الْقِيَاسِ طَرِيقَيْنِ الْأُولَى فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَإِذَا أَثْبَتَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّصَّ مُؤَوَّلٌ انْدَفَعَ الثَّانِي إفْسَادُهُ بِإِلْزَامِ أَنَّ قِيَاسَهُ حِينَئِذٍ نَاسِخٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا مُنْدَفِعٌ بِالتَّأْوِيلِ يَعْنِي بِمَا إذَا ذَبَحَ لِلنَّصِّ وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْعَامِدِ فَالْعَامِدُ يَنْقَسِمُ إلَى تَارِكٍ فَقَطْ وَتَارِكٍ مَعَ الذَّبْحِ لِلنُّصُبِ وَإِذَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ هَذَا الثَّانِي فَيَلْزَمُ إمَّا أَنْ يَبْقَى تَحْتَ الْعَامِّ هَذَا الْعَامِدُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُخْرِجْهُ بَلْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي قِسْمًا مِنْ التَّارِكِ الْعَامِدِ فَلَيْسَ حِينَئِذٍ مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي فَصْلِ الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
(فَلَوْ قَالَ) الْمُسْتَدِلُّ لَمَّا أَلْزَمَهُ الْمُعْتَرِضُ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ (قِيَاسِي أَرْجَحُ مِنْ نَصِّكَ) فَلَا يَلْزَمُنِي فَسَادُ الِاعْتِبَارِ (فَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ) أَنْ يُبَيِّنَ فَسَادَ قِيَاسِهِ بِالْفَارِقِ لِيَنْدَفِعَ قَوْلُ الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ قِيَاسَهُ أَرْجَحُ مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ فَيَثْبُتُ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْمِثَالِ (إبْدَاءُ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي (بِأَنَّهُ) أَيْ الْعَامِدَ (صَدَفَ) أَيْ أَعْرَضَ (عَنْ الذِّكْرِ مَعَ اسْتِحْضَارِ مَطْلُوبِيَّتِهِ) أَيْ الذِّكْرِ مِنْهُ (شَرْعًا) فَكَانَ مُقَصِّرًا (بِخِلَافِ النَّاسِي) فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ فَكَانَ الْعِلَّةُ أَنَّهُ ذَبْحٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُقَصِّرٍ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعَامِدِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَيْ بَيَانَ الْفَارِقِ مُسْتَقِلٌّ بِفَسَادِ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ رُجُوعًا عَنْ إفْسَادِهِ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ إلَى إفْسَادِهِ بِبَيَانِ الْفَارِقِ فَهُوَ كَمَا قَالَ (انْتِقَالٌ عَنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ) أَيْ إفْسَادِ الْقِيَاسِ بِهِ إلَى إفْسَادِهِ بِبَيَانِ الْفَارِقِ وَأَيُّ شَيْءٍ أَقْبَحُ فِي الْمُنَاظَرَةِ مِنْ الِانْتِقَالِ.
(وَلِلْمُعْتَرِضِ مَنْعُ مُعَارَضَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِعَامِّ الْكِتَابِ) أَيْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ (فَلَا يَتِمُّ) أَنْ يَكُونَ (مُؤَوَّلًا وَلِلْمُجِيبِ إثْبَاتُهُ) أَيْ كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِعَامِّ الْكِتَابِ (إنْ قَدَرَ) عَلَى ذَلِكَ (وَلَيْسَ) إثْبَاتُهُ (انْقِطَاعًا وَإِنْ كَانَ مُنْتَقِلًا إلَى) دَلِيلٍ (آخَرَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مِثْلِ مُقَدِّمَاتِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ (أَوْ أَكْثَرَ) مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ انْقِطَاعًا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُجِيبَ (يُعَدُّ سَاعٍ فِي إثْبَاتِ نَفْسِ مُدَّعَاهُ كَمَنْ احْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فَمَنَعَ جَوَازَهُ) أَيْ الْقِيَاسِ (فَاحْتَجَّ) الْمُحْتَجُّ بِهِ (بِقَوْلِ عُمَر لِأَبِي مُوسَى اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا (فَمَنَعَ) مَانِعٌ جَوَازَهُ (حُجِّيَّةَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَأَثْبَتَهُ) أَيْ الْمُحْتَجُّ حُجِّيَّتَهُ (بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي الْإِجْمَاعِ (فَمَنَعَ) الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ (حُجِّيَّةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَأَثْبَتَهُ) أَيْ الْمُحْتَجُّ كَوْنُهُ حُجَّةً بِمَا تَقَدَّمَ فِي السُّنَّةِ.
(وَإِذْ يَتَرَدَّدُ فِي الْأَجْوِبَةِ) شَيْءٌ (مِنْ هَذَا) أَيْ الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ (فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ فِي الِانْتِقَالِ) مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمُسْتَدِلُّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ هُوَ (إمَّا مِنْ عِلَّةٍ إلَى) عِلَّةٍ (أُخْرَى لِإِثْبَاتِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْقِيَاسِ (أَوْ) مِنْ حُكْمٍ (إلَى حُكْمٍ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ) الْحُكْمُ الْأَوَّلُ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ الْمُنْتَقِلُ إلَيْهِ (بِتِلْكَ الْعِلَّةِ) الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْقِيَاسِ (أَوْ) إلَى حُكْمٍ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ الْمُنْتَقِلُ (بِأُخْرَى) وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ اتِّفَاقًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ الْتَزَمَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلَّةِ فَإِذَا أَنْكَرَ الْخَصْمُ ثُبُوتَهَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهَا فَمَا دَامَ سَعْيُهُ فِي إثْبَاتِ تِلْكَ الْعِلَّةِ يَكُونُ وَفَاءً مِنْهُ بِمَا الْتَزَمَ وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُمَانَعَةِ فَإِنَّ السَّائِلَ لَمَّا مَنَعَ وَصْفَ الْمُعَلَّلِ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً لَزِمَهُ إثْبَاتُ عِلِّيَّتِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ ضَرُورَةً فَلَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا هُوَ وَظِيفَتُهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَلِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حُكْمٍ إلَى آخَرَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْخَصْمِ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ
(3/253)
فِي الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا سَلَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي رَتَّبَهُ الْمُجِيبُ عَلَى الْعِلَّةِ وَادَّعَى النِّزَاعَ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَتِمَّ غَرَضُ الْمُجِيبِ فَيَنْتَقِلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ آيَةُ كَمَالِ فِقْهِهِ حَيْثُ عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ وَصْفِهِ حَيْثُ أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِهِ (أَوْ) مِنْ عِلَّةٍ (إلَى) عِلَّةٍ (أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ) لَا لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمَا بِبَيَانِ الْمُلَائَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالطَّرْدِ (وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا) الرَّابِعِ (فَقِيلَ يُقْبَلُ لِمُحَاجَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) نُمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] فَانْتَقَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُجَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَدُّحِ فَهُوَ إذًا صَحِيحٌ.
(وَدُفِعَ) هَذَا (بِأَنَّ حُجَّتَهُ) أَيْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأُولَى (مُلْزِمَةٌ) لِلَّعِينِ مُفْحِمَةٌ لَهُ (وَمُعَارَضَةُ اللَّعِينِ) لَهُ بِمَنْعِ دَلِيلِهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا أُحْيِيَ وَأُمِيتُ ثُمَّ بَيَانُ مُسْتَنِدِ مَنْعِهِ بِإِحْضَارِهِ شَخْصَيْنِ مِنْ السِّجْنِ وَجَبَ قَتْلُهُمَا فَأَطْلَقَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ قَدْ أَحْيَيْتُهُ وَقَتَلَ الْآخَرَ وَقَالَ قَدْ أَمَتُّهُ (بِتَرْكِ التَّسَبُّبِ فِي إزَالَةِ حَيَاةِ شَخْصٍ وَإِزَالَتِهَا قَتْلًا بَاطِلَةٌ إذْ الْمُرَادُ) بِالْإِحْيَاءِ (إيجَادُهَا) أَيْ الْحَيَاةِ (فِيمَا لَيْسَتْ فِيهِ وَ) بِالْإِمَاتَةِ (إزَالَتُهَا) أَيْ الْحَيَاةِ (بِلَا مُبَاشَرَةٍ مَحْسُوسَةٍ) أَيْ بِنَزْعِ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ الْجَسَدِ بِغَيْرِ عِلَاجٍ مَحْسُوسٍ وَلَا اسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ فِي الْأَحْيَاءِ وَتَفْوِيتِهَا بِالْعِلَاجِ الْمَحْسُوسِ فِي الْإِمَاتَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الشُّلُوحُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِلْعَيْنِ فِيهِ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ (وَحَاضِرُهُ ضَلَالٌ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ إلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ فَانْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّلْبِيسَ) وَلَا الْمُغَالَطَةَ وَلَا الْمُكَابَرَةَ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يَقُلْ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ مَعَ عِلْمِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ إذْ قَدْ يَحْمِلُهُ وَقَاحَتُهُ وَمُكَابَرَتُهُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ هَذَا لَقَالَ لَهُ أَنَا آتِي بِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ ثُمَّ يَصْبِرُ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْهُ فَيَقُولَ هَا قَدْ أَطْلَعْتُهَا مِنْهُ فَيَحْتَاجَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى إبْطَالِ دَعْوَاهُ هَذِهِ أَيْضًا وَفِي ذَلِكَ تَطْوِيلُ الْبَحْثِ وَانْتِشَارُهُ فَاسْتَرَاحَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ طَلَبَ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ إفْضَاحُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَهُوَ انْتِقَالٌ إلَى دَلِيلٍ أَوْضَحَ وَحُجَّةٍ أَبْهَرَ لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَإِضَاءَةً غِبَّ إضَاءَةٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْحَقُّ أَنْ لَا انْتِقَالَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ) أَيْ قَوْلَهُ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] (الدَّعْوَى وَاسْتِدْلَالُهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ} [البقرة: 258] إلَخْ) كَأَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ إعَادَةُ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ فَالشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ الْعَالَمِ لِإِضَاءَتِهِ بِهَا وَإِظْلَامِهِ بِغُرُوبِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَعِدْ رُوحَ الْعَالَمِ إلَيْهِ بِأَنْ تَأْتِيَ بِالشَّمْسِ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ.
وَعَلَى هَذَا مَشَى نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ حَيْثُ قَالَ ثُمَّ هَذَا لَيْسَ بِانْتِقَالٍ مِنْ حُجَّةٍ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُنَاظَرَةِ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ادَّعَى انْفِرَادَ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَلَمَّا أَرَادَ النُّمْرُودُ التَّلْبِيسَ أَظْهَرَ كَمَالَ الْقُدْرَةِ بِحَدِيثِ الشَّمْسِ وَالدَّلِيلُ وَاحِدٌ وَالصُّورَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ انْتَهَى. وَهَذَا مَا قِيلَ الِانْتِقَالُ فِي الْمِثَالِ كَأَنَّهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُوجِدُ الْمُمْكِنَاتِ وَيُعْدِمُهَا وَأَتَى بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِثَالًا فَلَمَّا اعْتَرَضَ جَاءَ بِمِثَالٍ أَجْلَى لِدَفْعِ الشَّغَبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أَيْ انْقَطَعَ لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا كَذَلِكَ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ دَعْوَاهُ وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ ظَهَرَ نَقْصُهُ وَبُطْلَانُ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ.
(وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الْبُطْلَانُ) لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ (الْأَوَّلِ فَانْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ) أَيْ انْتِقَالَهُ (انْقِطَاعٌ فِي عُرْفِهِمْ) أَيْ النُّظَّارِ (اسْتَحْسَنُوهُ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْمَجْلِسُ) لِلْمُنَاظَرَةِ (عَنْ الْمَقْصُودِ) وَهِيَ إظْهَارُ الْحَقِّ (وَإِلَّا فَفِي الْعَقْلِ لَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَدِلِّ (أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى) دَلِيلٍ (آخَرَ وَآخَرَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا عَيَّنَهُ) مِنْ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ (حَتَّى يُعْجِزَهُ عَنْ إثْبَاتِهِ وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ (فِي مَجَالِسَ) وَكَيْفَ لَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ ظُهُورُ الْحَقِّ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّلِ الِانْتِقَالُ مِنْ دَلِيلٍ إلَى آخَرَ لَا إلَى نِهَايَةٍ بَلْ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِقَالِ
(3/254)
مِنْ بَيِّنَةٍ إلَى أُخْرَى
لِإِثْبَاتِ حُقُوقِ النَّاسِ
وَهُوَ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لَهَا فَكَذَا هَذَا (فَالِانْقِطَاعُ) لِلسَّائِلِ أَوْ الْمُعَلِّلِ إنَّمَا يَكُونُ (بِدَلِيلِهِ) أَيْ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ (سُكُوتٌ) كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ اللَّعِينِ بِقَوْلِهِ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ أَنْوَاعِ الِانْقِطَاعِ (أَوْ إنْكَارٌ ضَرُورِيٌّ) أَيْ مَعْلُومٌ ضَرَرُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إلَّا الْعَجْزُ عَنْ دَفْعِ حُجَّةِ الْخَصْمِ (أَوْ مَنْعٌ بَعْدَ تَسْلِيمٍ) فَإِنَّهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لِمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ وَفِي الْكَشْفِ وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ عَنْ سَهْوٍ أَوْ عَنْ غَفْلَةٍ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ وَجْهَ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكَ مَا سَهَا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَنْعِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَجْزِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُعَلِّلُ وَالسَّائِلُ وَبَقِيَ رَابِعٌ يَخُصُّ الْمُعَلِّلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الرَّابِعُ السَّالِفُ.
(وَفِي) انْتِقَالِ الْمُعَلِّلِ مِنْ (مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ إلَى مَا لَا يُنَاسِبُ الْمَطْلُوبَ أَصْلًا دَفْعًا لِظُهُورِ إفْحَامِهِ انْقِطَاعٌ فَاحِشٌ) لِلْمُعَلِّلِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا انْتِقَالُ السَّائِلِ مِنْ دَفْعٍ إلَى آخَرَ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِكَلَامِ الْمُجِيبِ فَمَا دَامَ فِي الْمُعَارَضَةِ بِدَفْعٍ يَصْلُحُ اعْتِرَاضًا لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ (فَالْأَوَّلُ) أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْأُولَى مِثَالُهُ (لِلْحَنَفِيَّةِ فِي إثْبَاتِ أَنَّ إيدَاعَ الصَّبِيِّ) غَيْرِ الْمَأْذُونِ مَا لَيْسَ بِرَقِيقٍ (تَسْلِيطٌ) لِلصَّبِيِّ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ (عِنْدَ تَعْلِيلِهِ) أَيْ الْحَنَفِيِّ (بِهِ) أَيْ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ (لِنَفْيِ ضَمَانِهِ) إذَا أَتْلَفَهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَعَ التَّسْلِيطِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا إذَا أَبَاحَ لَهُ طَعَامًا فَأَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ يَضْمَنُ الصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ إيدَاعُهُ تَسْلِيطًا عِلَّةً لِلْقِيَاسِ فَإِذَا مَنَعَهُ الْخَصْمُ فَانْتَقَلَ الْمُعَلِّلِ إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ تَسْلِيطًا بِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى مَا يَنَالُ بِالْأَيْدِي وَقَدْ وُجِدَ هُنَا لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي إثْبَاتِهَا.
(وَالثَّانِي) أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ حُكْمٍ إلَى آخَرَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ يَثْبُتُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ مِثَالُهُ (لَهُمْ) أَيْ لِلْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا فِي جَوَازِ إعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ (الْكِتَابَةُ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ) بِالْإِقَالَةِ وَبِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ (فَلَا يُمْنَعُ التَّكْفِيرُ بِمَنْ تَعَلَّقَتْ) الْكِتَابَةُ (بِهِ) فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَمَا هُوَ الِاسْتِحْسَانُ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ (كَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَالْإِجَارَةِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجْمَاعًا لِبَائِعِ عَبْدِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ وَمُؤَجِّرِهِ إعْتَاقُهُ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَكَوْنُهَا عَقْدًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ عِلَّةُ الْقِيَاسِ (فَيُقَالُ) مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَرِضِ أَنَا أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ عِنْدِي (بَلْ الْمَنْعُ لِغَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ (مِنْ نُقْصَانِ الرِّقِّ بِهِ) أَيْ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لِلْمُكَاتَبِ مُسْتَحَقٌّ بِهِ فَصَارَ (كَأُمِّ الْوَلَدِ) أَيْ كَاسْتِحْقَاقِهَا الْعِتْقَ بِالْوِلَادَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهِ وَأَوْلَادِهِ دُونَهَا (فَيُجَابُ بِإِثْبَاتِ عَدَمِ نُقْصَانِهِ) أَيْ الرِّقِّ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ (بِالْأُولَى) أَيْ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَيُقَالُ (احْتِمَالُ الْفَسْخِ) لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ (دَلِيلُ عَدَمِ إيجَابِهِ) أَيْ عَقْدِهَا (نُقْصَانَهُ) أَيْ رِقِّهِ (لِأَنَّ مَا يُوجِبُهُ) أَيْ نُقْصَانُ رِقِّهِ (لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ) بِوَجْهٍ (إذْ هُوَ) أَيْ نُقْصَانُ الرِّقِّ (بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ) وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَذَا ثُبُوتُهَا مِنْ وَجْهٍ فَظَهَرَ أَنَّ ذِكْرَ كَوْنِ قَبُولِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الرِّقِّ انْتِقَالٌ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ وَهُوَ عَدَمُ مَنْعِهِ مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ إيجَابِهِ نَقْصًا فِي الرِّقِّ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى وَهِيَ قَبُولُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ ثُمَّ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ تَمَكُّنَ نُقْصَانٍ فِي رِقِّ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ أَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَكَذَا هَذَا الشَّرْطُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ وَبِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى.
(وَالثَّالِثُ) أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ
(3/255)
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَيَثْبُتُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مِثَالُهُ (أَنْ يُجِيبَ) الْمُسْتَدِلُّ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَرِضِ (بِقَوْلِهِ الْكِتَابَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ) أَيْ الرِّقِّ (كَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ) فَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَإِعْتَاقِ الْبَائِعِ عَبْدَهُ الَّذِي بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي مُدَّتِهِ فَعَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عِلَّةٌ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ هُوَ عَدَمُ النُّقْصَانِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ (وَالْكُلُّ) أَيْ وَجَمِيعُ هَذِهِ الِانْتِقَالَاتِ الثَّلَاثَةِ (جَائِزٌ) إلَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمُخْرِجَ إلَى الِانْتِقَالِ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى أَوْ إلَى حُكْمٍ آخَرَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ حَيْثُ لَمْ يُعَرِّفْ الْمُعَلِّلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْلِيلِهِ حَتَّى عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ اُفْتُقِرَ فِيهِ إلَى الِانْتِقَالِ.
(هَذَا وَيُشْبِهُ الِاسْتِفْسَارَ فِي عُمُومِهِ) لِلْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ (وَفَسَادَ الِاعْتِبَارِ فِي عَدَمِ الْقِيَاسِ) أَيْ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا انْتِفَاءَ وُجُودِ الْقِيَاسِ فِي الْوَاقِعِ (الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ) أَيْ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ (دَعْوَى النَّصْبِ) لِلدَّلِيلِ (فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَ) غَيْرِ (لَازِمِهِ) أَيْ مَحَلِّ النِّزَاعِ (إذْ هُوَ) أَيْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ (تَسْلِيمُ مَدْلُولِ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ هَذَا الْمَعْنَى (بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ) أَيْ النَّصْبِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَلَازِمِهِ (مُنْتَفٍ فَظَهَرَ) مِنْ هَذَا (أَنْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ) أَيْ الْمُخَصَّصِ (الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ بِالطَّرْدِيَّةِ) كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
(وَهُوَ) أَيْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ (ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَاسْتِنَادِهِ) أَيْ الْمُعْتَرَضِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (إلَى لَفْظِ الْمُعَلِّلِ كَقَوْلِهِ) أَيْ الْمُعَلِّلِ الَّذِي هُوَ الشَّافِعِيُّ (فِي الْمُثْقَلِ) أَيْ فِي أَنَّ الْقَتْلَ بِهِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ (قَتْلٌ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَلَا يُنَافِي الْقِصَاصَ كَالْحَرْقِ) أَيْ كَالْقَتْلِ بِالنَّارِ فَإِنَّ الْحَرْقَ يَقْتُلُ غَالِبًا (فَيُسَلِّمُ) الْمُعْتَرِضُ الَّذِي هُوَ الْحَنَفِيُّ (عَدَمَ مُنَافَاتِهِ) أَيْ الْقَتْلِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا وُجُوبَ الْقِصَاصِ (مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي ثُبُوتِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَهُوَ) أَيْ وُجُوبُهُ (الْمُتَنَازَعُ فِيهِ) وَكَمَا أَنَّ عَدَمَ مُنَافَاتِهِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ لَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لَا يَقْتَضِي مَحَلَّ النِّزَاعِ أَيْضًا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ الْوُجُوبَ أَنْ يَجِبَ (أَوْ) اسْتِنَادُهُ فِيهِ إلَى (حَمْلِهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ (عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ كَالْمَسْحِ) بِالرَّأْسِ (رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ) كَالْغُسْلِ لِلْوَجْهِ (فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (بِمُوجِبِهِ) وَهُوَ اسْتِنَانُ تَثْلِيثِ الْمَسْحِ (إذْ سَنَنَّا الِاسْتِيعَابَ) فِي مَسْحِ الرَّأْسِ (وَهُوَ) أَيْ الِاسْتِيعَابُ فِيهِ (ضَمُّ مِثْلَيْ الْوَاجِبِ) فِيهِ أَيْ (الرُّبْعِ وَزِيَادَةٍ إلَيْهِ) أَيْ الْوَاجِبِ فَالِاسْتِيعَابُ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ إذْ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ ثَلَاثَ أَمْثَالِهِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْمَحَلِّ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ ثَلَاثَةَ دُورٍ يَكُونُ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ كَمَا لَوْ دَخَلَ دَارًا وَاحِدًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (وَمَقْصُودُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ التَّثْلِيثِ لَيْسَ هَذَا بَلْ (التَّكْرِيرُ فَإِذَا أَظْهَرَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ أَنَّ مُرَادَهُ التَّكْرِيرُ (انْتَفَى) الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَتَعَيَّنَتْ الْمُمَانَعَةُ أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرُّكْنَ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ بَلْ الْمَسْنُونُ فِي الرُّكْنِ الْإِكْمَالُ دُونَ التَّكْرَارِ وَهُوَ بِالْإِطَالَةِ فِي مَحَلِّهِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْإِكْمَالُ بِهَا لِاسْتِغْرَاقِ الْفَرْضِ مَحَلَّهُ كَمَا فِي الْغُسْلِ فَإِنَّ تَكْمِيلَهُ بِالْإِطَالَةِ يَقَعُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَيُصَارُ إلَى التَّكْرَارِ خَلْفًا عَنْهُ وَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ الْأَصْلُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَسْحِ الرَّأْسُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ وَهُوَ مُتَّسَعٌ يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الْفَرْضِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ بِالْإِطَالَةِ وَالِاسْتِيعَابِ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَيَبْطُلُ الْخَلْفُ.
(وَكَذَا) قَوْلُ الْمُسْتَدِلِّ الشَّافِعِيِّ لِتَعْيِينِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ (صَوْمُ فَرْضٍ فَيُشْتَرَطُ) فِيهِ (التَّعْيِينُ فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ الْحَنَفِيُّ (بِمُوجِبِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ أَيْ (لُزُومِ التَّعْيِينِ) فِي صَوْمِ رَمَضَانَ (وَالنِّزَاعُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ لُزُومِ التَّعْيِينِ أَيْ (كَوْنِ الْإِطْلَاقِ بَعْدَ تَعْيِينِ لُزُومِ التَّعْيِينِ) لِنِيَّةِ الصَّوْمِ (بَعْدَ تَعْيِينِ الشَّرْعِ الْوَقْتَ الْخَاصَّ) وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ (لَهُ) أَيْ لِلصَّوْمِ (تَعْيِينًا) لَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ صَوْمَ غَيْرِهِ (حَمْلًا) لِلتَّعْيِينِ (عَلَى) التَّعْيِينِ (الْأَعَمِّ) مِنْ أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ الصَّائِمِ أَوْ بِتَعْيِينِهِ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ (وَمُرَادُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ التَّعْيِينِ (تَعْيِينُ الْمُكَلَّفِ) فَإِذَا أَظْهَرَهُ انْتَفَى الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَتَعَيَّنَتْ الْمُمَانَعَةُ.
قَالَ
(3/256)
الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ لِلشَّارِطِ) فِي التَّعْيِينِ كَوْنُهُ بِقَصْدِ الْمُكَلَّفِ (لِأَنَّ كَوْنَ إطْلَاقِ النَّاوِي تَعْيِينَ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ) أَيْ الْأَعَمِّ كَالنَّقْلِ بِالْأَعَمِّ (يَصِيرُ الْأَعَمُّ عَيْنَ الْأَخَصِّ وَتَقَدَّمَ تَمَامُهُ) أَيْ هَذَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْوَقْتِ الْمُقَيَّدِ بِهِ الْوَاجِبُ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ ثُمَّ هَذَا قَلَّمَا يَقَعُ لِشُهْرَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ غَالِبًا (وَالثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (إبْطَالُ) الْمُسْتَدِلِّ بِدَلِيلِ الْخَصْمِ (مَا ظَنَّ مَأْخَذَ خَصْمِهِ) وَمَبْنَى مَذْهَبِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَأْخَذًا لِمَذْهَبِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِهِ إبْطَالُ مَذْهَبِهِ (كَفَى الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ) إذَا اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيُّ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ بِهِ فَقَوْلُهُ قَتْلٌ بِمُثْقَلٍ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ (لِلْمُعْتَرِضِ) الَّذِي هُوَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ هُوَ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ لَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْآلَةُ ثُمَّ (التَّفَاوُتُ فِي الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ) كَالتَّفَاوُتِ فِي الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْوَاعُ الْجِرَاحَاتِ الْقَاتِلَةِ (فَيَقُولُ) الْمُسْتَدِلُّ (الْمَانِعُ) مِنْ الْقِصَاصِ (غَيْرُهُ) أَيْ التَّفَاوُتُ فِي الْوَسِيلَةِ فَيَفْتَكُّ عَدَمُ التَّفَاوُتِ فِيهَا نَفْيَ مَانِعٍ خَاصٍّ (وَنَفْيُ مَانِعٍ) خَاصٍّ (لَيْسَ نَفْيَ الْكُلِّ) أَيْ كُلِّ الْمَوَانِعِ وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرَائِطِ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي (وَيُصَدَّقُ) الْمُعْتَرِضُ إذَا قَالَ هَذَا مَأْخَذِي إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ مَأْخَذَ إمَامِي إنْ كَانَ مُقَلِّدًا عَلَى الصَّحِيحِ (لِعَدَالَتِهِ) وَكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ إمَامِهِ وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيَانِ مَأْخَذٍ آخَرَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَأْخَذَهُ أَوْ مَأْخَذَ إمَامِهِ وَلَكِنَّهُ يُعَانِدُ ثُمَّ هَذَا أَكْثَرُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ.
(وَالثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (أَنْ يَسْكُتَ) الْمُسْتَدِلُّ (عَنْ مُقَدِّمَةٍ) غَيْرَ مَشْهُورَةٍ (لِظَنِّ الْعِلْمِ بِهَا فَيُسَلِّمُ) الْمُعْتَرِضُ الْمُقَدِّمَةَ (الْمَذْكُورَةَ وَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي) الْمُقَدِّمَةِ (الْمَطْوِيَّةِ نَحْوَ) قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ (مَا ثَبَتَ قُرْبَةً فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَطَوَى وَالْوُضُوءُ قُرْبَةٌ فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ مَا ثَبَتَ قُرْبَةً فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ (مُسَلَّمٌ وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطُهُ النِّيَّةُ) وَلَوْ لَمْ يَسْكُتْ عَنْ الصُّغْرَى لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْعُهَا بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَثْبُتُ قُرْبَةً وَلَا يَكُونُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (قَالُوا) أَيْ الْجَدَلِيُّونَ (لَا بُدَّ فِيهِ) أَيْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (مِنْ انْقِطَاعِ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ (إذْ) فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ (لَوْ بَيَّنَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ الْمُثْبِتُ (مَحَلُّ النِّزَاعِ أَوْ مَلْزُومُهُ) أَيْ مَحَلِّ النِّزَاعِ (أَوْ) فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بَيَّنَ الْمُسْتَدِلُّ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُبْطِلَ (مَأْخَذُهُ) أَيْ الْخَصْمِ (أَوْ) فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ بَيَّنَ الْمُسْتَدِلُّ (كَيْفِيَّةَ) الْمُقَدِّمَةِ (الْمَحْذُوفَةِ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُبِيحُ مَطْلُوبَهُ (انْقَطَعَ الْمُعْتَرِضُ) إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إلَّا تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ (الْمُسْتَدِلُّ) هَذِهِ الْأُمُورَ انْقَطَعَ الْمُسْتَدَلُّ إذْ قَدْ ظَهَرَ عَدَمُ إفْضَاءِ دَلِيلِهِ إلَى مَطْلُوبِهِ (وَاسْتَبْعَدَ) أَيْ وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ الْحَاجِبِ انْقِطَاعَ أَحَدِهِمَا (فِي) الْقِسْمِ (الْأَخِيرِ إذْ مُرَادُ الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ الْمَتْرُوكَ) لِظُهُورِهِ (كَالْمَذْكُورِ) فَالْمَتْرُوكُ لَفْظًا مَذْكُورٌ مَعْنًى وَالْمَجْمُوعُ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
(وَ) مُرَادُ (الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْمَذْكُورَ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ فَإِذَا ذَكَرَ) الْمُسْتَدِلُّ (أَنَّهُ) أَيْ الدَّلِيلَ (الْمَجْمُوعُ) مِنْ الْمَذْكُورِ وَالْمَتْرُوكِ (لَا الْمَذْكُورِ وَحْدَهُ) وَحَذَفَ الْمَتْرُوكَ لِلْعِلْمِ بِهِ (وَحَذْفُ الْمَعْلُومِ شَائِعٌ) كَانَ (لَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (الْمَنْعُ وَاسْتَمَرَّ الْبَحْثُ) وَإِنْ سَلِمَ فَقَدْ انْقَطَعَ (وَكَذَا لَا يَخْفَى بُعْدُ قَوْلِهِمْ) أَيْ الْجَدَلِيِّينَ (أَنَّهُ مَأْخَذُهُ بَلْ يَقُولُ الْمُعْتَرِضُ مَأْخَذِي غَيْرُهُ أَوْ كَذَا انْقَطَعَ) بِهِ (الْمُسْتَدِلُّ وَإِلَّا الْمُعْتَرِضُ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي الْمُرَادُ بِهِ لِأُوَافِقَ عَلَى بُعْدِهِ (وَظَهَرَ) مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ) أَيْ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ (يُلْجِئُ أَهْلَ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (لَمَّا سَلَّمَ مُوجِبَ عِلَّتِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ احْتَاجَ إلَى مَعْنًى مُؤَثِّرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَلْزَمُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (الْجَوَابُ بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ بَيَانِ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَوْ مَلْزُومِهِ أَوْ مَأْخَذِهِ أَوْ الْمَحْذُوفِ (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ مِمَّا ذَكَرْنَا (ذَلِكَ) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّأْثِيرِ.
(وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقِيَاسِ) بِالْجَوَابِ عَنْ الِاسْتِفْسَارِ وَالتَّقْسِيمِ (وَتَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ) بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ (يَشْرَعُ) الْمُسْتَدِلُّ (فِيهِ) أَيْ فِي الْقِيَاسِ (وَأَوَّلُ مُقَدِّمَاتِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ
(3/257)
ثُمَّ عِلَّتُهُ) أَيْ حُكْمُ الْأَصْلِ (ثُمَّ ثُبُوتُهَا) أَيْ عِلَّتُهُ (فِي الْفَرْعِ مَعَ الشُّرُوطِ الْأَوَّلُ) أَيْ حُكْمُ الْأَصْلِ يَرِدُ (عَلَيْهِ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ) أَيْ ثُبُوتِهِ فِيهِ قِيلَ وَالْمَنْعُ أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ فَلَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهَلْ يَكُونُ مُجَرَّدُهُ قَطْعًا لِلْمُسْتَدِلِّ قِيلَ نَعَمْ وَلَا يُمْكِنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ الْكَلَامُ فِيهِ بِقَدْرِ الْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ سَوَاءٌ فَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرَامِهِ وَشُغِلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ لِلْمُعْتَرِضِ غَايَةُ مَرَامِهِ (وَالصَّحِيحُ لَيْسَ) مُجَرَّدُهُ (قَطْعًا) لِلْمُسْتَدِلِّ (وَإِنَّهُ) أَيْ هَذَا الْمَنْعَ (يُسْمَعُ إلَّا إنْ اصْطَلَحُوا) أَيْ أَهْلُ بَلَدِ الْمُنَاظَرَةِ عَلَى عَدِّهِ قَطْعًا فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَطْعٌ كَمَا عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ يَتْبَعُ عُرْفَ الْمَكَانِ وَاصْطِلَاحَ أَهْلِهِ فَإِنْ عَدُّوهُ قَطْعًا فَقَطْعٌ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَضْعِيٌ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فِيهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ سَمَاعِهِ إذَا اصْطَلَحُوا عَلَى عَدِّهِ قَطْعًا (مَحْمَلُ) قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا يُسْمَعُ هَذَا الْمَنْعُ مِنْ الْمُعْتَرِضِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيَنْتَفِي اسْتِبْعَادُ ابْنِ الْحَاجِبِ إيَّاهُ بِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَدِلِّ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى خَصْمِهِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِ أَصْلِهِ مَمْنُوعًا وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ جُزْءُ الدَّلِيلِ وَلَا يَثْبُتُ الدَّلِيلُ إلَّا بِثُبُوتِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي كِتَابَيْ الْمُلَخَّصِ وَالْمَعُونَةِ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ سَمَاعُ الْمَنْعِ قَالَ ثُمَّ الْمَانِعُ إمَّا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ مَذْهَبُهُ فِي الْمَنْعِ فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدِهَا تَفْسِيرِ الْحُكْمِ بِمَا يَسْلَمُ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْإِجَارَةِ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَبَطَلَتْ بِالْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ فَيَمْنَعُ الْأَصْلُ إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ فَيَقُولُ أَرَدْتُ بِقَوْلِي يَبْطُلُ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ فَيَسْقُطُ الْمَنْعُ وَالثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا يَسْلَمُ فِيهِ كَقَوْلِنَا الْوُضُوءُ عِبَادَةٌ شُرِعَ لَهَا الِاخْتِتَامُ بِالْيَسَارِ فَشَرَطَ فِيهَا التَّرْتِيبَ كَالصَّلَاةِ فَيَقُولُ الْمُخَالِفُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَأَتَى بِهِنَّ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ فَيَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لَا يَصِحُّ وَهَذَا كَافٍ فِي التَّسْلِيمِ وَالثَّالِثِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كَقَوْلِنَا الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ نَجِسٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيُغْسَلُ مِنْهُ سَبْعًا كَالْكَلْبِ فَيَمْنَعُونَ الْأَصْلَ فَيَدُلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ» وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ مَذْهَبُ الْمَانِعِ فَإِنْ كَانَ لِإِمَامِهِ قَوْلَانِ أَوْ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ فَجَوَابُهُ مِنْ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ وَيَزِيدُ بِتَبْيِينِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِ التَّسْلِيمُ كَمَا يَقُولُ فِيمَنْ تَطَوَّعَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ فَانْصَرَفَ إلَى مَا عَلَيْهِ كَمَا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَيَمْنَعُ الْخَصْمُ مُسْتَنِدًا إلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَيُجِيبُ بِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْرِفَ مَذْهَبَ إمَامِهِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَا يَخْتَارُ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُحَرَّمٌ فِي نِكَاحٍ فَلَا يُخَيَّرُ فِيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَلِيلُهُ إذَا جَمَعَتْ الْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَإِنَّهَا لَا تُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَصَّ فِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُسْلِمَهُ وَتَعَقَّبَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهَا إذَا أَسْلَمَتْ عَلَيْهِمَا وَقَدْ وَقَعَ عَقْدُهُمَا مَعًا لَمْ تُقَرَّ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ أَمْ لَا وَفِيمَا إذَا اعْتَقَدُوهُ وَجْهٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَارُ أَحَدَهُمَا وَإِنْ وَقَعَا مُرَتَّبَيْنِ فَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ اهـ ثُمَّ إنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْمَنْعَ لَيْسَ بِقَطْعٍ لِلْمُسْتَدِلِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْمَنْعَ (مَنْعُ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ وَكَمَا لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ مَنْعِ مُقَدِّمَةٍ غَيْرَ هَذِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ قَطْعًا لَهُ فَكَذَا هَذَا (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ هَذَا الْمَنْعِ قَطْعًا لَهُ (فَكُلُّ مَنْعٍ قَطْعٌ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ (وَكَوْنُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (بِهِ) أَيْ بِمَنْعِ الْمُعْتَرِضِ حُكْمَ الْأَصْلِ (يَنْتَقِلُ إلَى) حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ (مِثْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ حُكْمُ الْفَرْعِ.
(لَا يَضُرُّ إذَا تَوَقَّفَ) حُكْمُ الْأَصْلِ (عَلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ (وَسِعَهُ مَجْلِسٌ أَوْ مَجَالِسُ) فَلَا يَنْعَمُ مِنْهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ مَنَعَ عِلِّيَّةَ الْعِلَّةِ أَوْ وُجُودَهَا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُهَا وَلَا يُعَدُّ الْمَنْعُ قَطْعًا لَهُ (وَلَوْ تَعَارَفَهُ) أَيْ كَوْنَ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ قَطْعًا (طَائِفَةٌ أُخْرَى) غَيْرُ أَهْلِ بَلَدِ الْمُنَاظَرَةِ (لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَدِلَّ عُرْفُهُمْ) إذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ (ثُمَّ لَا يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِإِقَامَةِ دَلِيلِهِ) أَيْ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ (عَلَى الْمُخْتَارِ إذْ لَا يَلْزَمُ صِحَّتُهُ) أَيْ الدَّلِيلِ (مِنْ صُورَتِهِ) وَلَا بُدَّ فِي ثُبُوتِ
(3/258)
الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ مِنْ صِحَّتِهِ وَذَلِكَ بِصِحَّةِ مُقَدِّمَةِ مُقَدِّمَةٍ (فَلَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (الِاعْتِرَاضُ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَقِيلَ يَنْقَطِعُ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلِيلِ مَحَلِّ الْمَنْعِ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَلَا يَنْقَطِعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْعَجْزِ عَمَّا تَصَدَّى لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِطُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ وَلَا بِوَحْدَةِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ (وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ) أَيْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ تَسْلِيمُ السَّائِلِ دَلَالَةً مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى مَطْلُوبِهِ وَإِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مَطْلُوبِهِ فَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ (فَقِيلَ لَا) يُسْمَعُ (لِأَنَّهُ غَصْبٌ لِنَصْبِ الِاسْتِدْلَالِ) لِصَيْرُورَةِ السَّائِلِ مُسْتَدِلًّا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذِكْرِ الْعِلَّةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا إذْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ فَيَنْقَلِبُ الْحَالُ إذْ وَظِيفَتُهُ الِاعْتِرَاضُ لَا الِاسْتِدْلَال.
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى قَبُولِهَا لِأَنَّهَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْعِلَّةِ لِإِيجَابِهَا وُقُوفَ الْمُسْتَدِلِّ عَنْ الْعَمَلِ إذْ الْعَمَلُ بِعِلَّتِهِ دُونَ عِلَّةِ السَّائِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ إلَى قِيَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ مَعْنَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْعِلَّةِ إلَّا مَا يُوجِبُ تَوَقُّفُهَا عَنْ الْعَمَلِ وَيَمْنَعُهَا مِنْهُ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ اعْتِرَاضٌ مَقْبُولٌ وَيَجِبُ الْجَوَابُ عَنْهُ (وَلَيْسَ) بِغَصْبٍ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ غَصْبًا (مُنِعَتْ) الْمُعَارَضَةُ (مُطْلَقًا) وَلَيْسَتْ بِمَمْنُوعَةٍ (وَقَوْلُهُ) أَيْ الْمَانِعِ لِقَبُولِهَا إسْمَاعُهَا (يَصِيرُ) الْمُعْتَرِضُ بِهِ (مُسْتَدِلًّا فِي نَفْسِ صُورَةِ الْمُنَاظَرَةِ إنْ أَرَادَ فِي عَيْنِ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ فَمُنْتَفٍ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى خِلَافِهَا (أَوْ) أَرَادَ (فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ فَلَا بَأْسَ كَمُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ وَلَا تَتِمُّ الْمُنَاظَرَةُ إلَّا بِانْقِطَاعِ أَحَدِهِمَا مِثَالُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَةَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ كَالْكَلْبِ فَيُمْنَعُ كَوْنُ جِلْدِ الْكَلْبِ لَا يَقْبَلُهَا وَفِي الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ الْمَسْحُ رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَكْرِيرُهُ كَالْغُسْلِ فَيُمْنَعُ سُنِّيَّةُ تَكْرِيرِ الْغُسْلِ بَلْ) السُّنَّةُ (إكْمَالُهُ) أَيْ الْغُسْلِ (غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ الْغُسْلَ (اسْتَغْرَقَ مَحَلَّهُ فَكَانَ) إكْمَالُهُ (بِتَكْرِيرِهِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ) الْمَفْرُوضِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ مَحَلَّهُ (فَتَكْمِيلُهُ) أَيْ الْمَسْحَ (بِاسْتِيعَابِهِ) أَيْ الْمَحَلِّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ صَوْمُ رَمَضَانَ (صَوْمُ فَرْضٍ فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ) بِالنِّيَّةِ (كَالْقَضَاءِ فَيُقَالُ إنْ) كَانَ وُجُوبُ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ (بَعْدَ تَعْيِينِ الشَّرْعِ) الزَّمَانَ (لَهُ فَ) هُوَ (مُنْتَفٍ فِي الْأَصْلِ) أَيْ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُضَيِّقْهُ بِزَمَانٍ (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ وُجُوبُ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ تَعْيِينِ الشَّرْعِ الزَّمَانَ لَهُ (فَفِي الْفَرْعِ) أَيْ فَهَذَا مُنْتَفٍ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِعَدَمِ شَرْعِيَّةِ غَيْرِهِ فِيهِ.
(الثَّانِي) أَيْ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ يَرِدُ (عَلَيْهِ مُنَوَّعٌ أَوَّلُهَا مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ مِثَالُهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْكَلْبِ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ) الْإِنَاءُ (مِنْ وُلُوغِهِ) فِيمَا فِيهِ (سَبْعًا فَلَا يَطْهُرُ) جِلْدُهُ (بِالدِّبَاغَةِ كَالْخِنْزِيرِ فَيُمْنَعُ كَوْنُ الْخِنْزِيرِ يُغْسَلُ) الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ فِيمَا فِيهِ (سَبْعًا وَ) مِثَالُهُ لَهُمْ أَيْضًا (فِي) الْعِلَلِ (الطَّرْدِيَّةِ) أَيْ اسْتِنَانِ تَثْلِيثِ مَسْحِ الرَّأْسِ (مَسْحٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَيُمْنَعُ كَوْنُ الِاسْتِنْجَاءِ طَهَارَةَ مَسْحٍ بَلْ) الِاسْتِنْجَاءُ طَهَارَةٌ (عَنْ) النَّجَاسَةِ (الْحَقِيقِيَّةِ) أَيْ إزَالَتِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ غُسْلُهَا بِالْمَاءِ أَفْضَلَ وَلَا اسْتِنْجَاءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَلَوَّثْ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَوَّغُ لِلْمُعْتَرِضِ تَقْرِيرُ الْمَنْعِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ لَهُ الْمَنْعُ إلَّا إذَا اعْتَزَى إلَى ذِي مَذْهَبٍ يَرَى الْمَنْعَ وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا بِحَيْثُ يُخْشَى نِسْبَةُ الْمَانِعِ إلَى الْمُكَابَرَةِ مُكِّنَ مِنْ تَقْرِيرِهِ وَإِلَّا فَلَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ (وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا الْمَنْعِ (بِإِثْبَاتِ وُجُودِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا هُوَ طَرِيقُ ثُبُوتِ مِثْلِهِ (حِسًّا) إنْ كَانَ حِسِّيًّا (أَوْ عَقْلًا) إنْ كَانَ عَقْلِيًّا (أَوْ شَرْعًا) إنْ كَانَ شَرْعِيًّا.
(ثَانِيهَا مَنْعُ كَوْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتَهُ فِي الْأَصْلِ (عِلَّةً وَهُوَ) أَيْ هَذَا (قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَنْعُ نِسْبَتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (إلَيْهِ) أَيْ الْوَصْفِ وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ فَقِيلَ لَا يُقْبَلُ (وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُورَدَ عَلَيْهِ) هَذَا الْمَنْعُ (مُسَاوَاةٌ فِي) وَصْفٍ (مُشْتَرَكٍ) مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (تَظُنُّ الْإِنَاطَةُ) لِلْحُكْمِ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ (وَأَمَّا مُسَاوَاةُ فَرْعِ الْأَصْلِ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ فَالْقِيَاسُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) وَهَذَا لَيْسَ بِالْمُورَدِ عَلَيْهِ لِيُقَالَ قَدْ أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَلَا يُكَلَّفُ إثْبَاتَهُ
(3/259)
ثَانِيًا (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ (عُدُولُهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (إلَى الْمَنْعِ دَلِيلُ عَجْزِهِ عَنْ إبْطَالِهِ) أَيْ كَوْنُ الْوَصْفِ الْمُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ عِلَّةً لَهُ (أَيْ نَقْضُهُ لِأَنَّ مَرْجِعُهُ) أَيْ النَّقْضِ (إلَى مَنْعٍ بِسَنَدِهِ أَوْ كَوْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَصْفًا (طَرْدِيًّا) فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نَقْضِهِ، وَعَجْزُهُ عَنْ إبْطَالِهِ دَلِيلُ صِحَّتِهِ فَلَا يُسْمَعُ الْمَنْعُ وَلَا يُشْتَغَلُ بِجَوَابِهِ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْبُطْلَانِ (أَمَّا) الْمَنْعُ (بِغَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا ذَكَرَ مِنْ النَّقْضِ وَالطَّرْدِيَّةِ (فَغَصْبٌ) مِنْ الْمُعْتَرِضِ لِمَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
(وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُسْمَعْ النَّقْضُ (لَمْ يُسْمَعْ الْمَنْعُ اتِّفَاقًا) وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَمْ يَسْتَدِلَّ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَنْعَ (بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ) عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ (غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَنْعَ (طَلَبُهُ) أَيْ الدَّلِيلِ (وَقَدْ حَصَلَ) الدَّلِيلُ (بَلْ) الْمَنْعُ إنَّمَا يَكُونُ (فِي مُقَدِّمَاتِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ النَّقْضُ غَصْبًا لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِسَنَدٍ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْعٌ قُبِلَ وَمِنْ حَيْثُ السَّنَدُ الَّذِي هُوَ التَّخَلُّفُ كَانَ إبْطَالًا (قُلْنَا الْمُلَازَمَةُ) الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُمْ عُدُولُهُ إلَى الْمَنْعِ دَلِيلُ عَجْزِهِ (مَمْنُوعَةٌ وَلَوْ سَلِمَتْ) الْمُلَازَمَةُ (لَا يَلْزَمُ صِحَّتُهُ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتَهُ (لِانْتِقَاضِهِ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ (بِكَثِيرٍ) ثُمَّ فِي نُسْخَةٍ (إذْ يَلْزَمُ صِحَّتُهُ كُلَّمَا عَجَزَ الْمُعْتَرِضُ عَنْ إبْطَالِهِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا قَائِلَ بِهِ (حَتَّى دَلِيلُ الْحُدُوثِ) وَهَذَا آخِرُ مَا فِي الْكِتَابِ نُسْخَةً يَعْنِي حُدُوثَ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتَ الصَّانِعِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَا يَصِحُّ دَلِيلُهُمَا بِمُجَرَّدِ عَجْزِ الْمُعْتَرِضِ عَنْ إبْطَالِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وَجْهِ دَلَالَةٍ وَصِحَّةِ تَرْتِيبٍ حَتَّى أَنَّهُ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الْمَنْعِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى دَفْعِهِ قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ بَلْ حَتَّى دَلِيلَا النَّقِيضَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَعَجَزَ كُلٌّ عَنْ إبْطَالِ الْآخَرِ.
وَقَدْ يُقَالُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَسَائِرِ الصُّوَرِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ طُرُقَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ مَحْصُورَةٌ مَضْبُوطَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْمُنَاظِرِ فَلَمَّا لَمْ يُظْهِرْ الْمُنَاظِرُ طَرِيقًا مِنْهَا وَهَرَبَ إلَى مُجَرَّدِ الْمَنْعِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقُ نَفْيِهَا فَلَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَلْبَتَّةَ لِلنَّاظِرِ وَالْمُنَاظِرِ وَكَيْفَ وَالسَّبْرُ دَلِيلٌ لِلْعِلِّيَّةِ ظَاهِرٌ لِلنَّاظِرِ عَامٌّ لِكُلِّ عِلَّةٍ لِكُلِّ حُكْمٍ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ فَإِذَا اقْتَصَرَ الْمَانِعُ عَلَى مُجَرَّدِ مَنْعِ الْعِلِّيَّةِ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُتَمَكِّنًا مِنْ رُجُوعِهِ إلَى السَّبْرِ وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مَعَ سَبْرِ الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَعْدِلَ الْمَانِعُ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَنْعِ إلَى إبْطَالِ الْوَصْفِ الَّذِي أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ عِلِّيَّتَهُ بِالسَّبْرِ بِمُعَارَضَتِهِ بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ آخَرَ لِلْعِلِّيَّةِ فَلْيَفْعَلْ الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْقِيَاسِ وَيَطْرَحْ مُؤْنَةَ الْمَنْعِ وَقَبُولَهُ وَلَا قَبُولَهُ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَقَدْ يُعَارَضُ أَيْضًا بِأَنَّ عَجْزَ الْمُسْتَدِلِّ عَنْ إثْبَاتِهِ دَلِيلُ فَسَادِهِ إذْ طُرُقُ الْعِلِّيَّةِ مِمَّا لَا تَخْفَى فَالْفِرَارُ إلَى مُجَرَّدِ صُورَةِ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ (وَإِذَا بَيَّنَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً (بِنَصٍّ لَهُ) أَيْ لِلْمُعْتَرِضِ (الِاعْتِرَاضُ بِمَا يُمْكِنُ) الِاعْتِرَاضُ بِهِ (عَلَى ذَلِكَ السَّمْعِيِّ) مِنْ مَنْعِ ظُهُورِهِ فِي الدَّلَالَةِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلِهِ وَطَعْنٍ فِي السَّنَدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَمُعَارَضَتُهُ) بِنَصٍّ آخَرَ مُقَاوِمٌ لَهُ (وَكَذَا الْإِجْمَاعُ) أَيْ إذَا بَيَّنَ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً بِهِ لِلْمُعْتَرِضِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَيْهِ كَمَنْعِ وُجُودِهِ (وَيَزِيدُ) بَيَانُهُ بِالْإِجْمَاعِ (بِنَفْيِ كَوْنِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (دَلِيلًا بِنَحْوِ كَوْنِ السُّكُوتِ يُفِيدُهُ) أَيْ الظَّنَّ (إنْ كَانَ) الْإِجْمَاعُ الْمُثْبَتُ بِهِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (أَوْ) بَيَّنَهُ (بِغَيْرِهِمَا) أَيْ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ (مِنْ) مَسْلَكٍ (مُخْتَلَفٍ) فِيهِ (كَالدَّوَرَانِ لَهُ) أَيْ لِلْمُعْتَرِضِ (مَنْعُ صِحَّتِهِ وَلِلْآخَرِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (إثْبَاتُهَا) أَيْ صِحَّتِهِ (وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) كَصَاحِبِ الْمَنَارِ هَذَا الْمَنْعُ (يُلْجِئُ أَهْلَ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ) أَيْ الْمُؤَثِّرِ فَيَضْطَرُّ إلَى إثْبَاتِهِ لِيُمْكِنَهُ الْإِلْزَامُ عَلَى الْخَصْمِ (يُفِيدُهُ نَفْيُ تَمْكِينِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (مِنْ إثْبَاتِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُؤَثِّرِ.
(وَمُقْتَضَى مَا فِي الِانْتِقَالِ يُخَالِفُهُ) لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِهَا وَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ (إلَّا إنْ حَمَلَ) غَيْرَ الْمُؤَثِّرِ (عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ) عِلَّةً (لِأَوْجُهِ الْبُطْلَانِ) لِمَا سِوَى التَّأْثِيرِ (فَيَرْجِعُ) الْمُسْتَدِلُّ حِينَئِذٍ (إلَى التَّأْثِيرِ لَكِنَّهُ) أَيْ رُجُوعَهُ إلَيْهِ (انْتِقَالٌ) مِنْ عِلَّةٍ (إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ (عِلِّيَّةُ الْوَصْفِ هُنَا وَعَلِمْت) فِي الِانْتِقَالِ (مَا فِيهِ) أَيْ أَنَّهُ الِانْتِقَالُ الْمَمْنُوعُ فِي عُرْفِ الْمُنَاظِرِينَ
(3/260)
اسْتِحْسَانًا كَيْ لَا يَخْلُوَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ عَنْ الْمَقْصُودِ (مِثَالُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمِثَالِ) السَّابِقِ لِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَلْبِ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ كَالْخِنْزِيرِ (مَنْعُ كَوْنِ الْغَسْلِ سَبْعًا عِلَّةَ عَدَمِ قَبُولِهِ) أَيْ جِلْدِ الْكَلْبِ (الدِّبَاغَةَ شَرْعًا وَ) مِثَالُهُ (لِلْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ) الْأَخُ (لَا يَعْتِقُ عَلَى أَخِيهِ) بِمِلْكِهِ إيَّاهُ (إذْ لَا بَعْضِيَّةَ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْأَخَوَيْنِ (كَابْنِ الْعَمِّ) فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ لِانْتِفَاءِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا (مَنْعُ أَنَّهَا) أَيْ الْبَعْضِيَّةَ (الْعِلَّةُ فِي الْعِتْقِ لِيَنْتَفِيَ الْحُكْمُ) الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ (بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُتَّحِدَةِ) بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْبَعْضِيَّةُ (بَلْ) الْعِلَّةُ فِي الْعِتْقِ (الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ) وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَخَوَيْنِ دُونَ ابْنَيْ الْعَمِّ.
(ثَالِثُهَا عَدَمُ تَأْثِيرِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ (لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْ) عَدَمُ (اعْتِبَارُهُ) شَرْعًا (وَقَسَّمُوهُ) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ (أَرْبَعَةً) مِنْ الْأَقْسَامِ (أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ مُطْلَقًا أَوْ) أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ (فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ أَوْ) أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِ (قَيْدٍ مِنْهُ) أَيْ الْوَصْفِ (مُطْلَقًا أَوْ لَا) يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ (بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَرَدُّوا الْأَوَّلَ) أَيْ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ مُطْلَقًا (وَالثَّالِثَ) أَيْ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ فِي الْأَصْلِ (إلَى الْمُطَالَبَةِ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَجَوَابِهِ) أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (الْمُتَقَدِّمِ) وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا (جَوَابُهُ) أَيْ جَوَابُ هَذَا إذْ هُوَ هُوَ (وَ) رَدُّوا (الثَّانِيَ) أَيْ عَدَمَ تَأْثِيرِ قَيْدٍ مِنْهُ مُطْلَقًا (وَالرَّابِعَ) أَيْ أَنْ لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (إلَى الْمُعَارَضَةِ) فِي الْأَصْلِ بِإِبْدَاءِ عِلَّةٍ أُخْرَى (عَلَى خِلَافٍ فِي الرَّابِعِ) يَأْتِي قَرِيبًا وَتَعَقَّبَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ بِمَا حَاصِلُهُ كَمَا ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ حَاصِلُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ مُجَرَّدُ مَنْعِ الْعِلِّيَّةِ وَطَلَبِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا بَلْ إثْبَاتُ عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مُطْلَقًا أَوْ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْعِ الْعِلِّيَّةِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِهَا وَلَيْسَ حَاصِلُ الثَّانِي وَالرَّابِعِ مُجَرَّدَ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ بِإِبْدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةَ بَلْ إثْبَاتُ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَفَرَّقَ بَيْنَ إبْدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ الْعِلَّةَ وَإِبْدَاءِ مَا هُوَ الْعِلَّةُ قَطْعًا.
(مِثَالُ الْأَوَّلِ وَيُسَمَّى عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ) أَنْ يُقَالَ (فِي) صَلَاةِ (الصُّبْحِ) صَلَاةٌ (لَا تُقْصَرُ فَلَا يُقَدِّمُ أَذَانَهُ) أَيْ أَذَانَ أَدَائِهَا عَلَى وَقْتِهَا (كَالْمَغْرِبِ فَيُرَدُّ عَدَمُ الْقَصْرِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي عَدَمِ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ وَلَا شَبَهَ) بَيْنَ وَصْفِ عَدَمِ الْقَصْرِ وَحُكْمِ عَدَمِ التَّقْدِيمِ لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالتَّبَعِ وَلِذَا كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ مَنْعُ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْوَقْتِ مَوْجُودًا فِيمَا قُصِرَ مِنْ الصَّلَاةِ فَهُوَ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا (وَ) مِثَالُ (الثَّانِي فِي مَنْعِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَيُسَمَّى عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَلَا يَصِحُّ) بَيْعُهُ (كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فَيُرَدُّ هَذَا) الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ (وَإِنْ نَاسَبَ) نَفْيَ الصِّحَّةِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ مَسْأَلَةُ الطَّيْرِ (فَفِي الْأَصْلِ مَا يَسْتَقِلُّ) بِمَنْعِ الصِّحَّةِ (وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلِذَا) أَيْ اشْتِمَالُ الْأَصْلِ عَلَى مَا يَسْتَقِلُّ بِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ (رَجَعَ) هَذَا الْقِسْمُ (إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْعِلَّةِ) بِإِبْدَاءِ عِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلِذَا بَنَاهُ بَانُونَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا (يَنْكَشِفُ أَنَّ اعْتِبَارَ جِنْسِهِ) أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (ظُهُورَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ غَيْرُ وَاقِعٍ إذْ لَمْ يَظْهَرْ عَدَمُ مُنَاسَبَةٍ فِي غَيْرِ مَرْئِيٍّ بِمَا أَبْدَاهُ) مِنْ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ (بَلْ جَوَّزَهُ) أَيْ مَا أَبْدَاهُ (مَعَهُ) أَيْ كَوْنُهُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ.
(وَ) مِثَالُ (الثَّالِثِ وَيُسَمَّى عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ لَوْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ) إذَا أَتْلَفُوا أَمْوَالَنَا (مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا مَالًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَضْمَنُونَ) أَمْوَالَنَا إذَا أَسْلَمُوا كَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ (فَيُرَدُّ لَا تَأْثِيرَ لِدَارِ الْحَرْبِ) فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عِنْدَكُمْ (لِلِانْتِفَاءِ) لِلضَّمَانِ (فِي غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ (عِنْدَكُمْ فَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ (كَالْأَوَّلِ) فِي كَوْنِ مَرْجِعِهِمَا إلَى الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَ) مِثَالُ (الرَّابِعِ وَيُسَمَّى عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْفَرْعِ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَيُرَدُّ كَتَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (لَا أَثَرَ لِغَيْرِ كُفْءٍ) فِي الرَّدِّ (لِتَحَقُّقِ النِّزَاعِ فِيهِ) أَيْ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ (أَيْضًا فَرَجَعَ) هَذَا (إلَى الْمُعَارَضَةِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهَا فَقَطْ) وَقَدْ سَمِعْت قَوْلَهُمْ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمُعَارَضَةِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَالثَّانِي قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا يَخْفَى رُجُوعُهُ إلَى الثَّالِثِ) وَهُوَ عَدَمُ تَأْثِيرِ قَيْدٍ ذُكِرَ
(3/261)
فِيهِ فَيَرْجِعُ لِلْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَظَهَرَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ (لَيْسَ سُؤَالًا مُسْتَقِلًّا) بَلْ هُوَ إمَّا مُطَالَبَةٌ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ أَوْ مُعَاوَضَةٌ بِعِلَّةٍ أُخْرَى (فَتَرَكَهُ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا وَلِمَا نَذْكُرُ ثُمَّ الْمُخْتَارُ أَنَّ الثَّالِثَ) عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالرَّابِعَ عَلَى قَوْلِهِمْ (مَرْدُودٌ إذَا اعْتَرَفَ الْمُسْتَدِلُّ بِطَرْدِيَّتِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ جُزْءَ الْعِلَّةِ كَاذِبٌ بِاعْتِرَافِهِ وَأَنَّهُ لَقَبِيحٌ وَقِيلَ لَا لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْتِلْزَامُ الْحُكْمِ وَالْجُزْءُ إذَا اسْتَلْزَمَ فَالْكُلُّ مُسْتَلْزِمٌ قَطْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (وَغَيْرُ مَرْدُودٍ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ) الْمُسْتَدِلُّ بِطَرْدِيَّتِهِ (لِجَوَازِ غَرَضٍ صَحِيحٍ) لِلْمُسْتَدِلِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ (أَنْ يَدْفَعَ) الْمُسْتَدِلُّ (النَّقْضَ الْمَكْسُورَ) وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ نَقْضُ بَعْضِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ اسْتِقْلَالِهِ بِالْحِكْمَةِ أَيْ إيرَادِهِ عَلَيْهِ.
(وَهُوَ) أَيْ إيرَادُهُ (أَصْعُبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ) مِنْ إيرَادِ النَّقْضِ الصَّرِيحِ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ عَدَمِ تَأْثِيرِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَصْفِ وَبَيَانَ نَقْضِ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَفِي النَّقْضِ الصَّرِيحِ لَيْسَ إلَّا بَيَانُ الْوَصْفِ أَعْنِي ثُبُوتَهُ فِي صُورَةٍ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهَا فَرُبَّمَا يَعْجِزُ الْمُعْتَرِضُ عَنْ إيرَادِهِ الْأَصْعَبَ وَلَا يَعْجِزُ عَنْ إيرَادِهِ غَيْرَهُ وَقِيلَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ ضَمَّهُ إلَى الْعِلَّةِ لَغْوٌ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِطَرْدِيَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَرَفَ فَافْتَرَقَا (وَلِلشَّافِعِيَّةِ بَعْدَهُ) أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (أَرْبَعَةٌ) مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُنَاسَبَةِ (الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِإِبْدَاءِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ) عَلَى
الْمَصْلَحَةِ
الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَضَى عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُنَاسَبَةِ (أَوْ مُسَاوِيَةٍ) لَهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ بِحَسَبِ الْإِفْضَاءِ مِنْ أَنَّ مُخْتَارَ الْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ انْخِرَامُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ رَاجِحَةٍ أَوْ مُسَاوِيَةٍ (وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (تَرْجِيحُ
الْمَصْلَحَةِ
إجْمَالًا) عَلَى الْمَفْسَدَةِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ رُجْحَانُهَا لَزِمَ التَّعَبُّدُ الْبَاطِلُ (وَتَقَدَّمَ) ذِكْرُهُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ بِحَسَبِ الْإِفْضَاءِ (وَتَفْصِيلًا بِمَا فِي الْخُصُوصِيَّاتِ) أَيْ خُصُوصِيَّاتِ الْمَسَائِلِ مِنْ الرُّجْحَانِ كَهَذَا ضَرُورِيٌّ وَذَاكَ حَاجِيٌّ وَإِفْضَاءُ هَذَا قَطْعِيٌّ أَوْ أَكْثَرِيٌّ وَذَاكَ ظَنِّيٌّ أَوْ أَقَلِّيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (مِثْلُ) أَنْ يُقَالَ فِي الْفَسْخِ فِي الْمَجْلِسِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ (وُجِدَ سَبَبُ الْفَسْخِ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ) أَيْ سَبَبُهُ (دَفْعُ الضَّرَرِ) عَنْ الْفَاسِخِ (فَيَثْبُتُ) الْفَسْخُ (فَيُعَارَضُ بِضَرَرِ الْآخَرِ) الَّذِي لَمْ يَفْسَخْ (مَفْسَدَةً مُسَاوِيَةً فَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا) الْآخَرَ (يُجْلَبُ) بِاسْتِبْقَاءِ الْعَقْدِ (نَفْعًا وَذَاكَ) الْفَاسِخُ (يَدْفَعُ ضَرَرًا) عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِمْضَاءِ (وَهُوَ) أَيْ دَفْعُ الضَّرَرِ (أَهَمُّ) لِلْعُقَلَاءِ وَلِذَلِكَ يَدْفَعُ كُلَّ ضَرَرٍ وَلَا يَجْلِبُ كُلَّ نَفْعٍ.
(وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا (التَّخَلِّي) أَيْ تَفْرِيغُ النَّفْسِ (لِلْعِبَادَةِ) النَّافِلَةِ (أَفْضَلُ مِنْ التَّزَوُّجِ لِمَا فِيهِ) أَيْ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ (مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فَيُعَارَضُ بِفَوَاتِ أَضْعَافِهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ (فِيهِ) أَيْ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ مِنْهَا كَسْرُ الشَّهْوَةِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَإِعْفَافُ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَإِيجَادُ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتُهُ وَتَوْسِعَةُ الْبَاطِنِ بِالتَّحَمُّلِ فِي مُعَاشَرَةِ أَبْنَاءِ النَّوْعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (فَيَرْجَحُ) التَّزَوُّجُ لِمَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الَّتِي مِنْهَا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالتَّسَبُّبُ لِعِبَادَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَتَرْكُ الْمَعَاصِي عَلَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعِبَادَةِ (فَيُرَجِّحُهَا) أَيْ مَصْلَحَةَ الْعِبَادَةِ (الْآخَرُ بِأَنَّهَا لِحِفْظِ الدِّينِ وَتِلْكَ) الْمَصَالِحُ الَّتِي فِي التَّزَوُّجِ (لِحِفْظِ النَّسْلِ) وَحِفْظُ الدِّينِ أَرْجَحُ مِنْ حِفْظِ النَّسْلِ (غَيْرَ) أَنَّهُ يَطْرُقُهُ (أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ حَالَةَ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمَ الْخَشْيَةِ) لِلْوُقُوعِ فِي الزِّنَا فَلَا يَتِمُّ هَذَا التَّرْجِيحُ فَهَذَا أَوَّلُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْأَرْبَعَةِ (وَالْقَدْحُ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمَصْلَحَةِ) الْمَقْصُودَةِ (فِي شَرْعِهِ) أَيْ الْحُكْمِ لِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ (كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ) لِلْمَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيدِ (لِلْحَاجَةِ إلَى رَفْعِ الْحِجَابِ) لِضَرُورَةِ الِاخْتِلَاطِ وَتَعَذُّرِ الْمَعَاشِ أَوْ تَعَسُّرِهِ إلَّا بِالتَّلَاقِي (إذْ يُفْضِي) التَّحْرِيمُ عَلَى التَّأْبِيدِ (إلَى دَفْعِ الْفُجُورِ) لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الطَّمَعَ الْمُفْضِيَ إلَى الْهَمِّ وَالنَّظَرَ الْمُفْضِيَ إلَى الْفُجُورِ (فَيُمْنَعُ) كَوْنُ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْفُجُورِ (بَلْ سَدُّ بَابِ الْعَقْدِ أَفْضَى) إلَى الْفُجُورِ (لِحِرْصِ النَّفْسِ عَلَى الْمَمْنُوعِ فَيُدْفَعُ) هَذَا الْمَنْعُ (بِأَنَّ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ يَمْنَعُ عَادَةً) مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ وَالنَّظَرِ (إذْ يَصِيرُ) ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ بِهَذَا السَّبَبِ (كَالطَّبِيعِيِّ) لِلْإِنْسَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَحَلُّ مُشْتَهًى (أَصْلُهُ الْأُمَّهَاتُ) فَإِنَّهُ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ صِرْنَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهَذَا ثَانِي
(3/262)
الِاعْتِرَاضَاتِ الْأَرْبَعَةِ.
(وَكَوْنُ الْوَصْفِ خَفِيًّا كَالرِّضَا) فِي الْعُقُودِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى (وَيُجَابُ بِضَبْطِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (بِظَاهِرٍ كَالصِّيغَةِ) أَيْ بِضَبْطِ الرِّضَا بِصِيَغِ الْعُقُودِ وَهَذَا ثَالِثُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْأَرْبَعَةِ (وَكَوْنُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (غَيْرَ مُنْضَبِطٍ كَالْحِكَمِ) جَمْعُ حِكْمَةٍ وَهِيَ الْأَمْرُ الْبَاعِثُ مِنْ الْمَقَاصِدِ (وَالْمَصَالِحِ) أَيْ مَا يَكُونُ لَذَّةً أَوْ وَسِيلَةً إلَى لَذَّةٍ (كَالْحَرَجِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّهَا) أَيْ الْحِكَمَ وَالْمَصَالِحَ (مَرَاتِبُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلَّةِ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا (وَجَوَابُهُ بِإِبْدَاءِ الضَّابِطِ بِنَفْسِهِ) كَمَا يُقَالُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالْمَضَرَّةِ إنَّهُمَا مُنْضَبِطَانِ عُرْفًا (أَوْ) أَنَّ الْوَصْفَ (نِيطَ بِمُنْضَبِطٍ كَالسَّفَرِ) نِيطَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ بِهِ (وَالْحَدِّ) نِيطَ الْقَدْرُ الْمُعْتَبَرُ فِي حُصُولِ الزَّجْرِ بِهِ وَهَذَا رَابِعُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْأَرْبَعَةِ (وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْحَنَفِيَّةُ لَا لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ هَذَا) أَيْ انْتِفَاءَهَا (اتِّفَاقٌ بَلْ لِأَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ (انْتِفَاءُ لَوَازِمِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ مُطْلَقًا) أَيْ بِأَيِّ مَسْلَكٍ كَانَ (كَمَا تَقَدَّمَ) فِي فَصْلِ الْعِلَّةِ.
(وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ (يَتَّجِهُ إيرَادُهُ) أَيْ انْتِفَائِهَا (إذْ يُوجِبُ) انْتِفَاءُ لَازِمِهَا (انْتِفَاءَهَا) لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ (فَهُوَ) أَيْ انْتِفَاءُ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ (مَعْلُومٌ مِنْ الشُّرُوطِ) لَهَا (وَمَنْعُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بَعْضَهَا) أَيْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ (وَهُوَ مَرْجِعُ الثَّانِي وَالرَّابِعِ) مِنْ مَنْعِ التَّأْثِيرِ (لِمَنْعِهِمْ الْمُعَارَضَةَ لِعِلَّةِ الْأَصْلِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) إذَا أَفْضَتْ النَّوْبَةُ إلَى الْكَلَامِ فِيهَا (وَذَكَرُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (مَنْعَ الشُّرُوطِ) لِلتَّعْلِيلِ وَصَحَّ فِيهَا لِأَنَّ شَرْطَ دَلِيلِ وُجُوبِ الْعَمَلِ سَابِقٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ ثُمَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ لَمْ يَشْتَرِطَا كَوْنَ الشَّرْطِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ (وَقَيَّدَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مَحَلَّهُ) أَيْ مَنْعِ الشَّرْطِ (بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ) فَقَالَ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ شَرْطٌ مِنْهَا وَهُوَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ عُدِمَ فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ (فَيَتَّجِهُ) الْمَنْعُ (عِنْدَ عَدَمِهِ) أَيْ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَيُفِيدُ مَنْعُهُ بُطْلَانَ التَّعْلِيلِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَمَّا إذَا مَنَعَ شَرْطًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَقُولُ الْمُعَلِّلُ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدِي فَلَا يَضُرُّ عَدَمُهُ فَحِينَئِذٍ يُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ مَانِعَهُ شَرْطٌ أَمْ لَا فَيُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ إذْ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لَا إثْبَاتُ شَرْطِ الْقِيَاسِ قُلْت وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْأَتْقَانِيُّ أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ شَرَطَ أَنْ يَمْنَعَ الشَّارِطُ وُجُوبَ شَرْطٍ هُوَ شَرْطٌ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمُجِيبِ فَأَشَارَ إلَى أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ الْإِجْمَاعَ الْمُطْلَقَ هَذَا وَفِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ.
وَمَعَ هَذَا لَوْ مَنَعَ شَرْطًا مُخْتَلَفًا فِيهِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ إلْزَامِ الْمُعَلِّلِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ اهـ قُلْت وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَكَلَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالسَّرَخْسِيِّ فَإِنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْمَنْعِ الشَّرْطُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَهُ وَهُمَا لَمْ يَنْفِيَاهُ وَمَحَلُّ جَوَازِ الْمَنْعِ عِنْدَهُمَا الشَّرْطُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِهَذَا الْقَيْدِ وَهُوَ لَمْ يَنْفِهِ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْأَتْقَانِيِّ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِمَا كَوْنَ الشَّرْطِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي لِأَنَّ قَوْلَ الْمُجِيبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى السَّائِلِ فَيُثْبِتُ الْمُجِيبُ مَا ادَّعَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْبَلُهُ السَّائِلُ أَوْ يَسْكُتُ عَنْ إنْكَارِهِ يُوهِمُ أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ يُخَالِفُ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ وَقَدْ مَثَّلَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَحَدُ عِوَضَيْ الْبَيْعِ فَيَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا كَثَمَنِ الْمَبِيعِ فَيُقَالُ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ شُرُوطَ التَّعْلِيلِ مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِهِ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُ النَّصِّ بَعْدَ التَّعْلِيلِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَقَدْ تَغَيَّرَ هُنَا لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالشَّرْعُ نَقَلَ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي الْبَيْعِ إلَى الْقُدْرَةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ فِي السَّلَمِ بِذِكْرِ الْأَجَلِ فَصَارَ ذَلِكَ رُخْصَةَ نَقْلٍ إلَى خَلَفٍ فَلَوْ جَازَ السَّلَمُ حَالًّا لَصَارَ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ لَا إلَى خَلَفٍ فَكَانَ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَالسَّلَمُ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ.
(رَابِعُهَا) أَيْ الْمُنُوعِ الْوَارِدَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ (النَّقْضُ وَتُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ الْمُنَاقَضَةُ وَهِيَ لِلْجَدَلِيِّينَ مَنْعُ مُقَدِّمَةٍ مُعَيَّنَةٍ) مِنْ الدَّلِيلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ السَّنَدِ أَوْ لَا وَقَدْ سَلَفَ أَنَّ السَّنَدَ مَا كَانَ الْمَنْعُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَلِلسَّنَدِ صِيَغٌ ثَلَاثٌ إحْدَاهَا لَا نُسَلِّمُ هَذَا لِمَ
(3/263)
لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَا ثَانِيَتُهَا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ كَذَا ثَالِثَتُهَا لَا نُسَلِّمُ كَيْفَ هَذَا وَالْحَالُ كَذَا (وَغَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ) أَيْ وَمَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُعَيَّنَةٍ مِنْ الدَّلِيلِ (بِأَنْ يَلْزَمَ الدَّلِيلُ مَا يُفْسِدُهُ) أَيْ الدَّلِيلُ (فَيُفِيدُ) لُزُومُ ذَلِكَ لَهُ (بُطْلَانَ مُقَدِّمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ) مِنْ الدَّلِيلِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَغَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ (النَّقْضُ الْإِجْمَالِيُّ وَرَدُّوا) أَيْ الْأُصُولِيُّونَ (النَّقْضَ) الْكَائِنَ عِنْدَهُمْ (إلَى مَنْعِ مُسْنَدٍ) وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّنَدِ لَهُ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ (كَانَ) النَّقْضُ (مُعَارَضَةً قَبْلَ الدَّلِيلِ) وَهِيَ لَا تَكُونُ قَبْلَهُ (وَعَلَى هَذَا يَجِبُ) أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ (مُعَارَضَةً لَوْ) كَانَ (بَعْدَهُ) أَيْ الدَّلِيلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (اسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ) أَيْ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً (بِالتَّخَلُّفِ) أَيْ بِوُجُودِهِ فِي صُورَةٍ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهَا (وَيُجِيبُ الْآخَرُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ (بِمَنْعِ وُجُودِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ وَيَسْتَدِلُّ الْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (بَعْدَهُ) أَيْ مَنْعِ الْمُسْتَدِلِّ وُجُودَهَا فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ (أَوْ ابْتِدَاءً) أَيْ قَبْلَ مَنْعِ الْمُسْتَدِلِّ إيَّاهُ (فَانْقَلَبَ) الْمُعْتَرِضُ مُعَلِّلًا وَالْمُعَلِّلُ مُعْتَرِضًا.
(وَقِيلَ لَا) يُقْبَلُ مِنْ الْمُعْتَرِضِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ إذَا مَنَعَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُودَهُ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ (وَقِيلَ) لَا يُقْبَلُ (إنْ كَانَ) ذَلِكَ الْوَصْفُ (حُكْمًا شَرْعِيًّا) لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الِانْتِقَالُ الْمَمْنُوعُ وَإِلَّا فَنَعَمْ لِظُهُورِ تَتْمِيمِ الْمُعْتَرِضِ لِدَلِيلِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلَّةِ وَعَلَى بُطْلَانِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ السُّبْكِيُّ وَلَمْ يُوجَدْ لِغَيْرِهِ (وَقِيلَ) يُقْبَلُ (إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَادِحٌ أَقْوَى) مِنْ النَّقْضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ قَادِحٌ أَقْوَى مِنْهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ غَصْبَ الْمَنْصِبِ وَالِانْتِقَالِ إنَّمَا يَنْفَعَانِ اسْتِحْسَانًا فَإِذَا وُجِدَ الْأَحْسَنُ لَمْ يَرْتَكِبْهُمَا وَإِلَّا فَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (وَلَيْسَتْ) هَذِهِ الْأَقْوَالُ (بِشَيْءٍ) قَوِيٍّ (فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي الْأَصْلِ بِمَوْجُودٍ) أَيْ بِدَلِيلٍ مَوْجُودٍ (فِي مَحَلِّ النَّقْضِ فَنَقَضَهَا) أَيْ الْمُعْتَرِضُ الْعِلَّةَ (فَمَنَعَ) الْمُسْتَدِلُّ (وُجُودَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ (فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ فَيَلْزَمُ إمَّا انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ أَوْ) انْتِقَاضُ (دَلِيلِهَا وَكَيْفَ كَانَ) اللَّازِمُ أَيْ انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ أَوْ دَلِيلِهَا (لَا تَثْبُتُ) الْعِلِّيَّةُ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلِّيَّةَ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ مِنْ مِلْكٍ صَحِيحٍ (قُبِلَ) بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ عَدَمَ الِانْتِقَالِ فِيهِ ظَاهِرٌ إنْ لَمْ يَتْرُكْ ذِكْرَ نَقْضِ الْعِلَّةِ.
(وَلَوْ نَقَضَ) الْمُعْتَرِضُ (دَلِيلَهَا) أَيْ الْعِلِّيَّةِ (عَيْنًا فَالْجَدَلِيُّونَ لَا يُسْمَعُ) هَذَا مِنْ الْمُعْتَرِضِ (لِسَلَامَةِ الْعِلَّةِ إذْ نَقَضُهُ) أَيْ دَلِيلِهَا الْمُعَيَّن (لَيْسَ نَقْضَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ نَقْضِهَا إلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا (وَنَظَرَ فِيهِ) أَيْ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ وَالنَّاظِرُ ابْنُ الْحَاجِبِ (بِأَنَّ بُطْلَانَهُ) أَيْ دَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ (بُطْلَانُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (أَيْ عَدَمُ ثُبُوتِهَا إذْ لَا بُدَّ لَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (مِنْ مَسْلَكٍ صَحِيحٍ وَهُوَ) أَيْ بُطْلَانُ الْعِلَّةِ (مَطْلُوبُهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِبُطْلَانِهَا عَدَمَ ثُبُوتِهَا (فَبُطْلَانُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يُوجِبُهُ) أَيْ بُطْلَانُهَا (لَكِنَّهُ) أَيْ بُطْلَانَ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ (يُحْوِجُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (إلَى الِانْتِقَالِ إلَى) دَلِيلٍ (آخَرَ لِإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْعِلِّيَّةَ (وَيُجِيبُ) الْمُسْتَدِلُّ (أَيْضًا) عِوَضًا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهَا (بِمَنْعِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ اتِّفَاقًا (وَلِلْمُعْتَرِضِ الدَّلَالَةُ) أَيْ إقَامَةُ الدَّلِيلِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ (فِي الْمُخْتَارِ) إذْ بِهِ يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُ وَهُوَ إبْطَالُ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ وَقِيلَ نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ أَوْلَى مِنْ النَّقْضِ بِالْقَدْحِ وَإِلَّا سُمِعَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ (وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاحْتِرَاسِ عَنْ النَّقْضِ) عَلَى الْمُسْتَدِلِّ (فِي الِاسْتِدْلَالِ وَقِيلَ يَجِبُ) الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ فَيَذْكُرُ قَيْدًا يُخْرِجُ مَحَلَّ النَّقْضِ لِئَلَّا تَنْتَقِضُ الْعِلَّةُ قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
(وَقِيلَ) يَجِبُ (إلَّا فِي الْمُسْتَثْنَيَاتِ) وَهِيَ الصُّوَرُ الَّتِي يَنْتَفِي فِيهَا الْحُكْمُ وَتُوجَدُ الْعِلَّةُ أَيَّةَ كَانَتْ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ وُرُودَ النَّقْضِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ كَانَ مُجَامِعًا لِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا قِيَاسَ عَلَيْهِ وَلَا يُنَاقِضُ بِهِ (كَالْعَرَايَا
(3/264)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إذَا وَرَدَتْ عَلَى الرِّبَوِيَّاتِ لِأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْعَرَايَا بِمَا يَقْتَضِي وُرُودَهَا عَلَى كُلِّ الْمَذَاهِبِ سَوَاءٌ عُلِّلَ الرِّبَا بِالطُّعْمِ أَوْ الْقُوتِ أَوْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ بِقَدْرِ كَيْلِهِ مِنْ التَّمْرِ خَرْصًا لَوْ جَفَّ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَيْسَتْ الْعَرِيَّةُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْعَطِيَّةَ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُعْرِي وَالْمُعْرَى بَيْعٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَهُمْ (لَنَا أَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (أَتَمَّ الدَّلِيلَ إذْ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ) لَهُ (لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ الدَّلِيلِ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِنَفْيِ الْمُعَارِضِ فَلَا يَلْزَمُهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الِاحْتِرَاسَ عَنْهُ بِذِكْرِ قَيْدٍ يُخْرِجُ مَحَلَّ النَّقْضِ (لَا يُفِيدُ) دَفْعَ الِاعْتِرَاضِ بِالنَّقْضِ (إذْ يَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (الْقَيْدُ طَرْدٌ وَالْبَاقِي) بَعْدَهُ (مُنْتَقَضٌ وَهَذَانِ) أَيْ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَمَنْعُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ (دَفْعَانِ) لِتَحَقُّقِ النَّقْضِ (وَالْجَوَابُ الْحَقِيقِيُّ بَعْدَ الْوُرُودِ) أَيْ تَحَقُّقِهِ (بِإِبْدَاءِ الْمَانِعِ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ وَهُوَ) أَيْ الْمَانِعُ (مُعَارَضٌ اقْتَضَى نَقِيضَ الْحُكْمِ) الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ (فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ كَنَفْيِ الْوُجُوبِ لِلْوُجُوبِ (أَوْ) اقْتَضَى (خِلَافَهُ) أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُغَايِرُ الْوُجُودِيُّ غَيْرُ الْمُسَاوِي فَيَتَنَاوَلُ الضِّدَّ وَهَذَا الِاقْتِضَاءُ (
لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ
كَالْعَرَايَا لَوْ أُورِدَتْ عَلَى الرِّبَوِيَّاتِ) لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ لَهُمْ وَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ ثَمَنٌ آخَرُ.
(وَكَذَا الدِّيَةُ) أَيْ كَضَرْبِهَا (عَلَى الْعَاقِلَةِ) إذَا أُورِدَ (عَلَى الزَّجْرِ) لِلْقَاتِلِ بِسَبَبِ مَشْرُوعِيَّتِهَا (
لِمَصْلَحَةِ أَوْلِيَائِهِ
) أَيْ الْمَقْتُولِ (مَعَ عَدَمِ تَحْمِيلِهِ) أَيْ الْقَاتِلِ شَيْئًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقَتْلَ (لِلشَّافِعِيَّةِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِمْ لِأَنَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤَدِّي الْقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ (أَوْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ كَالِاضْطِرَارِ لَوْ وَرَدَ عَلَى تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ بِالِاسْتِقْذَارِ فَإِنَّهُ) أَيْ الِاضْطِرَارَ (اقْتَضَى خِلَافَهُ) أَيْ التَّحْرِيمِ (مِنْ الْإِبَاحَةِ) فَإِنَّ دَفْعَ هَلَاكِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ الْقَاذُورَاتِ هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً بِظَاهِرٍ عَامٍّ (فَلَوْ كَانَتْ) الْعِلَّةُ (مَنْصُوصَةً بِ) ظَاهِرٍ (عَامٍّ) لَا يَجِبُ إبْدَاءُ الْمَانِعِ بِعَيْنِهِ بَلْ (وَجَبَ تَقْدِيرُ الْمَانِعِ وَتَخْصِيصُهُ) أَيْ الظَّاهِرِ الْعَامِّ (بِغَيْرِ مَحَلِّ النَّقْضِ) جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ (وَهَذَا) أَيْ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ مَحَلِّ النَّقْضِ (إذَا كَانَ النَّصُّ عَلَى اسْتِلْزَامِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ الْحُكْمَ (فِي الْمَحَالِّ لَا عَلَى عِلِّيَّتِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِيهَا) أَيْ الْمَحَالِّ (إذْ لَا تَنْتَفِي عِلِّيَّتُهَا بِالْمَانِعِ أَوْ) كَانَتْ مَنْصُوصَةً (بِخَاصٍّ فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ (وَجَبَ تَقْدِيرُهُ) أَيْ الْمَانِعِ (فَقَطْ وَالْحُكْمُ بِعِلِّيَّتِهَا فِيهِ) أَيْ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ (أَمَّا مَانِعُو تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَبِعَدَمِ وُجُودِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ أَيْ يُجِيبُونَ بِهَذَا بَدَلَ إبْدَاءِ الْمَانِعِ (إذْ هِيَ) أَيْ الْعِلَّةُ (الْبَاعِثَةُ) عَلَى الْحُكْمِ (مَعَ عَدَمِهِ) أَيْ الْمَانِعِ (فَهُوَ) أَيْ عَدَمُ الْمَانِعِ (شَرْطُ عِلِّيَّتِهَا وَغَيْرُهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ لِتَخْصِيصِهَا وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَمُ الْمَانِعِ (شَرْطُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَتَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ (مَا فِيهِ) أَيْ هَذَا الْبَحْثِ فَلْيُرَاجَعْ مِنْهُ.
(وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ) قَالُوا (لَا يُمْكِنُ دَفْعُ النَّقْضِ عَنْ الطَّرْدِيَّةِ) لِأَنَّهُ يُبْطِلُهَا حَقِيقَةً (إذْ الِاطِّرَادُ لَا يَبْقَى بَعْدَ النَّقْضِ) كَمَا يُفِيدُهُ عِبَارَةُ عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ الْكَشْفِ وَهِيَ أَيْ الْمُنَاقَضَةُ تُلْجِئُ أَصْحَابَ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالْأَثَرِ لِأَنَّ الطَّرْدَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجِيبُ لَمَّا انْتَقَضَ بِمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ مِنْ النَّقْضِ لَا يَجِدُ الْمُجِيبُ بُدًّا مِنْ الْمَخْلَصِ عَنْهُ إلَّا بِبَيَانِ الْفَرْقِ وَعَدَمِ وُرُودِهِ نَقْضًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الطَّرْدِ إلَى بَيَانِ الْمَعْنَى وَهَذَا إنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ انْقِطَاعًا أَوْ سَامَحَهُ السَّائِلُ وَلَمْ يُنَاقِشْهُ فِي الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ وَالتَّأْثِيرِ فَأَمَّا إذَا جُعِلَ انْقِطَاعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ وَلَمْ يُسَامِحْهُ السَّائِلُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ احْتَجَجْت عَلَيَّ بِاطِّرَادِ هَذَا الْوَصْفِ وَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ بِمَا أَوْرَدْته فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً فَلَا يَنْفَعُهُ بَيَانُ التَّأْثِيرِ وَالشُّرُوعُ فِي الْفَرْقِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِقَالٌ عَنْ حُجَّةٍ هِيَ الطَّرْدُ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّأْثِيرُ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ فَيَضْطَرُّ إلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّأْثِيرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الطَّرْدِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ الْمَجَالِسِ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ إمْكَانِ دَفْعِ النَّقْضِ عَنْهَا (بَعْدَ كَوْنِهِ عَلَى) تَقْدِيرِ (النَّقْضِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعُرِفَ مَا فِيهِ) حَيْثُ قَالَ سَالِفًا وَعَلَى الطَّرْدِيَّةِ تَرِدُ مَعَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِهِ وَدُفِعَ بِأَنَّ الْإِيرَادَ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ الْعِلِّيَّةَ لِإِنْكَارِ
(3/265)
ظَنِّهِ لَا عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَخْ (بِنَاءً عَلَى قَصْرِ الطَّرْدِيَّةِ عَلَى مَا) يُكْتَفَى فِيهَا (بِالدَّوَرَانِ) أَيْ بِمُجَرَّدِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا فَقَطْ أَوْ عَدَمًا (وَلَا وَجْهَ لَهُ) أَيْ لِقَصْرِهَا عَلَى مَا بِالدَّوَرَانِ (بَلْ) الطَّرْدِيَّةُ هِيَ (غَيْرُ الْمُؤَثِّرَةِ) فَتَعُمُّ الْمُنَاسِبَ وَالْمُلَائِمَ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ.
(وَعَلَى) تَقْدِيرِ (الْوُرُودِ) لِلنَّقْضِ عَلَى الطَّرْدِيَّةِ لِجَوَازِهِ كَمَا سَلَفَ (يُحْوِجُ) وُرُودُهُ (إلَى التَّأْثِيرِ كَطَهَارَةٍ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْوُضُوءُ طَهَارَةٌ (فَيَشْتَرِطُ لَهَا النِّيَّةَ كَالتَّيَمُّمِ فَيُنْقَضُ بِغَسْلِ الثَّوْبِ) مِنْ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ وَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ النِّيَّةَ (فَيُفَرَّقُ) بَيْنَهُمَا (بِأَنَّهَا) أَيْ الطَّهَارَةَ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ طَهَارَةٌ (غَيْرُ مَعْقُولَةٍ) لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي مَحَلِّهَا نَجَاسَةٌ (فَكَانَتْ مُتَعَبَّدًا بِهَا فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّعَبُّدِ إذْ الْعِبَادَةُ لَا تُنَالُ بِدُونِ النِّيَّةِ (بِخِلَافِهِ) أَيْ غَسْلِ الثَّوْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ (لِعَقْلِيَّةِ قَصْدِ الْإِزَالَةِ) لِلنَّجَاسَةِ بِهِ لَا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ (وَبِالِاسْتِعْمَالِ) لِلْمَائِعِ الْقَالِعِ الطَّاهِرِ فِيهِ (تَحْصُلُ) الْإِزَالَةُ (فَلَمْ يَفْتَقِرْ) غَسْلُهُ إلَى النِّيَّةِ وَتَقَدَّمَ فِي شُرُوطِ الْفَرْعِ مَا يَدْفَعُ هَذَا عَنْ الْحَنَفِيِّ (وَأَمَّا) الْعِلَلُ (الْمُؤَثِّرَةُ فَتَقَدَّمَ صِحَّةُ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهَا) بِنَاءً عَلَى دَعْوَى الْمُجِيبِ كَوْنَهَا عِلَّةً مُؤَثِّرَةً لَا عَلَى كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَحَيْثُ وَرَدَ) النَّقْضُ صُورَةً عَلَيْهَا وَكَانَ مِنْ مُفْسِدَاتِهَا كَمَا هُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْحُكْمِ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ زَوَالِ شَرْطٍ فَقَدْ (دُفِعَ بِأَرْبَعٍ إبْدَاءِ عَدَمِ الْوَصْفِ) فِي صُورَةِ النَّقْضِ (كَخَارِجٍ نَجِسٍ) أَيْ كَمَا يُقَالُ فِي الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ نَجِسٌ (مِنْ الْبَدَنِ فَحَدَثٌ كَمَا فِي السَّبِيلَيْنِ فَيُنْقَضُ بِمَا لَمْ يَسِلْ) مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ مَعَ أَنَّهُ خَارِجٌ نَجِسٌ مِنْ الْبَدَنِ (فَيُدْفَعُ) النَّقْضُ بِهِ (بِعَدَمِ الْخُرُوجِ) فِي الْقَلِيلِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْخُرُوجَ (بِالِانْتِقَالِ) مِنْ مَكَان بَاطِنٍ إلَى مَكَان ظَاهِرٍ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي غَيْرِ السَّائِلِ بَلْ ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ بِزَوَالِ الْجِلْدَةِ السَّاتِرَةِ لَهَا ثُمَّ هُوَ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْقَلِيلِ إلَّا بِالْخُرُوجِ فَانْتَفَى الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ (وَمِلْكُ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ) لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ (عِلَّةُ مِلْكِهِ) أَيْ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ (فَيُنْقَضُ بِالْمُدَبَّرِ) فَإِنَّ غَصْبَهُ سَبَبُ الْمِلْكِ بَدَّلَهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا لَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْمُبْدَلَ وَلَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ (فَيُمْنَعُ مِلْكُ بَدَلِهِ) أَيْ الْمَغْصُوبِ (بَلْ) هُوَ (بَدَلُ الْيَدِ) لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ بَلْ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ مِلْكِ الْبَدَلِ زَوَالُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمُدَبَّرِ لِلْغَاصِبِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ وَهِيَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَهَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ الدَّافِعَةِ لِلنَّقْضِ مَعَ التَّمْثِيلِ لَهُ (وَيُمْنَعُ وُجُودُ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ صَارَ) الْوَصْفُ (عِلَّةً) وَذَلِكَ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَالثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْصُوصِ بِمَعْنَى أَنَّ الْوَصْفَ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ (فَيَنْتَفِي) وُجُودُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مَعْنًى.
(وَإِنْ وُجِدَ) الْمَعْنَى (صُورَةً كَمَسْحٍ) أَيْ كَمَا يُقَالُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مَسْحٌ (فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَيَنْتَقِضُ بِالِاسْتِنْجَاءِ) بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ مَسْحٌ وَالْعَدَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْنُونًا فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَقَعُ تَثْلِيثُهُ سُنَّةً بِالْإِجْمَاعِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ (فَيُمْنَعُ فِيهِ) أَيْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ (الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ لَهُ) الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ لَهُ (التَّطْهِيرُ الْحُكْمِيُّ) لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ تَطْهِيرٌ حَقِيقِيٌّ (وَلَهُ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَسْحَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ (لَمْ يُسَنَّ) التَّكْرَارُ فِيهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّكْرَارَ (لِتَأْكِيدِ التَّطْهِيرِ الْمَعْقُولِ) الْمَعْنَى وَهُوَ غَسْلُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لِتَحَقُّقِ الْإِزَالَةِ) وَتَأَكُّدِهَا بِهِ (وَهُوَ) أَيْ التَّطْهِيرُ الْمَعْقُولُ الْمَعْنَى ثَابِتٌ (فِي الِاسْتِنْجَاءِ) لِأَنَّهُ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ (دُونَهُ) أَيْ مَسْحِ الرَّأْسِ (كَمَا فِي التَّيَمُّمِ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَطْهِيرٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَلِهَذَا كَانَ الْغَسْلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ أَفْضَلَ بِخِلَافِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَلَوْ أَحْدَثَ بِالرِّيحِ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةً ثُمَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلْمَسْحِ مِمَّا يُشِيرُ إلَى هَذَا لِأَنَّهُ
(3/266)
الْإِصَابَةُ وَهِيَ تُنْبِئُ عَنْ التَّخْفِيفِ.
هَذَا وَفِي التَّلْوِيحِ وَمَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ سُنِّيَّةِ التَّثْلِيثِ كَرَاهَتَهُ لِئَلَّا يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيُعَلَّلَ وَهَذَا ثَانِي الطُّرُقِ الدَّافِعَةِ لِلنَّقْضِ مَعَ مِثَالِهِ (وَيُمْنَعُ التَّخَلُّفُ) لِلْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَالْقَوْلُ بِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ فِيهَا (كَمَا إذَا نُقِضَ) الْمِثَالُ (الْأَوَّلُ) لِإِبْدَاءِ عَدَمِ الْوَصْفِ (بِالْجُرْحِ السَّائِلِ) فَإِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِيهِ بِدُونِ الْحَدَثِ (فَيُمْنَعُ كَوْنُهُ) أَيْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فِيهِ (لَيْسَ حَدَثًا بَلْ هُوَ) حَدَثٌ (وَتَأَخَّرَ حُكْمُهُ) الَّذِي هُوَ الْحَدَثُ (إلَى مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِهِ (أَوْ الْفَرَاغِ) مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ النَّوَافِلِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِهِ (ضَرُورَةَ الْأَدَاءِ) لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِأَدَائِهَا فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِسُقُوطِ حُكْمِ الْحَدَثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (وَلِذَا) أَيْ تَأَخَّرَ حُكْمُهُ إلَى مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ (لَمْ يَجُزْ مَسْحُهُ) أَيْ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ (خُفَّهُ إذَا لَبِسَهُ فِي الْوَقْتِ مَعَ السَّيَلَانِ) أَوْ كَانَ السَّيَلَانُ مُقَارِنًا لِلْوُضُوءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ اللُّبْسِ (بَعْدَ خُرُوجِهِ) أَيْ الْوَقْتِ لِأَنَّ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ يَصِيرُ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ إذْ خُرُوجُ الْوَقْتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ إجْمَاعًا وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَّصِلُ بِالسَّبَبِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لِمَانِعٍ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوُضُوءُ وَاللُّبْسُ عَلَى الِانْقِطَاعِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ بَعْدَ الْوَقْتِ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَصِحَّاءِ لِعَدَمِ صَيْرُورَتِهِ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَيْهِمَا وَهَذَا ثَالِثُ الطُّرُقِ الدَّافِعَةِ لِلنَّقْضِ مَعَ مِثَالِهِ.
قُلْت وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِمَعْنَى هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ الدَّفْعِ فَمِنْ الْعَجَبِ قَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَقَوْلُ صَاحِبِ الْكَشْفِ إنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مُجَوِّزِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ لَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَخَلَّفْ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ كَذَلِكَ وَلَا تَخْصِيصَ لِلْعِلَّةِ بِدُونِ وُجُودِهَا وَانْتِفَاءِ حُكْمِهَا لِمَانِعٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (وَبِالْغَرَضِ) الْمَطْلُوبِ بِالتَّعْلِيلِ (فَيَقُولُ) الْمُسْتَدِلُّ (فِي الْمِثَالِ) الْأَوَّلِ لِإِبْدَاءِ عَدَمِ الْوَصْفِ (غَرَضِي بِهَذَا التَّعْلِيلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ وَغَيْرِهِ فِي كَوْنِهِمَا) أَيْ الْخَارِجِ مِنْهُ وَالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِ (حَدَثًا وَإِذَا لَزِمَا) أَيْ اسْتَمَرَّا (صَارَ عَفْوًا) بِأَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ضَرُورَةَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ (فَإِنَّ الْبَوْلَ) الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ (كَذَلِكَ) أَيْ إذَا دَامَ يَصِيرُ عَفْوًا لِهَذَا الْمَعْنَى (فَوَجَبَ فِي الْفَرْعِ) أَيْ الْجُرْحِ السَّائِلِ (مِثْلُهُ) أَيْ إذَا دَامَ يَصِيرُ عَفْوًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِلَّا لَكَانَ الْفَرْعُ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فَكَذَا الْحُكْمُ وَكَمَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُكْمِ قَدْ يَتَأَخَّرُ فِي الْفَرْعِ فَكَذَا فِي الْأَصْلِ فَالتَّسْوِيَةُ حَاصِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ وَهَذَا رَابِعُ الطُّرُقِ الدَّافِعَةِ لِلنَّقْضِ مَعَ مِثَالِهِ (وَحَاصِلُ الثَّانِي الِاسْتِدْلَال عَلَى انْتِفَائِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (إذْ هِيَ) أَيْ الْعِلَّةُ (بِمَعْنَاهَا لَا بِمُجَرَّدِ صُورَتِهَا) وَالرَّابِعُ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ رَاجِعٌ إلَى مَنْعِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ يَدَّعِي أَمْرَيْنِ ثُبُوتَ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءَ الْحُكْمِ فَلَا يَصِحُّ دَفْعُهُ إلَّا بِمَنْعِ أَحَدِهِمَا وَإِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ الدَّفْعُ لِلنَّقْضِ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ فَقَدْ بَطَلَتْ.
(وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ نَقْضَ الْحِكْمَةِ وَيُسَمُّونَهُ كَسْرًا وَتَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ (الْخِلَافُ فِي قَبُولِهِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ) عِنْدَ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ (قَبُولُهُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِرُجْحَانِ) الْحِكْمَةِ (الْمَنْقُوضَةِ) فِي مَحَلِّ النَّقْضِ عَلَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ (أَوْ مُسَاوَاتِهَا) أَيْ الْمَنْقُوضَةِ لَهَا إلَّا أَنَّ شَرْعَ حُكْمٍ آخَرَ أَلْيَقُ بِهَا فَيُسْمَعُ حِينَئِذٍ (وَحَقَّقْنَا ثَمَّةَ خِلَافَهُ) أَيْ هُوَ الْمُخْتَارُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ وَإِنْ عَلِمَ رُجْحَانَ الْمَنْقُوضَةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِسُكُوتِ بِكْرٍ زَانِيَةٍ اُشْتُهِرَ زِنَاهَا وَإِنْ كَانَ حَيَاؤُهَا أَكْثَرَ مِنْ حَيَاءِ بِكْرٍ لَمْ تَزْنِ (ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ هُنَا) أَيْ فِي الْكَسْرِ (عَلَى تَقْدِيرِ سَمَاعِهِ) أَيْ الْكَسْرِ (أَظْهَرُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ مَنْعِ وُجُودِهَا (فِي النَّقْضِ) لِأَنَّ قَدْرَ الْحِكْمَةِ مُتَفَاوِتٌ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ مَا هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ وَمَنْعُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ هُنَا قَدْ يُدْفَعُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ هُوَ أَوْلَى بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ حَيْثُ يُسْمَعُ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي النَّقْضِ مِنْ أَنَّهُ يُجَابُ بِأَجْوِبَةٍ ثَلَاثَةٍ مِمَّا مَضَى بِمَنْعِ وُجُودِ الْمَعْنَى فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَوَّلًا وَبِمَنْعِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهَا كَيْ لَا يَتَحَقَّقَ ثَانِيًا
(3/267)
وَبِإِبْدَاءِ الْمَانِعِ فِيهَا إذَا تَحَقَّقَ ثَالِثًا وَحِينَئِذٍ فَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ الْمَاضِيَةُ وَعَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ فِيهِ الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ وَهَلْ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْكَسْرِ فِي مَتْنِ الِاسْتِدْلَالِ؟ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ هَذَا وَقَدَّمْنَا مُرَادَ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ بِالْكَسْرِ وَمَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ فِي ذَلِكَ فَلْيُرَاجَعْ.
(خَامِسُهَا) أَيْ الْمُنُوعِ الْمُورَدَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ (فَسَادُ الْوَضْعِ) وَهُوَ (أَخَصُّ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ مِنْ وَجْهٍ إذْ قَدْ يَجْتَمِعُ ثُبُوتُ اعْتِبَارِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ فَسَادُ الْوَضْعِ (مَعَ مُعَارَضَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ) لِذَلِكَ الَّذِي هُوَ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ (وَلَا يَخْفَى الْآخَرَانِ) أَيْ انْفِرَادُ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهَا فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ عَنْ كَوْنِ الْقِيَاسِ مُعَارَضًا بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَبِالْعَكْسِ وَقِيلَ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَقَطْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَا لِفَسَادٍ فِي وَضْعِهِ وَتَرْكِيبِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِصِحَّتِهِ بَلْ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ فَقَطْ فَعَلَى هَذَا كُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَيَكُونُ فَاسِدُ الْوَضْعِ أَخَصَّ مُطْلَقًا مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِبَارِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَقِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (وَيُفَارِقُ) فَسَادُ الْوَضْعِ (النَّقْضَ بِتَأْثِيرِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ (فِي النَّقِيضِ) فَإِنَّ الْوَصْفَ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ النَّقِيضَ بِخِلَافِ النَّقْضِ فَإِنَّهُ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِثُبُوتِهِ بِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّقِيضُ مَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (وَ) يُفَارِقُ (الْقَلْبَ بِكَوْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ يُثْبِتُ نَقِيضَ الْحُكْمِ (بِأَصْلٍ آخَرَ) وَفِي الْقَلْبِ يُثْبِتُ نَقِيضَ الْحُكْمِ بِأَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ.
(وَ) يُفَارِقُ (الْقَدْحَ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِمُنَاسَبَتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ (نَقِيضَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ) إمَّا مُنَاسِبٌ لِنَقِيضِهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِفْضَاءُ إلَى الْمَصْلَحَةِ (إذَا كَانَ) التَّنَاسُبُ (مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ التَّنَاسُبِ لِلْحُكْمِ فَتَكُونُ مُنَاسَبَتُهُ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ وَالْحُكْمِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ (بِخِلَافِهِ) أَيْ مَا إذَا كَانَ التَّنَاسُبُ لِلنَّقِيضِ (مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ التَّنَاسُبِ لِلْحُكْمِ (إذَا كَانَ لَهُ) أَيْ لِلْوَصْفِ (جِهَتَانِ) يُنَاسِبُ بِإِحْدَاهُمَا الْحُكْمَ وَبِالْأُخْرَى نَقِيضَهُ (كَكَوْنِهِ) أَيْ الْمَحَلِّ (مُشْتَهًى) لِلنُّفُوسِ (يُنَاسِبُ الْإِبَاحَةَ) لِنِكَاحِهِ (لِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَالتَّحْرِيمَ لِقَطْعِ الطَّمَعِ) فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْمُنَاسَبَةِ حِينَئِذٍ لِجَوَازِ تَعْلِيلِ الضِّدَّيْنِ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ إذْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ عِلَّةُ هَذَا غَيْرُ عِلَّةِ ذَلِكَ وَقَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّقِيضِ مَعَ الْوَصْفِ نَقْضٌ فَإِنْ زِيدَ ثُبُوتُ النَّقِيضِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَفَسَادُ الْوَضْعِ وَإِنْ زِيدَ عَلَى الْفَسَادِ كَوْنُهُ بِهِ فِي أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَقَلْبٌ وَأَمَّا بِدُونِ ثُبُوتِ النَّقِيضِ مَعَ الْوَصْفِ فِي أَصْلٍ فَالْمُنَاسَبَةُ فَإِنْ نَاسَبَتْ الْحُكْمَ وَنَقِيضَهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ قَدْحًا فِيهَا وَمِنْ جِهَتَيْنِ لَا (مِثَالُهُ) أَيْ فَسَادِ الْوَضْعِ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي التَّيَمُّمِ (مَسْحٌ فَيُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَيُرَدُّ) أَنْ يُقَالَ الْمَسْحُ لِإِثْبَاتِ التَّكْرَارِ فَاسِدُ الْوَضْعِ إذْ الْمَسْحُ (مُعْتَبَرٌ فِي كَرَاهَتِهِ) أَيْ التَّكْرَارِ (كَالْخُفِّ) فَإِنَّ تَكْرَارَ الْمَسْحِ عَلَيْهِ يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ (وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا الْمَنْعِ (بِالْمَانِعِ) أَيْ بِبَيَانِ وُجُودِ الْمَانِعِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْخُفِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمُعْتَرِضِ أَيْ بِذِكْرِ (فَسَادِهِ) أَيْ إنَّمَا كُرِهَ التَّكْرَارُ فِي الْخُفِّ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلتَّلَفِ (وَ) مِثَالُهُ (لِلْحَنَفِيَّةِ إضَافَةُ الشَّافِعِيِّ الْفُرْقَةَ) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى (إلَى إسْلَامِ الزَّوْجَةِ) فَإِنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ (فَإِنَّهُ) أَيْ الْإِسْلَامَ (اُعْتُبِرَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ) كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ السَّالِفِ فِي بَحْثِ التَّأْثِيرِ قُلْت وَهَذَا مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَسَادُ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(فَالْوَجْهُ) إضَافَةُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا (إلَى إبَائِهِ) أَيْ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِإِضَافَةِ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَهُوَ رَأْسُ أَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ثَمَّةَ أَيْضًا (وَكَقَوْلِهِ) أَيْ الشَّافِعِيِّ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ أَنَّهَا الطُّعْمُ إذْ (الْمَطْعُومُ ذُو خَطَرٍ) أَيْ عِزَّةٍ وَشَرَفٍ لِتَعَلُّقِ قِوَامِ النَّفْسِ وَبَقَاءِ الشَّخْصِ بِهِ وَالْحُرْمَةُ لِلشَّيْءِ تُشْعِرُ بِتَضْيِيقِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ أَمَارَةُ الْخَطَرِ لِأَنَّ مَا ضَاقَ إلَيْهِ الْوُصُولُ عَزَّ فِي الْأَعْيُنِ إذَا أُصِيبَ وَإِذَا اتَّسَعَ
(3/268)
الْوُصُولُ إلَيْهِ هَانَ فِي الْأَعْيُنِ (فَيُزَادُ فِيهِ) أَيْ فِي تَمَلُّكِهِ (شَرْطُ التَّقَابُضِ) إظْهَارًا لِلْخَطَرِ كَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِيلَاءً عَلَى مَحَلٍّ ذِي خَطَرٍ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِهِ شُرِطَ لِجَوَازِهِ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَهُوَ حُضُورُ الشُّهُودِ (فَيُرَدُّ اعْتِبَارُ مِسَاسِ الْحَاجَةِ) إلَى الشَّيْءِ إنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا (فِي التَّوْسِعَةِ) وَالْإِطْلَاقِ لَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّضْيِيقِ بِدَلِيلِ حِلِّ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَجَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِتَسْهِيلِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَى كُلِّ مَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَمَسَّ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْحُرِّ وَالْحُرِّيَّةُ تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ وَالْخُلُوصُ يَمْنَعُ وُرُودَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ نَوْعُ رِقٍّ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمَ وَلَكِنْ ثَبَتَ الْحِلُّ بِعَارِضِ الْحَاجَةِ إلَى بَقَاءِ النَّسْلِ وَمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ يَجُوزُ تَوَقُّفُهُ عَلَى أَشْيَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ الْأَصْلَ فَظَهَرَ أَنَّ فِي تَرْتِيبِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي تَمَلُّكِ الْمَطْعُومِ عَلَى كَوْنِهِ ذَا خَطَرٍ فَسَادَ الْوَضْعِ لِأَنَّهُ نَقِيضُ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ التَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ ثُمَّ هَذَا الْمَنْعُ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ بِكُلِّيَّتِهَا وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِتَغْيِيرِ الْكَلَامِ فَهُوَ فَوْقَ النَّقْضِ.
(سَادِسُهَا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ) وَهِيَ (أَنْ يُبْدِيَ) الْمُعْتَرِضُ (فِيهِ وَصْفًا آخَرَ صَالِحًا) لِلْعِلِّيَّةِ (يَحْتَمِلُ أَنَّهُ) وَحْدَهُ (الْعِلَّةُ) وَأَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ اكْتِفَاءً بِقَسِيمِهِ أَعْنِي (أَوْ) أَنَّهُ (مَعَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ) الْعِلَّةَ (فَالْأَوَّلُ) أَيْ إبْدَاءُ الْوَصْفِ الْآخَرِ الصَّالِحِ لِلْعِلِّيَّةِ الْمُحْتَمِلِ أَنَّهُ الْعِلَّةُ أَوْ أَنَّهُ مَعَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ الْعِلَّةُ (مُعَارَضَةُ الطُّعْمِ بِالْقُوتِ أَوْ الْكَيْلِ) أَيْ مُعَارَضَةُ الْمُعْتَرِضِ تَعْلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ حُرْمَةَ الرِّبَا بِالطُّعْمِ بِأَحَدِهِمَا إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقُوتُ أَوْ الْكَيْلُ هُوَ الْعِلَّةُ وَحْدَهُ أَوْ الْعِلَّةُ مَجْمُوعُ الطُّعْمِ وَالْقُوتِ أَوْ مَجْمُوعُ الطُّعْمِ وَالْكَيْلِ (وَالثَّانِي) أَيْ إبْدَاءُ الْوَصْفِ الْآخَرِ الصَّالِحِ لِلْعِلِّيَّةِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ مَعَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ الْعِلَّةَ (الْجَارِحُ لِلْقَتْلِ) الْعَمْدِ (الْعُدْوَانِ) أَيْ مُعَارَضَةُ الْمُعْتَرِضِ تَعْلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ الْقِصَاصَ فِي الْمُحَدَّدِ بِكَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا بِكَوْنِهِ بِالْجَارِحِ (لِنَفْيِ الْمُثَقَّلِ) أَيْ الْقِصَاصَ بِالْقَتْلِ بِهِ كَالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْجُرْحِ مِنْ الْقَتْلِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِلَّةً لِلْقِصَاصِ وَالْجَارِحُ لَا يَصْلُحُ سِوَى أَنْ يَكُونَ هُوَ جُزْءُ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِقْلَالِ.
(وَاخْتُلِفَ فِيهِ) أَيْ هَذَا الْمَنْعِ (فِي الْمَذْهَبَيْنِ) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (وَالْمُخْتَارُ لِلشَّافِعِيَّةِ قَبُولُهُ لِتَحَكُّمِ الْمُسْتَدِلِّ بِاسْتِقْلَالِ وَصْفِهِ) بِثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ الْوَصْفِ الْمُعَارِضِ الْمُبْدِي (مَعَ صَلَاحِيَّةِ الْمُبْدَى لَهُ) أَيْ لِلِاسْتِقْلَالِ بِالْعِلِّيَّةِ (وَلِلْجُزْئِيَّةِ) أَيْ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءَ الْعِلَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَوَّلِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الصُّلُوحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنْ قِيلَ لَا تَحَكُّمَ مَعَ الرُّجْحَانِ وَوَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ رَاجِحٌ إذْ فِي اعْتِبَارِهِ دُونَ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ تَوْسِعَةٌ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ تَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى الْفَرْعِ وَلَوْ اُعْتُبِرَ وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ لَمْ يَتَعَدَّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الرُّجْحَانَ لِوَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ مَمْنُوعٌ (وَلَا يُرَجَّحُ) لِكَوْنِهِ عِلَّةً (بِالتَّوْسِعَةِ لِأَنَّهُ) أَيْ حُصُولَ التَّوْسِعَةِ (مُرَجِّحٌ لِمَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ لِوَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ هُنَا (وَلَوْ سَلِمَ) أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ (فَمُعَارَضٌ بِمَا يُرَجِّحُ وَصْفَ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ) أَيْ الْمُعَارِضُ (مُوَافَقَةُ الْأَصْلِ) وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ (بِالِانْتِفَاءِ) لِلْحُكْمِ (فِي الْفَرْعِ وَ) الْمُخْتَارُ (لِلْحَنَفِيَّةِ نَفْيُهُ) أَيْ نَفْيُ قَبُولِهِ (وَيُسَمُّونَهَا) أَيْ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ (الْمُفَارَقَةَ فَإِنْ كَانَ) الْفَرْقُ (صَحِيحًا فَلْيُجْعَلْ مُمَانَعَةً لِيُقْبَلَ) مِنْ الْمُعْتَرِضِ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْمُمَانَعَةَ أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ وَبِهَا يُعْرَفُ فِقْهُ الرَّجُلِ (فَفِي إعْتَاقِ عَبْدِ الرَّهْنِ) أَيْ إعْتَاقِ الرَّاهِنِ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِبُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ (تَصَرُّفٌ لَاقَى حَقَّ الْمُرْتَهِنِ) بِالْإِبْطَالِ بِدُونِ رِضَاهُ (فَيَبْطُلُ كَبَيْعِهِ) أَيْ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا إذْنِهِ (لَوْ قَالَ) الْحَنَفِيُّ (هِيَ) أَيْ الْعِلَّةُ (فِي الْأَصْلِ) أَيْ الْبَيْعِ (كَوْنُهُ) أَيْ الْبَيْعِ (يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ) بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ فَسْخِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّفَاذِ لَكَانَ فِقْهًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ إذَا (لَمْ يُقْبَلْ) لِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْفَرْقِ وَهُوَ السَّائِلُ (فَلْيُقَلْ إنْ ادَّعَيْت حُكْمَ الْأَصْلِ) أَيْ بَيْعَ الْعَبْدِ الرَّهْنَ (الْبُطْلَانَ مَنَعْنَاهُ) أَيْ كَوْنَ
(3/269)
حُكْمِهِ الْبُطْلَانَ.
(أَوْ) ادَّعَيْت حُكْمَهُ (التَّوَقُّفَ) عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ (فَغَيْرُ حُكْمِك فِي الْفَرْعِ) بِالْبُطْلَانِ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَاحِدًا وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ ابْتِدَاءُ حُكْمِ الْأَصْلِ التَّوَقُّفُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ لَكَفَى (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الْمُخْتَارِ نَفْيَ قَبُولِهِ (لِأَنَّهُ غَصْبٌ) لِمَنْصِبِ التَّعْلِيلِ وَالسَّائِلُ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ فِي مَوْقِفِ الْإِنْكَارِ فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَقَفَ مَوْقِفَ الدَّعْوَى وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الدَّلِيلِ فَالْمُعَارِضُ لَا يَبْقَى سَائِلًا بَلْ يَصِيرُ مُعَلِّلًا مُدَّعِيًا ابْتِدَاءً (وَلَيْسَ) كَذَلِكَ (لِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهُ) أَيْ الْمُبْدِي وَحْدَهُ (الْعِلَّةَ أَوْ مَعَ مَا ذَكَرَ) الْمُسْتَدِلُّ (وَحَاصِلُهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ (مَنْعُ اسْتِقْلَالِهِ) أَيْ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِالْعِلِّيَّةِ (وَتَسْمِيَتُهُ مُعَارَضَةً تَجُوزُ لِقَوْلِهِمْ) أَيْ الْأُصُولِيِّينَ (إذَا أُطْلِقَتْ) الْمُعَارَضَةُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ (فَمَا فِي الْفَرْعِ) أَيْ فَالْمَعْنَى بِهَا الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ (وَهَذِهِ) أَيْ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ تُذْكَرُ (بِقَيْدٍ) هُوَ فِي الْأَصْلِ (وَإِذَا رَدَّ النَّقْضَ إلَى الْمَنْعِ) كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَعْرِيفِهِ (فَهَذَا) أَيْ رَدُّ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ إلَى الْمَنْعِ (أَوْلَى) مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي النَّقْضِ مُسْتَدِلٌّ عَلَى الْبُطْلَانِ بِالتَّخَلُّفِ وَهُنَا يُجَوِّزُ الْمُبْدِي تَجْوِيزًا فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّلْوِيحِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ نِزَاعٌ جَدَلِيٌّ يَقْصِدُونَ بِهِ عَدَمَ وُقُوعِ الْخَبْطِ فِي الْبَحْثِ وَإِلَّا فَهُوَ سَاعٍ فِي إظْهَارِ الصَّوَابِ.
(قَالُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (وَلِجَوَازِ عِلَّتَيْنِ فِي الْأَصْلِ تَعَدَّى بِكُلٍّ) مِنْهُمَا (إلَى مَحَلِّهَا) الَّذِي وُجِدَتْ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْأُخْرَى فِيهِ (فَعَدَمُ إحْدَاهُمَا) بِعَيْنِهَا (فِي مَحَلٍّ لَا يَنْفِي) كَوْنَ (الْأُخْرَى) عِلَّةً لِحُكْمِهَا الْمَنْسُوبِ إلَيْهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ وُجِدَتْ فِيهِ (وَهَذَا) الْوَجْهُ (يَقْتَصِرُ) أَيْ يُفِيدُ اقْتِصَارَ نَفْيِ الْقَبُولِ (عَلَى مَا يَجِبُ فِيهِ اسْتِقْلَالُ كُلٍّ) مِنْ الْعِلَّتَيْنِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ (دُونَ تَجْوِيزِ جُزْئِيَّتِهِ) أَيْ الْمُبْدِي لِلْعِلَّةِ الَّذِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ (فَالْحَقُّ إنْ أَجْمَعَ عَلَى أَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إحْدَاهُمَا) أَيْ الْمَذْكُورَتَيْنِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ بِالِاسْتِقْلَالِ (كَعِلَّةِ الرِّبَا) أَهِيَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْ الطُّعْمُ أَوْ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ (قُبِلَ) هَذَا الِاعْتِرَاضُ لِلتَّجْوِيزِ الْمَذْكُورِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَنَّهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إحْدَاهُمَا بِالِاسْتِقْلَالِ (لَا) يُقْبَلُ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِقْلَالِ لِإِحْدَاهُمَا أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْمُخْتَارِ لِلشَّافِعِيَّةِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ الثَّابِتُ (بِالِاسْتِقْرَاءِ مَبَاحِثُ الصَّحَابَةِ جَمْعٌ) أَيْ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ بَيْنَ أَصْلٍ وَفَرْعٍ بِمُوجِبِ وَصْفٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا (وَفَرْقٌ) أَيْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْأَصْلِ بِمُوجِبِ وَصْفٍ مُخْتَصٍّ بِالْأَصْلِ وَالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هِيَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ أَوْ الْمُخْتَصُّ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ عَلَى جَوَازِ إبْدَاءِ وَصْفٍ فَارِقٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ فِي مُعَارَضَةِ وَصْفٍ جَامِعٍ اعْتَبَرَهُ الْمُعَلِّلُ وَأَنَّهُ يُقْبَلُ وَيُتْرَكُ بِهِ قِيَاسُ الْمُسْتَدِلِّ وَلَا مَعْنَى لِقَبُولِ الْمُعَارَضَةِ سِوَى هَذَا (لَا يَمَسُّهُ) أَيْ الْقَبُولَ عَلَى الْعُمُومِ (إلَّا إنْ انْفَلَّتْ) مَبَاحِثُهُمْ جَمْعًا وَفَرْقًا (عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يُمْكِنُ) نَقْلُهَا كَذَلِكَ.
(وَعَلَى قَبُولِهَا) أَيْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ أَنَّ وَصْفَهُ الَّذِي أَبْدَاهُ فِي الْأَصْلِ مُعَارَضًا مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ فِيهِ أَقْوَالٌ فَأَحَدُهَا يَلْزَمُهُ لِيَنْفَعَهُ دَعْوَى التَّعْلِيلِ بِهِ إذْ لَوْلَاهُ لَمْ تَنْتَفِ الْعِلَّةُ فِي الْفَرْعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ وَيَحْصُلُ مَطْلُوبُ الْمُسْتَدِلِّ فَثَانِيهَا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ غَرَضَهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ مَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ اسْتِقْلَالَهُ وَهَذَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إبْدَائِهِ (فَثَالِثُهَا) الَّذِي هُوَ (الْمُخْتَارُ لَا يَلْزَمُ) الْمُعْتَرِضَ (بَيَانُ انْتِفَائِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُبْدِي فِي الْأَصْلِ مُعَارِضًا (عَنْ الْفَرْعِ إلَّا إنْ ذَكَرَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ انْتِفَاءَهُ فِي الْفَرْعِ (لِأَنَّ مَقْصُودَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ضِدِّهِ) أَيْ صَرْفِ الْمُسْتَدِلِّ (عَنْ التَّعْلِيلِ) بِذَلِكَ (لِيَنْتَفِيَ لُزُومُهُ) أَيْ بَيَانُ انْتِفَائِهِ (مُطْلَقًا) أَيْ ذَكَرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا هُوَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ (وَلَا نَفَى حُكْمَهُ) أَيْ وَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي نَفْيِ حُكْمِهِ (فِي الْفَرْعِ لِيَلْزَمَ) بَيَانُ انْتِفَائِهِ (مُطْلَقًا) أَيْ ذَكَرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي (بَلْ قَدْ) يَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْتَرِضِ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ.
(وَقَدْ) يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ الثَّانِيَ (فَإِذَا ادَّعَاهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ انْتِفَاءً كَأَنْ قَالَ هَذَا الْوَصْفُ الْآخَرُ الصَّالِحُ فِي الْأَصْلِ مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ (لَزِمَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (إثْبَاتُهُ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا
(3/270)
فَيَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ ذِكْرُ أَصْلٍ يُبَيِّنُ تَأْثِيرَ وَصْفِهِ الَّذِي أَبْدَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ حَتَّى يُقْبَلَ مِنْهُ قِيلَ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بِدُونِ الِاقْتِرَانِ لَا تَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ (وَ) الْمُخْتَارُ (لَا) يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ (ذِكْرُهُ أَصْلًا لَوَصْفِهِ) الَّذِي أَبْدَاهُ فِي الْأَصْلِ يُبَيِّنُ تَأْثِيرَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ (كَمُعَارَضَةِ الِاقْتِيَاتِ بِالطُّعْمِ) أَيْ كَأَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ الطُّعْمُ لَا الْقُوتُ (كَمَا فِي الْمِلْحِ) فَإِنَّهُ طُعْمٌ وَلَيْسَ بِقُوتٍ وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ حَيْثُ جُعِلَ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ (لَمْ يَدَعْهُ) أَيْ كَوْنَ وَصْفِهِ عِلَّةً حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ (إنَّمَا جَوَّزَ مَا ذَكَرَ) مِنْ كَوْنِ وَصْفِهِ عِلَّةً أَوْ جُزْأَهَا (لِيَلْزَمَ) الْمُسْتَدِلَّ (التَّحَكُّمُ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ عِلَّةً دُونَ وَصْفِهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الصُّلُوحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فِي الْوُجُودِ (وَأَيْضًا يَكْفِيهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ فِي وَصْفِهِ الْمُبْدِي (أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ) إذْ أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ أَصْلُهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ وَصْفِهِ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُعَارَضْ (فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (جَازَ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ أَوْ هُمَا) عِلَّةً (كَمَا فِي الْبُرِّ بِعَيْنِهِ وَجَوَابُهَا) أَيْ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ (عَلَى الْقَبُولِ بِمَنْعِ وُجُودِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمْ أَنَّهُ مَكِيلٌ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.
(أَوْ) مَنْعِ (تَأْثِيرِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ (إنْ كَانَ) وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ عِلِّيَّتُهُ (لَمْ يُثْبِتْهُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْ أَثْبَتَهُ) الْمُسْتَدِلُّ (بِمَا) أَيْ بِأَيِّ طَرِيقٍ (كَانَ وَتَقْيِيدُ سَمَاعِهِ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُعْتَرِضِ بِتَأْثِيرِ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ (مِنْ الْمُسْتَدِلِّ بِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَدِلُّ أَثْبَتَ وَصْفَهُ) أَيْ عِلِّيَّتَهُ (بِالْمُنَاسَبَةِ وَنَحْوِهَا) أَيْ بِالشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا لَمْ تُعَارَضْ بِمُنَاسَبَةٍ أُخْرَى (لَا) إذَا أَثْبَتَ وَصْفَهُ (بِالسَّبْرِ وَنَحْوِهِ) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَدْخُلُ فِي السَّبْرِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ كَوْنِهِ مُنَاسِبًا وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْمُنَاسَبَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْخَارِجِ عَلَى مَا يَعُمُّ الشَّبَهَ فَتَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ وَصْفٍ آخَرَ مُحْتَمِلٌ لِلْعِلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ مُنَاسَبَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (تَحَكُّمٌ لِأَنَّ ذَاكَ) الْمُثْبَتَ بِمَا كَانَ مِنْ الطَّرِيقِ (وَصْفُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (وَهَذَا) الْمُبْدِي وَصْفٌ (آخَرُ مُجَوَّزٌ) أَيْ جَوَّزَهُ الْمُعْتَرِضُ وَقَدْ (دَفَعَهُ) الْمُسْتَدِلُّ (بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ التَّأْثِيرِ (عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ عِنْدَهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ (فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ) عَلَى الْمُعْتَرِضِ بِمَا شَاءَ (فَبِالْمُنَاسَبَةِ ظَاهِرٌ وَكَذَا بِالسَّبْرِ لِأَنَّ مَا أَفَادَ الْعِلِّيَّةَ أَفَادَ الْمُنَاسَبَةَ إذْ هِيَ) أَيْ الْمُنَاسَبَةُ (لَازِمُ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ) فَمَا أَفَادَهَا أَفَادَهَا (لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إبْدَاؤُهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (فِي السَّبْرِ وَنَحْوِهِ وَلِذَا) أَيْ عَدَمِ لُزُومِ إبْدَائِهَا فِيهِ (عُورِضَ الْمُسْتَبْقَى فِيهِ) أَيْ السَّبْرُ (لِعَدَمِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (وَقِيلَ الْمَعْنَى) لِلْمُسْتَدِلِّ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِكَوْنِ وَصْفِهِ مُؤَثِّرًا (إذَا كَانَ الْمُعْتَرِضُ أَثْبَتَهُ بِالْمُنَاسَبَةِ) كَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شَارِحِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ (وَهُوَ خَبْطٌ إذْ بِفَرْضِ إثْبَاتِهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً (بِهَا) أَيْ بِالْمُنَاسَبَةِ (كَيْفَ يَمْنَعُ) الْمُسْتَدِلُّ (التَّأْثِيرَ وَهُوَ) أَيْ التَّأْثِيرُ (هِيَ) أَيْ الْمُنَاسَبَةُ (إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ) أَيْ التَّأْثِيرِ (عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ (فِيهِ) أَيْ فِي التَّأْثِيرِ (وَهُوَ كَوْنُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ) إثْبَاتُ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً بِهَذَا (عَلَيْهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (بَعْدَ إثْبَاتِهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً (بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ هِيَ الْمُنَاسَبَةُ بِالْفَرْضِ نَعَمْ) يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إثْبَاتُهُ بِالتَّأْثِيرِ (لَوْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ حَنَفِيًّا فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَالتَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ) أَيْ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ (إنْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِ الْمُنَاسَبَةِ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ) الْمَاضِيَةِ فِي بَحْثِ التَّأْثِيرِ.
(وَلَا يَصِحُّ) مِمَّنْ أَثْبَتَ وَصْفَهُ بِالسَّبْرِ مُسْتَدِلًّا كَانَ أَوْ مُعْتَرِضًا التَّرْجِيحُ (بِتَرْجِيحِ السَّبْرِ) عَلَى الْمُنَاسَبَةِ (لِتَعَرُّضِهِ) أَيْ لِأَجْلِ تَعَرُّضِ السَّبْرِ (لِنَفْيِ غَيْرِهِ وَ) لَا (بِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ) وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ (لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ تَعَرُّضَهُ لِنَفْيٍ غَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُرَجَّحًا (بَعْدَ ظُهُورِ شَرْطِهِ) أَيْ السَّبْرِ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ الْمُسْتَبْقَى لِأَنَّ شَرْطَ كُلِّ عِلَّةٍ مُنَاسَبَتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إظْهَارُهَا عَلَى الْمُعَلِّلِ فِي كُلِّ إثْبَاتٍ لِأَنَّ بَعْضَ طُرُقِ الْعِلَّةِ لَا تَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ كَالسَّبْرِ (أَوْ عَدَمِ ظُهُورِ عَدَمِهِ) أَيْ الشَّرْطِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا (أَمَّا مَعَ ظُهُورِهِ) أَيْ عَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ الْمُسْتَبْقَى أَيْضًا غَيْرَ مُنَاسِبٍ فِيمَا إذَا أَبْدَى وَصْفًا آخَرَ
(3/271)
لِيُبْطِلَ الْحَصْرَ فَقَالَ الْمُعَلِّلُ هَذَا لَمْ أُدْخِلْهُ فِي سَبْرِي لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ (فَلَا) يَتَرَجَّحُ السَّبْرُ (إذْ لَا يُفِيدُ) السَّبْرُ (مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ الشَّرْطِ هُوَ (الْمُعْتَرَضُ بِهِ) لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ عَارَضَ ظُهُورَ مُنَاسَبَةِ الْمُسْتَبْقَى عِنْدَهُ بِظُهُورِ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ الْمُسْتَبْقَى عِنْدَهُ (أَوْ بَيَانِ خَفَائِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فَهُوَ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَنْعِ وُجُودِهِ أَوْ تَأْثِيرِهِ.
وَكَذَا (أَوْ عَدَمِ انْضِبَاطِهِ أَوْ مَنْعِ ظُهُورِهِ أَوْ) مَنْعِ (انْضِبَاطِهِ) أَوْ كُلٍّ مِنْهَا عُطِفَ عَلَى مَا يَلِيهِ إذْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ أَجْوِبَةِ الْمُعَارَضَةِ لِمَا عُلِمَ فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ اشْتِرَاطُ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ فِي الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَلَا بُدَّ فِي دَعْوَى صُلُوحِ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ بَيَانِهِمَا وَالصَّادِرُ عَنْهُمَا إنْ تَبَيَّنَ عَدَمُهَا وَأَنْ يُطَالِبَ بِبَيَانِ وُجُودِهِمَا (أَوْ أَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ الْمُعَارَضَ بِهِ لَيْسَ وَصْفًا وُجُودِيًّا بَلْ هُوَ (عَدَمُ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ) وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ (كَالْمُكْرَهِ) أَيْ كَقِيَاسِ الْقَاتِلِ الْمُضْطَرِّ إلَى الْقَتْلِ (عَلَى الْمُخْتَارِ) أَيْ الْقَاتِلِ بِاخْتِيَارِهِ (فِي) وُجُوبِ (الْقِصَاصِ بِجَامِعِ الْقَتْلِ فَيُعَارَضُ بِأَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (هُوَ) أَيْ الْقَتْلُ (مَعَ الطَّوَاعِيَةِ) فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ فَلَا تَكُونُ الْعِلَّةُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ فَقَطْ بَلْ بِقَيْدِ الِاخْتِيَارِ (فَيُجِيبُ) الْمُسْتَدِلُّ (بِأَنَّهَا) أَيْ الطَّوَاعِيَةَ (عَدَمُ الْإِكْرَاهِ لَا الْإِكْرَاهُ الْمُنَاسِبُ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ) أَيْ عَدَمُ الْقِصَاصِ وَعَدَمُ الْإِكْرَاهِ عَدَمُ الْمَانِعِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا يُسْنَدُ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَاعِثِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَجْوِبَةِ الْمُعَارَضَةِ كَقَوْلِهِ (أَوْ بِإِلْغَائِهِ) أَيْ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ مُلْغًى إمَّا مُطْلَقًا فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ كَالذُّكُورَةِ فِي الْعِتْقِ (بِاسْتِقْلَالِ وَصْفِهِ) أَيْ بِسَبَبِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِالْعِلِّيَّةِ (بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» وَقَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَهُ بِمَعْنَاهُ (فِي مُعَارَضَةِ الطُّعْمِ) أَيْ كَجَوَابِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطُّعْمُ لِمُعْتَرِضِهِ بِمُعَارَضَتِهِ (بِالْكَيْلِ) بِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الطُّعْمِ فِي صُورَةٍ مَا وَهُوَ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمِ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ «وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ) كَمَا هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
(عِنْدَ مُعَارَضَةِ مُطْلِقِهِ) أَيْ التَّبْدِيلِ (بِتَبْدِيلِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ) أَيْ وَكَجَوَابِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى قَتْلِ الْيَهُودِيِّ إذَا تَنَصَّرَ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا تَهَوَّدَ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ كَالْمُرْتَدِّ لِتَبْدِيلِهِ دِينَهُ لِمُعْتَرِضِهِ بِمُعَارَضَتِهِ لِوَصْفِهِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ التَّبْدِيلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَبْدِيلُ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُعْتَبَرٌ فِي صُورَةٍ مَا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (وَلَوْ قَالَ) الْمُسْتَدِلُّ (عَمَّ) الْحَدِيثُ (فِي كُلِّ تَبْدِيلٍ) سَوَاءٌ كَانَ تَبْدِيلَ دِينِ حَقٍّ بِبَاطِلٍ أَوْ بَاطِلٍ بِبَاطِلٍ (كَانَ) هَذَا الْقَوْلُ (شَيْئًا آخَرَ) أَيْ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُهُ بِهِ بَلْ وَيَكُونُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ ضَائِعًا وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ هَذَا نَعَمْ لَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ عَامًّا إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْمِيمِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ الْإِلْغَاءِ الْمَقْبُولِ (انْفِرَادُ الْحُكْمِ عَنْهُ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُبْدِي لِلْمُعْتَرِضِ (لِعَدَمِ) اشْتِرَاطِ (الْعَكْسِ) فِي الْعِلَّةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ (لَكِنْ يَتِمُّ اسْتِقْلَالُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ) لِكَوْنِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ عَدَمُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَكَوْنُهُ لَغْوًا (وَلِكَوْنِهِ) أَيْ انْفِرَادِ الْحُكْمِ عَنْهُ (لَيْسَ إلْغَاءً لَا يُفِيدُ) الْمُسْتَدِلَّ فِي تَمَامِ إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي صُورَةِ عَدَمِهِ (إبْدَاءُ الْخَلَفِ) أَيْ وَصْفٍ آخَرَ يَخْلُفُ الْوَصْفَ الْمُبْدَيْ أَوَّلًا الَّذِي أَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ (مِنْ الْمُعْتَرِضِ) لِئَلَّا يَكُونَ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا لَا يُفِيدُ الْمُسْتَدِلُّ هَذَا تَمَامَ إلْغَائِهِ لِابْتِنَاءِ إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ وَقَدْ بَطَلَ اسْتِقْلَالُهُ بِإِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ قَيْدًا آخَرَ يَنْضَمُّ إلَيْهِ فَيَبْطُلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ.
(وَهُوَ) أَيْ فَسَادُ الْإِلْغَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (تَعَدُّدُ الْوَضْعِ) لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدَهُمَا الْمُعْتَرِضُ وَصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّلًا بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَضْعٍ أَيْ مَعَ قَيْدٍ (نَحْوُ) أَنْ يُقَالَ فِي صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ لِلْحَرْبِيِّ (أَمَانٌ) صَادِرٌ (مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ فَيُقْبَلُ كَالْحُرِّ) أَيْ كَأَمَانِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ لَهُ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ (مَظِنَّتَانِ لِلِاحْتِيَاطِ لِلْأَمَانِ) أَيْ لِإِظْهَارِ مَصْلَحَةٍ بَدَلَ الْأَمَانِ (فَيَعْتَرِضُ بِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ مَعَهُمَا) أَيْ الْإِسْلَامِ
(3/272)
وَالْعَقْلِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْحُرِّيَّةَ (مَظِنَّةُ التَّفَرُّغِ)
لِلنَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ الْأَمَانِ
لِعَدَمِ اشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى (فَنَظَرَهُ) أَيْ الْحُرِّ (أَكْمَلُ) مِنْ نَظَرِ الْعَبْدِ (فَيُلْغِيهَا) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ الْحُرِّيَّةَ (بِالْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ) أَيْ بِاسْتِقْلَالِ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ بِالْأَمَانِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَذِنَ سَيِّدُهُ لَهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ لَهُ الْأَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ (فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (الْإِذْنُ) أَيْ إذْنُ السَّيِّدِ لَهُ فِي ذَلِكَ (خَلَفَهَا) أَيْ الْحُرِّيَّةَ (لِدَلَالَتِهِ) أَيْ إذْنِ السَّيِّدِ لَهُ فِي ذَلِكَ (عَلَى عِلْمِ السَّيِّدِ بِصَلَاحِهِ) لِإِظْهَارِ مَصَالِحِ الْأَمَانِ أَوْ قَامَ الْإِذْنُ مَقَامَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِبَذْلِ الْوُسْعِ فِي النَّظَرِ (فَالْبَاقِي) أَيْ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ (عِلَّةٌ عَلَى وَضْعٍ أَيْ قَيْدِ الْحُرِّيَّةِ) أَيْ هُمَا مَعَهَا (وَآخَرَ) أَيْ وَالْبَاقِي عِلَّةٌ أَيْضًا عَلَى وَضْعٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ مَعَ (الْإِذْنِ وَجَوَابُهُ) أَيْ تَعَدُّدِ الْوَضْعِ (أَنْ يُلْغِيَ) الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ (الْخَلْفَ بِصُورَةٍ لَيْسَ) ذَلِكَ الْخَلْفُ (فِيهَا فَإِنْ أَبْدَى) الْمُعْتَرِضُ (فِيهَا) أَيْ الصُّورَةِ الْمُبْدَاةِ (خَلَفًا) آخَرَ (فَكَذَلِكَ) أَيْ فَجَوَابُهُ إلْغَاؤُهُ بِإِبْدَائِهِ صُورَةً أُخْرَى لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ الْخَلَفُ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا (إلَى أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا) إمَّا الْمُسْتَدِلُّ لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ أَوْ الْمُعْتَرِضُ لِعَجْزِهِ عَنْ ثُبُوتِ عِوَضٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَظْهَرُ الرِّجَالُ وَيَتَبَيَّنُ فُرْسَانُ الْجِدَالِ.
(وَلَا يُلْغِي) أَيْ وَلَا يُفِيدُ الْمُسْتَدِلُّ إلْغَاءَ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي الْأَصْلِ (بِضَعْفِ الْحِكْمَةِ إنْ سَلَّمَ) الْمُسْتَدِلُّ (الْمَظِنَّةَ) أَيْ وُجُودَ الْمَظِنَّةِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ (كَالرِّدَّةِ عِلَّةُ الْقَتْلِ) فِي قِيَاسِ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ (فَيُقَالُ) مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَرِضِ بَلْ (مَعَ الرُّجُولِيَّةِ لِأَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ الْمُرْتَدِّ رَجُلًا (الْمَظِنَّةُ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ) إذْ يُعْتَادُ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ (فَيُلْغِيهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْمُرْتَدِّ رَجُلًا الْمَظِنَّةُ لِذَلِكَ (بِمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ) لِضَعْفِ الرُّجُولِيَّةِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يُقْتَلُ اتِّفَاقًا إذَا ارْتَدَّ فَهَذَا (لَا يُقْبَلُ) مِنْ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ لَا يَنْفَعُهُ (بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الرُّجُولِيَّةِ مَظِنَّةً) اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلَى حِكْمَتِهَا كَسَفَرِ الْمَلِكِ الْمُرَفَّهِ لَا يَمْنَعُ الرُّخْصَ (وَلَا يُفِيدُ تَرْجِيحُ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفَهُ) عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ (بِشَيْءٍ) مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ (لِأَنَّ الْمُفِيدَ) فِي ذَلِكَ (تَرْجِيحُ أَوْلَوِيَّةِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ إذْ لَا تَعْلِيلَ بِالْمَرْجُوحِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ (وَهُوَ) أَيْ تَرْجِيحُهَا (مُنْتَفٍ مَعَ احْتِمَالِ الْجُزْئِيَّةِ) أَيْ جُزْئِيَّةِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ لِوَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ بَاقٍ إذْ لَا يَمْتَنِعُ تَرْجِيحُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ عَلَى بَعْضِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَقْوَى فِي الْعِلِّيَّةِ مِنْ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَلَوْ قِيلَ بِاسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ تَحَكُّمًا (أَوْ يَدَّعِي) أَيْ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ (الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ وَصْفِهِ) أَيْ وَصْفِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ تَرْجِيحَ وَصْفِ نَفْسِهِ.
(وَأَمَّا أَنَّ) الْعِلَّةَ (الْمُتَعَدِّيَةَ لَا تُرَجَّحُ) عَلَى الْقَاصِرَةِ (لِمُعَارَضَةِ مُوَافَقَةِ الْأَصْلِ) أَيْ لِكَوْنِ الْقَاصِرَةِ مُعَارِضَةً لَهَا بِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْأَحْكَامِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَضُدُ الدِّينِ (فَلَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْ فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّنَزُّلُ مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ لِأَجْلِ مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ بَلْ يَكُونُ الْوَصْفُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُتَعَدِّي مُرَجَّحًا عَلَى الْمُسْتَقِلِّ الْقَاصِرِ.
(وَاخْتُلِفَ فِي) جَوَازِ (تَعَدُّدِ الْأُصُولِ) أَيْ أُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا (فَقِيلَ لَا) يَجُوزُ (لِأَنَّ) الْأَصْلَ (الزَّائِدَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الظَّنُّ وَهُوَ يَحْصُلُ بِهِ (وَيُدْفَعُ) هَذَا (بِثُبُوتِ الْحَاجَةِ) إلَى الزَّائِدِ عَلَيْهِ (لِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ) فِي الظَّنِّ فَإِنَّ قُوَّتَهُ مَقْصُودَةٌ أَيْضًا (وَالْوَجْهُ الْآخَرُ) لِهَذَا الْقَوْلِ (وَهُوَ تَأَدِّيهِ) أَيْ جَوَازِ تَعَدُّدِ الْأُصُولِ (إلَى الِانْتِشَارِ وَزِيَادَةِ الْخَبْطِ يَدْفَعُهُ) أَيْ هَذَا الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ (لِأَنَّ مَعَهُ) أَيْ مَعَ تَأَدِّيهِ إلَى هَذَا (يَبْعُدُ الظَّنُّ فَضْلًا عَنْ زِيَادَتِهِ) أَيْ الظَّنِّ (فَاخْتِيَارُ جَوَازِهِ) أَيْ التَّعَدُّدِ (مُطْلَقًا) كَمَا هُوَ صَنِيعُ ابْنِ الْحَاجِبِ (لَيْسَ بِذَاكَ) الْقَوِيِّ (بَلْ) الْوَجْهُ جَوَازُهُ (فِي نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ) لِانْتِفَاءِ الِانْتِشَارِ (لَا) فِي (الْمُنَاظَرَةِ) لِتَأَدِّيهِ إلَى النَّشْرِ (وَعَلَى الْجَوَازِ) أَيْ جَوَازِ تَعَدُّدِهَا (اُخْتُلِفَ فِي اقْتِصَارِ الْمُعَارِضِ عَلَى أَحَدِهَا فَالْمُجِيزُ) لِاقْتِصَارِهِ عَلَى أَحَدِهَا.
قَالَ (إبْطَالُ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (إبْطَالُهُ) أَيْ كَلَامِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ (وَمُلْزِمُ إبْطَالِ الْكُلِّ) قَالَ (إذَا سَلِمَ لَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (أَصْلٌ كَفَاهُ) فِي مَطْلُوبِهِ لِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَتِمُّ الْقِيَاسُ الْمُقْتَضِي لِلْمَقْصُودِ مِنْ الْحُكْمِ (وَمَحَلُّهُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ
(3/273)
(اتِّحَادُ الْوَصْفِ) الْمُعَارَضِ بِهِ فِي الْجَمِيعِ كَمَا أَوْجَبَهُ بَعْضُهُمْ حَذَرًا مِنْ انْتِشَارِ الْكَلَامِ (دُونَ تَعَدُّدِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِيهَا أَيْ جَوَازِ الْمُعَارَضَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مَا عَارَضَ بِهِ فِي الْأَصْلِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يُسَاعِدَهُ فِي الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (وَلَا يَتَلَاقَيَانِ) أَيْ هَذَانِ الْقَوْلَانِ (فَنَظَرَ الْأَوَّلُ إلَى أَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (الْتَزَمَ صِحَّةَ الْإِلْحَاقِ بِكُلٍّ) مِنْ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ (وَعَجَزَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِكُلٍّ (فَبَطَلَ) الْإِلْحَاقُ (وَالْآخَرُ) قَائِلٌ (الْمَقْصُودُ إثْبَاتُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (فِي الْفَرْعِ وَيَكْفِيهِ) أَيْ إثْبَاتِهِ فِي الْفَرْعِ (مَا سَلِمَ) لَهُ مِنْ الْأُصُولِ (وَفِي مُعَارَضَةِ الْكُلِّ) أَيْ جَمِيعِ الْأُصُولِ (لَوْ أَجَابَ) الْمُسْتَدِلُّ (عَنْ أَحَدِهَا) أَيْ دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ (فَالْقَوْلَانِ) مُجْتَمِعَانِ عَلَى أَنَّهُ (لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ) الْمُسْتَدِلُّ (عَمَّا الْتَزَمَهُ) وَهُوَ الْكُلُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ ضِمْنًا (يَكْفِيهِ وَاحِدٌ) (وَأَمَّا سُؤَالُ التَّرْكِيبِ فَتَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ) لِحُكْمِ الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ وَمِنْهَا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ إلَخْ وَأَنَّ حَاصِلَهُ الْمَنْعُ أَمَّا الْعِلِّيَّةُ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْ لِوُجُودِهَا أَوْ لِحُكْمِ الْأَصْلِ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي هَذِهِ الْمُنُوعِ وَلَيْسَ سُؤَالًا بِرَأْسِهِ وَالْأَمْثِلَةُ مَذْكُورَةٌ ثَمَّةَ (وَسُؤَالُ التَّرْجِيحِ بِالتَّعَدِّيَةِ) أَيْ وَأَمَّا سُؤَالُ التَّعَدِّيَةِ كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي إجْبَارِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِكْرٌ فَتُجْبَرُ كَالصَّغِيرَةِ (فَيُعَارِضُ الْبَكَارَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ إلَى الْبَالِغَةِ) وَغَيْرِهَا (بِالصِّغَرِ الْمُتَعَدِّي إلَى الثَّيِّبِ) الصَّغِيرَةِ وَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْإِجْبَارِ (لِيَتَسَاوَيَا) فِي التَّعْدِيَةِ.
(وَمَرْجِعُهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ (إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ بِمَا يُسَاوِي) الْعِلَّةَ (الْأُخْرَى فِي التَّعَدِّيَةِ) دَفْعًا لِتَرْجِيحِ الْوَصْفِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالتَّعْدِيَةِ (وَلَا تَرْجِيحَ بِزِيَادَةِ التَّعْدِيَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ بِخِلَافِ أَصْلِهَا) أَيْ التَّعَدِّيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرَجَّحًا فَلَا يَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ سُؤَالًا آخَرَ بَلْ هُوَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ عِبَارَةُ الْآمِدِيِّ فِي تَعْرِيفِهِ هُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى وَيُعَارِضَ بِهِ ثُمَّ يَقُولَ لِلْمُسْتَدِلِّ مَا عَلَّلْت بِهِ وَإِنْ تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَكَذَا مَا عَلَّلْت بِهِ تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ (وَإِذْ لَمْ يَقْبَلُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَذْكُرُوا سُؤَالَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ) فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بَعْدَ اتِّحَادِ الضَّابِطِ فِيهِمَا (كَإِيلَاجِ مُحَرَّمٍ) أَيْ كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ لِلْحَدِّ بِاللِّوَاطِ هُوَ إيلَاجُ فَرْجٍ مُحَرَّمٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا مُشْتَهًى طَبْعًا (فَيُحَدُّ بِهِ كَالزِّنَا فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ (الْمَصْلَحَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَحْرِيمِهِمَا) أَيْ اللِّوَاطِ وَالزِّنَا (فَفِي الزِّنَا اخْتِلَاطُ النَّسَبِ الْمُفْضِي إلَى عَدَمِ تَعَهُّدِ الْوَلَدِ وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ تَعَهُّدِهِ (قَتْلٌ مَعْنًى وَفِي اللِّوَاطِ دَفْعُ رَذِيلَتِهِ) وَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيُنَاطُ الْحُكْمُ بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا السُّؤَالَ تَفْرِيعًا عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِمْ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالَ (هِيَ) أَيْ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ لِإِبْدَاءِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ فَلَمْ يَذْكُرُوهُ مُفْرَدًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ هِيَ (إذْ حَاصِلُهُ) أَيْ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ (الْعِلَّةُ) فِي الْأَصْلِ (شَيْءٌ آخَرُ) وَهُوَ كَوْنُهُ مُوجِبًا لِاخْتِلَاطِ النَّسَبِ (مَعَ مَا ذَكَرْت وَلِذَا) أَيْ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً فِي الْأَصْلِ لِإِبْدَاءِ خُصُوصِيَّةٍ فِي (كَانَ جَوَابُهُ جَوَابُهَا بِإِلْغَاءِ الْخُصُوصِيَّةِ) أَيْ مَعَ إلْغَائِهَا (بِطَرِيقِهِ) أَيْ الْإِلْغَاءِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَمْرَيْنِ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالَ (يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى الشُّرُوطِ) لِلْفَرْعِ إذْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُسَاوِيَ الْأَصْلَ فِيمَا عُلِّلَ بِهِ حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ، إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَالْمُسَاوَاةُ هُنَا فِي الْفَرْعِ مُنْتَفِيَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ كَوْنُهُ مُوجِبًا لِاخْتِلَاطِ النَّسَبِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ.
(الثَّالِثُ) مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهُوَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ (عَلَيْهِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ وُجُودِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي الْفَرْعِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ (بَيْعُ التُّفَّاحَةِ بِثِنْتَيْنِ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مُجَازَفَةً فَلَا يَصِحُّ كَصُبْرَةٍ بِصُبْرَتَيْنِ) وَمَقُولُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ (يَمْنَعُ وُجُودَهُ) أَيْ الْوَصْفِ (فِي الْفَرْعِ لِأَنَّ الْمُجَازَفَةَ بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَهُوَ) أَيْ الْكَيْلُ (مُنْتَفٍ فِيهِ) أَيْ التُّفَّاحِ (وَيَرِدُ) عَلَى هَذَا الْمَنْعِ (أَنَّهَا) أَيْ الْمُجَازَفَةَ (بِاعْتِبَارِ الْمُقَدَّرِ) لِذَلِكَ شَرْعًا (كَيْلًا وَوَزْنًا فَالْإِلْحَاقُ) لِلْفَرْعِ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورَيْنِ (بِاعْتِبَارِ) الْمُقَدَّمِ (الْأَعَمِّ) مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ (فَإِنَّمَا يُدْفَعُ هَذَا) الْإِيرَادُ (بِانْتِفَائِهِمَا) أَيْ الْكَيْلِ
(3/274)
الْوَزْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ التُّفَّاحَ (عَدَدِيٌّ وَهُوَ) أَيْ كَوْنُهُ عَدَدِيًّا (مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ التُّفَّاحَ (كَذَلِكَ) عَدَدِيٌّ (فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَدِيًّا (فَالْعَادَةُ) أَيْ فَالْعِبْرَةُ بِمَا هُوَ الْعُرْفُ فِي بَيْعِهِ مِنْ وَزْنٍ أَوْ غَيْرِهِ (وَهِيَ) أَيْ الْعَادَةُ (مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ) أَيْ التُّفَّاحِ مِنْ كَوْنِهِ وَزْنِيًّا وَغَيْرَهُ (وَلِمُحَمَّدٍ) أَيْ وَكَمَا فِيمَا لِمُحَمَّدٍ (فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ) غَيْرِ الْمَأْذُونِ مَالًا غَيْرَ الرَّقِيقِ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ إذَا أَتْلَفَهُ لِأَنَّ مَالِكَهُ (سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ (فَيَمْنَعَانِ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْمُقَابِلَةِ (أَنَّهُ) أَيْ إيدَاعَهُ (تَسْلِيطٌ) لَهُ عَلَى إتْلَافِهِ لَكِنَّ الْمَسْطُورَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ كَمَا مَشَيْنَا عَلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُضَمِّنُهُ كَمُحَمَّدٍ (وَلِلشَّافِعِيَّةِ) أَيْ وَكَمَا فِيمَا لَهُمْ (فِي) صِحَّةِ (أَمَانِ الْعَبْدِ أَمَانٌ مِنْ أَهْلِهِ فَيُعْتَبَرُ كَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَيَمْنَعُ أَهْلِيَّتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ (لَهُ) أَيْ الْأَمَانِ (وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ (بِبَيَانِ وُجُودِهِ) أَيْ هَذَا الْوَصْفِ (بِعَقْلٍ أَوْ حِسٍّ أَوْ شَرْعٍ) أَيْ بِمَا هُوَ طَرِيقُ مِثْلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ (وَيَزِيدُ الْمُسْتَدِلُّ هُنَا) أَيْ فِي هَذَا الْفَرْعِ (بَيَانَ مُرَادِهِ بِالْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ) أَيْ بَيَانُ مُرَادِهِ بِهَا (كَوْنُهُ) أَيْ الْمُؤْمِنِ (مَظِنَّةً لِرِعَايَةِ مَصْلَحَتِهِ) أَيْ الْأَمَانِ الثَّابِتَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ (وَهُوَ) أَيْ كَوْنُهُ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ (بِإِسْلَامِهِ وَبُلُوغِهِ وَلَوْ زَادَ الْمُعْتَرِضُ بَيَانَ الْأَهْلِيَّةِ لِيَظْهَرَ انْتِفَاؤُهَا) فِي الْفَرْعِ (فَالْمُخْتَارُ لَا يُمْكِنُ) مِنْهُ (إذْ هُوَ) أَيْ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا (وَظِيفَةُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِمُرَادِهِ فَيَتَوَلَّى تَعْيِينَ مَا ادَّعَاهُ (دَفْعًا لِنَشْرِ الْجِدَالِ) بِالِانْتِقَالِ وَالِاشْتِغَالِ.
السُّؤَالُ (الثَّانِي الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ) أَيْ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ (فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْته مِنْ الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَيَتَوَقَّفُ دَلِيلُك (وَهِيَ) أَيْ وَهَذِهِ هِيَ (الْمُعَارَضَةُ إذَا أُطْلِقَتْ) فِي بَابِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَلَا بُدَّ لَهُ) أَيْ لِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ فِيهِ (مِنْ أَصْلٍ) بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُ عِلِّيَّتَهُ (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ (مُعَارَضَةُ قِيَاسَيْنِ وَلِذَا) أَيْ كَوْنِهَا مُعَارَضَةَ قِيَاسَيْنِ (كَانَتْ) هِيَ الْمُعَارَضَةُ (الْحَقِيقَةُ) أَيْ حَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ الْمُطْلَقَةِ (وَلَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (إثْبَاتُ وَصْفِهِ) أَيْ عِلِّيَّتِهِ (بِمَسْلَكِهِ وَلِلْآخَرِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (اعْتِرَاضُهُ بِمَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ فَيَنْقَلِبَانِ) أَيْ فَيَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا لِانْقِلَابِ وَظِيفَتِهِمَا (وَهُوَ) أَيْ انْقِلَابُهُمَا لِانْقِلَابِ التَّنَاظُرِ (وَجْهُ مَنْعِ مَانِعِهَا) أَيْ الْقَائِلِ بِعَدَمِ سَمَاعِهَا لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِمَّا قَصَدَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَلِيلِهِ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ نَظَرِ الْمُعْتَرِضِ فِي دَلِيلِهِ وَالْمُسْتَدِلُّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ صِحَّةِ نَظَرِ الْمُعْتَرِضِ فِي دَلِيلِهِ وَلَا عَلَيْهِ أَتَمَّ نَظَرُ الْمُعْتَرِضِ فِي دَلِيلِهِ أَمْ لَا (وَدُفِعَ بِأَنَّ) الِانْقِلَابَ (الْمُمْتَنِعَ أَنْ يُثْبِتَ) الْمُعْتَرِضُ (مُقْتَضَى دَلِيلِهِ) نَفْسِهِ (وَهَذَا) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَصْدُهُ (لِهَدْمِهِ) أَيْ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ (بِنَقِيضِهِ بَعْدَ تَمَامِهِ) أَيْ نَقِيضِهِ (فَالْمَعْنَى تَمَامُ دَلِيلِك) أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ (مَوْقُوفٌ عَلَى هَدْمِ هَذَا) أَيْ دَلِيلِي لِمُعَارَضَتِهِ لِدَلِيلِك وَقَدْ يُجَابُ عَنْ سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْقَدْحِ فِيهَا وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ التَّرْجِيحِ (وَالْمُخْتَارُ قَبُولُ التَّرْجِيحِ بِمَا تَقَدَّمَ) فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ (وَلَا خِلَافَ فِيهِ) أَيْ فِي قَبُولِ التَّرْجِيحِ فِيهِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ) بِالدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ (بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ) أَيْ التَّرْجِيحِ (وَقِيلَ لَا) يُقْبَلُ التَّرْجِيحُ (لِتَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِي الظَّنَّيْنِ) إذْ لَا مِيزَانَ يُوزَنُ بِهِ الظُّنُونُ وَلَا مِعْيَارَ يُعْرَفُ بِهِ مَرَاتِبُهَا (وَالتَّرْجِيحُ فَرْعُهُ) أَيْ تَسَاوِيهِمَا (وَهَذَا) مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ (يُبْطِلُ التَّرْجِيحَ مُطْلَقًا وَدَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ) أَيْ التَّرْجِيحِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ (يُبْطِلُهُ) أَيْ إبْطَالُ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا.
(وَعَلَى الْمُخْتَارِ) مِنْ قَبُولِ التَّرْجِيحِ هَلْ يَجِبُ الْإِيمَاءُ إلَى التَّرْجِيحِ فِي مَتْنِ الدَّلِيلِ كَأَنْ يَقُولَ أَمَانٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ مُوَافِقًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ قِيلَ يَجِبُ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ (لَا تَجِبُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ) أَيْ التَّرْجِيحِ (عَلَى الْمُسْتَدِلِّ) قَبْلَ الْمُعَارَضَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّرْجِيحَ (لَيْسَ) جُزْءًا (مِنْهُ) أَيْ الدَّلِيلِ لِلتَّوَصُّلِ بِالدَّلِيلِ إلَى الْمَدْلُولِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ نَعَمْ يُوقَفُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُعَارِضِ (وَتَوَقُّفُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ) أَيْ التَّرْجِيحِ (عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعَارَضَةِ شَرْطٌ) لَهُ (مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ) وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ مِنْ
(3/275)
تَوَابِعِ ظُهُورِهَا لِدَفْعِهِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّلِيلِ فَلَا يَجِبُ ذِكْرُهُ فِي الدَّلِيلِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ لُزُومُهُ) أَيْ الْإِيمَاءِ إلَى التَّرْجِيحِ فِي الدَّلِيلِ (فِي الْعَمَلِ) أَيْ عَمَلِ الْمُنَاظِرِ (لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ دَلِيلًا مُوجِبًا لِلْعَمَلِ إلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ أَوْ مَرْجُوحِيَّتِهِ فَيَلْزَمُ الْإِيمَاءُ إلَى التَّرْجِيحِ فِي دَلِيلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمُعَارِضِ لِيَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ (لَا) فِي (الْمُنَاظَرَةِ) لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ قَبْلَ إبْدَاءِ الْمُعَارَضَةِ.
(وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ سُؤَالِ اخْتِلَافِ الضَّابِطِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ (أَنْ يَجْمَعَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَ عِلَّتَيْنِ كَشُهُودِ الزُّورِ) إذَا شَهِدُوا عَلَى إنْسَانٍ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ فَيُقَالُ يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ (تَسَبَّبُوا فِي الْقَتْلِ فَيُقْتَصُّ) مِنْهُمْ (كَالْمُكْرِهِ) لِغَيْرِهِ عَلَى قَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ (فَيُقَالُ الضَّابِطُ) فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ (فِي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ وَفِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُ تُسَاوِيهِمَا) أَيْ الْإِكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ (
مَصْلَحَةً
) وَهِيَ الزَّجْرُ عَنْ التَّسَبُّبِ لِلْقَتْلِ الظُّلْمِ (شَرْعًا لِيُقْتَلَ) الشَّاهِدُ (بِالشَّهَادَةِ) فَقَدْ يَكُونُ مَا وُجِدَ مِنْ التَّسَبُّبِ فِي ضَابِطِ الْأَصْلِ رَاجِحًا عَلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ فِي ضَابِطِ الْفَرْعِ فَلَا يُمْكِنُ تَعَدِّيَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ.
(وَجَوَابُهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ لِهَذَا السُّؤَالِ (إمَّا بِأَنَّ الضَّابِطَ) بَيْنَ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ الْخَاصَّيْنِ (التَّسَبُّبُ) الْمُطْلَقُ وَهُوَ (مُنْضَبِطٌ عُرْفًا) وَهَذَا الْجَوَابُ (عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ) فِي مَسْأَلَةِ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ فِي الْفُرُوعِ (مِنْ الْقِيَاسِ لِلْعِلَّةِ) أَيْ لَا يُعَلَّلُ لِإِثْبَاتِهَا (لِمَنْ مَنَعَهُ) أَيْ الْقِيَاسَ بِهَا (وَجَعَلَ) الْمَنَاطَ (الْمُشْتَرَكَ) بَيْنَ الْأَمْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ لِحُكْمٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ كَذَلِكَ (عِلَّتَهُ) أَيْ عِلَّةَ ذَلِكَ الْمَنَاطِ الْمُشْتَرَكِ إنْ انْضَبَطَ وَكَانَ ظَاهِرًا وَحِينَئِذٍ فَلَا قِيَاسَ وَمَا يُخَالُ أَصْلًا وَفَرْعًا إنَّمَا هُمَا فَرْدَا ذَلِكَ الْمَنَاطِ الْمُشْتَرَكِ (أَوْ بِأَنَّ إفْضَاءَهُ) أَيْ الضَّابِطِ إلَى الْمَقْصُودِ فِي الْفَرْعِ (مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ إفْضَاءِ الضَّابِطِ إلَى الْمَقْصُودِ فِي الْأَصْلِ (أَوْ أَرْجَحُ) مِنْهُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَبِطَرِيقٍ أَوْلَى عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي كَمَا (فِيمَا لَوْ جَعَلَ أَصْلَهُ) أَيْ أَصْلَ هَذَا الْفَرْعِ (إغْرَاءُ الْحَيَوَانِ) بِأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّاهِدِ زُورًا بِإِغْرَائِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْقِصَاصِ لِشَهَادَتِهِ قِيَاسًا عَلَى إغْرَاءِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْقَتْلِ (فَإِنَّ الشَّهَادَةَ أَفْضَى إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ إغْرَاءِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ انْبِعَاثَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَى قَتْلِ مَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْمَقْتُولِ أَرْجَحُ مِنْ انْبِعَاثِ الْحَيَوَانِ عَلَى قَتْلِ مَنْ يُغْرِي هُوَ عَلَيْهِ لِسَبَبِ نُفْرَتِهِ عَنْ الْآدَمِيِّ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْإِغْرَاءِ.
(وَكَوْنُهُمَا) أَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ (التَّسَبُّبَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى التَّسَبُّبِ بِالْإِغْرَاءِ) كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَصَرَّحَ بِهِ عَضُدُ الدِّينِ قِيَاسٌ (بِلَا جَامِعٍ بَلْ) الْوَجْهُ فِيهِمَا (الشَّهَادَةُ) أَيْ قِيَاسُهَا (عَلَى الْإِكْرَاهِ أَوْ الْإِغْرَاءِ أَوْ الشَّاهِدِ) أَيْ قِيَاسِهِ (عَلَى الْمُكْرَهِ بِالتَّسَبُّبِ أَوْ بِإِلْغَاءِ التَّفَاوُتِ) بَيْنَ ضَابِطَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمَصْلَحَةِ (إذَا أَثْبَتَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ التَّفَاوُتَ (فِي خُصُوصِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَمَا إذَا قَالَ التَّفَاوُتُ الْمَذْكُورُ مُلْغًى فِي الْقِصَاصِ
لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ
إذْ لَا فَرْقَ فِي الْقِصَاصِ بِالْمَوْتِ بِقَطْعِ الْأُنْمُلَةِ وَبِالْمَوْتِ بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ وَإِنْ كَانَ ضَرْبُ الرَّقَبَةِ أَشَدَّ إفْضَاءً إلَى الْمَوْتِ مِنْ قَطْعِ الْأُنْمُلَةِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ فِي خُصُوصِهِ (لَمْ يَفْدِ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إلْغَاءِ فَارِقٍ مُعَيَّنٍ إلْغَاءُ كُلِّ فَارِقٍ (فَلَمْ تَذْكُرْهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالَ (الْحَنَفِيَّةُ لِرُجُوعِهِ إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَسُؤَالُ الْقَلْبِ مُنْدَرِجٌ فِي الْمُعَارَضَةِ) لِأَنَّهَا دَلِيلٌ يَثْبُتُ بِهِ خِلَافُ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْقَلْبُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا مَخْصُوصٌ فَإِنَّ الْأَصْلَ وَالْجَامِعَ فِيهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ قِيَاسَيْ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعَارِضِ ذَكَرَهُ عَضُدُ الدِّينِ شَرْحًا لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ اشْتَرَكَ فِيهِ الْأَصْلُ وَالْجَامِعُ لَكِنْ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَا عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْخِلَافِيِّينَ وَهِيَ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ مَا أَقَامَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُغَايِرًا لِدَلِيلِهِ أَوْ عَيْنَهُ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِاشْتِرَاطِ مُغَايَرَةِ الْوَصْفَيْنِ أَعْنِي وَصْفَيْ الْمُعَلِّلِ وَالْمُعَارِضِ فِيهَا اهـ فَعَلَى هَذَا قَوْلُ عَضُدِ الدِّينِ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِيءُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُعَارَضَةِ فِي قَبُولِهِ وَيَكُونُ الْمُخْتَارُ قَبُولَهُ إلَّا أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الِانْتِقَالِ فَإِنَّ قَصْدَ هَدْمِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِأَدَائِهِ إلَى التَّنَاقُضِ ظَاهِرٌ فِي الْقَلْبِ
(3/276)
وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ مِنْ تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ عَلَى دَلِيلِ الْمُعْتَرِضِ بِالتَّوْسِعَةِ وَالتَّعَدِّيَةِ إذْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَهُنَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ اهـ مُوَضَّحًا فِيهِ تَأَمَّلْ.
(وَكَلَامُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُعَارَضَةُ) وَأَسْلَفْنَا بَيَانَهَا (نَوْعَانِ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ (مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ) وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ بِالتَّعْلِيلِ الْمُبْطِلِ لِتَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ (وَهِيَ الْقَلْبُ) وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إبْدَاءُ دَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ بِدُونِ التَّعَرُّضِ لِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَالْمُنَاقَضَةُ إبْطَالُ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ بِدُونِ إبْدَاءِ دَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ مُرَكَّبًا مِنْ أَحَدِ جُزْأَيْ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ إبْدَاءُ عِلَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَأَحَدُ جُزْأَيْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ إبْطَالُ الدَّلِيلِ سَمَّيْنَاهُ بِاسْمٍ آخَرَ مُنْبِئٍ عَنْهُمَا وَهُوَ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ وَلَمْ يُسَمِّ مُنَاقَضَةً فِيهَا مُعَارَضَةٌ لِأَنَّ إبْدَاءَ الْعِلَّةِ بِمُقَابَلَةِ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ سَابِقٌ وَمَقْصُودٌ وَتَخَلُّفَ الْحُكْمِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا (وَيُقَالُ) الْقَلْبُ (لِجَعْلِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ) وَالْأَسْفَلَ أَعْلَى كَقَلْبِ الْإِنَاءِ (وَمِنْهُ) أَيْ جَعْلِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ وَالْأَسْفَلَ أَعْلَى (جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَقَلْبِهِ) أَيْ جَعْلِ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا فَجَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً جَعْلُ الْأَسْفَلِ أَعْلَى وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا جَعْلُ الْأَعْلَى أَسْفَلَ (فَإِنَّ الْعِلَّةَ أَعْلَى لِلْأَصْلِيَّةِ) أَيْ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَالْمَعْلُولُ فَرْعٌ وَهُوَ أَسْفَلُ فَتَبْدِيلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْإِنَاءِ مَنْكُوسًا.
(وَإِنَّمَا يُمْكِنُ) هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ (فِي التَّعْلِيلِ بِحُكْمٍ) أَيْ فِيمَا إذَا جَعَلَ الْمُسْتَدِلُّ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ فِيهِ عَدَّاهُ إلَى الْفَرْعِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا اسْتَقَامَ عِلَّةً اسْتَقَامَ حُكْمًا لَا فِي التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمَحْضِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حُكْمًا بِوَجْهٍ وَلَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ عِلَّةً لَهُ أَصْلًا (كَالْكُفَّارِ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الَّذِي وَطِئَ امْرَأَةً فِي الْقُبُلِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُرْجَمُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً إذَا كَانَ حُرًّا (فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارَ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءَ الْوَاطِئِينَ لِامْرَأَةٍ فِي الْقُبُلِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُرْجَمُونَ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَجَعَلَ جَلْدَ الْبِكْرِ مِائَةً عِلَّةً لِوُجُوبِ رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَاسَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْجَامِعِ وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ الْمُعْتَرِضُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ بَلْ (إنَّمَا جُلِدَ بِكْرُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ) فَلَا يَلْزَمُ رَجْمُ الذِّمِّيِّ الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الثَّيِّبِ الزَّانِي (فَحَيْثُ جَعَلَ) الْحَنَفِيُّ الْمُعْتَرِضُ مَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ الْمُسْتَدِلُّ (الْعِلَّةَ) فِي الْأَصْلِ وَهُوَ جَلْدُ الْمِائَةِ (حُكْمًا) فِيهِ وَمَا جَعَلَهُ حُكْمًا فِيهِ وَهُوَ رَجْمُ الثَّيِّبِ الْعِلَّةَ فِيهِ كَانَ هَذَا الْقَلْبُ مُعَارَضَةً صُورَةً لِتَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بِتَعْلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَكَانَ الْحُكْمُ عِلَّةً (لَزِمَهَا النَّقْضُ) لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ حُكْمًا فَهِيَ تُوجَدُ وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا الْحُكْمُ وَلَيْسَ النَّقْضُ إلَّا وُجُودَ الْمُدَّعِي عِلَّةً مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (قَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ مُعَارَضَةً (فِيهَا مُنَاقَضَةٌ) أَيْ إبْطَالٌ لِتَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ.
هَذَا عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا الْقَلْبِ وَجَعَلُوهُ إبْطَالًا لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلْهِنْدِيِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ إبْدَاءُ دَلِيلٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُعَلِّلِ فِي مَحَلِّ اسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا هُنَا فِي الْقَلْبِ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ الْقَالِبِ لَا يَتَعَرَّضُ لِحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ تَعْلِيلُهُ عَلَى فَسَادِ تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ إبْطَالًا لَا مُعَارَضَةً وَفِي الْكَشْفِ لَكِنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ اعْتَبَرَ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِبَ عَارَضَ تَعْلِيلَ الْمُعَلِّلِ بِتَعْلِيلٍ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ حُكْمِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَصْلِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِتَعْلِيلِ الْقَالِبِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ تَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ عَدَمُ الْمَعْلُولِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِأَنَّ دَلِيلَهُ تَعْلِيلٌ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهَذَا عَدَمِيٌّ وَقَدْ عُرِفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ جَوَازِهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ وَلَعَمْرِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَانَعَةِ مِنْهُ إلَى الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَمْنَعُ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَصَلَاحِيَّتَهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَقَطَعَ بِهِ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ.
(وَالِاحْتِرَاسُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ هَذَا الْقَلْبِ حَتَّى لَا يَتَأَتَّى إيرَادُهُ عَلَى الْمُعَلِّلِ (جَعَلَهُ) أَيْ الْكَلَامَ (اسْتِدْلَالًا) أَيْ لَا يُورَدُ الْحُكْمَانِ بِطَرِيقِ
(3/277)
تَعْلِيلِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عَلَى ثُبُوتِ الْآخَرِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي جَعْلِ الْمَعْلُولِ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ بِأَنْ يُقَيِّدَ الثُّبُوتَ بِتَصْدِيقِهَا كَمَا يُقَالُ هَذِهِ الْخَشَبَةُ قَدْ مَسَّتْهَا النَّارُ لِأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ وَهَذَا الْإِنْسَانُ مُتَعَفِّنُ الْأَخْلَاطِ لِأَنَّهُ مَحْمُومٌ (وَهُوَ) أَيْ الِاحْتِرَاسُ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إنَّمَا يَتِمُّ (إذَا ثَبَتَ التَّلَازُمُ شَرْعًا) بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِثُبُوتِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلَ الْآخَرِ وَمَدْلُولَهُ (كَالتَّوْأَمَيْنِ) أَيْ الْمَوْلُودَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ (فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِأَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ لِثُبُوتِهِ فِي الْآخَرِ وَالرِّقُّ فِي أَيِّهِمَا كَانَ لِثُبُوتِهِ فِي الْآخَرِ وَنَسَبُ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ لِثُبُوتِهِ فِي الْآخَرِ مِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَلَوْ قِيلَ قَلْبًا الْبِكْرُ الصَّغِيرَةُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا لِأَنَّهُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْوِلَايَةِ إنَّمَا هُوَ الْعَجْزُ الْمَوْجُودُ فِي الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى التَّصَرُّفِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْحُرِّ اكْتِفَاءً بِرَأْيِهِ وَإِنَّمَا يُقَامُ رَأْيُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ إذَا عُدِمَ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ نَظَرًا لَهُ وَلِهَذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُ الْوَلِيِّ لَهُ مَشْرُوطَةً بِالْغِبْطَةِ فَالْوِلَايَةُ لِلْوَلِيِّ ظَاهِرًا وَعَلَيْهِ مَعْنًى وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا وَيَأْثَمُ بِتَقْصِيرِهِ فِي رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لَهُ.
وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِي الْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ سَوَاءٌ فَأَمْكَنَ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الْأُخْرَى لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْعِلَّةِ بِخِلَافِ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ هَذَا الْمَخْلَصُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ لَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ لِأَنَّ الرَّجْمَ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ لِإِتْيَانِهِ عَلَى النَّفْسِ وَالْجَلْدَ نَائِبٌ مَحَلُّهُ ظَاهِرُ الْبَدَنِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الشَّرْطُ لِأَنَّ النِّيَابَةَ شَرْطُ الرَّجْمِ دُونَ الْجَلْدِ فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَا فِي شَرْطِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَلْزَمُ الِانْقِطَاعُ صُورَةً هَذَا وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ يُوهِمُ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَصِيرُ مُنْقَطِعًا بِالْقَلْبِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بَعْدَهُ قَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِذَاكَ أَوْ لَا بِأَنْ يَقُولَ الْكُفَّارُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ وَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ التَّدَارُكُ مُمْكِنٌ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ تُطْلَقُ عَلَى الْمُعَرِّفِ وَالْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي فَلَا يَضُرُّنَا الْقَلْبُ لِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لِشَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ مُعَرِّفًا لَهُ كَالنَّارِ مَعَ الدُّخَانِ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ عِلَّةً لِصَاحِبِهِ بِمَعْنَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَرِّفًا لِصَاحِبِهِ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَبِأَنْ يَقُولَ غَرَضِي الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْقَلْبِ لَا يُنَافِي غَرَضِي فَظَهَرَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْقَلْبِ وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ (وَ) يُقَالُ (لِجَعْلِ الظَّهْرِ بَطْنًا) وَالْبَطْنَ ظَهْرًا كَقَلْبِ الْجِرَابِ (وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ (جَعْلُ وَصْفِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (شَاهِدًا) أَيْ حُجَّةً (لَك) أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ شَاهِدًا لَهُ عَلَيْك فِي إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ فَوَجْهُ الْوَصْفِ كَانَ إلَى الْمُعَلِّلِ أَيْ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَظَهْرُهُ إلَى السَّائِلِ أَيْ مُعْرِضًا عَنْهُ فَصَارَ وَجْهُهُ إلَى السَّائِلِ وَظَهْرُهُ إلَى الْمُعَلِّلِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَصْفَ لَمَّا شَهِدَ لِلْمُعْتَرِضِ بَعْدَ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ صَارَ مُتَنَاقِضًا فِي شَهَادَتِهِ فَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُ.
(وَلَا بُدَّ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا النَّوْعِ (مِنْ زِيَادَةٍ) فِي الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ (تُورِدُ تَفْسِيرًا لِمَا أَبْهَمَهُ الْمُسْتَدِلُّ) مِنْ الْوَصْفِ وَتَقْرِيرًا لَهُ لَا تَغْيِيرًا فَكَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِعَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَا بِغَيْرِهِ لِيَلْزَمَ أَنْ لَا يَكُونَ قَلْبًا بَلْ يَكُونُ مُعَارَضَةً مَحْضَةً غَيْرَ مُتَضَمِّنَةٍ لِلْإِبْطَالِ وَحَقِيقَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ أَنَّهُ رَبْطُ خِلَافِ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ إلْحَاقًا بِأَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ (كَصَوْمِ فَرْضٍ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ صَوْمُ فَرْضٍ (فَلَا يَتَأَدَّى بِلَا تَعْيِينٍ) لِلنِّيَّةِ (كَالْقَضَاءِ) أَيْ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ فَعَلَّقَ وُجُوبَ التَّعْيِينِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ (فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ (صَوْمُ فَرْضٍ مُتَعَيِّنٍ) قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ لِانْتِفَاءِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ عَنْ الْوَقْتِ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِ (كَالْقَضَاءِ)
(3/278)
أَيْ كَصَوْمِهِ (بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ) فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا عَيَّنَ مَرَّةً لَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ ثَانِيًا فَالْمُسْتَدِلُّ قَالَ صَوْمُ فَرْضٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَيِّنًا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَرْوِيجًا لِمَطْلُوبِهِ وَذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ تَفْسِيرًا لَهُ وَبَيَانًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ الصَّوْمُ الْفَرْضُ الْمُتَعَيَّنُ فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ الْأَصْلُ لَهُ صَوْمَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ غَايَتُهُ أَنَّ تَعْيِينَ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ بِالشُّرُوعِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ وَلَا ضَيْرَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَعْيِينُ الشَّارِعِ أَدْنَى مِنْ تَعْيِينِ الْعَبْدِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ الْمَسْحُ (رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَلَيْسَ تَكْرِيرُهُ كَالْغُسْلِ فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ الْمَسْحُ (رُكْنٌ فِيهِ) أَيْ الْوُضُوءِ (أَكْمَلُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ) وَهُوَ اسْتِيعَابُ بَاقِيهِ (فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَالْغُسْلِ فَهِيَ) أَيْ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ (تَفْسِيرٌ) لِحُصُولِ مَحَلِّ النِّزَاعِ (لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي تَثْلِيثِ الْمَسْحِ بَعْدَ إكْمَالِهِ كَذَلِكَ) أَيْ زِيَادَةً عَلَى الْفَرْضِ (وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ وَلَمْ يَصِحَّ إيرَادُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ لِهَذَا) الْمِثَالِ (فِي الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَيْسَ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَقْرِيرٌ فِي الْمَعْنَى فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ مَا جَعَلَ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ دَلِيلًا عَلَى نَقِيضِ مُدَّعَاهُ فَيَلْزَمُ إبْطَالُهُ (وَإِذَا عَلِمْت) فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ (أَنَّ الْإِيرَادَ) أَيْ إيرَادَ الْمُعْتَرِضِ لِلِاعْتِرَاضِ إنَّمَا هُوَ (عَلَى ظَنِّهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (التَّأْثِيرَ لَا) عَلَى (حَقِيقَتِهِ) أَيْ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (صَحَّ إيرَادُ الْقَلْبِ عَلَى) الْعِلَلِ (الْمُؤَثِّرَةِ كَفَسَادِ الْوَضْعِ) إذْ الْمُنَافَاةُ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَتَمَامُ الْمُعَارَضَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ (وَيُخَالِفُهُ) أَيْ الْقَلْبَ فَسَادُ الْوَضْعِ (بِالزِّيَادَةِ) فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْقَلْبِ (وَبِكَوْنِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ (أَعَمَّ مِنْ مُدَّعَاهُ) فَلَا يَكُونُ مَنْعُ وُرُودِهِ عَلَى الْمُؤَثِّرَةِ صَحِيحًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْقَلْبَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْقَالِبَ إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ فَلَا يَقْدَحُ فِي دَلِيلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَصْلِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ.
وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَقِيضِهِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِأَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ وَلَا إثْبَاتِهِ بِعِلَّتِهِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَاسْتِحَالَةِ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ لِتَعَذُّرِ مُنَاسَبَتِهِمَا لَهُمَا وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِالْمَنْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ مِنْ لَوَازِمِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قَادِحًا فِي الدَّلِيلِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ شَرْطَ الْقَلْبِ اشْتِمَالُ الْأَصْلِ عَلَى حُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ فِي ذَاتَيْهِمَا قَدْ امْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْفَرْعِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ وَنَقِيضِهِ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمَا فِي أَصْلِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ فِي نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ وَلِنَقِيضِهِ فِي نَظَرِ الْمُعْتَرِضِ فَلَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِي الْفَرْعِ ثُمَّ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ الْقَلْبَ صَحِيحٌ وَهُوَ مُعَارَضَةٌ فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَمْنَعَ حُكْمَ الْقَالِبِ فِي الْأَصْلِ وَأَنْ يَقْدَحَ فِي تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ بِالنَّقْضِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَأَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِهِ إذَا أَمْكَنَهُ بِبَيَانِ أَنَّ اللَّازِمَ لَا يُنَافِي حُكْمَهُ وَأَنْ يَقْلِبَ قَلْبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَلْبُ الْقَلْبِ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ لِأَنَّ قَلْبَ الْقَلْبِ إذَا فَسَدَ بِالْقَلْبِ الثَّانِي سَلِمَ أَصْلُ الْقِيَاسِ مِنْ الْقَلْبِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ وَقِيلَ لَا يُسْمَعُ الْقَلْبُ وَالنَّقْضُ عَلَى الْقَلْبِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِفْسَادِ لِكَلَامِ الْخَصْمِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْقَلْبَ لَا يُخْرِجُ دَلَالَةَ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ كَذَا فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ.
(قَالُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (وَيَقْلِبُ الْعِلَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَاسِدٍ كَعِبَادَةٍ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا فَلَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي نَفْلٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ غَيْرُ مُلْزِمٍ لِلشَّارِعِ فِيهِ إتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ إذَا أَفْسَدَ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا إذَا فَسَدَتْ كَالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ عِبَادَةٌ وَلَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا وَاحْتُرِزَ بِلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا عَنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالشُّرُوعِ لِوُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدَةِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ (فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ
(3/279)
مَا كَانَ عِبَادَةً لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا (فَيَسْتَوِي عَمَلُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعُ فِيهَا كَالْوُضُوءِ) أَيْ كَمَا اسْتَوَى عَمَلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ بِالشُّرُوعِ لَمْ يَلْزَمْ بِالنَّذْرِ (فَتَلْزَمُ) الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ (بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ) إجْمَاعًا لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الشُّرُوعُ مَعَ النَّذْرِ فِي الْإِيجَابِ بِمَنْزِلَةِ تَوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِأَنَّ النَّاذِرَ عَهِدَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالشَّارِعُ عَزَمَ عَلَى الْإِبْقَاءِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ صِيَانَةً لِمَا أَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَحَيْثُ وَجَبَتْ بِالنَّذْرِ إجْمَاعًا وَجَبَتْ بِالشُّرُوعِ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الِاسْتِوَاءِ وَيُسَمَّى هَذَا قَلْبُ التَّسْوِيَةِ (وَسَمَّاهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَكْسًا لِأَنَّ حَاصِلَهُ عَكْسُ خُصُوصِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ) أَيْ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْوُضُوءُ فِي هَذَا الْمِثَالِ (عَدَمُ اللُّزُومِ بِالنَّذْرِ وَلِشُرُوعٍ فِي الْفَرْعِ) أَيْ الْعِبَادَةِ النَّافِلَةِ وَهُوَ لُزُومُهَا بِهِمَا.
(وَهَذَا) النَّوْعُ مِنْ الْقَلْبِ هُوَ (الْمَنْسُوبُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ أَوَّلُ الْقِيَاسِ مُسَمًّى بِقِيَاسِ الْعَكْسِ) وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ (وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِاعْتِرَاضٍ) هُوَ رَدُّ الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ سُنَنِ الْأَصْلِ (وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ فَقِيلَ نَعَمْ) يُقْبَلُ وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيّ (إذْ جَعَلَ) الْمُعْتَرِضُ (وَصْفَهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (شَاهِدًا لِمَا يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَ مَطْلُوبِهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ (وَهُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِنَقِيضِ مَطْلُوبِ الْمُسْتَدِلِّ (الِاسْتِوَاءُ) لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ الشُّرُوعُ وَالنَّذْرُ لَوْ ثَبَتَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الشُّرُوعِ مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ وَهُوَ خِلَافُ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ (وَالْمُخْتَارُ) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيُّ وَالْخَبَّازِيُّ وَصَاحِبُ الْبَدِيعِ أَنَّهُ (لَا) يُقْبَلُ (لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ يُوجِبُ شَبَهًا فِي شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الشَّبَهِ) بَيْنَ الْمُتَشَابِهَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ (لِيَلْزَمَ الِاسْتِوَاءُ مُطْلَقًا) لَهُمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ثُمَّ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ بَاطِلٌ لِانْتِفَاءِ اتِّحَادِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِوَاءِ فِيهِمَا فَإِنَّ اسْتِوَاءَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الْوُضُوءِ سُقُوطُ الْإِلْزَامِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلنَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتِوَاؤُهُمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ثُبُوتُ الْإِلْزَامِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُلْزِمًا وَالثُّبُوتُ وَالسُّقُوطُ مَعْنَيَانِ مُتَنَافِيَانِ وَكَيْفَ لَا وَظَاهِرُ امْتِنَاعِ تَعْدِيَةِ اسْتِوَاءِ السُّقُوطِ فِي الْوُضُوءِ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ.
(وَمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ) النَّوْعِ (الثَّانِي) مِنْ الْقَلْبِ (وَهُوَ دَعْوَى تَجْوِيزِ ثُبُوتِ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْفَرْعِ بِوَصْفِهِ) أَيْ وَصْفِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْأَصْلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ أَنَّ وُجُودَ الْجَامِعِ فِي الْفَرْعِ يَسْتَلْزِمُ مُخَالَفَةَ حُكْمِهِ حُكْمَ الْأَصْلِ فَوُجُودُ الْجَامِعِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُكْمَيْنِ مُتَخَالِفَيْنِ فِيهِمَا يَصِحُّ إضَافَتُهُمَا إلَى الْجَامِعِ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ لَهُ وَإِلَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِحُلُولِهِمَا فِيهِمَا (وَهُوَ قَلْبٌ) مِنْ الْمُعْتَرِضِ (لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (لِيُبْطِلَ الْمُسْتَدِلَّ) أَيْ مَذْهَبَهُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِتَنَافِيهِمَا (كَلُبْثٍ) أَيْ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ الِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لُبْثٌ مَخْصُوصٌ (وَمُجَرَّدُهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (كَالْوُقُوفِ) بِعَرَفَةَ فَإِنَّ مُجَرَّدَهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ وَإِنَّمَا صَارَ قُرْبَةً بِانْضِمَامِ عِبَادَةٍ إلَيْهِ وَهِيَ الْإِحْرَامُ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ مَعَهُ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً (فَيُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي الِاعْتِكَافِ (الصَّوْمُ) لِأَنَّ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ عِبَادَةٍ إلَيْهِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً قَالَ هِيَ الصَّوْمُ لَا غَيْرُ (فَيَقُولُ) الشَّافِعِيُّ (فَلَا يُشْتَرَطُ) فِيهِ الصَّوْمُ (كَالْوُقُوفِ) بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ أَشَارَ إلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ وَالْمُعْتَرِضَ أَشَارَ إلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِهِ صَرِيحًا (وَ) قَلْبٌ (لِإِبْطَالِ) مَذْهَبِ (الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (كَالْحَنَفِيِّ فِي الرَّأْسِ) أَيْ كَقَوْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالرُّبْعِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ (مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَكْفِي أَقَلُّهُ) أَيْ الرَّأْسِ وَهُوَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ (كَبَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ فَيَقُولُ) الشَّافِعِيُّ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبْعِ كَبَقِيَّتِهَا) أَيْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (وَوُرُودُهُ) أَيْ هَذَا الْقَلْبِ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اتَّفَقْنَا) مَعَاشِرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى (أَنَّ الثَّابِتَ
(3/280)
أَحَدُهُمَا) أَيْ أَقَلُّ الرَّأْسِ أَوْ الرُّبْعُ فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُرُودِهِ صِحَّةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ إذَا كَانَ ثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ هُنَا الِاسْتِيعَابُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّحِيحُ.
(أَوْ) لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ (الْتِزَامًا كَقَوْلِهِ) أَيْ الْحَنَفِيِّ (فِي بَيْعِ غَيْرِ الْمَرْئِيِّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ فَيَقُولُ) الشَّافِعِيُّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ (فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) كَالْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ فَالْمُعْتَرِضُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهَا قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ (فَلَا يَصِحُّ) إذْ يُقَالُ لَهُ لَكِنَّك قُلْت إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَازِمٌ لِلصِّحَّةِ عِنْدَك وَقَدْ انْتَفَى اللَّازِمُ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ ثُمَّ فِي الْكَشْفِ قُلْت هَذِهِ أَقْيِسَةٌ لَيْسَتْ بِمُنَاسِبَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً بَلْ بَعْضُهَا طَرْدِيَّةٌ وَبَعْضُهَا شَبَهِيَّةٌ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّارِطُونَ لِلتَّأْثِيرِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الطَّرْدِ وَالشَّبَهِ كَيْفَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ وَكَيْفَ يُعَلِّلُونَ بِهَا وَالِالْتِفَاتُ إلَى مِثْلِهَا لَيْسَ مِمَّنْ دَأْبُهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ لَكِنَّ الْمُخَالِفِينَ وَضَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوهَا إلَى أَصْحَابِنَا وَأَوْرَدُوهَا أَمْثِلَةً فِي كُتُبِهِمْ لِيَصِحَّ لَهُمْ أَقْسَامُ الْقَلْبِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
النَّوْعُ (الثَّانِي) مِنْ نَوْعَيْ الْمُعَارَضَةِ (الْمُعَارَضَةُ الْخَالِصَةُ) مِنْ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ (فِي) حُكْمِ (الْفَرْعِ) وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى تُوجِبُ خِلَافَ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُسْتَدِلِّ (بِلَا تَغْيِيرٍ) وَلَا زِيَادَةٍ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ فَيَقَعُ بِهِ مَحْضُ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِبْطَالِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا لِمُدَافَعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُقَابِلُهَا مَا لَمْ تَتَرَجَّحْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَإِذَا تَرَجَّحَتْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحَةِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ (وَيَسْتَدْعِي أَصْلًا آخَرَ وَعِلَّةً) أُخْرَى (كَالْمَسْحِ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ تَكْرِيرُهُ كَالْغُسْلِ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ (فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ مَسْحُ الرَّأْسِ (مَسْحٌ فَلَا يُكَرَّرُ كَمَسْحِ الْخُفِّ) فَهَذَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ الصَّحِيحَةِ مُثْبِتًا حُكْمًا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا تَغْيِيرٍ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إذْ أَصْلُ الْأَوَّلِ الْغُسْلُ وَعِلَّتُهُ الرُّكْنِيَّةُ وَأَصْلُ الثَّانِي مَسْحُ الْخُفِّ وَعِلَّتُهُ كَوْنُهُ مَسْحًا (وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ أَصْلَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (لِتَيَمُّمٍ) فَيُقَالُ كَالتَّيَمُّمِ (فَيَنْدَفِعُ) عَلَى هَذَا (الْمُتَوَهَّمِ مِنْ مَانِعِ فَسَادِ الْخُفِّ) أَيْ إنَّمَا لَمْ يُكَرِّرْ مَسْحَ الْخُفِّ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّلَفِ وَأَشَارَ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهَا بِعَطْفِهِ عَلَى بِلَا تَغْيِيرٍ قَوْلَهُ (أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَا) فِي الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي إثْبَاتِهِ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَالْأَخِ (فِي صَغِيرَةٍ بِلَا أَبٍ وَجَدِّ صَغِيرَةٍ فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي الْإِنْكَاحِ كَذَاتِ الْأَبِ) أَيْ كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَهَا أَبٌ بِجَامِعِ الصِّغَرِ الْمُوجِبِ لِلْعَجْزِ عَنْ مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِ (فَيَقُولُ) الشَّافِعِيُّ (الْأَخُ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا كَالْمَالِ) فَإِنَّ الْأَخَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَالِ إجْمَاعًا، وَهَذَا مُعَارَضَةٌ صَحِيحَةٌ خَالِصَةٌ صَحِيحَةٌ مُثْبِتَةٌ حُكْمًا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ لَكِنْ مَعَ تَغْيِيرٍ مَا فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إذْ الْعِلَّةُ فِي الْأَوَّلِ الصِّغَرُ وَفِي الثَّانِي قُصُورُ الشَّفَقَةِ وَفِي الْحُكْمِ تَغْيِيرٌ مِنْ إطْلَاقٍ يَشْمَلُ الْأَخَ وَغَيْرَهُ إلَى تَقْيِيدٍ بِالْأَخِ.
(وَأَمَّا نَظْمُهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ الْمُعَارَضَةَ (صَغِيرَةً فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا قَرَابَةُ الْإِخْوَةِ كَالْمَالِ) كَمَا فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالتَّنْقِيحِ وَغَيْرِهِمَا لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا بِوِلَايَةِ الْإِخْوَةِ (فَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ بَلْ مِنْ الْقَلْبِ فَالْمُعْتَرِضُ (عَارَضَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ) الَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُسْتَدِلُّ (بِنَفْيِهَا) أَيْ الْوِلَايَةِ (عَنْ خُصُوصٍ) وَهُوَ الْأَخُ فَهَذَا الْقَدْرُ مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ لِعَدَمِ قَدْحِهِ فِي كَلَامِ الْمُعَلِّلِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ (يَلْزَمُهُ) أَيْ نَفْيُهَا عَنْهُ (نَفْيُ) حُكْمِ (الْمُعَلِّلِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُ) أَيْ الْأَخِ (أَقْرَبُ) إلَيْهَا (بَعْدَ الْوِلَادِ) أَيْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَلَدِ (فَنَفْيُهَا) أَيْ وِلَايَةُ الْأَخِ (نَفْيُ مَا بَعْدَهَا) مِنْ وِلَايَةِ مَنْ سِوَاهُ مِنْ عَمٍّ وَغَيْرِهِ (مُطْلَقًا) ظَهَرَ مَعْنَى الصِّحَّةِ فِيهِ وَأَشَارَ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ (أَوْ إثْبَاتُ) الْمُعْتَرِضِ حُكْمًا (آخَرَ) يُخَالِفُ فِي الصُّورَةِ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ مُقَابِلًا لِذَلِكَ
(3/281)
الْآخَرِ لَكِنَّهُ (يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ نَفْيَ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ (كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَقِّيَّةِ الْمَنْعِيِّ) أَيْ الَّذِي نُعِيَ إلَى زَوْجَتِهِ أَيْ أُخْبِرَتْ بِمَوْتِهِ فَتَرَبَّصَتْ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ (بِوَلَدِهَا) الَّذِي وَلَدَتْهُ (فِي نِكَاحِ مَنْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَهُ) أَيْ الْمَنْعِيِّ إذَا جَاءَ مِنْ الَّذِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ الْمَنْعِيُّ (صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ) لِقِيَامِ نِكَاحِهِ (فَهُوَ أَحَقُّ) بِالْوَلَدِ (مِنْ) صَاحِبِ الْفِرَاشِ (الْفَاسِدِ) وَهُوَ الْمُتَزَوِّجُ بِهَا مَعَ قِيَامِ نِكَاحِ الْمَنْعِيِّ (كَمَا لَا يُحْصَى) مِنْ تَقْدِيمِ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ عِنْدَ التَّعَارُضِ (فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ كَالصَّاحِبَيْنِ الزَّوْجُ (الثَّانِي صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ فَيَلْحَقُهُ) الْوَلَدُ (كَالْمُتَزَوِّجِ بِلَا شُهُودٍ) إذَا وَلَدَتْ الْمُتَزَوِّجُ بِهَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ فَاسِدًا (فَإِثْبَاتُهُ) أَيْ الْوَلَدِ (مِنْ الثَّانِي) مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ آخَرُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَثْبَتَ الْمُعَلِّلُ فِيهِ حُكْمَهُ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ الْأَوَّلِ بِفِرَاشٍ صَحِيحٍ وَالْمُعْتَرِضَ أَثْبَتَهُ مِنْ الثَّانِي بِفِرَاشٍ فَاسِدٍ وَاتِّحَادُ الْمَحَلِّ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ (يَلْزَمُهُ) أَيْ هَذَا الْإِثْبَاتَ (نَفْيُهُ) أَيْ لِوَلَدٍ (عَنْ الْأَوَّلِ لِلْإِجْمَاعِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مِنْهُمَا) وَقَدْ وَجَدَ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَهُوَ الْفِرَاشُ الْفَاسِدُ صَحَّتْ وَاحْتِيجَ إلَى التَّرْجِيحِ (فَرَجَّحَ) أَبُو حَنِيفَةَ (الْمِلْكَ وَالصِّحَّةَ) الْكَائِنَيْنِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ فِرَاشَهُ صَحِيحٌ وَمِلْكَهُ قَائِمٌ (عَلَى الْحُضُورِ وَالْمَاءِ) أَيْ كَوْنِ الثَّانِي حَاضِرًا وَالْمَاءِ لَهُ (كَالزِّنَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ) أَنْ يُقَالَ (تَرَجَّحَ) الْأَوَّلُ (بِالصِّحَّةِ عَلَى) الثَّانِي بِمُجَرَّدِ (الْحُضُورِ) مَعَ انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفِرَاشِ تُوجِبُ حَقِيقَةَ النَّسَبِ وَالْفَاسِدُ شُبْهَتُهُ وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ شُبْهَتِهِ (أَمَّا الْمَاءُ فَمُقَدَّرٌ فِيهِمَا) أَيْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالزَّوْجِ الثَّانِي لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِهِ مِنْ الثَّانِي قُلْت فَانْدَفَعَ مَا فِي التَّلْوِيحِ وَرُبَّمَا يُقَالُ فِي الْحُضُورِ حَقِيقَةُ النَّسَبِ وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَوْلَى لِأَنَّهُ وُلِدَ مِنْ مَائِهِ.
(وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مُخَالَفَةَ حُكْمِ الْفَرْعِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ) إذْ لَا يَصِحُّ مَعَهَا قِيَاسٌ إذْ مِنْ شَرْطِهِ اتِّحَادُ الْحُكْمِ كَمَا عُرِفَ (كَقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ وَعَكْسِهِ) أَيْ النِّكَاحِ عَلَى الْبَيْعِ (فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ) بِجَامِعٍ فِي صُورَةٍ (فَيَقُولُ) الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ حَقِيقَةً (عَدَمُهَا) أَيْ الصِّحَّةِ (فِي الْبَيْعِ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ) بِالْبَيْعِ (وَ) عَدَمُهَا (فِي النِّكَاحِ حُرْمَةُ الْمُبَاشَرَةِ وَالْجَوَابُ الْبُطْلَانُ) الَّذِي هُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ (وَاحِدٌ عَدَمُ) تَرَتُّبِ (الْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ) عَلَيْهِ (وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهُ) أَيْ مَحَالِّهِ مِنْ كَوْنِهِ بَيْعًا وَنِكَاحًا إذْ اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحَالِّ بَلْ اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ شَرْطٌ فِي الْقِيَاسِ ضَرُورَةً فَكَيْفَ يُجْعَلُ شَرْطُهُ مَانِعًا مِنْهُ إذْ يَلْزَمُ امْتِنَاعُهُ أَبَدًا ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ بِبَيَانِ الِاتِّحَادِ عَيْنًا كَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَوْ جِنْسًا كَمَا فِي قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ كَالْأَنْفُسِ بِالنَّفْسِ وَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ جِنْسًا وَنَوْعًا كَوُجُوبٍ عَلَى تَحْرِيمٍ وَنَفْيٍ عَلَى إثْبَاتٍ وَبِالْعَكْسِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَاخْتِلَافُهُ مُوجِبٌ لِلْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِفْضَاءِ (وَهَذَا) السُّؤَالُ (وَغَيْرُهُ) مِنْ الْأَسْئِلَةِ (كَكَوْنِ الْأَصْلِ مَعْدُولًا) عَنْ الْقِيَاسِ (دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ مَنْعِ وُجُودِ الشَّرْطِ) فَلَا حَاجَةَ إلَى إفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ.
(وَأَمَّا سُؤَالُ الْفَرْقِ) بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (إبْدَاءُ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ هِيَ) أَيْ الْخُصُوصِيَّةُ (شَرْطٌ) لِلْوَصْفِ (مَعَ بَيَانِ انْتِفَائِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ بَيَانُ مَانِعٍ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى إبْدَاءُ (فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْعِ مِنْ الْحُكْمِ (وَ) بَيَانُ (انْتِفَائِهِ) أَيْ الْمَانِعِ (فِي الْأَصْلِ فَمَجْمُوعُ مُعَارَضَتَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ) أَيْ فَالْفَرْقُ مَجْمُوعُهُمَا إذَا تَعَرَّضَ لِانْتِقَاءِ الشَّرْطِ فِي الْفَرْعِ أَوْ عَدَمٍ لِمَانِعٍ فِي الْأَصْلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ إبْدَاءَ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ وَبَيَانُ انْتِفَائِهَا فِي الْفَرْعِ مُعَارَضَةٌ فِيهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَكَمَا قَالَ (وَهُوَ) أَيْ وَكَوْنُهُ مَجْمُوعُهُمَا (فِي الثَّانِي) أَيْ بَيَانِ مَانِعٍ فِي الْفَرْعِ وَانْتِفَائِهِ فِي الْأَصْلِ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْوَصْفُ مَعَ عَدَمِ هَذَا الْمَانِعِ) لَا الْوَصْفِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ بَيَانُ وُجُودِ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ مُعَارَضَةً فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الشَّيْءِ فِي قُوَّةِ الْمُقْتَضَى لِنَقِيضِهِ فَيَكُونُ فِي الْفَرْعِ وَصْفٌ
(3/282)
يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَيَسْتَنِدُ إلَى أَصْلٍ لَا مَحَالَةَ وَبَيَانُ انْتِفَائِهِ فِي الْأَصْلِ عَلَى هَذَا مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ أَبْدَى عِلَّةً أُخْرَى لَا تُوجَدُ فِي الْفَرْعِ.
(وَعَلَيْهِ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ (بَيَانُ كَوْنِهِ) أَيْ مَا أَبْدَاهُ مِنْ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْأَصْلِ شَرْطًا (أَوْ) مَا أَبْدَاهُ مِنْ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ (مَانِعًا عَلَى طَرِيقِ إثْبَاتِ الْمُسْتَدِلِّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ) الْمُعَلَّلِ بِهِ مِنْ التَّأْثِيرِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ أَنَّهُ) أَيْ الْفَرْقَ مُعَارَضَتَانِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (عَلَى ادِّعَاءِ الشَّرْطِ وَ) مُعَارَضَةٌ (فِي الْفَرْعِ فَقَطْ عَلَى الْمَانِعِ لِمَا تَقَدَّمَ) فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ (مِنْ الْحَقِّ أَنَّ عَدَمَ الْمَانِعِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ) زَادَ الْمُصَنِّفُ هُنَا (بِخِلَافِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّرْطَ (خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْوَصْفِ) الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُعَلِّلُ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ.
(وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ) الْمُعْتَرِضُ (لِانْتِفَائِهِ) أَيْ الشَّرْطِ (مِنْ الْفَرْعِ لَمْ يَكُنْ) إبْدَاءَ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ (الْفَرْقُ بَلْ) هُوَ (مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ الْمُسَمَّى مُفَارَقَةً) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ غَيْرَ أَنَّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ يَقُولُ الْفَرْقُ رَاجِعٌ إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يَتِمُّ نَفْيُ كَوْنِ الِاقْتِصَارِ عَلَى إبْدَاءِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ فَرْقًا وَإِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ بِرُجُوعِهِ إلَيْهِمَا، هَذَا وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْأُصُولِ لَوْ فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَأَصْلٍ مِنْهَا كَفَى فِي الْقَدْحِ فِيهَا لِأَنَّهُ يُبْطِلُ جَمْعَهَا الْمَقْصُودَ وَقِيلَ لَا يَكْفِي لِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهَا وَقِيلَ يَكْفِي إنْ قَصَدَ الْإِلْحَاقَ بِمَجْمُوعِهَا لِأَنَّهُ يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ بِكُلٍّ مِنْهَا وَهُوَ حَسَنٌ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ مَنْعُ كَوْنِ الْمَبْدَأِ فِي الْأَصْلِ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مَانِعًا مِنْ الْحُكْمِ وَفِي اقْتِصَارِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى جَوَابِ أَصْلٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْدِيرِهِ فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَأَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ حَيْثُ جَازَ تَعَدُّدُهَا قَوْلَانِ يَكْفِي لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالدَّفْعِ عَنْ وَاحِدٍ وَلَا يَكْفِي لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْجَمِيعَ فَلَزِمَهُ الدَّفْعُ عَنْهُ وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ جَوَازِ التَّعَدُّدِ وَعَدَمِهِ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاقَيَا ثُمَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ لَا مَا ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ وَرَاءَ الْمُعَارَضَةِ وَإِنْ خَاصَّهُ وَسَرَّهُ فَقَدْ يُنَاقِضُهُ قَصْدُ الْجَمِيعِ ثُمَّ هُوَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي أَمْرِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ كَمَا يُعْرَفُ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى كَلَامِهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَمْعِهَا) أَيْ الِاعْتِرَاضَاتِ (مِنْ جِنْسٍ) وَاحِدٍ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا تَنَاقُضٌ وَلَا انْتِقَالٌ مِنْ سُؤَالٍ إلَى آخَرَ (وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ) يَذْكُرُ فِي كَلَامِهِمْ (النَّوْعَ لِلْجِنْسِ وَالْجِنْسَ لِلنَّوْعِ) عَكْسُ مَا عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ بَلْ ذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ أَنَّهُ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ وَوَافَقَهُ التَّفْتَازَانِيُّ عَلَيْهِ (وَأُصُولُ الْحَنَفِيَّةِ) وَفُرُوعُهُمْ أَيْضًا يَذْكُرُ فِيهِمَا (الْجِنْسُ لِلنَّوْعِ) كَالْحِنْطَةِ (وَالنَّوْعُ) وَالْجِنْسُ أَيْضًا (لِلصِّنْفِ كَرَجُلٍ) وَلَا مُنَاقَشَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ (وَذَلِكَ) أَيْ جَمْعُهَا مِنْ جِنْسٍ (كَالِاسْتِفْسَارَاتِ وَالْمُنَوَّعِ وَالْمُعَارَضَاتِ) فَإِنَّ الِاسْتِفْسَارَاتِ يَجْمَعُهَا الِاسْتِفْسَارُ وَالْمُنَوَّعَ يَجْمَعُهَا الْمَنْعُ وَالْمُعَارَضَاتِ تَجْمَعُهَا الْمُعَارَضَةُ (وَفِي الْأَجْنَاسِ مَنَعَهُ) أَيْ جَمْعَهَا (السَّمَرْقَنْدِيُّونَ لِلْخَبْطِ) اللَّازِمِ مِنْ ذَلِكَ (لِلِانْتِشَارِ) وَأَوْجَبُوا الِاقْتِصَارَ عَلَى سُؤَالٍ وَاحِدٍ حِرْصًا عَلَى الضَّبْطِ قَالُوا وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا إنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ كَمَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ الْآمِدِيُّ فَإِنَّا جَوَّزْنَا تَعَدُّدَهَا وَإِنْ أَدَّتْ إلَى النَّشْرِ لِأَنَّ النَّشْرَ فِي الْمُخْتَلِفَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمُتَّفِقَةِ وَالْجُمْهُورُ جَوَّزُوا الْجَمْعَ بَيْنَهَا قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الْحَقُّ (ثُمَّ) إذَا جَازَ الْجَمْعُ (مَنَعَ أَكْثَرُ النُّظَّارِ) الِاعْتِرَاضَاتِ (الْمُرَتَّبَةَ طَبْعًا) مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ (كَمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمَنْعِ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِذَلِكَ) إذْ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ طَبْعًا (إذْ يُفِيدُ) الْأَخِيرُ (تَسْلِيمَ الْأَوَّلِ) فَيَتَعَيَّنُ الْأَخِيرُ سُؤَالًا فَيُجَابُ عَنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ فَيَضِيعُ الْأَوَّلُ (وَالْمُخْتَارُ) كَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (جَوَازُهُ) أَيْ جَمْعِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُرَتَّبَةِ طَبْعًا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ (لِأَنَّ التَّسْلِيمَ) لِلْمُتَقَدِّمِ (فَرْضِيٌّ أَيْ لَوْ سَلِمَ) الْأَوَّلُ (وَرَدَ الثَّانِي) وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسْلِيمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
(وَحِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إذَا كَانَ الْمُخْتَارُ جَوَازَهُ وَإِنْ أَدَّى إلَى التَّسْلِيمِ إذْ كَانَ التَّسْلِيمُ فَرْضِيًّا (الْوَاجِبُ تَرْتِيبُهَا) أَيْ
(3/283)
الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُرَتَّبَةِ طَبْعًا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَجِبْ تَرْتِيبُهَا (فَمَنَعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ) إذَا عَكَسَ التَّرْتِيبَ (إذْ) قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ (لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بِكَذَا يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَهُ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (فَقَوْلُهُ) بَعْدَ ذَلِكَ (بِمَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ رُجُوعٌ) عَنْ تَسْلِيمِهِ (لَا يُسْمَعُ) لِأَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ إقْرَارٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُسَلَّمًا غَيْرَ مُسَلَّمٍ وَحِينَئِذٍ فَيَرِدُ هَذَا إشْكَالًا عَلَى أَكْثَرِ النُّظَّارِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَنَعُوهَا مُرَتَّبَةً لِمَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْمَنْعِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يُوجِبُوهَا غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَيَبْطُلُ مَا يَلْزَمُ قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ وُجُوبِهَا غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ) فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمَنْعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْمَنْعِ (وَإِلَّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى) جَوَازِ (التَّعَدُّدِ مِنْ نَوْعٍ وَلَا مَخْلَصَ لَهُمْ) أَيْ لِلْأَكْثَرِ (إلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّ مَنْعَ الْعِلِّيَّةِ بِفَرْضِ وُجُودِ الْحُكْمِ) إلَّا أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّ تَسْلِيمَ حُكْمِ الْأَصْلِ إنَّمَا يُوجِبُهُ مَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ اسْتِلْزَامًا ظَاهِرًا فَإِذَا صَرَّحَ بَعْدَهُ بِمَنْعِهِ حُمِلَ عَلَى إرَادَتِهِ مَنْعَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ بِفَرْضِ وُجُودِ الْحُكْمِ كَمَا أَجَبْنَا بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا نُسَلِّمُ عِلِّيَّةَ هَذَا الْوَصْفِ لِهَذَا الْحُكْمِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا وَنَحْنُ نَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُمْ مِثْلُهُ فِي مَنْعِهِمْ الْمُتَرَتِّبَةَ كَذَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ.
(وَمَا قِيلَ) أَيْ وَقَوْلُ التَّفْتَازَانِيِّ (كُلٌّ مِنْ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ) اعْتِرَاضًا الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَاضِيَةِ (جِنْسٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَ نَوْعٍ) عَلَى مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْأُصُولِ مِنْ انْدِرَاجِ الْأَجْنَاسِ تَحْتَ الْأَنْوَاعِ (غَلَطٌ يُبْطِلُ حِكَايَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ مِنْ جِنْسٍ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَدُّدُ مَثَلًا مِنْ مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَهُوَ) أَيْ مَنْعُ وُجُودِهَا (أَحَدُهَا) أَيْ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرِينَ بَلْ الْمَنْعُ نَوْعٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ وَمَنْعُ عِلِّيَّتِهِ وَمَنْعُ وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ وَالْمُعَارَضَةُ نَوْعٌ يَنْدَرِجُ فِيهَا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَجْنَاسٌ لِأَنَّ تَحْتَهَا أَشْخَاصُ الْمُنَوَّعِ وَالْمُعَارَضَاتِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّ الْجِنْسَ هُوَ النَّوْعُ الْمَنْطِقِيُّ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ فَالنَّقْضُ حِينَئِذٍ جِنْسٌ انْحَصَرَ فِيهِ نَوْعُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَكَلَامُهُمْ) أَيْ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا (فِي الْمِثْلِ وَذِكْرِ الْأَجْنَاسِ خِلَافُهُ) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ ثُمَّ إذَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ فَتَرَتَّبَ التَّرْتِيبَ الطَّبِيعِيَّ لِيُوَافِقَ الْوَضْعِيُّ الطَّبِيعِيَّ.
وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالِاسْتِفْسَارِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَا يَعْرِفُ مَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ ثُمَّ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَبْلَ النَّظَرِ فِي تَفْصِيلِهِ ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ قَالَ الْآمِدِيُّ لِكَوْنِهِ أَخَصَّ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ يَعْنِي مُطْلَقًا وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (فَتَقَدَّمَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَصْلِ) فَتَقَدَّمَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ نَظَرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ (ثُمَّ) الْمُتَعَلِّقُ (بِالْعِلَّةِ) لِأَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ فَتَقَدَّمَ مَنْعُ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّقْسِيمِ وَكَوْنِ الْوَصْفِ غَيْرِ ظَاهِرٍ وَلَا مُنْضَبِطٍ وَكَوْنِ الْحُكْمِ غَيْرِ مُفْضٍ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ صِفَةَ وُجُودِ الْعِلَّةِ ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَالتَّعَدِّيَةُ وَالتَّرْكِيبُ لِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْعِلَّةِ (ثُمَّ) الْمُتَعَلِّقُ (بِالْفَرْعِ) لِابْتِنَائِهِ عَلَى الْعِلَّةِ وَحُكْمِ الْأَصْلِ فَيَذْكُرُ مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَمُخَالَفَةَ حُكْمِهِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَمُخَالَفَتَهُ لِلْأَصْلِ فِي الضَّابِطِ أَوْ الْحِكْمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ وَسُؤَالِ الْقَلْبِ ثُمَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ الْمُثْمِرِ لَهُ.
(وَتَقَدَّمَ النَّقْضُ عَلَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ عِنْدَ مُعْتَبِرِهَا) أَيْ مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ (إذْ هِيَ) أَيْ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ (لِإِبْطَالِ اسْتِقْلَالِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ بِالتَّأْثِيرِ وَالنَّقْضُ لِإِبْطَالِ أَصْلِ الْعِلَّةِ فَقُدِّمَ عَلَيْهَا فَيُقَالُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعَدَمِ الِاطِّرَادِ وَلَوْ سَلِمَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ (وَمَنَعَ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ مَنْعِهَا وَالْقَلْبَ قَبْلَ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ) بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ فَيَذْكُرُ الْقَلْبَ أَوَّلًا (ثُمَّ يُقَالُ) إذَا ذُكِرَتْ هِيَ ثَانِيًا (وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ) أَيْ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ (يُفِيدُ مَطْلُوبَهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ آخَرُ يَنْفِيهِ) أَيْ مَطْلُوبَهُ وَأَوْجَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ تَرْتِيبَ الْأَسْئِلَةِ فَاخْتَارَ فَسَادَ الْوَضْعِ ثُمَّ الِاعْتِبَارَ ثُمَّ الِاسْتِفْسَارَ ثُمَّ الْمَنْعَ ثُمَّ الْمُطَالَبَةَ وَهُوَ مَنْعُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ الْفَرْقَ ثُمَّ النَّقْضَ ثُمَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ الْقَلْبَ وَرَدَّ التَّقْسِيمَ إلَى الِاسْتِفْسَارِ أَوْ الْفَرْقِ وَأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَعَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَسْئِلَةِ
(3/284)
الْجَدَلِ وَأَسْئِلَةِ الِاسْتِرْشَادِ.
وَمِنْ هُنَا وَقَعَ التَّخَبُّطُ وَإِلَّا فَالْحَقُّ أَنْ لَا يُبْنَى الْجَدَلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِرْشَادِ لَا لِلْعِلِّيَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْجَمِيعِ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَكَيْفَ لَا وَالْجَدَلُ مَأْمُورٌ بِهِ بِالْحَقِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ ثُمَّ كَمَا فِي الْوَاضِحِ لَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الْبَاطِلِ وَاسْتِنْقَاذِ الْهَالِكِ بِالِاجْتِهَادِ فِي رَدِّهِ عَنْ ضَلَالَتِهِ لَمَا حَسُنَتْ الْمُجَادَلَةُ لِلْإِيحَاشِ فِيهَا غَالِبًا وَإِذَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَمِيَتْ الْقُلُوبُ وَخَمَدَتْ الْخَوَاطِرُ وَانْسَدَّتْ أَبْوَابُ الْفَوَائِدِ وَلَكِنْ فِيهَا أَعْظَمُ الْمَنْفَعَةِ إذَا قَصَدَ بِهَا نُصْرَةَ الْحَقِّ وَالتَّقَوِّي عَلَى الِاجْتِهَادِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قَصْدِ الْمُغَالَبَةِ وَبَيَانِ الْفَرَاهَةِ فَضْلًا عَنْ قَصْدِ التَّغْطِيَةِ عَلَى الْحَقِّ وَتَرْوِيجُ الْبَاطِلِ بِآفَةٍ مِنْ الْآفَاتِ مِنْ مُحَابَاةٍ لِأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ تَقَرُّبًا إلَيْهِمْ أَوْ مُنَاضَلَةً مَرْدُودَةً دَوْمًا لِحُصُولِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْعَوَامّ وَالتَّعْظِيمِ لَدَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُصُودِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَمَنْ بَانَ لَهُ سُوءُ قَصْدِ خَصْمِهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ أَدَّى إلَى مَكْرُوهٍ فَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٍ فَمُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 68] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ لِيَرُدُّوا بِهِ مَنْ جَادَلَ تَعَنُّتًا فَلَا يُجِيبُوهُ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اجْتِمَاعَ جَمْعٍ مُتَجَادِلِينَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَطْمَعُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ الْحُجَّةُ وَلَا فِيهِ مُؤَانَسَةٌ وَمَوَدَّةٌ وَتَوْطِئَةُ الْقُلُوبِ لِوَعْيِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ عَلَى الضِّدِّ مَحْمَلُ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: 58] » وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمِرَاءَ» .
وَكَوْنُ مَكْحُولٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي هَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُقَالُ مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً أَيْ جَادَلَ وَالْمِرَاءُ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ مَرَيْت الشَّاةَ اسْتَخْرَجْت لَبَنَهَا وَفِي الْوَاضِحِ وَاحْذَرْ الْكَلَامَ فِي مَجَالِسِ الْخَوْفِ أَوْ الَّتِي لَا إنْصَافَ فِيهَا وَكَلَامَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَبْغُضُهُ أَوْ لَا يَفْهَمُ عَنْك وَاسْتِصْغَارَ الْخَصْمِ وَلَا يَنْبَغِي كَلَامُ مَنْ عَادَتُهُ ظُلْمُ خَصْمِهِ وَالْهُزْءُ وَالتَّشَفِّي لِعَدَاوَتِهِ وَالْمُتَرَصِّدُ لِلْمَسَاوِئِ وَالتَّحْرِيفُ وَالتَّزَيُّدُ وَالْبُهْتُ، وَكُلُّ جَدَلٍ وَقَعَ فِيهِ ظُلْمُ الْخَصْمِ اخْتَلَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِنْهُ وَقَدِّرْ فِي نَفْسِك الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ وَلَا يَنْقُصُ بِالْحِلْمِ إلَّا عِنْدَ جَاهِلٍ وَلَا بِالصَّبْرِ عَلَى شَغَبِ السَّائِلِ إلَّا عِنْدَ غَبِيٍّ وَتَرْتَفِعُ فِي نُفُوسِ الْعُلَمَاءِ وَتَنْبُلُ عِنْدَ أَهْلِ الْجَدَلِ وَمَنْ خَاضَ فِي الشَّغَبِ تَعَوَّدَهُ وَمَنْ تَعَوَّدَهُ حُرِمَ الْإِصَابَةَ وَاسْتُدْرِجَ إلَيْهِ وَمَنْ عُرِفَ بِهِ سَقَطَ سُقُوطَ الدُّرَّةِ وَفِي رَدِّ الْغَضَبِ الظَّفَرُ وَلَا رَأْيَ لِغَضْبَانَ وَالْغَالِبُ فِي السَّفَهِ الْأَسْفَهُ كَالْغَالِبِ بِالْعِلْمِ الْأَعْلَمُ وَمَعَ هَذَا فَلَا أَحَدَ يَسْلَمُ مِنْ الِانْقِطَاعِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
وَلَيْسَ حَدُّ الْعَالِمِ كَوْنَهُ حَاذِقًا بِالْجَدَلِ فَإِنَّهُ صِنَاعَةٌ وَالْعِلْمُ صِنَاعَةٌ وَهُوَ مَادَّةُ الْجَدَلِ يَحْتَاجُ إلَى الْعَالِمِ وَلَا عَكَسَ وَأَدَبُ الْجَدَلِ يَزِينُ صَاحِبُهُ وَتَرْكُهُ يَشِينُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ حَظْوَةٍ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَفِيعًا عِنْدَ الْجُهَّالِ فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ وَيُكْرَهُ اصْطِلَاحًا تَأْخِيرُ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ كَثِيرًا وَعِنْدَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مُنْقَطِعٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ.
[خَاتِمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ]
(خَاتِمَةٌ) لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ (الِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ) أَيْ عَلَى كَوْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ أَدِلَّةً شَرْعِيَّةً لِلْأَحْكَامِ (عِنْدَ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ) وَهُمْ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ (وَاخْتُلِفَ فِي أُمُورٍ) أُخْرَى أَيْ فِي كَوْنِهَا أَدِلَّةً شَرْعِيَّةً لِلْأَحْكَامِ (الِاسْتِدْلَال بِالْعَدَمِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ فَإِنَّهُ الَّذِي (نَفَاهُ الْحَنَفِيَّةُ) وَتَقَدَّمَ فِي الْمَرْصَدِ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ الْكَلَامُ فِيهِ نَفْيًا لَهُ مُطْلَقًا عَنْهُمْ إلَّا عَدَمَ عِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ عَلَى تَحْقِيقٍ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هِيَ إضَافَةٌ إلَى الْعَدَمِ لَفْظًا وَإِلَى الْوُجُودِ مَعْنًى
(3/285)
كَمَا عُرِفَ ثَمَّةَ وَإِثْبَاتًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا مُطْلَقًا وَمُضَافًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بِهِ وُجُودِيًّا وَعَدَمِيًّا وَإِلَّا فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ ثَمَّةَ يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ وَمَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَقَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ فِقْدَانُ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْفَحْصِ الْبَلِيغِ يَغْلِبُ ظَنَّ عَدَمِهِ وَعَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ لِامْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْغَافِلِ إذْ الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِقْدَانَ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْفَحْصِ الْبَلِيغِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ عَلَيْهِ وَظَنُّ عَدَمِهِ يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إذْ لَوْ ثَبَتَ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَزِمَ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ غَيْرَ أَنَّ عَدَّهُ إيَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمَقْبُولَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ أَوْ مُطْلَقًا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَصَدَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّلْوِيحِ لَا قَائِلَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالنَّفْيِ أَحَدُ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ اهـ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِنَفْيِ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ فَلْيُحْمَلْ كَلَامُ الْبَيْضَاوِيِّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ فَهَذَا وَاحِدٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ.
(وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ) وَهِيَ الَّتِي لَا يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْعِ وَلَا بِالْإِلْغَاءِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى سُنَنِ الْمَصَالِحِ وَتَلَقَّتْهَا الْعُقُولُ بِالْقَبُولِ (أَثْبَتَهَا مَالِكٌ) وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ (وَمَنَعَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) مِنْهُمْ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَابِلَةِ (لِعَدَمِ مَا يَشْهَدُ) لَهَا (بِالِاعْتِبَارِ وَلِعَدَمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ فِيهَا كَمَا يُعْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ مِنْ فَصْلِ الْعِلَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَرَافِيُّ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَ وَيُفَرِّقُونَ بِالْمُنَاسَبَاتِ وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ وَلَا يَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذَلِكَ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ الْعَمَلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا أُمُورًا لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ لَا لِتَقْدِيمِ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ نَحْوَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ وَوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْخِلَافَةِ شُورَى وَتَدْوِينُ الدَّوَاوِينِ وَعَمَلُ السِّكَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذِ السِّجْنِ فَعَمِلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذِهِ الْأَوْقَافُ الَّتِي بِإِزَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّوْسِعَةُ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ ضِيقِهِ فَعَلَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَجْدِيدُ أَذَانٍ فِي الْجُمُعَةِ بِالسُّوقِ وَهُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَعَلَهُ عُثْمَانُ ثُمَّ نَقَلَهُ هِشَامٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَذَكَرَ كَثِيرٌ حَدًّا لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَدْ عَمِلَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْغِيَاثِيِّ أُمُورًا وَجَوَّزَهَا وَأَفْتَى بِهَا وَالْمَالِكِيَّةُ بَعِيدُونَ عَنْهَا وَجَسَرَ عَلَيْهَا وَقَالَهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ مَعَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَدِيدَا الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ انْتَهَى فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِمَنْ تَتَبَّعَ وَحَقَّقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا ثَانٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ.
(وَتَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ) أَيْ بَقَاءُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِتَعَارُضِ أَصْلَيْنِ فِيهِ يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا (كَقَوْلِ زُفَرَ فِي الْمَرَافِقِ) لَا يَجِبُ غُسْلُهَا فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّهَا (غَايَةٌ) لِغُسْلِ الْيَدِ وَالْغَايَةُ قِسْمَانِ (دَخَلَ مِنْهَا) فِي الْمُغَيَّا قِسْمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] (وَخَرَجَ) مِنْهَا عَنْ الْمُغَيَّا قِسْمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَإِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ دُخُولُ الْمَرَافِقِ فِي الْغُسْلِ بِأَوْلَى مِنْ عَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِ (فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ) أَيْ وَلَمْ يَكُنْ غُسْلُهَا وَاجِبًا فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ (وَدُفِعَ) كَوْنُهُ دَلِيلًا (بِأَنَّهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِالْجَهْلِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ) لِزُفَرَ (الْأَصْلُ عَدَمُهُ) أَيْ دُخُولُ الْمَرَافِقِ فِي الْغُسْلِ (فَيَبْقَى) عَدَمُهُ مُسْتَمِرًّا (إلَى ثُبُوتِ مُوجِبِهِ) أَيْ الدُّخُولِ (وَالثَّابِتُ) فِي الْغَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُغَيَّا دُخُولًا وَخُرُوجًا إنَّمَا هُوَ (التَّعَارُضُ) وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يُعْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ إلَى مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَلْيُرَاجَعْ وَهَذَا ثَالِثٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ.
(وَمِنْهَا) أَيْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ (الِاسْتِدْلَال) وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الدَّلَالَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ يَرِدُ لِمَعَانٍ مِنْهَا الطَّلَبُ كَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَالِاتِّخَاذُ كَاسْتَعْبَدَ فُلَانٌ فُلَانًا وَاسْتَأْجَرَهُ أَيْ اتَّخَذَهُ عَبْدًا وَأَجِيرًا فَذَكَرَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الدَّلِيلِ وَفِي الْعُرْفِ يُطْلَقُ عَلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ
(3/286)
أَوْ غَيْرِهِمَا وَعَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا (قِيلَ مَا لَيْسَ بِأَحَدِ) الْأَدِلَّةِ (الْأَرْبَعَةِ) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ (فَيَخْرُجُ قِيَاسًا الدَّلَالَةُ وَمَا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ) وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ مَا لَا يُذْكَرُ فِيهِ الْعِلَّةُ بَلْ وَصْفٌ مُلَازِمٌ لَهَا كَالنَّبِيذِ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ بِجَامِعِ الرَّائِحَةِ الْمُشْتَدَّةِ وَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَيُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ كَقِيَاسِ الْبَوْلِ فِي إنَاءٍ وَصَبِّهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ عَلَى الْبَوْلِ فِيهِ فِي الْمَنْعِ بِجَامِعِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَقْصُودِ الْمَنْعِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ كَمَا يَخْرُجُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَهُوَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ نَحْوَ يَحْرُمُ النَّبِيذُ كَالْخَمْرِ لِلْإِسْكَارِ لِإِطْلَاقِ نَفْيِ كَوْنِهِ قِيَاسًا أَيْضًا لِأَنَّ مُنَافِيَ الْأَعَمِّ مُنَافٍ لِلْأَخَصِّ. (وَقَدْ يُقَيَّدُ الْقِيَاسُ) الْمَنْفِيُّ (بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ فَيُدْخِلَانِهِ) أَيْ قِيَاسَا الدَّلَالَةِ وَمَا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَخَصَّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَعَمُّ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَنَفْيُ الْأَعَمِّ لِكَوْنِهِ أَخَصَّ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ (وَاخْتِيرَ) أَيْ وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ (أَنَّ أَنْوَاعَهُ) أَيْ الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةٌ (شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَالِاسْتِصْحَابُ وَالتَّلَازُمُ وَهُوَ) أَيْ التَّلَازُمُ (الْمُفَادُ بِالِاسْتِثْنَائِيِّ وَالِاقْتِرَانِيِّ بِضُرُوبِهِمَا) فِي مَبَاحِثِ النَّظَرِ (وَقَدَّمْنَا زِيَادَةَ ضَرْبٍ فِي تَسَاوِي الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي) بَلْ ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ حَاصِلٌ مِنْهُمَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ كَأَنْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَتَارِكُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَضَرْبٌ حَاصِلٌ مِنْهُمَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ عَيْنِ التَّالِي كَأَنْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَكِنْ تَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ فَهُوَ وَاجِبٌ فَتَصِيرُ ضُرُوبُهُ أَرْبَعَةً هَذَيْنِ وَالضَّرْبَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إنْتَاجِهِمَا وَهُمَا الْحَاصِلُ مِنْهُمَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ كَأَنْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَالْحَاصِلُ مِنْهُمَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ التَّالِي كَأَنْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَكِنْ تَارِكُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ فَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ (وَكَذَا) زِيَادَةُ ضَرْبٍ (فِي الِاقْتِرَانِيِّ) وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ صُغْرَى سَالِبَةٍ وَكُبْرَى مُوجَبَةٍ مُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ كَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِصَهَّالٍ وَكُلُّ صَهَّالٍ فَرَسٌ فَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ وَذَكَرَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ثَمَّةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ هَذَا زِيَادَةُ ضَرْبٍ آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ جُزْئِيَّةٍ سَالِبَةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ كُبْرَى مُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ كَلَيْسَ بَعْضُ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ وَكُلُّ فَرَسٍ صَهَّالٌ فَلَيْسَ بَعْضُ الْإِنْسَانِ بِصَهَّالٍ لِاتِّحَادِ الْوَسَطِ الْمُقْتَضِي لِلْإِنْتَاجِ فِي هَذَا كَمَا فِيمَا قَبْلَهُ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ التَّلَازُمَ (هُنَا عَلَى خُصُوصٍ هُوَ إثْبَاتُهُ أَحَدَ مُوجِبَيْ الْعِلَّةِ بِالْآخَرِ فَتَلَازُمُهُمَا) أَيْ مُوجِبِيهَا وَهُمَا الْحُكْمَانِ (بِلَا تَعْيِينِ عِلَّةٍ) جَامِعَةٍ.
(وَإِلَّا) لَوْ كَانَ إثْبَاتُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ (فَقِيَاسٌ) أَيْ فَإِثْبَاتُهُ بِهَا قِيَاسٌ (وَيَكُونُ) التَّلَازُمُ (بَيْنَ ثُبُوتَيْنِ) وَلَا بُدَّ فِيهِ إمَّا مِنْ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِيمَا يَكُونُ التَّالِي فِيهِ مُسَاوِيًا لِلْمُقَدَّمِ أَوْ طَرْدًا لَا عَكْسًا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَكُونُ التَّالِي أَعَمَّ مِنْ الْمُقَدَّمِ (كَمَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَهُوَ) أَيْ وَثُبُوتُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا يَكُونُ (بِالِاطِّرَادِ) الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَنَّا تَتَبَّعْنَا فَوَجَدْنَا كُلَّ شَخْصٍ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَكُلُّ مَنْ صَحَّ ظِهَارُهُ صَحَّ طَلَاقُهُ (وَيَقْوَى) ثُبُوتُهُ بَيْنَهُمَا (بِالِانْعِكَاسِ) وَهُوَ أَنَّا تَتَبَّعْنَا فَوَجَدْنَا كُلَّ شَخْصٍ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ وَكُلَّ شَخْصٍ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَحَاصِلُهُ التَّمَسُّكُ بِالدَّوَرَانِ مُمْكِنٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لَهُ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِهِ الْقَائِلِ بِصِحَّةِ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ لَا الْحَنَفِيِّ وَمُوَافِقِهِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ صِحَّةِ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَا تَلَازُمَ عِنْدَهُ فِي هَذَا عَكْسًا فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ بَلْ فِي أَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الظِّهَارُ وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ ثُمَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّعْرِيفَيْنِ لَهُ (وَيُقَرِّرُ) ثُبُوتُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا إذَا كَانَا أَثَرَيْنِ لِمُؤَثِّرٍ بِالِاسْتِدْلَالِ (ثُبُوتَ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ فَيَلْزَمُ) أَنْ يُوجَدَ الْأَثَرُ (الْآخَرُ لِلُّزُومِ) وُجُودَ (الْمُؤَثِّرِ) لَهُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ أَثَرُهُ وَكَوْنُ نِسْبَتِهِ إلَى الْمُؤَثِّرِ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إلَيْهِ.
(وَ) يُقَرِّرُ (بِمَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى هَذَا
(3/287)
وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى ثُبُوتِ الْمُؤَثِّرِ ثُمَّ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْآخَرِ (كَفَرْضِ الصِّحَّتَيْنِ) لِلطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ (أَثَرَ الْوَاحِدِ) كَالْأَهْلِيَّةِ لَهُمَا فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الطَّلَاقِ ثَبَتَ الْأَهْلِيَّةُ لَهَا وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ ثُبُوتُهُ لِصِحَّةِ الظِّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ بَلْ مِنْ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ دُونَ التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ لَهُ لِأَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِتَعْيِينِ الْمُؤَثِّرِ (وَمَتَى عُيِّنَ الْمُؤَثِّرُ خَرَجَ) عَنْ الِاسْتِدْلَالِ (إلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَ نَفْيَيْنِ) أَيْ وَيَكُونُ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا (وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ) أَيْ التَّنَافِي بَيْنَ (الطَّرَفَيْنِ) فَسَقَطَ مِنْ الْقَلَمِ لَفْظُ بَيْنَ (طَرْدًا وَعَكْسًا) أَيْ إثْبَاتًا وَنَفْيًا كَمَا هُوَ الْمُنْفَصِلَةُ الْحَقِيقِيَّةُ (أَوْ أَحَدِهِمَا) أَيْ طَرْدًا فَقَطْ كَمَا هُوَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ أَوْ عَكْسًا فَقَطْ كَمَا هُوَ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ مِثَالُهُ (لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ) بِلَا نِيَّةٍ (وَهُوَ) أَيْ ثُبُوتُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا (أَيْضًا بِالِاطِّرَادِ) أَيْ كُلُّ تَيَمُّمٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَكُلُّ وُضُوءٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ (وَيَقْوَى بِالِانْعِكَاسِ) أَيْ كُلُّ تَيَمُّمٍ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ وَكُلُّ وُضُوءٍ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِهِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ فَيَتِمُّ التَّلَازُمُ طَرْدًا وَعَكْسًا فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَقَطْ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ كُلَّ تَيَمُّمٍ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ وَبِغَيْرِ النِّيَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وُضُوءٍ بِالنِّيَّةِ صَحِيحًا فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ كُلُّ وُضُوءٍ بِلَا نِيَّةٍ غَيْرَ صَحِيحٍ بَلْ ذَاكَ الْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ لَا الْوُضُوءُ الَّذِي لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْيِ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى زُفَرَ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّفْيَيْنِ أَصْلًا لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّةِ وُضُوءٍ وَتَيَمُّمٍ عَلَى النِّيَّةِ عِنْدَهُ (وَيُقَرَّرُ) ثُبُوتُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا أَثَرَيْنِ لِمُؤَثِّرٍ (بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ فَالْآخَرُ) أَيْ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْأَثَرِ الْآخَرِ لِانْتِفَاءِ الْمُؤَثِّرِ لِفَرْضِ ثُبُوتِهِمَا أَثَرًا لِوَاحِدٍ وَلَيْسَ فَرْضُ كَوْنِ الثَّوَابِ وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ أَثَرَيْنِ لِلْعِبَادَةِ (يُوجِبُهُ) أَيْ التَّلَازُمَ بَيْنَ النَّفْيَيْنِ (عَلَى الْحَنَفِيِّ) لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي صِحَّةِ كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ كَوْنَهُ عِبَادَةً (وَبَيْنَ نَفْيٍ لَازِمٍ لِلثُّبُوتِ) أَيْ وَيَكُونُ التَّلَازُمُ بَيْنَ ثُبُوتِ مَلْزُومٍ وَنَفْيِ لَازِمٍ لَهُ (وَعَكْسُهُ) أَيْ وَبَيْنَ نَفْيِ مَلْزُومٍ وَثُبُوتِ لَازِمٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ هَذَا (مُبَاحٌ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) وَمِثَالُ الثَّانِي هَذَا (لَيْسَ جَائِزًا فَحَرَامٌ وَيُقَرَّرَانِ) أَيْ التَّلَازُمَانِ بَيْنَهُمَا (بِإِثْبَاتِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا) كَذَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَعَدَمِ الْحَرَامِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ عَدَمَ الْحَرَامِ أَعَمُّ مِنْ الْمُبَاحِ وَلَا بَيْنَ غَيْرِ الْجَائِزِ وَالْحَرَامِ لِأَنَّ غَيْرَ الْجَائِزِ إمَّا مُسَاوِي الْحَرَامِ أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ أَيْ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ لَكِنْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا قُصُورٌ بَلْ وَبَيْنَ الْجَائِزِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا اسْتَلْزَمَ الْمُبَاحُ عَدَمَ الْحَرَامِ وَعَكْسَهُ لَا فِي النَّفْيِ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَدَمُ الْمُبَاحِ الْحَرَامَ وَلَا عَكْسَهُ قُلْت إلَّا أَنَّ فِي اسْتِلْزَامِ عَدَمِ الْحَرَامِ الْمُبَاحَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَكْسَهُ نَظَرًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ عَدَمَ الْحَرَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُبَاحَ أَلْبَتَّةَ بَلْ كَمَا يَسْتَلْزِمُهُ يَسْتَلْزِمُ الْمَنْدُوبَ.
وَقَالَ فِي الثَّانِي وَهُوَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ الْحُرْمَةُ وَعَكْسُهُ وَمِنْ الْجَوَازِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ وَالْعَكْسُ وَيَخُصُّ هَذَا مُوَجِّهًا لَهُ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ فَقَالَ أَيْ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَنَفْيِهِ وَعَكْسُهُ يُقَرَّرَانِ بِبَيَانِ ثُبُوتِ التَّنَافِي بَيْنَ الثُّبُوتَيْنِ فَإِنْ كَانَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي الْجَمْعِ كَمَا بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ اسْتَلْزَمَ كُلٌّ مِنْ الثُّبُوتَيْنِ نَفْيَ الْآخَرِ فَيَصْدُقُ مَا كَانَ مُبَاحًا لَا يَكُونُ حَرَامًا وَإِنْ كَانَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي الْخُلُوِّ كَمَا بَيْنَ الْجَائِزِ بِمَعْنَى مَا لَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا اسْتَلْزَمَ نَفْيُ كُلٍّ مِنْ الثُّبُوتَيْنِ عَيْنَ الْآخَرِ فَيَصْدُقُ مَا لَا يَكُونُ جَائِزًا يَكُونُ حَرَامًا انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعِنَايَةَ لَا تُفِيدُهَا الْعِبَارَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالسُّبْكِيِّ أَيْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ مَعَ إبْهَامِهِ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى أَحَدِهِمَا الْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنْ الْعَجَبِ إهْمَالُ عَضُدِ الدِّينِ ثُمَّ التَّفْتَازَانِيِّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا (أَوْ) بِإِثْبَاتِ التَّنَافِي بَيْنَ (لَوَازِمِهِمَا) وَهُوَ التَّأْثِيمُ اللَّازِمُ لِفِعْلِ الْحَرَامِ وَعَدَمُهُ اللَّازِمُ لِفِعْلِ الْمُبَاحِ وَالْجَائِزِ فَيَلْزَمُ التَّنَافِي بَيْنَ مَلْزُومِهِمَا لِأَنَّ تَنَافِيَ
(3/288)
اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ (وَيَرِدُ عَلَيْهَا) أَيْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ (مَنْعُ اللُّزُومِ كَالْحَنَفِيِّ فِي الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ كَمَنْعِ الْحَنَفِيِّ التَّلَازُمَ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَنَفْيِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِلَا نِيَّةٍ وَنَفْيِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ بِلَا نِيَّةٍ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ.
(وَ) مَنْعُ (ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ وَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالْعِلَّةِ) مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْعِلَّةُ فِي التَّلَازُمِ وَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (وَيَخْتَصُّ) التَّلَازُمُ بِسُؤَالٍ لَا يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ مَنْعُ تَحَقُّقِ الْمُلَازَمَةِ (فِي مِثْلِ تَقْطَعُ الْأَيْدِيَ بِيَدٍ) وَاحِدَةٍ (كَقَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِوَاحِدٍ لِمُلَازَمَتِهِ) أَيْ الْقِصَاصِ (لِثُبُوتِ الدِّيَةِ عَلَى الْكُلِّ فِي الْأَصْلِ أَيْ النَّفْسِ لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ (أَثَرَانِ فِيهَا) أَيْ النَّفْسِ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى الْجِنَايَةِ (وَوُجِدَ أَحَدُهُمَا) أَيْ الْأَثَرَيْنِ وَهُوَ الدِّيَةُ (فِي الْفَرْعِ) أَيْ الْيَدِ (فَالْآخَرُ) أَيْ الْأَثَرُ الْآخَرُ وَهُوَ (الْقِصَاصُ) عَلَى الْكُلِّ يُؤْخَذُ فِيهِ أَيْضًا (لِأَنَّ عِلَّتَهُمَا) أَيْ الْأَثَرَيْنِ وَهُمَا الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ (فِي الْأَصْلِ إنْ) كَانَتْ (وَاحِدَةً فَظَاهِرٌ) وُجُودُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْفَرْعِ إذْ لَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ (أَوْ) كَانَتْ (مُتَعَدِّدَةً فَتَلَازُمُهُمَا) أَيْ الْأَثَرَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْجَمِيعِ (فِي الْأَصْلِ) أَيْ النَّفْسِ دَلِيلٌ (لِتَلَازُمِهِمَا) أَيْ الْعِلَّتَيْنِ فَوُجُودُ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ وَهُوَ الدِّيَةُ فِي الْفَرْعِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ عِلَّةِ الْأَثَرِ الْآخَرِ (فَيَثْبُتُ) الْأَثَرُ (الْآخَرُ) وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا لِثُبُوتِ عِلَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ (فَيَرِدُ) الْوَارِدُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمِثَالِ وَهُوَ (تَجْوِيزُ كَوْنِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْأَثَرِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتُ الدِّيَةِ عَلَى الْكُلِّ (بِعِلَّةٍ) فِي الْفَرْعِ أَيْ الْيَدِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْكُلِّ ثُمَّ (لَا تَقْتَضِي قَطْعَ الْأَيْدِي) بِالْيَدِ (وَلَا) تَقْتَضِي (مُلَازَمَةَ مُقْتَضِيهِ) أَيْ قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ.
(وَفِي الْأَصْلِ) أَيْ النَّفْسِ (بِأُخْرَى تَقْتَضِيهِمَا) أَيْ الْقِصَاصَ وَوُجُوبَ الدِّيَةِ (أَوْ) بِعِلَّةٍ أُخْرَى (لَا تَلَازُمَ مُقْتَضٍ قَبْلَ الْكُلِّ وَيُرَجَّحُ) الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ ثُبُوتِهِ فِي الرَّفْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى (بِاتِّسَاعِ مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ) أَيْ أَدِلَّتِهَا الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا فَإِنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يُوجِبُ التَّعَدُّدَ فِي مُدْرَكِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ (وَهُوَ) أَيْ اتِّسَاعُ مَدَارِك الْأَحْكَامِ (أَكْثَرُ فَائِدَةً وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ (الْأَصْلُ عَدَمُ) عِلَّةٍ (أُخْرَى) (وَيُرَجَّحُ الِاتِّحَادُ) أَيْ اتِّحَادُ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الدِّيَةُ مَثَلًا عَلَى تَعَدُّدِهَا (بِأَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ الْمُتَّحِدَةَ (مُنْعَكِسَةٌ) وَالْمُنْعَكِسَةُ عِلَّةٌ بِاتِّفَاقٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَالْمُتَّفِقُ عَلَيْهَا أَرْجَحُ (فَإِنْ دَفَعَهُ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ (بِأَنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا عَدَمُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ قَالَ) الْمُسْتَدِلُّ إذَا تَعَارَضَ الْأَصْلَانِ وَتَسَاقَطَا كَانَ التَّرْجِيحُ مَعَنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ الْعِلَّةُ (الْمُتَعَدِّيَةُ) مِنْ النَّفْسِ إلَى الْيَدِ (أَوْلَى) مِنْ الْقَاصِرَةِ عَلَى النَّفْسِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا وَالْخِلَافُ فِي الْقَاصِرَةِ وَلِكَثْرَتِهَا وَقِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَإِنَّا إذَا أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ فَقَدْ عَدَّيْنَاهَا مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا فَقَدْ قَصَرْنَا عِلَّةَ الْأَصْلِ عَلَى الْأَصْلِ وَعِلَّةَ الْفَرْعِ عَلَى الْفَرْعِ قَالَ (الْآمِدِيُّ وَمِنْهُ) أَيْ الِاسْتِدْلَالِ (وُجِدَ السَّبَبُ) فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُلْزِمُهُ الْمَطْلُوبُ بِتَقْدِيرِ تَحَقُّقِهِ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا وَمَا ذَكَرَ كَذَلِكَ وَالْمَطْلُوبُ وَإِنْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى الدَّلِيلِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ فَوُجُودُ الدَّلِيلِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى وُجُودِهِ بَلْ تَمَيُّزُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا دُورَ كَمَا فِي مُنْتَهَى السُّولِ لَهُ أَيْ الْمَطْلُوبُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ وَالدَّلِيلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى لُزُومِ الْمَطْلُوبِ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ فَلَا دُورَ ثُمَّ قَالَ وَلَيْسَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا لِاحْتِمَالِ تَقْرِيرِ سَبَبِيَّةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
(وَ) وُجِدَ (الْمَانِعُ وَفُقِدَ الشَّرْطُ) فَيُعْدَمُ الْحُكْمُ (وَنُفِيَ الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ مُدْرَكِهِ) وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ (وَالْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ عَلَى نَفْيِهِ) أَيْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ (إذْ هُوَ دَعْوَى الدَّلِيلِ) فَهُوَ بِمَثَابَةِ وُجِدَ دَلِيلُ الْحُكْمِ فَيُوجَدُ فَلَا يُسْمَعُ مَا لَمْ يُعَيِّنْ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى وُجُودُهُ (فَالدَّلِيلُ وُجُودُ الْمُعَيَّنِ) أَيْ الْمُقْتَضِي أَوْ الْمَانِعِ أَوْ فَقْدِ الشَّرْطِ (مِنْهَا) أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْحُكْمِ (وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ) أَيْ الْمَذْكُورَ (دَلِيلٌ) وَهُوَ مَثَلًا هَذَا حُكْمٌ وُجِدَ سَبَبُهُ وَكُلُّ حُكْمٍ وُجِدَ سَبَبُهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ
(3/289)
(بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهِ نَظَرِيَّةٌ) وَهِيَ الصُّغْرَى فَإِنَّ الْكُبْرَى بَيِّنَةٌ (وَالْمُخْتَارُ) عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ (إنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ) أَيْ وُجُودُ السَّبَبِ أَوْ الْمَانِعُ أَوْ فَقْدُ الشَّرْطِ (بِأَحَدِهَا) وَهُوَ سَهْوٌ وَالصَّوَابُ بِغَيْرِهَا أَيْ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ (فَاسْتِدْلَالٌ وَإِلَّا) فَإِنْ ثَبَتَ بِأَحَدِهَا (فَبِأَحَدِهَا) أَيْ فَهُوَ ثَابِتٌ بِأَحَدِهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ (وَعَلَى هَذَا) التَّفْصِيلِ (يَرِدُ الِاسْتِدْلَال مُطْلَقًا إلَى أَحَدِهَا إذْ ثُبُوتُ ذَلِكَ التَّلَازُمِ لَا بُدَّ فِيهِ شَرْعًا مِنْهُ) أَيْ مِنْ أَحَدِهَا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ التَّلَازُمُ ثَابِتًا شَرْعًا بِأَحَدِهَا (فَلَيْسَ) ذَلِكَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ (حُكْمًا شَرْعِيًّا) لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِأَحَدِهَا.
(فَالْحَقُّ أَنَّهُ) أَيْ الِاسْتِدْلَالَ (كَيْفِيَّةُ اسْتِدْلَالٍ) بِأَحَدِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ (لَا) دَلِيلَ (آخَرَ غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ وَتَقَدَّمَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا) قَبْلَ فَصْلِ التَّعَارُضِ بِمَسْأَلَتَيْنِ (وَيُرَدُّ إلَى الْكِتَابِ) بِقَصِّهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ (وَالسُّنَّةِ) بِقَصِّهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ (وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ) وَمَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ (وَرُدَّ إلَى السُّنَّةِ) حَيْثُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَلِيهَا فَصْلُ التَّعَارُضِ (وَرُدَّ الِاسْتِصْحَابُ إلَى مَا بِهِ ثَبَتَ الْأَصْلُ الْمَحْكُومُ بِاسْتِمْرَارِهِ)
(فَهُوَ) أَيْ الِاسْتِصْحَابُ (الْحُكْمُ) ظَنًّا (بِبَقَاءِ أَمْرٍ تَحَقَّقَ) سَابِقًا (وَلَمْ يَظُنَّ عَدَمَهُ) بَعْدَ تَحَقُّقِهِ (وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ) السَّمَرْقَنْدِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالْحَنَابِلَةُ (مُطْلَقًا) أَيْ لِلْإِثْبَاتِ وَالدَّفْعِ (وَنَفَاهُ) أَيْ كَوْنَهُ حُجَّةً (كَثِيرٌ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ (مُطْلَقًا) أَيْ لِلْإِثْبَاتِ وَالدَّفْعِ (وَأَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ) وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَمُتَابِعُوهُمْ قَالُوا هُوَ حُجَّةٌ (لِلدَّفْعِ) لَا لِلْإِثْبَاتِ (وَالْوَجْهُ لَيْسَ حُجَّةٌ) أَصْلًا كَمَا قَالَ الْكَثِيرُ (وَالدَّفْعُ اسْتِمْرَارُ عَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الطَّارِئِ (الْأَصْلِيِّ) عَلَى مَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ (لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُجُودِ لَيْسَ مُوجِبَ بَقَائِهِ) أَيْ الْوُجُودِ وَكَيْفَ لَا وَبَقَاءُ الشَّيْءِ غَيْرُ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ بَعْدَ الْحُدُوثِ (فَالْحُكْمُ بِبَقَائِهِ) أَيْ الْوُجُودِ يَكُونُ (بِلَا دَلِيلٍ قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا الْحُكْمُ ظَنًّا بِالْبَقَاءِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الِاسْتِصْحَابِ أَمْرٌ (ضَرُورِيٌّ لِتَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ بِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الْحُكْمِ ظَنًّا بِالْبَقَاءِ الْمَذْكُورِ (مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ وَالْهَدَايَا) مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْلَا الْحُكْمُ ظَنًّا بِالْبَقَاءِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ ذَلِكَ سَفَهًا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِذْ ثَبَتَ الْحُكْمُ ظَنًّا بِالْبَقَاءِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُتَّبَعٌ كَمَا عُرِفَ.
(وَمِنْهُمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا (مَنْ اسْتَبْعَدَهُ) أَيْ كَوْنَهُ حُجَّةً بِالضَّرُورَةِ (فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَعَدَلُوا إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يَجْزِمْ بِبَقَاءِ الشَّرَائِعِ مَعَ احْتِمَالِ الرَّفْعِ) أَيْ طَرَيَانِ النَّاسِخِ وَاللَّازِمِ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِبَقَاءِ شَرِيعَةِ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بِعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقَاءِ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا (وَ) إلَى (الْإِجْمَاعِ) أَيْضًا (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ أَيْ اعْتِبَارُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْفُرُوعِ كَمَا (فِي نَحْوِ بَقَاءِ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمِلْكِ) إذَا ثَبَتَ (مَعَ طُرُوِّ الشَّكِّ) فِي طَرَيَانِ الضِّدِّ (وَأُجِيبَ) عَنْ الْأَوَّلِ (بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ لِجَوَازِهِ) أَيْ الْجَزْمِ بِبَقَائِهَا وَالْقَطْعِ بِعَدَمِ نَسْخِهَا (بِغَيْرِهِ) أَيْ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الِاسْتِصْحَابِ (كَتَوَاتُرِ إيجَابِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ لِأَهْلِهَا (إلَى ظُهُورِ النَّاسِخِ) وَوُجُودِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَتِلْكَ الْفُرُوعُ) لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ بَلْ (لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تُوجِبُ أَحْكَامًا مُمْتَدَّةً) مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَعَدَمِ جَوَازِهَا وَحِلِّ الْوَطْءِ وَالِانْتِفَاعِ بِحَسَبِ وَضْعِ الشَّارِعِ (إلَى ظُهُورِ النَّاقِضِ شَرْعًا وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ الْخِلَافِ) فِي كَوْنِ الِاسْتِصْحَابِ حُجَّةً أَوْ لَا مَبْنِيٌّ (عَلَى أَنَّ سَبْقَ الْوُجُودِ مَعَ عَدَمِ ظَنِّ الِانْتِفَاءِ هَلْ هُوَ دَلِيلُ الْبَقَاءِ فَقَالُوا) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ (نَعَمْ فَلَيْسَ الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ بِالِاسْتِصْحَابِ حُكْمًا (بِلَا دَلِيلٍ وَالْحَنَفِيَّةُ) قَالُوا (لَا إذْ لَا بُدَّ فِي الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةٍ يَسْتَلْزِمُ بِهَا) الْمَطْلُوبَ (وَهِيَ) أَيْ الْجِهَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لَهُ (مُنْتَفِيَةٌ) فِي حَقِّ الْبَقَاءِ (فَتَفَرَّعَتْ الْخِلَافِيَّاتُ) بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (فَيَرِثُ الْمَفْقُودُ) مِنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ (عِنْدَهُ) أَيْ
(3/290)
الشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِاسْتِصْحَابِ حَيَاتِهِ الْمُفِيدَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ (لَا عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ وَحَيَاتَهُ بِالِاسْتِصْحَابِ فَلَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ.
(وَلَا يُورَثُ لِأَنَّهُ) أَيْ عَدَمَ الْإِرْثِ (دَفْعٌ) لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَثْبُتُ بِالِاسْتِصْحَابِ (وَعَلَى مَا حَقَّقْنَا عَدَمُهُ أَصْلِيٌّ) مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَأَنَّ الدَّفْعَ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لِلْأَمْرِ الطَّارِئِ إنَّمَا لَا يُورَثُ (لِعَدَمِ سَبَبِهِ) أَيْ الْإِرْثِ (إذْ لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ) أَيْ الْمَفْقُودِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ (وَلَا صُلْحَ عَلَى إنْكَارٍ) أَيْ لَا صِحَّةَ لَهُ مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (لِإِثْبَاتِ اسْتِصْحَابِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ) لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي (كَالْيَمِينِ وَصَحَّ) الصُّلْحُ عَلَى إنْكَارٍ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَكُونُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي فَيَصِحُّ الصُّلْحُ (وَلَمْ تَجِبْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّفِيعِ) عَلَى الْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ بِهِ لِإِنْكَارِ الْمُشْتَرِي الْمِلْكَ الْمَشْفُوعَ بِهِ لِلشَّفِيعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَإِنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ وَالْإِلْزَامِ جَمِيعًا عِنْدَهُ (وَوَجَبَتْ) الْبَيِّنَةُ الْمَذْكُورَةُ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ هَذَا وَأَمَّا السُّبْكِيُّ فَقَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَشْخِيصِهِ فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الِاسْتِصْحَابُ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ
الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ
وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمْت مَوَارِدَ اسْتَفْعَلَ فِي اللُّغَةِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحِ الْأُصُولِيِّينَ الِاتِّخَاذُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا بَابُ مَا اتَّخَذُوهُ دَلِيلًا وَالسِّرُّ فِي جَعْلِ هَذَا الْبَابِ مُتَّخَذًا دُونَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ قَامَ الْقَاطِعُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُعْتَبَرُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَكَانَ مَنَالُهَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ صُنْعِهِمْ لِاجْتِهَادِهِمْ بَلْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَأَمَّا مَا عُقِدَ لَهُ هَذَا الْبَابُ فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ قَالَهُ كُلُّ إمَامٍ بِمُقْتَضَى تَأْدِيَةِ اجْتِهَادِهِ فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَهُ دَلِيلًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ يُسْتَدَلُّ بِالِاسْتِصْحَابِ وَمَالِكُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَتَّخِذَ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَلِكَ دَلِيلًا كَمَا يَقُولُ يُحْتَجُّ بِكَذَا وَهَذَا مَعْنًى مَلِيحٌ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ التَّقْلِيدِ وَالْإِفْتَاءِ]
(الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ)
مِنْ التَّقْلِيدِ وَالْإِفْتَاءِ (هُوَ) أَيْ الِاجْتِهَادُ (لُغَةً بَذْلُ الطَّاقَةِ فِي تَحْصِيلِ ذِي كُلْفَةٍ) أَيْ مَشَقَّةٌ يُقَالُ اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ الصَّخْرَةِ وَلَا يُقَالُ اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ النَّوَاةِ وَالْمُرَادُ بِبَذْلِ الْوُسْعِ اسْتِفْرَاغُ الْقُوَّةُ بِحَيْثُ يَحْسُنُ الْعَجْزُ عَنْ الْمَزِيدِ (وَاصْطِلَاحًا ذَلِكَ) أَيْ بَذْلُ الطَّاقَةِ (مِنْ الْفَقِيهِ فِي تَحْصِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ) فَبَذْلُ الطَّاقَةِ جِنْسٌ يَصْلُحُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى خُرُوجِ اجْتِهَادِ الْمُقَصِّرِ وَهُوَ الَّذِي يَقِفُ عَنْ الطَّلَبِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ السَّعْيِ فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ لَا يُعَدُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اجْتِهَادًا مُعْتَبَرًا وَمِنْ الْفَقِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ بَذْلِ الطَّاقَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ اصْطِلَاحِيٍّ. وَفِي تَحْصِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ احْتِرَازٌ مِنْ بَذْلِهَا مِنْهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ حِسِّيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ أَيْضًا وَظَنِّيٍّ قِيلَ لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَسَيَأْتِي مَنْعُهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْأَحْكَامِ فِي الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ وُسْعِ الْبَشَرِ (وَنَفْيُ الْحَاجَةِ إلَى قَيْدِ الْفَقِيهِ) كَمَا ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ (لِلتَّلَازُمِ بَيْنَهُ) أَيْ الْفَقِيهِ (وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ) فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ فَقِيهًا إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْفِقْهِ التَّهَيُّؤَ لِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ (سَهْوٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ) جِنْسًا فِي التَّعْرِيفِ إنَّمَا هُوَ (بَذْلُ الطَّاقَةِ لَا الِاجْتِهَادُ وَيُتَصَوَّرُ) بَذْلُ الطَّاقَةِ (مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ الْفَقِيهِ (فِي طَلَبِ حُكْمٍ) شَرْعِيٍّ وَالظَّاهِرُ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فَقِيهٌ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ وَلَا مُجْتَهِدٌ غَيْرُ فَقِيهٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَأْخَذِهَا. (وَشُيُوعُ الْفَقِيهِ لِغَيْرِهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ (مِمَّنْ يَحْفَظُ الْفُرُوعَ) إنَّمَا هُوَ (فِي غَيْرِ اصْطِلَاحِ الْأُصُولِ) وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِ (ثُمَّ هُوَ) أَيْ هَذَا التَّعْرِيفُ
(3/291)
لَيْسَ تَعْرِيفًا لِلِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا بَلْ (تَعْرِيفٌ لِنَوْعٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ) وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ (لِأَنَّ مَا) أَيْ الِاجْتِهَادَ (فِي الْعَقْلِيَّاتِ اجْتِهَادٌ غَيْرَ أَنَّ الْمُصِيبَ) فِي الْعَقْلِيَّاتِ (وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ آثِمٌ وَالْأَحْسَنُ تَعْمِيمُهُ) أَيْ التَّعْرِيفِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ظَنِّيًّا كَانَ أَوْ قَطْعِيًّا (بِحَذْفِ ظَنِّيٍّ) فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيِّ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَا بَيْنَ أَصْلِيٍّ وَفَرْعِيٍّ غَايَتُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْمُخَالِفَ فِيهِ مُخْطِئٌ آثِمٌ فِي نَوْعٍ مِنْهُ غَيْرَ آثِمٍ فِي نَوْعٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي نَعَمْ إنْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ لَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِثْمِ الْمُخْطِئِ فِيهِ اُحْتِيجَ إلَى قَيْدٍ مُخْرِجٍ لِمَا يَكُونُ الْمُخْطِئُ آثِمًا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَالشَّأْنُ فِي ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْآمِدِيِّ وَالرَّازِيِّ وَمُوَافِقِهِمَا الْمُجْتَهَدُ فِيهِ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ.
(ثُمَّ يَنْقَسِمُ) الِاجْتِهَادُ (مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ) الْمُتَعَلِّقُ بِهِ (إلَى وَاجِبٍ عَيْنًا عَلَى الْمَسْئُولِ) عَلَى الْفَوْرِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ (إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَادِثَةِ) عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ إذَا نَزَلَتْ الْحَادِثَةُ بِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا (وَكِفَايَةً) أَيْ وَإِلَى وَاجِبٍ كِفَايَةً عَلَى الْمَسْئُولِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ (لَوْ لَمْ يَخَفْ) فَوَاتَ الْحَادِثَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ (وَثَمَّ غَيْرُهُ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَتَوَجَّهُ الْوُجُوبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَأَخَصُّهُمْ بِوُجُوبِهِ مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْحَادِثَةِ حَتَّى لَوْ أَمْسَكُوا مَعَ ظُهُورِ الْجَوَابِ وَالصَّوَابِ لَهُمْ أَثِمُوا وَإِنْ أَمْسَكُوا مَعَ الْتِبَاسِهِ عَلَيْهِمْ عُذِرُوا وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ الطَّلَبُ وَكَانَ فَرْضُ الْجَوَابِ بَاقِيًا عِنْدَ ظُهُورِ الصَّوَابِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَيَأْثَمُونَ بِتَرْكِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ حَيْثُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِهِ (وَيَسْقُطُ) الْوُجُوبُ عَنْ الْكُلِّ (بِفَتْوَى أَحَدِهِمْ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا (وَعَلَى هَذَا) أَيْ سُقُوطِ الْوُجُوبِ بِفَتْوَى أَحَدِهِمْ لَوْ أَنَّ مُجْتَهِدًا ظَنَّ خَطَأَ الْمُفْتِي فِيمَا أَجَابَ بِهِ (لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ) أَيْ الْجَوَابَ (خَطَأً) الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِسُقُوطِ الْوُجُوبِ بِذَلِكَ الِاجْتِهَادِ هَذَا وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الْإِثْمِ بِالرَّدِّ إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمَسْئُولِ وَأَصَحُّهُمَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْوَاقِعَةِ شُهُودٌ يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِبَعْضِهِمْ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ إذَا طُلِبَ الْأَدَاءُ مِنْ الْبَعْضِ قَالَ وَفِي الْفَرْقِ غُمُوضٌ انْتَهَى قِيلَ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْفَتْوَى تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَفِكْرٍ وَالْمُشَوَّشَاتُ كَثِيرَةٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ (وَكَذَلِكَ حُكْمٌ تَرَدَّدَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ) مُجْتَهِدَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي النَّظَرِ فِيهِ يَكُونُ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وُجُوبَ كِفَايَةٍ (أَيُّهُمَا حَكَمَ بِشَرْطِهِ) الْمُعْتَبَرِ فِيهِ شَرْعًا (سَقَطَ) الْوُجُوبُ عَنْهُمَا وَإِنْ تَرَكَاهُ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَا (وَ) إلَى (مَنْدُوبٍ) وَهُوَ مَا (قَبْلَهُمَا) أَيْ وُجُوبِهِ عَيْنًا وَوُجُوبِهِ كِفَايَةً كَالِاجْتِهَادِ فِي حُكْمِ شَيْءٍ بِلَا سُؤَالٍ عَنْهُ وَلَا نُزُولِهِ لِيَطَّلِعَ عَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ (وَمَعَ سُؤَالٍ فَقَطْ) أَيْ وَفِيمَا يُسْتَفْتَى عَنْ حُكْمِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ (وَ) إلَى (حَرَامٍ) وَهُوَ الِاجْتِهَادُ (فِي مُقَابَلَةِ) دَلِيلٍ (قَاطِعٍ) مِنْ (نَصٍّ) (أَوْ إجْمَاعٍ)
(وَشَرْطُ مُطْلَقِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ (بَعْدَ صِحَّةِ إيمَانِهِ) بِمَعْرِفَةِ الْبَارِي تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُعْجِزَاتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِالْأَدِلَّةِ الْإِجْمَالِيَّةِ دُونَ التَّدْقِيقَاتِ التَّفْصِيلِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ دَأْبُ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي الْكَلَامِ وَبُلُوغُهُ وَعَقْلُهُ (مَعْرِفَةُ مَحَالِّ جُزْئِيَّاتِ مَفَاهِيمِ الْأَلْقَابِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمَتْنِ مِنْ شَخْصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الظُّهُورِ كَالظَّاهِرِ) وَالنَّصِّ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ (وَالْعَامِّ) وَالْخَاصِّ (وَالْخَفَاءِ كَالْخَفِيِّ وَالْمُجْمَلِ) وَالْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي انْقِسَامَاتِ الْمُفْرَدِ السَّابِقَةِ فِي فُصُولِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا عِنْدَ طَلَبِ الْحُكْمِ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ الْكِتَابِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ قِيلَ: وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَوَّلَ مَنْ أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِالتَّصْنِيفِ ذَكَرَهَا خَمْسَمِائَةٍ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ أَرَادَ الظَّاهِرَةَ لَا الْحَصْرَ، وَمِنْ السُّنَّةِ خَمْسَمِائَةِ حَدِيثٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ وَحُمِلَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفُتْيَا، أَوْ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَدْ قَالَ: الْأُصُولُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ لَا مَعْرِفَةُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ فِي السُّنَّةِ ظَاهِرٌ لِتَعَذُّرِهِ لِسَعَتِهَا
(3/292)
وَإِلَّا لَانْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْد الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ اجْتَهَدَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَسْتَحْضِرُوا فِيهَا النُّصُوصَ حَتَّى رُوِيَتْ لَهُمْ فَرَجَعُوا إلَيْهَا.
وَأَمَّا فِي الْقُرْآنِ فَقِيلَ: مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْجَمِيعِ بِالضَّرُورَةِ، وَتَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مُتَفَاوِتُونَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وَمَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ بِالْمُطَابَقَةِ لَا بِالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ إذْ غَالِبُ الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (وَهِيَ) أَيْ جُزْئِيَّاتُ تِلْكَ الْمَفَاهِيمِ (أَقْسَامُ اللُّغَةِ مَتْنًا وَاسْتِعْمَالًا لَا حِفْظُهَا) أَيْ الْمَحَالِّ الْمَذْكُورَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ حِفْظُ مَا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْقُرْآنِ وَنُقِلَ فِي الْقَوَاطِعِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ وَنَقَلَهُ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي الْمُسْتَوْعِبِ عَنْ الشَّافِعِيِّ قُلْت وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ نَعَمْ الْحِفْظُ أَحْسَنُ كَمَا تَعْلِيلُ اللُّزُومِ يُفِيدُهُ (وَلِلسَّنَدِ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالضَّعِيفِ وَالْعَدْلِ وَالْمَسْتُورِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) قَالُوا: وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَكَثْرَةِ الْوَسَائِطِ كَالْمُتَعَذِّرِ فَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِتَعْدِيلِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِ صِحَّةُ مَذْهَبِهِمْ فِي التَّعْدِيلِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ (وَعَدَمُ الْقَاطِعِ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَعْرِفَةُ " (وَ) عَدَمُ (النَّسْخِ) وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ خَافٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَفَهْمُ الْمُرَادِ مِنْ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ وَاعْتِبَارُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْقَاطِعِ وَلَا مَنْسُوخٍ وَلَا مُجْمَعٍ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى هَذَا يُزَادُ وَمَعْرِفَتُهُ بِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَخْرِقَهُ، وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَذْهَبَ ذِي مَذْهَبٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّهُ وَاقِعَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ لَا خَوْضَ فِيهَا لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ.
(وَ) شَرْطُ (الْخَاصِّ مِنْهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ (مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ آنِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ (فِيمَا فِيهِ) الِاجْتِهَادُ (كَذَا لِكَثِيرٍ) مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدِيعِ (بِلَا حِكَايَةِ عَدَمِ جَوَازِ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ) أَيْ أَنْ يُقَالَ شَخْصُ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا) أَيْ حِكَايَةَ عَدَمِ جَوَازِ تَجَزِّيهِ (وَعَلَيْهِ) أَيْ جَوَازِ تَجَزِّيهِ
(فَرْعٌ) أَنَّهُ يَجُوزُ (اجْتِهَادُ الْفَرَضِيِّ فِي) عِلْمِ (الْفَرَائِضِ) بِأَنْ يَعْلَمَ أَدِلَّتَهُ بِاسْتِقْرَاءٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ مُجْتَهِدٍ كَامِلٍ وَيَنْظُرُ فِيهَا (دُونَ غَيْرِهِ) مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ فِيهَا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ (وَقَدْ حُكِيَتْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا وَذُكِرَ فِيهَا جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُسْتِيُّ مِنْ مَشَايِخِنَا وَمُخْتَارُ الْغَزَالِيِّ وَنَسَبَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى الْأَكْثَرِ وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ الْحَقُّ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ التَّقْلِيدُ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ التَّوَقُّفُ (وَاخْتَارَ طَائِفَةٌ نَفْيَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ (وَإِنْ ظَنَّ حُصُولَ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ لَهَا) أَيْ لِلْمَسْأَلَةِ الَّتِي هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا (احْتَمَلَ غَيْبَةَ بَعْضِهِ) أَيْ مَا يَحْتَاجُهُ لَهَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي ظَنِّ الْحُكْمِ (عَنْهُ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ) الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ (كَذَلِكَ لِلْمُطْلَقِ) أَيْ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ ظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمَا حُصُولَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ (لَكِنَّهُ) أَيْ هَذَا الِاحْتِمَالُ (يَضْعُفُ) أَوْ يَنْعَدِمُ (فِي حَقِّهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ (لِسِعَتِهِ) أَيْ نَظَرِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْكُلِّ بِحَسَبِ ظَنِّهِ فَيَبْقَى ظَنُّهُ بِالْحُكْمِ بِحَالِهِ (وَيَقْوَى فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِ بِالْكُلِّ بِحَسَبِ ظَنِّهِ فَلَا يَبْقَى بِالْحُكْمِ بِحَالِهِ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ وَقَدَحَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ.
(وَقَدْ يَمْنَعُ التَّفَاوُتُ)
(3/293)
أَيْ تَفَاوُتُهُمَا مَا فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ (بَعْدَ كَوْنِ الْآخَرِ) الَّذِي لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ مُطْلَقٍ (قَرِيبًا) مِنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مُحَصِّلًا فِي ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ بِخُصُوصِهِ مَا حَصَّلَهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ (بَلْ) ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَطْلُوبِ الْخَاصِّ (مِثْلُهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فِيهِ (وَسَعَتُهُ) أَيْ الْمُطْلَقِ (بِحُصُولِ مَوَادَّ أُخْرَى لَا تُوجِبُهُ) أَيْ التَّفَاوُتَ فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِيهِ (فَإِذَا وَقَعَ) الِاجْتِهَادُ (فِي) مَسْأَلَةٍ (صَلَوِيَّةٍ) أَيْ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ (وَفَرْضُ) وُجُودِ (مَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ فَسَعَةُ الْآخَرِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ (بِحُضُورِ مَوَادِّ) الْأَحْكَامِ (الْبَيْعِيَّاتِ وَالْغَصْبِيَّاتِ) وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَثَلًا (شَيْءٌ آخَرُ) لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا وَحَيْثُ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ فَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ (وَأَمَّا مَا قِيلَ) مِنْ قِبَلِ الْمُثْبِتِينَ (لَوْ شُرِطَ) عَدَمُ التَّجَزُّؤِ لِلِاجْتِهَادِ (شُرِطَ فِي الِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ بِكُلِّ الْمَآخِذِ) أَيْ الْأَدِلَّةِ.
(وَيَلْزَمُ) هَذَا (عِلْمُ كُلِّ الْأَحْكَامِ) وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ تَوَقَّفُوا فِي مَسَائِلَ بَلْ لَمْ يُحِطْ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عِلْمًا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى (فَمَمْنُوعُ الْمُلَازَمَةِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْمَآخِذِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ (لِلْوَقْفِ بَعْدَهُ) أَيْ الْعِلْمِ بِكُلِّ الْمَآخِذِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ (عَلَى الِاجْتِهَادِ) ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ الِاجْتِهَادُ وَلَا يُوجَدُ الْحُكْمُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاعِ عَلَى مُرَجِّحٍ أَوْ لِتَشْوِيشِ فِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا قُلْت ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ تَقْيِيدِ صِحَّةِ جَوَازِ التَّجَزُّؤِ بِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ضَبْطِ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا لَا مُوجِبَ لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ: الْحَقُّ التَّفْصِيلُ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ كُلِّيًّا كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَازِيِّ الْكَلَامِ، وَمَا يُقْبَلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ أَوْ بَابٍ، فَإِذَا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ كَانَ فَرْضُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ فَحَسَنٌ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ قَوْلٌ مُفَصَّلٌ بَيْنَ الْمَنْعِ وَالْجَوَازِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُطْلِقِينَ لِتَجَزِّي الِاجْتِهَادِ. غَايَتُهُ أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَحِلِّ الْخِلَافِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(وَأَمَّا الْعَدَالَةُ) فِي الْمُجْتَهِدِ (فَشَرْطُ قَبُولِ فَتْوَاهُ) فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ لَا شَرْطُ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاسِقِ قُوَّةَ الِاجْتِهَادِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ وَلَا عِلْمُ الْكَلَامِ وَلَا عِلْمُ الْفِقْهِ لِإِمْكَانِ حُصُولِ قُوَّةِ الِاجْتِهَادِ بِدُونِهَا وَانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ لِاشْتِرَاطِهَا، أَمَّا الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَالُوا: لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ لِلْجَازِمِ بِالْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا، وَأَمَّا عِلْمُ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ وَثَمَرَتُهُ. نَعَمْ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
[مَسْأَلَةٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَأْمُورٌ فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ]
(مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) الْمُتَأَخِّرِينَ مَا عَنْ أَكْثَرِهِمْ (أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَأْمُورٌ) فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا (بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ أَوَّلًا مَا كَانَ رَاجِيهِ) أَيْ الْوَحْيِ (إلَى خَوْفِ فَوْتِ الْحَادِثَةِ) بِلَا حُكْمٍ (ثُمَّ بِالِاجْتِهَادِ) ثَانِيًا إذَا مَضَى وَقْتُ الِانْتِظَارِ، وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَحْيِ إلَيْهِ فِيهَا إذْنٌ فِي الِاجْتِهَادِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ كَوْنُ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ مُفَسَّرَةً بِهَذَا، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ الِاجْتِهَادُ (فِي حَقِّهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخُصُّ الْقِيَاسَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (فَفِي دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ) عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِعُرُوضِ خَفَاءٍ وَاشْتِبَاهٍ فِيهِ يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهَا الِاجْتِهَادُ (وَ) فِي (الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصِ الْعَامِّ وَ) بَيَانُ (الْمُرَادِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَبَاقِيهَا) أَيْ الْأَقْسَامِ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُرَادِ خَفَاءٌ مِنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ غَيْرَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الْمُجْمَلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الْفَحْصِ عَمَّا جَاءَ مِنْ بَيَانِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُجْمَلِ لِيَقِفَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْهُ لِمَا عُلِمَ مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ الْمُرَادُ بِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ الْمُجْمَلِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْبَيَانُ مُحْتَاجًا فِي تَحَقُّقِ الْمُرَادِ بِهِ إلَى نَوْعِ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ قَدْ يُنَالُ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ
(3/294)
غَيْرِ الْمُجْمَلِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ فَيُوَافِقُ الْأَقْسَامَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا خَفَاءٌ فِي أَنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهِ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.
ثُمَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لَهَا أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّ هَذَا وَاضِحٌ لَدَيْهِ بِلَا اجْتِهَادٍ (وَ) فِي (التَّرْجِيحِ) لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ (عِنْدَ التَّعَارُضِ) بَيْنَهُمَا (لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُتَأَخِّرِ) أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ، وَأَمَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي حَقِّهِ لِانْتِفَاءِ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَانْتِفَاءِ عُزُوبِ تَأَخُّرِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ عَنْ عِلْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ صُورَةِ التَّعَارُضِ (فَإِنْ أَقَرَّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عِنْدَ خَوْفِ الْحَادِثَةِ (أَوْجَبَ) إقْرَارُهُ عَلَيْهِ (الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ) أَيْ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ اجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ أَوْ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ (فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ) كَالنَّصِّ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إلَى اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) عَلَى مَا عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ وَسَمَّاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْوَحْيِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ صَوَابًا لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُجَّةً قَاطِعَةً.
(وَالْوَحْيُ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ (بَاطِنٌ هَذَا) الِاجْتِهَادُ الَّذِي أُقِرَّ عَلَيْهِ (وَظَاهِرٌ ثَلَاثَةٌ) مِنْ الْأَقْسَامِ (مَا يَسْمَعُهُ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ الْمَلَكِ شِفَاهًا) بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ مَلَكٌ نَازِلٌ بِالْوَحْيِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدْسِ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وَبِالرُّوحِ الْأَمِينِ فِي قَوْله تَعَالَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وَبِرَسُولٍ كَرِيمٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ هُوَ وَهَذَا أَحَدُهَا (أَوْ) مَا (يُشِيرُ إلَيْهِ) الْمَلَكُ (إشَارَةً مُفْهِمَةً) لِلْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ (وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (الْحَدِيثَ) أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْهَا مَا عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: هَلُمُّوا إلَيَّ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا قَدَامَةَ بْنَ زَائِدَةَ بْنِ قَدَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنِي فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ وَنَفَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي رُوعِي بِضَمِّ الرَّاءِ أَلْقَى فِي قَلْبِي وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ أَيْ لِلرِّزْقِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ تَرْكِ الْمُبَالَغَةِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْحِرْصِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْكَسْبِ وَهَذَا ثَانِيًا. (أَوْ) مَا (يُلْهَمُهُ، وَهُوَ) أَيْ الْإِلْهَامُ (إلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلَا وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٌ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى (مِنْهُ تَعَالَى جَعَلَهُ وَحْيًا ظَاهِرًا) وَهَذَا ثَالِثُهَا، وَلَمَّا كَانَ مِمَّا يَتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا بَاطِنٌ أَشَارَ إلَى نَفْيِهِ بِتَوْجِيهِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ (إذْ فِي الْمَلَكِ) أَيْ مُشَافَهَتِهِ (لَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ) الْعِلْمِ (الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ) أَيْ الْمُخَاطَبُ (هُوَ) أَيْ الْمَلَكُ فَلَمْ يُخَالِفْهُ إلَّا بِعَدَمِ مُشَافَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ عَدَّهُ ظَاهِرًا
(وَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْإِلْهَامِ وَحْيًا (كَانَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً) (عَلَيْهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَعَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ إلْهَامِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ فِيهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْمِيزَانِ مَعْزُوٌّ إلَى قَوْمٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ بَلْ عُزِيَ فِيهِ إلَى صِنْفٍ مِنْ الرَّافِضَةِ لُقِّبُوا بِالْجَعْفَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ سِوَاهُ.
ثَانِيهَا: حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَيْ
(3/295)
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إلَيْهِ، وَعَزَاهُ فِيهِ إلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضُهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ (ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ فِيهِ) أَيْ إلْهَامُ غَيْرِهِ أَنَّهُ (لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ وَلَا) عَلَى (غَيْرِهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ نِسْبَتَهُ) أَيْ الْمُلْهَمِ بِهِ (إلَيْهِ تَعَالَى) هَذَا وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَ الْوَحْيَ الظَّاهِرَ قِسْمَيْنِ مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ، وَمَا ثَبَتَ بِإِشَارَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاطِنَ مَا ثَبَتَ بِالْإِلْهَامِ قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْأَتْقَانِيُّ: وَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْقَلْبِ بِالْإِلْهَامِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ هُوَ بَاطِنٌ، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ وَبِالظَّاهِرِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ لَا بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَحِينَئِذٍ مَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَوْجَهُ.
قُلْت: وَيَبْقَى عَلَيْهِمَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مِنْ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَرُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ الْبَاطِنِ وَلَمْ يَتَعَارَضَا لَهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ثُمَّ شَرَعَ فِي قِسْمِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ: (وَالْأَكْثَرُ) أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ (بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا) وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَقْدِيرَ مَأْمُورٍ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَوْقُ الْكَلَامِ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ أَيْ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحُرُوبِ وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ الْجَوَازَ عَلَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مُوَافَقَةً فِي الْمَعْنَى لِمِثْلِ مَا فِي مُنْتَهَى السُّولِ لِلْآمِدِيِّ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ انْتَهَى.
وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ إيجَابُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ لَكِنَّ قَوْلَ الْآمِدِيِّ بَعِيدٌ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ انْتَهَى ظَاهِرٌ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا ذَاكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مُجَرَّدُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ كَمَا سَيَذْكُرُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٍ مُسْتَنْبَطَةً يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُتَعَبَّدُ بِهِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ جَوَازِهِ لَهُ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُجُوبَ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِاجْتِهَادٍ، وَلَا يَجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ انْتَهَى، وَهَذَا صَرِيحٌ أَيْضًا فِي أَنَّهُ ثَمَّ مَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ.
(وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ الْأَشَاعِرَةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: (لَا) يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَظَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَهُوَ عَنْ الْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَبَعْضِهِمْ جَائِزٌ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهِ شَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ (وَقِيلَ) كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ (فِي الْحُرُوبِ فَقَطْ) ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيِّ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فَعُوتِبَ عَلَى الْإِذْنِ لَمَّا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا يَكُونُ الْعِتَابُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ لِامْتِنَاعِ الْإِذْنِ مِنْهُ تَشَهِّيًا وَدَفَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ قَالَ: إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فَمَا ارْتَكَبَ إلَّا صَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
(3/296)
{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ وَلَا خَطَأَ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَنْ قَالَ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْك لَمْ يُلْزِمْك ذَنْبًا كَمَا فِي عَفَا عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَطُّ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَلِقَائِلٍ أَنَّهُ عِتَابٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَلَكِنْ لَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ (وَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ
فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْت لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْكِي الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلَى قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ» . قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَأَقَلُّ لِشَوْكَتِهِمْ، وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ هَذَا فَقَالَ فِي التَّقْوِيمِ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» فَدَلَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُخْطِئًا قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ صَوَابًا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَّرَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانَ لَك كَرَامَةً خُصِّصْت بِهَا رُخْصَةً لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ لِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنُّ أَوْ الْقَتْلُ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ.
وَالْمُلَخَّصُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ أَيْضًا تَرَكَ الْأَوْلَى، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِيهِ خَطَأٌ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالنَّقْضِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ذَنْبٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ وَفُضِّلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ هَذَا النَّبِيُّ غَيْرَك وَتُرِيدُونَ الْخِطَابَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُرِيدِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِصْمَتِهِ ثُمَّ الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَبِرَأْيِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى أَنَّ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْعَمَلَ يَجُوزُ لَهُ بِالرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا (وَقَدْ قُلْنَا بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَبِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِآيَةِ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى فَإِنَّ جَوَازَ مُفَادَاتِهِمْ وَفَسَادَهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
(وَثَبَتَ) اجْتِهَادُهُ (فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ» ) ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
(3/297)
بِلَفْظِ «لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ «مَا أَهْدَيْت، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْت» وَذَلِكَ حِينَ أَذِنَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَجَّتِهِمْ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَانِعٌ مِنْ التَّحَلُّلِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (وَسَوْقُهُ) أَيْ الْهَدْيِ (مُتَعَلَّقُ حُكْمِ الْمَنْدُوبِ) فَهُوَ مَنْدُوبٌ (وَهُوَ) أَيْ النَّدْبُ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا بِالتَّشَهِّي لِامْتِنَاعِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ بِالِاجْتِهَادِ قُلْت: وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا مَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى عُنُقِهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ إلَّا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ صَدُوقٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ اسْتِشْهَادًا (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الِاجْتِهَادَ (مَنْصِبٌ شَرِيفٌ) حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ فَإِذَنْ (لَا يُحَرِّمُهُ) أَفْضَلُ الْخَلْقِ (وَتَنَالُهُ أُمَّتُهُ وَلَأَكْثَرِيَّةُ الثَّوَابِ لِأَكْثَرِيَّةِ الْمَشَقَّةِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ النَّسْخِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ آتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك أَوْ نَصَبِك» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ «إنَّ لَك مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ وَفِي الِاجْتِهَادِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِظُهُورِهِ لَكِنْ هَذَا مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ مُطْلَقًا إذْ قَدْ يَفْضُلُ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْخَفِيفَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَشَقُّ فِي صُوَرٍ فَالْإِيمَانُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَعَ سُهُولَتِهِ وَخِفَّتِهِ عَلَى اللِّسَانِ.
وَفَرْضُ الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ أَعْدَادٍ مِنْ الرَّكَعَاتِ النَّافِلَةِ، وَدِرْهَمٌ مِنْ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ مِنْ دَرَاهِمَ مِنْ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَفَرِيضَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ فَرَائِضَ فِي غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَأَمَّا الْجَوَابُ) عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّ السُّقُوطَ) لِلِاجْتِهَادِ (لِلدَّرَجَةِ الْعُلْيَا) وَهِيَ الْوَحْيُ فَإِنَّ مُتَعَلَّقَهُ أَعْلَى مِنْ مُتَعَلَّقِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْوَحْيِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِخِلَافِهِ بِالِاجْتِهَادِ فَسُقُوطُهُ (لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ وَأَجْرِهِ وَلَا اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لَهُ فَقِيلَ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ (ذَلِكَ) أَيْ سُقُوطُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى ثُمَّ لَا يَكُونُ فِيهِ نَقْصٌ آخَرُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْأَدْنَى وَلَا اخْتِصَاصُ الْمُتَّصِفِ بِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لِمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَ الْمُنَافَاةِ) بَيْنَ الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ (كَالشَّهَادَةِ مَعَ الْقَضَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مَعَ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَسْقُطُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَالْوَحْيُ مَعَ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يُحَرِّمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(وَالْحَقُّ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا) الدَّلِيلِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُثْبِتِينَ (لَا يُفِيدُ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ) لِلِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ (وَأَمَّا هَذَا) الدَّلِيلُ فَفِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ أَيْضًا (فَقَدْ اقْتَضَتْ رُتْبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً سُقُوطَ) حُرْمَةِ (مَا) يَحْرُمُ (عَلَى غَيْرِهِ) مِنْ أُمَّتِهِ (كَحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ) مِنْ الزَّوْجَاتِ (عَلَى الْأَرْبَعِ وَمَرَّةً لُزُومَ مَا لَيْسَ) بِلَازِمٍ (عَلَيْهِمْ) كَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَإِنْ زَادَ عَدَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالْحِفْظِ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَالسُّؤَالِ عَلَى مَا صُحِّحَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَالشَّأْنُ فِي تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّةِ الْمُقْتَضَى فِي حَقِّهِ فِي الْمَوَادِّ وَعَدَمِهِ) أَيْ تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّتِهِ فِي حَقِّهِ فِيهَا (وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (أَنَّهَا) أَيْ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ (لِدَفْعِ الْمَنْعِ) لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا انْدَفَعَ مَنْعُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ (فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ إذْ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَهُ) أَيْ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ قَدْ عَرَفْت مَا عَلَى هَذَا مِنْ التَّعَقُّبِ
(3/298)
وَاحْتَجَّ (الْمَانِعُ) لِتَعَبُّدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ} [النجم: 3 - 4] أَيْ مَا يَنْطِقُ بِهِ {إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ أَيْ كُلُّ مَا يَنْطِقُ بِهِ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ فَيَنْتَفِي الِاجْتِهَادُ (أُجِيبَ بِتَخْصِيصِهِ) أَيْ هَذَا النَّصَّ (بِسَبَبِهِ) فَإِنَّهُ نَزَلَ (لِنَفْيِ دَعْوَاهُمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (افْتِرَاءَهُ) الْقُرْآنِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إنْ هُوَ الْقُرْآنُ فَيَنْتَفِي الْعُمُومُ (سَلَّمْنَا عُمُومَهُ) فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِمَا يَبْلُغُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] يُنَافِي جَوَازَ اجْتِهَادِهِ (فَالْقَوْلُ عَنْ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ عَنْ الْهَوَى بَلْ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ وَحْيًا فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ وَمَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَحْيًا.
(وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ) أَيْ الظَّاهِرُ (أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ نَفْسُ مَا يُوحَى إلَيْهِ) وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ لَا وَحْيٌ (يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ) أَيْ الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْ نَحْوِ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] وَ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] الْآيَتَيْنِ (وَلَا يَحْتَاجُهُ) أَيْ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ (الْحَنَفِيَّةُ إذْ هُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) إذْ أُقِرَّ عَلَيْهِ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ (قَالُوا) أَيْ مَانِعُو تَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا: (لَوْ جَازَ) لَهُ الِاجْتِهَادُ (جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ) أَيْ اجْتِهَادِهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ إذْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ مُخَالَفَةُ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَطْعَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ مِنْ الِاجْتِهَادِ حُكْمُ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ، وَالْخَطَأِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ لُزُومِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ لَهُ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ اجْتِهَادٍ صَارَ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ وَهَذَا اُقْتُرِنَ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَقَدَّمَ) فِي أَوَائِلِ الْمَسْأَلَةِ (مَا يَدْفَعُهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِنْ أُقِرَّ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ وَيَأْتِي أَيْضًا
(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ ثَالِثًا (لَوْ أَمَرَ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (لَمْ يُؤَخِّرْ جَوَابًا) عَنْ سُؤَالٍ بَلْ يَجْتَهِدُ وَيُجِيبُ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ (وَكَثِيرًا مَا أَخَّرَ) جَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَحُكْمِ الظِّهَارِ وَقَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا وَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّ الْبِلَادِ شَرٌّ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي. فَانْطَلَقَ فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إنِّي سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَرُّ الْبِلَادِ الْأَسْوَاقُ» (الْجَوَابُ جَازَ) التَّأْخِيرُ (لِاشْتِرَاطِ الِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ مَا كَانَ رَاجِيَهُ إلَى خَوْفِ الْحَادِثَةِ (كَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ لِاسْتِدْعَائِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (زَمَانًا) فَإِنَّ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ يَسْتَدْعِي زَمَانًا أَوْ لِكَوْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ.
(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ: رَابِعًا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ، وَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُفِيدُ إلَّا ظَنًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ (لَا يَجُوزُ الظَّنُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ) إجْمَاعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ حَرُمَ عَلَى مُعَايِنِ الْقِبْلَةِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ (أُجِيبَ بِالْمَنْعِ) أَيْ مَنْعِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (فَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى أَنَّهُ) أَيْ الْيَقِينَ، وَهُوَ الْوَحْيُ هُنَا (غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ فَصَحِيحٌ) إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى وُصُولِ الْوَحْيِ إلَيْهِ (لَكِنَّهُ) ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْمَنْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى (لَا يُوجِبُ النَّفْيَ) لِتَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ (بَلْ) إنَّمَا يُوجِبُ (أَنْ لَا يَجْتَهِدَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ) إلَى (غَلَبَةِ ظَنِّهِ) أَيْ الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ (مَعَ خَوْفِ الْفَوْتِ) لِلْحَادِثَةِ بِلَا حُكْمٍ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ كُلٌّ مِنْ طَرِيقَيْ الظَّنِّ، وَالْيَقِينِ) بِالْحُكْمِ (مُمْكِنٌ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الثَّانِي) أَيْ الْيَقِينِ (بِالِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ (فَإِذَا غَلَبَ ظَنُّ عَدَمِهِ) أَيْ الْوَحْيِ (وُجِدَ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ (الْمُخْتَارُ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الِانْتِظَارُ لِلْوَحْيِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قِيلَ مَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ ثُمَّ
(3/299)
جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَهُوَ الْعَرَقُ وَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ: هَا أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْخَيْرِ» الْحَدِيثَ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَحْيِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ (وَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى جَوَازِ تَرْكِهِ) أَيْ الْيَقِينِ (مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَيْهِ (إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ مُخْتَارًا فَيَمْنَعُهُ) أَيْ جَوَازُ تَرْكِ الْيَقِينِ إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ (الْعَقْلُ وَمَا أَوْهَمَهُ) أَيْ جَوَازُهُ (سَيَأْتِي جَوَابُهُ) غَيْرَ أَنَّ هَذَا الشِّقَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ التَّرْدِيدِ اللَّهُمَّ إلَّا فَرْضًا وَلَا دَاعِيَ إلَيْهِ (وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ الْمُخْتَارِ جَوَازًا لِخَطَأٍ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) أَيْ عَلَى اجْتِهَادِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخَطَأِ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ هُوَ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَقِيلَ بِامْتِنَاعِهِ) أَيْ جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى اجْتِهَادِهِ نَقَلَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ وَجَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْأُمِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْخَطَأِ مِنْ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْخَطَإِ (لِنِسْبَتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ بِوَاسِطَةِ الْأُمَّةِ (إلَيْهِ) أَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلِلُزُومِ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ) ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَ) لُزُومُ (الشَّكِّ فِي قَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَوَابٌ هُوَ أَمْ خَطَأٌ (فَيُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ) ، وَهُوَ الْوُثُوقُ بِمَا يَقُولُ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ (أُجِيبَ عَنْ هَذَا) الْأَخِيرِ (بِأَنَّ الْمُخِلَّ مَا فِي الرِّسَالَةِ) أَيْ جَوَازُ الْخَطَإِ فِيمَا يَنْقُلُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إرْسَالِهِ، وَهُوَ مَعْلُومُ الِانْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزَةِ لَا تَجْوِيزِ الْخَطَإِ فِي اجْتِهَادِهِ (وَ) أُجِيبَ (عَمَّا قَبْلَهُ) ، وَهُوَ لُزُومُ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ (بِمَنْعِ بُطْلَانِهِ) بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَوَامّ لِلْمُجْتَهِدِينَ مِنَّا مَعَ جَوَازِ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الْخَطَإِ فَضْلًا عَنْ خَطَئِهِمْ فِيهِ وَتَعَقَّبَ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ هَذَا النَّقْضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَتْبَعُ الْمُجْتَهِدَ فِي اجْتِهَادِهِ بَلْ يُقَلِّدُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ وَمَا لَزِمَ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِصَابَةِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ، وَإِذَنْ لَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا الْعَامِّيُّ مَأْمُورٌ بِالتَّقْلِيدِ، وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ.
قَالَ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ: وَالْأَوَّلُ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي تَعْرِيفِ الْمُتَابَعَةِ جِهَةٌ لِلْفِعْلِ وَكَيْفِيَّةٌ لَهُ، وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْفَاعِلِ فَتَعْرِيفُهُ الْمُتَابَعَةَ لَا يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاقْتِضَاءِ اتِّبَاعُ الِاجْتِهَادِ مَخْصُوصٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ إجْمَاعًا سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ كَوْنَهُ مَخْصُوصًا فِي بَيَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ فَلَا فَرْقَ. وَأَيْضًا مَقْدُورُ الْمُجْتَهِدِ تَحْصِيلُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ لَا الْإِصَابَةُ فِيهِ وَإِذَا جَازَ كَوْنُ اجْتِهَادِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَأً فَاجْتِهَادُ غَيْرِهِ أَوْلَى بِجَوَازِ كَوْنِهِ خَطَأً وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَإِذَا كَانَ إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ خَطَأً كَانَ الْعَامِّيُّ مَأْمُورًا بِالْخَطَأِ هَذَا وَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْحُكْمَ الْخَطَأَ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلَا بُعْدَ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا بِالْعَمَلِ بِهِ لِذَلِكَ، وَإِلَى مُلَخَّصِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا هُوَ (مِنْ حَيْثُ هُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الِاجْتِهَادِيُّ (صَوَابٌ فِي نَظَرِ الْعَالِمِ وَإِنْ خَالَفَ نَفْسَ الْأَمْرِ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ صَوَابٌ عَمَلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُخَطِّئَةِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُصَوِّبَةِ وَلَا بَأْسَ (وَ) أُجِيبَ (عَنْ الْأَوَّلِ) ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ (بِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّ رُتْبَةَ الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ لِاتِّبَاعِهِمْ) لَهُ (لَا يَقْتَضِي لُزُومَ
(3/300)
هَذِهِ الرُّتْبَةِ لَهُ كَالْإِمَامِ) الْأَعْظَمِ (وَلَا يَلْزَمُ لَهُ رُتْبَةُ الْقَضَاءِ) وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْهُ ثُمَّ لَا يَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِنَقْصٍ وَانْحِطَاطِ دَرَجَةٍ فَكَذَا هُنَا
(وَتَقَدَّمَ مَا يَدْفَعُهُ) مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْمُنَافَاةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَدَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ (وَأَيْضًا فَالْوُقُوعُ) لِلِاجْتِهَادِ (يَقْطَعُ الشَّغْبَ) بِالسُّكُونِ أَيْ النِّزَاعَ فِي الْجَوَازِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَاِبْنُ الْحَاجِبِ (وَدَلِيلُهُ) أَيْ الْوُقُوعِ قَوْله تَعَالَى (عَفَا اللَّهُ عَنْك) الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] الْآيَةَ (حَتَّى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ» ) رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالطَّبَرِيُّ بِلَفْظِ «لَمَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» إلَّا أَنَّهُ يُطْرَقُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْوُقُوعِ بِالْآيَةِ الْأُولَى مَا سَلَفَ مِنْ قَوْلِ إنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْإِذْنِ، وَالْعِتَابِ بِهَا عَلَى مَا يَشُوبُهُ مِنْ بَحْثٍ نَعَمْ لَا يَضُرُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوُقُوعِ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مَا سَلَفَ فِيهَا عَنْ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ فَلْيُتَأَمَّلْ وَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي إنْكَارُ وُقُوعِهِ مُطْلَقًا كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ كَمَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى (وَبِهِ) أَيْ بِالْوُقُوعِ (يُدْفَعُ دَفْعَ الدَّلِيلِ الْقَائِلِ لَوْ جَازَ) امْتِنَاعُ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَوْ امْتَنَعَ (لَكَانَ) امْتِنَاعُهُ عَلَيْهِ (لِمَانِعٍ) ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ (وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ) أَيْ الْمَانِعِ (بِأَنَّ الْمَانِعَ) مِنْ جَوَازِهِ (عُلُوُّ رُتْبَتِهِ وَكَمَالُ عَقْلِهِ وَقُوَّةُ حَدْسِهِ وَفَهْمِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ هَذَا الدَّفْعَ الْعَلَّامَةُ، وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْخَطَإِ، وَالسَّهْوِ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِذَا جَازَ سَهْوُهُ حَالَ مُنَاجَاتِهِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَا فَسَجَدَ» فَجَوَازُ الْخَطَإِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ حَالِ الصَّلَاةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال) لِجَوَازِ الْخَطَإِ عَلَيْهِ (بِقَوْلِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَقَوْلُهُ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» ) وَقَدَّمْنَا فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي عَنْ الْمِزِّيِّ، وَالذَّهَبِيِّ وَشَيْخِنَا أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ وَأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ: يُؤْخَذُ مَعْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) مُثْبِتٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَطَإِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ أَمَارَتِهِ لَا فِي الْخَطَإِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِمُعَيَّنٍ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعُمُومِ الَّذِي أُثْبِتَ لَهُ حُكْمٌ هُوَ صَوَابٌ كَمَا إذَا جَزَمَ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْمَائِعَ خَمْرٌ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَتِهِ فَإِنَّ الِانْدِرَاجَ وَعَدَمَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
(وَكَذَا) لَيْسَ بِشَيْءٍ (مَا يُوهِمُهُ عِبَارَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْخَطَإِ فِيهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَقُولُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَهَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيهِ خِلَافٌ، فَإِذَا وَقَعَ هَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ أَوْ يُنَبَّهُ عَلَى الْخَطَإِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُقَرَّرُ انْتَهَى. (بَلْ) كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (نَفْيُهُ) أَيْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ (اتِّفَاقٌ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ سُقُوطُ التَّوَقُّفِ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا مَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَعَزَاهُ فِي الْمَحْصُولِ لِأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ الْفَتَاوَى أَمَّا الْأَقْضِيَةُ فَيَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِغَيْرِهِ، وَالْوَجْهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ
فَرْعٌ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا اجْتَهَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاسَ فَرْعًا عَلَى أَصْلٍ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالنَّصِّ، وَكَذَا لَوْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَسَنٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةٌ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ عَقْلًا اجْتِهَادُ غَيْرِ النَّبِيّ]
(مَسْأَلَةٌ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ) عَقْلًا (اجْتِهَادُ غَيْرِهِ) أَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي عَصْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْأَكْثَرُ يَجُوزُ) عَقْلًا (فَقِيلَ) يَجُوزُ (مُطْلَقًا) أَيْ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ نَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ (وَقِيلَ) يَجُوزُ (بِشَرْطِ غَيْبَتِهِ لِلْقُضَاةِ) ، وَالْوُلَاةِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
(وَقِيلَ) يَجُوزُ (بِإِذْنٍ خَاصٍّ) ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ صَرِيحَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّلَ السُّكُوتَ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ (وَفِي الْوُقُوعِ) مَذَاهِبُ (نَعَمْ) وَقَعَ (مُطْلَقًا) أَيْ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ
(3/301)
لَكِنْ (ظَنًّا) وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَاِبْنُ الْحَاجِبِ قَالَ السُّبْكِيُّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ وَقَعَ قَطْعًا (وَلَا) أَيْ لَمْ يَقَعْ أَصْلًا (، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا مَذْهَبٌ (لِلْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَالْوَقْفُ) فِي الْوُقُوعِ مُطْلَقًا وَنَسَبَهُ الْآمِدِيُّ إلَى الْجُبَّائِيِّ (وَقِيلَ) الْوَقْفُ (فِيمَنْ بِحَضْرَتِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا مَنْ غَابَ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَنَقَلَهُ الرَّازِيّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَمَالَ إلَى اخْتِيَارِهِ.
وَقِيلَ: وَقَعَ لِلْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ: وَهُوَ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَأَمْيَلُ إلَى الِاقْتِصَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَذُّرُ الْمُرَاجَعَةِ مَعَ تَنَائِي الدَّارِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الْأَقْوَى عَلَى أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ (الْوَقْفُ لَا دَلِيلَ) يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ مُطْلَقًا فِي الْمُطْلَقِ وَفِيمَنْ بِحَضْرَتِهِ لِلْمُقَيَّدِ بِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ جَائِزٌ فَلَا يُحْكَمُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ (الْمَانِعُ) مُطْلَقًا مُجْتَهِدٌ وَعَصْرُهُ (قَادِرُونَ عَلَى الْعِلْمِ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ فَامْتَنَعَ ارْتِكَابُ طَرِيقِ الظَّنِّ) ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعِلْمِ تَمْنَعُهُ (أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي قَتْلِهِ الْقَتِيلَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَقَوْلُهُ: فَقُمْت فَقُلْت مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْت ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الثَّانِيَةَ فَقُمْت فَقُلْت مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْت ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ فَقُمْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَك أَبَا قَتَادَةَ فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ جَوَابًا لِهَذَا الْقَائِلِ لَاهَا اللَّهِ إذَنْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَدَقَ» فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ، وَقَدْ صَوَّبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَصْدِيقِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ فِي لَاهَا اللَّهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ: حَذْفُ أَلْفِ هَا وَإِثْبَاتُهَا كِلَاهُمَا مَعَ وَصْلِ هَمْزَةِ اللَّهِ وَقَطْعِهَا ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ أَسْقَطَ إذًا مَعَ ثُبُوتِهَا فِي الرِّوَايَةِ إمَّا اخْتِصَارًا، وَإِمَّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالِ فَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ثُبُوتَ الْأَلْفِ فِي أَوَّلِ إذًا وَقَالُوا: إنَّهُ تَعْبِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ لَاهَا اللَّهِ ذَا بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ قَالُوا، وَمِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ لَاهَا اللَّهِ إلَّا مَعَ ذَا.
وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ مَعَ غَيْرِ ذَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ إذَنْ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ جَوَابًا وَجَزَاءً وَهِيَ هُنَا جَوَابٌ لِقَوْلِ مَنْ طَلَبَ السَّلَبَ، وَهُوَ غَيْرُ قَاتِلٍ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ جَزَاءً لِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَإِلَّا لَقَالَ: إذَنْ تَعْمِدُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ جَزَاءٌ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ سَبَبٌ لِعَدَمِ الْعَمْدِ إلَى إعْطَاءِ مَا هُوَ حَقُّ غَيْرِهِ لَا لِطَلَبِهِ، وَالرُّوَاةُ ثِقَاتٌ فَحَمْلُ رِوَايَتِهِمْ عَلَى التَّصْحِيفِ بَعِيدٌ، وَمِنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ: جَعْلُ لَا يَعْمِدُ جَوَابَ فَأَرْضِهِ عَنِّي لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاهِدِ لِأَبِي قَتَادَةَ صَدَقَ فَكَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذًا صَدَقَ أَنَّهُ صَاحِبُ السَّلَبِ إذَنْ لَا يَعْمِدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُعْطِيك سَلَبَهُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُ سَبَبٌ فِي أَنْ لَا يَعْمِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى سَلَبَهُ فَيُعْطِيَهُ مَنْ طَلَبَهُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ (وَتَقَدَّمَ) فِي الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ (أَنَّ تَرْكَ الْيَقِينِ لِطَالِبِ الصَّوَابِ إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَإِ مُخْتَارًا يَأْبَاهُ الْعَقْلُ) فَلَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ مَعَ إمْكَانِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ تَرْكًا لِلْيَقِينِ إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَإِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْجَوَازِ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قِيلَ بِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَعْلَمَ أَوْ يَجْتَهِدَ فَيَحْكُمَ إذْ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا جَازَ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الِاجْتِهَادِ بَلْ يَتِمُّ عَلَى الْجَوَازِ بِحَضْرَتِهِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَاجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَخْيِيرَهُ مُطْلَقًا لِعِلْمِهِ) أَيْ أَبِي بَكْرٍ (أَنَّهُ لِكَوْنِهِ بِحَضْرَتِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنْ خَالَفَ) الصَّوَابَ فِي اجْتِهَادٍ (رَدَّهُ) أَيْ اجْتِهَادَهُ وَهَذَا مَفْقُودٌ إذَا كَانَ فِي غَيْبَتِهِ وَلَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ.
(فَالْوَجْهُ جَوَازُهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ (لِلْغَائِبِ) عَنْهُ
(3/302)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا أَوْ لَا (ضَرُورَةً) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَعَسُّرِ الرُّجُوعِ أَوْ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ فَيَحْسُنُ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ بِهَا لِسُهُولَةِ الْمُرَاجَعَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ قِصَّةُ مُعَاذٍ الشَّهِيرَةُ فِي إرْسَالِهِ إلَى الْيَمَنِ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَقَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى الْقُضَاةِ، وَالْوُلَاةِ لِحِفْظِ مَنْصِبِهِمْ عَنْ اسْتِنْقَاصِ الرَّعِيَّةِ لَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ تَكَلُّفِ كِتَابَتِهِ بِلَا تَعَقُّبِهِ بِالرَّدِّ (وَالْحَاضِرُ بِشَرْطِ أَمْنِ الْخَطَإِ هُوَ) أَيْ أَمْنُهُ (بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ حَضْرَتِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَوْ إذْنِهِ) فِي ذَلِكَ (كَتَحْكِيمِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا حَكَمَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَقَسْمِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ، وَالنِّسَاءِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ «الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» وَكِلَاهُمَا يُرَجِّحَانِ كَسْرَ اللَّامِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ بِحُكْمِ الْمَلِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةٌ الْعَقْلِيَّاتُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمْعٍ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ]
(مَسْأَلَةٌ الْعَقْلِيَّاتُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمْعٍ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوُجُودِ مُوجِدِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ، وَالْمُصِيبُ مِنْ مُجْتَهِدِيهَا) أَيْ الْعَقْلِيَّاتِ (وَاحِدٌ اتِّفَاقًا) ، وَهُوَ الَّذِي طَابَقَ اجْتِهَادُهُ الْوَاقِعَ فَأَصَابَ الْحَقَّ لِعَدَمِ إمْكَانِ وُقُوعِ النَّقِيضَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَالْمُخْطِئُ) مِنْهُمْ (إنْ) أَخْطَأَ (فِيمَا يَنْفِي مِلَّةَ الْإِسْلَامِ) كُلًّا أَوْ بَعْضًا (فَكَافِرٌ آثِمٌ مُطْلَقًا) أَيْ اجْتَهَدَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ (عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ) أَيْضًا (بَعْدَ تَأَهُّلِهِ لِلنَّظَرِ وَبِشَرْطِ الْبُلُوغِ عِنْدَ مَنْ أَسْلَفْنَا) فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (مِنْ الْحَنَفِيَّةِ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ إذَا أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ) وَقَدْرُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَلَفَ ثَمَّةَ (إنْ لَمْ يَبْلُغْهُ سَمْعٌ وَمُطْلَقًا) أَيْ أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ أَمْ لَا (إنْ بَلَغَهُ) السَّمْعُ (وَبِشَرْطِ بُلُوغِهِ) أَيْ السَّمْعِ إيَّاهُ (لِلْأَشْعَرِيَّةِ وَقَدَّمْنَاهُ) ثَمَّةَ (عَنْ بُخَارِيِّ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ) ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ أَبْيَنُ مِنْ النَّهَارِ لَا مَجَالَ لِنَفْيِهَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا بِغَيْرِهِ إذْ الِاجْتِهَادُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا فِيهِ خَفَاءٌ وَغُمُوضٌ، وَالْمُعَانِدُ مُكَابِرٌ فِيهَا
(وَإِنْ) كَانَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ (غَيْرَهَا) أَيْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ (كَخَلْقِ الْقُرْآنِ) أَيْ الْقَوْلِ بِخَلْقِهِ (وَإِرَادَةِ الشَّرِّ) أَيْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّرَّ فَكَانَ الْأَوْلَى عَدَمَ إرَادَةِ الشَّرِّ (فَمُبْتَدِعٌ آثِمٌ لَا كَافِرٌ وَسَيَأْتِي فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا النَّوْعِ (زِيَادَةٌ) فِي التَّتِمَّةِ الَّتِي تَلِي الْمَسْأَلَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَمَا عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ كَوُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ وَنَحْوِهِ فَلَا الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ وَلَا الْمُصِيبُ فِيهِ مَأْجُورٌ إذْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا مَجْرَى الْخَطَإِ فِي أَنَّ مَكَّةَ أَكْبَرُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرُ كَذَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِيَّةِ (وَأَمَّا الْفِقْهِيَّةُ فَمُنْكِرُ الضَّرُورِيِّ) مِنْهَا (كَالْأَرْكَانِ) أَيْ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّتِي هِيَ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ (وَحُرْمَةِ الزِّنَا، وَالشُّرْبِ) لِلْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالرِّبَا (وَالسَّرِقَةِ كَذَلِكَ) أَيْ كَافِرٌ آثِمٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ) ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ نَظَرِيًّا (فَهُوَ إنْكَارٌ لِلْمَعْلُومِ ابْتِدَاءً عِنَادًا أَوْ) مُنْكِرُ (غَيْرِهَا) أَيْ الضَّرُورِيَّةِ (الْأَصْلِيَّةِ) الْقَطْعِيَّةِ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ (كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَالْخَبَرُ) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً (وَالْقِيَاسُ) حُجَّةً فَهُوَ مُخْطِئٌ (آثِمٌ)
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ، وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً كَمَا أَنَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ مَنْ يَقُولُ: الْعَرَضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ، أَوْ يَقُولُ بِنَفْيِ الْخَلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْمَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (بِخِلَافِ) إنْكَارِ (حُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ) ، وَالسُّنَّةِ (فَإِنَّهُ) أَيْ إنْكَارَهَا (كُفْرٌ وَ) مُنْكِرُ (غَيْرِهَا) أَيْ الضَّرُورِيَّةِ (الْفَرْعِيَّةِ) الِاجْتِهَادِيَّةِ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ (فَالْقَطْعُ لَا إثْمَ، وَهُوَ) أَيْ، وَالْقَطْعُ بِنَفْيِ الْإِثْمِ (مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ شَرْطِ حِلِّهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ قَاطِعِ نَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ وَلَا يُعْبَأُ) أَيْ لَا يُعْتَدُّ (بِتَأْثِيمِ بِشْرٍ) الْمَرِيسِيِّ (وَالْأَصَمِّ) أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْإِمَامِيَّةِ الْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَّا، وَالْحَقُّ فِيهَا
(3/303)
مُتَعَيِّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَيَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ وَلَا يَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَا يُعْبَأُ بِهِ (لِدَلَالَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى نَفْيِهِ) أَيْ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِيهَا (إذْ شَاعَ اخْتِلَافُهُمْ) فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَ الْجَمِيعِ (وَلَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مُعَيَّنٌ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: الْآخَرُ آثِمٌ وَلَا مُبْهَمٌ بِأَنْ يَقُولُوا: أَحَدُنَا آثِمٌ (وَلَوْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ الْإِثْمُ لِلْمُخْطِئِ (لَوَقَعَ) ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ مِنْ الْمُهِمَّاتِ، وَلَوْ ذُكِرَ لَنُقِلَ وَاشْتُهِرَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ عُلِمَ قَطْعًا عَدَمُ الْإِثْمِ.
(وَلَوْ اُسْتُؤْنِسَ لَهُمَا) أَيْ بِشْرٍ وَالْأَصَمِّ (بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا) ذَكَرَهُ فِي التَّقْوِيمِ (أَمْكَنَ) الْقَدْحُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيمِ بِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا اُتُّبِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مِثْلِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ ابْنَ عَبَّاسٍ (لَمْ يُتَّبَعْ عَلَى مِثْلِهِ إذْ وَقَائِعُ الْخِلَافِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَأْثِيمَ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهَا مَنْقُولٌ عَنْهُمْ، وَقَالَ (الْجَاحِظُ: لَا إثْمَ عَلَى مُجْتَهِدٍ، وَلَوْ) كَانَ الِاجْتِهَادُ (فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ) كَانَ نَفْيُهُ اجْتِهَادًا (مِمَّنْ لَيْسَ مُسْلِمًا وَتَجْرِي عَلَيْهِ) أَيْ النَّافِي فِي الدُّنْيَا (أَحْكَامُ الْكُفَّارِ، وَهُوَ) أَيْ نَفْيُ الْإِثْمِ (مُرَادُ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ قَاضِي الْبَصْرَةِ الْمُعْتَزِلِيِّ (الْعَنْبَرِيِّ بِقَوْلِهِ: الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ هَذَا بَلْ أَرَادَ وُقُوعَ مُعْتَقَدِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ) فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ كَالْقِدَمِ، وَالْحُدُوثِ فِي اعْتِقَادِ قَدِمَ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) فَخَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَفَى السُّبْكِيُّ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَفْيَ الْإِثْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجَاحِظِ بِلَا زِيَادَةٍ بَلْ أَرَادَ أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ وَافَقَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا وَوَافَقَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا وَتَعَقَّبَهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَخْلَ فِيهَا الْوَضْعُ الشَّارِعُ كَكَوْنِ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَكَوْنِ الصَّانِعِ مُمْكِنَ الرُّؤْيَةِ، أَوْ مُمْتَنِعَهَا
ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ ثُمَّ قِيلَ: إنَّهُ عُمِّمَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ حَتَّى يَشْمَلَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسَ عَلَى صَوَابٍ، وَهَذَا مَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُونَ فِيهَا إلَى آيَاتٍ وَآثَارٍ مُحْتَمَلَةٍ لِلتَّأْوِيلِ كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَقْطَعُ بِتَضْلِيلِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس وَأَنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ قَطْعًا وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَامَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ، وَالدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ تُوجِبُ الِاعْتِقَادَ الْقَطْعِيَّ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُخْطِئُونَ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُجَسِّمَةُ، وَالْجَهْمِيَّةُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عَقَائِدَهُمْ فَيَثْبُتُ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا حُكِمَ بِبُطْلَانِ مَا يُخَالِفُهُ قَطْعًا، وَإِذَا حُكِمَ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ قَطْعًا ثَبَتَ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ وَمُبْتَدِعَةٌ انْتَهَى.
وَمَشَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ الْكَرْمَانِيُّ وَالتَّفْتَازَانِي وَاسْتَشْهَدَ السُّبْكِيُّ لَهُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدْرِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِيهِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ أَيْضًا وَلَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي عَنْهُ فِي التَّقْرِيبِ بِخِلَافِهِ فَانْتَفَى مَا فِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْكَافِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاسْتِبْعَادِ الْخِلَافِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِ الْيَهُودِيِّ مُخْطِئًا فِي نَفْيِهِ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي نَفْيِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجَسِّمَةَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ فِي أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَفِي جِهَةٍ انْتَهَى.
(لَنَا إجْمَاعُ
(3/304)
الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْمُخَالِفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ لَدُنْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهَلُمَّ عَصْرًا تِلْوَ عَصْرٍ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُعَانِدٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ ظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ) جَمِيعِهِمْ بَلْ لِبَعْضِهِمْ.
وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ قِتَالُهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ثُمَّ هَذَا إنْ كَانَ خِلَافَ الْمُخَالِفِ فِيمَنْ خَالَفَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً وَكَيْفَ لَا، وَالْمُخَالِفُ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ قَبْلَهَا مُسْلِمًا فَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا لَكِنْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْأَوَّلُ) أَيْ الْإِجْمَاعُ عَلَى قِتَالِهِمْ (لَا يَجْرِي) دَلِيلًا عَلَى تَأْثِيمِ الْمُجْتَهِدِ مِنْهُمْ (عَلَى) قَوَاعِدِ (الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ وُجُوبَهُ) أَيْ قِتَالِهِمْ (لِكَوْنِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا لَا لِكُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا لَهُمْ) أَيْ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي التَّأْثِيمِ (الْقَطْعُ بِالْعُمُومَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ (مِثْلُ: وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ، وَمِنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) وَهَذَا الْقَطْعُ (إمَّا مِنْ الصِّيغَةِ) الْمَوْضُوعَةِ لِلْعُمُومِ مِثْلُ الْكَافِرِينَ، وَالْخَاسِرِينَ (أَوْ) مِنْ (الْإِجْمَاعَاتِ) الْكَائِنَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ (عَلَى عَدَمِ التَّفْصِيلِ) فِي كُفْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافُ الْمُخَالِفِ مَخْصُوصًا بِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأُصُولِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ (قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِنَفْيِ التَّأْثِيمِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ مُسْلِمًا (تَكْلِيفُهُمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (بِنَقِيضِ مُجْتَهِدِهِمْ) تَكْلِيفٌ (بِمَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ (كَيْفٌ) ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ هُوَ إدْرَاكُ أَنَّ كَذَا وَاقِعٌ، أَوْ لَيْسَ بِوَاقِعٍ (لَا فِعْلٌ) اخْتِيَارِيٌّ لِلنَّفْسِ لِيَكُونَ مُكَلَّفًا أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى وَجْهِ كَذَا بِعَيْنِهِ فَهُوَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ بَعْدَ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَهُوَ النَّظَرُ فَلَيْسَ مَقْدُورًا لَهُ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ (فَالْمُكَلَّفُ بِهِ اجْتِهَادُهُ، وَقَدْ فَعَلَ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ فِعْلِهِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ (إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ) أَيْ الْإِيمَانِ (أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً ظَاهِرَةً لَوْ وَقَعَ النَّظَرُ فِي مَوَادِّهَا لَزِمَهَا) أَيْ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ الْمَطْلُوبُ (قَطْعًا، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ) الْمَطْلُوبُ عِنْدَ مُكَلَّفٍ (عُلِمَ أَنَّهُ) أَيْ عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ (لِعَدَمِ الشُّرُوطِ) فِي النَّظَرِ (بِالتَّقْصِيرِ) أَيْ بِوَاسِطَتِهِ (مَثَلًا مَنْ بَلَغَهُ بِأَقْصَى فَارِسَ ظُهُورُ مُدَّعِي نُبُوَّةٍ ادَّعَى نَسْخَ شَرِيعَتِكُمْ لَزِمَهُ السَّفَرُ إلَى مَحِلِّ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ لِيَنْظُرَ أَتَوَاتَرَ وُجُودُهُ وَدَعْوَاهُ ثُمَّ أَتَوَاتَرَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنُبُوَّتِهِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ جَامِعًا لِلشُّرُوطِ قَطَعْنَا مِنْ الْعَادَةِ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْمُجْتَهِدَ (يَلْزَمُهُ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (عِلْمُهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ (بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْمُدَّعِي (لِفَرْضِ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي مَكَانِهِ فَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لَا يُعْذَرُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ اجْتِهَادَهُ (فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ) أَيْ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ.
(وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كُلِّفَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ) عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِكَوْنِهِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْكِيفَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْمَقْدُورُ إنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ التَّأْثِيرُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنْ غَيْرَهُ لَيْسَ مَقْدُورًا إذْ الْعِلْمُ الْكَسْبِيُّ مَقْدُورٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ تَأْثِيرًا بَلْ مِنْ الصِّفَاتِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ عَقِيبَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَيَكُونُ أَثَرًا لَهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ مُؤَثِّرَةٌ فَالِاعْتِقَادُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعِلْمُ الْكَسْبِيُّ يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّظَرِ وَعَرَّفُوا التَّوْلِيدَ بِأَنْ يُوجِبَ فِعْلُهُ فِعْلًا آخَرَ لِفَاعِلِهِ كَيْفَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِقَادُ مَقْدُورًا لَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ (وَأَمَّا الْجَوَابُ) عَنْ حُجَّتِهِمْ كَمَا فِي الشَّرْحِ الْعَضُدِيِّ (بِمَنْعِ كَوْنِ نَقِيضِ اعْتِقَادِهِمْ غَيْرَ مَقْدُورٍ) لَهُمْ (إذْ ذَاكَ) أَيْ غَيْرُ الْمَقْدُورِ لَهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ هُوَ (الْمُمْتَنِعُ عَادَةً كَالطَّيَرَانِ وَحَمْلِ الْجَبَلِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِامْتِنَاعِ) لِتَكْلِيفِهِمْ بِنَقِيضِ مُجْتَهِدِهِمْ هُوَ امْتِنَاعٌ بِالْغَيْرِ أَيْ (بِشَرْطِ وَصْفِ الْمَوْضُوعِ هَكَذَا مُعْتَقَدُ ذَلِكَ الْكُفْرِ يَمْتَنِعُ اعْتِقَادُ غَيْرِهِ) أَيْ الْكُفْرِ (مَا دَامَ) الْكُفْرُ (مُعْتَقَدَهُ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَهُوَ) أَيْ الْإِسْلَامُ (مَقْدُورٌ) لَهُ وَمُعْتَادٌ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا وَخَبَرُ الْجَوَابِ (لَا يُزِيلُ الشَّغْبَ) غَيْرُ أَنَّ الْأَوْلَى إثْبَاتُ الْفَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ أَمَّا، وَإِنَّمَا لَا يُزِيلُهُ (إذْ يُقَالُ التَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ لِاسْتِعْلَامِ ذَلِكَ) أَيْ الْإِيمَانِ (فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ) الِاجْتِهَادُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذَلِكَ (لَوْ لَزِمَ) ذَلِكَ (كَانَ) التَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ لِاسْتِعْلَامِ ذَلِكَ تَكْلِيفًا (بِمَا لَا يُطَاقُ)
[مَسْأَلَةُ الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَيْ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ]
(مَسْأَلَةُ الْجُبَّائِيِّ) وَابْنِهِ عَلَى مَا فِي الْبَدِيعِ
(3/305)
(وَنُسِبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ) أَيْ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ نَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ (قَبْلَ الِاجْتِهَادِ سِوَى إيجَابِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ فِيهَا (بِشَرْطِهِ فَمَا أَدَّى) الِاجْتِهَادُ (إلَيْهِ) أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا (تَعَلَّقَ) بِهَا وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مُقَلِّدِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَزَادَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ثُمَّ قَالَ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْهُ وَعَنْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَالْحَقُّ عِنْدَهُمْ مُتَعَدِّدٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْحُقُوقَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ نَعَمْ وَطَائِفَةٌ لَا بَلْ أَحَدُ تِلْكَ الْحُقُوقِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ (وَلَا يَمْتَنِعُ تَبَعِيَّتُهُ) أَيْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا (لِلِاجْتِهَادِ) لِحُدُوثِهِ أَيْ الْحُكْمِ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ فَذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ لِلَّهِ فِيهَا خِطَابًا لَكِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبًا، أَوْ حُرْمَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا بِحَسَبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَالتَّابِعُ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ هُوَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ لَا نَفْسُ الْخِطَابِ.
وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ هُنَا خِطَابَ اللَّهِ الْمُخْتَلَفَ فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ بَلْ مَا يَتَأَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَيَسْتَلْزِمُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ الْعَمَلُ بِهِ (وَالْبَاقِلَّانِيّ) وَالْأَشْعَرِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ (وَطَائِفَةٌ) الْحُكْمُ (الثَّابِتُ) لِلْوَاقِعَةِ (قَبْلَهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (تَعَلُّقُ مَا يَتَعَيَّنُ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (وَإِذْ عِلْمُهُ) عَزَّ وَجَلَّ (مُحِيطٌ بِمَا سَيَتَعَيَّنُ) مِنْ الْحُكْمِ (أَمْكَنَ كَوْنُ الثَّابِتِ تَعَلُّقَ) حُكْمٍ (مُعَيَّنٍ) لَهَا (فِي حَقِّ كُلٍّ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (وَهُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الْمُعَيَّنُ (مَا عُلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِذْ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ) لِلْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ (تَعَدَّدَ الْحُكْمُ بِتَعَدُّدِهِمْ، وَالْمُخْتَارُ) أَنَّ حُكْمَ الْوَاقِعَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا (حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، أَوْجَبَ طَلَبَهُ فَمَنْ أَصَابَهُ) فَهُوَ (الْمُصِيبُ وَمَنْ لَا) يُصِيبُهُ فَهُوَ (الْمُخْطِئُ وَنُقِلَ) هَذَا (عَنْ) الْأَئِمَّةِ (الْأَرْبَعَةِ) أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُمْ بَلْ نَقَلَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الَّذِي حَرَّرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَمَنْ قَالَ عَنْهُ غَيْرُهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِ (ثُمَّ الْمُخْتَارُ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا وَفِي الْمَحْصُولِ: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَيُنْسَبُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ (أَنَّ الْمُخْطِئَ مَأْجُورٌ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْخَطَإِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ (وَعَنْ طَائِفَةٍ لَا أَجْرَ وَلَا إثْمَ) ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَعَلَّهُ) أَيْ هَذَا الْخِلَافَ (لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَجْرِهِ لَيْسَ عَلَى خَطَئِهِ بَلْ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ الِاجْتِهَادِ، وَثُبُوتُ ثَوَابِ مُمْتَثِلِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ لَا يَتَأَتَّى نَفْيُهُ وَإِثْمُ خَطَئِهِ مَوْضُوعٌ اتِّفَاقًا) بَيْنَ أَهْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ (فَهُوَ) أَيْ فَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الْقَوْلُ (الْأَوَّلُ)
قُلْت: وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا عَلَيْهِ الْأَجْرُ لِلْمُخْطِئِ اخْتِلَافًا فَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَإِ بَلْ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَقِيلَ بَلْ عَلَى اشْتِدَادِهِ فِي تَقَصِّي النَّظَرِ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَشْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قَدْ يَحِيدُ فِي الْأَوَّلِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ وَالرَّافِعِيُّ ثُمَّ الْأَجْرُ عَلَامَ فِيهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ عَلَى الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ لَا الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَإِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ انْتَهَى، وَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ قَوْلُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى قَصْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ خَطَأً كَمَا لَوْ اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا فَهُوَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَلَمْ يَقَعْ عِتْقُهُ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ، وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ، وَالثَّانِي يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ، وَالِاجْتِهَادِ جَمِيعًا
(3/306)
لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الْإِتْمَامُ قُلْت: عَلَى هَذَا أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ حَادَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَهُ فِي صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ لَأَفْضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ قُلْت: وَلَا يَعْرَى عَنْ نَظَرٍ لِلْمُنَصِّفِ هَذَا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَلَى الْقَصْدِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُشْرُ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ
وَأُجِيبَ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت أَوْلَى قَالَ: وَإِنْ كَانَ قُلْت مَا أَقْضِي قَالَ: إنَّك إنْ أَصَبْت كَانَ لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت كَانَ لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ» أَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الْقُضَاةِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى فَرَجِ بْنِ فُضَالَةَ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْرَوَانِيُّ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ قُلْت: وَيُمْكِنُ التَّقَصِّي عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَا؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَذَا عَامٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إلَّا أَنَّهُ لَا إشْكَالَ بِهَذَا عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَانَ الْأَجْرُ عَلَى نَفْسِ الِاجْتِهَادِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَذَا وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ، وَالْأَمَارَاتِ، فَإِذَا أُصِيبَ حَصَلَ أَجْرَانِ أَجْرُ الْإِصَابَةِ وَأَجْرُ الِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى هَذَا الثَّانِي وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ انْتَهَى ثُمَّ قَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يُثَابُ عَلَى الْإِصَابَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ وَأُجِيبَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الثَّانِي لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْجَرُ الْمُخْطِئُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ بِخِلَافِ الْمُصِيبِ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدَ الْمُصِيبِ قَدْ اهْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْهُدَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» بِخِلَافِ مُقَلِّدِ الْمُخْطِئِ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ غَايَةُ الْأَمْرِ سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ.
قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ مِمَّا يُذْكَرُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَهَذَانِ) الْقَوْلَانِ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْحَادِثَةِ (دَلِيلًا ظَنِّيًّا) ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ (وَقِيلَ) بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ (قَطْعِيٌّ، وَالْمُخْطِئُ آثِمٌ) ، وَهُوَ (قَوْلُ بِشْرٍ، وَالْأَصَمِّ) ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَابْنَ عُلَيَّةَ وَبَعْضُهُمْ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَقِيلَ: غَيْرُ آثِمٍ لِخَفَائِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَغُمُوضِهِ وَعَزَاهُ فِي الْكَشْفِ إلَى الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَنَّهُ مَالَ إلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَفِي الْمَحْصُولِ إلَى الْجُمْهُورِ مِنْ قَائِلِي: إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا، وَقِيلَ: لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ بَلْ هُوَ كَدَفِينٍ يَعْثِرُ عَلَيْهِ الطَّالِبُ اتِّفَاقًا فَمَنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَعَزَى هَذَا فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ إلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ زَادَ الْقَرَافِيُّ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ (وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْخِلَافَ أَنَّهُ) أَيْ الْمُخْطِئَ (مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) فِي اجْتِهَادِهِ وَفِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ.
(أَوْ) مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ مُخْطِئٌ (انْتِهَاءً) فِيمَا طَلَبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا الْأَخِيرُ (الْمُخْتَارُ) عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ نَقْلَ الْحَنَفِيَّةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لَا يَتَحَقَّقُ إذْ الِابْتِدَاءُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ) أَيْ الْمُجْتَهِدُ (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (مُؤْتَمِرٌ غَيْرُ مُخْطِئٍ بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (قَطْعًا) وَكَيْفَ، وَهُوَ آتٍ بِمَا كُلِّفَ بِهِ مُمْتَثِلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا فِي
(3/307)
التَّقْوِيمِ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا لِلْحَقِّ فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى إنَّ عَمَلَهُ يَقَعُ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَجَعَلَ قَضَاءَهُ فِي حَقِّهِ صَوَابًا مَعَ فَتْوَاهُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ انْتَهَى غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي الْمَعْنَى لِمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(وَإِنْ حُمِلَ) كَوْنُهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً (عَلَى خَطَئِهِ فِيهِ) أَيْ فِي الِاجْتِهَادِ (لِإِخْلَالِهِ بِبَعْضِ شُرُوطِ الصِّحَّةِ) لِلِاجْتِهَادِ (فَاتِّفَاقٌ) أَيْ فَكَوْنُهُ مُخْطِئًا اتِّفَاقٌ وَقِيلَ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً وَابْتِدَاءً أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ أَنَّ دَلِيلَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا إلَى مَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ.
وَمَنْ قَالَ: مُخْطِئٌ انْتِهَاءً لَا ابْتِدَاءً أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ ابْتِدَاءً اسْتِفْرَاغَ الْجُهْدِ فِي رِعَايَةِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ وَفِي الدَّلِيلِ الْمُوصِلِ إلَى مَا هُوَ الْحَقُّ (لَنَا) عَلَى الْمُخْتَارِ (لَوْ كَانَ الْحُكْمُ) فِي الْحَادِثَةِ (مَا) أَدَّى اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ (إلَيْهِ كَانَ) الْمُجْتَهِدُ (بِظَنِّهِ) لِلْحُكْمِ (يَقْطَعُ بِأَنَّهُ) أَيْ مَظْنُونَهُ (حُكْمُهُ تَعَالَى، وَالْقَطْعُ) ثَابِتٌ (بِأَنَّ الْقَطْعَ) بِأَنَّ مَظْنُونَهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى (مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (وَالْإِجْمَاعَ) أَيْضًا ثَابِتٌ (عَلَى جَوَازِ تَغَيُّرِهِ) أَيْ ظَنِّهِ بِظَنِّ غَيْرِهِ.
(وَ) عَلَى (وُجُوبِ الرُّجُوعِ) عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ (وَأَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ (لَمْ يَزُلْ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَطْعِ) بِهِ بَلْ يَتَأَكَّدُ أَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ بِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مُتَعَلَّقَهُ هُوَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ عَالِمًا بِالشَّيْءِ مَا دَامَ ظَانًّا لَهُ وَلَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ اجْتِمَاعَ الظَّنِّ، وَالْعِلْمِ فِيهِ إذْ الظَّنُّ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: انْتِفَاءُ الظَّنِّ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِبَقَاءِ الظَّنِّ (وَإِنْكَارُهُ) أَيْ بَقَاءِ الظَّنِّ (بُهْتٌ) أَيْ مُكَابَرَةٌ (فَيَجْتَمِعُ الْعِلْمُ، وَالظَّنُّ) لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ (فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ) لِلْحُكْمِ (وَعَدَمِهِ) أَيْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ (وَإِلْزَامُ كَوْنِهِ) أَيْ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ (مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ) ، فَإِنَّهُ كَمَا يَلْزَمُ إصَابَةُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ إصَابَةُ وَاحِدٍ وَخَطَأُ الْآخَرِينَ أَيْضًا لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ صَوَابًا كَانَ، أَوْ خَطَأً يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ، وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَيَكُونُ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا حَالَ كَوْنِهِ ظَانًّا فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ وَعَدَمُ الْقَطْعِ وَهُمَا نَقِيضَانِ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ كَانَ الدَّلِيلُ بَاطِلًا إذْ بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَنْشَأَ الْفَسَادِ لَيْسَ خُصُوصِيَّةَ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ (مُنْتَفٍ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ اتَّحَدَ مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ، وَالْعِلْمِ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَتَّحِدْ هُنَا (لِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الظَّنِّ، وَهُوَ) أَيْ مَحِلُّهُ (حُكْمُهُ أَيْ خِطَابُهُ) تَعَالَى الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ (وَ) مَحِلُّ (الْعِلْمِ، وَهُوَ) أَيْ مَحِلُّهُ (حُرْمَةُ مُخَالَفَتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ (بِشَرْطِ بَقَاءِ ظَنِّهِ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ لَا أَنَّ مَحِلَّهُ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ (فَهُنَا خَطَأٌ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْمَظْنُونُ وَتَحْرِيمُ تَرْكِهِ) أَيْ الْمَظْنُونِ (وَيُلَازِمُهُ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعَ (إيجَابُ الْفَتْوَى بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ (وَهُمَا) أَيْ تَحْرِيمُ تَرْكِهِ وَإِيجَابُ الْفَتْوَى بِهِ (مُتَعَلِّقَةٌ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ (الْمَعْلُومُ) بِالرَّفْعِ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْمَحِلَّانِ (بِخِلَافِ) قَوْلِ (الْمُصَوِّبَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ إلَّا مَا تَأَدَّى إلَيْهِ) الِاجْتِهَادُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُتَعَلَّقُ الْعِلْمِ كَمَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ فَيَتَّحِدُ الْمَحِلَّانِ.
(فَإِنْ قَالُوا) أَيْ الْمُصَوِّبَةُ هَذَا الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ بَيَانُ تَعَدُّدِ مُتَعَلِّقِي الْعِلْمِ، وَالظَّنِّ يَجْرِي فِي دَلِيلِكُمْ؛ لِأَنَّا (نَقُولُ مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ كَوْنُهُ) أَيْ الدَّلِيلُ (دَلِيلًا) أَيْ دَالًّا عَلَى الْحُكْمِ (وَ) مُتَعَلَّقُ (الْعِلْمِ ثُبُوتُ مَدْلُولِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ (شَرْعًا بِذَلِكَ الشَّرْطِ) أَيْ بَقَاءُ ظَنِّهِ (فَإِذَا زَالَ) ظَنُّهُ (رَجَعَ) عَنْهُ لِزَوَالِ شَرْطِ ثُبُوتِهِ، وَهُوَ ظَنُّ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ قَدْ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ (أُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهُ) أَيْ الدَّلِيلِ (دَلِيلًا) أَيْضًا (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَمَلِيٍّ) أَيْ لَيْسَ بِخِطَابِ تَكْلِيفٍ
(3/308)
بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اعْتِقَادِيٌّ هُوَ كَوْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي لَاحَ لِلْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا
(فَإِذَا ظَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا فَقَدْ (عَلِمَهُ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا إذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا بِهِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِظَنِّهِ وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِ أَنَّهُ دَلِيلٌ فَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إذْ هَذَا مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ دَلِيلٌ (وَيَتِمُّ إلْزَامُهُ) أَيْ دَلِيلِ الْمُصَوِّبَةِ (اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ) ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهِ بِخِلَافِ الْمُخَطِّئَةِ، فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يُوجِبُ ظَنَّ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ظَنِّ الدَّلِيلِ دَلِيلًا مُخْطِئًا أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ خِلَافُ الْفَرْضِ هَذَا وَفِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ
وَهُنَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مَنَاطَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ ظَنَّ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَا نَفْسَ الدَّلِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا، وَتَجْوِيزُ كَوْنِ غَيْرِهِ دَلِيلًا لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْغَيْرِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الظَّنُّ بِكَوْنِ الْغَيْرِ دَلِيلًا فَالْمَظْنُونُ مَا دَامَ مَظْنُونًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِذَا صَارَ غَيْرُهُ مَظْنُونًا انْتَفَى الظَّنُّ الْمُتَعَلِّقُ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي انْدِفَاعِ التَّنَاقُضِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إصَابَتَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ لَا فِي كُلِّ حُكْمٍ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَالْجَوَابُ) مِنْ قِبَلِ الْمُصَوِّبَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ (أَنَّ اللَّازِمَ) مِنْ ظَنِّ الدَّلِيلِ (ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجُوعُ) عَنْهُ (وَهُوَ) أَيْ مَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَنْهُ (انْفِسَاخُ هَذَا الْحُكْمِ بِظُهُورِ) الْحُكْمِ (الْمَرْجُوعِ) إلَيْهِ (لَا) ظُهُورِ (خَطَئِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ (وَبُطْلَانُهُ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ (وَتَجْوِيزُ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ) الْأَوَّلِ (بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَطْعِ بِهِ حَالَ هَذَا التَّجْوِيزِ) لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ (فَبَطَلَ الدَّلِيلُ) الْمَذْكُورُ لِلْمُخَطِّئَةِ (عَنْهُمْ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ.
(وَبِهَذَا) الْجَوَابِ (يَنْدَفِعُ) عَنْ الْمُصَوِّبَةِ الدَّلِيلُ (الْقَائِمُ) مِنْ الْمُخَطِّئَةِ (لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ اللَّازِمُ لِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ (امْتَنَعَ الرُّجُوعُ) عَنْ الْحُكْمِ (لِاسْتِلْزَامِهِ) أَيْ الرُّجُوعِ عَنْهُ (ظَنَّ النَّقِيضِ) لِلْحُكْمِ (وَالْعِلْمُ) بِهِ (يَنْفِي احْتِمَالَهُ) لِظَنِّ نَقِيضِهِ (فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ حِينَ كَانَ عِلْمًا، أَوْ لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِعِلْمِهِ (جَازَ ظَنُّهُ) أَيْ النَّقِيضِ (مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ) بِالْحُكْمِ الَّذِي نَقِيضُهُ ذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ مُوجِبُ الْعِلْمِ (الظَّنُّ الْأَوَّلُ) وَجَوَازُ الظَّنِّ مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ بَاطِلٌ، بَيَانَ الْمُلَازَمَةِ قَوْلُهُ: (لِجَوَازِ الرُّجُوعِ، أَوْ لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ (امْتَنَعَ ظَنُّهُ) أَيْ ظَنُّ نَقِيضِهِ (مَعَ تَذَكُّرِ الظَّنِّ) لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ (لِامْتِنَاعِ ظَنِّ نَقِيضِ مَا عَلِمَ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ) لِلْعِلْمِ بِهِ لِوُجُودِ دَوَامِ الْعِلْمِ بِدَوَامِ مُلَاحَظَةِ مُوجِبِهِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ ظَنُّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ (لَمْ يَكُنْ) ذَلِكَ الْمُوجِبُ (مُوجِبًا) هَذَا خُلْفٌ (لَكِنَّهُ) أَيْ ظَنَّ نَقِيضِ الْأَوَّلِ (جَائِزٌ بِالرُّجُوعِ) عَنْ الْأَوَّلِ إلَى نَقِيضِهِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ أَدِلَّةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُخَطِّئَةِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ (وَقَدْ لَا يُكْتَفَى بِدَعْوَى ضَرُورِيَّةِ الْبُهُتِ) لِإِمْكَانِ بَقَاءِ الظَّنِّ (فَتُجْعَلُ) هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ (دَلِيلَ بَقَاءِ الظَّنِّ عِنْدَ الْقَطْعِ بِمُتَعَلَّقِهِ) أَيْ الظَّنِّ (لَا) دَلِيلًا (مُسْتَقِلًّا وَأَلْزَمَ عَلَى الْمُخْتَارِ) ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُخَطِّئَةِ (انْتِفَاءَ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا فِي الْأَمَارَةِ) حَيْثُ قَالُوا: لَا يَمْتَنِعُ زَوَالُ ظَنِّ الْحُكْمِ إلَى ظَنِّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْأَمَارَةِ الَّتِي عَنْهَا الظَّنُّ مَعَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ.
(وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا الْإِلْزَامِ (أَنَّ بُطْلَانَهُ) أَيْ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا الَّذِي هُوَ التَّالِي إنَّمَا هُوَ (فِي غَيْرِهَا) أَيْ الْأَمَارَةِ (أَمَّا هِيَ) أَيْ الْأَمَارَةُ (فَإِذَنْ لَا رَبْطَ عَقْلِيٌّ) بَيْنَ الظَّنِّ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوجِبٍ (جَازَ انْتِفَاءُ مُوجِبِهَا مَعَ تَذَكُّرِهَا) كَمَا يَزُولُ ظَنُّ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْ الْغَيْمِ الرَّطْبِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لَهُ إلَى عَدَمِ نُزُولِهِ مَعَ وُجُودِهِ بَلْ رُبَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِنَقِيضِهِ كَمَا إذَا ظَنَّ شَخْصٌ كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ لِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ رَآهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لِلْمُخَطِّئَةِ مَا تَقَدَّمَ دَلِيلًا لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلَ (بَلْ الدَّلِيلُ إطْلَاقُ) الصَّحَابَةِ (الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ شَائِعًا مُتَكَرِّرًا بِلَا نَكِيرٍ كَعَلِيٍّ
(3/309)
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُخَطِّئَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ الْعَوْلِ، وَهُوَ) أَيْ ابْنُ عَبَّاسٍ (خَطَّأَهُمْ) فِي الْقَوْلِ بِهِ (فَقَالَ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ) أَيْ لَاعَنْتُهُ، وَالْحَقِيقَةُ التَّضَرُّعُ فِي الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ (إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ وَاحِدٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا) لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إنْكَارِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ صَرِيحًا وَقَدَّمْنَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةِ إذَا أَفْتَى بَعْضُهُمْ تَخْرِيجَ تَخْطِئَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنًى لِلْقَائِلِينَ بِنَحْوِ هَذَا السِّيَاقِ بِدُونِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته
(وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي) فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ (إلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ) أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَلَدَ، وَالْوَالِدَ فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ: إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَأَيْت فِي الْكَلَالَةِ رَأْيًا، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ قِبَلِي وَالشَّيْطَانِ، الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَالِدَ، وَالْوَلَدَ.
(وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ (قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا) زَوْجُهَا (أَجْتَهِدُ إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا وَيُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ (وَعَنْهُ) أَيْ ابْنِ مَسْعُودٍ (مِثْلُ) قَوْلِ (أَبِي بَكْرٍ) الْمَاضِي فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَثَرُ بِدُونِ هَذَا فِي الْكَلَامِ فِي جَهَالَةِ الرَّاوِي (وَقَوْلُ عَلِيٍّ لِعُمَرَ فِي الْمُجْهِضَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا خَوْفًا مِنْ عُمَرَ لَمَّا اسْتَحْضَرَهَا وَسَأَلَ عُمَرُ مَنْ حَضَرَهُ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ لَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا ثُمَّ سَأَلَ عَلِيًّا: مَاذَا تَقُولُ فَقَالَ: (إنْ كَانَا قَدْ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ يَعْنِي عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ) ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدَا فَقَدْ غَشَّاكَ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَلَّامَةِ وَمَشَى عَلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ الْعَضُدِيِّ
وَعَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْمُجْهِضَةِ إنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك انْتَهَى، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْأَجْنَادِ يَغْشَاهَا الرِّجَالُ بِاللَّيْلِ يَدْعُوهَا وَكَانَتْ تَرْقَى فِي دَرَجٍ فَفَزِعَتْ فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ فِيهَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إنَّك مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك قَالَ عَلِيٌّ: إنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك عَلَيْك الدِّيَةُ فَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ: عَزَمْت عَلَيْك لَتَقْسِمَنَّهَا عَلَى قَوْمِك قِيلَ أَرَادَ قَوْمَ عُمَرَ وَأَضَافَهُمْ إلَى عَلِيٍّ إكْرَامًا، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إنْ كَانَ وَمَا بَعْدَهُ فِي الْعَضُدِيِّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا لِعُثْمَانَ كَمَا ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا عَلَى أُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ الْحَسَنَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ثُمَّ الْإِجْهَاضُ إلْقَاءُ الْوَلَدِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَالْمَعْرُوفُ تَخْصِيصُهُ بِالْإِبِلِ قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ.
(وَاسْتُدِلَّ) لِلْمُخْتَارِ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ أَحَدُهَا إنْ كَانَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمُجْتَهِدَيْنِ، أَوْ كِلَاهُمَا بِلَا دَلِيلٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا بِدَلِيلٍ فَالْجَوَابُ (إنْ تَسَاوَى دَلِيلَاهُمَا تَسَاقَطَا) وَكَانَ الْحُكْمُ الْوَقْفَ، أَوْ التَّخْيِيرَ فَكَانَا فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ مُخْطِئَيْنِ (وَإِلَّا) إنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا (تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ) لِلصِّحَّةِ وَيَكُونُ الْآخَرُ خَطَأً إذْ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ (وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ) التَّقْسِيمَ إنَّمَا هُوَ (بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْأَمَارَاتِ تُرَجِّحُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ) إذْ لَيْسَتْ أَدِلَّةً فِي نَفْسِهَا بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَظَرِ النَّاظِرِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ (فَكُلٌّ) مِنْ الْقَوْلَيْنِ (رَاجِحٌ عِنْدَ قَائِلِهِ وَصَوَابٌ) لِرُجْحَانِ أَمَارَتِهِ عِنْدَهُ، وَرُجْحَانُهُ عِنْدَهُ هُوَ رُجْحَانُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ثَانِيهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَبِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ طَالِبٌ) لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ (وَيَسْتَحِيلُ) طَالِبٌ (بِلَا مَطْلُوبٍ) فَإِذَنْ لَهُ مَطْلُوبٌ (فَمَنْ أَخْطَأَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ فَهُوَ (الْمُخْطِئُ) ، وَمِنْ وَجَدَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ (أُجِيبَ نَعَمْ) يَسْتَحِيلُ طَالِبٌ وَلَا مَطْلُوبَ (فَهُوَ) أَيْ الْمَطْلُوبُ (غَلَبَةُ ظَنِّهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ (فَيَتَعَدَّدُ الصَّوَابُ) لِتَعَدُّدِ الْغَالِبِ عَلَى الظُّنُونِ لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَالِثُهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى شَرْعِ الْمُنَاظَرَةِ) بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ (وَفَائِدَتُهَا ظُهُورُ الصَّوَابِ) عَنْ الْخَطَإِ وَتَصْوِيبُ الْجَمِيعِ يَنْفِي ذَلِكَ (وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ) أَيْ حَصْرِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ (لِجَوَازِهَا) أَيْ فَائِدَتِهَا أَنْ تَكُونَ (تَرْجِيحًا) أَيْ بَيَانُ تَرْجِيحِ إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى
(3/310)
فَتُعْتَمَدُ الرَّاجِحَةُ، أَوْ تَسَاوِيهِمَا فَيُحْكَمُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ وَقْفٍ، أَوْ غَيْرِهِ (وَتَمْرِينًا) لِلنَّفْسِ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ فَتَحْصُلُ مَلَكَةُ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَأْخَذِ وَرَدِّ الشُّبَهِ وَتَشْحِيذُ الْخَاطِرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى الِاجْتِهَادِ (وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ) أَيْ تَمْرِينًا، فَإِنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْعَ الْمُنَاظَرَةِ لَيْسَ لِهَذَا فَفِي مَا قَبْلَهُ كِفَايَةٌ رَابِعُهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ.
(وَبِلُزُومِ) الْمُحَالِ كَحِلِّ الشَّيْءِ وَتَحْرِيمِهِ مَعًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْوِيبِ مِثْلُ (حِلِّ الْمُجْتَهِدَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَحُرْمَتِهَا لَوْ قَالَ بَعْلُهَا الْمُجْتَهِدُ كَالشَّافِعِيَّةِ: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ: رَاجَعْتُك) إذْ هِيَ بِالنَّظَرِ إلَى مُعْتَقَدِهِ حِلٌّ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَاتِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بَوَائِنَ فَتَجُوزُ الرَّجْعَةُ وَبِالنَّظَرِ إلَى مُعْتَقَدِهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عِنْدَهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فَلَا تَجُوزُ الرَّجْعَةُ (وَحِلُّهَا لِاثْنَيْنِ لَوْ تَزَوَّجَهَا مُجْتَهِدٌ بِلَا وَلِيٍّ) لِكَوْنِهِ يَرَى صِحَّتَهُ (ثُمَّ مِثْلُهُ) أَيْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مُجْتَهِدٌ (بِهِ) أَيْ بِوَلِيٍّ لِكَوْنِهِ لَا يَرَى صِحَّةَ الْأَوَّلِ (وَأُجِيبَ) بِأَنَّ هَذَا (مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ) إذْ يُرَدُّ عَلَى الْمُخَطِّئَةِ (إذْ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ ظَنِّهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ (فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا لَهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ كَالشَّافِعِيِّ لِكَوْنِ مَظْنُونِهِ جَوَازَ الرَّجْعَةِ.
(وَوُجُوبُهُ) أَيْ الْعَمَلِ (بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ) لِكَوْنِ مَظْنُونِهَا عَدَمَ جَوَازِ الرَّجْعَةِ (وَكَذَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ وَوُجُوبِهِ) أَيْ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا (لِلثَّانِي) فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُوبَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ لِتَنَاقُضِ مُتَعَلِّقِيهِمَا) نَظَرًا إلَى نَفْسَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ (اسْتَلْزَمَ اجْتِمَاعَ مُتَعَلِّقَيْهِ) أَيْ الْوُجُوبِ وَاجْتِمَاعَ (الْمُتَنَاقِضَيْنِ) ، فَإِنَّ حِلَّهَا لِأَحَدِهِمَا يُنَاقِضُ حِلَّهَا لِلْآخَرِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ (فَإِنْ أَجَبْتُمْ) أَيُّهَا الْمُخَطِّئَةُ بِأَنَّهُ (لَا يَمْتَنِعُ) اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ (بِالنِّسْبَةِ إلَى مُجْتَهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ) ، وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِيهِ مِثْلُ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ
(نَعَمْ يَسْتَلْزِمُ مِثْلُهُ مَفْسَدَةَ الْمُنَازَعَةِ) إذْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا فِي الْأُولَى أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ طَلَبُ التَّمْكِينِ مِنْهَا وَلِلزَّوْجَةِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ طَلَبُ التَّمْكِينِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
(وَقَدْ يُفْضِي إلَى التَّقَاتُلِ فَيَلْزَمُ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا حِينَئِذٍ (رَفْعُهُ إلَى قَاضٍ يَحْكُمُ بِرَأْيِهِ فَيُلْزِمُ) حُكْمَهُ (الْآخَرَ وَإِذَنْ فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ مِثْلَهُ مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ) فَلَا يَتَعَلَّقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا (بَلْ الثَّابِتُ حُرْمَتُهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَفْسَدَةِ يَمْنَعُ شَرْعَ ذَلِكَ) أَيْ الْحُكْمَيْنِ مَعَ إيجَابِ الِارْتِفَاعِ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَفْسَدَةَ قَدْ تَقَعُ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَيْهِ بِأَنْ أَتَاهَا أَيْ الْمُجَوِّزُ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ لِشِدَّةِ حَاجَةٍ لَهُ إلَيْهَا، أَوْ أَتَاهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ فِي الْعَادَةِ فَتَقَعُ مَفْسَدَةُ الْمُنَازَعَةِ، وَالتَّقَاتُلِ فَوَجَبَ أَنَّ مِثْلَهُ، وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ إذَا وُجِدَ حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حُرْمَتُهَا إلَى أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَبِمَا وَضَّحْنَاهُ) مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ وَأَنَّ الثَّابِتَ حُرْمَتُهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ (انْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ لِرَفْعِ النِّزَاعِ إذَا تَنَازَعَا فِي التَّمْكِينِ، وَالْمَنْعِ لَا لِرَفْعِ تَعَلُّقِ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ بِوَاحِدٍ) ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عَلَى تَقْدِيرِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ذَكَرَهُ الْخَنْجِيُّ (وَقَرَّرَهُ مُحَقِّقٌ) أَيْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ التَّفْتَازَانِيُّ (وَهُوَ) أَيْ الْمُورَدُ (بَعْدَ انْدِفَاعِهِ بِمَا ذَكَرْنَا) الْآنَ مِنْ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ فَلَيْسَ الثَّابِتُ إلَّا حُرْمَتَهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ الرَّافِعِ لِلْخِلَافِ (غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ رَفْعِ تَعَلُّقِ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ بِالْقَضَاءِ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا) أَيْ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ (صَوَابًا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ رَفْعَهُ بِالْقَضَاءِ (نَسْخٌ مِنْهُ تَعَالَى) لِأَحَدِهِمَا (عِنْدَ حُكْمِ الْقَاضِي) بِالْمُوَافِقِ لِلْآخَرِ (كَالرُّجُوعِ) عَنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ، وَحَوْلَ هَذَا حَامَ الْأَبْهَرِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ تَعَلُّقَ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا يُفِيدُ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ مُعَارِضٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ
(قَالُوا) أَيْ الْمُصَوِّبَةُ (لَوْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَجَبَ النَّقِيضَانِ عَلَى الْمُخْطِئِ إنْ وَجَبَ حُكْمُ نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ) أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ ظَنِّهِ إجْمَاعًا، وَهُوَ مُحَالٌ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَجَبَ) عَلَيْهِ (الْعَمَلُ بِالْخَطَأِ) الَّذِي هُوَ مَظْنُونُهُ (وَحَرُمَ) عَلَيْهِ الْعَمَلُ (بِالصَّوَابِ) الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَهُوَ) أَيْ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ وَتَحْرِيمُهُ بِالصَّوَابِ (مُحَالٌ
(3/311)
أُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الثَّانِي) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ حُكْمِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُجُوبُ مَظْنُونِهِ (وَمَنْعِ انْتِفَاءِ التَّالِي) أَيْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ (لِلْقَطْعِ بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ فِيمَا لَوْ خَفِيَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ (قَاطِعٌ) مِنْ نَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى مُخَالَفَتِهِ (حَيْثُ تَجِبُ مُخَالَفَتُهُ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ (وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ) أَيْ خِلَافَ الْقَاطِعِ (خَطَأٌ إذْ الْخِلَافُ) فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ إنَّمَا هُوَ (فِيمَا لَا قَاطِعَ) فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ (أَمَّا مَا فِيهِ) دَلِيلٌ قَاطِعٌ (فَالِاجْتِهَادُ عَلَى خِلَافِهِ) أَيْ الْقَاطِعِ (خَطَأٌ اتِّفَاقًا) ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا لِتَقْصِيرِهِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ الطَّلَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ بَلْ إنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ لِبُعْدِ الرَّاوِي عَنْهُ، أَوْ لِإِخْفَائِهِ مِنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ
(قَالُوا) ثَانِيًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ) فَجَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلٍّ مِنْهُمْ هُدًى مَعَ اخْتِلَافِهِمْ (فَلَا خَطَأَ) فِي اجْتِهَادِهِ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ (ثَبَتَ الْهُدَى فِي الْخَطَإِ، وَهُوَ) أَيْ الْخَطَأُ (ضَلَالٌ) لَا هُدَى؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حُكْمٍ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى (أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ الْخَطَأَ (هُدًى مِنْ وَجْهٍ) ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْعَمَلَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا، أَوْ مُقَلِّدًا (فَيَتَنَاوَلُهُ) الِاهْتِدَاءُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِيهِ مُتَابَعَةُ مَا يُوصِلُ إلَى الصَّوَابِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ طُرُقٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مَا قَالُوا، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ تَكْمِيلٌ ثُمَّ وَجْهُ الْقَائِلِينَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَعَدُّدِهَا، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْكُلِّ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا فَتَرْجِيحُ بَعْضِهَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَوَجْهُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا أَحَقُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعِ لِتَحَقُّقِ إصَابَةِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا هُوَ الْحَقُّ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ بِأَدْنَى نَظَرٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ حَيْثُ كَانَ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي إتْعَابِ النَّفْسِ وَأَعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الطَّلَبِ فَائِدَةٌ بَلْ يَخْتَارُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ كَالْمُصَلِّي فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَخْتَارُ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَآخِذِ، وَالْمَدَارِكِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّظَرِ إظْهَارُ الصَّوَابِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَدَعْوَةُ الْمُخَالِفِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالدَّلِيلِ
وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَقِّيَّةِ لَمْ يَتَّجِهْ هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُنَاظَرَةَ فِي أَصْنَافِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَلَا بَيْنَ الْمُسَافِرِ، وَالْمُقِيمِ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِمَا لِثُبُوتِ الْحَقِّيَّةِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَلْزَمُ اللُّزُومُ الْمَذْكُورُ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُلٌّ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحُكْمُ بِحَقِّيَّةِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ تَابِعٍ لِاجْتِهَادِهِ وَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُمْكِنُ إصَابَةُ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَ مَا اجْتَهَدَ وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ مَعَ سَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاخْتِيَارُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فِي حَقِّهِ دُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ، وَالِاجْتِهَادِ وَلَا النَّظَرِ فِي الْمَآخِذِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِيمَا ذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(تَتِمَّةٌ مِنْ الْمُخَطِّئَةِ الْحَنَفِيَّةُ) فَقَدْ (قَسَمُوا الْخَطَأَ) بِالْمَعْنَى الْمُشَارِ إلَيْهِ يَعْنِي ضِدَّ الصَّوَابِ (وَهُوَ) أَيْ الْخَطَأُ بِهَذَا الْمَعْنَى (الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ) وَتَقَدَّمَ فِي مَبَاحِثِ النَّظَرِ تَعْرِيفُهُ.
وَالْكَلَامُ فِيهِ (إلَى ثَلَاثَةٍ) مِنْ الْأَقْسَامِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَوَّلًا أَنَّ الْخَطَأَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَثَانِيًا أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْآتِيَةِ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَلَا يَظْهَرُ انْطِبَاقُهُ عَلَى جَمِيعِهَا وَخُصُوصًا الْقِسْمَ الثَّالِثَ كَمَا سَيَظْهَرُ.
نَعَمْ قَسَمُوا الْجَهْلَ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْبَسِيطِ، وَالْمُرَكَّبِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي التَّلْوِيحِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مَبَاحِثِ النَّظَرِ حَيْثُ قَالَ فِي بَحْثِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسِبَةِ فَمِنْ الْأُولَى أَيْ الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الْجَهْلُ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ، فَإِنْ قَارَنَ اعْتِقَادَ النَّقِيضِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ
(3/312)
وَهُوَ الْمُرَادُ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَإِلَّا فَبَسِيطٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الشُّعُورِ، وَأَقْسَامُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَلَا شُبْهَةً فَهُوَ فِي الْغَايَةِ، وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ وَجَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا غَيْرَ أَنَّ تَرْبِيعَ الْأَقْسَامِ لَهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ مُوَافِقَةٌ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا تَثْلِيثُهَا كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَمُوَافِقَةٌ لِصَاحِبِ الْمَنَارِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ الْقِسْمُ (الْأَوَّلُ جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَلَا شُبْهَةً، وَهُوَ أَرْبَعَةُ) أَقْسَامٍ (جَهْلُ الْكَافِرِ بِالذَّاتِ) أَيْ ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ تَعَالَى (وَالصِّفَاتِ) أَيْ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْكَافِرَ (مُكَابِرٌ) أَيْ مُتَرَفِّعٌ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إنْكَارًا بِاللِّسَانِ وَإِبَاءً بِالْقَلْبِ (لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ) أَيْ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ (حِسًّا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُحِيطَةِ بِهِ) أَيْ بِالْكَافِرِ أَنْفُسًا وَآفَاقًا (وَعَقْلًا إذْ لَا يَخْلُو الْجِسْمُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَغَيْرِهَا (وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْحَوَادِثِ (حَادِثٌ بِالضَّرُورَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ إذْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مُقْتَضَى ذَاتِهِ وَيَسْتَلْزِمُ) الْحُكْمُ بِوُجُودِ ذَاتِهِ (الْحُكْمَ بِصِفَاتِهِ) الْعُلَى بِالضَّرُورَةِ (كَمَا عُرِفَ) فِي فَنِّ الْكَلَامِ.
(وَكَذَا مُنْكِرُ الرِّسَالَةِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا سِيَّمَا لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَالتَّسْلِيمِ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُهَا فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ (بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُعْجِزَةِ) وَهِيَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى خَارِقٌ لِلْعَادَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مُدَّعِي الرِّسَالَةِ مُقِرُّونَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ أَيْ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَارِقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، فَإِنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى مَمَرِّ السِّنِينَ (وَ) ثُبُوتُ (تَوَاتُرِ مَا يُوجِبُ النُّبُوَّةَ) لِمُدَّعِيهَا مِنْ أَهْلِيهَا بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى تَعْرِيفِهَا فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَيْضًا لِكَوْنِهَا ظَاهِرَةً مَحْسُوسَةً فِي زَمَانِهِ وَمَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ فِيمَا بَعْدَهُ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ وَخُصُوصًا ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِ مُنْكِرِهَا كَافِرًا مُكَابِرًا (لَا تَلْزَمُ مُنَاظَرَتُهُ) لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهَا حِينَئِذٍ ثُمَّ لِانْتِفَاءِ الْعُذْرِ فِي حَقِّ الْمُصِرِّ عَلَى الْكُفْرِ وَخُصُوصًا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبْقَ الْمُرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا صَارَ إلَيْهِ (بَلْ إنْ لَمْ يَتُبْ الْمُرْتَدُّ) بِأَنْ أَصَرَّ عَلَى مَا صَارَ إلَيْهِ (قَتَلْنَاهُ) وَخُصُوصًا إنْ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ.
وَفِي التَّلْوِيحِ، فَإِنْ قُلْت: الْكَافِرُ الْمُكَابِرُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ تَمَرُّدًا وَاسْتِكْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا قُلْت: مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ وَمُكَابَرَتُهُ تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الْآيَةَ وَمَعْنَى الْجَهْلِ فِيهِمْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُفَسَّرِ بِالْإِذْعَانِ، وَالْقَبُولِ انْتَهَى، وَهَذَا يُفِيدُ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ مُطْلَقُ الْجَهْلِ الشَّامِلِ لِلْبَسِيطِ، وَالْمُرَكَّبِ وَأَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ مَا يَكُونُ جَهْلًا بَسِيطًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ جَهْلًا مُرَكَّبًا (وَكَذَا) الْكَافِرُ مُكَابِرٌ (فِي حُكْمٍ لَا يَقْبَلُ التَّبَدُّلَ) عَقْلًا وَلَا شَرْعًا (كَعِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى) لِوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالنَّقْلِيَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ لِكُفْرِهِ حُكْمُ الصِّحَّةِ أَصْلًا.
(وَأَمَّا تَدَيُّنُهُ) أَيْ اعْتِقَادُ الْكَافِرِ (فِي) حُكْمِ (غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّبَدُّلَ، وَهُوَ مَا يَقْبَلُهُ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ حَالَ كَوْنِهِ (ذِمِّيًّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِبَارِهِ) أَيْ تَدَيُّنِهِ (دَافِعًا لِلتَّعَرُّضِ) لَهُ حَتَّى لَوْ بَاشَرَ مَا دَانَ بِهِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ (فَلَا يُحَدُّ لِشُرْبِ الْخَمْرِ إجْمَاعًا) لِتَدَيُّنِهِ لَهُ (ثُمَّ لَمْ يُضَمِّنُ الشَّافِعِيُّ مُتْلِفَهَا) أَيْ خَمْرَةً مِثْلَهَا إنْ كَانَ ذِمِّيًّا وَلَا قِيمَتَهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لَا لِحُرْمَتِهِ لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ كَالْمَيِّتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَإِتْلَافُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فَكُلُّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِهِ يَثْبُتُ بِعَقْدِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ بِإِشَاعَةِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْكَارُهُ تَعَنُّتٌ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِأَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُ بِعَقْدِ
(3/313)
الذِّمَّةِ فَكُلُّ مَا يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ وَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَرُّضِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ (وَضَمَّنُوهُ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ مُتْلِفَهَا مِثْلَهَا إنْ كَانَ ذِمِّيًّا وَقِيمَتَهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ (لَا لِلتَّعَدِّي) لِدِيَانَةِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ حِلَّهَا (بَلْ لِبَقَاءِ التَّقَوُّمِ) لَهَا (فِي حَقِّهِمْ) أَيْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَفْلَةَ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ عُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْخَمْرِ فَنَاشَدَهُمْ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ بِلَالٌ: إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِلَفْظِ وَلَّوْا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ كَإِتْلَافِهِ الشَّيْءَ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَالِيَّتِهِ وَتَقَوُّمِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهَا (وَلِأَنَّ الدَّفْعَ عَنْ النَّفْسِ، وَالْمَالِ بِذَلِكَ) أَيْ بِالتَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ أَقْدَمَ عَلَى الْإِتْلَافِ، وَالدَّفْعُ وَاجِبٌ (فَهُوَ) أَيْ التَّضْمِينُ (مِنْ ضَرُورَتِهِ) أَيْ الدَّفْعِ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ وَهِيَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَعَلَى الْمُتْلِفِ الذِّمِّيِّ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ تَمَلُّكِهَا وَتَمْلِيكِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهَا، وَالْقِيمَةُ غَيْرُهَا.
(ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَ) التَّدَيُّنُ (تَنَاوُلَ الْخِطَابِ إيَّاهُمْ) فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا (مَكْرًا بِهِمْ) ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ (وَاسْتِدْرَاجًا لَهُمْ) ، وَهُوَ تَقْرِيبُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ إلَى الْعُقُوبَةِ بِالتَّدْرِيجِ عَلَى وَجْهٍ لَا شُعُورَ لِلْعَبْدِ بِهِ كَالطَّبِيبِ يَتْرُكُ مُدَاوَاةَ الْمَرِيضِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّخْلِيطِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنْ الْبُرْءِ لَا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ (فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ كَخِطَابٍ لَمْ يَشْتَهِرْ فَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ بِنْتَه، أَوْ أُخْتَهُ صَحَّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا لَا إنْ تَرَافَعَا إلَيْنَا) لِانْقِيَادِهِمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] (لَا) إنْ دَفَعَ (أَحَدُهُمَا) صَاحِبَهُ إلَيْنَا (خِلَافًا لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (فِي) نِكَاحِ (الْمَحَارِمِ) ؛ لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ وَافَقَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَا لِإِبَاحَتِهِ أَصْلٌ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا يَبْقَى عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ لِقِصَرِ الدَّلِيلِ عَنْهُمْ فِيهِ بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ وَذَلِكَ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ فَقَالَا: يُقَوَّمَانِ فِي حَقِّهِمْ لِإِبَاحَتِهِمَا قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَيَبْقَيَانِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَالتَّقَوُّمِ، وَالضَّمَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيمَا لَيْسَ لِإِبَاحَتِهِ أَصْلٌ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَقَالَا: لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا، وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ (لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ثَابِتًا) قَبْلَ الْإِسْلَامِ (لِيَبْقَى) النِّكَاحُ عَلَيْهِ (لِقِصَرِ الدَّلِيلِ) عَنْهُمْ بِالدِّيَانَةِ بَلْ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهُمْ لِتَدَيُّنِهِمْ ذَلِكَ وَفَاءً بِالذِّمَّةِ (وَفِي مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا) صَاحِبَهُ إلَيْنَا أَيْضًا فَقَالَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الزَّوَالُ الْمَانِعُ مِنْ التَّفْرِيقِ بِانْقِيَادِ أَحَدِهِمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قِيَاسًا عَلَى إسْلَامِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَا يَتَوَارَثُونَ بِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَتَوَارَثُوا بِهَا.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فَيَكُونُ صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ إذْ كَانَ صَحِيحًا فَرَفْعُ أَحَدِهِمَا لَا يُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يُعَارِضُهُ فَيَبْقَى عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ عَارَضَ الْبَاقِيَ لِتَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي السُّكْرِ مُخَرَّجًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» (، وَلَوْ دَخَلَ) الْمَجُوسِيُّ (بِهَا) أَيْ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي هِيَ مَحْرَمٌ مِنْهُ (ثُمَّ أَسْلَمَ حُدَّ قَاذِفُهُمَا) ، وَالْوَجْهُ قَاذِفُهُ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ النُّسْخَةُ أَوَّلًا وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا ثُمَّ أَسْلَمَا حُدَّ قَاذِفُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا لِإِحْصَانِهِمَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ إحْصَانِهِمَا بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ عِنْدَهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ مُعْتَبَرَةً فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ فَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى دِيَانَتِهِمْ فِي الرِّبَا قُلْنَا: لَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ مُطْلَقًا مُعْتَبَرَةً فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بَلْ الدِّيَانَةُ الصَّحِيحَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ تَنَاوُلَ الرِّبَا صَحِيحَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (بِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقُوا بِهِ) أَيْ بِالرِّبَا (لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا وَسَاقَهُ وَفِيهِ وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ مِنْكُمْ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ» .
(وَأُورِدَ) عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ
(3/314)
كَذَلِكَ) أَيْ لَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ بِهِ صَحِيحَةً فَلَا يَكُونُ نِكَاحُهُنَّ صَحِيحًا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا بَعْدَ إسْلَامِهِمَا إذَا دَخَلَ بِهَا فِي الْكُفْرِ وَلَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ (لِأَنَّهُ) أَيْ جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ (نُسِخَ بَعْدَ آدَمَ فِي زَمَنِ نُوحٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَقَوْلِهِمَا: فَلَا حَدَّ وَلَا نَفَقَةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ) أَيْ نَسْخِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ (الْمُرَادُ مِنْ تَدَيُّنِهِمْ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ) أَيْ مَا كَانَ شَائِعًا مِنْ دِينِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَرَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ أَمْ لَمْ تَرِدْ حَقًّا، كَانَ أَوْ بَاطِلًا
وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ فِي زَمَنِ الْمَجُوسِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كِتَابِهِمْ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ دِيَانَةً لَهُمْ بِخِلَافِ الرِّبَا عِنْدَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُمْ إيَّاهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا دِيَانَةٌ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُعْتَقَدِهِمْ مَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضٌ مِنْهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ انْفِرَادِ الْقَلِيلِ بِعَدَمِ حَدِّ الزِّنَا وَنَحْوِهِ) ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَافِعًا أَصْلًا (وَلِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُوجِبُ الدَّلِيلَ كَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ (الشُّبْهَةُ) لِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ (فَيُدْرَأُ الْحَدُّ) بِهَا إذَا سَلَّمْنَا صِحَّةَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَكَوْنَهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا
(وَفَرَّقَ) أَبُو حَنِيفَةَ (بَيْنَ الْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ فَلَوْ تَرَكَ) الْمَجُوسِيُّ (بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا زَوْجَتُهُ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَيْ بِاعْتِبَارِ الرَّدِّ) مَعَ فَرْضِهِمَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمِيرَاثَ (صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا جَزَاءٌ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ) ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا عَجْزُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ الِاحْتِبَاسُ الدَّائِمُ، فَإِنَّ دَوَامَهُ بِلَا إنْفَاقٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ عَادَةً، وَالْمَرْأَةُ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الدَّوَامِ لِحَقِّ الزَّوْجِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ لِدَفْعِ هَلَاكِهَا فَتَكُونُ دِيَانَتُهَا مَحْبُوسَةً لِحَقِّهِ عَلَى الدَّوَامِ دَافِعَةً لِلْهَلَاكِ لَا مُوجِبَةً عَلَيْهِ شَيْئًا (فَلَوْ وَجَبَ إرْثُ) الْبِنْتِ (الزَّوْجَةِ) بِالزَّوْجِيَّةِ (بِدِيَانَتِهَا) بِالزَّوْجِيَّةِ (كَانَتْ) دِيَانَتُهَا (مُلْزِمَةً عَلَى) الْبِنْتِ (الْأُخْرَى) زِيَادَةَ الْمِيرَاثِ (وَالزِّيَادَةُ دَافِعَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةٌ، وَأَوْرَدَ أَنَّ الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ) أَيْ بِجَوَازِ نِكَاحِ أُخْتِهَا حَيْثُ اعْتَقَدَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ أُخْتِهَا الزِّيَادَةَ فِي الْمِيرَاثِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِهَا بِدِيَانَتِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نِزَاعِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِزَاعِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ (فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ) ، وَهُوَ فِي طَرِيقَةِ الدَّعْوَى مَعْزُوٌّ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ (إلَى أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي (أَنْ تَرِثَا) ، وَالْوَجْهُ أَنْ تَرِثَ بِهَا أَيْضًا أَيْ بِالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ بِهِمَا أَيْ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْبِنْتِيَّةِ لِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ عِنْدَهُ (وَأَنَّ النَّفْيَ) لِإِرْثِهَا بِالزَّوْجِيَّةِ (قَوْلُهُمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (لِعَدَمِ الصِّحَّةِ عِنْدَهُمَا وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ (بَلْ) إنَّمَا لَا تَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ عِنْدَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ (إنَّمَا تَثْبُتُ صِحَّتُهُ فِيمَا سَلَف) أَيْ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ) أَيْ نِكَاحِهِنَّ (سَبَبًا لِلْإِرْثِ) فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْمُحِيطِ.
وَمِنْ هُنَا مَا فِي التَّلْوِيحِ الْمُرَادُ بِالدِّيَانَةِ الْمُعْتَقَدُ الشَّائِعُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى شَرْعٍ فِي الْجُمْلَةِ (وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ) قَالَ: لَا تَرِثُ الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ (لِفَسَادِهِ) أَيْ النِّكَاحِ (فِي حَقِّ) الْبِنْتِ (الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا) أَيْ الْأُخْرَى (إذَا نَازَعَتْهَا) أَيْ الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ (عِنْدَ الْقَاضِي) فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ (دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تَعْتَقِدْهُ) أَيْ جَوَازَ النِّكَاحِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ مَبْنِيٌّ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا نَازَعَ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا بَعْدَ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ لِمَا سَنَذْكُرُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمُقْتَضَاهُ) أَيْ الْمَذْكُورِ لِأَبِي زَيْدٍ (أَنَّهَا) أَيْ الْبِنْتَ الْأُخْرَى (لَوْ سَكَتَتْ) عَنْ مُنَازَعَةِ أُخْتِهَا الزَّوْجَةِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ (وَرِثَتْ) الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضًا (وَلَا يُعْرَفُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (تَفْصِيلٌ) فِي أَنَّ الْبِنْتَ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ إرْثًا ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَرُدُّ عَلَى تَعْلِيلِ إيجَابِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْحَاجَةِ، وَالزَّوْجَةُ هُنَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَيْهَا لِكَوْنِهَا غَنِيَّةً، وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ حَبْسِ الزَّوْجِ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّمُ لِلزَّوْجَةِ فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ وُجُوبُهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ طَرِيقًا غَيْرَ هَذَا فَوَافَقَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ
(3/315)
وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْحَقُّ فِي النَّفَقَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَخَذَ بِدِيَانَتِهِ الصِّحَّةَ) لِنِكَاحِ مَحْرَمِهِ حَيْثُ نَكَحَهَا؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْتَزَمَ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا وَدِيَانَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ (فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ غَيْرِهِ) ، وَهُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ الزَّوْجَةِ (لِمُنَازَعَتِهِ بَعْدَهُ) أَيْ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَمْ يُوجَدْ (بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا) كَذَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُرَادُ مَنْ لَيْسَ مُشَارِكًا لِلْبِنْتِ الزَّوْجَةِ وَأَبِيهَا الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لَهُ
وَالْأَظْهَرُ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ (وَهُوَ الْبِنْتُ الْأُخْرَى) الَّتِي لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ لَهُ لِفَوَاتِ الِالْتِزَامِ مِنْهَا فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً هَذَا وَفِي الْمُحِيطِ وَكُلُّ نِكَاحٍ حُرِّمَ لِحُرْمَةِ الْمَحِلِّ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ يَقَعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُمْ لَا تَصِحُّ إذَا لَمْ تُعْتَمَدْ شَرْعًا كَدِيَانَتِهِمْ اجْتِمَاعَ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَدِيَانَتِهِمْ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَا تُعْتَمَدُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا لِضَرُورَةِ إقَامَةِ النَّسْلِ حَالَ عَدَمِ الْأَجَانِبِ وَهُمْ يَدِينُونَ جَوَازَهُ فِي حَالَةِ كَثْرَةِ الْأَجَانِبِ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْجَوَازِ بِدِيَانَتِهِمْ، وَمَشَايِخُنَا يَقَعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَالَ عَدَمِ الْأَجَانِبِ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ حَالَ كَثْرَةِ الْأَجَانِبِ فَكَانَ مَشْرُوعًا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَقَدْ اعْتَمَدُوا دِيَانَتَهُمْ جَوَازَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا، وَقَدْ أَنْكَرُوا النَّسْخَ فَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ فِي حَقِّهِمْ انْتَهَى، وَهَذَا يُفِيدُ أَنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْجَهَ مَا عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَمِنْهُمْ الْقُدُورِيُّ لَا الْقَوْلُ الْآخَرَ، وَإِنْ اخْتَارَهُ أَبُو زَيْدٍ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حِلَّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ حُكْمًا أَصْلِيًّا بَلْ كَانَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا لِتَحْصِيلِ النَّسْلِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ النَّسْلُ أَصْلًا، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُحِلَّ فِي شَرْعِهِ لِلرَّجُلِ أُخْتَهُ الَّتِي فِي بَطْنِهِ وَحَلَّتْ لَهُ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْبُعْدَى عَنْ الْقُرْبَى وَإِلَّا لَحَلَّتْ الْقُرْبَى كَالْبُعْدَى ثُمَّ لَمَّا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِكَثْرَةِ النَّسْلِ نُسِخَ حِلُّ تِلْكَ الْأَخَوَاتِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَيَلْزَمُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ غَيْرَ أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِبُلُوغِهِ إلَيْهِ، وَالشُّهْرَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمُقْتَضَى النَّظَرِ التَّفْصِيلُ وَفِي الْبَدِيعِ الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَعَلَى طَرِيقِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرْضِ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ، وَالتَّخْلِيلِ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحِلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا نَقِفُ عَلَى ذَلِكَ لِلْحَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ، وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ،.
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ حِسًّا لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَنَفْيُ الضَّمَانِ بِالْغَصْبِ، وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ، أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَتَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتَهَى.
وَهَذَا أَيْضًا يُفِيدُ فَسَادَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ فَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
(وَجَهْلِ الْمُبْتَدِعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ) وَمُوَافِقِيهِمْ (مَانِعِي ثُبُوتِ الصِّفَاتِ) الثُّبُوتِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ الْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ تَعَالَى (زَائِدَةٌ) عَلَى الذَّاتِ عَلَى اخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ هُوَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي (وَ) ثُبُوتُ (عَذَابِ الْقَبْرِ) ، وَإِنْكَارُهُ مَعْزُوٌّ فِي الْمَوَاقِفِ إلَى ضِرَارِ بْنِ عُمَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ
(3/316)
وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ اتَّفَقَ الْإِسْلَامِيُّونَ عَلَى حَقِّيَّةِ سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْكُفَّارِ وَبَعْضِ الْعُصَاةِ فِيهِ وَنُسِبَ خِلَافُهُ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرو، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لِمُخَالَطَةِ ضِرَارٍ إيَّاهُمْ وَتَبِعَهُ قَوْمٌ مِنْ السُّفَهَاءِ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ.
(وَ) ثُبُوتُ (الشَّفَاعَةِ) لِلرُّسُلِ، وَالْأَخْيَارِ وَخُصُوصًا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْعَرَصَاتِ وَبَعْدَ دُخُولِ النَّارِ (وَ) ثُبُوتُ (خُرُوجِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ) إذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ مِنْ النَّارِ (وَ) ثُبُوتُ جَوَازِ (الرُّؤْيَةِ) لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الِانْكِشَافِ التَّامِّ بِالْبَصَرِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (وَ) مِثْلُ (الشُّبْهَةِ لِمُثْبِتِيهَا) أَيْ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِلَّهِ تَعَالَى زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ لَكِنْ (عَلَى مَا يُفْضِي إلَى التَّشْبِيهِ) بِالْمَخْلُوقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ) عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ الْمُشَارِ إلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ التَّشْبِيهِ وَكَذَا مَا بَعْدَهَا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ (لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ) الْمُبْتَدِعُ فِي ذَلِكَ (إذْ تَمَسُّكُهُ بِالْقُرْآنِ، أَوْ الْحَدِيثِ، أَوْ الْعَقْلِ) فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي مَوْضِعِهِ (وَلِلنَّهْيِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أَيْ وَلِمَا رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ» لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ كَيْفَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ عَنْ أَحْمَدَ نَظَرًا، فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ مَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ غَفَرَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ هَلْ تُسَمُّونَ الذُّنُوبَ كُفْرًا، أَوْ شِرْكًا، أَوْ نِفَاقًا قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ: وَلَكِنَّا نَقُولُ مُؤْمِنِينَ مُذْنِبِينَ انْتَهَى.
قُلْت: وَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ عَنْ أَحْمَدَ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَسَكَتَ عَلَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ» ، فَإِنَّهُ هُوَ وَحَدِيثُ «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» مُؤَوَّلٌ بِتَرْكِ جُحُودٍ أَوْ مُقَارَنَةِ كُفْرٍ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهَا كُفْرًا لَمَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِقَضَائِهَا بِدُونِ تَجْدِيدِ إيمَانٍ (وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا بَدَلَ فَاشْهَدُوا إلَخْ «فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] » رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ بِعَبَّادٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا «فَاشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: أَيْ اشْهَدُوا لَهُ وَقَالَ الْحَاكِمُ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّةِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَصِدْقِ رُوَاتِهَا (وَجَمَعَ بَيْنَهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ (وَبَيْنَ) حَدِيثِ «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَرِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد مِلَّةً مَكَانَ " فِرْقَةً " وَلِأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد «ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَقَدْ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ وَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ مُنْفَرِدًا وَلَكِنْ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِنْ رِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ (أَنَّ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الْمُتَّبِعُونَ فِي
(3/317)
الْعَقَائِدِ، وَالْخِصَالِ وَغَيْرُهُمْ يُعَذَّبُونَ، وَالْعَاقِبَةُ الْجَنَّةُ وَعَدُوُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ) ، وَقَدْ ذَيَّلَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ الْمَوَاقِفَ بِذِكْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ قَالَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لِلنَّهْيِ (وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ) أَيْ الْمُبْتَدِعَةِ (عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَا شَهَادَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] (وَعَدَمُهُ) أَيْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ (فِي الْخَطَّابِيَّةِ) مِنْ الرَّافِضَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِكُفْرِهِمْ بَلْ لِتَدَيُّنِهِمْ الْكَذِبَ فِيهَا لِمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ وَحَلَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ (وَإِذْ كَانُوا) أَيْ الْمُبْتَدِعَةُ (كَذَلِكَ) أَيْ غَيْرَ كُفَّارٍ (وَجَبَ عَلَيْنَا مُنَاظَرَتُهُمْ) لِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ وَإِظْهَارِ الصَّوَابِ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَهُمْ (وَأُورِدَ اسْتِبَاحَةُ الْمَعْصِيَةِ كُفْرٌ) وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَامَّتُهُمْ يَسْتَبِيحُهَا فَيَكُونُونَ كُفَّارًا
(وَأُجِيبَ) بِأَنَّ عَدَّ فِعْلِهَا مُبَاحًا إنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا (إذَا كَانَ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَعَدَمِ دَلِيلٍ بِخِلَافِ مَا) يَكُونُ (عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كُفْرًا (وَالْمُبْتَدِعُ مُخْطِئٌ فِي تَمَسُّكِهِ) بِمَا لَيْسَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ بِدَلِيلٍ لِمَطْلُوبِهِ (لَا مُكَابِرٌ) لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ)
هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذْنِبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ سَابِقًا بِقَوْلِهِ: وَلِلنَّهْيِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ قَطْعًا مِنْ اعْتِقَادٍ رَاجِعٍ إلَى وُجُودِ إلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إلَى حُلُولِهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ، أَوْ إنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذَمِّهِ، أَوْ اسْتِخْفَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ فِي أُصُولٍ سِوَاهَا مِمَّا لَا نِزَاعَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاحِدٌ كَمَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَعُمُومِ الْإِرَادَةِ وَقِدَمِ الْكَلَامِ وَلَعَلَّ إلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ مَاضِيًا بِقَوْلِهِ إذْ تَمَسُّكُهُ بِالْقُرْآنِ، أَوْ الْحَدِيثِ، أَوْ الْعَقْلِ إذْ لَا خِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُخَالِفِ فِي ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُوَاظِبِ طُولَ الْعُمْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكَذَا الْمُتَلَبِّسُ بِشَيْءٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي تَكْفِيرُ الْخَطَّابِيَّةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُمْ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَمَ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الذَّنْبُ عَلَى مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَيَخْرُجَ الْمُكَفَّرُ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَعْتَقِدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَتَكْفِيرُهُ صَعْبٌ وَمَا يَعْرِضُ فِي قَلْبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ إنْ لَمْ تَكُنْ مُضَادَّةً لِذَلِكَ لَا يَكْفُرُ، وَإِنْ كَانَتْ مُضَادَّةً لَهُ، فَإِذَا فُرِضَتْ غَفْلَتُهُ عَنْهَا وَاعْتِقَادُهُ الشَّهَادَتَيْنِ مُسْتَمِرٌّ فَأَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرُ الْمِلَّةِ كَذَلِكَ وَيَكُونُ كَمُسْلِمٍ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا بِهِ كُفْرٌ لَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ تَوْبَتِهِ عَنْهُ فَهَذَا مَحِلُّ نَظَرٍ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الَّتِي يُكَفِّرُ بِهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ قَدْ لَا يَعْتَقِدُهَا صَاحِبُهَا إلَّا حِينَ بَحْثِهِ فِيهَا لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، أَوْ مُجَادَلَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ يَغْفُلُ عَنْهَا، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَوْتِ انْتَهَى فِيهِ مَا فِيهِ ثُمَّ عَدَمُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا وَجَعَلَهُ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى مَا فِي مُنْتَقَى الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ مَنْ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ: مَنْ فَضَّلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَحَبَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَلَمْ يُحَرِّمْ نَبِيذَ الْجَرِّ وَلَمْ يُكَفِّرْ وَاحِدًا بِذَنْبٍ وَرَأَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَنْطِقْ فِي اللَّهِ بِشَيْءٍ قَالُوا: وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: لَا أَرُدُّ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّ الْكَذِبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا يُفِيدُ كُفْرَهُمْ كَمَا سَلَفَ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ وَقَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي عِبَارَةٍ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ قُلْت بَلْ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ مَقَالَاتِ
(3/318)
الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ ضَلَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَصَارُوا فِرَقًا مُتَبَايِنِينَ إلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْمَعُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ انْتَهَى فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا: أَظْهَرُ مَذْهَبَيْ الْأَشْعَرِيِّ تَرْكُ تَكْفِيرِ الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَيْضًا وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ وَقَالُوا: إنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ كَمَا يُكَفِّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَلَى هَذَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ وَهَلْ يُقْطَعُ بِدُخُولِهِ فِيهَا حَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِ وَجْهَيْنِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّةَ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُجَسِّمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرَةٌ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمَوَاقِفِ وَقَدْ كَفَّرَ الْمُجَسِّمَةَ مُخَالِفُوهُمْ قَالَ الشَّارِحُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسَايَرَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجِسْمِ مُخْتَارًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ اقْتِضَاءِ النَّقْصِ اسْتِخْفَافٌ انْتَهَى.
نَعَمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِصَاحِبِهِ فَمَنْ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إجْمَاعٌ وَمَالِكٌ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَوْ لَمْ يُكَفَّرُوا بِأَهْوَائِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَتَابَعَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ إجْمَاعُ مَنْ قَبْلَهُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
(وَجَهْلُ الْبَاغِي، وَهُوَ) الْمُسْلِمُ (الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا بِذَلِكَ (بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِمُخَالَفَتِهِ التَّأْوِيلَ الْوَاضِحَ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِّ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ ظَاهِرَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا قَالُوا: وَهَذَانِ الْجَهْلَانِ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ جَهْلُ الْبَاغِي (دُونَ جَهْلِ الْمُبْتَدِعَةِ) فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِهِ نَعَمْ (لَمْ يُكَفِّرْهُ) أَيْ الْبَاغِيَ (أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُضَمَّ) الْبَاغِي (أَمْرًا آخَرَ) يَكْفُرُ بِهِ إلَى الْبَغْيِ (وَقَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا) فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ أُخُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ (فَنُنَاظِرُهُ) أَيْ الْبَاغِيَ (لِكَشْفِ شُبْهَتِهِ) لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِلَا قِتَالٍ (بَعَثَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ) كَمَا أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.
(فَإِنْ رَجَعَ) الْبَاغِي إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ (بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا وَجَبَ جِهَادُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْبَغْيَ مَعْصِيَةٌ وَمُنْكَرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ مُحَارَبَتُهُمْ إذَا تَجَمَّعُوا وَعَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا السَّوْقِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقِتَالُ وَاجِبٌ قَبْلَهَا، وَأَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ أَحْسَنُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا لِمَاذَا يُقَاتَلُونَ فَصَارُوا كَالْمُرْتَدِّينَ (وَمَا لَمْ يَصِرْ لَهُ) أَيْ الْبَاغِي (مَنَعَةٌ) بِالتَّحْرِيكِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ قُوَّةٌ يَمْنَعُ بِهَا مَنْ قَصَدَ مِنْ الْأَعْدَاءِ (فَيَجْرِي عَلَيْهِ) أَيْ الْبَاغِي (الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ) فِي قِصَاصِ النُّفُوسِ وَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّهِمْ (فَيُقْتَلُ) الْبَاغِي (بِالْقَتْلِ) الْعَمْدِ لِلْعُدْوَانِ (وَيَحْرُمُ بِهِ) أَيْ بِالْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِمُوَرِّثِهِ الْإِرْثُ مِنْهُ (وَمَعَهَا) أَيْ الْمَنَعَةِ (لَا) يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ (لِقُصُورِ الدَّلِيلِ عَنْهُ) أَيْ الْبَاغِي (لِسُقُوطِ إلْزَامِهِ) بِسَبَبِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْخِطَابِ عَنْهُ (وَالْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ) حِسًّا وَحَقِيقَةً فِيمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ
(3/319)
بِوَاسِطَةِ الْمَنَعَةِ (فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ) الْفَاسِدِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَا، وَهُوَ الْإِثْمُ، فَإِنَّ الْبَاغِيَ يَأْثَمُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَلَا تَسْقُطُ حُقُوقُهُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى اللَّهِ حَرَامٌ أَبَدًا، وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ (وَلَا نَضْمَنُ مَا أَتْلَفْنَا مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ) وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فَلَا يَضْمَنُ الْبَاغِي مَا أَتْلَفَ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ أَخْذِهِ، أَوْ تَوْبَتِهِ كَمَا فِي الْحَرْبِيِّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ تَفْرِيعًا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِتَأْوِيلِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فِي يَدِهِ وَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ كَمَا لَا يَمْلِكُ مَالَهُ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ فِي الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ ثُمَّ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً فَيُفْتَوْنَ بِهِ وَلَا يُفْتَى أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ ضَمَانِ الْبَاغِي مَنُوطٌ بِالْمَنَعَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ فَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْهُ كَقَوْمٍ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَقَتَلُوا وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ بِلَا تَأْوِيلٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ انْفَرَدَ التَّأْوِيلُ عَنْهَا بِأَنْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ عَنْ تَأْوِيلٍ ضَمِنُوا إذَا تَابُوا، أَوْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى إنَاطَةِ نَفْيِ الضَّمَانِ بِالْمَنَعَةِ.
وَالتَّأْوِيلِ كَمَا يُفِيدُهُ مَا فِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إنَّهَا رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً قَالَ فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الْأُولَى ثَارَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا كَثِيرٌ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا يُرَدُّ مَالٌ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا وَأَنْ يُحَدَّ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهَا وَبَقَاءُ مَا عَدَا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عَلَى حُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ لَهُ (وَيُدَفَّفُ عَلَى جَرْحَاهُمْ) فِي الْمُغْرِبِ دَفَّفَ عَلَى الْجَرِيحِ بِالدَّالِ، وَالذَّالِ أَسْرَعَ قَتْلَهُ وَفِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ عِبَارَةٌ عَنْ إتْمَامِ الْقَتْلِ وَيُتَّبَعُ مُوَلِّيهِمْ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يُتَّبَعُ مُوَلِّيهمْ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ الْوَاجِبُ ذِكْرَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ ظَاهِرُ الْكِتَابِ كَغَيْرِهِ وُجُوبُ التَّدْفِيفِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَبْسُوطِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَاقِيَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُتَّبَعُ مُدْبِرٌ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَإِذَا كَانَ لَهُمَا فِئَةٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَحَيَّزَانِ إلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُمَا كَمَا كَانَ وَأَصْحَابُ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ (وَيَرِثُ) الْعَادِلُ (مُوَرِّثَهُ) الْبَاغِيَ (إذَا قَتَلَهُ) اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِالْعَادِلِ.
(وَكَذَا عَكْسُهُ) أَيْ يَرِثُ الْبَاغِي مُوَرِّثَهُ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ، وَقَالَ: كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَيْهِ مُوَافَقَةً (لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إرَادَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ عِنْدَهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَرِثُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي دَفْعِ الضَّمَانِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: الْمُتَحَقَّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعْلُ تِلْكَ الْمَنَعَةِ وَالِاعْتِقَادِ دَافِعًا مَا لَوْلَاهُ لَثَبَتَ لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الثُّبُوتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْمَنَعَةُ وَالِاعْتِقَادُ لَثَبَتَ الضَّمَانُ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ فَيَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ قَائِمَةٌ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَانِعٌ وُجِدَ عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْمَنَعَةِ فَمَنَعَ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْمَنْعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ
(3/320)
مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ (وَلَا يَمْلِكُ مَالَهُ) أَيْ الْبَاغِي (بِوَحْدَةِ الدَّارِ) أَيْ بِسَبَبِ اتِّحَادِ دَارِ الْعَادِلِ، وَالْبَاغِي؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذْ تَمَلُّكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ اخْتِلَافِ الدَّارِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ ثُمَّ (عَلَى هَذَا) أَيْ عَدَمُ تَمَلُّكِ مَالِ الْبَاغِي (اتَّفَقَ عَلِيٌّ، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ وَلَا يُفْتَحَ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلَّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَزَادَ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يَأْخُذُ مَالًا لِمَقْتُولٍ وَيَقُولُ: مَنْ عَرَّفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهُ فَكَانَ اتِّفَاقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
(وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ الْكِتَابَ كَحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَ) جَوَازُ (الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) مِنْ الْمُدَّعِي (مَعَ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الْآيَةَ قَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ كَافِيًا فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ لَيْسَ بِكَافٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ انْتَهَى وَأُجِيبَ بِمَنْعِ إرَادَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الذِّكْرَ بِكَلِمَةِ عَلَى، وَهُوَ يُفِيدُ إرَادَتَهُ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: ذُكِرَ عَلَيْهِ وَسُمِّيَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا يُقَالُ بِقَلْبِهِ قُلْت عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَرُدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ حَقِيقَتُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْمَعْنَى لِلنَّفْسِ كَمَا هُوَ نَقِيضُ النِّسْيَانِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَعْنَى مِنْ النَّفْسِ لِلُزُومِ عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ مَا نُسِيَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْمِلَّةُ لِيَدْخُلَ النِّسْيَانُ أَيْضًا وَأَيْضًا النَّهْيُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبِحَمْلِ الذِّكْرِ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ ثُمَّ إقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَهُ لَا يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا فَتَعَيَّنَ إرَادَةُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ لِيَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَلَا يُقَالُ: الْمُرَادُ ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ، وَالْمَجُوسِيِّ فَيُتَصَوَّرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: حُرْمَةُ ذَبَائِحِهِمْ لَا بِاعْتِبَارِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى انْتَهَى.
هَذَا وَكَوْنُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ سَوَاءٌ كَانَ مَيْتَةً، أَوْ ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وَالْفِسْقُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مُحْوِجٌ إلَى مُعَيَّنٍ لَهُ، وَالشَّأْنُ فِي ذَلِكَ نَعَمْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حُرْمَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَسَبَبَ النُّزُولِ وَإِجْمَاعَ مَنْ عَدَا عَطَاءً دَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِاللَّحْمِ، وَالشَّحْمِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَأَجْزَائِهِ ثُمَّ هُوَ يَعُمُّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد وَبِشْرٌ لَكِنْ خَرَجَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا إمَّا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَحْثٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَيَخْدِشُهُ مَا أَخْرَجَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ قَصَّابًا ذَبَحَ شَاةً وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ غُلَامًا لَهُ أَنْ يَقُومَ عِنْدَهُ، فَإِذَا جَاءَ إنْسَانٌ يَشْتَرِي يَقُولُ لَهُ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَك هَذِهِ شَاةٌ لَمْ تُذَكَّ فَلَا تَشْتَرِ مِنْهَا شَيْئًا وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا نُسِيَ أَنْ يُسَمَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَقَالُوا: إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمِلَّةِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَصَحِيحٌ إذْ لَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ وَلَا أَحْمَدَ عَدَمُ الْأَكْلِ فِي النِّسْيَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ دَاوُد وَبِشْرٍ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى مِثْلِهِ.
وَإِمَّا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالُوا لِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ قَالَ: اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَفِي لَفْظٍ «عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ لَكِنْ فِيهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ مَتْرُوكٌ لَكِنْ يَشُدُّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَحْثِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد ثُمَّ ظَاهِرُهُمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي، وَالْعَامِدِ وَبِهِ تَتَضَاءَلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ الشَّارِعُ الْمِلَّةَ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ فَجَعَلَ عَفْوًا دَافِعًا لِلْعَجْزِ وَعَدَمَ عُذْرِ الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ هَذَا إبْطَالُ النَّصِّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ
(3/321)
إلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّنَزُّلِ نَحْوَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِهِ ابْتِدَاءً فَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْعَامِدُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْزَاءِ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَرَجِ، وَهُوَ فِي النَّاسِي لَا فِي الْعَامِدِ ثُمَّ هَذَا فِي ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا عَمْدًا فَفِي الدِّرَايَةِ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَصُورَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَتَرَكَهَا مَعَ ذِكْرِهَا أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ اشْتِرَاطَهَا فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّاسِي ذَكَرَهُ فِي الْحَقَائِقِ وَمَعَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الْآيَةَ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُعْتَادَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ مَعَ أَنَّ حُضُورَهُنَّ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ هُوَ حَرَامٌ بِلَا ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ فَلَوْ كَانَ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدٍ حُجَّةً لَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ وُجُودًا وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَادٍ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَرُورَةٌ مُبِيحَةٌ لِحُضُورِهِنَّ لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَكَانَ النَّصُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ دَالًّا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ مَعَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالنَّصُّ وَإِنْ كَانَ فِي التَّحَمُّلِ لَكِنَّ فَائِدَةَ التَّحَمُّلِ الْأَدَاءُ فَهُوَ يُفْضِي إلَيْهِ وَأَيْضًا أَوَّلُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أَمْرٌ بِفِعْلِ الِاسْتِشْهَادِ، وَهُوَ مُجْمَلٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى عَدَدِ الشُّهُودِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُوا، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ الْمَأْكُولَاتِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ وَبَيَانًا لِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُرَادُ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ رَجُلَيْنِ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كَقَوْلِهِ: كُلُوا الْخُبْزَ، وَاللَّحْمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالْخُبْزَ، وَالْجُبْنَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي النَّصِّ هُوَ جَمِيعُ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ حُجَّةً إذْ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَبَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَيَانِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وَأَيْضًا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ أَدْنَى مَا تَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي النَّصِّ حَيْثُ قَالَ {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَلَيْسَ دُونَ الْأَدْنَى شَيْءٌ تَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ حُجَّةً لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ كَوْنِ الْمَنْصُوصِ أَدْنَى فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ضَرُورَةً.
(وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ) أَيْ وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ (كَالْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ) أَيْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي (مَعَ) قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» لَفْظُ الْبَيْهَقِيّ وَلَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ «، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَا عَهْدَ ثَمَّةَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ بَعْضُ الْأَيْمَانِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ سَيْفٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ فَقَالَ عَمْرٌو لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدِي،.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ فَقَدْ رَمَى الْحَدِيثَ بِالِانْقِطَاعِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَسَيْفٌ عَنْ قَيْسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ الْكَامِلُ وَسَاقَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَعَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: غَلِطَ سَيْفٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَسَأَلَ عِيَاشٌ ابْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَضْعَفَ حَدِيثَهُ وَضَعَّفَهُ جِدًّا وَمَعَ ضَعْفِهِ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَذَكَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِذَهَابِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ إلَى كَوْنِهِ غَلَطًا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ إرْسَالُهُ أَشْهَرُ انْتَهَى. وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ لَا تَخْلُوَا كُلُّهَا مِنْ النَّظَرِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ هِيَ بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا مُعَاوِيَةُ وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ: شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَوْرَدَ لَمْ يَبْقَ لِتَضْعِيفِ الْحَدِيثِ مَجَالٌ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ
(3/322)
مُسْلِمٌ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَإِ، وَقَدْ وَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ نَاقِدٍ فَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مَقْطُوعًا وَقَالَ غَيْرُهُ: أُخِذَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي سَبْعِينَ مَوْضِعًا رَوَاهُ مُتَّصِلًا، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَافٍ رُجْحَانُ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ ظَاهِرَةً فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَا كَيْفِيَّةُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ وَلَا الْمُسْتَحْلِفُ مَنْ هُوَ حَتَّى يَصِحَّ اعْتِبَارُ غَيْرِهِ بِهِ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُهُ بَلْ هُوَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ لَا يُدْرَى مَا هِيَ أَيْضًا
وَإِذَا كَانَ قَضِيَّةً خَاصَّةً فِي شَيْءٍ خَاصٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنًى مُتَّفَقٍ عَلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ شَهَادَةِ الطَّبِيبِ، أَوْ امْرَأَةٍ فِي عَيْبٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّاهِدِ وَاسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَكُونُ قَاضِيًا فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُشْتَرِي وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَيْ مَعَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ فَأَطْلَقَ اسْمَ الشَّاهِدِ وَأَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ لَا الْعَدَدَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال ثُمَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ وَاحِدٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا يَصِحُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَمْوَالِ فَأَصْحَابُنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَا يَصِحُّ أَيْضًا وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يَصِحُّ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَالتَّحْلِيلُ) أَيْ وَكَالْقَوْلِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إذَا تَزَوَّجَهَا الثَّانِي ثُمَّ طَلَّقَهَا (بِلَا وَطْءٍ) كَمَا هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: النَّاسُ يَقُولُونَ حَتَّى يُجَامِعَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا، فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ (مَعَ حَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ) ، وَهُوَ مَا رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ قَالَ: حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» ، فَإِنَّ قَوْلَ سَعِيدٍ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَاسْتُغْرِبَ مِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لَعَلَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَمَنْ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَلَوْ أَفْتَى فَقِيهٌ بِذَلِكَ يُعَزَّرُ (وَالْإِجْمَاعُ) أَيْ وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ الْإِجْمَاعَ (كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ) أَيْ جَوَازَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ (مَعَ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ الصَّحَابَةِ) ، وَالْوَجْهُ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ كَمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِهِ وَإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى مَنْعِهِ (فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا) أَيْ مِنْ حِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَمِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَمِنْ وُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ، وَمِنْ جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَأَمَّا هَذَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِجْمَاعِ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ وَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ نَفَاذِ قَضَاءِ قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ زَمَانِنَا بِهِ، وَلَوْ نَفَّذَهُ جَمٌّ غَفِيرٌ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا عَدَمُ نَفَاذِ وُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ وَعَدَمُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَظَاهِرٌ لِمُخَالَفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي لَا يَنْفُذُ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا عَدَمُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَهُوَ الْمَذْكُورُ لِكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ، وَفِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ مَعَ إفَادَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْمَشَايِخَ (وَكَتَرْكِ الْعَوْلِ) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَخَرَّجْنَاهُ فِي الْإِجْمَاعِ (وَرِبَا الْفَضْلِ) أَيْ الْقَوْلُ بِحِلِّهِ كَمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُهُ عَنْهُ فَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْت الَّذِي يَقُولُ الدِّينَارَيْنِ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَسْمَعْ هَذَا إنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ» .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَنَزَعَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يَنْفُذُ
(3/323)
الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا أَيْضًا لِمُخَالَفَةِ الْأَوَّلِ الْإِجْمَاعَ، وَالثَّانِي النَّصَّ، وَالْإِجْمَاعَ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ قَوْلِهِ فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَى مَا بَعْدَهُمَا ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعُ عَلَى مُرَادِهِ، أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولُ لَفْظِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ، وَالثَّانِي مِثْلُ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ، فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ، أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، أَوْ لَا وَلِذَا يُمْنَعُ نَفَاذُ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ وَلَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحُكْمِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ.
قُلْت: ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ الْمُعَارِضُ لِمَدْلُولِ أَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْمَحْكُومِ بَعْدَ اعْتِبَارِهِ حَتَّى إنَّ الْقَضَاءَ لَا يَنْفُذُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا كَانَ مِنْ الْكِتَابِ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَلِكَ مُتَوَاتِرَ الثُّبُوتِ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ، وَالدَّلَالَةِ وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ لَكِنْ فِي صُدُورِ هَذَا مِنْ الْمُجْتَهِدِ بُعْدٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ مُخَالَفَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ كُفْرٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا كَانَ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ السُّنَّةِ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ السُّنَّةُ قَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ، أَوْ لَا، أَوْ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا كَانَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، أَوْ الدَّلَالَةِ وَهَذَا فِي عَدَمِ نَفَاذِ الْحُكْمِ بِمُعَارِضِهِ مُطْلَقًا نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ لِلْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ جُمْلَةً قَضَاءُ الْقُضَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يُقْضَى بِخِلَافِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُضَاةِ نَقْضُهُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَوْضِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَفِي هَذَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَيْءٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْخِلَافُ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَيْ يَكُونُ الْخِلَافُ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَجَازَهُ جَازَ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ قَضَى فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَيْسَ لِلثَّانِي نَقْضُهُ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ يُجِيزُهُ انْتَهَى، وَبَعْدَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَخْفَى مَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّظَرِ عِنْدَ تَحْقِيقِ النَّظَرِ.
ثُمَّ إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مَا عَدَا التَّحْلِيلَ بِلَا وَطْءٍ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ الْأُوَلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُعَارِضًا لِنَصٍّ قَطْعِيِّ الثُّبُوتِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالْإِجْمَاعُ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلًا قَطْعًا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ، أَوْ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ وَيَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَنْفُذُ مَا لَمْ يُمْضِهِ قَاضٍ آخَرُ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالتَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ بِحُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ النَّفَاذِ أَصْلًا، وَمِنْ جِهَةِ النَّفَاذِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَطْءِ فِيهِ بَعْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ ظَنِّيٍّ لِلْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ بِإِجْمَاعٍ ظَنِّيٍّ لَمْ يَنْفُذْ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرَ، وَإِنْ قِيلَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَكَذَا الْجَوَابُ بِحِلِّ رِبَا الْفَضْلِ وَتَرْكِ الْعَوْلِ ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا: يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِكَذَا، أَوْ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْقَضَاءِ بِهِ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأَزْمَانِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَاضِي مَذْهَبِ مُقَلَّدِهِ صَحَّ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَإِمْضَاءُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ أَنَّ قُضَاةَ هَذِهِ الْأَزْمَانِ إنَّمَا فُوِّضَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ الْقَضَاءُ بِمَذْهَبِ مُقَلَّدِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ وَإِذَنْ فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لَا سَبِيلَ بِحَالٍ إلَى نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِوُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ وَلَا بِحِلِّ رِبَا الْفَضْلِ وَلَا بِتَرْكِ الْعَوْلِ، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ قَضَاءِ قُضَاةِ الْأَقْطَارِ بِهِ وَتَنْفِيذُهُمْ لَهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَفَاذِ بَعْضِ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى
(3/324)
الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الرَّابِعُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
الْقِسْمُ (الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ (جَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً) دَرَاءَةً لِلْحَدِّ، وَالْكَفَّارَةِ وَعُذْرًا فِي غَيْرِهِمَا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ مِثَالُ هَذَا (كَالْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِفْ) الِاجْتِهَادُ (مَا ذَكَرَ) أَيْ الْكِتَابَ، أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ، أَوْ الْإِجْمَاعَ، وَكَانَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهِ خَفَاءٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ (كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى وُضُوءٍ (ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِهِ) أَيْ بِوُضُوءٍ (ثُمَّ ذَكَرَ) أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ (فَقَضَى الظُّهْرَ فَقَطْ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ يَظُنُّ جَوَازَ الْعَصْرِ) بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ (جَازَ) أَدَاؤُهُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ (لِأَنَّهُ) أَيْ ظَنَّهُ جَوَازَ الْعَصْرِ (فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ) الصَّحِيحِ (فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ) ؛ لِأَنَّ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ بِوُجُوبِهِ فِيهَا نَوْعَ خَفَاءٍ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا صَالِحًا لِإِفَادَةِ ظَنِّ جَوَازِ الْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أُدِّيَتْ قَبْلَ الظُّهْرِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعَصْرِ فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ عُذْرًا فِي جَوَازِ الْمَغْرِبِ لَا الْعَصْرِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسَادِ فِيمَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهْلِ وَفَسَادُ الْعَصْرِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ تَكُنْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فِي مَتْرُوكِهِ بِيَقِينٍ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَكَانَ زُفَرُ يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيَجْزِيهِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَا إنْ كَانَ نَاسِيًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا، وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ وَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَكَقَتْلِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ) قَاتِلُ مُوَلِّيهِ عَمْدًا عُدْوَانًا (بَعْدَ عَفْوِ) الْوَلِيِّ (الْآخَرِ) جَاهِلًا بِعَفْوِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِعَفْوِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْقَوَدَ لَهُ (لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ (لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي التَّهْذِيبِ (بِعَدَمِ سُقُوطِهِ) أَيْ الْقِصَاصِ الثَّابِتِ لِلْوَرَثَةِ (بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ) حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْقَتْلُ هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِجْمَاعُ سَابِقًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ لَاحِقًا إنْ ثَبَتَ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ، وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا وَحِينَئِذٍ، فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْجَهْلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ، وَالظَّاهِرُ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ نَافِذٍ عَلَيْهِ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ لِمَعْنًى خَفِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يُشْتَبَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ (فَصَارَ) الْجَهْلُ الْمَذْكُورُ (شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقِصَاصَ) ، وَقَدْ يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ الظَّنِّ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَيُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ أَمَّا لَوْ عَلِمَ سُقُوطَ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْقَوَدُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ عَلِمَ بِهِ، أَوْ لَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، أَوْ لَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا، وَقَدْ انْطَوَى دَفْعُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَ) مِثْلُ (الْمُحْتَجِمِ) فِي
(3/325)
نَهَارِ رَمَضَانَ (إذَا ظَنَّهَا) أَيْ الْحِجَامَةَ (فَطَّرَتْهُ) فَأَفْطَرَ بَعْدَهَا (لَا كَفَّارَةَ) عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ (لِأَنَّ) قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْمَحْجُومُ» ) رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ (أَوْرَثَ شُبْهَةً فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِهَا بِالْفِطْرِ بَعْدَ الْحِجَامَةِ (وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ) عَلَى الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (فَتَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ فِطْرَهُ بَعْدَ الْحِجَامَةِ كَانَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَنَسْخِهِ، وَهُوَ عَامِّيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي الْمُعْتَمَدُ فِي فَتْوَاهُ فِي بَلَدِهِ إذَا كَانَ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ حَتَّى لَوْ أَفْتَاهُ بِالْفَسَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَأَفْطَرَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَتْوَى مُفْتِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَاهُ فَكَانَ مَعْذُورًا
وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ، أَوْ مَنْسُوخًا بَلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ مُسْقِطَةٌ لَهَا بَقِيَ لَوْ أَفْطَرَ بَعْدَهَا ظَانًّا الْفِطْرَ بِهَا وَلَمْ يَسْتَفْتِ عَالِمًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ أَصْلًا، أَوْ بَلَغَهُ وَلَكِنْ عَلِمَ تَأْوِيلَهُ، أَوْ نَسْخَهُ وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ بِمَا خَرَجَ فَيَكُونُ ظَنُّهُ مُجَرَّدَ جَهْلٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِتَعَاضُدِ عِلْمِهِ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، أَوْ نَسْخِهِ مَعَ كَوْنِ الْفِطْرِ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ حِينَئِذٍ فِي وُجُوبِهَا قَالُوا: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِالْفِطْرِ بِهَا وَلَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ
(وَمِنْ زَنَى بِجَارِيَةِ وَالِدِهِ) ، أَوْ وَالِدَتِهِ (أَوْ زَوْجَتِهِ يَظُنُّ حِلَّهَا لَا يُحَدُّ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ لِلْوَطْءِ الْخَالِي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ، أَوْ عَمِّهِ عَلَى ظَنِّ الْحِلِّ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يُحَدُّ (لِلِاشْتِبَاهِ) ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ فَظَنُّهُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِأَمَتِهِمْ اعْتِمَادٌ عَلَى شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ فَانْدَرَأَ الْحَدُّ بِهَا بِخِلَافِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، فَإِنَّهُ لَا انْبِسَاطَ لِكُلٍّ مِنْهُ، وَمِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ فَدَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ لَيْسَتْ مُعْتَمِدَةً عَلَى شُبْهَةٍ فَلَا تُعْتَبَرُ (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ) بِهَذَا الْوَطْءِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ (وَلَا عِدَّةَ) أَيْضًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِهَذَا الْوَطْءِ (لِمَا) عُرِفَ (فِي مَوْضِعِهِ) مِنْ أَنَّهُ تَمَحُّضُ زِنَا إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحِلِّ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَلَا عِدَّةَ مِنْ الزِّنَا، وَهَذِهِ إحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ الدَّارِئَتَيْنِ لِلْحَدِّ عِنْدَهُمْ وَتُسَمَّى شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ وَشُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَقَوْمٍ سُقُوا خَمْرًا عَلَى مَائِدَةٍ فَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمَنْ لَا فَلَا
وَالشُّبْهَةُ الْأُخْرَى وَتُسَمَّى الشُّبْهَةَ فِي الْمَحِلِّ وَشُبْهَةَ الدَّلِيلِ، وَالشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وُجُودُ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهِ لِمَانِعٍ وَهَذِهِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الظَّنِّ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ إنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إذَا ادَّعَاهُ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شُبْهَةٌ أُخْرَى دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَقْدِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْحُرْمَةَ أَمْ لَا كَوَطْءِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِهَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَعْنَى دَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ زِنًا مُحَرَّمًا فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْمُحِيطِ الْآتِي قَرِيبًا (وَكَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ لَا يُحَدُّ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا فِي وَقْتٍ (بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى) بَعْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَإِسْلَامِهِ زَاعِمًا حِلَّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى زَعْمِهِ وَيُحَدُّ.
وَإِنْ فَعَلَهُ أَوَّلَ يَوْمِ دُخُولِهِ الدَّارَ وَإِسْلَامِهِ (لِأَنَّ جَهْلَهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا لَا يَكُونُ شُبْهَةً) دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الشُّبْهَةِ (لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ) فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْعِلْمُ بِحُرْمَتِهِ
(3/326)
عَلَى بُلُوغِ خِطَابِ الشَّرْعِ لِتَحَقُّقِ حُرْمَتِهِ قَبْلَهُ (فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا) لِكَوْنِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ (بِخِلَافِ الْخَمْرِ) ، فَإِنَّهَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا حَرَامًا فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ (فَمَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ شَرْطُ الْحَدِّ أَنْ لَا يَظُنَّ الزِّنَا حَلَالًا مُشْكِلٌ) ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُفِيدُ أَنَّ لَيْسَ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي عَدَمَ ظَنِّهِ حِلَّ الزِّنَا حَتَّى يَكُونَ ظَنُّهُ حِلَّهُ مَانِعًا مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ هَذَا وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمُصَنِّفِ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ انْتَهَى، وَهُوَ أَخُصُّ مِمَّا هُنَا وَمَا فِي الشَّرْحِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي مُحِيطِ رَضِيِّ الدِّينِ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ وَأَصْلُهُ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الزِّنَا فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، وَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ الشُّيُوعُ، وَالِاسْتِفَاضَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ مُقَامَ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ شُبْهَةٍ بِعَدَمِ التَّبْلِيغِ، وَالْإِسْمَاعِ بِالْحُرْمَةِ انْتَهَى
غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَبْسُوطِ عَقِبَ هَذَا الْأَثَرِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ انْتَهَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَكُونُ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً لِاشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاشِئِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْمُقِيمُ بِهَا مُدَّةً يَطَّلِعُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْوَاقِعُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ فَلَا، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّرْحِ وَنُقِلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ انْتَهَى، وَهُوَ مُفِيدٌ أَنَّ جَهْلَهُ يَكُونُ عُذْرًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ فَمَتَى يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ عُذْرًا، وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ عُذْرًا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَحِلُّ نَظَرٍ وَحِينَئِذٍ فَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُشْكِلُ فَلْيُتَأَمَّلْ (بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ أَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ) بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَقَالَ: أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا (يُحَدُّ لِظُهُورِ الْحُكْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) ، وَهُوَ مُقِيمٌ فِيهَا (فَجَهْلُهُ) بِحُرْمَتِهَا مَعَ شُيُوعِهَا فِيهِ (لِتَقْصِيرِهِ) فِي مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا كَذَلِكَ دَارُ الْحَرْبِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا غَيْرُ شَائِعَةٍ فِيهَا فَكَانَ جَهْلُ الْحَرْبِيِّ بِهَا دَارِئًا لِلْحَدِّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ
الْقِسْمُ الثَّالِثُ جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرَكَ بِهَا صَلَوَاتٍ جَاهِلًا لُزُومَهَا فِي الْإِسْلَامِ لَا قَضَاءَ) عَلَيْهِ إذَا عَلِمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَهْلُ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ عَنْهُمْ فَانْتَفَى سَمَاعُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ بِشُهْرَتِهِ فِي مَحِلِّهِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلَّهَا فَانْتَفَى قَوْلُ زُفَرَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَهُ وَلَكِنْ قَصُرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ وَذَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ الْوَقْتِ
(وَكُلُّ خِطَابٍ تُرِكَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فَجَهْلُهُ عُذْرٌ) لِانْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ عَنْ جَاهِلِهِ بِخَفَائِهِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] لِلَّذِينَ شَرِبُوا) الْخَمْرَ (بَعْدَ تَحْرِيمِهَا غَيْرَ عَالِمِينَ) بِحُرْمَتِهَا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فِي التَّيْسِيرِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا، وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] أَيْ مِنْ الْأَمْوَاتِ، وَالْأَحْيَاءِ فِي الْبُلْدَانِ {جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] مِنْ الْخَمْرِ، وَالْقِمَارِ {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93] مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سِوَاهُمَا
(قُلْت) : لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَنَسٍ كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اُخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَهَرَقْتهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ»
(3/327)
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ وَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ» .
وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنْ الشَّارِبِينَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ نَعَمْ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا خِلَافَ فِيهِ (بِخِلَافِهِ) أَيْ الْخِطَابِ النَّازِلِ (بَعْدَ الِانْتِشَارِ) ، فَإِنَّ جَهْلَهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ جَهْلَهُ إنَّمَا هُوَ (لِتَقْصِيرِهِ) فِي مَعْرِفَتِهِ (كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمْرَانِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْوُجُودِ) ، وَهُوَ الْعُمْرَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ غَالِبًا (وَتَرْكُهُ الْعَمَلَ) بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ طَلَبُهُ فِيهِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْتَكْشِفْ الْحَالَ، أَوْ اسْتَكْشَفَهُ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِيهِ أَمَّا لَوْ اسْتَكْشَفَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فِيهِ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي لِظُهُورِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ فِي الْمَفَازَةِ عَلَى ظَنِّ الْعَدَمِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى حَيْثُ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْعَدَمِ لَا الْوُجُودِ (وَكَذَا الْجَهْلُ) لِلْإِنْسَانِ (بِأَنَّهُ وَكِيلٌ، أَوْ مَأْذُونٌ) مِنْ سَيِّدِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا (عُذِرَ حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمَا) الْمُوَكِّلِ، وَالْمَوْلَى قَبْلَ بُلُوغِ الْوَكَالَةِ، وَالْإِذْنِ إلَيْهِمَا (وَيَتَوَقَّفُ) نَفَاذُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَيْهِمَا عَلَى إجَازَتِهِمَا (كَالْفُضُولِيِّ) أَيْ كَتَوَقُّفِ نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ عَلَى مَنْ تُصْرَفُ لَهُ عَلَى إجَازَتِهِ بِشَرْطِهَا كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ بِأَنَّ فِي التَّوْكِيلِ، وَالْإِذْنِ نَوْعَ إلْزَامٍ عَلَى الْوَكِيلِ، وَالْمَأْذُونِ حَيْثُ يَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْعَقْدِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَالتَّسَلُّمِ، وَالْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ، وَالْإِذْنِ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الْعِلْمِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ مَعَ كَمَالِ وِلَايَتِهِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ عِلْمِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ حُكْمُ الْمُكَلَّفِ الَّذِي هُوَ قَاصِرُ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ عِلْمِهِ (إلَّا فِي شِرَاءِ الْوَكِيلِ) ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ شِرَائِهِ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ بَلْ (يَنْفُذُ) شِرَاؤُهُ (عَلَى نَفْسِهِ) .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ (كَمَا عُرِفَ) مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ نَفَذَ عَلَيْهِ (قُلْت) : كَذَا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي الْأُصُولِ هَذَا الْحُكْمَ لِجَهْلِهِمَا بِالْوَكَالَةِ، وَالْإِذْنِ وَزَادَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَالْفُضُولِيِّ إلَخْ وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا اعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ اتَّفَقَتْ أَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا ثَبَتَتْ قَصْدًا لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعِلْمِ أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ فِي ضِمْنِ أَمْرِ الْحَاضِرِ بِالتَّصَرُّفِ بِأَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ عَبْدِي مِنْ فُلَانٍ لِنَفْسِك، أَوْ لِعَبْدِهِ: انْطَلِقْ إلَى فُلَانٍ لِيُعْتِقَك، أَوْ لِامْرَأَتِهِ: انْطَلِقِي إلَى فُلَانٍ لِيُطَلِّقَك، فَاشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أُعْتِقَ، أَوْ طَلَّقَ فُلَانٌ بِدُونِ الْعِلْمِ جَازَ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ أَمْ لَا فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَصِيرُ وَفِي رِوَايَةِ وَكَالَةِ الْأَصْلِ يَصِيرُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ نَعَمْ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ إذَا عَلِمَ اهـ.
فَإِنْ تَمَّ هَذَا وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدُوا بِالْوَكَالَةِ الْقَصْدِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا اُخْتِيرَ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ ثُمَّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوِصَايَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ اهـ وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ يُعَكِّرُ حِكَايَةَ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الثَّانِي فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ قَالَ لِأَهْلِ السُّوقِ: بَايِعُوا عَبْدِي هَذَا صَارَ مَأْذُونًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ كَوْنُ الْجَهْلِ عُذْرًا فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: بِعْ عَبْدَك مِنْ ابْنِي إنْ عَلِمَ الِابْنُ صَارَ مَأْذُونًا وَإِلَّا فَلَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مُؤَثِّرٌ فِيمَا يَظْهَرُ وَلَا مَحِيصَ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ رِوَايَتَانِ فَيَتَخَرَّجُ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ عَلَى رِوَايَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِمَا فِيهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ: وَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا بِالْعِلْمِ فَلَوْ قَالَ: بَايِعُوا عَبْدِي، فَإِنَى أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ اهـ بَقِيَ الشَّأْنُ فِيمَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَمَّ كَوْنُ الشَّارِطَةِ لِلْعِلْمِ هِيَ الرَّاجِحَةَ فِيهَا وَإِلَّا فَيَنْتَفِي
(3/328)
التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَ مَعْنَاهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُفِيدُ أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى الْفُضُولِيُّ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ هَذَا عَلَى وُجُوهٍ إنْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْت هَذَا مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ الْفُضُولِيُّ: قَبِلْت، أَوْ اشْتَرَيْت لِفُلَانٍ، أَوْ لَمْ يَقُلْ لِفُلَانٍ يَتَوَقَّفُ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْت مِنْك فَقَالَ الْفُضُولِيُّ: اشْتَرَيْت، أَوْ قَبِلْت لِفُلَانٍ لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ: اشْتَرَيْت هَذَا لِفُلَانٍ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْت مِنْك. الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْت مِنْك هَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت، أَوْ قَبِلْت، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت هَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ وَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْت لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَ) كَذَا الْجَهْلُ (بِالْعَزْلِ) لِلْوَكِيلِ (وَالْحَجَرِ) عَلَى الْمَأْذُونِ عُذْرٌ فِي حَقِّهِمَا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ لِاسْتِقْلَالِ الْمُوَكِّلِ بِالْعَزْلِ، وَالْمَوْلَى بِالْحَجْرِ وَلُزُومِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا بِدُونِ عِلْمِهِمَا إذْ الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَلْزَمَ تَصَرُّفُهُ الْمُوَكِّلَ، وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ، أَوْ رَقَبَتَهُ وَبِالْعَزْلِ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ الْوَكِيلَ وَبِالْحَجْرِ يَتَأَخَّرُ دَيْنُ الْعَبْدِ إلَى الْعِتْقِ وَيُؤَدَّى بَعْدَهُ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ (فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا) أَيْ الْوَكِيلِ، وَالْمَأْذُونِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْمَوْلَى قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِالْعَزْلِ، وَالْحَجْرِ (قُلْت) كَذَا ذَكَرُوا فِي الْأُصُولِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْفُرُوعِ أَنَّ هَذَا فِي الْعَزْلِ مِنْ الْوَكَالَةِ إذَا كَانَ قَصْدِيًّا أَمَّا فِي الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ الْعَزْلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ جُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، أَوْ لَحَاقِهِ مُرْتَدًّا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالْحُكْمِ بِهِ، أَوْ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَبْدًا مَأْذُونًا، وَقَدْ وُكِّلَ بِبَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ بِعَجْزِهِ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا، أَوْ بِتَصَرُّفِهِ فِيمَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ تَصَرُّفًا يَعْجِزُ الْوَكِيلُ عَنْ بَيْعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ أَمَّا فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَ فَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعْتَمِدُ قِيَامَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ فَبَطَلَ مَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا فِي الْأَخِيرِ فَلِفَوَاتِ الْمَحِلِّ وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا بِذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِمْ لَهُ فِي الْفُرُوعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوْلَى التَّقْيِيدُ بِهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ ثُمَّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ انْحِجَارُ الْمَأْذُونِ عَلَى عِلْمِهِ بِالْحَجْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْإِذْنِ غَيْرُهُ أَمَّا إذَا كَانَ الْإِذْنُ مَشْهُورًا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِشُهْرَةِ حَجْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ سُوقِهِ، أَوْ أَكْثَرِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفَاذِهِ بِدُونِ عِلْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَايِعُونَهُ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ الْإِذْنِ، وَالْحَالُ أَنَّ حَقَّهُمْ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا أَيْضًا (وَ) كَذَا (جَهْلُ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ) جِنَايَةً خَطَأً عُذْرٌ لِلْمَوْلَى فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ لُزُومِ الْفِدَاءِ مُطْلَقًا لَهُ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهَا (فَلَا يَكُونُ) الْمَوْلَى (بَيْعُهُ) أَيْ الْعَبْدُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهَا (مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ) ، وَهُوَ الْأَرْشُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا، وَهُوَ الدَّفْعُ، وَالْفِدَاءُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ، وَالْأَرْشِ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ لِاسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ (وَ) كَذَا جَهْلُ (الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ) لِمَا يَشْفَعُ فِيهِ عُذْرٌ لَهُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ شُفْعَتِهِ إذَا أُخْرِجَ عَنْ مِلْكِهِ مَا يَشْفَعُ بِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ (فَلَوْ بَاعَ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ بِهَا بَعْدَ بَيْعِ دَارٍ بِجِوَارِهَا) هُوَ شَفِيعُهَا (غَيْرَ عَالِمٍ) بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا (لَا يَكُونُ) بَيْعُهُ الْمَشْفُوعَ بِهَا (تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ) فِي الْمَشْفُوعِ فِيهَا بَلْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلْمِ خَفِيَ لِانْفِرَادِ صَاحِبِ الْمِلْكِ بِبَيْعِهِ.
(وَ) كَذَا جَهْلُ (الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ) عُذْرٌ لَهَا فِي عَدَمِ سُقُوطِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَهَا (إذَا جَهِلَتْ عِتْقَ الْمَوْلَى فَلَمْ تَفْسَخْ) النِّكَاحَ (أَوْ عَلِمَتْهُ) أَيْ عِتْقَ الْمَوْلَى (وَجَهِلَتْ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا شَرْعًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَعُذِرَتْ) فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهَا أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى مُسْتَقِلٌّ بِالْعِتْقِ وَلَا يُمْكِنُهَا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِخْبَارِ، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَلَا تَتَفَرَّغُ بِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ فَلَا يَقُومُ اشْتِهَارُ الدَّلِيلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَقَامَ عِلْمِهَا (بِخِلَافِ الْحُرَّةِ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ) حَالَ كَوْنِهَا (صَغِيرَةً فَبَلَغَتْ جَاهِلَةً بِثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ) أَيْ فَسْخِ النِّكَاحِ (لَهَا) إذَا بَلَغَتْ فَلَمْ تَفْسَخْهُ (لَا تُعْذَرُ) بِهَذَا الْجَهْلِ بِهَذَا الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ بِهِ (لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْعِلْمِ وَلَيْسَ لِلْحُرَّةِ مَا يَشْغَلُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ فَكَانَ جَهْلُهَا) بِهَذَا الْحُكْمِ (لِتَقْصِيرِهَا) فِي التَّعَلُّمِ (بِخِلَافِ الْأَمَةِ) كَمَا ذَكَرْنَا فَافْتَرَقَتَا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِغَيْرِ
(3/329)
الْأَبِ، وَالْجَدِّ يَعْنِي الصَّحِيحَ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا بِبُلُوغٍ فِي تَزْوِيجِ أَحَدِهِمَا إيَّاهَا لِكَمَالِ رَأْيِهِمَا وَوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمَا، وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ الْأُمَّ، وَالْقَاضِيَ حَيْثُ كَانَتْ لَهَا وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِيهِ لِعَدَمِ كَمَالِ الرَّأْيِ فِي الْأُمِّ وَعَدَمِ وُفُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْقَاضِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى حُكْمٍ]
(مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي) وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى (حُكْمٍ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّقْلِيدِ) لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (فِيهِ) أَيْ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ (اتِّفَاقًا) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ (وَالْخِلَافُ) إنَّمَا هُوَ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ مِنْهُمْ (قَبْلَهُ) أَيْ اجْتِهَادِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ (وَالْأَكْثَرُ) مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ (مَمْنُوعٌ) مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقًا مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَمَالِكٌ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَيُشْكِلُ عَلَى مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا فِي الْقُنْيَةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَتَفَرَّقُوا ثُمَّ أُخْبِرَ بِوُجُودِ فَأْرَةٍ مَيِّتَةٍ فِي بِئْرِ حَمَّامٍ اغْتَسَلَ مِنْهُ فَقَالَ: نَأْخُذُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا انْتَهَى (وَمَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ) مَمْنُوعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ (إلَّا إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ) الِاجْتِهَادُ فِي الْوَاقِعَةِ فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا بَلْ يَتَعَيَّنُ (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ) إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَا قَوْلًا آخَرَ كَمَا عَدُّوهُ ثُمَّ الَّذِي حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ هَذَا وَيَظْهَرُ أَنَّ خَوْفَ فَوْتِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ رَأَيْت عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ نَقْلَهُ بِخُصُوصِهِ عَنْهُ وَيُؤَيِّدُهُ جَزْمُ السُّبْكِيّ بِمَنْعِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَبِطَرِيقٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَوْفُ فَوْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ أَصْلًا مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوْلًا آخَرَ وَيَسْتَسْمِعَ خِلَافَ الْأَوَّلِ أَيْضًا.
(وَقِيلَ لَا) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَزَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إلَى أَحْمَدَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا يُعْرَفُ (وَقِيلَ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ (فِيمَا يُفْتِي بِهِ) غَيْرُهُ (لَا فِيمَا يَخُصُّهُ) أَيْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَحْصِيلَ رَأْيٍ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِعِلْمِهِ لَا فِيمَا يُفْتِي بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمُجْتَهِدِ بِحَيْثُ لَا يَعُمُّ غَيْرَهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ (وَقِيلَ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ (فِيهِ) أَيْ فِيمَا يَخُصُّهُ (أَيْضًا إلَّا إنْ خَشِيَ الْفَوْتَ كَأَنْ ضَاقَ وَقْتُ صَلَاةٍ، وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا) أَيْ فِي صَلَاتِهِ (يُفَوِّتُهَا) ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِ لِئَلَّا تَفُوتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَهُوَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهِ.
(وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ) إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُقَلِّدُ) مُجْتَهِدًا (أَعْلَمَ مِنْهُ) لَا أَدْوَنَ مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيَ لَهُ نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي وَالرُّويَانِيُّ وَإِلْكِيَا قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ (وَالشَّافِعِيُّ) فِي الْقَدِيمِ (وَالْجُبَّائِيُّ) وَابْنُهُ أَيْضًا قَالُوا (يَجُوزُ) تَقْلِيدُ غَيْرِهِ (إنْ) كَانَ الْغَيْرُ (صَحَابِيًّا رَاجِحًا) فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ (فَإِنْ اسْتَوَوْا) أَيْ الصَّحَابَةُ فِي الدَّرَجَةِ فِي نَظَرِهِ وَاخْتَلَفَتْ فَتْوَاهُمْ (تَخَيَّرَ) فَيُقَلِّدُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ عَدَاهُمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَقَضِيَّتُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلصَّحَابَةِ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا (وَهَذَا) مِنْ الشَّافِعِيِّ (رِوَايَةٌ عَنْهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ (فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ) وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عَدَمُ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِلْغَيْرِ مُطْلَقًا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا غَيْرِهِمَا مُطْلَقًا وَنَقَلَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا بَعْدَهُمْ غَيْرَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (وَقِيلَ) يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِلْغَيْرِ صَحَابِيًّا
(3/330)
(وَتَابِعِيًّا) دُونَ غَيْرِهِمَا وَعَزَا هَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ إلَى الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِلَفْظِ، أَوْ خِيَارِ التَّابِعِينَ وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْقَاضِي لَا غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إلَى إنْجَازِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ (لِلْأَكْثَرِ الْجَوَازُ) لِلتَّقْلِيدِ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ) ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ (وَلَمْ يَثْبُتْ) الدَّلِيلُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ (فَلَا يَثْبُتُ) الْجَوَازُ (وَدَفْعُ) هَذَا مِنْ قِبَلِ الْمُجَوِّزِينَ (بِأَنَّهُ) أَيْ الْجَوَازَ (الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ) وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ (بِخِلَافِ تَحْرِيمِكُمْ) التَّقْلِيدَ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (فَهُوَ الْمُفْتَقِرُ) إلَى الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَثْبُتُ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ فِي النَّسْخِ.
(وَأَمَّا) الدَّفْعُ مِنْ الْأَكْثَرِ (بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَصْلٌ، وَالتَّقْلِيدَ بَدَلٌ) عَنْهُ (فَيَتَوَقَّفُ) التَّقْلِيدُ (عَلَى عَدَمِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادُ إذْ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِالْبَدَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْمُبْدَلِ كَالْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ (فَمُنِعَ بَلْ كُلٌّ) مِنْهُمَا (أَصْلٌ) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا كَمَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَغَسْلِ الرِّجْلِ (فَإِنْ تَمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ) لِلتَّقْلِيدِ عَنْ الِاجْتِهَادِ (بِعُمُومِ) قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] {يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْعَامِّيِّ، وَالْمُجْتَهِدِ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عَنْهُ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ (تَمَّ) الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَتِمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ بِهَذَا (لَا) يَتِمُّ الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَدَلِيَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الثُّبُوتِ (وَاسْتُدِلَّ) لِلْأَكْثَرِ (لَا يَجُوزُ) التَّقْلِيدُ (بَعْدَهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (فَكَذَا) لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ (قَبْلَهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (لِوُجُودِ الْجَامِعِ) فِي الْمَنْعِ بَيْنَهُمَا (وَهُوَ) أَيْ الْجَامِعُ (كَوْنُهُ) أَيْ الْمُقَلِّدِ (مُجْتَهِدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوجِبَ (فِي الْأَصْلِ) أَيْ الْعِلَّةِ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ (إعْمَالُ الْأَرْجَحِ، وَهُوَ ظَنُّ نَفْسِهِ) بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اجْتِهَادِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَهَذَا مَقْصُودٌ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا.
وَاحْتَجَّ (الشَّافِعِيُّ) بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُجْتَهِدِ بِهِمْ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُمْنَعُ الشَّخْصُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَبْعُدُ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ (مِنْهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا (لَمْ يَثْبُتْ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي الْإِجْمَاعِ (وَلَوْ ثَبَتَ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ) فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَيْثُ قَالَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ هَدْيٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَنَاوَلَهُ (قُلْت) : لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمُجْتَهِدِ الْغَيْرِ الصَّحَابِيِّ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ بَلْ هَذَا الْجَوَابُ يُقَرِّرُ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ، أَوْ مُجْتَهِدًا قَبْلَ اجْتِهَادِهِ، أَوْ بَعْدَهُ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا، أَوْ لَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عُمُومِ «بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» لَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ إذْ لَا تَقْلِيدَ لَهُ بَعْدَهُ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ إذْ لَا تَقْلِيدَ إلَّا لِمُجْتَهِدٍ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَا هَذَيْنِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِمَنْعِ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ لِمُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ مِنْ الْمَطْلُوبِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مُثْبِتًا لِجُزْءِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ جَوَازُ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ صَحَابِيٍّ إذْ الْمَطْلُوبُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (الْمُجَوِّزُ) لِلتَّقْلِيدِ مُطْلَقًا قَالَ هُوَ وَمُوَافِقُوهُ أَوَّلًا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] أَيْ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَيُفِيدُ وُجُوبَ سُؤَالِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ جَوَازُ اتِّبَاعِ الْمَسْئُولِ فِيمَا أَجَابَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلسُّؤَالِ فَائِدَةٌ وَلَا مَعْنَى لِجَوَازِ تَقْلِيدِهِ إلَّا الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَصْلًا بَلْ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ.
(وَقِيلَ الِاجْتِهَادُ لَا يَعْلَمُ) الْمُجْتَهِدُ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ فَشَمِلَهُ طَلَبُ سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ فَشَمِلَهُ أَيْضًا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ سُؤَالُ غَيْرِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اجْتِهَادِهِ أَيْضًا فَكَانَ مَعَ مُجْتَهِدٍ غَيْرِهِ كَمُجْتَهِدَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ
(3/331)
فَيَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادَيْ مُجْتَهِدَيْنِ (أُجِيبَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُقَلِّدِينَ إذْ الْمَعْنَى لِيَسْأَلْ أَهْلَ الْعِلْمِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْلٌ) لِلْعِلْمِ (وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَنْ لَهُ الْمَلَكَةُ) أَيْ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِأَهْلِيَّتِهِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ (لَا بِقَيْدِ خُرُوجِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ) مِنْ الِاقْتِدَارِ (إلَى الْفِعْلِ) ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ مَنْ هُوَ مُتَأَهِّلٌ لَهُ وَمُسْتَعِدٌّ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَرِيبًا لَا مَنْ حَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمُقَلِّدِ (قَالُوا) ثَانِيًا (الْمُعْتَبَرُ الظَّنُّ) ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ (وَهُوَ) أَيْ الظَّنُّ (حَاصِلٌ بِفَتْوَى غَيْرِهِ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
(أُجِيبَ بِأَنَّ ظَنَّهُ اجْتِهَادَهُ) بِنَصَبِ الدَّالِ إمَّا بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ظَنِّهِ (أَقْوَى) مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ (فَيَجِبُ الرَّاجِحُ، فَإِنْ قِيلَ ثَبَتَ) فِي الْفُرُوعِ (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ يَقْضِي بِغَيْرِ رَأْيِهِ ذَاكِرًا لَهُ) أَيْ لِرَأْيِهِ (نَفَذَ) قَضَاؤُهُ (خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ فَيَبْطُلُ) بِهَذَا الثَّابِتُ عَنْهُ (نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَنْعِ) مِنْ التَّقْلِيدِ (بَعْدَهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (إذْ لَيْسَ التَّقْلِيدُ إلَّا الْعَمَلُ، أَوْ الْفَتْوَى بِقَوْلِ غَيْرِهِ) ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ (وَإِنْ ذَكَرَ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَنْهُ يَنْفُذُ وَجَعَلَهَا فِي الْخَانِيَّةِ أَظْهَرَ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحِلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ وَعَنْهُ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ (فَقَدْ صَحَّحَ أَنَّهُ) أَيْ نَفَاذَ الْقَضَاءِ (مَذْهَبُهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ.
(قُلْنَا: النَّفَاذُ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ لَا يُوجِبُ حِلَّهُ) أَيْ الْفِعْلِ (نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ) ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ (أَنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي النَّفَاذِ وَفِي بَعْضِهَا) ذَكَرَ الْخِلَافَ (فِي الْحِلِّ) أَيْ حِلِّ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ (لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمُعَوَّلَ الْحِلُّ بَلْ يَجِبُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ النَّفْيِ) لِلْحِلِّ لِمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِهَا وَلِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ، وَعَمَلُهُ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاءَهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ نَصَّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَالْمُحِيطِ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا بِعَدَمِ النَّفَاذِ فِي الْعَمْدِ، وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى، وَالْخَانِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ: (وَصَرَّحَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ عَدَمُ تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ، وَإِنْ رُوِيَ خِلَافُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قُبَيْلَ فَصْلِ التَّعَارُضِ فَكَوْنُ عَدَمِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ وَاقِعَةٌ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَهَا ثُمَّ تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ]
(مَسْأَلَةٌ: إذَا) وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ فَاجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَهَا ثُمَّ (تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ) هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ النَّظَرِ وَتَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ فِيهَا أَمْ يَكْفِي الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ (قِيلَ) ، وَالْقَائِلُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ (الْمُخْتَارُ لَا يَلْزَمُهُ تَكْرِيرُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ إلْزَامَهُ بِهِ (إيجَابٌ بِلَا مُوجِبٍ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ) تَكْرِيرُ النَّظَرِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَقَالَ: وَإِلَّا يَكُونُ مُقَلِّدًا لِنَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى، وَقَالَ: وَكَالْقِبْلَةِ يُجْتَهَدُ لَهَا ثَانِيًا وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ وَقِيلَ: (لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ كَثِيرًا مَا يَتَغَيَّرُ) فَيَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْقَدِيمِ إلَى الْجَدِيدِ (وَلَيْسَ) تَغَيُّرُهُ (إلَّا بِتَكْرِيرِهِ) أَيْ النَّظَرِ (فَالِاحْتِيَاطُ ذَلِكَ) أَيْ تَكْرِيرُهُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ أَفْتَى بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْتَمَرَّ ظَنُّهُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَأَفْتَى بِهِ (أُجِيبَ فَيَجِبُ تَكْرَارُهُ) أَيْ النَّظَرِ (أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الِاجْتِهَادَ (يَحْتَمِلُ ذَلِكَ) أَيْ التَّغَيُّرَ (فِي كُلِّ وَقْتٍ يَمْضِي بَعْدَ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ) ، وَالْوُجُوبُ الْأَبَدِيُّ لَهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا) اللَّازِمُ (لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْحَادِثَةِ بِشَرْطِهِ) أَيْ وُجُوبِهِ (فَقَدْ أَخَذَ السَّبَبُ حُكْمَهُ) بِالِاجْتِهَادِ
(3/332)