بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ
(تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)
المؤلف: د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء: 5
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
تنبيه:
توجد بالنسخة الورقية للكتاب أخطاء وتصحيفات في الآيات القرآنية فاقت الحصر قمت بتصويبها بحمد الله وتوفيقه، وأرجو ممن له صلة بدار نشر هذا الكتاب أن يتكرم بمراسلتهم لتصويب الآيات الكريمة.
وفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(المقدمة/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكراً
يوافي نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، سبحانه وتعالى لا أحصي
ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، مبدع البدائع، وشارع الشرائع.
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة أرجو أن يكفر
بها عنا سيئات أعمالنا، ويرفع بها درجاتنا، وينجينا بها من صغير
الموبقات وكبيرها.
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الأنبياء
والمرسلين، العبد المرتضى، والنبي المجتبى، والرسول المصطفى،
المرسل بالبراهين الساطعة، والآيات الدامغة، والبينات الواضحة
صلى اللَّه عليه، وعلى آله وسلم تسليما كثيراً، ورضي اللَّه عن
صحبه الهداة الأعلام الذين بذلوا النفس والنفيس، لإعلاء كلمة اللَّه.
أما بعد: فإن أقوى المهمات بعد الإيمان بالله: طلب العلم،
حيث إن العلم ميراث النبوة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء "، ومما يؤكد ذلك أنه سبحانه
قد جعل العلماء في درجة الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه، فقال
سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مهه، فإنه هنا قد جعل
ولاية الإنذار والدعوة للفقهاء، وهذه درجة الأنبياء قد تركوها ميراثا
للعلماء.
والعلم علمان: " علم التوحيد "، و " علم الفقه ".
أما علم التوحيد فالأصل فيه التمسك بما جاء في الكتاب والسُّنَّة(المقدمة/7)
ومجانبة الهوى والبدع، كما كان عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
والتابعون والسلف الصالح.
أما علم الفقه: فهو الخير الكثير، وهو الحكمة التي ذكرها الله
تعالى بقوله: (من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) ،
وروي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " الحكمة: معرفة
الأحكام من الحلال والحرام ".
فدرجة العلم هي النهاية في القوة والخيرية، وهو ما أراده الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بقوله: " من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين "، وقوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".
لذلك تجد الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد حرصوا على طلب
العلم لما علموا درجته العليا ومنزلته الكبرى، وقصصهم في طلبه
والحرص عليه لا تخفى على ذي لب، لا سيما حرص ابن عباس
وابن عمر وغيرهما.
وعلم الفقه - وهو: معرفة الحلال والحرام من الأحكام -
لا يمكن إلا بعد معرفة أدلة الأحكام، ومعرفة أدلة الأحكام وما يتعلق
بها هو علم أصول الفقه، فيكون علم أصول الفقه هو أصل لذلك
الخير الموجود في الفقه.
فبفضله - أي: علم أصول الفقه - يتعلم الفقيه المناهج والأسس
والطرق التي يستطيع عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث
المتجددة.
وبفضله - أيضاً - يعرف المكلَّف العلَل والحِكَم التي من أجلها
شرعت الأحكام الشرعية؛ ليعبد اللَّه تعالى على بصيرة.(المقدمة/8)
وبفضله - أيضاً - يستطيع طالب العلم تخريج المسائل والفروع
على قواعد إمامه.
وبفضله - أيضاً - يستطيع الداعية إلى اللَّه تعالئ: أن يدعو إلى الله
وإلى دينه بناء على أسس ومناهج وطرق يستطيع بها أن يقنع الآخرين.
وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يبين لأعداء الإسلام: أن الإسلام
صالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يوجد أي حادثة إلا ولها حكم
شرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أن
الإسلام قاصر وعاجز عن حل القضايا المتجددة، قاتل اللَّه من قال
ذلك، ولعن من نصر هذا القول وأبعده من رحمته.
وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يفسر الشخص القرآن، ويشرح
الأحاديث، خيث إنه لا يمكنه معرفة دلالة النصوص، وكونها دلَّت
بالمنطوق أو المفهوم، أو الإشارة، أو العبارة، أو الاقتضاء، أو
الإيماء إلا بمعرفة أصول الفقه.
وبفضله - أيضاً - يعرف من يريد كتابة أي بحث من البحوث
العلمية كيفية كتابة ذلك البحث؛ حيث إن علم أصول الفقه قد جمع
بين النقل والعقل، فمن تعمق فيه: عرف طريقة إيراد المسألة،
وتصويرها؛ والاستدلال عليها، وطريقة الاعتراض، والجواب،
والمناقشة بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها في
غير هذا العلم.
فالمتعلم لهذا العلم - وهو أصول الفقه - والمدقق فيه يدرك من
المنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لا
يحصى.(المقدمة/9)
فيكون هذا العلم أجل العلوم قدراً، وأعظمها نفعاً، وأعمها
فائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفاً، وأميزها ذكراً، وذلك لما
يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد.
ومع هذا النفع، وعلو المرتبة والرفعة، والأهمية لهذا العلم قد
ترك تعلمه كثير من طلاب العلم؛ لأسباب كثيرة، وقد يكون من
أهمها: عدم معرفتهم لهذا الفضل والنفع العظيم لهذا العلم.
ومنها: عدم فهمهم لهذا العلم، بسبب صعوبة عباراته، وقلة
تطبيقاته، وأمثلته الفرعية.
ومنها: عدم إدراكهم للغرض والقصد الذي من أجله يُدرَس هذا
العلم.
فسألني بعض طلاب العلم أن أضع كتاباً أجمع فيه جميع مسائل
أصول الفقه مع شرحها، وبيانها، والاهتمام بتصويرها بالأمثلة
بأسلوب عصري مفهوم، دون تعصب لمذهب أو رأي معين،
فأجبتهم على ذلك، امتثالاً لأمر اللَّه تعالى بالتبيين للناس، وكشف
الشبه والإلباس، ونظراً لشوقي لتحصيل الفضائل والتجنب عن
الرذائل، ورغبة في الأجر، والمثوبة.
ومما جعلني أقوم بهذا المصنف - أيضاً - ما يلي:
أولاً: تيسير وتسهيل علم أصول الفقه لهؤلاء الطلاب، ولغيرهم
بأسلوب عصري مفهوم.
ثانياً: تكثير طرق الخير ونشره، لأنه كلما كثر التأليف كثرت
طرق تعلمه.
ثالثاً: تكثير المتعلمين والطالبين، فإن لكل جديد لذة.(المقدمة/10)
رابعاً: التشبه بالسلف الصالح، وهم الراسخون بالعلم؛ حيث
روى ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد اللَّه وحده لا شريك له، واجعل رزقي تحت ظل رمحي، واجعل الذل والصغار على من خالف
أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ".
فلهذه الأسباب ولغيرها قمت بتأليف هذا الكتاب، وجعلته ميسراً
جامعاً، نقَّحت وهذَّبت فيه كثيراً من كلام علماء الأصول في كتبهم.
وجعلته في سبعة أبواب هي كما يلي:
الباب الأول: في المقدمات.
الباب الثاني: في الحكم الشرعي والتكليف به.
الباب الثالث: في أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الرابع: في الألفاظ ودلالتها على الأحكام.
الباب الخامس: في القياس.
الباب السادس: في الاجتهاد والتقليد.
الباب السابع: في التعارض والجمع والترجيح.
وقد تكلمت في هذا الكتاب سالكاً المنهج الآتي:
أولاً: جمعت كل مسائل أصول الفقه، فلم أترك أيَّ مسألة فيها
فائدة لطالب العلم إلا وذكرتها في هذا الكتاب.
ثانيا: هذَّبت هذه المسائل ورتبتها ونظمتها ونقحتها وانتقيتها
فجعلت هذا الكتاب يتكون من سبعة أبواب، وكل باب يتكون من
عدة فصول، وكل فصل يتكون من عدة مباحث، وكل مبحث(المقدمة/11)
يتكون من عدة مطالب، وكل مطلب يتكون من عدة مسائل، وكل
مسألة تتكون من عدة نقاط؛ تسهيلاً لطالب العلم؛ حيث إنه لا
فائدة من كتاب لم يرتب وينظم.
ثالثاً: لا أقتصر بذكر المسألة فقط، بل أقوم بشرحها وتصوير
المراد منها، وبيان الجزئية التي اختلف العلماء حولها.
رابعاً: أذكر المذاهب في المسألة، بادئاً بالمذهب الراجح عندي،
وذكر الأدلة على ذلك، وأذكر ما وجه إلى كل دليل من اعتراضات
- إن وجدت - ثم أجيب عن كل اعتراض بعد ذكره مباشرة، ثم
أذكر المذاهب الأخرى، مع أدلة كل مذهب، وأجيب عن كل دليل
بعد ذكره مباشرة.
خامساً: إذا انتهيت من ذكر المذاهب في المسألة الواحدة، أذكر
نوع الخلاف فيها: هل هو خلاف لفظي، أو معنوي؟
فإن كان لفظياً أبين دليل ذلك، وإن كان معنوياً أبين دليل ذلك،
مع ذكر بعض الآثار لهذا الخلاف، وإن كان الخلاف قد اختلف فيه
فقال بعض العلماء: إنه لفظي، وقال آخرون: إنه معنوي، أذكر
القولين، مع دليل كل منهما، ثم أبين ما هو الراجح عندي، مع
الجواب عن القول المرجوح.
سادساً: أُعرِّف المصطلحات الأصولية تعريفاً لغوياً، وتعريفاً
اصطلاحياً، ذاكراً في ذلك أقرب التعريفات إلى الصواب.
سابعاً: أذكر أهم الأدلة للمذهب المختار، وإذا وجدت بعض
الاعتراضات على بعض الأدلة: أذكر أقواها، ثم أذكر أهم الأجوبة
عن كل اعتراض وأقواها، وكذلك أذكر أهم وأقوى أدلة المذهب
المخالف، وأهم الأجوبة عنها.(المقدمة/12)
ثامناً: قمت بالتحقق من نسبة الأقوال والمذاهب والآراء.
تاسعاً: أستدل على إثبات القواعد الأصولية بإجماع الصحابة،
فإن لم أجد: أستدل بالنصوص من الكتاب والسُّنَّة - هذا غالباً،
وفي بعض القواعد الأصولية أستدل بالنص قبل إجماع الصحابة -
فإن لم أجد إجماعا ولا نصاً: فإني أستدل بمعقول النصوص، فإن
لم أجد: فإني أستدل بالقياس، فإن لم أجد: فإني أستدل بالأدلة
الصحيحة الأخرى عندي دون تعصب لمذهب معين.
عاشراً: قد أطلت بشرح وبيان بعض المسائل والقواعد، والأدلة؟
نظراً لأهميتها، وحاجة الطلاب إلى بيانها.
حادي عشر: ترجمت كلام علماء السلف في أصول الفقه
وجعلته في هذا الكتاب بأسلوب عصري مفهوم.
ثاني عشر: رجعت في وضع هذا الكتاب إلى أهم كتب أصول
الفقه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، سواء كانت
قديمة أم حديثة.
ثالث عشر: قد نهجت في هذا الكتاب بالمنهج الوسط، دون
التطويل الممل، أو الاقتصار المجحف المخل.
هذا وقد سميته: " المهذَّب في علم أصول الفقه المقارن - تحرير
لمسائله، ودراستها دراسة نظرية تطبيقية ".
حيث إني قد هذبت فيه مسائل أصول الفقه، وانتقيتها، وخلصتها
من كل ما علق بها مما لا يفيد طالب العلم، وعالجتها معالجة تذهب
صعوبتها من نفوس الطلاب إن شاء اللَّه، بحيث يستطيع كل طالب
فهمها بيسر وسهولة، وهذا هو أصل التهذيب، وهو - كما ورد في(المقدمة/13)
لسان العرب -: تنقية الحنظل من شحمه، ومعالجة حبه حتى
تذهب مرارته، ويطيب لآكله.
أرجو أن يكون كما سميته.
وأخيراً: فإن هذا هو جهد من هو معرض للخطأ والصواب:
فإن وفقت فمن اللَّه تعالى، وإن كانت الأخرى فمن نفسي ومن
الشيطان، وأستغفر اللَّه.
وأيضاً: أنا لا أدعي أني أصبت في كل ما كتبت؛ لأني أقطع
ويقطع غيري بأن أي مصنِّف وكاتب مهما بلغ من القدرة والجهد الذي
بذله فيما كتب لا بد أن يكون في عمله نقص، وذلك لأن النقص
والخطأ والسهو من طبيعة البشر، حيث إن الكمال لله وحده
لا شريك له.
ولكن يكفيني أني لم أقصد بهذا المصنَّف إلا نفع طلاب العلم
وإعانتهم على فهم مسائل أصول الفقه.
وأسأله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، وقارئه والناظر فيه،
وجميع المسلمين بمنِّه وكرمه، وأن يجعل عملنا في هذا المؤلَّف وفي
غيره صالحاً لوجهه خالصاً، ويجعل سعينَا مقرِّباً إليه، مبلِّغاً إلى
رضوانه، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
أ. د / عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
الأستاذ بقسم أصول الفقه، بكلية الشريعة بالرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(المقدمة/14)
الباب الأول في المقدمات
ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه.
الفصل الثاني: مقدمة في المصطلحات التي يحتاج
إليها دارس علم أصول الفقه.(1/5)
الفصل الأول في مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف أصول الفقه.
المبحث الثاني: الفرق بين أصول الفقه والفقه.
المبحث الثالث: الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية.
المبحث الرابع: في موضوع أصول الفقه.
المبحث الخامس: في حكم تعلم أصول الفقه.
المبحث السادس: في فوائد علم أصول الفقه.
المبحث السابع: الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها.
المبحث الثامن: هل يقدم تعلم أصول الفقه أو تعلم الفقه؟
المبحث التاسع: بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه.
المبحث العاشر: نشأة علم أصول الفقه.
المبحث الحادي عشر: طرق التأليف في علم أصول الفقه، وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة.(1/7)
المبحث الأول في تعريف أصول الفقه
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف أصول.
المطلب الثاني: تعريف الفقه.
المطلب الثالث: تعريف أصول الفقه.(1/9)
المطلب الأول في تعريف الأصول
أولا - تعريف الأصول لغة:
الأصول: جمع أصل، والأصل في اللغة يطلق على إطلاقات
كثيرة، من أهمها:
الإطلاق الأول: أنه يطلق على ما يبتني عليه غيره، ذهب إلى ذلك
كثير من الأصوليين، كأبي الخطاب، وأبي الحسين البصري،
والإيجي، والشوكاني.
وهو الصحيح عندي، لأمور ثلاثة:
أولها: أن الأصل - في حقيقته اللغوية - هو: أسفل الشيء،
وأساسه، ولا شك أن أسفل الشيء، وأساسه هو الذي يعتمد عليه
في البناء.
ثانيها: شموله وعمومه لكل ما ذكره العلماء من تعريفات.
ثالثها: أنه موافق لتعريف الأصل في الاصطلاح؛ حيث إنه
الدليل، والدليل يعتمد عليه الحكم، ويبنى عليه؛ إذ لا حكم بلا
دليل يعتمد عليه.
الإطلاق الثاني: أن الأصل: ما منه الشيء، ذهب إلى ذلك تاج
الدين الأرموي، وصفي الدين الهندي.(1/11)
الإطلاق الثالث: الأصل: ما يتفرع عنه غيره، وهو مذهب
القفال الشاشي.
الإطلاق الرابع: الأصل هو: المحتاج إليه، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وسراج الدين الأرموي.
الإطلاق الخامس: الأصل هو: ما يستند ذلك الشيء إليه، وهو
ما ذهب إليه الآمدي.
وهذه التعريفات - عند التحقيق - لا تعارض بينها؛ حيث إن
بعض العلماء عرفوا الأصل بتعريف عام وشامل كالإطلاق الأول،
والبعض الآخر عرَّفوا الأصل بتعريف خاص وبمعنى جزئي، فمن
الممكن أن تدخل الجزئيات ضمن التعريفات ذات المعنى الشمولي؛ الهدف هو: تعريف الأصل بمعناه الشامل الذي تدخل فيه كل
الجزئيات، لذلك رجحت الإطلاق الأول للأصل، وهو: أن
الأصل: ما يبتني عليه غيره.
اعتراض على ذلك:
اعترض بعضهم قائلاً: إنه معروف أن الوالد أصل للولد، ولكن
لا يقال: " الولد بني على الوالد "، بل الذي يقال: " إنه فرعه "،
ولو كان الأصل يطلق لغة على ما يبنى عليه غيره لما امتنع ذلك.
جوابه:
نقول في الجواب عنه: إنه لا مانع لغة من أن يقال: إن الولد بني
على الوالد إذا لاحظنا المعنى وهو: أن الولد أساسه الوالد، وهو
أصله.(1/12)
ثانياً - تعريف الأصول اصطلاحا:
الأصل في الاصطلاح يطلق على معان، من أهمها:
أولها: أن الأصل: الدليل. كقولنا: " الأصل في التيمم:
الكتاب، والأصل في المسح على الخفين: السُّنَّة " أي: دليل ثبوت
التيمم من الكتاب، ودليل ثبوت المسح من السُّنَّة.
وهو: المراد من الأصل في علم أصول الفقه عندي؛ لمناسبته
وموافقته لما قلناه من أن الأصل لغة يطلق على ما يبتني عليه غيره،
فالدليل يبنى عليه الحكم، فأصول الفقه: أدلته.
والدليل عام وشامل لجميع الأدلة المتفق عليها، والأدلة المختلف
فيها، والقواعد الأصولية مثل: " العبرة بعموم اللفظ "، و " أن
الأمر المطلق للوجوب "، و " النهي المطلق للتحريم ".
اعتراض على ذلك:
قال بعضهم: لا نُسَلِّمُ أنه يطلق على القواعد الأصولية أدلة،
لذلك قال: أحسن عبارة في تعريف الأصل في الاصطلاح هي:
"ما يبتني عليه غيره "، حتى تدخل الأدلة والقواعد، حيث تبنى على
هذه الأدلة وتلك القواعد الأحكام، فيكون تعريفه اصطلاحاً هو
تعريفه لغة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا داعي لهذا التكلُّف، لأنه
يطلق على القواعد أدلة، وهذا ما ثبت بالاستقراء والتتبع لكتب
الفقه؛ حيث إن الفقهاء يستدلون بالقواعد الأصولية، ويسمون تلك
القواعد أدلة.(1/13)
ثانيها: يطلق الأصل ويراد به القاعدة الكلية المستمرة بقولهم:
"تحمل العاقلة للدية خلاف الأصل "، و " الأصل أن النص مقدم
على الظاهر "، و " الأصل: أن العموم يعمل بعمومه حتى يرد ما
يخصصه ".
ثالثها: يطلق الأصل ويراد به الرجحان كقولهم: " الأصل في
الكلام الحقيقة " أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي، دون
المعنى المجازي.
رابعها: يطلق الأصل ويراد به المستصحب كقولهم: " الأصل في
الأشياء الإباحة "، أي: نستصحب الإباحة الثابتة في الأشياء حتى
يأتي ما يحرم، وقولهم: " الأصل في الإنسان البراءة " أي: أن
الإنسان بريء حتى تثبت إدانته بدليل.(1/14)
المطلب الثاني في تعريف الفقه
أولاً - تعريف الفقه لغة:
عرف الفقه لغة بعدَّة تعريفات، من أهمها:
الأول: الفقه هو: الفهم مطلقاً.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والباجي، وابن
عقيل، والإسنوي، وصفي الدين الهندي، والشوكاني.
وهو الصحيح عندي؛ لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوص
الشرعية أن لفظ " الفقه " ورد بمعنى الفهم من ذلك: قوله تعالى:
(فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي: لا يكادون
يفهمون.
ومن ذلك قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)
أي: يفهموا قولي.
ومنه قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) أي:
ما نفهم كثيراً من قولك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نضَّر
الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما وعاها، فرب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه ".
وقلنا: الفهم مطلقاً أي: سواء كان عالِماً أو لا، وسواء فهم(1/15)
الغرض من خطاب الشخص، أو فعله، أو إشارته، أو إيمائه، أو
غير ذلك.
الثاني: أن الفقه لغة هو: العلم، أي: إذا كان الشخص عالماَ
بأشياء لا يعلمها غيره من الناس فهو الفقيه، وإن لم يفهم ما يعلمه،
ذهب إلى ذلك ابن فارس في " المجمل "، وإمام الحرمين في
"البرهان "، وأبو يعلى في " العدة "، والكيا الهراسي.
الثالث: الفقه لغة هو: العلم والفهم معاً، يقال: فلان يفقه
الخير والشر، و " يفقه الكلام " أي: يعلمه ويفهمه، ذهب إلى
ذلك الغزالي في " المستصفى "، والآمدي فى " منتهى السول "،
وابن سيده في " المحكم ".
الجواب عنهما:
أقول - في الجواب عنهما -: إن هذين التعريفين يدخلان ضمن
التعريف الأول " حيث إن المراد بالفهم مطلقاً هو: معرفة الشيء،
ومعرفة الشيء بالقلب هو: العلم به.
الرابع: الفقه لغة هو: إدراك الأشياء الدقيقة.
ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، يقال:
" فقهت كلامك " أي: أدركت دقائقه، ويقال: " فلان فقيه في
الخير وفقيه في الشر " إذا كان يدقق النظر في ذلك، لكن لا يقال:
" فقهت أن السماء فوقي والأرض تحتي، وأن الماء رطب، والتراب
يابس ".
وكان الشعراء يُسمَّون في الجاهلية فقهاء " لإدراكهم المعاني الدقيقة
في أشعارهم، وتعبيرهم بها.(1/16)
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا من تعريفات الفقه اصطلاحاً؟
وذلك لأنه لم يرد في كلام أهل اللغة.
وإذا كان هذا من تعريفات الفقه اصطلاحا، فإنه تعريف ضعيف؟
لأنه يفضي ويؤدي إلى أن من علم الأشياء الظاهرة مثل ما علم من
الدين بالضرورة، ككون الصلاة واجبة، والزنا حرام، ونحو ذلك
من الأحكام الفقهية لا يُسمى فقيهاً. وليس كذلك؛ حيث إن كل
عالم بالأحكام عامة عن طريق الاستنباط يُسمَّى فقيهاً - وسيأتي بيان
هذَا إن شاء اللَّه.
الخامس: الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه.
ذهب إلى ذلك أبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدين
الرازي في " المحصول ".
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا التعريف للفقه بعيد؛ لأمرين:
أولهما: أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة؛ حيث إنه نقل عنهم:
أن الفقه هو مطلق الفهم.
ثانيهما: أن ما قيل في هذا التعريف هو تقييد للمطلق،
وتخصيص للعام بدون مقيد، وبدون مخصص.
ثانيا - تعريف الفقه اصطلاحاً:
1 - الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: حفظ طائفة من مسائل
الأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وما استنبط
منهما، سواء كان قد حفظها مع أدلتها، أو مجرداً عنها.(1/17)
أو تقول: إن الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: مجموع الأحكام
والمسائل التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون، أو أفتى
بها أهل الفتوى، أو توصل إليها أهل التخريج، وبعض ما يحتاج
إليه من مسائل الحساب التي ألحقت بالوصايا والمواريث.
فاسم الفقيه عند الفقهاء لا يختص بالمجتهد - كما هو عند
الأصوليين - بل يشمله ويشمل غيره من المشتغلين في هذه المسائل.
2 - أما الفقه في اصطلاح الأصوليين فهو: " العلم بالأحكام
الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية ".
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " العلم " هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن.
أي: مطلق إدراك الحكم، سواء كان عن دليل قطعي، أو عن
دليل ظني راجح، فيكون المراد بالعلم هو: ما علمناه بالشرع إما
بيقين أو غالب الظن.
هذا هو القول الحق " لأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي،
ومنها ما هو ظني، فحمل الفقه على واحد منهما ليس بسديد.
والمقصود بالظن - هنا - هو ظن المجتهد الذي توفرت فيه شروط
الاجتهاد، وليس ظن كل أحد من العوام، أو طلاب العلم الذين
لم يبلغوا درجة الاجتهاد.
وبقولنا: إن العلم هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن،
نسلم من اعتراض أبي بكر الباقلاني المشهور وهو: أنه قال: إنكم
عرفتم الفقه بأنه " العلم بالأحكام.. "، والعلم معناه: الإدراك
الجازم المطابق للواقع عن دليل قطعي؛ الأحكام الفقهية لم تثبت(1/18)
عن طريق أدلة قطعية، بل إن الأقل من تلك الأحكام ثبت عن دليل
قطعي، وغالب الأحكام الفقهية ثبتت عن أدلة ظنية، فإدخال لفظ
"العلم " في تعريف الفقه مع أن الفقه من باب الظنون باطل.
وإليك بيان كيف كان الفقه ظنياً:
الفقه من باب الظنون؛ لأنه مستفاد من الأدلة الظنية، وإليك بيان
ذلك:
الأدلة تنقسم إلى قسمين: " أدلة متفق عليها "، و " أدلة مختلف
فيها".
والمتفق عليها من حيث الجملة: " الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع،
والقياس ":
أما القياس: فإنه لا يفيد إلا الظن، وهو واضح.
وأما الإجماع: فإنه يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: الإجماع السكوتي، وهو لا يفيد إلا الظن، سواء
نقل إلينا عن طريق التواتر، أو الآحاد.
النوع الثاني: الإجماع الصريح فيه تفصيل:
إن نقل إلينا بطريق الآحاد، فهو لا يفيد إلا الظن.
وإن نقل إلينا بطريق التواتر، فهو يفيد القطع، لكنه في غاية البعد.
أما السُّنَّة، ففيها تفصيل:
إن نقلت الأحاديث عن طريق الآحاد، وهذا أكثر السُّنَّة، فلا
يفيد إلا الظن، سواء كانت دلالته قطعية أو ظنية.
وإن نقلت الأحاديث عن طريق التواتر - وهو قليل جداً - ففيه
تفصيل:(1/19)
إن كانت دلالة الحديث على المعنى قطعية، فيفيد القطع، وهو
قليل، وإن كانت دلالة الحديث على المعنى ظنية، فلا يفيد إلا الظن.
وأما الكتاب، ففيه تفصيل:
إن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة ظهية، فلا تفيد إلا الظن.
وإن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة قطعية، فإنها تفيد القطع.
وما هو مقطوع الدلالة من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، يكون من
ضروريات الدين.
أما الأدلة المختلف فيها كالمصالح، والاستصحاب، والعرف،
وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرَع من قبلنا، والاستحسان،
فإنها لا تفيد إلا الظن عند القائلين بها.
إذاً يكون غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، فيكون
الفقه ظنياً على الغالب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يقال:
إن الفقه هو " العلم بالأحكام.. "، بل يقال: " إن الفقه: الظن
بالأحكام الشرعية.. "، فإيراد العلم مكان الظن يكون إيراداً لضد
الشيء مكانه في التعريف، فيكون التعريف باطلاً.
هذا هو اعتراض الباقلاني المشهور.
وبتفسيرنا " العلم " بأنه مطلق الإدراك، ومطلق الإدراك يشمل
القطع والظن، نسلم من هذا الاعتراض للباقلاني.
قولنا: " بالأحكام "، الباء متعلقة بمحذوف تقديره: " المتعلق"
ويكون الكلام بعد التقدير: " العلم المتعلق بالأحكام الشرعية ".
والمراد بتعلق العلم بالأحكام: التصديق بكيفية تعلقها بأفعال
المكلفين، كأن تعلم - مثلاً - أن الوجوب ثابت للصلاة، وأن الزنا
محرم.(1/20)
والأحكام جمع " حكم "، والحكم يطلق على إطلاقات كثيرة
تختلف باختلاف الاصطلاحات، وهي كما يلي:
الاصطلاح الأول: أن الحكم يطلق على إدراك الوقوع أو عدم
الوقوع، أي: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، وهذا
اصطلاح المناطقة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا
الإطلاق؛ لأن العلم هو: الإدراك - كما سبق ذكره - فإذا كان
الحكم هو الإدراك فيكون التقدير: الفقه هو: إدراك الإدراك للوقوع،
أو عدم الوقوع، وهو معنى فاسد.
الاصطلاح الثاني: أن الحكم هو: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل
المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وهذا اصطلاح الأصوليين.
جوابه -:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا
الإطلاق " لأن ذلك يجعل قيد: " الشرعية " الوارد في تعريف الفقه
لغواً لا فائدة فيه، حيث إن الحكم بهذا الإطلاق لا يكون إلا
شرعياً، فيترتب على ذلك حصول التكرار.
الاصطلاح الثالث: أن الحكم هو: إسناد أمر إلى أمر آخر
إيجاباً، أو سلباً، أو هو ثبوت شيء لشيء آخر، أو نفيه عنه،
وهو اصطلاح اللغويين.
وهذا هو المراد بالحكم هنا عندي، لأمرين:
أولهما: لعمومه وشموله.(1/21)
ثانيهما: أن الإطلاقات والاصطلاحات الأخرى ثبت عدم صحتها.
والحكم على هذا الإطلاق منقسم إلى ما يلي:
الحكم الشرعي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الشارع
نحو: الصلاة واجبة.
الحكم العقلي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من العقل نحو:
الخمسة نصف العشرة.
الحكم الحسي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الحواس
الخمس نحو: الثلج بارد.
الحكم التجريبي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من التجربة
نحو: الإهليلج مسهل.
الحكم الوضعي الاصطلاحي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة
من الوضع اللغوي كالحكم بأن الفاعل مرفوع، والمفعول به
منصوب.
وقولنا: " بالأحكام " دخلت " أل " على الأحكام، وهي هنا
تكون للعموم، فتعم شيئين:
أولهما: العلم بالأحكام بالفعل.
ثانيهما: العلم بالأحكام بالقوة.
أي: لا يراد من العلم بجميع الأحكام: معرفتها جميعها
بالفعل، بمعنى: أن يعرف حكم كل مسألة يسأل عنها، ولا يجهل
شيئاً من الأحكام.
بل المراد من العلم بالأحكام ومعرفتها: العلم ببعضها بالفعل،
والعلم بالباقي بالقوة، بحيث تكون عنده القدرة على تحصيلها(1/22)
بالأخذ في أسباب الحصول، وهو ما يعرف بالملكة والتهيؤ، ولا شك
أن كل مجتهد عنده القدرة والملكة التي يستطيع بها استنباط الحكم
واستخراجه إذا لزم الأمر وحدثت حادثة تقتضي ذلك.
فيسمى فقيهاً نظراً لوجود الملكة عنده، فيكون عالماً ببعض
الأحكام بالفعل، والبعض الآخر بالقوة والاستعداد.
وقلنا ذلك لأن " أل " الداخلة على " الحكم ": لا يصح أن تكون
للعهد؛ لأنه لم يتقدم للحكم ذكر حتى تكون للعهد الذكري، ولا
يوجد بين المعرف والمخاطب معرفة وعهد حتى تكون للعهد الذهني.
ولا يصح أن تكون " أل " للجنس؛ لأن أقل جنس الجمع ثلاثة،
فيلزم من ذلك أن يسمى العامي فقيهاً إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها؟
لصدق اسم الفقيه عليه، وليس كذلك.
ولا يصح أن تكون " أل " لمطلق الحقيقة -؛ لأنه يلزم من ذلك أن
من عرف حكماً واحداً بدليله يكون فقيهاً، وليس كذلك.
ولا يصح أن يكون " أل " لاستغراق الجنس؛ لأنه يلزم من كونها
لاستغراق الجنس أن الشخص لا يُسمَّى فقيهاً إلا إذا علم جميع
الأحكام الشرعية الفرعية، فمن لم يعلمها كلها: فإنه يخرج من
زمرة الفقهاء، وهذا باطل؛ لأن الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء
كانوا لا يعلمون كل الأحكام، إذ ما من إمام إلا وقد خفي عليه
بعض الأحكام، فقد ذكر الهيثم بن جميل عن الإمام مالك أنه سئل
عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: " لا
أدري ".
وذكر أبو القاسم بن يوسفما الحسني الحنفي: أن الإمام أبا حنيفة
قال في ثمان مسائل: " لا أدري ".(1/23)
وذكر ابن جماعة: أن محمد بن الحكم سأل الإمام الشافعي عن
المتعة: أكان فيها طلاق، أو ميراث، أو نفقة؟ فقال: " والله ما
ندري ".
وذكر الأثرم: أنه كان يسمع الإمام أحمد يكثر من قول: " لا أدري ".
والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.
قولنا: " الشرعية " أي: يجب أن تكون تلك الأحكام شرعية،
أي. مستفادة من الأدلة الشرعية، سواء كانت تلك الأدلة متفق
عليها، أو مختلف فيها.
فلفظ " الشرعية " أخرج الأحكام المستفادة من العقل، أو من
الحس، أو من الوضع اللغوي، أو من التجرية.
قولنا: " العملية ": يبين أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون فيها
عمل جوارح كالصلاة، والزكاة، والحج، والمعاملات، والجنايات
ونحو ذلك.
وليس المراد بـ " العملية " هو: أن جميع الأفعال هي عملية
وأفعال، بل المراد: أن أكثرها فعلي وعملي، لا كلها، وذلك
لوجود بعض الأحكام الفقهية الكائنة بالقلب دون عمل الجوارح؛ الفقيه كما يكون فقيهاً بالعلم بوجوب الصلاة والصيام والحج،
كذلك يكون فقيهاً بالعنم بوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء
والحسد، وأمور كثيرة لا توجد إلا بالقلب، فيدخل عمل الجوارح،
وعمل القلب، وما هو وسيلة إلى العمل كعلم أصول الفقه.
وخرج بكلمة " العملية " الأحكام الشرعية العقائدية، وهو علم(1/24)
التوحيد، كالعلم بأن اللَّه واحد سميع بصير، فهذا ليس من الفقه
في شيء.
اعتراض:
اعترض بعضهم كالإسنوي على هذا قائلاً: إن هذا تناقض،
حيث أدخلتم في لفظ " العملية " عمل القلب كوجوب النية، ولم
تدخلوا علم التوحيد فإنه عمل قلب أيضاً.
جوابه:
إن عمل القلب كوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء،
والحسد، والحقد، ونحو ذلك تشبه عمل الجوارح أكثر من شبهها
بالاعتقاد " لكونها تظهر على المتصف بها ولو بعد حين، فألحقناها
بعمل الجوارح لكثرة شبهها به، فلو جالست شخصاً حاقداً، أو
حاسداً، أو لا إخلاص عنده، فإنك ستعلم ذلك عنه من خلال
عمله وتصرفاته، ولكنك لن تعلم أن جليسك هذا أشعري، أو
معتزلي من أي عمل عمله، لأنه بينه وبين اللَّه.
اعتراض آخر:
ذكر بعض العلماء كفخر الدين الرازي وتلميذه تاج الدين الأرموي:
أن كلمة: " العملية " خرج بها - أيضاً - أصول الفقه، لأن العلم
بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّة - مثلاً - ليس علماَ
بكيفية عمل.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: هذا ليس بصحيح، فلا يخرج
بكلمة " العملية " علم أصول الفقه، بل يدخل - كما سبق أن(1/25)
قلناه -؛ لأن هذه القواعد - ككون الإجماع والقياس وخبر الواحد
حُجَّة - هي وسيلة إلى العمل، فالغاية المطلوبة منها العمل،
والموضوع عمل من أعمال المكلفين، وتلك هي مسائل المكلفين.
أي: أن حكم الشرع بكون الإجماع والقياس وخبر الواحد حُجَّة
معناه: أن نتعبد ونعمل بالحكم الذي يثبت عن طريق تلك الأدلة،
ويجب العمل بمقتضاه، والإفتاء بموجبه.
قولنا: " المكتسب من الأدلة ": لفظ " المكتسب " مرفوع،
حيث إنه وصف للعلم، أي: أن هذا العلم بالأحكام الشرعية
العملية مأخوذ بسبب النظر بالأدلة واستنباط الأحكام منها، فأي
شخص حصل على العلم بالأحكام بدون النظر بالأدلة لا يسمى فقيهاً
مهما كان.
وعلى هذا خرج بهذه الكلمة - أعني: " المكتسب من الأدلة " -
ما يلي:
1 - علم اللَّه تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه أخذ من أدلة، حيث إنه
أزلي غير مكتسب.
2 - علم الأنبياء عليهم السلام بالأحكام من غير اجتهاد، حيث
يتلقى ذلك عن طريق الوحي.
أما علم الأنبياء والرُّسُل الحاصل عن اجتهاد ونظر، فهو علم
مكتسب، لذلك يوصف بأنه فقيه في هذا الذي اجتهد فيه.
3 - علم الملائكة؛ لأنه مأخوذ من اللوح المحفوظ.
4 - علم المقلد الذي لم يجتهد في تحصيل واستنباط أي حكم من
الأحكام من أدلتها، بل أخذ الحكم عن المجتهد، فمعرفته ببعض
الأحكام ليست حاصلة عن دليل أصلاً لا إجمالي، ولا تفصيلي.(1/26)
وقولنا: " التفصيلية " أي: آحاد الأدلة، بحيث يدل كل دليل
بعينه على حكم معين مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ،
وقوله: (ولا تقربوا الزنا) .
وقد جيء بلفظ " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية الكلية
كمطلق الأمر، ومطلق النهي، والإجماع، والقياس، وقول
الصحابي ونحو ذلك، فالبحث عن هذه الأدلة الإجمالية من عمل
وشأن الأصولي.
وتعريف الفقه - السابق - يبين ويوضح أن أيَّ حكم شرعي عملي
أخذه هذا الشخص من دليل تفصيلي، فإنه يُسمَّى فقيهاً، سواء كان
ظاهراً جلياً، أو كان غامضاً خفياً.
اعتراض:
اعترض فخر الدين الرازي على ذلك قائلاً: إذا كان الحكم
معلوماً من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم،
وغيرهما مما يعرف من أدلة ظاهرة جلية، فإن العارف لذلك لا
يسمى فقيهاً، حيث إنه أخذ ذلك من غير نظر واستدلال.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: ماذا يعني فخر الدين بالضرورة؟
إن كان يعني بها: أن كل من تصور الدين الذي جاء به نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم - حصل له العلم الضروري بوجوب الصلاة، ووجوب الصوم ونحوهما، فليس كذلك، لأنه في ابتداء الإسلام لم يكن
الأمر كذلك، فإن الفقه كان حاصلاً بها للصحابة - رضي الله
عنهم - ولم تكن ضرورية - حينئذٍ - وفقه الصحابة يجب أن يتناوله
حد الفقه.(1/27)
وإن أراد بها: بعد اشتهار الإسلام وانتشاره، فإن أكثر الأحكام
كذلك تحريم الزنا، والغصب، والسرقة، والربا، ونحوها،
فلو خرجت هذه الأحكام وما شابهها مما اشتهر وعرفه أكثر الناس
لخرج أكثر الفقه عن أن يسمى فقهاً؛ لأن هذه المسائل هي المسائل
الأصلية في الفقه، وغيرها يتفرع عنها.
وبهذا يتبين: أن الفقيه هو العالم الذي علم الأحكام الشرعية
العملية المكتسب والمأخوذ من الأدلة التفصيلية، ولا يمكن أن يكون
كذلك إلا إذا توفرت فيه شروط المجتهد.
فمن حفظ المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه على مذهب
واحد، أو على المذاهب الأربعة بأدلتها، فلا يُسمَّى فقيها، ولكن
يُسمَّى ناقل للفقه عن غيره، ولو كان حافظاً للقرآن والسُّنَّة. والله
أعلم.(1/28)
المطلب الثالث في تعريف أصول الفقه
لما عرفت تعريف الأصول، وتعريف الفقه، سأبين الآن تعريف
أصول الفقه، فأقول:
لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف أصول الفقه، ولكن
أقربها إلى الصحة هو: معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة
منها وحال المستفيد.
شرح التعريف:
المراد بالمعرفة: العلم والتصديق، دون التصور، حيث إن المعرفة
تعلقت بالنسبة، ولم تتعلق بالمفرد.
والمعرفة جنس دخل فيها معرفة الأدلة، ومعرفة الأحكام.
والأدلة جمع " دليل "، والدليل لغة هو: المرشد إلى المطلوب،
سواء كان حسيا، أو معنويا.
وهو في الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى
مطلوب خبري.
وهو شامل للدليل القطعي المفيد للقطع، وشامل للدليل الظني
المفيد للظن عندنا.
مثال القطعي: الدلالة على حدوث العالم، فتقول: العالم
متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث.(1/29)
ومثال الظني: الغيم الذي إذا نظرنا إليه فإنه يوصلنا إلى وقوع
المطر.
اعتراض:
لم يسلم ذلك أبو الحسين البصري، وفخر الدين الرازي،
والآمدي، بل قالوا: إن الدليل لا يستعمل إلا فيما يؤدي إلى العلم
أما ما يؤدي إلى الظن فلا يسمى دليلاً، وإنما يسمى أمارة.
جوابه:
هذا غير صحيح؛ لأمور ثلاثة:
أولها: أن أهل اللغة لم يفرقوا في التسمية بين ما يؤدي إلى العلم
أو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه.
تانيها: أن أهل الشريعة لم يفرقوا بينهما في الاعتقاد والعمل.
ثالثها:. أن الدليل هو المرشد إلى المطلوب، والدليل الظني
مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلاً كالموجب للعلم.
والمقصود من معرفة أدلة الفقه: معرفة الأدلة وأحوالها المتعلقة بها
مثل: أن يعرف أن الأمر يقتضي الوجوب عند الإطلاق، وأن
الإجماع يفيد القطع، أو الظن، وأن القياس يفيد الحكم الظني
وهكذا.
وليس المراد من معرفة الأدلة هو: تصورها كأن يعرف: أن
الكتاب هو: اللفظ المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته، وأن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإجماع هو: اتفاق مجتهدي أُمَّة محمد، فهذه كلها تصورات - فقط - وهي من مقاصد علم الأصول.(1/30)
وليس المراد من معرفة الأدلة: حفظها؛ لأن حفظ الأدلة ليست
من الأصول في شيء.
والمقصود بالأدلة هنا: الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها،
والقواعد الكلية، ولو لم نحمل الأدلة على ذلك لخرج كثير من
مسائل أصول الفقه عن الحد كقاعدة: " العبرة بعموم اللفظ "،
و"الأمر المطلق يقتضي الوجوب "، ونحو ذلك.
ومن قال بأن القواعد الكلية لا تسمى أدلة: عرف أصول الفقه
بأنه: " القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من
الأدلة "، ولكن ما أثبتناه هو الأصح، كما سبق بيانه.
وأضفنا الأدلة إلى الفقه؛ لإخراج معرفة أدلة غير الفقه، كصرفه
أدلة التوحيد مثلاً، فإن ذلك ليس من الأصول.
وقولنا: " إجمالاً " هو حال من " دلائل "؛ لأن المراد هو:
المعرفة التفصيلية للأدلة الإجمالية؛ حيث إن الأدلة نوعان " كلية
وإجمالية "، و " جزئية ".
فمعرفة أن الإجماع حُجَّة، والقياس حُجَّة، والنهي يقتضي
التحريم تعتبر أدلة إجمالية؛ لأنها لا تدل على حكم معين.
أما الأدلة الجزئية: فهي التي تدل على حكم معين في حالة معينة
فقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) ، والإجماع على أن الخالة ترث،
وقياس الجد على ابن الابن، ولا نكاح إلا بولي، هذه كلها أحكام
جزئية؛ لأن كلًّا منها يستفاد منه حكم معين.
فالأصولي يبحت عن أحوال الأدلة الكلية، ولا يبحث فيه عن
الأدلة الجزئية؛ لأمرين:
أولهما: أن الأدلة الجزئية غير محصورة.(1/31)
ثانيهما: أن الأدلة الجزئية داخلة تحت الأدلة الكلية، فالباحث عن
أحوال الأدلة الكلية يبحث عن الأدلة الجزئية بطريق التبع، وإذا
تعرض الأصولي لدليل جزئي فهو عن طريق ضرب المثال.
وقوله: " إجمالاً " قيد أخرج علم الخلاف؛ لأن المقصود منه
معرفة أدلة الفقه التفصيلية لا لأجل أن يستفيد منها الأحكام، بل
لتكون سلاحا يدافع به كل مناظر عن وجهة نظر إمامه، وهذا لا
يدخل في أصول الفقه.
وقولنا: " وكيفية الاستفادة منها " معطوف على " دلائل " أي:
معرفة الدلائل، ومعرفة كيفية الاستفادة من تلك الدلائل.
أي: أن الأصول جث فيه عن الأحوال التي تعترض للأدلة،
وكيف نستفيد الحكم من تلك، فلا بد في ذلك من معرفة التعارض
بين الأدلة، وكيفية فك هذا التعارض، والترجيح بينها، وذلك لأن
الغرض من البحث عن أحوال الأدلة إنما هو التوصل إلى استنباط
الأحكام الشرعية من الأدلة، ومعروف أن الأدلة المفيدة للأحكام
ظنية، فهي قابلة للتعارض.
وعند التعارض لا بد في استفادة الحكم من دليله من الترجيح بينه
وبين معارضه.
لذلك لا بد من معرفة متى تتعارض الأدلة، وإذا تعارضت فبأي
شيء يكون الترجيح؟
وكذلك لا بد أن يعرف أنه لا تعارض بين دليلين قطعيين، وبين
قاطع وظني، وإذا تعارضت الأدلة الظنية فهناك مرجحات كثيرة،
بعضها يرجع إلى راوي الخبر، وبعضها يرجع إلى نفس النص،
وبعضها يرجع إلى أمور أخرى، فلا بد أن يعرف ذلك كله.(1/32)
ولذلك يرجح الخبر الذي رواته أكثر على من قلَّت رواته " لأن
احتمال الكذب والغلط على الأقل أقرب، ويرجح خبر صاحب
الواقعة على خبر غيره، فرجح العلماء خبر عائشة: " إذا التقى
الختانان وجب الغسل، فعلته أنا والرسول " على خبر ابن عباس:
"الماء من الماء "، ونحو ذلك، كما سيأتي تفصيله في الباب السابع.
وقولنا: " وحال المستفيد " معطوف على دلائل، فيكون التقدير:
" ومعرفة حال المستفيد "، والمستفيد هو طالب الحكم من الدليل،
وهو المجتهد، فيكون المراد بالمستفيد هو المجتهد.
والمقصود: أن من مواضع أصول الفقه هو البحث عن حال
المجتهد والشروط التي يجب أن تتوفر فيه.
وإنما كان البحث عن حال المجتهد من أصول الفقه، لأننا قلنا فيما
سبق: فائدة البحث عن أحوال الأدلة إنما هو لأجل أن يتوصل بها
إلى استنباط الأحكام من الأدلة، ومعروف أن الأدلة ظنية.
ومعروف أنه لا يوجد بين الدليل الظني ومدلوله ارتباط عقلي "
لأنه يجوز أن لا يدل الدليل عليه، فكان لا بد من رابط يربط بينهما
والرابط هو: الاجتهاد، فلذلك بحث في الأصول عن الاجتهاد،
وذكر فيه الشروط التي يجب توافرها في المجتهد.
وإذا علمت أن المراد بالمستفيد هو المجتهد، فإن المقلد لا يدخل هنا
فالمقلد وشروطه وبحثه ليس من علم الأصول، وإنما ذكر ذلك
استطراداً لذكر المجتهد.(1/33)
المبحت الثاني في الفرق بين الأصول والفقه
بعد ما تبينت لنا حقيقة الفقه، وأصولى الفقه: ظهر لنا الفرق
بينهما، ولعلي ألخص ذلك وأبين وظيفة الفقيه ووظيفة الأصولي فيما
يلي، فأقول:
إن أصول الفقه يكون في البحث عن أدلة الفقه الإجمالية بالتفصيل.
أما الفقه فهو يبحث في العلم بالأحكام الشرعية العملية المأخوذة
والمستنبطة من أدلتها التفصيلية.
وعلى هذا تكون وظيفة الفقيه هي: أن يأخذ هذه القواعد والأدلة
الإجمالية التي أغناه عن التوصل إليها الأصولي، ويطبقها على
الجزئيات.
أو أقول بعبارة أخرى: إن أصول الفقه عبارة عن المناهج والأسس
التي تبين الطريق وتوضحه للفقيه، الذي يجب عليه أن يلتزمه في
استخراج الأحكام من أدلتها، فيرتب الأصولي تلك الأدلة فيقدم
الكتاب على السُّنَّة، والسُّنَّة على الإجماع، وهكذا.
أما الفقه: فهو عبارة عن استخراج الأحكام من الأدلة مع التقيد
بتلك المناهج.
وأن مثل علم الأصولى بالنسبة للفقه كمثل علم المنطق بالنسبة لسائر
العلوم الفلسفية، فهو ميزان يضبط العقل ويمنعه من الخطأ في الفكر.(1/34)
المبحث الثالث في الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية
تبيَّن - فيما سبق - وجود ارتباط وثيق بين أصول الفقه، والفقه،
وهذا لا يعني أنهما علم واحد، بل إن كلًّا منهما علم مستقل بحد
ذاته، ولكل منهما قواعده، ونظراً إلى أنه قد تختلط القواعد
الأصولية بالقواعد الفقهية عند بعض طلاب العلم - حيث إن لكل
منهما قواعد تندرج تحتها جزئيات - ذكرتُ هذه الفروق بينهما وهي:
الفرق الأول: أن القواعد الأصولية عبارة عن المسائل التي تشملها
أنواع من الأدلة التفصيلية يمكن استنباط التشريع منها.
أما القواعد الفقهية: فهي عبارة عن المسائل التي تندرج تحتها
أحكام الفقه، ليصل المجتهد إليها بناء على تلك القضايا المبينة في
أصول الفقه، ويلجأ الفقيه إلى تلك القواعد الفقهية تيسيراً له في
عرض الأحكام، فهو - مثلاً - إذا قال: " إن العبرة في العقود
بالمقاصد والمعاني " أغناه عن أن يقول في كل جزئية: " البيع منعقد
بلفظ كذا "، وأن يقول: " الإجارة تنعقد بلفظ كذا ".
الفرق الثاني: أن القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميع
جزئياتها وموضوعاتها، فكل نهي مطلق - مثلاً - للتحريم، وكل
أمر مطلق للوجوب.(1/35)
أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية، يكون الحكم فيها على أغلب
الجزئيات.
الفرق الثالث: أن القواعد الأصولية وسيلة لاستنباط الأحكام
الشرعية العملية.
أما القواعد الفقهية فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجع
إلى عِلَّة واحدة تجمعها، أو ضابط فقهي يحيط بها، والغرض من
ذلك هو: تسهيل المسائل الفقهية وتقريبها.
الفرق الرابع: أن القواعد الأصولية ضابط وميزان لاستنباط
الأحكام الفقهية، ويُبين الاستنباط الصحيح من غيره، فهو بالنسبة
لعلم الفقه كعلم المنطق يضبط سائر العلوم الفلسفية، وكعلم النحو
يضبط النطق والكتابة بخلاف القواعد الفقهية.
الفرق الخامس: أن القواعد الأصولية قد وجدت قبل الفروع؟
حيث إنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط.
أما القواعد الفقهية فإنها قد وجدت بعد وجود الفروع.
هذه أهم الفروق بينهما.
وإليك أهم كتب القواعد الفقهية على المذاهب الأربعة:
1 - الأشباه والنظائر لابن السبكي تاج الدين (ت 771 هـ) :
"المذهب الشافعي ".
2 - الأشباه والنظائر لابن الوكيل (ت 716 هـ) : " المذهب
الشافعي ".
3 - الأشباه والنظائر للسيوطى (ت 911 هـ) : " المذهب
الشافعي ".(1/36)
4 - الأشباه والنظائر لابن الملقن (ت 804 هـ) : " المذهب
الشافعي ".
5 - الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ) : " المذهب
الحنفي ".
6 - تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي (تْ 43 هـ) : " المذهب
الحنفي ".
7 - شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء: " المذهب الحنفي ".
8 - الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية لابن حمزة (ت
1305 هـ) : " المذهب الحنفي ".
9 - الفروق للقرافي (ت 682 هـ) : " المذهب المالكي ".
ْا - القواعد لابن رجب (ت 795 هـ) : " المذهب الحنبلي ".
11 - القواعد للمقَّري (ت 758 هـ) : " المذهب المالكي ".
12 - القواعد النورانية الفقهية لابن تيمية (ت 728 هـ) : "المذهب
الحنبلي ".
13 - قواعد مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد
لأحمد القاري (ت - 1358 هـ) .
14 - المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي (ت 761 هـ) .
15 - المنثور في القواعد للزركشي (ت 794 هـ) .(1/37)
المبحث الرابع في موضوع أصول الفقه
لقد اختلف في موضوع علم أصول الفقه على مذهبين:
المذهب الأول: أن موضوع أصول الفقه هو: الأدلة الإجمالية،
وهو مذهب الجمهور، أي: أن موضوع علم أصول الفقه هو:
الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية العملية، وأقسامها، واختلاف
مراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها على وجه كلي، وهو
الصحيح عندي، لأن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة وثمرة الشىء
تابعة له.
فالأصولي يبحث في حجية الأدلة الإجمالية، ثم يبحث عن
العوارض اللاحقة لهذه الأدلة من كونها عامة، أو خاصة، أو مطلقة
أو مقيدة، أو مجملة، أو مبينة، أو ظاهرة، أو نصاً، أو منطوقاً،
أو مفهوماً، وكون اللفظ أمراً، أو نهياً، ومعرفة هذه الأمور هي
مسائل أصول الفقه.
فمثلاً الكتاب، وهو دليل سمعي كلي لم ترد نصوصه على حَالة
واحدة، بل منها ما هو بصيغة الأمر، أو النهي، أو العام، أو
الخاص -، أو المطلق، أو المقيد إلى آخره، فهذه الأمور - وهي:
الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل، والمطلق والمقيد،
وغيرها، تعتبر من أنواع الدليل الشرعي العام الذي هو الكتاب،(1/38)
فيبحث الأصولي هذه الأمور وما تفيده، فبعد بحثه وتمحيصه يتوصل
إلى أن الأمر يفيد الفور أو التكرار، ويتوصل إلى أن النهي يفيد
التحريم، وأن العام يدل دلالة ظنية، وهكذا.
فهذه كلها وجوه الاستدلال بالكتاب، والدليل واحد، وهو نفس
الكتاب.
ْوالفقيه يأخذ الدليل الإجمالي، أو القاعدة الكلية التي توصل
إليها الأصولي، فيجعلها مقدمة كبرى، بعد أن يقدم لها بمقدمة
صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيل
يعرفه الفقيه، كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)
فيكون عندنا مقدمتان ونتيجة:
المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: (وأقيموا
الصلاة) ، وهذا دليل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: وكل مأمور به - إذا تجرد عن القرائن - فهو
واجب، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل كلي إجمالي.
فتكون النتيجة: الصلاة واجبة.
المذهب الثاني: أن موضوع علم أصول الفقه هو: الأدلة
والأحكام معاً، وذهب إلى ذلك بعض العلماء كصدر الشريعة،
وسعد الدين التفتازاني، وبعض العلماء.
وقالوا: إنه يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية،
وهي: إثباتها للأحكام، وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي:
ثبوتها بتلك الأدلة، وعلَّلوا قولهم هذا: بأنه لما كانت بعض مباحث
الأصول ناشئة عن الأدلة كالعموم والخصوص والاشتراك، وبعضها
ناشئاً عن الأحكام ككون الحكم متعلقاً بفعل هو عبادة أو معاملة،(1/39)
ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فالحكم على أحدهما بأنه
موضوع، وعلى الآخر بأنه تابع تحبهم وهو باطل.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن موضوع أصول الفقه هو: الأدلة
الإجمالية، وغير الأدلة يأتي بالتبع، ولا تحكم في ذلك " لأنه كما
قلنا: إن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة، وثمرة الشيء تابعة له.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، لأن كلًّا من الفريقين قد ذكر الأدلة والأحكام
وبحثهما في أصول الفقه، ولكن أصحاب المذهب الأول قد بحثوا
الأحكام على أنها تابعة، وأصحاب المذهب الثاني قد بحثوها على
أنها أصلية.(1/40)
المبحث الخامس في حكم تعلم أصول الفقه
إن تعلم أصول الفقه يختلف باختلاف المتعلمين، فإن كان
الشخص - يهيئ نفسه للوصول إلى درجة الاجتهاد في هذه الشريعة
الإسلامية، ويريد رفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن غيره، فإن
تعلم أصول الفقه بالنسبة إليه فرض عين، لأنه لا يمكن له أن يتوصل
إلى درجة الاجتهاد بدون تعلمه، بل هو أهم العلوم التي يجب
تحصيلها والوقوف عليها حتى يكون مجتهداً وقادراً على استنباط
الأحكام الشرعية من أدلتها.
أما إن كان الشخص طالباً للعلم بصورة عامة، فإن تعلم أصول
الفقه فرض كفاية، شأنه شأن أي علم يجب أن يقوم به البعض.(1/41)
المبحث السادس في فوائد علم أصول الفقه
لقد بيَنت في مقدمتي لهذا الكتاب فضل علم أصول الفقه،
وأهميته، ومنزلته من بين العلوم، وهذا المبحث يزيد من أهميته
وفضله، حيث إن الأهمية والفضل لا يتضحان لعلم من العلوم إلا
إذا كان له فوائد عظيمة، لذلك عقدت هذا المبحث لبيان ماله من
فوائد، وإليك بيان تلك الفوائد:
الفائدة الأولى: إنه يُبين المناهج والأسس والطرق التي يستطيع
الفقيه عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة، فإن
المجتهد إذا كان عالماً بتلك الطرق - من أدلة إجمالية وقواعد
أصولية - فإنه يستطيعَ إيجاد حكم لأي حادثة تحدث. وهذا موضوع
أصول الفقه، وقد سبق بيان ذلك.
الفائدة الثانية: إن طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد،
يستفيد من دراسة أصول الفقه، حيث يجعله على بينة مما فعله إمامه
عند استنباطه للأحكام، فمتى ما وقف ذلك الطالب للعلم على
طرق الأئمة، وأصولهم، وما ذهب إليه كل منهم من إثبات تلك
القاعدة، أو نفيها، فإنه تطمأن نفسه إلى مدرك ذلك الإمام الذي
قلَّده في عين ذلك الحكم أو ذاك، فهذا يجعله يمتثل عن اقتناع،
وهذا يفضي إلى أن يكون عنده القدرة التي تمكنه من الدفاع عن وجهة
نظر إمامه.(1/42)
الفائدة الثالثة: أن العارف بأصل هذا الإمام في هذا الحكم أعظم
أجراً من الشخص الذي يأتي بالعبادة لفتوى إمامه أنها واجبة أو
سُنَّة، ولا يعرف الأصل الذي اعتمد عليه في هذه الفتوى.
الفائدة الرابعة: أن العارف بالقواعد الأصولية يستطيع أن يُخرِّج
المسائل والفروع غير المنصوص عليها على قواعد إمامه.
الفائدة الخامسة: أن العارف بتلك القواعد الأصولية يستطيع أن
يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه، بناء على أسس ومناهج وطرق
يستطيع بها أن يقنع الخصم بما يريد أن يدعوه إليه.
الفائدة السادسة: أن العارف بتلك القواعد يستطيع أن يُبيِّن لأعداء
الإسلام أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه موجد لكل
حادثة حكماً شرعياً، وأنه لا يمكن أن توجد حادثة إلا ولها حكم
شرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أن
الإسلام قاصر عن حل القضايا المتجددة. قاتلهم الله.
الفائدة السابعة: أن أهل اللغة يستفيدون من تعلم علم أصول
الفقه " حيث إن أهل اللغة يبحثون عن اشتقاقات الكلمة، وهل هي
نقلية أو قياسية، أما أهل الأصول فإنهم يبحثون عن معاني تلك
الألفاظ، لذلك تجد الأصوليين قد توصلوا إلى نتائج لم يتوصل
إليها اللغويون وذلك بسبب جمعهم بين معرفة اللغة ومعرفة الشريعة.،
لذلك تجد أكثر أهل اللغة لهم إلمام في علم أصول الفقه.
الفائدة الثامنة: أن المتخصص بعلم التفسير وعلم الحديث محتاج
إلى دراسة علم أصول الفقه، حيث إنه يبين دلالات الألفاظ، وهل
تدل على الحكم بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بعبارة النص، أو بإشارته،
أو بدلالته، أو باقتضائه، ونحو ذلك، لذلك تجد أكثر المفسرين
والشارحين للأحاديث هم من الأصوليين.(1/43)
الفائدة التاسعة: أن كل شخص يريد كتابة أيَّ بحث من البحوث
العلمية محتاج إلى معرفة علم أصول الفقه، ذلك لأن علم أصول
الفقه قد جمع بين النقل والعقل، ومن تعمق فيه عرف طريقة إيراد
المسألة، وتصويرها والاستدلال عليها، والاعتراض على بعض
الأدلة، والجواب عن تلك الاعتراضات بأسلوب مبني على أسس
ومناهج وطرق يندر أن تجدها في غير هذا العلم.
الفائدة العاشرة: أن كل شخصٍ يريد أن يتخصص بالإعلام محتاج
إلى معرفة أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه قد اعتنى عناية
فائقة ومميزة في الأخبار، وكيف أنها تنقسم إلى متواتر، وآحاد،
ومشهور، وكيف العمل عند تعارض تلك الأخبار، وطريقة
الترجيح فيما بينها، واعتنى - أيضاً - في بيان أنه عند إعلان الأخبار
لا بد من مراعاة مصالح الناس وأعرافهم.(1/44)
المبحث السابع الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها
مع تلك الفوائد التي ذكرتها لأصول الفقه، فإنه لم يسلم من
بعض الاعتراضات التي وجهت إليه، والشبه التي أثيرت حوله،
وإليك بيان أهمها، والأجوبة عنها فأقول:
الشبهة الأولى:
ورد عن بعض الناس أنهم ذمّوا علم أصول الفقه، وحقَّروه في
نفوس طلاب العلم، وذكروا أنه لا فائدة منه لا في الدنيا ولا في
الآخرة.
جوابها:
يجاب عنها: بأن سبب ذمهم لهذا العلم وتحقيرهم له هو:
جهلهم بهذا العلم، وعدم قدرتهم على فهمه بالتفصيل، وقديما
قيل: " من جهل شيئاً عاداه ".
إذ كيف يذمون علما هو من أهم شروط الاجتهاد؛ حيث إنه إذا
لم يتعلمه الفقيه بالتفصيل، فإنه لن يتوصل إلى درجة الاجتهاد،
ولا يمكنه - بأي حال - استنباط حكم شرعي من دليل، بل لو لم
يعرف القياس - فقط - لانتفت عنه صفة الفقه، كما قال الإمام
الشافعي: " من لم يعرف القياس فليس بفقيه "، وكما قال الإمام
أحمد: " لا يستغني أحد عن القياس "؟!(1/45)
وكيف يذمون علما هو أهم علوم الشريعة؟ ؛ لأنه لولا علم
أصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل ولا كثير، بيانه:
إن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه
وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه: ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا
حكم ولا سبب، حيث إن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده وبمجرد
الهوى خلاف الإجماع.
الشبهة الثانية:
أن هذا العلم لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد الصحابة، ولا عهد التابعين لهم، فهو علم مبتدع، وما كان كذلك، فلا نفع فيه.
جوابها:
يجاب عنها بأن الصحابة رضوان اللَّه عليهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعد عهده، وكذلك التابعين كانوا يتخاطبون بأن هذه الآية ناسخة لتلك
الآية، وأن تلك الحادثة مشابهة لتلك الحادثة المنصوص على حكمها،
وأن هذا خبر واحد يستدل به على إثبات حكم شرعي، وأن هذا
قول صحابي في مسألة " ما "، وأن هذه مصلحة ينبغي أن تراعى،
ونحو ذلك، وهذه هي موضوعات أصول الفقه، فأصول الفقه
موجود عندهم، وإن لم يسموا ذلك بالمصطلحات الموجودة الآن،
وعلى هذا لا يكون علما مبتدعا.
الشبهة الثالثة:
أنكم جعلتم علم أصول الفقه أهم شرط من شروط الاجتهاد،
فلا يمكن لأي شخص أن يبلغ درجة الاجتهاد إلا إذا كان عارفا مدققا
في أصول الفقه، كيف يستقيم ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم -(1/46)
وأتباعهم من كبار المجتهدين، ولم يكن هذا العلم
موجوداً حتى جاء الإمام الشافعي وصنَّف فيه، وسمَّاه بهذا الاسم؟
جوابها:
يجاب عنها بأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وأتباعهم من كبار
التابعين كانوا من أعلم الخلق بالعلوم التي يتهذب بها الذهن،
ويستقيم بها اللسان كأصول الفقه، وعلم العربية، فالله عَزَّ وجَلَّ
الذي اختارهم ليكونوا أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، فلم يقع عليهم الاختيار، إلا لأنهم خير من غيرهم في كل الأمور.، فهم الذين بذلوا النفس والنفيس من أجل نصرة اللَّه ورسوله، وهم الذين حملوا الشريعة إلى من بعدهم حتى وصلت إلينا.
ولذلك كانوا أفهم الخلق بدلالات الألفاظ، والصحيح من الأدلة
من الفاسد، وكانوا عالمين بالقواعد الشرعية، ومقاصد الشريعة،
متتبعين لها، محيطين بها، وكانوا متمرسين على ذلك، وهذه
الممارسة أكسبتهم قوة يفهمون من خلالها مراد الشارع، وما يصلح
من الأدلة، وما لا يصلح، وعرفوا كل ذلك بسبب مشاهدتهم نزول
الوحي، وسماعهم الحديث من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن كانت تلك صفاتهم فإنهم عارفون لكل ما يبحث في علم أصول الفقه، وإن لم
يسموه بهذا الاسم.
ولكن بعد ذهابهم قد فسدت الألسن، وتغيرت المفهوم، وكثرت
الحوادث التي تحتاج إلى المجتهد لاستنباط أحكام شرعية لتلك
الحوادث، فالشخص الذي يريد بلوغ درجة الاجتهاد لاستنباط أحكام
شرعية لتلك الحوادث من الكتاب والسُّنَّة يحتاج إلى قواعد يستند(1/47)
إليها؛ ليكون أخذه منهما صحيحاً، فوضع الإمام الشافعي قواعد
لذلك وجمعها في علم مستقل، وسماه بأصول الفقه، وهي تسمية
صحيحة مطابقة لمسماها، والمقصود: أدلة الفقه والقواعد التي يستند
إليها الفقيه، إذا أراد استنباط حكم شرعي من دليل تفصيلي.
الشبهة الرابعة:
أن هذا العلم لا يُتعلَّم - لقصد صحيح، بل يُتعلَّم للرياء والسمعة.
جوابها:
يجاب عنها بأن هذا غير صحيح جملة وتفصيلاً، حيث إنا بينا
القصد من تعلم أصول الفقه، وهو معرفة كيفية استنباط الأحكام
الشرعية من الأدلة.
وكل شخص سيحاسب عن قصده في تعلم أيِّ علم من العلوم.
الشبهة الخامسة:
أن هذا العلم يتعلم للتغالب والجدال والمناظرة، لا لقصد صحيح.
جوابها:
يجاب عنها بأن الجدال الموجود في أصول الفقه وسيلة إلى الحق،
وإذا كان الجدال بهذه الصفة لا يعاب به، ولا تنقص قيمته من أجله،
حيث إن الجدال الحق من شأن اللَّه تعالى، وشأن خاصته من رسله
وأنبيائه.
فقد أقام اللَّه سبحانه الحجج وعامل عباده بالمناظرة، فقال: (لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ، وقال: (فللَّه الحجة
البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) ، وقال لملائكته: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض) .(1/48)
وذلك لما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) .
وتناظرت الملائكة، قال تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) ، وتجادلت الأنبياء فيما بينهم، فقد روى أبو هريرة - رضي اللَّه عنه -: أنه احتج آدم وموسى، فقال موسى:
يا آدم، أنت أبونا، أخرجتنا من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى
اصطفاك اللَّه بكلامه، أتلومني على أمر قدره اللَّه عليّ قبل أن يخلقني
بأربعين سنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى".
وجادلت الأنبياء أممها وحاجتها، قال تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ، وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا
بالتي هي أحسن) ، وقال: (وجادلهم بالتي هي أحسن) .
والجدال كالسيف.
فالسيف ذو حدين: ممدوح، ومذموم.
فإن السيف يمدح إذا استعمل في الجهاد في سبيل اللَّه.
ويكون مذموماً إذا استعمل في قطع الطريق، وإخافة المسلمين.
فالسيف في نفسه آلة لا تمدح ولا تذم، وإنما الذم والمدح حسب
الاستعمال.
فكذلك الجدال في نفسه لا يذم ولا يمدح، وإنما المدح والذم
حسب الاستعمال.
فمن استعمل الجدال في صرف الحق إلى الباطل، فهو مذموم.
ومن استعمل الجدال للوصول إلى الحق الذي أمر اللَّه به، فهو(1/49)
ممدوح، والجدال الذي جاء به أصول الفقه استعمل للوصول به إلى
الحق، فيكون على هذا ممدوحا.
الشبهة السادسة:
أن أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من علوم شتى، حيث
إن بعضه مأخوذ من اللغة، كالكلام عن الأمر والنهي، والعام
والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل، والمبين، والمنطوق،
والمفهوم، والحقيقة، والمجاز، ونحو ذلك.
وبعضه مأخوذ من النحو كالكلام عن حروف المعاني، والكلام
عن الاستثناء، ونحو ذلك.
وبعضه مأخوذ من القرآن وعلومه، كالكلام عن مباحث النسخ،
والقراءة الشاذة، ووجود المجاز في القرآن -، وهل فيه ألفاظ بغير
العربية، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك.
وبعضه مأخوذ من السُّنَّة، كالكلام عن الآحاد والمتواتر،
والمشهور، وحجية كل نوع، وشروط الراوي المتفق عليها والمختلف
فيها.
وبعضه مأخوذ من أصول الدين وعلم الكلام، كالكلام عن
الحكم الشرعي وأقسامه، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأسي به، وتكليف ما لا يطاق، وتكليف المعدوم، وشرط الإرادة في الأمر، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، ومسألة شكر المنعم، ونحو ذلك.
وبعضه مأخوذ من علم الفقه وعلم الجدل، كالكلام عن القياس،
وقوادح العِلَّة، والتعارض والترجيح.
وهكذا علمت أن علم أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من(1/50)
تلك العلوم، فمن أراد أن يتعلم تلك المباحث فليتعلمها من تلك
العلوم، دون الرجوع إلى علم أصول الفقه، وبهذا لو جرد الذي
ينفرد به أصول الفقه ما كان إلا شيئاً يسيراً جداً، فتصير فائدة أصول
الفقه قليلة جداً بعكس ما كنت قد صورته لنا من أن له فوائد كثيرة.
جوابها:
أجيب عنها بأنه لا ينكر أن علم أصول الفقه قد استمد من تلك
العلوم التي ذكرتموها.
ولكن اهتم الأصوليون بتلك المباحث ودرسوها دراسة تختلف عن
دراستها لو أخذت من تلك العلوم مباشرة، فقد دقق الأصوليون في
فهم أشياء لم يصل إليها المتخصصون بتلك العلوم.
فمثلاً: توصل الأصوليون إلى فهم أشياء من كلام العرب لم
يصل إليها النحاة ولا اللغويون، فالنظر في كلام العرب متشعب،
فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة، واشتقاقاتها، دون
المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي المتعمق بالعلوم الشرعية
وقواعده، فلقد توصل الأصوليون إلى أحكام في الاستثناء، لم
يتوصل إليها النحاة في كتبهم،
كذلك صيغة " افعل " أو صيغة "لا تفعل "،
ودلالة الأولى على الوجوب، ودلالة الثانية على التحريم،
وغير ذلك من الاستعمالات لو بحثت عن ذلك في كتب
اللغة لم تجد شيئاً من ذلك.
فالأصوليون يبحثون فيما أخذوه من تلك العلوم - وهي علم اللغة
والنحو، وأصو ل الدين، والقرآن، والسُّنَّة، والفقه، والجدل -(1/51)
بحثاً خاصاً في جهة الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية الفقهية،
وأحوال تلك الأدلة.
فنظرة الأصولي إلى ما أخذه من تلك العلوم تختلف عن نظرة
المتخصصين بتلك العلوم.
وبهذا لا يمكن أن يتعلم طالب العلم مباحث الأصوليين بالرجوع
إلى تلك العلوم، دون الرجوع إلى ما وضع في علم أصول الفقه.
فثبت بذلك أن أصول الفقه فيه ما لا يوجد في غيره.(1/52)
المبحث الثامن هل يُقدَّم تعلُّم أصول الفقه أم تعلُّم الفقه؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن تعلُّم أصول الفقه يقدم على تعلم الفقه.
ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، وابن
برهان في " الوصول "، وابن عقيل في " الواضح "، وأبو بكر
القفال الشاشي، وغيرهم.
وهو الصحيح عندي، وذلك ليكون المتعلم على ثقة مما يدخل
فيه، ويكون قادراً على فهم مرامي جزئيات الفقه، فالفروع لا تدرك
إلا بأصولها، والنتائج لا تعرف حقائقها إلا بعد تحصيل العلم
بمقدماتها، وعلى هذا: ينبغي أن تحفظ الأدلة، وتحكم الأصول،
ثم حينئذِ تبنى عليها الفروع، لذلك تجد بعض الفقهاء من المالكية
وغيرهم يَجعلون القواعد الأصولية كمقدمة لكتبهم الفقهية.
المذهب الثاني: أن تعلُّم الفقه والفروع يُقدم على تعلُّم الأصول.
ذهب إلى ذلك أبو يعلى في " العدة "، وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
إن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها لا يمكنه الوقوف على
ما يبتغى بهذه الأصول من الاستدلال، والتصرف في وجوه القياس.
أي: أنه بتعلُّم الفروع تحصل الدربة والملكة التي تجعله يستفيد من
تلك الأصول والقواعد استفادة صحيحة.(1/53)
جوابه:
يُجاب عنه: بأنه يمكنه الوقوف على المقصود بتلك القواعد
الأصولية بمجرد ضرب مثال أو مثالين من الفقه.
والحاصل: أنه إذا أتقن علم أصول الفقه أمكنه التوصل إلى
الأحكام بصورة صحيحة، قال العكبري: " أبلغ ما يتوصل به إلى
إحكام الأحكام أصول الفقه وطرف من أصول الدين ".
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ حيث إنه لا تأثير لذلك الخلاف في الأصول
ولا في الفروع.(1/54)
المبحث التاسع في بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه
أصول الفقه قد استمد مادته من مصادر كثيرة - وقد سبق بيان
ذلك في الشبهة السادسة - ولكن هنا سأحصر تلك المصادر، وأُبيِّن
سبب استمداده من كل علم، فأقول:
استمد أصول الفقه مادته من مصادر كثيرة، وأهمها ثلاثة:
المصدر الأول: أصول الدين.
المصدر الثاني: علم اللغة العربية.
المصدر الثالث: الأحكام الشرعية.
أما أصول الدين - وهو علم الكلام -: فإن علم أصول الفقه قد
استمد منه: مسائل، من أهمها: مسألة الحاكم، والتحسين
والتقبيح العقليين، والتكليف بما لا يطاق، وتكليف المعدوم،
وحكم الأشياء قبل البعثة، والمجتهد يخطئ ويصيب، وخلو الزمان
من مجتهد، وشكر المنعم، وبعض مسائل النسخ، وشرط الإرادة
في الأمر، ونحو ذلك.
وسبب استمداده من أصول الدين وهو علم الكلام هو: توقف
الأدلة الشرعية على معرفة البارئ، وصدق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عنه
فيما قال لتعلم حجيتها وإفادتها للأحكام الشرعبة.
أما اللغة العربية: فإن علم أصول الفقه قد استمد منها مسائل،(1/55)
ومنها: - الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيد،
ومعاني الحروف، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، والاستثناء،
والمنطوق، والمفهوم، والإشا رة، والتنبيه، والاقتضاء، والإيماء،
ونحو ذلك.
وسبب استمداده من اللغة العربية هو: أن كتاب اللَّه وسُنَّة رسوله
قد نزلا بلغة العرب، فيحتاج إلى معرفة قدر كبير من اللغة العربية
يستطيع بسببها معرفة دلالة الأدلة وفهمها وإدراك معانيها.
فلا يمكنه فهم دلالات الألفاظ من الكتاب والسُّنَّة، والأقوال
المنقولة عن مجتهدي الأُمَّة، وأقوال السَّلَف والخلف إلا إذا كان فاهما
للغة العربية، واستعمالاتها.
وأما الأحكام الشرعية، فإن علم أصول الفقه قد استمد منه
بسبب: أن المقصود والغرض من هذا العلم هو - إثبات الأحكام
الفرعية، فلا بد للأصولي أن يعرف قدراً ليس بالقليل من الفقه
والأحكام الشرعية، ليتمكن عن طريق معرفته تلك من إيضاح
المسائل، وضرب أمثلة لتصوير القاعدة الأصولية، وليتأهل بالبحث
فيها للنظر والاستدلال.(1/56)
المبحث العاشر في نشأة علم أصول الفقه
كان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في زمن - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثت حادثة أخذوا حكمها من الوحي، سواء كان مباشراً وهو القرآن، أو
غير مباشر وهو السُّنَّة، فكانوا يلجأون في هذا كله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يأخذون حكم أي حادثة من الكتاب، فإن لم يجدوا حكمها فيه، أخذوه من السُّنَّة، فإذا لم يجدوا في السُّنَّة، اجتهدوا وبحثوا عن الأشباه
والأمثال، - ومعرفة العلل الشرعية، فيقيسون ما لم يكن بما كان،
ويجتهدون في معرفة المقاصد والمصالح، ونحو ذلك، ويحرصون
كل الحرص على الأخذ برأي الجماعة.
وسار التابعون - رحمهم اللَّه - على هذا المنهج، وزاد بعضهم
أصلاً آخر، وهو الرجوع إلى فتاوى الصحابة - رضي اللَّه عنهم -.
فكثر الاجتهاد، وكثرت طرقه، وتعددت وجوهه، فبعضهم
يكتفي بظاهر النص، وبعضهم لا يكتفي بذلك، بل يغوص على
المعاني، فيرى أن أكثر الأحكام معللة، ثم يبنون على هذه العلل
الأحكام وجوداً وعدماً.
فلما جاء عصر الأئمة المجتهدين: أصبح لكل إمام قواعد قد
اعتمدها في الفتوى والاجتهاد.(1/57)
وهذه القواعد موجودة ومنتشرة في مواضع مختلفة في كتبهم وكتب
تلاميذهم، وقد راعى هؤلاء الأئمة المجتهدون هذه القواعد في معرفة
الأحكام الشرعية، وكيفية استنباطها من أدلتها التفصيلية، ومن
هؤلاء الإمام الشافعي - رحمه اللَّه - الذي وضع قواعده التي
اعتمدها في كتاب سمّاه بـ " الرسالة "، والإمام الشافعي لم يضع
القواعد الأصولية - كلها - في هذا الكتاب، ولكنه بهذا العمل
لفت أنظار العلماء من الباحثين المدققين إلى متابعة التدقيق، والبحث
والترتيب حتى أصبح علم أصول الفقه علما مستقلاً رتبت أبوابه،
وحررت أكثر مسائله، وجمعت مباحثه، وألَّفت فيه المؤلفات
والمصنفات على اختلاف في الطرق التي اتبعوها في التأليف
والتصنيف.(1/58)
المبحث الحادي عشر طرق التأليف في أصول الفقه وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة
العلماء والباحثون في أصول الفقه اختلفوا في الطرق التي اتبعوها
في التأليف والتصنيف في أصول الفقه، فنشأ عن ذلك كثير من
الطرق هي كما يلي:
الطريقة الأولى: طريقة الحنفية.
الطريقة الثانية: طريقة الجمهور.
الطريقة الثالثة: الجمع بين الطريقتين.
الطريقة الرابعة: طريقة تخريج الفروع على الأصول.
الطريقة الخامسة: طريقة عرض أصول الفقه من خلال المقاصد، والمفهوم العام.
وإليك بيان ذلك:
أما الطريقة الأولى - وهي: طريقة الحنفية - فإنها تتميز بأمرين:
أولهما: أنها تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل من
الفروع عن أئمتهم.
ثانيهما: أنها تغوص على النكت الفقهية.
وسميت هذه الطريقة بطريقة " الفقهاء "؛ لأنها أمس بالفقه،
وأليق بالفروع، وسبب ذلك: أن تلك القواعد قد أخذت من
الفروع؛ ذلك لأن الحنفية المتأخرين لاحظوا واستقرأوا وتتبعوا الفتاوى(1/59)
الصادرة عن أئمتهم المتقدمين، فعمدوا إلى تلك الفتاوى والفروع
واستخلصوا منها القواعد والضوابط، وجعلوها أصولا لمذهبهم
لتكون لهم سلاحا في مقام الجدل والمناظرة.
وقد ألِّف على هذه الطريقة كتب كثيرة، ومنها:
1 - مآخذ الشرائع لأبي منصور الماتريدي.
2 - رسالة في الأصول لأبي الحسن الكرخي.
3 - الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص.
4 - تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي.
5 - أصول البزدوي، مطبوع مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري.
6 - مسائل الخلاف لأبي عبد اللَّه الصيمري.
7 - أصول السرخسي لأبي بكر السرخسي.
8 - ميزان الأصول لأبي بكر السمرقندي.
9 - المنار لأبي البركات عبد اللَّه النسفي.
وذكرت جانبا من تلك الطريقة في كتابي: " طرق دلالة الألفاظ
على الأحكام عند الحنفية وأثرها الفقهي ".
أما الطريقة الثانية - وهي طريقة الجمهور - فإنها تتميز بما يلي:
أولاً: أنها اهتمت بتحرير المسائل، وتقرير القواعد على المبادئ
المنطقية.
ثانيا: الميل الشديد إلى الاستدلال العقلي.
ثالثاً: البسط في الجدل والمناظرات.(1/60)
رابعاً: تجريد المسائل الأصولية عن الفروع الفقهية، وقد أشبهت
بذلك طريقة أهل الكلام، لذلك سميت طريقتهم بطرياقة المتكلمين.
وهذه الطريقة قد سار عليها علماء الشافعية، والمالكية، والحنابلة،
والظاهرية، والمعتزلة، وذلك من حيث الترتيب والتنظيم.
وإليك ذكر بعض الكتب التي أُلِّفت على هذه الطريقة، ولقد
رتبت ذلك على المذاهب:
أولاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب المالكي على حسب مذهب
المؤلف:
1 - التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد للقاضي أبي بكر
الباقلاني.
2 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، والإشارة، والحدود -
كلها لأبي الوليد الباجي.
3 - منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب،
وقد اختصر هذا الكتاب بكتاب سمَّاه: " مختصر المنتهى ".
وشرح هذا المختصر كثير من العلماء، ومنهم:
(أ) عضد الدين الإيجي، شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح
المختصر".
(ب) ابن السبكي تاج الدين شرحه بكتاب سمَّاه: " رفع
الحاجب عن مختصر ابن الحاجب ".
(ج) شمس الدين الأصفهاني (ت 749 هـ) شرحه بكتاب
سمَّاه: " بيان المختصر ".
4 - الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لحلولو المالكي، حققته
وطبع بعض المجلدات منه.(1/61)
5 - شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي.
6 - نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي، وقد قمت بتحقيق
جزء منه، ولم يطبع.
7 - شرح البرهان للمازري.
ثانيا: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الشافعي على حسب مذهب
المؤلف:
1 - الرسالة للإمام الشافعي، وقد شرح هذه الرسالة الإمام
الصيرفي، والقفال الشاشي الكبير، وأبو محمد الجويني، وغيرهم.
2 - اللمع، وشرح اللمع، والتبصرة لأبي إسحاق الشيرازي.
3 - البرهان، والتلخيص، والورقات لإمام الحرمين.
4 - قواطع الأدلة لابن السمعاني.
5 - المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل وأساس القياس
للغزالي.
6 - الوصول إلى الأصول لابن برهان.
7 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.
8 - المحصول للرازي، وقد شرحه كل من القرافي في " نفائس
الأصول "، وشمس الدين الأصفهاني (ت 688 هـ) في:
"الكاشف عن المحصول ".
واختصره كل من:
تاج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: " الحاصل من المحصول ".
سراج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: "التحصيل من المحصول ".
النقشواني في كتاب سمَّاه: " تلخيص المحصول ".
التبريزي في كتاب سماه: " تنقيح المحصول ".(1/62)
9 - منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، وشرحه كثير
من العلماء، ومنهم:
شمس الدين الأصفهاني شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح منهاج
البيضاوي "، وقد حققته وطبع بمجلدين.
الإسنوي شرحه في كتاب سمَّاه: " نهاية السول ".
ابن السبكي شرحه في كتاب سمَّاه: " الإبهاج في شرح المنهاج ".
البدخشي شرحه في كتاب سمَّاه: " مناهج العقول ".
10 - البحر المحيط للزركشي.
ثالثاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الحنبلي - على حسب
مذهب المؤلف:
1 - العدة لأبي يعلى.
2 - التمهيد لأبي الخطاب.
3 - الواضح لابن عقيل.
4 - روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة، وقد قمتُ بتحقيقه،
وطبع بثلاثة مجلدات.
5 - شرح الكوكب المنير لابن النجار.
6 - إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، قمتُ بتأليفه وطبع
في ثمان مجلدات.
رابعا: الكتب المؤلفة على المذهب الظاهري:
1 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.
2 - النبذ لابن حزم.
خامسا: الكتب المؤلفة على المذهب المعتزلي:
1 - العمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد.(1/63)
2 - المعتمد لأبي الحسين البصري.
3 - شرح العمد لأبي الحسين البصري.
أما الطريقة الثالثة - وهي الجمع بين طريقة الحنفية وطريقة الجمهور -
فقد حقق من جمع بين الطريقتين القواعد الأصولية، وأثبتها بالأدلة
النقلية والعقلية، وطبقوها في الفروع الفقهية، فجاءت مؤلفاتهم
مفيدة في خدمة الفقه، وتمحيص الأدلة، وكتب في هذه الطريقة
جمع من علماء الجمهور، وعلماء الحنفية، ومن أهم كتبهم ما يلي:
1 - بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام للساعاني.
2 - تنقيح أصول الفقه، وشرحه التوضيح لصدر الشريعة، وقد
شرحه التفتازاني في كتاب سمَّاه: " التلويح ".
3 - جمع الجوامع لتاج ابن السبكي، وقد شرحه كثيرون،
ومنهم:
(أ) جلال الدين المحلي شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح جمع
الجوامع ".
(ب) الزركشي شرحه بكتاب سمَّاه: " تشنيف المسامع ".
(ب) حلولو المالكي شرحه بكتاب سمَّاه: " الضياء اللامع "،
وقد حققته.
4 - التحرير لكمال الدين ابن الهمام، وقد شرحه كثيرون،
ومنهم:
أمير الحاج شرحه بكتاب سمَّاه: " التقرير والتحبير ".
أمير بادشاه شرحه بكتاب سماه: " تيسير التحرير ".(1/64)
5 - مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور الحنفي، وقد
شرحه الأنصاري في كتاب سمَّاه: " فواتح الرحموت ".
6 - كتابي هذا، فإنه يعتبر من هذه الطريقة، وهو " المهذب في
علم أصول الفقه المقارن ".
أما الطريقة الرابعة - وهي طريقة تخريج الفروع على الأصول -
فهي تتميز بذكر خلاف الأصوليين في المسألة، مع الإشارة إلى بعض
أدلة الفِرَق المختلفة، ثم ذكر عدد من المسائل الفقهية المتأثرة بهذا
الخلاف، والغاية منها هو: ربط الفروع بالأصول، ولا يذكر في
الكتب المؤلَّفة على هذه الطريقة إلا المسائل التى اختلف العلماء فيها،
والخلاف فيها معنوي له ثمرة، أما إذا كان الخلاف لفظيا فلا يرد
فيها، لذلك صنَّفت كتابا ذكرت فيه المسائل التي جاء الخلاف فيها
لفظيا، وقد طبع في مجلدين.
وقد أُلِّف على هذه الطريقة - وهي الطريقة الرابعة - مؤلفات
كثيرة، ومنها:
1 - تخريج الفروع على الأصول للزنجاني " شافعي ".
2 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني
"مالكي ".
3 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي "شافعي ".
4 - القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام " حنبلي ".
أما الطريقة الخامسة - وهي طريقة عرض أصول الفقه من خلال
المقاصد - فلم تسلك هذه الطريقة مسلك المتقدمين، وهي: ذكر
القواعد تحت عناوين وأبواب معينة، بل سلكت طريقة أخرى وهي:
عرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة، والمفهوم العام الكلي
للتكليف، وقد ألَّف على هذه الطريقة أبو إسحاق الشاطبي المالكي
كتابه: " الموافقات في أصول الشريعة ".(1/65)
الفصل الثاني مقدمة في المصطلحات التي يحتاج إليها دارس علم أصول الفقه
ويشتمل على مباحث:
المبحث الأول: بيان التصوُّر والتصديق.
المبحث الثاني: بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بها
تدرك العلوم.
المبحث الثالث: في الحد وأقسامه.
المبحث الرابع: في البرهان وما يتعلق به.
المبحث الخامس: في الألفاظ.
المبحث السادس: في المعاني وأقسامها.
المبحث السابع: في تأليف مفْردات المعاني.(1/67)
المبحث الأول في بيان التصوّر والتصديق
اعلم إنه لا يمكن أن تحيط بعلم شيء من الأشياء أو أمر من الأمور
إلا إذا عرفت مفرداته أولاً، ثم عرفت وأدركت نسبة تلك المفردات
بعضها إلى بعض.
فيكون إدراك العلوم على ضربين هما: " التصوُّر " و " التصديق ".
فأما الضرب الأول وهو التصوُّر فهو علم الذوات المفردة - فقط -
كأن تعلم معنى " العالم "، ومعنى " الحادث "، ومعنى "الجسم "،
ومعنى " القديم "، ومعنى " الحركة "، نعلم معاني تلك الكلمات،
ونفهمها كل واحدة على حدة بدون إضافتها إلى غيرها، وهذا يُسمَّى
بالتصوّر.
أي: إدراك وفهم وعلم ماهية الشيء بلا حكم عليها بنفي أو
إثبات، فلم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن - فقط -.
والتصور لا يمكن أن يدخله التصديق أو التكذيب، لأمرين:
أولهما: أن إدراك الذوات المفردة وعلمها فقط هو: إدراك لماهية
الشيء بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، فأين الذي يُصدَّق أو يُكذَّب؟
تانيهما: أن التصديق والتكذيب لا يتطرق إلا إلى الخبر، والذوات
المفردة، مثل: " العالم "، و " الإنسان "، و " السماء "، ليست(1/69)
أخباراً؛ لأن أقل ما يتركب منه الخبر مفردان ينسب أحدهما إلى
الآخر.
فالتصوُّر هو: إدراك الحقائق مجردة عن الأحكام.
وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرفه ابن سيناء بقوله: " هو
العلم الأول، ويكتسب بالحد وما يجري مجراه مثل تصورنا ماهية
الشيء "، وعرَّفه ابن رشد: " بأنه العلم بماذا يدل عليه اسم
الشيء".
وسمي - تصوراً؛ لأنه لم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن.
ويسميه النحاة: مفرداً.
أقسام التصوُّر:
* والتصؤُر - وهو إدراك وفهم المفردات وحدها - قسمان:
القسم الأول: أَوَّلي: وهو: ما يُفهم معناه من غير بحث أو
طلب، وهو المُسمَّى بـ " الضروري "، وهو الذي لا يحتاج إلى
إدراكه وفهمه ومعرفته إلى تأمل ونظر، مثل: لفظ " الموجود "،
فإن كل شخص يعلم ضرورة أن هذا الشيء موجود وليس بمعدوم،
وكذلك الحرارة، والبرودة، والبياض، والسواد، ونحو ذلك من
المفردات التي تدرك وتعلم بمجرد الحس.
القسم الثاني: مطلوب، وهو: ما لا يفهم معناه إلا ببحث
وطلب، وهو المُسمَّى بـ " النظري "، وهو الذي يحتاج لمعرفة وفهم
معناه إلى تأمل ونظر، حيث إن الاسم يدل على أمر مجمل غير
مفصل أو مفسر، فيطلب تفسيره بالحد والبيان، مثل: إدراك معنى
" العقل " و " الجوهر ".(1/70)
وأما الضرب الثاني وهو التصديق فهو: علم نسبة المفردات
بعضها إلى بعض بالنفي، أو الإثبات، فمثال نسبة مفرد إلى مفرد
آخر بالنفي قولك: " الجسم ليس بمتحرك "، و " العالم ليس
بحادث ".
ومثال نسبة مفرد إلى مفرد آخر بالإثبات قولك: " الجسم متحرك "
وقولك: " العالم حادث " و " زيد كاتب ".
وهذا يمكن أن يتطرق إليه التصديق والتكذيب؛ لأن فيه نسبة شيء
إلى شيء آخر، وهذا لا يكون إلا من مفردين، فيكون الأول وصفا
والآخر موصوفاً، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بإثبات أو نفي،
كأن تقول: " العالم حادث "، و " الجسم متحرك "، أو تقول:
"العالم ليس بحادث "، فإن هذا قابل للصدق والكذب.
أي: أن هذه النسبة قد تكون صحيحة، فيكون صادقا، وقد
تكون غير صحيحة فيكون كاذبا.
والتصديق هو: إدراك نسبة حكمية بين الحقائق بالإيجاب أو النفي.
وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرَّفه ابن رشد بأنه: " العلم بأن
الشيء موجود أو غير موجود ".
وسمي تصديقاً؛ لأن فيه حكماً قد يصدق فيه، أو يكذب.
فإن قلت: لماذا سموه بالتصديق مع احتمال الكذب؟
قلت: سمي بأشرف لازمي الحكم في النسبة.
ويسميه النحاة: " جملة ".
وكل علم يتطرق إليه التصديق، فمن ضرورته ولازمه أن يتقدم
عليه معرفتان:(1/71)
الأولى: معرفة المفرد - فقط - وهو معرفة البسيط - مثل:
" العالم "، و " الحادث ".
الثانية: معرفة نسبة ذلك المفرد إلى مفرد آخر - وهو معرفة
المركب - مثل: " العالم حادث ".
فلا يمكن للشخص أن يعرف المركب من مفردين إلا إذا عرف
المفردين واحداً واحداً، فمن لا يفهم معنى " العالم " بمفرده
ويتصوره، ولا يعرف معنى " الحادث " بمفرده ويتصوره، فكيف
يعرف أن " العالم حادث "؟
فكل تصديق متضمن لعدة تصورات: تصوُّر المحكوم عليه،
وتصوُّر المحكوم به، وتصوّر نسبة أحدهما إلى الآخر، فالحكم
يكون تصوراً رابعاً، لأنه تصور تلك النسبة هل هي موجبة أو
تصورها منفية.
فمثلاً: إذا قلنا: " زيد قائم "، فقد اشتمل قولنا هذا على
تصورات أربعة:
1 - تصوُّر المو ضوع وهو " زيد ".
2 - تصوُّر المحمول وهو " قائم ".
3 - تصور النسبة بينهما وهو " تعلق المحمول بالموضوع " أي:
تصور قيام زيد.
4 - تصور وقوع القيام من زيد.
فالتصديق هو: التصوُّرات الأربعة عند الرازي، وعلى هذا يكون
التصديق مركباً من الحكم والتصورات الثلاث باعتبارها أجزاء له.(1/72)
أما عند الحكماء، فإن التصور الرابع يسمى تصديقا، والثلاثة
قبله شروط له.
أقسام التصديق:
كما انقسم التصوُّر إلى قسمين: أَوَّلي، ومطلوب، كذلك
التصديق وهو معرفة وإدراك نسبة المفردات بعضها إلى بعض - ينقسم
إلى قسمين:
القسم الأول: أوَّلي: وهو الذي يفهم معناه من غير نظر ولا
بحث، وهو المُسمَّى بـ " الضروري "، وهو ما يدركه الإنسان
بالضرورة بدون تأمل وطلب مثل: إدراك وقوع النسبة في قولنا:
"الخمسة نصف العشرة "، و " الواحد نصف الاثنين "، و " السماء
فوقنا "، و " النار محرقة "، و " الثلج بارد "، ونحو ذلك مما
يتوصل إليه الإنسان بدون أي تفكير.
القسم الثاني: مطلوب، وهو الذي لا يفهم معناه، ولا يدرك
إلا ببحث وطلب واستدلال، وهو المُسمَّى بـ " النظري "، أي:
الذي يحتاج إلى نظر وتأمل وتفكير، مثل: إدراك وقوع النسبة في
قولنا: " الواحد نصف سدس الاثني عشر "، وإدراك النسبة في
قولنا: " العالم حادث "، ونحو ذلك مما لا يتوصل إليه الشخص
إلا بعد تفكير دقيق وتأمل طويل.(1/73)
المبحث الثاني في بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بها تدرك العلوم
لقد علمنا في المبحث الأول أن إدراك العلوم على ضربين:
التصوُّر وهو: إدراك المفردات، والتصديق وهو: إدراك النسبة بين
تلك المفردات.
وعلمنا - أيضاً - أن كلًّا منهما ينقسم إلى أوَّلي، ومطلوب.
إذا علمت ذلك فاعلم أن المطلوب، وهو الذي لا يعرف إلا
بطلب وبحث ونظر من التصوُّر لا يمكن أن يعرف ويفهم إلا بالحد.
وكذا المطلوب من التصديق لا يمكن أن يفهم إلا بالبرهان.
فالحد والبرهان هما الالة التي بها تفهم وتدرك سائر العلوم
المطلوبة.
فمثال التصوُّر: أن يسمع الإنسان اسما لا يفهم معناه، كمن
قال: " ما العقار؟ "، فتقول له: هو الخمر، فإن لم يفهمه باسمه
يفهم بحده، فيقال له: " الخمر هو: شراب معتصر من العنب
مسكر "، فيحصل بذلك علم تصوري بذات الخمر.
ومثال التصديق: أن يجهل الإنسان أن للعالم صانعا، فيقول:
هل للعالم صانع؛ فتقول له: نعم للعالَم صانع، وتُبيِّن ذلك
بالحُجة والبرهان والأدلة التي لا تقبل الشك.
ولذلك كان لا بد من بيان الحد وما يتعلق به، والبرهان وما يتعلق
به في المباحث التالية.(1/74)
المبحث الثالث في الحد وأقسامه
ويشتمل على أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحد لغة واصطلاحا، وبيان أقسامه.
المطلب الثاني: الحد الحقيقي وشروطه، وأقسامه.
المطلب الثالث: الحد الرسمي وشروطه، وأقسامه.
المطلب الرابع: الحد اللفظي وشروطه.(1/75)
المطلب الأول في تعريف الحد، وبيان أقسامه، وسبب ذلك
أولاً: الحد لغة هو:
المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع من دخول الدار،
وسميت بعض العقوبات حدوداً؛ لأنها تمنع من العود إلى المعصية،
وسمي التعريف حداً؛ لأنه يمنع غير أفراد المعرف من الدخول،
ويمنع أفراد المعرف من الخروج.
ثانيا: الحد اصطلاحا:
هو الوصف المحيط: لموصوفه المميز له عن غيره.
ففائدة الحد هي: التمييز بين المحدود وبين غيره.
ثالثا: أقسام الحد:
ينقسم الحد إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الحد الحقيقي.
القسم الثاني: الحد الرسمي.
القسم الثالث: الحد اللفظي.
رابعا: سبب هذا التقسيم:
السبب في هذا التقسيم: أنه إما أن يكون الحد بحسب اللفظ، أو
بحسب المعنى.(1/77)
أما الأول - وهو: الحد بحسب اللفظ - فهو الحد اللفظي.
وأما الثاني - وهو: الحد بحسب المعنى - فلا يخلو:
إما أن يكون الحد مشتملاً على جميع الذاتيات أو لا.
فإن اشتمل على جميع الذاتيات فهو الحد الحقيقي؛ حيث إنه يفيد
جميع حقائق الذاتيات.
وإن لم يشتمل على ذلك: فهو الحد الرسمي.
وسيأتي بيان كل حد وشروطه بالتفصيل إن شاء اللَّه.(1/78)
المطلب الثاني في الحد الحقيقي وشروطه وأقسامه
أولاً: تعريف الحد الحقيقي:
الحد الحقيقي هو: هو الذي ينبى عن جميع ذاتياته الكلية المركبة.
شرح التعريف:
معنى هذا الحد: أن الحد الحقيقي معرِّف دال على جميع الذاتيات
الكلية.
فقوله: "هو الذي ينبى" جنس في التعريف يشمل الحقيقي وغيره.
وقوله: " جميع ذاتياته ": أخرج التعريف بالعرضيات، وببعض
الذاتيات.
وقوله: " الكلية ": أخرج العينات والمشخصات، حيث إنها
ذاتية للشخص من حيث هو شخص، لكن لا يحد بها؛ لأن الحد
للكليات، لا للمشخصات.
وقوله: " المركبة ": أخرج الذاتيات التي لم يعتبر تركيبها على
وجه تحصل لها صورة وحدانية مطابقة للمحدود، فإنها لا تسمى
حداً حقيقياً.
ولا يورد في الحد الحقيقي إلا الصفات الذاتية، دون الصفات
اللازمة والعرضية، ولكي نعرف ذلك لا بد من بيان الفرق(1/79)
بين الصفات الذاتية، والصفات اللازمة، والصفات العرضية،
فأقول:
الوصف الذاتي هو: الوصف الداخل في حقيقة الشيء الموصوف
دخولاً لا يمكن أن يتصور شخص فهم معنى ذلك الشيء بدون فهم
ذلك الشيء.
مثال ذلك: " الجسمية للشجر "، فإن من فهم الشجر فقد فهم
- لا محالة - جسماً مخصوصاً معيناً، فتكون الجسمية داخلة في
ذات الشجرية دخولاً به قوامها في الوجود.
والعقل لو قدر عدم الجسمية لبطل وجود الشجر، وكذلك لو
قدر العقل خروج الجسمية عن الذهن: لبطل فهم الشجر، فلا بد
للحاد والمعرف أن يعرف أن الجسمية صفة ذاتية للمعرف الذي هو:
الشجرة - هنا - فمن أراد أن يحد الشجرة أو أي نبات آخر فلا بد
أن يقول: " إنه جسم نام ".
والأوصاف الذاتية هي تورد في الحد الحقيقي إيراداً أولياً، وذلك
لأنه يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته، لذلك ذكرناه أولاً.
أما الوصف اللازم فهو: الذي لا يفارق الذات، لكن لا يتوقف
عليه فهم حقيقة ذات الشيء.
مثال ذلك: " الظل لشخص الفرس عند طلوع الشمس "،
فالظل أمر لازم لا يمكن أن يفارق الفرس، ولكنه ليس بذاتى، وإنما
هو تابع للذات ولازم له، فحقيقة الفرس قد تفهم ولو لم يفهم
الظل ما هو؛ فالغافل عن وقوع الظل يمكنه أن يفهم الفرس، بل
يفهم الجسم الذي هو أعم، وإن لم يخطر بباله ظله، وكذلك يقال
في ظل الشجر.(1/80)
بيان وجه الاتفاق ووجه الاختلاف بين الوصف الذاتي والوصف اللازم:
أما وجه الاتفاق بينهما فهو في استحالة المفارقة للذات.
أما وجه الاختلاف بينهما فهو أن الوصف الذاتي لا يمكن أن يفهم
المعنى دون فهم ذلك الوصف أبداً.
بخلاف الوصف اللازم، فإنه يمكن أن يفهم المعنى دون فهمه.
أما الوصف العارض فهو مأخوذ من عرض له الشيء إذا التصق به
زماناً ثم انفصل عنه، ومنه عوارض الأهلية كالنوم، والسهو،
تعترض الإنسان ثم تزول وتفارق.
فالوصف العارض هو: ما ليس من ضرورته ملازمة الذات، بل
يتصور الشخص أن يفارق هذا الوصف تلك الذات.
وهذا الوصف العارض إما أن يكون وقته قصيراً كحمرة الخجل،
فإن هذه الحمرة الناتجة عن الخجل وصف عارض يزول سريعاً بعد
زوال مسببه، وهو الخجل.
وإما أن يكون وقته طويلاً مثل الصبا، والشباب، والكهولة، فإن
هذه صفات عرضية لمراحل عمر الإنسان تزول ولكن ببطء.
وهذا بيان الفرق بين الأوصاف الذاتية، واللازمة، والعارضة،
ولا بد للذي نصب نفسه لبيان الحد الحقيقي أن يعرف الفرق بينها.
أقسام الأوصاف الذاتية:
تنقسم الأوصاف الذاتية إلى قسمين: " جنس "، و " فصل ":
أما الجنس فهو: اسم دال على كثيرين مختلفين بالأنواع
كالحيوان، فإنه مشترك بين " الإنسان " و " الفرس " و " الأسد ".(1/81)
وقولنا: " مختلفين بالأنواع " أي: أن الجنس يشمل عدداً من
الأنواع يختلف كل نوع عن الآخر بالحد، فحد الإنسان: حيوان
ناطق، وحد الفرس: حيوان غير ناطق.
أما الفصل فهو: ما يفصل المحدود والمعرَّف عما شاركه في
الجنس وميزه عن غيره.
فمثلاً نقول في حد الإنسان: " حيوان "، فإن هذا الحد يشمل
الإنسان والحيوان كالفرس، ولكن إذا أضيف إلى كلمة " حيوان "
كلمة أخرى وهي: " الناطق "، فإنه بهذا يفصل الإنسان عن الحيوان
ويميز بذلك عن غيره مما يشاركه في جنسه.
ثانياً: شروط الحد الحقيقي:
يشترط للحد الحقيقي شروط، من أهمها:
الشرط الأول: أن تذكر جميع ذاتيات الشيء المطلوب تحديده،
وإن كانت كثيرة، وذلك ليحصل البيان الكامل للماهية.
الشرط الثاني: أن تذكر جميع الذاتيات مرتبة، بحيث يقدم
الأعم على الأخص، فيقدم ذكر الجنس على الفصل، فتقول في
حد الخمر: " شراب مسكر "، ولا تقول: " مسكر شراب "،
وتقول في حد النبات: " جسم نام "، ولا تقول: " نام جسم "
فتقدم العام على الخاص.
الشرط الثالث: أن الحاد والمعرف للحد الحقيقي يشترط عليه أن
يكون ذا بصيرة بالفرق بين الصفات الذاتية، واللازمة، والعرضية
- كما سبق بيانه -.
ولا يشترط للحاد والمعرف للحد الرسمي واللفظي ذلك، وذلك(1/82)
لأن الحد الرسمي الأمر فيه سهل، والمؤنة فيه قليلة؛ حيث إن طالبه
قانع بالجمع والمنع بأي لفظ كان.
أما الحد اللفظي فإنه يتعلق بنفس اللفظة وشرحها.
واشترطنا ذلك في الحد الحقيقي، لأنه أصعب الحدود؛ حيث إنه
يذكر فيه كمال المعاني التي بها قوام ماهية الشيء.
الشرط الرابع: أن تذكر في الحد الحقيقي الجنس القريب - إن
وجد - وذلك لكونه أدل على الماهية، ولا تذكر معه الجنس البعيد
فتكون مكرراً، ولا تقتصر على البعيد فتكون مبعداً، فتقول مثلاً -
إذا سئلت عن حد الخمر -: " شراب مسكر "، لكن لا تذكر مع
الجنس القريب البعيد فلا تقول - مثلاً - في ذلك المثال: " جسم
مسكر مأخوذ من العنب ".
الشرط الخامس: أن تحترز من إضافة الفصل إلى الجنس، فلا
تقل في حد الخمر: " مسكر الشراب "، فلا يكون - حينئذٍ - الحد
حقيقياً، بل يكون حداً لفظياً.
الشرط السادس: أن تحترز أن تجعل بدل الجنس شيئاً كان في
الماضي، ثم عدم الآن، فتقول لمن سألك عن حد الرماد: "خشب
محترق "، فهذا الجواب ليس بصحيح؛ لأن الجنس وهو " الخشب "
لا يوجد بل صار رماداً، ومعروف أن الرماد ليس بخشب.
ثالثا؛ أقسام الحد الحقيقي:
الحد الحقيقي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حقيقي تام وهو: ما يتركب من الجنس والفصل
القريبين.(1/83)
مثل: أن يسألك شخص عن الإنسان، فتقول له: " حيوان ناطق "
فالجنس القريب هو: " الحيوان "، والفصل القريب هو: "الناطق ".
وسمي بالتام لذكر جميع الذاتيات فيه.
القسم الثاني: حقيقي ناقص وهو: ما يكون بالفصل القريب
وحده، أو بالفصل القريب، وبالجنس البعيد، فله صورتان:
الصورة الأولى: إن ورد الحد من المجيب بفصل قريب - فقط -
فهذا يُسمَّى حداً حقيقياً ناقصاً، مثاله أن يقال: ما الإنسان؛ فيقول
المجيب في حده: " هو الناطق ".
الصورة الثانية: إن ورد الحد من المجيب بفصل قريب مع جنس
بعيد فيُسمَى هذا - أيضاً - حداً حقيقياً ناقصاً، مثاله: أن يقال: ما
الإنسان؛ فيقول المجيب: " هو جسم ناطق "، فالجنس البعيد هو:
" الجسم "، والفصل القريب هو: " الناطق ".
وسمي بالناقص لعدم ذكر جميع الذاتيات فيه.(1/84)
المطلب الثالث الحد الرسمي، وشروطه، وأقسامه
أولاً: تعريف الحد الرسمي:
الحد الرسمي هو: ما أنبأ عن الشيء بلازم له.
أي: أن الحد الرسمي هو: معرِّف أنبأ عن الشيء بلازم من
لوازمه، وخاصية من خصوصياته لا يوجد في غيره.
مثاله: لو طلب تحديد الخمر، فإن المجيب يقول في ذلك: "هو
مائع يقذف بالزبد يستحيل إلى الحموضة ".
ثانياً: شروط الحد الرسمي:
لكي يكون الحد الرسمي صحيحاً لا بد أن تتوفر فيه الشروط
التالية:
الشرط الأول: أن يكون الحدُّ مطَّرداً ومنعكساً.
والطرد لغة هو: الإبعاد، واصطلاحاً هو: استلزام من جانب
الوجود والثبوت، أي: إذا وجد الحد وجد الحدود، وهو: معنى
كونه " مانعاً ".
والعكس لغة هو: قلب الشيء ورد أعلاه إلى أسفله،
واصطلاحاً هو: استلزام من جانب العدم، أي: إذا عدم الحد عدم
المحدود، وهو معنى كونه جامعاً.
الحاصل: أن الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود في العموم(1/85)
والخصوص، فيكون جامعاً لأفراد المعرف، بحيث لا يخرج عنه أي
فرد، ويكون مانعاً من دخول غيره فيه، وهو: المراد بالاطراد
والانعكاس.
الشرط الثاني: أن يكون هذا اللازم الذي عرَّفنا به ذلك الشيء
من اللوازم الظاهرة المعروفة، فلا يجوز تحديد شيء بلازم غير
معروف، كأن يقول قائل: ما الأسد؛ فيقول المجيب هو: " سبع
أبخر " ليتميز بالبخر عن الكلب، فالبخر من خواص الأسد ولوازمه
لكن هذا اللازم - وهو البخر - غير معروف وغير مشهور عنه،
فلذلك لا يصلح أن يكون حداً، فلو قيل في الجواب: " هو سبع
شجاع عريض الأعالي "، لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى
المقصود؛ لأنها معروفة مشهورة عنه.
الشرط الثالث: أن يوجز الحادُّ في الحدِّ على حسب الاستطاعة.
أي: أن يقتصر على ما هو أشد مناسبة للغرض.
فإن لزم الأمر أن يطيل الحاد عبارات الحد، وذكر ما يبين المحدود
فلا ضير في ذلك، ولا ينبغي أن ينكر عليه ذلك؛ لأنه أراد بهذه
الإطالة الكشف عن حقيقة المحدود.
الشرط الرابع: أن يأتي الحاد بلفظ صريح واضح، ويبتعد عن
الكنايات؛ لأن الكنايات أمر لا يطلع السائل عليه، فلا يحصل له
البيان، فيقع الخلل في التعريف والحد.
الشرط الخامس: ألا يحد شيئاً بأخفى منه، كأن يحد " البقلة
الحمقاء " بقوله: " هي العرفج "، فهذا غير سديد؛ لأن البقلة
الحمقاء هي أشهر عند السامع من العرفج.
الشرط السادس: ألا يحد شيئاً بما يساويه في الخفاء والظهور،(1/86)
فلا يقول في حد الزوج مثلاً: هو عدد يزيد على الفرد بواحد،
فهنا عرَّف الزوج بالفرد الزائد على الواحد، وهما متساويان عند
التحقيق في الظهور والخفاء.
الشرط السابع: ألا يحد شيئاً بألفاظ مجازية، أو بألفاظ مشتركة؛ الحد مميز للمحدود، ولا يمكن أن يحصل التميز مع الألفاظ
المشتركة؛ لأن الاشتراك مخل بفهم المعنى المقصود، وكذلك لا
يحصل التميز مع الألفاظ المجازية؛ حيث إن الغالب تبادر المعاني
الحقيقية إلى الفهم دون المجازية.
الشرط الثامن: ألا يحد شيئاً بنفي ضده، فلا يقول في حد
الزوج: هو ما ليس بفرد، أو يقول في حد الفرد: هو ما ليس
بزوج؛ لأنه يلزم منه الدور؛ حيث إنه عرَّف الشيء بنفسه، فلم
يحصل بذلك بيان ولا توضيح ولا شرح؛ لأن مهمة الحاد هي:
تبيين المحدود وتوضيحه للسائل.
ثالثاً: أقسام الحد الرسمي:
الحد الرسمي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الحد الرسمي التام وهو: ما كان بالجنس القريب
والخاصة كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب: " حيوان
ضاحك "، فالجنس القريب هو الحيوان، والخاصة هو الضاحك.
وسمي تاماً لاشتماله على الجنس القريب وعلى الخاصة المميزة
للشيء من غيره.
القسم الثاني: الحد الرسمي الناقص وهو: ما كان بالجنس
البعيد، والخاصة كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب هو:(1/87)
جسم ضاحك "، فالجنس البعيد هو: " الجسم "، والخاصة هو:
" الضاحك ".
والحد الرسمي إذا عرف بالخاصة - فقط - فإنه يَكون حداً رسمياً
ناقصاً، كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب هو:
"الضاحك ".
وسمي ناقصاً؛ لنقصان بعض أجزاء الرسم التام عنه.(1/88)
المطلب الرابع الحد اللفظي، وشرطه
أولاً: الحد اللفظي هو:
شرح اللفظ بمرادف له أظهر وأشهر عند السائل من المسؤول عنه.
فمثلاً يسأل سائل ويقول: ما الخندريس؛ فيقول المجيب والحاد:
" هو الخمر "، ويسأل ويقول: ما الليث؛ فيقول المجيب: " هو
الأسد ".
ثانيا: شرط الحد اللفظي:
يشترط للحد اللفظي: أن يكون اللفظ الذي يأتي به المجيب أظهر
وأشهر من اللفظ المسؤول عنه كما مثلنا.(1/89)
المبحث الرابع في البرهان وما يتعلق به
عرفنا فيما سبق أن المطلوب من التصوُّر - وهو: إدراك المفردات -
لا يعلم إلا بالحد، وأن المطلوب من التصديق - وهو: إدراك النسبة
بين تلك المفردات - لا يفهم إلا بالبرهان والحُجَّة.
وقد بيَّنا الحد وأقسامه، وشروط كل قسم.
والآن سنتكلم عن البرهان؛ لأنه هو الذي يتوصل به إلى العلوم
التصديقية التي تطلب بالنظر، وذلك في المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف البرهان.
المطلب الثاني: مم يتكون البرهان؟
المطلب الثالث: وجه لزوم النتيجة من المقدمتين.
المطلب الرابع: هل تسمية البرهان بالقياس تسمية حقيقية؟
المطلب الخامس: كيف يتطرق الخلل إلى البرهان؟
المطلب السادس: أسباب مخالفة نظم البرهان.
المطلب السابع: أقسام البرهان.
المطلب الثامن: في اليقين ومداركه.
المطلب التاسع: في الاستقراء
المطلب العاشر: في التمثيل.(1/91)
المطلب الأول في تعريف البرهان
البرهان هو: قول مؤلف من قضايا يلزم عنها لذاتها قول آخر.
مثال ذلك: أن تقول في بيان البرهان على أن " العالَم حادث ":
العالَم متغير، وكل متغير حادث، إذن: العالَم حادث.
فعندنا مقدمتان: " مقدمة صغرى "، و " مقدمة كبرى "،
و"نتيجة".
أما المقدمة الصغرى فهي: العالَم متغير.
أما المقدمة الكبرى فهي: كل متغير حادث.
أما النتيجة فهي: العالَم حادث.
ويسمى ذلك بالنتيجة والرأي الذي هو مطلوب الناظر بالنظر.
والأقاويل أو القضايا إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها
تسمى مقدمات.
والمقدمات قد تكون عقلية كما سبق.
وقد تكون سمعية، أو بعضها سمعي، فإن السمع يفيد اليقين
كخبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع.
ولا تستغرب من جعلنا البرهان يتكون من مقدمتين - وذلك في
المثال - مع أننا عرفنا البرهان بأنه قول مؤلف من قضايا وأقاويل..
والسبب في ذلك: أن المراد بالقضايا والأقاويل عند أهل المنطق: ما
فوق القول الواحد، أو القضية الواحدة، بناء على أن أقل الجمع
عند المناطقة اثنان.(1/93)
المطلب الثاني مم يتكون البرهان؟
البرهان يتكون من مقدمتين، أي: علمين يتطرق إليهما التصديق
والتكذيب، وأقل ما تحصل منه المقدمة: معرفتان توضع إحداهما
مخبراً عنها، والأخرى خبراً ووصفاً.
فيكون البرهان - على هذا - منقسماً إلى مقدمتين تنقسم إلى
معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويدل
عليه لا محالة بلفظ معين، فيجب أن ينظر في المعاني المفردة
وأقسامها، ثم ينظر في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها، ثم إذا فهمنا
اللفظ مفرداً والمعنى مفرداً أَلَّفنا بذلك معنيين، وجعلناهما مقدمة،
وننظر في حكم المقدمة وشروطها، ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما
برهاناً، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وهذا هو الطريق الحق
لمعرفة البرهان.
يقول التفتازاني في حاشيته: " القياس المنتج لمطلوب واحد لا
يكون مؤلفا بحكم الاستقراء الصحيح إلا من مقدمتين لا أزيد ولا
أنقص، لكن ذلك القياس قد تفتقر مقدمتاه، أو إحداهما إلى
الكسب بقياس آخر، كذلك إلى أن ينتهي إلى المبادئ المسلَّمة أو
البديهية، فيكون هناك قياسات مترتبة محصلة للقياس المنتج المطلوب.(1/94)
المطلب الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمتين
إن كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة، ونسبت إحداهما إلى
الآخر، إما بإثبات مثل: " النبيذ حرام " أو " النبيذ مسكر "، وإما
بنفي مثل: " النبيذ ليس بمسكر "، وعرضت ذلك على العقل لم
يخل العقل فيه من أحد أمرين: إما أن يصدِّق به، أو يمتنع عن
التصديق.
فإن صدَّق العقل فهو الأوَّلي والضروري المعلوم بغير واسطة،
- ويقال لذلك: إنه معلوم بغير نظر ودليل وطلب.
وإن لم يُصدِّق فلا بدَّ من واسطة للتصديق، وتلك الواسطة هي
التي تنسب إلى الحكم فيكون خبراً عنها وحكما لها، وتنسب إلى
المحكوم عليه فتجعل خبراً عنه، فيُصدِّق، فيلزم من ذلك بالضرورة
التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه، بيان ذلك:
لو أنا قلنا للعقل: احكم على النبيذ بالحرام، فإنه يقول: لا
أدري ولا يصدق به، فعلمنا من ذلك: أنه لا يلتقي في الذهن طرفا
هذه القضية وهما: " الحرام " و " النبيذ "، فلا بد من طلب واسطة
ربما صدَّق العقل بوجودها في " النبيذ "، وصدَّق بوجود وصف
الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب.(1/95)
فيقال للعقل: هل النبيذ مسكر؛ فيقول: نعم، وقال: نعم؛ كونه مسكراً ثبت عن طريق التجربة.
ثم يقال له: هل المسكر حرام؛ فيقول: نعم، وقال: نعم؟
لأنه علم كون المسكر حراماً عن طريق السمع.
فإذا صدَّق العقل بهاتين المقدمتين: لزم التصديق بالثالث ضرورة
وهو: أن النبيذ حرام، فيلزم العقل التصديق بذلك ويذعن للتصديق(1/96)
المطلب الرابع هل تسمية البرهان بالقياس تسمية حقيقية؟
أقول: إن تسمية المناطقة للبرهان المتكون من مقدمتين ونتيجة
بالقياس، جاء عن طريق التجوز، وذلك لأن القياس في أصول
الوضع اللغوي هو: تقدير شيء بشيء آخر، كتقدير الثوب بالذراع.
أما هنا، فإن حاصله راجع إلى إدراج خصوص تحت عموم،
وهذا ليس بقياس، إذ ليس فيه تقدير ولا حمل، بل فيه إدراج،
بيان ذلك:
أن المقدمة الكبرى عموم، والمقدمة الصغرى خصوص، وقلنا
ذلك لأن الحكم في الكبرى على جميع ما صدق عليه الأوسط،
فيتناول الأصغر وغيره، والحكم في الصغرى مخصوص بالأصغر
فقط، وإذا كان الأمر كذلك وجب إدراج الأصغر تحت الأوسط في
الحكم بالأكبر على جميع ما صدق عليه الأوسط؛ لأن الأصغر من
جملتها، فيلتقي بالضرورة موضوع الصغرى - أعني الأصغر -
ومحمول الكبرى - أعني الأكبر - إما إيجابا إن كانت الكبرى
موجبة، أو سلبا إن كانت الكبرى سالبة.
مثال الموجبة قولنا: " الوضوء عبادة، وكل عبادة تصح بنية "،
فإنه ينتج: أن الوضوء يصح بنية.
مثال السالبة قولنا: " النبيذ مسكر، ولا شيء من المسكر ليس
بحلال "، فإنه ينتج منه: أن النبيذ ليس بحلال.(1/97)
المطلب الخامس كيف يتطرق الخلل إلى البرهان؟
يتطرق الخلل إلى البرهان من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: من جهة نفس المقدمات؛ لأنها قد تكون خالية من
شروطها.
الجهة الثانية: من جهة كيفية الترتيب والتركيب والنظم، ولو
كانت المقدمات صحيحة يقينية.
الجهة الثالثة: من جهة نفس المقدمات، والكيفية والترتيب
والتركيب جميعاً.
وإليك بيان ذلك بمثال من المحسوس، وهو البيت المبني، فإنه
يتطرق إليه الخلل من ثلاث جهات:
الأولى: أنه قد يختل بسبب وجد في هيئة التأليف، وذلك بأن
تكون الحيطان معوجة، أو يكون السقف منخفضاً إلى موضع قريب
من الأرض، فيكون البيت فاسداً وإن كانت الأحجار والجذوع متينة
وصحيحة.
الثانية: أنه قد يختل بسبب رخاوة في الأصل والأساس، وذلك
بأن يكون البيت صحيحا من حيث الصورة في ترتيبها وهندستها،
ووضع حيطانها، وسقفها، ولكن يكون الخلل بسبب رخاوة في(1/98)
الجذوع وتشعب في اللبنات، فيكون البيت فاسداً من حيث الأساس،
وإن كانت الصورة صحيحة.
الثالثة: أنه قد يختل البيت بالسببين السابقين معاً، فيكون الخلل
بسبب التأليف، وبسبب رخاوة في الأساس.
فكذلك هنا، فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه، وإما أن
يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب، وإما أن يكون فيهما معاً.
فمن يريد بناء بيت سالم من أي خلل فعليه أولاً: بإعداد الآلات
المفردة التي يتكون منها البناء كالجذوع، واللبن، والطين،
والسعف، والجريد، ونحو ذلك، ثم إذا أراد أن يكون لبنا صالحاً
للبناء عليه بإعداد مفرداته وهي: الماء، والتبن، والطين، والقالب
الذي يضرب به اللبن.
فلا بد من أن يبتدئ أولاً بالأجزاء المفردة فيركبها، ثم يركب
المركب، وهكذا إلى آخر العمل.
إذا عرفت ذلك في هذا المثال، فإن طالب البرهان كذلك ولا
فرق، فإنه له أن ينظر أولاً إلى الأجزاء المفردة من نظم وصورة، ثم
ينظر ثانياً إلى المقدمات التي فيها النظم.
تنبيه: للبرهان أضرب وأقسام قد تكلمت عنها في كتابي " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " بالتفصيل، فإن شئت ارجع إليه
في ذلك.(1/99)
المطلب السادس في أسباب مخالفة نظم البرهان
لا بد في كل برهان أن يتكون من مقدمتين لتحصل منهما نتيجة،
وإذا ذكر أحد شيئاً يخالف ذلك النظم، فإنه يرجع إلى أسباب هي
كما يلي:
السبب الأول: قصور في علم المناظر بتمام نظم البرهان.
السبب الثانى: إهمال المناظر لإحدى المقدمتين، لكونها واضحة
ومعلوماً بها، وأكثر ما يفعل ذلك الفقهاء في المحاورات الفقهية
اختصاراً.
ومثال ذلك: قولنا: " الوضوء يحتاج إلى النية؛ لأن كل عبادة
تحتاج إلى النية "، فهنا حذفت الصغرى وهي قولنا: " الوضوء
عبادة "؛ حيث إن تمام النظم أن يقال: " كل عبادة تحتاج إلى النية،
والوضوء عبادة يلزم أن الوضوء يحتاج إلى النية "، فحذفت
الصغرى، وذلك لاشتهارها ووضوحها.
مثال آخر: قولنا: " هذا يجب رجمه؛ لأنه زنا وهو محصن "
فهنا حذفت الكبرى لوضوحها والعلم بها، وتمام القياس أن يقال:
" كل من زنا وهو محصن فعليه الرجم، وهذا زنا وهو محصن،
فيلزم وجوب الرجم عليه ".
وحذف إحدى المقدمتين لاشتهارها ووضوحها قد ورد في القرآن(1/100)
الكريم، من ذلك قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا اللَّه لفسدتا)
وينبغي أن يضم إليها: " ومعلوم أنهما لم تفسدا "، وترك ذلك
للعلم به - ووضوحه.
السبب الثالث: أن يهمل المناظر إحدى المقدمتين للتلبيس على
الخصم، وذلك يكون بترك المقدمة التي يعسر إثباتها ويندر أمثالها،
أو ينازعه الخصم في تلك المقدمة، وذلك استغفالاً للخصم، فخشي
المستدل أن يصرح بتلك المقدمة فيتنبه ذهن خصمه فينازعه فيها.
مثال ذلك: قولك: " فلان خائن في حقك "، فيقول خصمك:
ولِمَ؟ فتقول: " لأنه كان يناجي عدوك "، وتمامه: أن يقال: "كل
من يناجي العدو فهو عدو، وهذا يناجي العدو، فهو إذاً عدو "،
لكن لو صرح به لتنبه ذهن الخصم بأن مناجاة العدو لا يلزم منها
الخيانة، فقد يحتمل أنه أراد بمناجاته نصيحته، أو غير ذلك.
مثال آخر: قولهم: " نكاح الشغار فاسد، لأنه منهي عنه "،
وتمامه أن يقال: " كل منهي عنه فهو فاسد، والشغار منهي عنه،
فهو إذاً فاسد "، ولكن لو صرح المستدل بهذه المقدمة الكبرى لتنبه
الخصم لها؛ لأنها موضع النزاع.(1/101)
المطلب السابع في أقسام البرهان
البرهان ينقسم إلى قسمين:
" برهان دلالة "، و " برهان علَّة ".
أما برهان الدلالة فهو: أن يكون الأمر المتكرر في المقدمتين معلولاً
ومسبباً، فإن العِلَّة والمعلول يتلازمان.
أما برهان العلَّة فهو: أن يكون المكرر - وهو الحد الأوسط - عِلَّة
وسبباً.
فإن استدللت بالعِلَّة على المعلول: فالبرهان برهان عِلَّة.
وإن استدللت بالمعلول على العلَّة أو استدللت بأحد المعلولين على
الآخر، فهو برهان دلالة.
مثال برهان العلَّة: أن تستدل بالغيم على المطر، وأن تستدل
بالأكل الكثير علىَ الشبع فيقال: " من أكل كثيراً فهو شبعان، وزيد
قد أكل كثيراً، فهو إذن شبعان ".
ومثال برهان الدلالة: أن تستدل بالشبع على الأكل الكثير،
فتقول: إن كل شبعان قد أكل كثيراً وزيد شبعان، إذاً قد أكل كثيراً.
ومثال الاستدلال بأحد المعلولين على الآخر أن تقول: كل من
صح طلاقه صح ظهاره، والذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره.
تنبيه: اعلم أن جميع استدلالات الفراسة من قبيل الاستدلال
بإحدى النتيجتين على الأخرى.(1/102)
المطلب الثامن في اليقين ومداركه
البرهان: ما كانت مواده يقينية، وهي التي يجب قبولها بديهياً
كانت أو نظرية تنتهي إلى البديهيات، وسواء كانت تلك المقدمات
عقلية أو سمعية، فإن السمع يفيد اليقين كأن يكون خبر من يمتنع عليه
الكذب كخبر اللَّه تعالى، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الإجماع.
وإليك بيان حقيقة اليقين، والأشياء التي تفيد اليقين، فأقول:
أولاً: اليقين لغة هو: العلم الذي لا شك فيه.
واليقين اصطلاحاً هو: اعتقاد الشيء بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا
يمكن إلا كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال.
ثانياً: الأشياء التي تفيد اليقين أو مداركه، أو أصول اليقينيات
- كما يسميها بعضهم - هي كما يلي:
الأول: الأوليات، وهي قضايا يجزم العقل بها بمجرد التصوُّر،
ولا يحتاج إلى واسطة مثل: علمك بأن الواحد نصف الاثنين، وأن
الكل أعظم من الجزء، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر.
الثاني: المحسوسات الظاهرة، وهي القضايا التي يحكم بها
بواسطة الحواس الخمس وهي: السمع، والبصر، والشم،
واللمس، والذوق، مثل: النار حارة، وهذا الجبل كبير، ورائحة
هذا طيبة، وطعم هذا حلو، وهكذا.(1/103)
الثالث: المشاهدات الباطنة، وهي قضايا يحكم بها بواسطة
القوى الباطنة، ولا تحتاج إلى العقل، ولا إلى الحس، مثل:
علمك جوع نفسك، وشعورك بالألم، والعطش، ونحو ذلك.
والفرق بين هذا وبين المدرك الأول - وهو الأوليات -: أن المدرك
الأول لا تدركه الصبيان ولا البهائم ولا المجانين؛ لأن الأوليات قضايا
حصلت بمجرد العقل، والعقل مفقود بالنسبة لهؤلاء.
أما هذا المدرك وهو: المشاهدات الباطنة، فإن البهائم، والصبيان
والمجانين تدركه؛ لأن تلك الأحوال وهي الجوع، والعطش، لا
تفتقر إلى عقل.
الرابع: التجريبيات، أو اطراد العادات، وهي القضايا التي
يحكم بها بواسطة تكرار المشاهدة، وهي لا تخلو عن قياس خفي
مع تكرار المشاهدة، وهو أن تعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد
لا يكون اتفاقاً.
مثل: حكمنا بأن الإهليلج مسهل، فإنه بعد التجارب وتكرار
الاستعمال لهذا الدواء حكمنا بأنه مسهل، وحكمنا بأن الحجر هاو
إلى أسفل، وحكمنا بأن النار صاعدة إلى فوق، وهذه الأحكام
والمعلومات يقينية عند من جربها من الناس.
الخامس: المتواترات، وهي: قضايا حكم بها بواسطة إخبار
جماعة يستحيل عقلاً وعادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، مثل:
حكمنا بوجود مكة، والمدينة، والهند، وغيرها من البلدان.
فالمستفاد من تلك المدارك الخمسة يصلح لصناعة البرهان.(1/104)
ثالثأ: بيان أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين، وليست منها:
ما سبق هي مدارك اليقين التي تصلح لمقدمات البراهين، وهناك
أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين وليست منها، وهما:
1 - الوهميات
2 - المشهورات.
أما الوهميات فهي: قضايا الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون
مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً، ولا منفصلاً، ولا
خارجاً، ولا داخلاً محال، لأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات
الست خالية عنه محال، وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من
الدماغ، وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات، ومتابعتها
والتصرف فيها.
وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي لا تتميز عن الأوليات
القطعية.
مثل قولك: لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول
الفطرة، كما تشهد بالأوليات القطعية، وليس كل ما تشهد به
الفطرة قطعاً هو صادق، بل الصادق هو ما تشهد به قوة العقل
الصحيح فقط.
أما المشهورات فهي آراء محمودة توجب التصديق بها، إما بشهادة
الكل، أو بشهادة الأكثر، أو بشهادة جماهير من الأفاضل مثل:
"الكذب قبيح "، و " كفران المنعم قبيح "، و " شكر المنعم حسن "
و" إنقاذ الذين شارفوا على الهلاك حسن "، و " إيلام البريء قبيح "
وهذه الأحكام قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، فلا يعول عليها
- في مقدمات البراهين، لأنها لم تكن من مدارك اليقين.
وإنما انغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا،(1/105)
وذلك بأن تكرر على الصبي، ويكلف اعتقادها، ويحسن ذلك عنده
وربما يحمل على اعتقادها حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما تنشأ
من الحنان ورقة القلب والطبع، فترى أقواماً يصدِّقون بأن ذبح البهائم
قبيح حتى وصل بهم الأمر إلى الامتناع عن أكل لحومها، وربما يحيل
على التصديق بها الاستقراء والتتبع الكثير، وربما كانت القضية
صادقة، ولكن بشرط دقيق لا يتفطن الذهن لذلك الشرط، ويستمر
على تكرير التصديق، فيرسخ في نفسه كمن يقول - مثلاً -:
"التواتر لا يفيد العلم "، وعلّل ذلك بقوله: " إن خبر كل واحد
من المخبرين لا يفيد العلم، فخبر الجميع لا يفيد العلم؛ لأنه لا
يزيد على الآحاد "، وهذا معروف غلطه؛ لأن كل واحد لا يفيد
خبره العلم بشرط الانفراد، وعند التواتر فات هذا الشرط، فهذا
القائل: ذهل وغفل عن هذا الشرط، وذلك لدقته، فصدَّق به
مطلقاً واعتقده.
فالمستفاد من الوهميات لا يصلح لصناعة البرهان، والمشهورات
تصلح للفقهيات الظنية، والأقيسة الجدلية، ولا تصلح لأن تكون
مقدمات للبراهين.
رابعاً: أضداد اليقين:
لما عرفنا فيما سبق اليقين وهو: العلم القطعي بالأشياء التي لا
تحتمل النقيض، أو ما قطعت به النفس، وعرفنا مداركه، وما لا
يفيده: كان لا بد لنا أن نعرف أضداد اليقين؛ ليعرف اليقين أكثر
والفرق بينه وبين غيره، فأقول:
أضداد اليقين هي: " الظن "،. و " الشك "، و " الوهم "،
و"السهو"، و " الجهل "، وإليك بيانها:
1 - الظن هو: ترجيح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من
غير قطع، وقيل: تجويز أمرين، أحدهما أقوى من الآخر.(1/106)
والظن طريق للحكم إذا كان عن أمارة قد اقتضت الظن، ولهذا
وجب العمل بجميع الأدلة المظنونة، ويجب العمل بشهادة الشهادين
وبخبر المقوِّمين للشيء، سواء كانت تلك الأحكام مبنية على أدلة
ظنية أو أمارة صحيحة.
ويطلق العلم على الظن والعكس.
فمثال إطلاق العلم على الظن: قوله تعالى: (فإن علمتموهن
مؤمنات) ، فهنا عبَّر بالعلم عن الظن؛ لأن العلم القطعي في
ذلك لا سبيل إليه.
ومثال إطلاق الظن على العلم: قوله تعالى: (الذين يظنون
أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون.
2 - الشك هو: التردد في أمرين متقابلين، لا ترجيح لوقوع
أحدهما على الآخر في النفس، وقيل: هو: تجويز أمرين لا مزية
لأحدهما على الآخر.
والشك ليس بطريق للحكم في الشرع، وبناء على ذلك يجب
استصحاب الحال السابق مثل: الشك في الحدث بعد الطهارة،
والشك بالطلاق بعد النكاح، لأن الظاهر بقاء ذلك، وعدم حدوث
المشكوك فيه.
3 - الوهم هو: الطرف المرجوح فهو المقابل للظن.
4 - السهو هو: الذهول عن المعلوم.
5 - الجهل هو: اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه، وهو ضد العلم.(1/107)
وهو قسمان:
القسم الأول: جهل بسيط وهو: انتفاء إدراك الشىء بالكلية،
أي: عدم العلم مطلقا.
القسم الثاني: جهل مركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته.
وسمي مركباً، لأنه مركب من أمرين، أولهما: عدم العلم
بالشيء، ثانيهما: الاعتقاد الذي هو غير مطابق لما في الخارج.
فمثلاً: إذا سئل إنسان وقيل له: إذا أكل مسلم ناسياً في رمضان
فهل يفسد صومه أو لا؟
فإن قال: نعم يفسد صومه، وعليه القضاء، فهو جاهل مركب.
أما إذا قال: لا أعلم، فإنه يكون جاهلاً بسيطاً.(1/108)
المطلب التاسع في الاستقراء
أولاً: حقيقة الاستقراء:
وهو لغة: التتبع.
وفي الاصطلاح هو: عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم
بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات.
وقيل: هو: الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته.
وقيل: " في أكثر جزئياته "؛ لأن الحكم لو كان في جميع
جزئياته لم يكن استقراء، بل يكون قياسا مقسماً.
وسمي ذلك استقراء؛ لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات.
ثانيا: أقسام الاستقراء:
ينقسم الاستقراء إلى قسمين:
القسم الأول: استقراء تام، وهو الذي يشمل جميع الجزئيات،
فهذا يفيد اليقين وهو صالح لأن يكون مقدمة من مقدمات البرهان
مثل: قولنا: "كل حيوان يموت ".
القسم الثاني: استقراء ناقص، وهو الذي يشمل أغلب وأكثر
الجزئيات، وهو لا يفيد إلا الظن، وهذا لا يصلح أن يكون من(1/109)
مقدمات البرهان مثل قولنا: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند
المضغ؛ لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك.
فهذا استقراء ناقص مختل؛ حيث إنه يوجد بعض الجزئيات يكون
حكمه مخالفا لما استقرئ وتتبع، فلا يعمه الحكم وهو: التمساح،
فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ.(1/110)
المطلب العاشر في التمثيل
أولاً: بيان حقيقة التمثيل:
التمثيل لغة: مصدر مثل الشيء بالشيء إذا شبهه به.
وهو في الاصطلاح: إثبات حكم في جزئي معين لوجوده في
جزئي آخر لأمر مشترك بينهما.
مثل: قولنا: النبيذ حرام كالخمر بجامع الإسكار بينهما.
ويسمى الأول فرعاً، والثانى أصلاً، ويسمى الأمر المشترك بينهما
جامعاً وعلة.
ثانياً: طَرق إثبات علية الأمر المشترك:
لإثبات علية الأمر المشترك طرق عند المناطقة، والمشهور منها
طريقان:
الطريق الأول: الدوران، ويسمى الطرد والعكس، وهو: أن
يدور الحكم مع العلَّة والمعنى المشترك وجوداً وعدماً، ففي المثال
السابق نقول: إذاً وجد الإسكار في النبيذ فإنه يوجد الحكم وهو
التحريم، وإن عدم الإسكار عدم التحريم، وهكذا.
الطريق الثاني: السبر والتقسيم وهو: أن يعد ويذكر أوصاف
الأصل، وتحصر، ثم يثبت - بعد الاختبار والسبر - أن ما عدا
المعنى المشترك غير صالح لاقتضاء الحكم لوجود تلك الأوصاف في
محل آخر مع تخلف الحكم عنه، ولا بد في ذلك من استعانة بنص
أو إجماع.(1/111)
فإن كان هذا الحصر والإبطال قطعيين أفاد القطع واليقين، وإن كانا
ظنيين أفادا الظن.
ثالثاً: حكم التمثيل:
التمثيل حُجَّة ظنية عند جمهور المناطقة.
وذهب ابن سينا إلى أنه حُجَّة ضعيفة.
وهذا ليس بصحيح، فالتمثيل حُجَّة ظنية قوية؛ لأن إفادة الدليل
اليقين أو الظن راجعة إلى المقدمات التي تألف منها لا إلى صورته،
فالمقدمات إن كانت يقينية أفادت اليقين، وإن كانت المقدمات ظنية
أفادت الظن.
رابعاً: هل التمثيل هو القياس والشمول أم لا؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن القياس هو التمثيل، وهو مذهب كثير من
الأصوليين.
المذهب الثاني: أن القياس هو الشمول، وهو مذهب المناطقة.
المذهب الثالث: أن كلًّا من التمثيل والشمول يسمى قياساً،
ذهب إلى هذا أكثر الفقهاء والمتكلمين.
وهو الصحيح؛ لأن قياس الشمول مبناه على اشتراك الأفراد في
الحكم وشموله لها، وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الأصل والفرع
في الحكم.
ويمكن رد كل من القياسين إلى الآخر مثل: النبيذ حرام كالخمر
بجامع الإسكار، وترده إلى الشمول فتقول: النبيذ مسكر، وكل
مسكر حرام ينتج: أن النبيذ حرام.(1/112)
المبحث الخامس في الألفاظ
اللفظ هو: صوت معتمد على بعض مخارج الحروف.
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: اللفظ المفرد، وهو: الذي لا يدل جزؤه على
جزء معناه: إذا جعل علماً للشيء مثل: " زيد "، و " عبد اللَّه "
علماً، وهو أنواع كثيرة.
القسم الثاني: اللفظ المركب، وهو: الذي يدل جزؤه على جزء
معناه مثل: " زيد قائم "، و " قام زيد " و " غلام زيد "، و "الحيوان
الناطق "، وهو أنواع أيضا.
وسيأتي - إن شاء اللَّه - تفصيل ذلك - في الباب الرابع الذي هو
في الألفاظ ودلالتها على الأحكام، فلا داعي لأن أفصل بها هنا مع
أن التفصيل فيها في مكانها أولى وأكثر فائدة.(1/113)
المبحث السادس في المعاني وأقسامها
لما بيَّنا اللفظ، شرعنا في ذكر المعاني والنظر فيها، من حيث إنها
ثابتة في نفسها، وإن كان يدل عليها بالألفاظ؛ لأنه لا يمكن تعريف
المعاني إلا بذكر الألفاظ، فأقول:
أولاً: تعريف المعاني:
المعاني هي: الصورة الذهنية من حيث إنه وضعت بإزائها الألفاظ
والصورة الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ سميت معنى.
ثانياً: أقسام المعاني باعتبار أسبابها المدركة:
المعاني التي ندركها ونحيط بها ثلاثة أقسام، هي كما يلي:
القسم الأول: معاني محسوسة، وهي المعاني التي ندركها
ونعلمها عن طريق الحواس الخمس، كالألوان، ومعرفة الأشكال،
والمقادير، وذلك بحاسة البصر، وكالأصوات بحاسة السمع،
وكالطعوم بحاسة الذوق، والروائح بحاسة الشم، والخشونة
واللين، والصلابة والبرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة بحاسة اللمس.
القسم الثاني: معاني متخيَّلة، وهي: القوة تتصرف في الصور
المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها.
مثاله: أنك لما أبصرت البلح وعرفت أن لونه أحمر بقيت تلك(1/114)
الصورة في دماغك، كأنك تنظر إليها وإن كان البلح غائباً، فلو ذكر
ذلك البلح - فيما بعد - فإنك تستحضر تلك الصورة من ذهنك
ودماغك، وتقول: إن لونه أحمر وإن كان غائبا عنك، لأن صورته
في دماغك، فإنك تتخيله، لذلك سمي معنى متخيلاً.
كذلك لما لمست الثلج لأول مرة ووجدته بارداً، فإنك لو سئلت
عنه - فيما بعد - لقلت: إن الثلج بارد وإن كان غائبا عنك،
وهكذا.
وهذه القوة - وهي قوة التخيل - لا ينفرد بها الإنسان، بل يشترك
معه فيها الحيوان.
أي: كما أنه يوصف الإنسان بأنه يتخيل الأشياء في الدماغ كذلك
البهائم تتخيل ولا فرق، فمثلاً: تجد " الفرس " إذا أكل شعيراً مرة،
ثم رآه مرة ثانية في يوم آخر فإنك تجده يتحرك نحوه، ويحاول أن
يقترب منه، وذلك لأنه تذكر صورته وطعمه الذي حفظه له دماغه
وخياله، فلو كانت الصورة لم تثبت في خياله لما بادر إليه وتحرك
نحوه، وكذلك جميع الحيوانات إذا رأت طعامها الذي يقدم إليها،
بل إن بعض الحيوانات إذا رأت من يعطيها طعامها المحبب لديها
رفعت أصواتها، واقتربت منه، وما ذلك إلا لأنها تخيلت اللذة
التي توجد في تلك الأطعمة التي يقدمها لها ذلك الشخص.
القسم الثالث: المعاني المعقولة، وهي: التي ندركها عن طريق
العقل الذي هو: الآلة التي ندرك بها الأشياء ونميز بعضها عن بعض.
والعقل غريزة، وليس مكتسباً، خلقه اللَّه تعالى في الإنسان
تشريفاً له يباين ويفارق به البهيمة، ويستعد به لقبول العلم، وتدبير
الصنائع الفكرية.(1/115)
وهذا خاص بالإنسان.
والعقل محله القلب وهو: مذهب الإمام مالك، والشافعي،
والأطباء، وكثير من العلماء وهو الحق عندي لأمرين:
أولهما: قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)
فعبَّر - هنا - عن العقل بالقلب؛ لأنه محله.
ثانيهما: قوله تعالى: (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) ، فلو
لم يكن العقل موجوداً في القلب لما وصف بذلك حقيقة؛ لأن
الأصل إضافة كل عضو إليه لما يصلح له، فلا يمكن أن توصف الأذن
بأنه يشم بها أو يرى بها.
وقيل: إن محل العقل هو الدماغ، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقبل غير ذلك.(1/116)
المبحث السابع في تأليف مفردات المعاني
لما فرغنا من الكلام عن مجرد اللفظ، والكلام عن مجرد المعنى،
لا بد من الكلام عن تأليف مفردات المعاني على وجه يتطرق إليه
التصديق والتكذيب، كقولنا: " العالَم حادث "، و " زيد ليس
بكاتب "، فإن هذا راجع إلى تأليف القوة المفكرة المؤلَّفة بين معرفتين
لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الأخرى بنفي أو إثبات.
فمثال نسبة المفرد إلى مفرد آخر في الإثبات: " العالَم حادث "،
و" زيد كاتب "، ومثال نسبة المفرد إلى مفرد آخر في النفي: "العالَم
ليس بقديم "، و " زيد ليس بكاتب ".
فعندنا جملة من جزأين، واختلف في تسميتهما على مذاهب:
المذهب الأول: أن اسم الأول - وهو زيد - مبتدأ، واسم الآخر
- وهو كاتب - خبر، وهذا مذهب النحويين.
المذهب الثاني: أن اسم الأول - وهو زيد -: محكوم عليه،
واسم الثاني - وهو كاتب -: حكم، وهذا مذهب الفقهاء؛ حيث
إن زيداً محكوم عليه بحكم، وهو كونه كاتبا.
المذهب الثالث: إن اسم الأول - وهو زيد - موصوف، واسم
الثاني - وهو كاتب - صفة، وهذا مذهب المتكلمين، حيث إن
زيداً موصوفاً بالكتابة.(1/117)
المذهب الرابع: أن اسم الأول - وهو زيد - موضوع، واسم
الثاني - وهو كاتب - محمول، وهذا اصطلاح المناطقة؛ لأن
الأول وضع ليحكم عليه، والثاني سمي محمولاً لحمله على
الموضوع.
وسمى المجموع من الاسم الأول والثاني: قضية.
والقضية قسمان: " قضية شرطية "، و " قضية حملية ".
أما القضية الشرطية - وهو القسم الأول - فهي: أن ينحل
طرفاها إلى جملتين، لو أزيلت من بينهما أداة الربط في المتصلة،
وأداة المناداة في المنفصلة.
ويكون الحكم في الشرطية معلقاً نحو: إن كانت الشمس طالعة
كان النهار موجوداً.
أما القضية الحملية - وهو القسم الثاني - فهي: ما يحكم فيها
بثبوت شيء لشيء، أو نفيه عنه نحو: " زيد كاتب "، و " زيد
ليس بقائم ".
وضابطها: أن ينحل طرفاها إلى مفردين، أو ما في حكم
المفردين، ولا يكون الحكم فيها معلقاً على شيء.
وأجزاء الحملية ثلاثة:
الأول: المحكوم عليه والمسند إليه، ويسمى موضوعا اصطلاحاً؟
لأنه وضع ليحكم عليه.
الثاني: المحكوم به، والمسند، وسمّي المحمول اصطلاحاً لحمله
على الموضوع.
الثالث: النسبة الواقعة بين الموضوع والمحمول، ويسمى اللفظ(1/118)
الدال عليها رابطة، لدلالته على النسبة الرابطة بين الطرفين، وهذه
الرابطة تحذف كثيراً عند العرب.
فإن قلت: ما الحمل؟
أقول: الحمل هو: اتحاد المتغايرين مفهوماً بحسب الوجود مثل:
" زيد كاتب "، فإن مفهوم " زيد " مغاير لمفهوم " كاتب "،
ولكنهما شيء واحد في الوجود.
والحمل نوعان:
1 - حمل بالمواطأة، وهو ما كان بلا واسطة مثل: "زيد كاتب ".
2 - حمل بالاشتقاق، وهو: ما كان بواسطة حروف وهي:
"في "، أو " اللام "، أو " ذو "، فتقول: " محمد في الدار "،
و" الكتاب محمد "، و " زيد ذو مال ".
أقسام القضية الحملية باعتبار الموضوع:
تنقسم القضية الحملية بهذا الاعتبار إلى أربع قضايا:
الأولى: قضية في عين وهي: المخصوصة، وهي: ما موضوعها
جزئي معين، وتسمى شخصية، لأن موضوعها شخصي معين مثل:
" زيد عالِم ".
الثانية: قضية مطلقة، وتسمى: " مطلقة خاصة "، وتسمى
جزئية محصورة، وهي: ما ليس موضوعها جزئياً معينا وبين جزئيته
مثل: " بعض الناس عالم ".
الثالثة: قضية عامة، وتسمى " قضية كلية "، وتسمى " مطلقة
عامة "، وهي: ما ليس موضوعها جزئياً وبيَّن كليته مثل: " كل
سواد لون ".(1/119)
الرابعة: قضية مهملة وهي: ما كان الحكم فيها على الأفراد مع
إهمال بيان كمية الأفراد، مثل قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر) .
وقد تكلمت عن سبب انحصار القضية الحملية في تلك القضايا
الأربع في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فارجع
إليه إن شئت.(1/120)
الباب الثاني الحكم الشرعي، والتكليف به
ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: في حقيقة الحكم الشرعي وما يتعلق بها.
الفصل الثاني: في الحكم التكليفي وأقسامه.
الفصل الثالث: في التكليف وشروطه.
الفصل الرابع: في الحكم الوضعي وأنواعه.(1/121)
الفصل الأول في حقيقة الحكم الشرعي وما يتعلق بها
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الحكم الشرعي
المبحث الثاني: في إطلاق الحكم الشرعي بين الأصوليين
والفقهاء.
المبحث الثالث: هل ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين:
" تكليفي ووضعي "(1/123)
المبحث الأول في تعريف الحكم الشرعي
أولاً: الحكم لغة هو:
القضاء والفصل لمنع العدوان، ومنه قوله تعالى: (لتحكم بين
الناس بما أراك الله) ، وقوله: (فاحكم بين الناس بالحق) .
يقال: " حكمت عليه بكذا " إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على
الخروج من ذلك، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من
أخلاق الأراذل.
وهذا موافق للحكم الشرعي؛ فإنه إذا قيل: " حكم اللَّه في
المسألة الوجوب "، فإن المراد من ذلك: أنه سبحانه قضى فيها
بالوجوب، ومنع المكلف من مخالفته.
ثانياً: الحكم اصطلاحاً هو:
خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء، أو التخيير أو
الوضع.
شرح التعريف:
قولنا: " خطاب " الخطاب هو: توجيه اللفظ المفيد إلى الغير،
بحيث يسمعه ويفهمه.
وقيل: إن الخطاب هو: الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيء للفهم.(1/125)
وهو جنس في التعريف يشمل كل خطاب، سواء كان المخاطِب
الله أو غيره.
قولنا: " خطاب اللَّه تعالى " إضافة الخطاب إلى اللَّه، أخرج
خطاب غيره من الإنس والجن والملائكة، فإن خطاباتهم لا تسمى
حكماً؛ حيث لا حكم إلا للشارع.
والمراد بخطاب اللَّه تعالى: كلام اللَّه اللفظي، وليس الكلام
النفسي؛ لأن الكلام اللفظي هو المبحوث عنه في الأصول إجمالاً،
وفي الفقه تفصيلاً.
وجميع الأحكام من اللَّه تعالى، سواء كانت ثابتة بالقرآن، أو
السُّنَّة، أو الإجماع، أو القياس، أو أي دليل ثبت شرعاً، فإن
كل هذه المصادر راجعة - في الحقيقة - إلى اللَّه تعالى.
قولنا: " المتعلِّق " أي: المرتبط، والمراد به: الذي من شأنه أن
يتعلق، من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه.
والمقصود: أنه يشترط في خطاب اللَّه تعالى أن يكون مرتبطاً بفعل
من أفعال المكلف على وجه يبين صفة الفعل من كونه مطلوباً فعله
كالصلاة، والزكاة، ووجوب الغرامات على المتلف، ونحو ذلك،
أو كونه مطلوباً تركه كالزنا والسرقة ونحو ذلك.
قولنا: " بفعل " الفعل لغة: ما يقابل القول والاعتقاد والنية.
ولكنه في العرف يطلق على كل ما صدر عن المكلف، وتتعلق به
قدرته من قول، أو فعل، أو نية، وهو المراد بفعل المكلف هنا.
فيكون المقصود بالفعل هنا هو جنس الفعل، سواء كان واحداً،
أو متعدداً، ويشمل القلوب والجوارح، سواء منها العبادات، أو
المعاملات، أو الأخلاق، فإنها جميعاً تتعلق بها الأحكام الشرعية.(1/126)
فالفعل هنا عام لأفعال الجوارح كوجوب الصلاة والحج والصوم،
ولأفعال اللسان كتحريم النميمة والغيبة، ولأفعال القلوب كوجوب
النية والقصد.
وقولنا: " بفعل المكلف ": أخرج الأحكام العقائدية، لأن
المعرف إنما هو الحكم الشرعي العملي، وليس المعرف مطلق الحكم
الشرعي.
والمراد بالمكلف هو: البالغ العاقل، غير الملجأ، الذي يفهم
الخطاب، ولم يحل دون تكليفه أي حائل.
وعبَّرنا بالمكلف، ولم نقل: " بأفعال المكلفين " - كما ذكر ذلك
بعض الأصوليين - وذلك ليشمل الأحكام المتعلقة بفعل مكلف واحد
خاصة به مثل الأحكام الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كتزويجه بأكثر من أربع،
ومثل الحكم الخاص بخزيمة بن ثابت الأنصاري، حيث بيَّن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أن شهادته تكفي عن شهادة رجلين، ومثل الحكم الخاص بأبي بردة، حيث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العناق - وهي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول - تجزئ في الأضحية عنه ولا تجزئ عن غيره.
وقولنا: " بفعل المكلف ": أخرج الخطابات الواردة من اللَّه التي
لا تتعلق بفعل المكلف، وهي:
1 - الخطاب المتعلق بذاته سبحانه، كقوله تعالى: (شهد الله أنه
لا إله إلا هو) .
2 - الخطاب المتعلق بصفته سبحانه، كقوله: (الله لا إله إلا هو
الحي القيوم) .
3 - الخطاب المتعلق بفعله سبحانه، كقوله: (الله خالق كل شيء) .(1/127)
4 - الخطاب المتعلق بالجمادات، كقوله: (ويوم نسير الجبال) .
5 - الخطاب المتعلق بالحيوانات، كقوله: (يا جبال أوبي معه والطير) .
6 - الخطاب المتعلق بذات المكلفين، كقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) .
فهذه خطابات، ولكنها لا تتعلَّق بفعل المكلَّف.
قولنا: " بالاقتضاء ": الجار والمجرور هنا متعلقان بقوله:
"المتعلِّق ".
والاقتضاء هو: الطلب، والطلب قسمان: طلب فعل، وطلب
ترك.
وكل واحد منهما ينقسم إلى قسمين: " جازم "، و " غير جازم ".
فإن كان طلب الفعل طلباً جازماً فهو: الإيجاب.
وإن كان طلب الفعل طلباً غير جازم فهو: الندب.
وإن كان طلب الترك طلباً جازماً فهو: التحريم.
وإن كان طلب الترك طلباً غير جازم فهو: الكراهية.
قولنا: " أو التخيير " معناه: استواء الطرفين، أي: لا يوجد
فيه طلب فعل، ولاطلب ترك.
فعبارة: " بالاقتضاء أو التخيير " شملت الأحكام التكليفية الخمسة
- الواجب، والمند وب، والحرام، والكرا هة، والمباح -.
وسيأتي بيانها بالتفصيل إن شاء اللَّه تعالى.(1/128)
فبان أنه يشترط في خطاب اللَّه المتعلق بالمكلف أن يكون متضمناً
لطلب فعل أو ترك، أو فيه تخيير.
أما إذا لم يوجد فيه ذلك فليس بحكم شرعي مثل قوله تعالى:
(والله خلقكم وما تعملون) ، وقوله: (وهم من بعد غلبهم
سيغلبون) ، وذلك لأنه لم يفهم منه طلب فعل، ولا طلب ترك
من المكلف، ولم يفهم منه - أيضا - تخيير بين فعل وترك، فهو
إعلام وإخبار - فقط -.
قولنا -: " أو الوضع " الوضع هو: الجعل.
وقد وردت لفظة: " أو " للتنويع والتقسيم، والمراد: أن الحكم
الشرعي ينقسم إلى قسمين: " حكم تكليفي "، و " حكم وضعي ".
أي: أنه أتى بهذه الكلمة - وهي: " أو الوضع " -، لإدخال
أقسام خطاب الوضع من السببية، والشرطية، والمانعية، والصحة
والفساد، وذلك لأنها أحكام شرعية لم تثبت إلا عن طريق الشرع،
وليس فيها طلب ولا تخيير.
وعلى هذا: خطاب الشرع إما أن يكون متعلقا بالاقتضاء أو
التخيير، أو لا يكون.
فإن كان متعلقاً بأحدهما: فهو الحكم التكليفي.
وإن لم يتعلق بواحد منهما فهو الحكم الوضعي.(1/129)
المبحث الثاني في إطلاق الحكم الشرعي بين الأصوليين والفقهاء
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الحكم الشرعي هو: خطاب اللَّه - تعالى -
المتعلق بفعل المكلف اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً.
وهذا مذهب الأصوليين - كما سبق بيانه -.
والأصوليون وإن اختلفوا في تعريفاتهم، فإنهم يجتمعون على
شيء واحد وهو: كون الحكم عَلَماً على نفس خطاب الشارع الذي
يطلب من المكلف فعل شيء، أو كفه عنه، أو يخيره بينهما،
ويجعل الشيء سبباً، أو شرطاً، أو مانعاً، أو صحة، أو فاسداً،
ونحو ذلك مما يدخل تحت خطاب الوضع.
فالإيجاب هو نفس قوله: " افعل " مثل قوله تعالى:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس) ، والتحريم هو نفس قوله: " لا تفعل "
مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق) .
فالأصوليون نظروا إلى ذات الحكم، وهو خطاب الشرع
بالتحريم، أو الإيجاب، أو الندب، أو الكراهة، أو الإباحة.
المذهب الثاني: أن الحكم الشرعي هو: ما ثبت بالخطاب
الشرعي، أي: أثره المترتب عليه، لا نفس النص الشرعي، وهو
مذهب الفقهاء.(1/130)
فالحكم عند هؤلاء هو: أثر خطاب اللَّه المتعلق بفعل المكلف
اقتضاء، أو تخييراً، أو وضعاً.
فالفقهاء نظروا إليه من ناحية تعلقه بفعل المكلف.
فمثلاً: وجوب الصلاة أثر لخطاب الشارع، وهو قوله تعالى:
(أقيموا الصلاة) ، وحرمة الزنا أثر ترتب على قوله تعالى:
(ولا تقربوا الزنا) .
فالوجوب والحرمة ونحوهما هو: الحكم عند الفقهاء، وهو: ما
ثبت بالخطاب واقتضاء النص.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين الأصوليين والفقهاء خلاف لفظي، حيث إنه راجع
إلى تفسير وبيان المراد من الحكم الشرعي والنظر إليه.
فمن نظر إلى الحكم الشرعي على أنه له مصدر يصدر عنه، وهو
الله تعالى: عرَّفه بأنه خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين
بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع، وهو مذهب الأصوليين.
ومن نظر إلى الحكم الشرعي على أن له محلاً يتعلق به، وهي
الأفعال التي تصدر من المكلفين، ويكون الحكم وصفاً شرعياً عرَّفه
بأنه: ما ثبت بالخطاب الشرعي، أو الصفة التي هي أثر ذلك
الخطاب من الشارع، وهو مذهب الفقهاء.
فالخطاب وما ترتب عليه متلازمان.(1/131)
المبحث الثالث هل ينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي؟
لقد اختلف العلماء على مذهبين:
المذهب الأول: أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين هما:
"حكم تكليفي "، و " حكم وضعي ".
ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين.
وهو الصحيح عندي، لذلك عرَّفنا الحكم الشرعي بما يعم
القسمين فقلنا: " هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف اقتضاء
أو تخييراً أو وضعاً، وبيَّنا أثناء شرحنا للتعريف أن أنواع الحكم
الوضعي كالسببية، والشرطية، والمانعية - وغيرها مما سيأتي ذكره -
لم تستفد إلا من الشرع، لذلك كانت أحكاماً شرعية، ولا يوجد
فيها طلب ولا تخيير، فلزم ذكر قيد: " أو الوضع "، ليكون
التعريف شاملاً لجميع أفراد المحدود.
المذهب الثاني: أن الحكم الشرعي قسم واحد هو: الحكم التكليفي.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كالبيضاوي وغيره.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء على ذلك بقولهم: إنه لا معنى لموجبية الدلوك
- مثلاً - إلا طلب الفعل عنده، ولا معنى لمانعية الحيض إلا حرمة
الصلاة معه، ولا معنى لصحة البيع إلا إباحة الانتفاع بالمبيع، فتكون
أنواع خطاب الوضع داخلة تحت الاقتضاء والتخيير.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأمرين:(1/132)
أولهما: أن المفهوم من الحكم الوضعي غير المفهوم من الحكم
التكليفي.
فالمفهوم من الحكم الوضعي هو: تعلُّق شيء بشيء آخر، وربطه
به، مثل: الربط بين الوجوب على الشخص وبين الوقت، فيكون
دخول الوقت سبباً لوجوب الصلاة على هذا الشخص.
وهذا بخلاف المفهوم من الحكم التكليفي، فهما مفهومان متغايران.
ثانيهما: أن لزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على
اتحادهما في جميع الصور بدليل الفروق التي أوجدها بعض العلماء بين
الحكم التكليفي والوضعي، وسأذكرها فيما بعد بالتفصيل إن شاء اللَّه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المذهبين خلاف لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على
إقرار الأحكام الوضعية كالسبب والشرط والمانع وغيرها - مما سيأتي -
ولم ينكرها أحد من الفريقين؛ حيث إنها أحكام شرعية متعارف
عليها؛ لأنها لم تصح إلا بوضع الشارع لها، مثلها مثل الأحكام
التكليفية ولا فرق بينها، لكن أصحاب المذهب الثاني أدخلوها ضمن
الحكم التكليفي، وأصحاب المذهب الأول أفردوها بالذكر.
والخلاصة:
أن الحكم الشرعي يتنوع إلى نوعين هما:
النوع الأول: الحكم التكليفي، وهو: خطاب اللَّه - تعالى -
المتعلِّق بفعل المكلف بالاقتضاء والتخيير.
النوع الثاني: الحكم الوضعي، وهو: خطاب اللَّه المتعلِّق بجعل
شيء سبباً لشيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه ... إلخ.
وسيأتي بيان أقسام كل واحد من النوعين إن شاء اللَّه.(1/133)
الفصل الثاني في الحكم التكليفي وأنواعه
ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: في اختلاف العلماء في التعبير عن أقسام
الحكم التكليفي.
المبحث الثاني: في بيان السبب في انحصار الحكم التكليفي
في أقسام خمسة.
المبحث الثالث: في بيان الحكمة من تنوع الأحكام التكليفية.
البحث الرابع: في أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية.
البحث الخامس: في بيان الأحكام التكليفية الخمسة عند
الجمهور بالتفصيل.(1/135)
المبحث الأول في اختلاف العلماء في التعبير عن أقسام الحكم التكليفي
أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور خمسة، واختلف العلماء في
التعبير عنها على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يُعبَّر عن أقسام الحكم التكليفي بـ "الوجوب "،
و" الندب "، و " الإباحة "، و " التحريم "، و " الكراهة ".
المذهب الثاني: أنه يُعبَّر عن تلك الأقسام بـ " الواجب "،
و" المندوب "، و " المباح "، و " الحرام "، و " المكروه ".
والأوْلى في التعبير هو الأول؛ وذلك لأن " الواجب " - مثلاً -
ليس حكماً، وإنما هو فعل مكلف تعلق به الإيجاب، فهو من
متعلقات الحكم وليس من أقسامه.
كذلك المندوب ليس حكماً، وإنما هو فعل مكلَّف تعلَّق به الندب
فهو من متعلقات الحكم، وليس من أقسامه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي؛ لاتفاق الفريقين على المعنى
والمراد، ولكن جاء هذا الاختلاف في الإطلاق بسبب ما لاحظه كل
فريق.
فمن لاحظ اعتبار المصدر المنبثق عنه: سمَّاه " إيجابا ".(1/137)
ومن لاحظ اعتبار تعلقه بفعل المكلف: سمَّاه " واجباً ".
فهما متحدان ذاتاً، مختلفان اعتباراً.
فالفعل الذي تعلق به الإيجاب يسمَّى واجباً.
والفعل الذي تعلق به الندب يسمَّى مندوباً.
والفعل الذي تعلقت به الإباحة يسمَّى مباحاً.
والفعل الذي تعلقت به الكراهة يُسمَّى مكروهاً.
والفعل الذي تعلق به التحريم يسمَّى حراماً.
قال عضد الدين: " الحكم الشرعي هو نفس خطاب اللَّه - تعالى -
وهو إذا نُسب إلى الحكم سُمِّي إيجابا، وإذا نُسب إلى ما فيه الحكم
سُمَي وجوباً، وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار ".(1/138)
المبحث الثاني في بيان سبب انحصار الحكم التكليفي
في أقسام خمسة عند الجمهور
السبب في ذلك أن خطاب الشرع التكليفي يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يكون خطاب الشرع قد اقتضى الفعل من المكلف
وطلبه منه.
النوع الثاني: أن يكون خطاب الشرع قد اقتضى الترك من المكلف
وطلبه منه.
النوع الثالث: أن يكون خطاب الشرع قد خيَّر المكلف بين الفعل
والترك.
أما النوع الأول: وهو اقتضاء الفعل - فهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما أمر الشارع به واقترن بهذا الأمر ما يدل على
عدم العقاب إذا ترك المكلف فعل المأمور به، فهذا هو الندب،
كقوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) ، فهذا أمر بإعتاق
العبيد الذين فيهم خير للإسلام والمسلمين، وهو للندب، لا للوجوب؟
لأنه اقترن به ما يدل على عدم العقاب على ترك الإعتاق، حيث، إن
بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - لم يعتقوا ما عندهم من عبيد
وإن كان فيهم صلاح، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فالقرينة الصارفة هي: السُّنَّة التقريرية.
القسم الثاني: ما أمر الشارع به، ولم يقترن بهذا الأمر ما يدل(1/139)
على عدم العقاب إذا ترك المكلف فعل المأمور به، فهذا هو الإيجاب
كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) .
أما النوع الثاني - وهو اقتضاء الترك - فهو ينقسم إلى قسمين - أيضاً -:
القسم الأول: ما نهى عنه الشارع واقترن بهذا النهي ما يدل على
عدم العقاب إذا فعل المكلف ما نهي عنه، فهذا هو الكراهة مثل نهيه
- صلى الله عليه وسلم - عن تشبيك الأصابع بعد الوضوء للصلاة.
فهذا - النهي للكراهة؛ لأنه اقترن به ما يدل على عدم العقاب إذا
فعل المنهي عليه؛ حيث روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شبَّك بين أصابعه وهو في انتظار الصلاة.
القسم الثاني: ما نهى عنه الشارع ولم يقترن بهذا النهي ما يدل
على عدم العقاب إذا فعل المكلف ما نهي عنه، فهذا هو " الحرام "
كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) .
أما النوع الثالث - وهو: ما خُيَر المكلف فيه بين الفعل والترك
- فهذا قسم واحد، وهو: " الإباحة "، مثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - حينما سئل عن الوضوء من لحوم الغنم -: " إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ ".(1/140)
المبحث الثالت في بيان الحكمة من تنوع الأحكام التكليفية إلى واجب
ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام
لقد تنوعت الأحكام التكليفية لحكم كثيرة، ومنها:
الحكمة الأولى: رفع الحرج والشقة عن المكلفين، بيان ذلك:
أن الأحكام التكليفية وضعت لمصلحة العباد، فلو قصر تلك
لتكاليف على الوجوب والتحريم - فقط - للزم من ذلك الحرج
والتضييق عليهم، فبعض العبيد قد لا يستطيع امتثال جميع الأوامر
والنواهي، ففتح اللَّه عَزَ وجَلَّ باب المباحات، والمندوبات،
والمكروهات، تخفيفاً عليهم، وذلك لعلمه - سبحانه - أن العبد
فيه ضعف من فعل الواجبات، وترك المحرمات.
الحكمة الثانية: الابتلاء والامتحان من اللَّه تعالى للمكلفين، وبيان
ذلك:
أن امتثال الواجبات، واجتناب الحرمات أقرب إلى النفس
الضعيفة التي تخاف العقاب، دون رغبة في زيادة الثواب.
لكن إذا قوي إيمان العبد، وعرف أن هذه الأحكام التكليفية
- جميعها - إنما شرعت لمصلحته، وهي السبيل لسعادته في الدنيا
والآخرة، فإنه لا يرضى أن يقف عند حدود الواجب، بل يتعداه
إلى فعل المندوبات والفضائل، ليتقرب إلى اللَّه تعالى بذلك، كما
ورد في الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل
حتى أحبه.. "، وكذلك لا يرضى هذا العبد أن يقتصر على
اجتناب المحرمات، بل يتعدَّى ذلك فيجتنب المكروهات.(1/141)
المبحث الرابع في أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية
ما سبق هي أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور.
أما عند الحنفية، فإن أقسام الحكم التكليفي عندهم سبعة، وهي:
" الفرض "، و " الإيجاب "، و " الكراهة التحريمية "، و " الحرام "
و" الكراهة التنزيهية "، و " الندب "، و " الإباحة ".
وسبب تفريقهم بين " الفرض " و " الإيجاب ": أنهم يقسمون
طلب الفعل على سبيل الجزم إلى قسمين:
الأول: طلب الشارع الفعل على سبيل الجزم بدليل قطعي،
وهذا يسمونه " فرضا ".
الثاني: طلب الشارع الفعل على سبيل الجزم بدليل ظني، وهذا
يسمونه " الواجب ".
وسبب تفريقهم بين " الحرام "، و " الكراهة التحريمية ": أنهم
يقسمون طلب الترك على سبيل الجزم إلى قسمين:
الأول: طلب الشارع ترك الفعل على سبيل الجزم بدليل قطعي،
وهذا يسمونه حراما.
الثاني: طلب الشارع ترك الفعل على سبيل الجزم بدليل ظني،
وهذا يسمونه " كراهة تحريم ".(1/142)
المبحث الخامس في بيان الأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور بالتفصيل
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول: في الواجب.
المطلب الثاني: في المندوب.
المطلب الثالث: في المباح.
المطلب الرابع: في المكروه.
المطلب الخامس: في الحرام.(1/143)
المطلب الأول في الواجب
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريف الواجب:
أولاً: الواجب لغة.
ثانياً: الواجب اصطلاحاً.
المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين الواجب والفرض؟
المسألة الثالثة: صيغ الواجب.
المسألة الرابعة: تقسيمات الواجب.
المسألة اتامسة: الواجب المعين والواجب المخير:
أولاً: تعريفهما والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما.
ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم، أو أنه
متعلق بكل فرد من الأفراد المخير بينها؟
ثالثاً: شروط الواجب المخير.
رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخير بينها؟
المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت:
أولاً: بيانه والأمثلة عليه.
ثانية: متى يتضيق الوقت في هذا الواجب؟
ثالثا: هل يعصي بالموت - هنا -.(1/145)
المسألة السابعة: الواجب المضيق والواجب الموسع:
أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع.
ثانياً: تعريف الواجب المضيق، والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما.
تالثاً: الواجب الموسع هل هو ثابت.
رابعاً: في بيان فرق منكري الواجب الموسع ودليل كل فرقة مع
الجواب عنه.
خامساً: الاختلاف في اشتراط العزم.
سادساً: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته.
سابعاً: إذا فعل المكلف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه
لا يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء.
ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟
المسألة الثامنة: الواجب المحدد، والواجب غير المحدد:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما.
ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب.
المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب التسمية بذلك.
ثانياً: متى يتحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟
تالقاً: شروط فرض الكفاية.
رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟
خامساً: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه.
سادساً: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟
المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو واجب.(1/146)
المسألة الأولى: في حقيقة الواجب:
أولاً: الواجب لغة:
الواجب لغة هو: الساقط، يقال: " وجب الحائط ": إذا سقط
ويقال: " وجب الميت " إذا سقط ومات، ومنه قوله تعالى:
(فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت على الأرض.
ومعنى الوجوب لغة: السقوط، حيث إنا نتخيل الحكم أو الشيء
الواجب جزماً سقط، أي: وقع على المكلف من اللَّه تعالى.
ويطلق الواجب على اللازم والثابت، يقال: " وجب الشيء "
أي: لزم.
ثانياً: الواجب اصطلاحا:
هو: " ما ذُمَ تاركه شرعاً مطلقاً ".
شرح التعريف وبيان محترازته:
قولنا: " ما " موصولة بمعنى " الذي "، وهو صفة لموصوف
محذوف تقديره " الفعل "، لأن الواجب هو: الفعل الذي تعلق
به الإيجاب، والمقصود: " فعل المكلف ".
و" ما " التي تعود إلى " فعل المكلف " جنس في التعريف يشمل
الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.
قولنا: " ذم " الذام هو الشارع، والمراد بالذم: اللوم والاستنقاص.
وهو قيد في التعريف أخرج المندوب، لأن المندوب لا ذم على
تركه.(1/147)
وأخرج المكروه، لأن المكروه لا ذم على فعله، وأخرج المباح،
لأن المباح لا ذم على تركه، ولا على فعله.
وعبَّرنا بلفظ: " ذم " - على أنه فعل ماض -، لأن هذه المذام
قد وقعت، ووردت فى الكتاب والسُّنَّة.
ولو ذكرنا اللفظة " ذم " بلفظ " يُذَم " - فعل مضارع - لأشعر
بأن تلك المذام لم تقع.
قولنا: " تاركه " اسم فاعل مشتق من الترك، وقد أخرج بهذا
اللفظ " المحرم "، لأن المحرم يذم على فعله، لا على تركه.
قولنا: " شرعاً " منصوب على التمييز، فيفيد أن الذام هو
الشارع فقط، أي: أن الذم يعرف من جهة الشرع، لا من جهة
العقل، خلافاً لما زعمه أكثر المعتزلة في قولهم: " التحسين والتقبيح
العقليين ".
والمراد: ما ورد ذمه في كتاب اللَّه، وسُنَّة رسوله، وإجماع
الأُمَّة.
قولنا: " مطلقا ": قيد في التعريف يفيد أن الذي يترك الواجب
مطلقاً هو الذي يذم.
أما من تركه؛ لأنه سيقضيه في آخر الوقت، أو من تركه ليقضي
نوعا آخر مثله، أو من تركه، لأن بعض المسلمين فعله، فإن هذا لا
يذم.
وقلت ذلك؛ لأن من أقسام الواجب: " الواجب الموسع "،
و"الواجب المخير "، و " الواجب الكفائي ".
فالواجب الموسع هو: ما كان فيه الوقت أزيد من الفعل كالصلاة.(1/148)
والواجب المخير هو: ما صح للمكلف أن يفعل أي فرد من أفراده
التي حصل فيها التخيير كخصال الكفارة في اليمين وهي: الإطعام،
أو الكسوة، أو الإعتاق.
والواجب الكفائي هو: ما سقط بفعل بعض المكلفين كصلاة
الجنازة.
فترك الواجب الموسع يوجب الذم إذا ترك في جميع الوقت، ولا
يوجب الذم إذا ترك في بعض الوقت، وعزم على فعله في آخر
وترك الواجب المخير يوجب الذم، إذا ترك جميع الخصال، ولا
يوجب الذم إذا ترك خصلة من الخصال المخير بينها، وعزم على فعل
الخصلة الأخرى.
وترك الواجب الكفائي يوجب الذم إذا تركه جميع المكلفين.
ولا يوجب الذم إذا ترك من البعض وفعل من البعض الآخر.
وهناك تفصيلات واعتراضات على هذا التعريف ذكرتها مع
الأجوبة عنها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "،
و" الواجب الموسع عند الأصوليين " فراجعهما إن شئت.
المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين " الواجب " و " الفرض "؟
اتفق العلماء - من حيث اللغة - على: أن مفهوم هذين اللفظين
- الفرض والواجب - مختلف، ومعناهما متباين:
فالفرض لغة: التقدير والحز والقطع.
والواجب لغة: الساقط، والثابت.(1/149)
أما من جهة الشرع، فقد اختلف العلماء في الفرض والواجب
هل هما مترادفان، أو مختلفان على مذهبين:
المذهب الأول: أن الفرض والواجب غير مترادفين، بل يدلان
على معنيين مختلفين.
ذهب إلى ذلك الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو
اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي إسحاق بن شاقلا، والحلواني،
وحكاه ابن عقيل عن كثير من الحنابلة.
وهذا هو الصحيح عندي فيكون الفرض: اسم لما ثبت وجوبه
بطريق مقطوع به، أي: أن الفرض: ما ثبت حكمه بدليل قطعي
مثل: الآية التي قطع بدلالتها على الحكم، والحديث المتواتر الذي
قطع بدلالته على الحكم، والإجماع الصريح الذي نقل إلينا نقلاً
متواتراً.
والواجب هو: اسم لما ثبت من طريق غير مقطوع به، أي: أن
الواجب: ما ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد، والقياس،
والإجماع السكوتي،. ودلالات الألفاظ الظنية.
وقد صححته؛ لأدلة، من أهمها:
الدليل الأول: أن هناك فرقا بين الفرض والواجب عند أهل اللغة.
فالفرض في اللغة: الحز في الشيء والتأثير فيه.
أما الوجوب فهو في اللغة: السقوط.
فإذا ثبت هذا: فالتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط
ولا يؤثر.
فكل من الفرض والواجب لازم، إلا أن تأثير الفرضية أكثر من(1/150)
تأثير الوجوب، ومنه سمي الحز في الخشبة فرضاً لبقاء أثره على كل
حال، وسمي السقوط على الأرض وجوباً؛ لأنه قد لا يبقى أثره في
الباقي.
وإذا كان الأمر كذلك: وجب اختصاص الفرض بقوة في الحكم
كما اختص بقوة في اللغة؛ حملاً للمقتضيات الشرعية على
مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير.
الدليل الثاني: أن العلماء قد اتفقوا على أن الدليل القطعي ثبوتاً،
ودلالة يفيد علماً أقوى مما يفيده الدليل الظني ثبوتاً ودلالة، وبناء
على ذلك لا بد من التفريق بين الحكم الثابت بدليل قطعي، لإفادته
علماً يقينياً، وبين الثابت بدليل ظني المفيد ظناً قوياً، فيطلق على
الثابت بالأول اسم " الفرض "، ويطلق على الثابت بالثاني اسم
"الواجب " وذلك من أجل تسهيل التمييز بينهما لتصبح دلالة كل
اسم على نوعه أدق وأوضح دون حاجة إلى قرائن.
ولو لم يعتبر هذا التفريق لزم رفع الدليل المظنون إلى رتبة المقطوع
من جهة، وحط الدليل المقطوع به إلى رتبة المظنون من جهة أخرى.
الدليل الثالث: أن وجود التفاوت بينهما في الآثار والأحكام
يجعلنا نخص كل نوع باسم، بيان ذلك:
أن حكم الفرض يكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر.
أما حكم الواجب فلا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إذا استخف به
أما إذا تأول فلا.
وإن الحج يشتمل على فروض، وواجبات، وأن الفرض لا يتم
النسك إلا به، والواجب يجبر بدم.(1/151)
وأن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات، والفروض هي:
الأركان.
وأن الواجب يجبر إذا ترك نسياناً بسجود السهو، والفرض لا يقبل
الجبر..
أي: أن المكلف إذا ترك فرضاً كالركوع أو السجود بطلت صلاته،
ولا يسقط في عمد ولا سهو، ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة، أما إذا
ترك واجباً فإن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة.
الدليل الرابع: أن هناك فرقاً بين الفرض والواجب في عادة أهل
الشرع، فتجدهم يفرقون بين الفرض والواجب في التعبير عن
الأحكام الشرعية، فيقولون - مثلاً -: في الديون والشفعة:
واجبات، ولا يقولون: إنها فروض، وبقول القائل منهم:
"أوجبت على نفسي "، ولا يقول: " فرضت على نفسي "، فبان:
أن معنى اللفظين مختلف في عادة أهل الشرع.
الدليل الخامس: أن هناك فرقاً بينهما عن طريق العقل، حيث
إن كل عاقل يجد في عقله أن صلاة الظهر آكد من الصلاة المنذورة،
والزكاة آكد من النذر في الصدقة، وإن كانتا لازمتين.
وإذا كانت هذه الأمور يجدها كل عاقل في نفسه، فإنه ينبغي أن
يفرق ما هو آكد عما هو دونه باسم يعرف به، فيجعل اسم الفرض
عبارة عما كان في أعلى المراتب من الوجوب، ويجعل اسم
الواجب عبارة عما كان دونه، فرقاً بين الاثنين.
المذهب الثاني: أن الفرض والواجب مترادفان، أي: أنهما اسمان
لمسمى واحد، ولفظان يطلقان على مدلول واحد، وهو: الفعل
الذي ذم تاركه شرعاً مطلقاً، أو هو: طلب الشارع المقتضي(1/152)
فعل المكلف طلباً جازماً، سواء كان هذا الطلب بدليل ظني، أو
قطعي.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة
بعضها على بعض لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما، بدليل:
أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة، وثبت بأخبار الآحاد، والكل
متساو، فكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة، وأخبار آحاد،
والكل متساو.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قوة بعض أسباب
الوجوب على بعضها الآخر توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما
كان معلوماً أنه مراد اللَّه - تعالى - قطعاً، فإنه مخالف لما كان
مظنوناً، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف لما لا يستحق هذه الصفة،
ومتى ما اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها اختلفت الأسامي التي
تستعمل فيها، لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها.
الدليل الثاني: أنهما متساويان في الحد؛ حيث إن حد الواجب
- وهو: ما ذم تاركه شرعاً مطلقاً - ينطبق على الفرض تماماً، ولا
فرق، فإذا كانا متساويين في هذا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر،
كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحداً - وهو: ما يحمد فاعله
ولا يذم تاركه - لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الفرض وإن ساوى(1/153)
الواجب في ذم وعقاب تارك الفعل، فقد خالفه من وجه آخر،
وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فهذه المخالفة منعت من
المساواة في التسمية، قياساً على الندب والمباح، فإنهما تساويا في
سقوط الذم عن التارك لهما، واختلفا في التسمية، وذلك نظراً
لاختلافهما من وجه آخر، وهو: أن الندب يحمد فاعله ويثاب،
والمباح لا يحمد فاعله ولا يثاب.
فكذلك هنا، فإن الفرض والواجب وإن تساويا في الحد، فإنهما
اختلفا من وجه آخر، وهو طريق الثبوت، فالواجب ثبت عن
طريق مظنون، والفرض ثبت عن طريق مقطوع به، فلزم أن يختلفا
في التسمية.
بيان نوع الخلاف:
إن الخلاف في هذه المسألة قد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف معنوي له ثمرة، فقد رتب أصحاب
المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - على الحكم بفرضية الشيء:
كفر جاحده، وعدم إمكان جبره، أما الحكم بوجوب الشيء فلا
يكفر جاحده، ويمكن جبره، وكذلك قالوا: إن قراءة القرآن في
الصلاة فرض، لثبوته بدليل قطعي، وهو قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أما قراءة الفاتحة في الصلاة فهي واجبة، لثبوت
ذلك بالدليل الظني، وهو خبر الواحد الذي رواه عبادة بن الصامت:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
القول الثاني: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، لأنه لا نزاع بين
أصحاب المذهبين في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من
التكاليف إلى قطعي وظني، ولا نزاع بينهم - أيضا - على تسمية
الظني واجباً.(1/154)
ولكن النزاع حصل في القطعي، فأصحاب المذهب الثاني يسمونه
" فرضاً "، و " واجباً " بطريق الترادف.
وأصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - يسمونه باسم
"الفرض "، وذلك مما لا يضر أصحاب المذهب الثاني، فليسم كل
فريق بما شاء، وهو مجرد اصطلاح.
والراجح عندي التفصيل:
فإن نظر إلى الأمر وأنه حقيقة للوجوب بمعنى الطلب الجازم بقطع
النظر عن كون الدليل قطعياً أو ظنياً، فإن الخلاف يكون لفظياً.
وإن نظر إلى أحكام كل منهما وما يفيده، فإن الخلاف يكون
معنوياً؛ فإن أصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - قد
ذكروا أحكاماً شرعية وفرَّقوا بينها وبين الأحكام الأخرى، وكان
سبب هذا التفريق هو تفريقهم بين " الفرض " و " الواجب ".
وقد بسطت القول في ذلك في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر
بشرح روضة الناظر "، و " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت.
المسألة الثالثة: في صيغ الواجب:
الصيغ التي تدل على الواجب هي ما يلي:
الأولى: فعل الأمر، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الز اة) .
الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله تعالى:
(وليطوفوا بالبيت العتيق) .(1/155)
الثالثة: اسم فعل الأمر، كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم) .
الرابعة: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى:
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) .
الخامسة: التصريح من الشارع بلفظ الأمر، كقوله تعالى:
(إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) .
السادسة: التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض، أو الكتب،
كقوله تعالى: (فريضة من الله) ، وقوله: (كتب عليكم القصاص) .
السابعة: كل أسلوب في لغة العرب يفيد الوجوب، كقوله
تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) .
الثامنة: ترتيب الذم والعقاب على الترك، كقوله تعالى:
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
المسألة الر ابعة: تقسيمات الواجب:
الواجب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات مختلفة إلى أربعة تقسيمات:
التقسيم الأول:
الواجب باعتبار ذاته - أي: بحسب الفعل المكلف به - ينقسم
إلى قسمين:
القسم الأول: " الواجب المعيَّن ".(1/156)
القسم الثاني: " الواجب المخيَّر ".
فالواجب المعيَّن، مأخوذ من التعيين، وهو: التخصيص،
فيكون الواجب المخصَّص.
وهو في الاصطلاح: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً بعينه،
دون تخيير بينه وبين غيره.
أي: أنه الذي تعين المطلوب به بشيء واحد لا خيار للمكلف في
نوعه، فلا يمكن أن تبرأ ذمته - وهو المطالب به - إلا إذا فعله بعينه.
ومن أمثلته: الصلوات المفروضة، وصيام رمضان، والزكاة،
والحج، وأداء الديون، والوفاء بالعهد، أو نذر عتق هذا العبد،
ونحو ذلك.
وأما الواجب المخيَّر فهو لغة من التخيير وهو: التفويض.
يقال: " خيرته بين الشيئين " إذا فوضت إليه الاختيار.
والمراد بالواجب المخيَّر هو الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً لا
بعينه، بل خيَّر في فعله بين أفراده المحصورة المعينة.
أي: أنه الذي لم يتعين المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له
أفراد، وخيَّر المكلف فيه بأن يأتي بما شاء منها.
مثاله: كفارة اليمين؛ حيث إن الشارع قد طلب من المكلف أن
يكفر عن يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي:
" الإطعام " أو " الكسوة " أو " الإعتاق ".
ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) .(1/157)
والمكلف إذا فعل واحداً من الأفراد المعين بينها، فإن ذمته تبرأ،
فإن تركها جميعاً أثم بذلك، ويسميه بعضهم بـ " الواجب المبهم ".
التقسيم الثاني:
الواجب باعتبار وقته وزمن أدائه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول؛ الواجب غير المؤقت، وهو " الواجب المطلق ".
القسم الثاني: الواجب المؤقت.
أما الواجب المطلق فهو: لغة: مأخوذ من الإطلاق وهو:
التخلية والإرسال، والترك، يقال: " أطلقت الأسير ": إذا حللت
أسره وأخليت سبيله، ويقال: " أطلقت القول ": إذا أرسلته من
غير تقييد ولا شرط.
والمراد بالواجب المطلق هو: الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من
المكلف طلبا جازما، ولم يحدد وقتا معيناً لأدائه وإيقاعه فيه.
ومن أمثلته: كفارة اليمين؛ حيث إنها واجبة مطلقة.
وأما الواجب المؤقت: فهو الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من
المكلف طلبا جازما وحدد له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه فيه.
وهو نوعان:
النوع الأول: الواجب المضيَّق، من ضاق يضيق ضيقا: خلاف
اتسع، يقال: " ضاق الرجل فهو مضيق عليه ": إذا ضاق عليه
معاشه ورزقه، بحيث يكفي يومه فقط بدون زيادة -
والواجب المضيَّق اصطلاحاً: هو الفعل الذي طلبه الشارع من
المكلف طلبا جازما محدِّداً وقت وزمن أدائه، بحيث يسعه وحده،
ولا يسع غيره من جنسه.(1/158)
أو تقول: إن المراد منه: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت
مساو لوقت أدائه بلا زيادة ولا نقصان، ويطلق عليه الحنفية اسم
"المعيار".
مثل: صيام يوم من رمضان، فالشارع ألزم المكلف الذي لا عذر
له صيام ذلك اليوم، واليوم يبدأ من الفجر الصادق إلى غروب
الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع لفعل شيء
آخر معه.
ولا يصح فعله قبل دخول وقته، وإذا فعله بعد خروج وقته يكون
فعله هذا قضاء، ولا يمكن أن يقع معه في وقته غيره من جنسه.
ويمثل له الشافعية بوقت صلاة المغرب على القول الجديد؛ إنه
ليس لها إلا وقت واحد، وهو بمقدار ما يتطهر، ويستر العورة،
ويؤذن، ويقيم الصلاة، ويدخل فيها، فإن أخَّر الدخول عن هذا
الوقت أثم.
النوع الثاني - من نوعي الواجب المؤقَّت: " الواجب الموسَّع ".
والتوسيع لغة: بخلاف التضييق، يقال: " استوسع الشيء ":
وجده واسعا.
والمراد بالواجب الموسَّع هو: الفعل الذي يكون وقته واسعاً لأدائه
وأداء غيره من جنسه.
والمراد بالواجب الموسَّع: هو الفعل الذي طلب الشارع من
المكلف إيقاعه وأداءه طلباً جازماً في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه.
كالصلوات الخمس، فصلاة الظهر مثلاً واجب موسَّع؛ حيث إنه(1/159)
يجوز أن يصلي المكلف في أول الوقت، أو في وسطه، أو في
آخره.
التقسيم الثالث:
الواجب باعتبار تحديد الشارع للمكلَّف فيه وعدم تحديده
ينقسم إلى قسمين.
القسم الأول: الواجب المحدَّد.
القسم الثاني: الواجب غير المحدَّد.
أما الواجب المحدَّد فهو مأخوذ من الحد، وهو الفصل والمنع،
يقال: " حدَّ بين الشيئين " أي: فصل بينهما.
فالتحديد يكون هو: الفصل بين أشياء بفاصل.
فالمراد بالواجب المحدَّد هو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً
وقد حدَّده الشارع، وقدَّره بمقدار معيَّن وفصله عن غيره.
مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة بركعات محددة.
ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر إذا كان محدداً.
وغسل الرجلين، واليدين، ونحو ذلك.
وأما الواجب غير المحدد فهو: الذي لم يعيِّن له الشارع مقداراً
معيناً، بل طلبه بغير تحديد.
مثل: الطمأنينة في الركوع والسجود.
التقسيم الرابع:
الواجب باعتبار فاعله، أي: باعتبار المخاطبين به ينقسم إلى قسمين:(1/160)
القسبم الأول: " الواجب العيني ".
القسم الثاني: " الواجب الكفائي "..
فالواجب العيني هو: ما يتحتم أداؤه على مكلف بعينه.
أو هو: ما طلب الشارع حصوله من كل واحد من المكلفين مثل:
الصلاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك.
وسُمِّي بالواجب العيني، لأن الفعل الذي تعلَّق به الإِيجاب
منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة.
فهذا الواجب يلزم الإتيان به من كل واحد من المكلفين بعينه،
بحيث لا تبرأ ذمته إلا بفعله.
أما الواجب الكفائى فهو: ما يتحتم أداؤه على جماعة من
المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد
أُدِّي الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين.
مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على
الميت، وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، ونحو ذلك.
وسُمِّي بالواجب الكفائي، لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من
حيث إن فعله من أي فاعل سقط طلبه عن الآخرين، فالقصد من
الوجوب الكفائي هو: وقوع الفعل نفسه؛ لما يترتب عليه من جلب
مصلحة، أو رد مفسدة بصرف النظر عمن يقع منه ذلك الفعل.
وسيأتي - إن شاء اللَّه - البيان التفصيلي لهذه التقسيمات في
المسائل الآتية:
المسألة الخامسة: الواجب المعيَّن، والواجب المخيَّر:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما:(1/161)
الواجب المعيَّن - كما سبق بيانه - هو: ما طلبه الشارع بعينه،
دون تخيير بينه وبين غيره كالصلوات الخمس، والصيام، والزكاة،
ونحو ذلك.
وهذا النوع أكثر الواجبات.
وحكمه: عدم براءة ذمة المكلَّف إلا إذا فعله بعينه.
أما الواجب المخيَّر - أو المبهم - فهو ما طلبه الشارع لا بعينه،
بل خيَّر الشارع في فعله بين أفراده المعينة المحصورة.
أو هو: الذي لم يتعيَّن المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له
أفراد، وخيَّر المكلَّف فيه بأن يأتي بأي منها.
مثل كفارة اليمين، فقد طلب الشارع من المكلَّف أن يكفِّر عن
يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي: " الإطعام "،
أو " الكسوةً "، أو " العتق "، قال تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .
ومثل: تخيير الإمام في حكم الأسرى بين المن والفداء، قال
تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
ومثل: التخيير في جزاء الصيد الوارد في قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)
ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فمن كان
منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) .
وحكم الواجب المخيَّر: أن المكلف تبرأ ذمته بفعل أي واحد من
أفراده فإن تركها جميعاً أثم.(1/162)
ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم أو أنه
متعلق بكل الأفراد المخير بينها؟
اعلم أن الخطاب الطالب للفعل طلباً جازماً - وهو ما يعرف
بالإيجاب - قد يتعلَّق بفعل معين كالخطاب الطالب للصلاة،
والطالب للزكاة، وهو المسمى بالواجب المعين.
وقد يتعلق بفعل مبهم من أمور معيَّنة كالخطاب المتعلِّق بكفارة
اليمين، وهو المسمَّى بالواجب المخيَّر.
فأما الواجب المعيَّن: فلا شك في أن الخطاب المتعلِّق به يقتضي
إيجاب ذلك المعين بعينه من صلاة، وصيام وزكاة، وقد أجمع
العلماء على ذلك.
أما الواجب المخيَّر فقد اختلف العلماء فيه.
أي: اختلف العلماء في الخطاب الوارد في الواجب المخيَّر أين
يتعلق؟
أو تقول: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم من
الأمور المخير بينها، أو أنه متعلق بكل فرد من أفراده؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الخطاب في الواجب المخيَّر إنما يتعلَّق بواحد
مبهم من الأمور المخير بينها.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الفقهاء والأصوليين، ونقل
القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع سلف الأُمَّة وأئمة الفقهاء عليه.
وهو الصحيح عندي، وعلى هذا فالمكلَّف مخير في تحقيق
الخطاب في أي فرد من هذه الأفراد المعينة المخيَّر بينها، فأيُّ فردٍ فعله(1/163)
المكلَّف منها يسقط ما وجب عليه، فمثلاً في كفارة اليمين: لو فعل
" الإطعام " سقطت عنه " الكسوة " و " العتق "، ولو فعل "الكسوة"
سقط عنه الإطعام، والعتق، ولو فعل العتق سقط الإطعام والكسوة،
وهكذا، فالواجب منها واحد لا بعينه، أي: متعلق الإيجاب
والخطاب هو الواحد لا بعينه، ويتعين ذلك الواحد بالفعل.
فلا يوصف كل واحد من الأمور المخير بينها بأنه واجب بخصوصه.
بل يصح أن يوصف بأنه واجب من حيث إن الواجب يتحقق فيه.
وقد اخترته للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن العقل لا يمنع منه: فلو أن السيد قال لعبده:
"أمرتك أن تخيط هذا القميص في هذا اليوم، أو تبني هذا الحائط
في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به، وأثبتك عليه، وإن تركت
الجميع عاقبتك، وأنا لا أوجب الخياطة والبناء معاً عليك، بل
أوجب أحدهما لا بعينه أيهما شئت ": كان هذا القول معقولاً.
فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً، وذلك
لأن السيد صرح بعقاب العبد لو ترك الكل.
ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد فعل الخياطة
والبناء معاً في اليوم نفسه، لأن السيد صرح بنقيض ذلك.
ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد واحداً معينا،
لأن السيد صرَّح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير.
وإذا بطلت هذه الأمور الثلاثة: لم يبق إلا أن يقال: المأمور به
واحد لا بعينه: إما الخياطة، أو البناء، أيهما فعل فإنه سينال
الثواب من السيد.(1/164)
الدليل الثاني: العقل لا يمنع من جهة أخرى، حيث لا يمتنع عقلاً
أن يتعلق غرض السيد بفعل واحد غير معين، لأن كلًّا من فعل
الخياطة، أو فعل البناء يفي بهذا الغرض، وهو: طاعة السيد وعدم
مخالفته، فأي واحد منهما فعله العبد، فإنه يكون قد سلم من
العقاب، وفاز بالثواب بسبب فعله، فإذا كان الأمر كذلك، فلا
مانع من أن يطلب السيد من العبد ما يفي بغرضه، وهو: فعل شيء
غير معن - فقط - ويكون التعيين - حينئذ - زيادة وفضلة لا يتعلق
بها غرض السيد، فلا يطلبه من العبد.
فينتج: أن إيجاب واحد غير معين من أمور محصورة لا مانع منه
عقلاً.
الدليل الثالث: الوقوع، حيث وقع التخيير بين أمور في الشرع
كما ورد في كفارة اليمين؛ حيث قال لعالى: (فكفارته إطعام
عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير
رقبة) .
وفي جزاء الصيد على المحرم؛ حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)
وفي تخيير الشارع للإمام بين المن والفداء؛ حيث قال تعالى:
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
وفي تخيير الشارع للحاج في فدية حلق الرأس لعذر؛ حيث قال
تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن عجرة -:(1/165)
" احلق رأسك، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة
مساكين ".
وفي وجوب تزويج المرأة المستحقة للنكاح من أحد الكفؤين
الخاطبين.
وفي وجوب عقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها.
فعندنا ثلاثة احتمالات في هذه الأمثلة هي كما يلي:
الأول: إما أن يقال في هذه الأمثلة الستة: إن المراد وجوب جميع
المخيَّر بينها.
الثاني: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد بعينه.
الثالث: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد لا بعينه.
أما الأول - وهو: أن المراد وجوب جميع المخيَّر بينها - فهو
باطل؛ لأنه لو كان التخيير يوجب تعلُّق الوجوب بالجميع لترتب
على ذلك ما - يلي:
1 - لزوم أن جميع خصال كفارة اليمين واجبة، وهذا خلاف
الإجماع.
2 - ولزم - أيضاً -: الجمع بين جزاء الصيد، وهذا مخالف
للصحيح من أقوال العلماء.
3 - ولزم - أيضا -: الجمع بين المن والفداء بالنسبة للأسرى،
وهذا ظاهر البطلان.
4 - ولزم - أيضا -: الجمع بين الصيام، والصدقة، والنسك
في فدية الأذى، وهو خلاف الإجماع.(1/166)
5 - ولزم - أيضاً -: تزويج المرأة من الكفؤين الخاطبين معا،
وهذا خلاف الإجماع.
6 - ولزم - أيضا -: عقد الإمامة للرجلين الصالحين لها - معاً -
وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى الفساد.
أما الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - فهذا باطل
- أيضاً -، لأن الشارع صرح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير.
فمثلاً: لو كان التخيير يوجب خصلة معينة من خصال كفارة
اليمين، أو يوجب تزويج واحد بخصوصه، أو عقد الإمامة لواحد
معين، لامتنع التخيير، وهذا باطل؛ ضرورة تحقق التخيير بكلمة
"أو"، فيلزم من ذلك بطلان وجوب واحد بعينه.
أي: أن التخيير لو كان موجباً لوجوب واحد بعينه، لكان موجباً
لنقيضه، لأن التخيير ينافي التعيين، حيث إن التخيير يجوِّز ترك
المعين، والتعيين لا يجوّزه فاختلفا.
ولا بطل الاحتمال الأول - وهو: أن المراد وجوب الجميع -
وبطل الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - صح الثالث -
وهو: أن المراد وجوب واحد لا بعينه - أي: أن الخطاب متعلق
بواحد لا بعينه، ويتعين بفعل المكلف، فإذا فعل المكلَّف أحد الأفراد
المخيَّر بينها كان هو الواجب عليه، ويسقط عنه الباقي.
المذهب الثاني: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من
أفراده المحصورة، أي: أن جميع الأشياء المأمور بها في الواجب
المخير واجبة على طريق التخيير، ولم يتعلق الإيجاب بواحدٍ مبهم.
ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وعلى رأسهم الجبائيان: أبو
عليّ وابنه أبو هاشم، ونسب إلى ابن خويز منداد من المالكية.(1/167)
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يستحيل اجتماع الوجوب مع التخيير؛ لأن
التخيير ينافي الوجوب؛ لأن معنى وجوب الجميع: أنه لا تبرأ ذمة
المكلَّف إلا بفعل الجميع، ومقتضى التخيير: أن الذمة تبرأ بفعل أيها
شاء، وهما لا يجتمعان، فيلزم أن الجميع واجب على التخيير.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن هذا الدليل لكم منقوض
بخصال كفارة اليمين، والأمثلة التي ذكرناها سابقا.
فالله عَزَّ وجَلَّ يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواجب
الذي ليس بمعيَّن غير معيَّن، وإذا أتى بها المكلَّف كلها سقط الفرض
بالأمر الذهني.
الدليل الثاني: أنه يستحيل التكليف بواحد مبهم؛ لأنه مجهول،
والتكليف بالجهول محال، فيلزم التكليف بكل - واحد من هذه الأمور.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عن ذلك -: إن الواحد المبهم ليس
مجهولا؛ لأن الواجب المخيَّر هو: القدر المشترك الذي يتحقق
حصوله بحصول جزء من جزئيات المخيَّر فيه، وحينئذ لا تكون هناك
جهالة.
الدليل الثالث: قياس الواجب المخيَّر على الواجب الكفائي،
بيان ذلك:
إنه كما أن الوجوب في الواجب الكفائي على الجميع ويسقط بفعل
بعضهم، فكذلك في الواجب المخيَّر نقول بوجوب الجميع، فإذا
فعل واحداً سقط الباقي.(1/168)
جوابه:
يمكن أن يجاب - عنه - ويقال: إن هذا القياس فاسد؛ لأمرين:
الأول: أنه قياس مع النص؛ حيث وردت نصوص شرعية تفيد
وجوب واحد من عدة أمور كخصال كفارة اليمين، والتخيير في
الأسرى، والتخيير في جزاء الصيد، والتخيير في فدية الأذى،
ونحو ذلك مما سبق.
الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن تأثيم الواحد
المبهم في الواجب الكفائي بعيد، أما التأثيم بترك واحد مبهم في
الواجب المخيَّر فهو قريب وممكن.
المذهب الثالث: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بواحد معيَّن
عند اللَّه، غير معيَّن عند المكلَّف، إلا أن اللَّه تعالى علم أن المكلَّف
لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه، واختياره معرِّف لنا أنه
الواجب في حقه.
وهذا المذهب يطلق عليه قول التراجم، لأن الأشاعرة ينسبونه إلى
المعتزلة، والمعتزلة ينسبونه إلى الأشاعرة.
فكل فريق يرجم به الآخر ويتبرأ منه.
والصواب: أنه لا يُعرَف قائلُه.
وإنما نشأ من مبالغة المعتزلة في الرَّد على الأشاعرة في أسباب تعلُّق
الوجوب بالجميع - كما ذكر تاج الدين ابن السبكي في الإبهاج،
وذكر أن رواية الأشاعرة له عن المعتزلة لا وجه له، وذلك لأن هذا
المذهب ينافي قواعد المعتزلة، ومنها: إيجاب الأصلح على الله
تعالى، وعدم تكليف ما لا يطاق.(1/169)
جوابه:
هذا المذهب فاسد، لأمرين:
أولهما: أن التخيير معناه: أن الشرع جوَّز للمكلَّف ترك كل
واحد من المخيَّر بينها بشرط الإتيان بالآخر، وكونه واجباً على التعيين
عند اللَّه يقتضي: أنه تعالى لم يجوِّز لنا تركه ألبتة، والجمع بين
الترك وعدم جواز الترك تناقض.
أي: أنه لو خير اللَّه - تعالى - بينه وبين غيره مع أنه جعله
واجباً على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه،
وهذا تناقض ظاهر.
ثانيهما: أن القول بأن الواجب معيَّن عند اللَّه، وليس معيناً عند
المكلَّف يجعل الواجب غير معلوم عند المكلف فلا يمكنه فعله، لجهله
فإذا كُلِّف به - مع ذلك -: كان تكليفاً بما لا يطاق، وقد اتفق
العلماء على أن التكليف بما لا يطاق غير واقع، وإن اختلفوا في
جوازه عقلاً - كما سيأتي إن شاء اللَّه -.
وقد ورد الخطاب بأمور معينة قد عطف بعضها على بعض بما يفيد
التخيير، وذلك في كفارة اليمين - وغير ذلك من الأمثلة - فالقول
بعدم تعيين الواجب للمكلف يلزمه وقوع تكليف ما لا يطاق، فيكون
باطلاً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له، ولا يترتب عليه أيُّ(1/170)
أثر، لأن الفريقين قد اتفقا على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها،
ولا يجوز تركه كذلك.
واتفقا - أيضاً - على أنه إذا أتى بواحد منها كفى ذلك في سقوط
التكليف، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق في العمل.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي، وقد أثر في بعض المسائل
الفقهية ومنها:
1 - إذا طلَّق إحدى زوجتيه، أو أعتق أحد عبديه.
فعلى المذهب الأول: لا يقع الطلاق؛ لأن الواجب مبهم،
فالطلاق وقع مبهماً، فلا يقع إلا عند التعيين.
وعلى المذهب الثاني: فإن الطلاق وقع على كل واحدة.
2 - إذا ترك جميع خصال الكفارة - وقلنا: للإمام المطالبة
بالكفارات - فعلى المذهب الأول: يجبر الإمام هذا المكلف على
فعل واحدة منها من غير تعيين.
وعلى المذهب الثاني: يجبر على فعل واحدة منها بعينها.
القول الثالث: التفصيل.
قال أصحاب هذا القول: إن كون الخلاف لفظيا، أو معنويا
راجع إلى تفسير مراد جمهور المعتزلة في قولهم: " إن الخطاب في
الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من أفراده ".
فمن قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه لا
يجوز تركها - كلها -، وإذا فعل المكلَّف جميعها أثيب ثواب واجب
واحد، وإذا تركها كلها عوقب عقاب ترك واجب واحد، وإذا فعل
واحداً منها يكون قد فعل ما وجب عليه: فإن الخلاف لفظي عنده.(1/171)
أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن قولهم يكون موافقاً
لقول جمهور العلماء في المعنى والمراد، فبكون الخلاف في اللفظ،
وهذا تفسير بعض العلماء كإمام الحرمين، وأبي الحسين البصري،
والبيضاوي.
أما من قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه إذا
فعل الأمور كلها، فإنه يثاب عليها ثواب واجبات، هاذا تركها كلها
عوقب عليها عقاب تارك واجبات، وإذا فعل واحداً منها سقط عنه
غيره: فإن الخلاف معنوي عنده.
أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن الخلاف يكون
معنوياً، لأن مقصودهم يكون مختلفا عن مقصود جمهور العلماء.
وهذا تفسير بعض العلماء كابن فورك، والغزالي، وأبي الطيب
الطبري، وابن التلمساني، والتبريزي.
والراجح عندي هو القول الأول - وهو: أن الخلاف لفظي لا
ثمرة له؛ حيث إن مراد جمهور المعتزلة هو نفسه ما يريده جمهور
العلماء ولا فرق، لأن المعتزلة لا يخالفون في أمور ثلاثة:
1 - أنه لا يجب الإتيان بجميع الخصال المخيَّر بينها.
2 - أن من أتى بواحدة منها فقد برأت ذمته.
3 - أنه لا يقع التخيير بين الواجب وغيره من مباح ومندوب.
وهذا هو قول جمهور العلماء، إذاً: لا خلاف في الحقيقة.
وأبو الحسين قد صرَّح بذلك في " المعتمد "، وهو الذي ينبغي أن
يعتمد في بيان مراد أصحابه المعتزلة، لأنه أعرف بمقاصدهم.
وصرَّح بذلك - أيضاً - المحققون الأصوليون ممن تصدى لتفسير(1/172)
كلام المعتزلة، وممن التقى ببعضهم كأبي يعلى الحنبلي في " العدة "،
وإمام الحرمين في " البرهان "، وفخر الدين الرازي في " المحصول "
وابن برهان في " الوصول ".
وأما ما ذكر من فروع فقهية، فإن هذا ألزمهم إياه بعض العلماء؟
لقولهم: " إن الكل واجب "، ولم يكن هذا هو نفس قول المعتزلة.
ولقد أطلت الكلام في بيان نوع الخلاف في هذه المسألة في كتابي
" الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فإن شئت فارجع إليه.
سؤال: إذا كان الخلاف لفظياً، فإنه يكون مقصد المعتزلة هو نفسه
مقصد جمهور العلماء، فلماذا عبَّر جمهور المعتزلة بتعبير يخالف ما
عبَّر به جمهور العلماء؟
جوابه:
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن جمهور المعتزلة وصفوا
الجميع بالوجوب - وهو تعبير يخالف ما ذكره جمهور العلماء -
فراراً من التسوية بين الواجب وغير الواجب؛ بناء على قاعدتهم في
" التحسين والتقبيح العقليين "، و " إيجاب الأصلح على اللَّه "؟
حيث قالوا: إن الحكم على الشيء يتبع حسنه أو قبحه، فإيجاب
شيء " ما " تابع لحسنه الخاص به، فلو كان الواجب واحداً لا بعينه،
والباقي غير واجب لخلا الباقي عن المقتضي للوجوب، وأصبح
التخيير بين ما هو واجب، وما ليس بواجب، وهذا لا يقول به
أحد، فلا بد من أن يكون واحد لخصوصه مشتملاً على صفة تقتضي
وجوبه، وحينئذٍ يوصف كل منها بالوجوب والتخيير.
أما نحن فلا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين ولا إيجاب الأصلح
على اللَّه، فلا مانع - عندنا - من إطلاق الوجوب على واحد منها لا
بعينه.(1/173)
ثالثاً: شروط الواجب المخير:
إذا علمنا - في المسألة السابقة - أن الخطاب في الواجب المخيَّر
متعلِّق بواحدٍ غير معيَّن، ويتعين بفعل المكلَّف، فهو مخير بين أمور
محصورة، فمتى ما فعل واحداً فإنه هو الواجب في حقه، وهذا
هو التخيير.
ولكن ليس كل تخيير يصح، بل إن التخيير الصحيح له شروط
لا يصح إلا بها، هي كما يلي:
الشرط الأول: أن تكون الأشياء المخير بينها معلومة للمخاطب
ومحصورة ومعينة حتى يحيط بها المكلََّف ويوازن بينها، ويرى ما هو
الأصلح، فيختاره ويقوم به.
الشرط الثاني: أن تتساوى تلك الأشياء المخير بينها في الرتبة.
أي: تكون متساوية في الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فلا
يجوز التخيير بين واجب ومندوب، ولا بين واجب ومباح، ونحو
ذلك؛ فإن التخيير بين الوجوب وتركه يرفع الوجوب.
ولهذا لما استدل داود الظاهري على وجوب النكاح بقوله تعالى:
(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) : ردَّه العلماء؛ لأن قوله
تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) فيه تخيير بين النكاح وبين ملك
اليمين، ومعروف أن ملك اليمين لا يجب إجماعا، فلذلك امتنع
التخيير بين النكاح وملك اليمين.
الشرط الثالث: أن تكون الأشياء المخير بينها متميزة للمكلَّف،
أي: أن يتميز بعض الأشياء عن بعض، فلا يجوز التخيير بين
متساويين من جميع الوجوه لا يتميز أحدها عن الآخر بوصف، كما(1/174)
لو خيّر بين أن يصلي أربع ركعات وبين أن يصلي أربع ركعات مع
تساويهما في جميع الصفات.
الشرط الرابع: أن يتعلَّق التخيير بما يستطيع فعله، فلا يصح
التخييربين شيء يستطيعه، وشيء لا يستطيعه.
الشرط الخامس: أن يكون وقت المخيَّر بينها واحداً " حيث يتأتى
الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد، بدلاً عن التغاير، فإنه لو
ذكر للمكلَّف فعلان مؤقتان بوقتين مختلفين: فإن ذلك لا يكون
تخييراً؛ فإنه في وقت الإمكان من فعل الأول لا يتمكن من الفعل
الثاني، وفي الوقت الثاني لا يتمكن من الأول، فلا يتحقق وصف
التخيير أصلاً، وإنما يتحقق ذلك في شيئين يجوز ثبوت أحدهما بدلاً
عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت. نُسب هذا الشرط إلى القاضي
أبي بكر الباقلاني.
قلت: وهذا الشرط باطل من جهة العقل، ومن جهة الشرع.
أما بطلانه من جهة العقل فلأن السيد لو قال لعبده: " عليك
خياطة هذا الثوب يوم السبت، أو بناء هذا الجدار يوم الأحد،
أيهما فعلت: أثبتك، وإن تركت الجميع عاقبتك " كان هذا القول
معقولاً.
أما بطلانه من جهة الشرع فلأن الشرع ورد فيه التخيير بين شيئين
في وقتين مختلفين، وهو أن المسافر سفر طاعة، فإنه يخير بين أن
يصوم وأن يفطر ثم يصوم في وقت آخر.
رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخيَّر بينها؟
الأمور المعينة المحصورة المخيَّر بينها قد يحرم على المكلف الجمع
بينها، وقد يباح الجمع بينها، وقد يندب الجمع بينها.(1/175)
فمثال الأول: وهو: ما يحرم فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
تزويج المرأة من كفؤين متساويين معاً، وكذا مبايعة إمامين للأمة.
ومثال الثاني: وهو: ما يباح فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
ستر العورة بثوب بعد سترها بثوب آخر، فستر العورة واجب،
والمكلف مخير بسترها بأي ثوب شاء متى تعددت عنده الثياب،
ويباح له سترها بأكثر من ثوب واحد، فيكون الجمع بين الأثواب في
الستر مباحاً.
ومثال الثالث: وهو ما يندب فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
خصال كفارة اليمين، فإننا نعلم أن الخطاب قد تعلَّق بها على سبيل
التخيير بينها، والواجب يسقط بفعل واحد منها، ولكن يندب له
الجمع بين " الإطعام " و " الكسوة " و " العتق " زيادة له في الثواب.
لكن هنا سؤال وهو: أن المكلَّف إذا جمع بين تلك الخصال -
وهي: الإطعام، والكسوة، والعتق - فثواب الواجب هل يكون
على أعلاها أو على أدناها، وما زاد نافلة، وكذلك إذا ترك الجميع
هل يأثم بترك أدناها، أو أعلاها؟
جوابه:
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب، إليك أهمها:
المذهب الأول: أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها، والباقي
ندب، وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب، فانصرف الواجب
إلى أعلاها، تكثيراً لثوابه.
وإذا ترك فعل الجميع عوقب على أدناها " ليقل وباله ووزره.
دهب إلى ذلك ابن برهان، وابن السمعاني، وهو قول للباقلاني.(1/176)
المذهب الثاني: أنه إذا فعل الجميع، فإن الذي يقع واجباً هو
العتق، فإنه أعظم ثواباً؛ لأنه أنفع وأشق على النفوس، وهو
محكي عن القاضي الباقلاني.
المذهب الثالث: أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها؛ لأنه لو
اقتصر عليه أجزأه، ويثاب على ما زاد ثواب التطوع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، حيث إن العمل لا يختلف باختلاف هذه
المذاهب.
المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت:
أولاً: بيانه، والأمثلة عليه:
الفعل الواجب على المكلََّف قد يحدد الشارع وقتاً معينا لإيقاعه فيه.
وقد لا يحدد الشارع لفعله وقتاً معيناً.
فالأولى - وهو الذي حدد الشارع له وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه
يُسمَّى " واجباً محدداً " أو " واجباً مؤقتاً ".
وسيأتي بيانه بالتفصيل.
أما الثاني، وهو: الذي لم يحدد الشارع وقتاً معيناً لفعله، فإنه
يُسمَى واجباً مطلقاً، أو " واجباً غير مؤقت ".
أي: أنه الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من المكلَّف طلباً جازماً،
ولم يحدد وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه.
مثل: كفارة اليمين، حيث إنها واجبة مطلقة، أي: أن الشارع
لم يحدد وقتاً معيناً يجب على المكلَّف أن يؤديها فيه، بل أطلقها
وترك تحديد وقتها للمكلَّف.(1/177)
كذلك الوفاء بالنذر، فإن الوفاء واجب مطلق، حيث لم يحدد
الشارع وقت هذا الوفاء، بل تركه لاختيار المكلََّف.
وكذلك الحج عند بعض العلماء، وقضاء العبادات التي فاتت من
غير تقصير من المكلََّف، فإن جميع ذلك تجب في جميع العمر،
وليست نهايته معلومة للمكلَّف.
ثانياً: متى يتضيق الوقت - هنا -؟
يتضيق الوقت إذا غلب على ظن المكلَّف عدم البقاء إلى آخر
الوقت، فيجب عليه - حينئذ - أن يفعل ذلك الواجب قبل ذلك
الوقت الذي غلب على ظنه عدم البقاء إليه، لأنه لا يمكن أن يؤخر
الفعل مطلقاً، لأنه يقتضي أن لا يكون واجباً.
فلا بد من تأخير الفعل إلى زمن معين لا يجوز التأخير عنه، ولا
يمكن ذلك إلا إذا عين هذا الزمن بعلامة أو أمارة، ولا يوجد معين
لذلك سوى أن يغلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت.
وبناء على هذا فإن المكلف يعصي في هذا بمجرد التأخير عن وقت
يظن عدم بقاءه بعده.
ثالثاً: هل يعصي بالموت هنا؟
إذا لم يغلب على ظنه الموت في وقت محدَّد، ثم أخَّر فعله بدون
عذر، فمات فهل يعصي؟
اخنلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن المكلَّف إذا أخَّر الواجب غير المؤقت حتى مات
مع قدرته على فعله في حياته، فإنه يعصي.
ذهب إلى ذلك أكثر العلماء.
وهو الصحيح عندي " لأن المكلَّف كان يمكنه المبادرة، وفعل(1/178)
الواجب أثناء حياته فلم يفعل، فالتمكن موجود، والوجوب محقق
مع التمكن فيعصي.
المذهب الثاني: أنه لا يعصي، وهو مذهب بعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لما أخر فعل الواجب غير المحدد فإنه قد فعل ما
له فعله.
ذكر ابن السمعاني: أن هذا كان ينتظر تضييق الوقت غير المحدد
عليه بغلبة الظن، وذلك أمر معهود بيِّن في غالب أحوال الناس،
فإن اخترمته المنية من قبل أن يبلغ المعهود: لم يكن عليه عتب ولم
يعص، لأنه كان على عزم إذا تضيق لا يؤخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا المكلف قد ترك واجباً عليه إلى أن مات مع
قدرته على فعله قبل موته، فلا يوجد له عذر، فيكون عاصياً.
أما ما اعتاده الناس فلا يلزمنا.
الدليل الثاني: القياس على الواجب الموسَّع، بيانه:
أنه كما أن مؤخر الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها في الواجب
الموسع لا يعصي لو مات قبل الفعل، فكذلك مؤخر الواجب المطلق
لا يعصي لو مات قبل الفعل.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق.
ووجه الفرق: أن وقت الواجب الموسَّع قصير، أما وقت
الواجب المطلق فهو طويل، لأنه العمر كله كما سبق.
المذهب الثالث: التفريق بين الشيخ والشاب.(1/179)
فالشيخ الكبير يعصي إذا أخَّر ثم مات.
أما الشاب فلا يعصي إذا أخَّر ثم مات.
وهو اختيار الغزالي.
وفسَّر بعض العلماء التأخير المستنكر ببلوغه نحواً من خمسين، أو
ستين، لأن العمر في الأغلب من الناس ستون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ".
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا ضابط له، فقد يكون الشيخ أكثر صحة من
الشاب، وكم من شيخ قد ورث بعض أولاده، أو كلهم.
فإن قيل: إن هذا المذهب ورد على الأغلب في أحوال الناس.
قلت: هذا صحيح، ولكن مذهبنا - وهو المذهب الأول - أقوى
منه، لما قلناه من الاستدلال، ولما فيه من الاحتياط. والله أعلم.
المسألة السابعة: الواجب المضيًّق، والواجب الموسَّع:
أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع:
الفعل الواجب على المكلَّف قد لا يحدد الشارع وقتا معيناً لإيقاعه
فيه، وقد يحدد الشارع لفعله وقتا معينا.
فالأول - وهو الذي لم يحدد الشارع له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه
فيه -: يُسمَّى واجباً مطلقا مثل كفارات الأيمان، وقضاء ما فاته من
صيام رمضان عند الحنفية، والواجب بالنذر المطلق - وقد سبق بيانه.
والثاني - وهو الذي حدد الشارع له وقتا معينا لأدائه فيه - يسمى
واجبا مؤقتاً.(1/180)
والوقت الذي حدًّده الشارع لإيقاع وأداء الواجب فيه ينقسم إلى
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون وقت الفعل أنقص من الفعل، بحيث إن
الوقت لا يمكن إيقاع الفعل كله فيه، فهذا لا يجوز التكليف به؟
لأنه تكليف بما لا يطاق، إلا إذا كان القصد من التكليف بالفعل في
هذا الوقت الناقص هو: ابتداء الفعل فيه، ثم إكماله بعد هذا
الوقت، بحيث إذا لم يبتد الفعل في هذا الوقت يكون قضاؤه واجبا
عليه، فالتكليف به من هذه الناحية جائز عقلاً، وواقع شرعا، فإن
الصبي إذا بلغ وقد بقى من الوقت ما يسع ركعة، والمجنون إذا أفاق
من جنونه وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، والحائض إذا انقطع
حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، فإن هؤلاء الثلاثة تجب
عليهم الصلاة، فإذا لم يبتدئها كل منهم في الوقت الباقي وجب
عليهم القضاء.
القسم الثاني: أن يكون وقت الفعل مساويا له، أي: أن يكون
الوقت الذي حدَّده الشارع لفعل الواجب فيه على قدر الفعل،
بحيث لا يزيد عن الفعل، ولا ينقص عنه كصوم رمضان، ويُسمَّى
هذا ب " الواجب المضيَّق ".
القسم الثالث: أن يكون وقت الفعل أزيد من الفعل، بحيث إن
الوقت يسع الفعل عدة مرات، وهذا الذي يُسمَّى بـ " الواجب
الموسَّع ".
ونظراً لعدم وقوع التكليف في القسم الأول، فإنه لم يبق إلا
القسمان: " الثاني ": وهو الواجب المضيق، والثالث: وهو
الواجب الموسَّع.(1/181)
ثانياً: تعريف الواجب المضيق والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما:
الواجب المضيق - كما قلنا فيما سبق -: ما كان وقته يسعه ولا
يسع غيره من جنسه.
أي: هو: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت مساو لوقت
أدائه وإيقاعه بلا زيادة أو نقصان مثل صيام يوم من رمضان، فالشارع
ألزم المكلف الذي لا عذر له بصيامه، واليوم يبدأ من الفجر الصادق
إلى غروب الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع
لفعل شيء آخر معه، ويكون الفعل باطلاً لو فعله قبل الوقت،
ويكون قضاء لو فعل بعد الوقت لعذر، ولا يقع معه في وقته غيره
من جنسه.
والواجب المضيَّق اتفق العلماء على ثبوته.
أما الواجب الموسع فهو: ما كان وقته واسعا لأدائه وأداء غيره من
جنسه.
أي: هو: " الفعل الذي طلب الشارع من المكلف إيقاعه وأداءه
طلبا جازما في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه " مثل: صلاة
الظهر، فإن الشارع قد ألزم المكلف بفعلها في وقت محدد يزيد عن
وقت أدائها بحيث يمكن فعلها، وفعل غيرها من جنسها في ذلك
الوقت.
ثالثا: الواجب الموسع هل هو ثابت؟
لقد اختلف العلماء في ذلك الواجب الموسع هل هو ثابت أو لا:
على مذهبين:
المذهب الأول: أن الواجب الموسع ثابت، ويكون وقت أداء
الواجب الموسع هو جميع الوقت.(1/182)
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أيِّ
جزء من أجزاء وقته على حسب اختيار المكلف.
فيكون المكلف مخيراً في أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو في
وسطه، أو في آخره.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهذا هو الصحيح، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) .
وجه الدلالة: أن هذا الأمر عام يتناول جميع أجزاء الوقت
المذكور من غير إشعار بالتخصيص ببعض أجزائه.
فليس المراد من الأمر تطبيق أول فعل الصلاة فى أول الوقت وآخر
الفعل في آخر الوقت؛ لأن هذا خلاف الإجماع.
وليس المراد من الأمر: إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته، فلا
يخلو جزء من الوقت من الصلاة، فهذا - أيضاً - خلاف الإجماع.
وليس المراد من الأمر: تعيين جزء من الوقت لاختصاصه بوقوع
الواجب فيه؛ لأن اللفظ الوارد في الآية عام، ولا يوجد مخصص.
فلم يبق إلا أن يكون المراد من الأمر هو: أن كل جزء من الوقت
صالح لوقوع الواجب فيه باختيار المكلف، ضرورة امتناع قسم آخر.
الدليل الثاني: أن جبريل - عليه السلام - قد صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أول الوقت وآخره، ثم قال له - بعد ذلك -: " يا محمد: هذا
وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين "،
وفى رواية: "الوقت ما بينهما ".(1/183)
وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - حينما فرض الصلاة أتى جبريل
- علمه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه أوقاتها وأفعالها، فصلى به مرة في أول وقتها، وصلى به مرة أخرى في آخر وقتها، فقال
- حينئذ -: " الوقت ما بين هذين "، وهذا يفيد تخيير المكلَّف في
أداء الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد لها، أي: أن
الإيجاب يتناول جميع أجزاء الوقت، وليس تعيين بعض أجزاء
الوقت للوجوب بأوْلى من تعيين البعض الآخر.
الدليل الثالث: العقل دلَّ على ثبوت الواجب الموسَّع، بيانه:
أن السيد لو قال لعبده: " قد أوجبت عليك بناء هذا الجدار في
هذا اليوم في أي جزء منه، إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو
في آخره، فمهما فعلت: تكون قد امتثلت أمري، وإن لم تفعل:
تكون قد خالفت أمري " كان هذا الكلام معقولاً، ولا يمكن أن
يقدح في صحته أحد.
فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً؛ لأن
العبارة واضحة أنه أوجب عليه فعل شيء.
ولا يمكن أن يقال: إن السيد قد أوجب على العبد بناء الجدار في
وقت واحد فقط فضيق عليه، لأنه صرح بالتوسع، حيث قال له:
" إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو في آخره ".
فلم يبق إلا أنه أوجب عليه بناء الجدار في ذلك اليوم ووسع عليه
في هذا الإيجاب بدليل لفظه في المثال، مما يدل على تخييره في
الوقت.
الدليل الرابع: قياس الواجب الموسع على الواجب المخير، بيانه:(1/184)
كما أنه جاز التخيير بين أفراد الواجب في الواجب المخير كخصال
كفارة اليمين - إما الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق - كذلك
يجوز التخيير بين أجزاء الوقت في الواجب الموسع كالصلاة، فإن
الصلاة في أول الوقت كالصلاة في وسطه، والصلاة في آخره، ولا
فرق بينها في سقوط الغرض وحصول المصلحة.
المذهب الثاني: إنكار الواجب الموسَّع.
أي: عدم وجود واجب موسع في الشريعة، بل إن الإيجاب
متعلِّق في وقت معين، وهو أول الوقت، أو آخره - كما سيأتي
تفصيل الخلاف فيه:
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن التوسع ينافي ويناقض
الوجوب.
أي: أن الوجوب مع التوسعة يتنافيان؛ لأن الواجب لا يجوز
تركه، وهذا يجوز تركه عن الوقت الذي وصفتموه بالوجوب فيه،
وهو أول الوقت وآخره، فلا يكون للواجب الموسع حقيقة.
قال ابن العربي في " المحصول " - مبينا ذلك -: " إن جواز
التأخير مع خيرة المكلَّف بين الفعل والترك يضاد الوجوب ".
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أننا لم نجوِّز ترك الفعل في أول الوقت مطلقا،
بل جوَّزنا ترك الفعل في أول الوقت بشرط العزم على الفعل في آخر
الوقت.
الجواب الثاني: أن جواز التأخير إنما يضاد الواجب المضيَّق، أما(1/185)
الواجب الموسع فلا، لأنه يجوز ترك فعل الواجب الموسع في أول
وقته، وفعله في وسطه، أو في آخره، حيث إنه مخير بين أجزاء
الوقت الموسع، قياسا على الواجب المخير، بيان ذلك:
أن الواجب الموسع يرجع - في حقيقته - إلى الواجب المخير
- كما قلنا سابقاً -، لأن الفعل واجب الأداء في وقت " ما ": إما
في أوله، أو وسطه، أو آخره، فجرى ذلك مجرى قولنا في
الواجب المخير: " إن الواجب إما هذا أو ذاك ".
فكما أنا نصف الخصال بالوجوب على معنى: أنه لا يجوز
الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان بها جميعاً، وإنما تجب خصلة
واحدة غير معينة، فكذلك هنا: يجب على المكلف أن يفعل ما
وجب عليه في أي وقت شاء من هذا الوقت المحدَّد: إما في أوله،
أو في وسطه، أو في آخره، ونحن لم نوجب الفعل في أول
الوقت بخصوصه حتى يورد علينا جواز إخراجه عنه، بل خيَّرناه بينه
وبين ما بعده.
رابعاً: فرق منكري الواجب الموسع، وأدلة كل فرقة مع الجواب
عنها:
إن المنكرين للواجب الموسع قد اتفقوا على إنكاره، ولكنهم
اختلفوا - فيما بينهم - في أي جزء من الوقت يتعلق الإيجاب؟
على فِرَق:
الفرقة الأولى قالت: إن الوجوب متعلِّق بأول الوقت.
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في
الجزء الأول من أجزاء الوقت، فإذا مضى من الوقت ما يسع الفعل
ولم يفعل المكلف الواجب فيه، وفعله في غيره من أجزاء الوقت:
كان هذا الفعل قضاء، لا أداء.(1/186)
نسب هذا إلى بعض الشافعية، وإلى بعض المتكلمين:
قلت: لقد بيَّنت في كتابي " الواجب الموسع عند الأصوليين " أن
كثيراً من الشافعية قد أنكروا أن يكون هذا في مذهبهم، وذكرت أن
الشافعية قد اختلفوا في السبب الذي من أجله عزي هذا إلى
مذهبهم، وأطلت الكلام عن هذا، وحققت القول فيه، فارجع إليه
إن شئت.
أدلة هذه الفرقة على أن الوجوب متعلق بأول الوقت:
الدليل الأول: قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها كعرض السماء والأرض) ، وقوله: (فاستبقوا الخيرات) ، وقوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض) .
وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمرنا في هذه الآيات بالاستباق إلى الخير،
والمسارعة إليه، ولا شك أن فعل الواجب في وقته مسارعة واستباق
إلى الخير، فمن أخَّره عن أول وقته يكون مخالفاً لذلك الأمر.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن تلك الآيات الدالة على الاستباق
والمسارعة لا دلالة فيها على المطلوب، وذلك لأن دلالتها على
المسارعة والاستباق إلى أسباب المغفرة ثبت عن طريق الاقتضاء،
والمقتضى لا عموم له.
ولئن سلمنا أن للمقتضى عموما، فإننا لا نسلِّم أن هذا الأمر
للوجوب، بل هو للندب؛ لأمرين:
أولهما: الإجماع على ذلك.(1/187)
ثانيهما: أنه لو كان للوجوب للزم منه تخصيصات لا حصر لها،
وهو خلاف الأصل.
وإذا ثبت ذلك لم تكن الآيات دالة على اختصاص الوجوب بأول
الوقت، بحيث لا يجوز التأخير عنه، بل يجوز التأخير عنه بشرط
العزم على فعله في آخر الوقت، ونحن نقول به.
الدليل الثاني: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" الصلاة في أول الوقت رضوان، وفي آخره عفو اللَّه ".
وجه الدلالة: أن هذا النص اقتضى أن فعل الصلاة في آخر
الوقت معصية تتطلب العفو، ولو كان المكلَّف مخيراً بأي جزء من
هذه الأجزاء وقع الفعل فيه: لما كان تأخيره للواجب عن أول الوقت
موجباً للعفو والغفران، لأن العفو إنما يكون عن ذنب أو معصية،
وبذلك يكون الحديث دالاً على أن وقت الفعل هو الجزء الأول منه،
وما بعده وقت لقضائه.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الحديث فيه يعقوب بن الوليد، وهذا قد
كذَّبه الإمام أحمد، وسائر الحُفَّاظ، وقال ابن حبان: " ما رواه إلا
يعقوب، وكان يضع الحديث على الثقات "، وأخرجه الدارقطني
بسند ضعيف.
فإذا ثبت ذلك فلا يصح الاحتجاج بالحديث على إثبات قاعدة
أصولية كهذه، وهي: " أن الوجوب متعلق بأول الوقت ".
الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث، فإنه يفيد الترغيب(1/188)
في المبادرة لأداء الصلاة في أول وقتها، فيكون المراد بالعفو هنا: هو
العفو عن تقصير المكلَّف عن الأداء الأفضل للواجب.
الدليل الثالث: إن أوقات الصلوات أسباب، والأصل ترتب
المسببات على أسبابها، فإذا وجد السبب يجب أن يوجد المسبَّب
فوراً، فيتعلَّق الوجوب بما تحققت به سببيته، وهو أول الوقت،
وحينئذٍ الواقع بعد ذلك قضاء سدَّ مسدَّ الأداء.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: إن هذا الكلام لا ينافي مذهبنا وهو: ثبوت
الواجب الموسع، وذلك لأننا رتبنا الوجوب على أول الوقت، أي:
يبدأ فعل الواجب من أول الوقت إلى آخر الوقت، وهذا هو مذهبنا.
الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الواقع بعد أول الوقت قضاء
سد مسد الأداء " مخالف للإجماع، قال الآمدي في الإحكام:
"الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء، ولا
يصح بنية القضاء ".
الفرقة الثانية قالت: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت.
أي: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأخير من أجزاء
الوقت، ويكون أوله سبباً للوجوب.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهم بعض مشائخ العراق من
الحنفية.
أدلة هذه الفرقة:
الدليل الأول: أن حقيقة الواجب هو: ما ذم تاركه، أو ما(1/189)
يعاقب على تركه، ومعروف أن الصلاة يعاقب على تركها إذا أضيفت
إلى آخر وقتها؛ لأنه لو تركها خرج الوقت وعليه القضاء، ويكون
عاصياً بذلك؛ لأنه أخرج الصلاة عن وقتها بالعمد، ونتيجة لذلك
تكون الصلاة إذا أضيفت إلى آخر وقتها واجبة؛ لأنه يعاقب على
تركها، ولكن إذا أضيفت إلى أول وقتها، أو وسطه، فإن المكلف
مخير بين فعلها؛ تركها، وإن فعلها فهو أفضل، وهذا هو حد
الندب؛ لأنه يجوز تركه، وكل ما جاز تركه في وقت فليس بواجب
فيه، وإذا ثبت أنه غير واجب في أول الوقت، ولا في وسطه فهو
واجب في آخره؛ لعدم جواز تركه، وإلا لكان لها وقت آخر غير
المضروب لها.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن أقسام الفعل ثلاثة:
القسم الأولى: فعل لا يعاقب على تركه مطلقاً، وهو المندوب.
القسم الثاني: فعل يعاقب على تركه مطلقاً، وهو الواجب
المضيق.
القسم الثالث: فعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع
الوقت - أوله، وأوسطه، وآخره - ولا يعاقب على تركه بالإضافة
إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم الثالث لا يمكن أن نسميه
مندوباً؛ لأن المندوب لا يعاقب تاركه مطلقاً، ولا يمكن أن نسميه
واجباً مضيقاً؛ لأن الواجب المضيق يعاقب تاركه مطلقاً.
إذن: هذا القسم يحتاج إلى اسم يُسمَّى به غير " الواجب المضيق "
وغير " المندوب "، وأحسن عبارة تقال فيه هي: "الواجب الموسَّع "،
فإن قلتم: لماذا سميتموه بهذا الاسم؟(1/190)
قلنا: سميناه واجبا؛ لأن المكلَّف يعاقب على تركه بالجملة.
وسميناه " موسَّعاً "؛ لحصول التوسعة في وقته عن قدر فعله،
ويجوز للمكلَّف تأخيره إلى آخر وقته.
اعتراض على هذا الجواب:
لقد اعترض بعضهم على ذلك الجواب بقوله: إن القسم الثالث
وهو الذي سميتموه بالواجب الموسَّع هو في حقيقته داخل ضمن
الواجب المضيق والمندوب، بيان ذلك:
أن المكلف إذا فعل الصلاة في أول وقتها، فهذا الفعل يكون
مندوباً، لأنه يجوز للمكلف ترك الفعل، وما يجوز تركه فهو الندب.
وإن فعل المكلف الصلاة في آخر الوقت، فإن هذا الفعل يكون
واجباً مضيقاً؛ لأنه لا يجوز له ترك الفعل، وما لا يجوز تركه فهو
الواجب المضيق.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قولكم في حدِّ الندب:
" إنه ما يجوز تركه " ليس بصحيح، بل إن الصحيح في حد الندب:
" أنه ما يجوز تركه مطلقا " أي: من غير شرط.
أما القسم الثالث - وهو ما سميناه بـ " الواجب الموسَّع - فهو
"الذي لا يجوز تركه مطلقا " أي: هو " الذي يجوز تركه بشرط ".
وهذا الشرط: إما الفعل في أول الوقت، أو العزم على الفعل
في آخر الوقت.
أي: يجوز للمكلف أن يترك الفعل في أول الوقت بشرط
أن يفعل بعده مباشرة، أو أن يعزم على الفعل في آخر الوقت،(1/191)
لكن لا يجوز له ترك الفعل مطلقا، بخلاف المندوب فإنه يجوز تركه
مطلقا.
اعتراض على هذا الجواب:
لقد اعترض بعضهم على هذا الجواب قائلاً: إنكم قلتم: إن
العزم هو بدل عن الصلاة في أول وقتها، وهذا غير مسلَّم؛ لأمرين:
الأول: أنه معروف أن البدل يكون نائبا عن المبدل، والعزم
- فقط - لا يكفي عن الفعل.
الثاني: أن الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة عليها.
جوابه:
يجاب عن الأول: بأن العزم ليس بدلا عن أصل الوجوب ونفس
الفعل، بل هو بدل عن تقديم الفعل فقط، وما دام الأمر كذلك،
فإن العزم يصلح أن يكون بدلا، والفعل لم يتغير سواء وقع في أول
الوقت، أو في آخره بدليل: تساوي الثواب والأجر.
ويجاب عن الثاني: بأن الدليل على أن العزم هو بدل: القياس
على الواجب المخيَّر، فكما أنه لا يجوز ترك أي خصلة من خصال
الواجب المخيَّر إلا بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن
يترك الفعل في أول الوقت - في الواجب الموسع - إلا بشرط العزم
على فعله في الجزء الأوسط، أو الأخير.
الدليل الثاني - من أدلة القائلين: إن الوجوب متعلق بآخر
الوقت -: أن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز تأخيرها عن آخر
الوقت من غير عذر، وذلك يدل على أنها واجبة فيه، لا في أول
الوقت، وحينئذ يحتمل أن يكون فعلها في أول الوقت ندبا يسقط
الفرض عنده، أو يكون فعلها كالزكاة المعجلة.(1/192)
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك يدل على أنه وقتها
المضيق، ولا يدل على أنها غير واجبة في غيره بصفة التوسع؛ لأن
كون الشيء واجبا بصفة التضييق في وقت لا يدل على أنه غير واجب
في غيره على وجه التوسع..
أما قولكم: " يحتمل أن يكون فعله ندبا في أول الوقت يسقط
الفرض عنده "، فهذا باطل؛ لأمرين:
أولهما: أنه لو أدى الفرض بنية الندب لم يقع الوقع إجماعا.
ثانيهما: أن سقوط الفرض عند أداء الندب بعينه لم يعهد مثله في
الشرع.
أما قولكم: " أو يكون فعلها كالزكاة المعجَّلة " فهو باطل
- أيضا -؛ لأن قياس الصلاة في أول وقتها على تعجيل الزكاة قياس
فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيان ذلك:
أن تعجيل الزكاة لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما
حصل بحكم الأمر المقتضي للرخصة وهو: ما ورد أن العبَّاس
- رضي اللَّه عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الزكاة قبل أن تحل فرخص له في ذلك.
بخلاف الصلاة؛ فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي تفعل في
آخره، فالنية واحدة في الصلاة سواء صلاها في أول الوقت، أو
صلاها في آخره، ولم يفرق أحد من السلف بين النيتين.
أما الزكاة فإنها تجب قبل حولان الحول بنية التعجيل حسب الأمر
المقتضي للرخصة - فقط -، أما لو أخرها بعد كمال الحول، فإنها
تجب بنية الأمر المقتضي لوجوب الزكاة، وفرق بين النيتين.(1/193)
اختلاف القائلين بهذا المذهب في تقدير وقت الوجوب:
لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت في تقدير
وقت الوجوب على قولين:
القول الأول: إن الوقت هو ما يسع جملة الصلاة، وينقضي
بانقضائها، وهو قول الإمام زفر، وجماعة من الحنفية.
القول الثاني: إن الوقت هو ما يسع تكبيرة الإحرام.
اختلاف القائلين بهذا المذهب فيما إذا أوقع المكلف الفعل في غير
الجزء الأخير.
لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق في آخر الوقت في
مسألة وهي: إذا أوقع المكلَّف الفعل في أول أو وسط الوقت ما
حكمه؛ على قولين:
القول الأول: أن الفعل يقع نفلاً يسقط به الفرض.
حكى هذا عن بعض مشائخ الحنفية العراقيين.
دليل هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بأنه لو كان الفعل واجباً في أول
الوقت: لما جاز تأخيره عنه إلا إلى بدل، وقد جاز تأخيره عنه بغير
بدل، فثبت أنه فيه نفل.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ أنه يجوز تركه بغير بدل، فقد
ذهب أكثر المثبتين للواجب الموسع إلى أنه لا يجوز ترك الفعل في
أول الوقت إلا إذا كان عازماً على فعله في آخر الوقت، وهذا هو
البدل.
القول الثاني: أن المكلَّف إذا أدَّى الفعل في أول الوقت فهو(1/194)
موقوف، فإذا جاء آخر الوقت، وهو على صفة التكليف - بأن كان
عاقلاً مسلما خاليا من الموانع - كان ما فعله في أول الوقت واجبا،
وإن جاء آخر الوقت، وقد زالت عنه صفة التكليف - بأن جن، أو
نزل بامرأة حيض، أو نحو ذلك -: كان الفعل الذي فعله في أول
الوقت نفلاً.
ونسب هذا إلى الكرخي، ويسمى هذاب " المراعاة ".
وذكرِ بعض العلماء كالزركشي في " تشنيف المسامع ": أن
الكرخي قال ذلك فراراً مما ورد على أصحابه الحنفية من تعلق
الوجوب بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض، فاختار هذه الطريقة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا المذهب ضعيف؛ لأن كون
الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضا ولا نفلاً خلاف القواعد
الشرعية.
ثم كيف ينوي هذه الصلاة؛ فهذا القول خلاف الإجماع؛ حيث
أجمع السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت، ومات في
أثنائه أنه أدى فرض اللَّه، وأثيب ثواب الواجب كما حكى ذلك
الآمدي في الإحكام.
الفرقة الثالثة قالت: إن الوجوب يتعلق بالجزء الذي يتصل به
الأداء، وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه.
وبعضهم عبَّر عنه بقوله: " إذا اختار وقتا تعيَّن إلى أن يضيق
فيتعين بالتضييق ".
حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي وبعض العلماء.(1/195)
دليل هذه الفرقة:
استدل هؤلاء على ذلك: بأن سبب الوجوب كل واحد من أجزاء
الوقت بطريق البدلية إن اتصل به الأداء، وإلا فآخره، إذ يستحيل أن
يكون جميع الوقت سبباً وإلا لزم الوجوب بعده.
وكذا يستحيل أن يكون أوله سبباً، أو آخره، لاستحالة تأخر
المسبَّب عن السبب وتقدمه عليه؛ إذ يجوز الأداء في آخر الوقت،
ولا يأثم به، ويجوز الأداء - أيضاً - في أوله، فلم يبق السببِ إلا
الجزء الذي اتصل الأداء به، أو آخره.
جوابه:
يقال في الجواب عنه - ماذا يراد بعبارة -: " إن الوجوب يتعلَّق
بالجزء الذي يتصل به الأداء "؟
إن كان المراد منها: أن وقته بطريق البدلية، أي: أن الأمر يقتضي
إيقاع الفعل في أحد أجزاء الوقت، لا بعينه، فإذا اتصل الفعل
بأحد أجزائه تبينا سقوط الفرض به، فهذا صحيح، وهو الذي نقول
به " حيث إنا قلنا - فيما سبق -: إن حاصل الواجب الموسع يرجع
في الحقيقة إلى الواجب المخيَّر.
وإن كان المراد منها: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته، وإن ما
سوى ذلك لم يكن وقته: فهذا غير صحيح، وذلك لمخالفته الأدلة
الصحيحة على أن الوقت موسع، أوله، ووسطه، وآخره، وقد سبق.
وإن كان المرإد منها غير ذلك فلا بدَّ من التصريح بذلك حتى يمكن
أن نقبله، أو نرده بالأدلة.
وأما قولهم - في الاستدلال -: " أول وقته لا يجوز أن يكون(1/196)
سبباً للوجوب وإلا لزم تأخر المسبَّب عن السبب ": فيمكن أن يجاب
عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن أول الوقت سبب للوجوب على وجه
التوسع، وقد تحقق ذلك معه، فلا يلزم تراخي المسبب،
والاستدلال بجواز التأخير على عدم الوجوب باطل.
تنبيه: هناك فرق - من فرق منكري الواجب الموسَّع - قد تركت
ذكرها، لأحد أمرين:
إما لأنها متداخلة مع المذاهب السابقة.
وإما لضعفها الشديد.
وقد ذكرت ذلك بإسهاب وأدلة كل فرقة مع الجواب عن ذلك في
كتابي: " الواجب الموسع عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت.
بيان نوع الخلاف:
لبيان ذلك لا بد من التفصيل الآتي:
الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الأولى - وهم بعض السافعية القائلين: إن
الوجوب متعلِّق بأول الوقت - هذا الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن
القائلين بأن الوجوب متعلِّق بأول الوقت يجوِّزون فعله في وسط وآخر
الوقت، ويقولون: إنه قضاء سدَّ مسدَّ الأداء، وهذا متفق في المعنى
مع مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء المثبتين للواجب الموسَّع.
الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الثانية - وهم بعض الحنفية القائلين: إن
الوجوب متعلِّق بآخر الوقت - هذا الخلاف اختلف فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، وذلك لأن القائلين:(1/197)
إن الوجوب متعلق بآخر الوقت يجوِّزون فعله في أول الوقت، وإنما
الخلاف في تسميته واجباً.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية:
ْوهذا هو الصحيح عندي، لأنه بعد استقراء وتتبع بعض المسائل
الفقهية وجد أنها تأثرت بهذا الخلاف، وإليك بعض المسائل في ذلك:
1 - إذا صلى الصبي في أول الوقت، ثم بلغ قبل انقضاء الوقت
الموسع فهل تجزئه تلك الصلاة، ولا إعادة عليه أم ماذا؟
اختُلِف في ذلك:
فعلى مذهب الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - فإن
صلاته التي صلاها في أول الوقت تجزئه، ولا يلزمه إعادتها،
وقالوا - في تعليل ذلك -: إن الوجوب متعلّق في أول الوقت كما
هو متعلّق في آخر الوقت، وهذا الصبي قد بلغ قبل انقضاء زمن
الوجوب، فلا إعادة عليه، كما لو بلغ بعد انقضاء الوقت.
وعلى مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب متعلِّق
في آخر الوقت - فإن صلاته لا تجزئه، فيلزمه إعادتها، وقالوا - في
تعليل ذلك -: إن الوجوب يثبت بآخر الوقت، وقد صار فيه أهلاً
للوجوب، حيث إنه بلغ فيه، فبان: أن ما أداه أولاً لم يكن في وقته.
2 - إذا سافر في أول الوقت، أو حاضت المرأة بعد دخول
الوقت، ومضى مقدار الفعل من الزمان فهل يجب الإتمام على
المسافر، أو القضاء على الحائض؟
اختُلِف في ذلك:
فعلى مذهب الجمهور: يجب الإتمام على المسافر، والقضاء على
الحائض؛ لأن كلًّا من المسافر والحائض قد أدرك وقت الوجوب.(1/198)
أما على مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب
متعلِّق بآخر الوقت - فإنه لا يجب الإتمام على المسافر، ولا القضاء
على الحائض، لأن الوجوب لم يتحقق في أول الوقت.
الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الثالثة - وهم الذين قالوا: إن الوجوب يتعلَّق
بالجزء الذي يتصل به الأداء وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا
يفصل عنه - خلاف لفظي إن أرادوا من قولهم: " إن وقته المعيَّن هو
ما اتصل به الأداء ": أن ذلك وقته بطريق البدلية.
وقد بيَّنت ذلك هناك.
لكن إن أرادوا بتلك العبارة: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته،
وأن ما سوى ذلك لم يكن وقته، فالخلاف بينهم وبين الجمهور
معنوي؛ وذلك لمخالفته مقصود الجمهور المثبتين للواجب الموسع.
وقد بيَّنت ذلك بصورة أوسع في كتابي: " الواجب الموسع عند
الأصوليين "، وكتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت.
خامسا: الاختلاف في اشتراط العزم:
لما رجحنا في المسألة السابقة مذهب الجمهور، وهم المثبتون
للواجب الموسع بالأدلة، اختلف هؤلاء - فيما بينهم - في مسألة
وهي: إذا لم يفعل المكلف الفعل في أول وقته، وأراد فعله في آخر
الوقت، فهل يشترط العزم على ذلك أو لا؟
اختُلِف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يشترط العزم.(1/199)
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أي
جزء من أجزاء الوقت، فالمكلف مخير في أن يوقع الفعل في أول
الوقت، أو في وسطه، أو في آخره، ولكن لا يجوز ترك الفعل
في أول الوقت إلا بشرط العزم على فعله في وسط أو آخر الوقت،
فإن جاء آخر الوقت وهو لم يفعل الواجب فحينئذ تعيَّن فعله.
ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسع.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: القياس على الواجب المخيَّر، بيانه:
أنه لا يجوز للمكلف ترك أي خصلة من خصال الواجب المخيَّر إلا
بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن يترك الفعل في
الجزء الأول من الوقت في الواجب الموسع إلا بشرط العزم على فعله
في الجزء الأوسط، أو الأخير من الوقت.
الدليل الثاني: أن وجوب العزم تابع لبقاء الفعل في الذمة،
ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو لم يدخل؛ لأنه إذا لم
يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم على الترك، وهو معصية،
وترك المعصية واجب، إذن: العزم واجب.
الدليل الثالث: أن العزم لا بد منه إذا ترك فعلاً واجبا عليه مريداً
عمله في آخر وقته، فلذلك أوجب العلماء على المسافر إذا أراد أن
يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير: أن يعزم على فعل صلاة الظهر
مع العصر، وإن لم يعزم فيكون تاركاً للصلاة - ضرورة - وهو
حرام.
كذلك المديون لا يجب عليه الأداء في وقت معين -(1/200)
ما لم يشترط - ولكن يجب عليه العزم على أدائه، وإن لم يعزم على ذلك
فقد فعل محرَّماً.
ومثل ذلك الواجب الموسع إذا ترك فعله في أول وقته، فيجب
عليه أن يعزم على فعله في آخر وقته، وإلا كان تاركاً للفعل مطلقاً،
وهذا لا يجوز.
الدليل الرابع: أن القائل بأنه يجوز تأخير الفعل بدون بدل وهو
العزم يقال له: " لما لم يفعل المكلف الواجب في أول الوقت ما هي
نيته؛ ".
فإن قال: " لا نية له "، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا بد لكل
عبادة من نية.
وإن قال: " إن له نية وهي: أن يعمله فيما بعد ": نقول: هذا
هو العزم على الفعل، وهو المطلوب.
المذهب الثاني: لا يشترط العزم.
أي: يجوز للمكلف تأخير الفعل في الواجب الموسع إلى وسط
الوقت، أو إلى آخره مطلقا، أي: بدون بدل، وذلك إلى أن
يتضيق الوقت بحيث إنه لو لم يشتغل به لخرج بعضه عن الوقت،
فإنه لا يجوز له التأخير إذ ذاك، أو يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل
به في هذا الجزء لفاته في الجزء الثاني من الوقت.
ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين ومنهم الغزالي في " المنخول "،
وإمام الحرمين في " البرهان "، وأبو الحسين البصري في " المعتمد "،
وفخر الدين الرازي في " المحصول "، وأبو الخطاب في " التمهيد"،
والبيضاوي في " المنهاج "، وابن السبكي في " جمع الجوامع "
و" الإبهاج "، وغيرهم.(1/201)
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المكلََّف الذي أخر الفعل الواجب في وقته
الموسع إلى آخر الوقت لو غفل عن العزم ومات: لم يكن عاصيا،
فلو كان العزم واجبا لعصى بموته وهو تارك له؛ لأن تارك الواجب
عاص.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأنه لم يعض لما ترك الواجب هنا؛ لأنه
غافل، والغافل غير مكلَّف؛ لأنه لا يفهم خطاب الشارع حال
غفلته، فيكون معذوراً بالغفلة، ولذلك لم يعص.
الدليل الثاني: لو كان العزم على الفعل في آخر الوقت بدلا عن
الفعل في أول الوقت: لوجب أن يكون بدلا عن أصل الواجب
حتى لا يجب عليه الفعل، ولما لم يجز أن يكون العزم على الفعل
بدلا عن أصل الوجوب لم يجز أن يكون بدلا عن الفعل في أول الوقت.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن العزم على الفعل ليس بدلا عن الفعل
مطلقا، وإنما هو بدل عن الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه إلى أن
يبقى من الوقت ما يسع الفعل، وحينئذ يكون الفعل هو المتيقن على
المكلف، وذلك مثل التيمم في الطهارة ينتصب بدلا عن الوضوء في
استباحة الصلاة، ولا ينتصب بدلا عنه في رفع الحدث.
الدليل الثالث: أن العزم على الفعل بدل عن الصلاة في أول
الوقت، ومعروف أن البدل هو: ما يفعل لتعذر المبدل منه، وفعل
الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل.(1/202)
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه وقع في الشريعة حالات يؤتي فيها
بالبدل مع أن المبدل ليس بمتعذر على المكلَّف أن يأتي به، تيسيراً
وتسهيلاً على المكلفين.
من أمثلة ذلك: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين،
وكذلك المسح على العمامة بدل عن مسح الرأس، فهذه يجوز فعلها
مع القدرة على المبدل، وهذا كله من باب الرخص والتسهيل على
المكلفين، والواجب الموسع وسع اللَّه وقت أدائه من باب التيسير
والتسهيل.
ثم إن العزم على الفعل ليس بدلاً عن نفس الصلاة، بل هو بدل
عن تقديم فعلها - فقط -.
الدليل الرابع: أن قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل) ، وقول جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "الوقت ما بين هذين "، وكذلك جميع النصوص الواردة في المواقيت يفهم
منها: أن الصلاة واجبة في هذا الوقت المحدد، وليس فيها أي
تعرض لوجوب العزم على الفعل في آخر الوقت إذا ترك فعل
الصلاة في أول الوقت، فإيجاب العزم - حينئذ - يكون زيادة على
النص لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الدليل لكم يفهم منه. أنكم تطالبوننا
بالاستدلال على اشتراط العزم على الفعل إذا لم يفعل الواجب
الموسَّع في أول الوقت، والمطالبة بالدليل ليست بدليل.(1/203)
وعلى فرض أن المطالبة بالدليل دليل، فإننا قد أثبتنا أدلة قوية على
اشتراط العزم.
الجواب الثاني: أنا نوافقكم على أن النصوص السابقة لم تتعرض
صراحة لاشتراط العزم على فعل الصلاة في آخر الوقت إن لم تفعل
في أول الوقت، لكن فهم من تلك النصوص: أن الصلاة الواجبة
لا تتم ولا تصح إلا بأحد شيئين:
إما فعلها في أول الوقت.
أو العزم على فعلها في آخر الوقت.
ولا ثالث لهما.
وإذا كانت الصلاة لا تتم إلا بذلك - وهو قد ترك الفعل في أول
الؤقت - فيكون العزم واجباً؛ بناء على القاعدة الأصولية المعروفة:
" ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المشترطين للعزم وغير المشترطين خلاف لفظي، لاتفاق
الفريقين على أن المكلَّف لا يترك الفعل في أول الوقت إلا إذا كان
عازما على الفعل في آخر الوقت، وإن لم يصرح أصحاب المذهب
الثاني - وهم المانعون من اشتراط العزم - بذلك؛ لأن وجوب العزم
تابع لبقاء الفعل في الذمة ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو
لم يدخل، وذلك لأنه إذا لم يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم
على الترك، وهو معصية، وترك المعصية واجب.
فأي مكلف عاقل يفهم الخطاب لا يمكن - بأي حال من الأحوال -
أن يترك الفعل في أول وقته مطلقاً، بل تركه، وهو ينوي أن يعمله(1/204)
في وقت آخر، وهو آخر وقت الوجوب، حيث إنه لو أخَّره عن
ذلك الوقت المحدَّد شرعاً من غير عذر فإنه يأثم، ويجب عليه
القضاء، وهذا متفق عليه بين الفريقين فكان الخلاف في الاصطلاح
واللفظ.
سادسا: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته:
قلنا - فيما سبق -: إن المكلَّف إذا لم يفعل الواجب الموسع في
أول وقته، وأراد تأخيره إلى آخر وقته، فلا يجوز ذلك التأخير إلا
إذا كان عازماً على فعله في آخر وقته.
لكن هذا التأخير ليس مطلقاً، بل له حالات تختلف باختلاف
ظن المكلَّف، وضيق الوقت، ولكل حالة حكم خاص بها، وإليك
بيان ذلك:
الحالة الأولى: لو أخَّر المكلف الفعل - في الواجب الموسع -
عن أول الوقت مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت:
فإنه يكون عاصياً بترك الفعل في أول الوقت، وإن لم يمت، لأنه قد
تضيَّق الوقت بناء على ظنه الغالب، وترك الواجب في وقته المضيق
بلا عذر عصيان، هذا بالاتفاق.
الحالة الثانية: لو أخَّر المكلَّف الفعل حتى ضاق الوقت عن فعله،
ثم مات ولم يبق إلا الوقت الذي يتسع لأقل من أربع ركعات: فإنه
يموت عاصياً، لأنه لا يجوز تأخير الفعل عن هذا الوقت.
الحالة الثالثة: إذا أخر المكلَّف الفعل في الواجب الموسَّع عن أول
الوقت مع غلبة ظن السلامة، فمات فجأة أثناء الوقت الموسع، مثل
لو مات بعد زوال الشمس، وقد بقي من وقت الظهر ما يتسع لفعلها(1/205)
وأكثر ولم يصلها، فاختلف العلماء المثبتون للواجب الموسع في
عصيانه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لم يمت عاصيا.
ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسَّع.
وهو الصحيح؛ وذلك لأن الواجب الموسَّع يجوز تركه في أول
الوقت ليعمله في آخر وقته المحدَّد، وقد جاز الترك مع عدم علمه
بالعاقبة، وإذا كان تركه في أول الوقت ليفعله في آخر وقته جائزاً،
فكيف يعصى؟!.
المذهب الثاني: أنه يموت عاصيا.
ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وأبو الخطاب، والمجد ابن تيمية.
دليل هذا المذهب:
احتج أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يجوز له تأخير الفعل
من أول الوقت إلى آخره بشرط سلامة العاقبة، وهو: أنه يبقى إلى
آخر الوقت فيفعل الواجب.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنه نقل عن السلف أنهم أجمعوا على عدم
عصيان من مات في أثناء الوقت، وهو لم يفعل الواجب الموسع؟
إذ يعلم من عادتهم بالضرورة أنهم ما كانوا يؤثمون من مات فجأة في
أثناء الوقت إذا كان عازما مصمما على الامتثال.
وإذا ثبت الإجماع على هذا، فالقول بأنهم يعصون قول مخالف
للإجماع فلا يجوز.
الجواب الثاني: أن هذا الشرط لا يسلَّم لكم؛ لأن العاقبة مستورة(1/206)
عن المكلف، وهي تعتبر من المغيبات التي لا يعلمها إلا اللَّه - تعالى -
فاشتراط مثل ذلك الشرط يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال
فهو محال؛ لأن سلامة العاقبة غيب لا يعلمه إلا اللَّه عَزَّ وجَلَّ،
ولم نكلف علمه، ولا بناء الأحكام عليه، لأننا لا نعلم حقيقة هل
يبقى المكلَّف حياً إلى آخر الوقت، فيفعل الواجب أو لا؟
واعلم: أنه لا يجوز للمكلف العزم على تأخير الفعل إلا إلى
زمن يغلب على ظنه السلامة، والبقاء إليه، والعيش فيه كمن أخَّر
فعل الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها، ومثل الشاب، أو الشيخ
الصحيح الذي لا يشكو من علَّة إذا أخَّر قضاء رمضان إلى شعبان،
والشاب الصحيح إذا أخَّر أداءَ الحج إلى سنة، أو سنتين - على رأي
من قال بأن الحج من أمثلة الواجب الموسَّع -.
فالظن - إذن - يختلف باختلاف الأحوال وقوى الرجال.
فإذا غلب على ظنه السلامة والبقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع
الفعل فيه: جاز له تأخير الواجب الموسَّع إليه بمقتضى ذلك الظن
الغالب للبقاء.
وإذا غلب على ظنه عدم البقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع
الفعل فيه: وجب الإتيان بالفعل قبل ذلك الزمن الذي لا يستطيع
أداء الفعل فيه، لأن الظن - هنا - مناط التعبد، فإن عزم على
تأخير الفعل مع ظنه الغالب في عدم السلامة والبقاء إليه: عصى
بمجرد هذا التأخير، لأنه أخَّر الواجب عن وقته مع القدرة على فعله
مع الظن الغالب من عدم البقاء.
فمثلاً لو عزم المريض المشرف على الهلاك على تأخير قضاء الصوم
شهراً، أو عزم الشيخ الهرم الضعيف على التأخير، وغلب على(1/207)
ظنهما أنهما لا يعيشان إلى تلك المدة: عصيا بهذا التأخير؛ قياساً
على الشخص الذي عنده وديعة وظن ظناً غالباً بأن النار ستأتي عليها
فتحرقها، ومع ذلك لم يزلها من هذا المكان الخطر فهنا يضمنها؟
لأنه فرط في هذه الوديعة.
فكذا هنا يعصي ويأثم؛ لأنه أخَّر أداء الواجب إلى آخر وقته مع
ظنه الغالب بأنه لا يبقى إلى ذلك الوقت؛ حيث فرط في الوقت
الذي تضيق بسبب ظنه.
سابعاً: إذا فعل المكلَّف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه لا
يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء؟
المكلف إذا غلب على ظنه أنه لن يبقى إلى آخر الوقت في
الواجب الموسَّع، ومع ذلك أخَّره فإنه يعصي بذلك التأخير، لأنه
ترك العمل بالظن الراجح، وعمل بالظن المرجوح، وهذا لا
يجوز؛ لما فيه من التفريط.
لكن لو حصل من المكلَّف أنه أخَّر الواجب الموسع إلى آخر وقته
مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى ذلك الوقت، ثم بأن له خطأ
ظنه فبقي - أي: لم يمت - وفعل ذلك الواجب في وقته المحدد له
شرعاً فهل يكون ذلك الفعل قضاء أو أداء؟
فمثلاً: لو أخَّر فعل الصلاة إلى آخر وقتها، مع غلبة ظنه أنه لا
يعيش إلى آخر الوقت، ولكنه عاش وفعل الصلاة في آخر الوقت،
فهل يكون هذا الفعل أداء أو قضاء؟
اختلف المثبتون للواجب الموسَّع
في ذلكْ على مذهبين:
المذهب الأول: أن الفعل أداء، ولا يكون قضاء.(1/208)
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وابن السبكي.
وهو الصحيح؛ لدليلين:
أولهما: أن الفعل قد وقع في وقته المحدد له شرعا، وهذه حقيقة
الأداء.
ثانيهما: أنه بأن خطأ ظنه، ولا عبرة بالظن الذي بأن خطؤه.
المذهب الثاني: أن الفعل قضاء، ولا يكون أداءً.
نسب هذا المذهب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني.
دليل هذا المذهب:
استدل لهذا بأن المكلف لا غلب على ظنه أنه يموت قبل فعله صار
مضيقا في حقه بمقتضى ظنه ذلك، وصار كأن آخر. وقته هو: أول
الوقت الذي ظن أنه يموت فيه، فصار فعله له بعد ذلك خارجا عن
الوقت المضيق، أشبه ما لو فعله بعد خروج الوقت الأصلي المقدر له شرعا.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن جميع الوقت كان وقتا للأداء قبل ظن المكلف
تضييقه بالموت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا المكلَّف قد
أوقع الفعل أولاً في وقته المحدد شرعا، وهذا هو الأداء حقيقة،
والظن لا يغير شيئاً في ذلك، إنما أثر الظن في تأثيمه بالتأخير بدون
عزم، ولا يلزم من تأثيمه بالتأخير مخالفة الأصل المذكور، وهو
بقاء الوقت الأصلي وقتا للأداء في وقته.
الجواب الثاني: أن قول القاضي: " إن هذا الفعل قضاء "(1/209)
يلزم منه أن يوقعه بنية القضاء، وهذا بعيد " لأن وقت الأداء لا زال باقياً،
ولا قضاء في وقت الأداء " لأن القضاء والأداء متنافيان، كل واحد
منهما له وقت يخالف الآخر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه كما هو واضح قد وقع
الخلاف في التسمية، وقيل غير ذلك.
ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟
هذا سبقت الإشارة إليه، ولكن لا بدَّ من ذكره هنا، تذكيراً
بذلك وحصراً له، ولبيان متى يعصى؟ فأقول:
يضيق الوقت في الواجب الموسَّع بطريقين:
الطريق الأول: بالانتهاء إلى آخر الوقت، بحيث لا ينفصل زمانه عنه.
وبناء على ذلك فإن المكلَّف يعصي بخروج وقته.
الطريق الثاني: بغلبة الظن بعدم البقاء إلى آخر الوقت، فإنه
مهما غلب ذلك على ظنه فإنه يجب عليه الفعل، كما لو كانت المرأة
تعرف أن الحيض يأتيها في ساعة معينة من الوقت، فيتضيق الوقت
عليها، فيجب عليها الفعل قبل ذلك الوقت.
وبناء على ذلك: فإن المكلف يعصي إذا أخَّره عن ذلك الوقت
الذي ظن أنه لا يبقى إليه.
المسألة الثامنة: الواجب المحدَّد، والواجَب غير المحدَّد:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما:
الواجب ينقسم بالنظر إلى تقديره وتحديده وعدم ذلك إلى قسمين:
القسم الأول: " واجب محدَّد ".(1/210)
القسم الثاني: " واجب غير محدَّد ".
أما القسم الأول - وهو: الواجب المحدَّد - فهو: الفعل الذي
طلبه الشارع طلباً جازماً، وقد حدَّده الشارع وقدَّره بمقدار معيَّن،
وفصله عن غيره، مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة
بركعات محدَّدة، ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر لمن
حدده، وغسل الوجه، وغسل الرجلين واليدين، ونحو ذلك.
فحكم هذا القسم: أن لا يفعل المكلَّف شيئاً زائداً على الفعل
المحدَّد والمعيَّن، وإذا توقف وجوده، أو العلم بوجوده على شيء:
يكون ما توقف عليه واجباً، لأنه لا تبرأ الذمة إلا بأدائه بمقداره الذي
قدَّره الشارع، وهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما القسم الثاني - وهو: الواجب غير المحدَّد - فهو: الذي لم
يحدده ولم يقدره الشارع بقدر معين مثل: الطمأنينة في الركوع،
والطمأنينة في السجود، ومدة القيام، ومدة القعود، وذلك في
الصلاة، حيث وجبت الطمأنينة في الركوع والسجود، ولكن لم
يقدر الشارع مدة هذه الطمأنينة، كذلك أوجب الشارع فيها القيام
والقعود مدة من الزمن، ولكن لم يحدد ولم يعين الشارع هذه المدة.
فحكم هذا القسم: أن المكلف يستطيع أن يزيد على أقل
الواجب، بحيث تكون هذه الزيادة لا تنفصل عن حقيقة الواجب
مثل: الزيادة في الطمأنينة في الركوع والسجود، والزيادة في مدة
القيام، وفي مدة القعود.
ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب:
هذه الزيادة التي يزيدها المكلَّف على أقل الواجب
هل هي واجبة أو هي مندوبة؟
اختلف العلماء على مذهبين:(1/211)
المذهب الأول: أن تلك الزيادة مندوبة.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وفخر الدين الرازي،
والبيضاوي، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الشيرازي،
وأبي عبد اللَّه الجرجاني، وأبي يعلى الحنبلي، وأبي الخطاب.
وهو الراجح عندي؛ لدليلين:
أولهما: أن الواجب هو: الذي لا يجوز تركه إلا بشرط البدل
وهو: العزم على الفعل في آخر الوقت في الواجب الموسَّع، أو
فعل غيره من الخصال المخير بينها في الواجب المخير، وهذه الزيادة
في الطمأنينة - مثلاً - على أقل الواجب يجوز تركها بلا شرط ولا
بدل، وهذا هو حد الندب، فتكون تلك الزيادة مندوبة.
ثانيهما: أن من فعل من الأمور به ما يقع عليه الاسم، فإنه
يحسن أن يخبر عن نفسه، ويقول: " فعلت ما أمرت به "، ولو
كان اللفظ يتناول أكثر من ذلك لما حسن الإخبار عن نفسه بذلك.
المذهب الثاني: أن الزيادة على أقل الواجب تكون واجبة.
أي: أن الزيادة على أقل ما يطلق عليه الاسم واجبة فيكون الفعل
جميعه واجب.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، ونسب إلى الكرخي منهم.
دليل هذا المذهب:
إن نسبة الواجب وما زاد عليه إلى الأمر نسبة واحدة، والأمر في
نفسه أمر واحد لا يتجزأ، وهو أمر إيجاب، والواجب وما زاد عليه
لا يتميز أحدهما عن الآخر بشيء، فإذا فعل المكلَّف الواجب وما
زاد عليه يوصف بأنه ممتثل، والامتثال واجب فيكون الواجب وما زاد
عليه واجباً.(1/212)
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إما أن تتميز الزيادة، أو لا تتميز.
فإن تميزت الزيادة عن الواجب الذي تناوله الاسم، أي: تميز
أحدها عن الآخر ببعض التميز فلا نسلم أن نسبة الواجب وما زاد
عليه إلى الأمر نسبة واحدة، بل الواجب نسبته إلى الأمر بالوجوب،
ونسبة الزيادة إلى الأمر بالندبية.
ولا نسلم - أيضا - أن الأمر في نفسه واحد لم يتجزأ، بل الأمر
واحد من حيث اللفظ، أما من حيث حقيقته فهو أمران: أحدهما:
جازم بالنسبة إلى الواجب، والآخر: غير جازم بالنسبة إلى الزيادة.
أما إذا لم تتميز الزيادة - أي: لم يتميز الواجب وما زاد عليه -:
فيحتمل أن يكون بعضه واجبا وبعضه ندبا؛ قياسا على من دفع ديناراً
عن زكاة عشرين ديناراً، فيكون نصف الدينار عن العشرين،
والنصف الآخر قد دفعه ندبا وصدقة.
بيان نوع هذا الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره؛ حيث ترتب على هذا
الخلاف اختلاف في بعض المسائل الفقهية، ومنها:
1 - أنه إذا مسح رأسه كله دفعة واحدة - وقلنا: إن الواجب
مسح قدر الناصية - فالواجب هو: قدر الناصية، والزائد ندب على
المذهب الأول، أما على المذهب الثاني: فكله واجب.
2 - أنه لو كان عنده خمس من الإبل فعجل زكاتها، وأخرج
بعيراً - وقلنا بالإجزاء - فهل كله واجب، أو بعضه هو الواجب؟
اختلف في ذلك والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة الأصولية.(1/213)
3 - أنه إذا زاد في مبيت ليلة مزدلفة الواجبة لحظة من النصف
الثاني، فإن الزيادة نافلة؛ بناء على المذهب الأول، أما على
المذهب الثاني، فالكل واجب.
4 - أنه إذا وقف بعرفات زيادة على قدر الواجب، فالزيادة نفل
بناء على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني فالكل واجب.
المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب تسميتهما بذلك:
الواجب ينقسم باعتبار فاعله إلى قسمين:
القسم الأول: الواجب العيني.
القسم الثاني: الواجب الكفائي.
أما القسم الأول - وهو: الواجب العيني - فهو: ما يتحتم أداؤه
على مكلَّف بعينه.
أو هو: ما طلب حصوله من كل واحد من المكلفين كالصلاة،
والصيام والحج، ونحو ذلك.
وسمي بالواجب العيني؛ لأن الفعل الذي تعلق به الإيجاب
منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة.
وحكمه: لزوم الإتيان به من كل واحد بعينه، بحيث لا تبرأ ذمته
إلا بفعله.
أما القسم الثاني - وهو: الواجب الكفائي - فهو: ما يتحتم
أداؤه على جماعة من المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام(1/214)
به بعض المكلَّفين فقد أدِّي الواجب، وسقط الإثم والحرج عن الباقين
مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على
الميت وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، وإنقاذ الغريق، ونحو ذلك.
وسمي بالواجب الكفائي؛ لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من
حيث إن فعله من أي فاعل أسقط طلبه عن الآخرين.
وحكمه: أنه إذا قام به من يكفي من المكلَّفين سقط عن الباقين.
وإذا لم يؤده أحد لحق الإثم جميع المكلَّفين.
فالقصد من الفعل الكفائي: هو وقوع الفعل نفسه لما يترتب عليه
من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة بقطع النظر عمن يقع منه.
ثانياً: متى يتحوَّل الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟
عرفنا - فيما سبق - أن المقصود من الواجب الكفائي هو: وقوع
الفعل لما يترتب عليه من جلب المصلحة أو دفع المفسدة، دون النظر
إلى فاعله، ولكن قد تطرأ بعض الأحوال التي تجعله واجباً عينياً،
وذلك مثل:
1 - أن يأمر الإمام شخصاً بتجهيز ميت تعين عليه، وليس له
استنابة غيره.
2 - أنه لو رأى شخص غريقاً، وكان بإمكانه إنقاذه أصبح إنقاذه
واجباً عينياً عليه.
3 - لو دخل الكفار ديار المسلمين، ولم يتمكن الجند صدهم
تعين على كل مسلم مكلَّف قادر أن يساهم بما يستطيعه حتى يتحقق
صد العدو.
4 - إذا غلب على ظن المكلَّف أن غيره لم يقم بالواجب
الكفائي، وهو قادر على القيام به أصبح هذا الواجب في حقة عينياً.(1/215)
ثالثاً: شروط فرض الكفاية:
الذي يوصف بأنه فرض كفاية له شرطان:
الشرط الأول: أن يكون فيه مصلحة شرعية، أو هو وسيلة
لمصلحة شرعية.
مثال المصالح الشرعية: ضبط أصول الفقه، وفروعه، والكتاب،
والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، وأنواع الأدلة، وأن يوصلها كل
قرن إلى من بعده، ومناظرة الملحدين والطاعنين في الدين الإسلامي،
وضبط أصول الدين، وتعليم القرآن، والفروع الشرعية للطلاب،
والنحو، واللغة، وكل ما يتعلق بالكتاب والسُّنَّة.
ومثال الوسائل إلى المصالح الشرعية: الصنائع والحرف التي لا
يستغنى عنها الناس، فيجب أن تخرج لكل حرفة طائفة من الناس،
فإذا كان لهم في ذلك نية حسنة أثيبوا ثواب الواجب، وإن لم يكن
لهم نية فلا ثواب لهم، وليس كل واجب يثاب عليه.
الشرط الثاني: أن يكون مما لا تتكرر مصلحته بتكرر وجوده، مثل:
إنقاذ الغريق، فإنه إذا رفعه واحد من البحر، ثم نزل آخر بعده لم
يحصل بنزوله مصلحة، وكذلك إطعام الجوعان، وإكساء العريان،
فهذا ونحوه يجب على الكفاية، ويسقط عن الآخرين نفياً للتعب.
رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن فرض العين مفروض حقاً للنفس، فهو أهم(1/216)
عندها من فرض الكفاية وأكثر مشقة، بخلاف فرض الكفاية، فإنه
مفروض حقا للكافة، والأمر إذا عم خف، وإذا خص ثقل.
المذهب الثاني: أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين.
ذهب إلى هذا أبو محمد الجويني، ونسبه إلى الإمام الشافعي.
دليل هذا المذهب:
أنه في فرض الكفاية يسقط الفرض عن نفسه وعن غيره، فهو أكثر
في الأجر، أما في فرض العين فإنه يسقط الفرض عن نفسه - فقط -.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا ليس بصحيح؛ لأن القيام بفرض العين أكثر
في الأجر والثواب؛ لأنه أشق من فرض الكفاية، والأجر على قدر
المشقة.
أما نسبته إلى الإمام الشافعي فليس بصحيح، - فإن الشافعي مع
أصحاب المذهب الأول، ودل على ذلك قوله في " الأم ": " قطع
الطواف المفروض لصلاة الجنازة، أو الرواتب مكروه؛ إذ لا يحسن
ترك فرض العين لفرض الكفاية ".
وذكر الغزالي في " إحياء علوم الدين " - مؤيدا المذهب الأول -:
أن من عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية، وزعم أن مقصوده
الحق: فهو كذاب، ومثاله: من ترك الصلاة، واشتغل في تحصيل
الثياب ونسجها قصداً لستر العورات.
خامسا: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع:
الصحيح: أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه إلا في حالتين:
أولهما: في الجهاد في سببيل اللَّه؛ لأنه إذا شرع في الجهاد ثم(1/217)
ترك الصف، ففي ذلك كسر لقلوب الجند، وعدم حثهم على
القتال.
ثانيهما: في الصلاة على الجنازة؛ لأنه إذا شرع في الصلاة على
الجنازة، فإنه يلزمه الإتمام، لأن الانسحاب من ذلك فيه هتك لحرمة
الميت كمن قام من مجلس مسلم بدون إذنه.
سادساَّ: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟
اختُلِف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المخاطب بفرض الكفاية هو الكل، أي:
موجه إلى جميع المكلَّفين، وفعل بعضهم هذا الواجب مسقط للطلب
منهم.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لاتفاق العلماء على ترتيب الإثم على الجميع إذا
لم يقم به أحد، فتأثيم الجميع موصما لتكليفهم جميعاً، لأنه لا
يمكن أن يؤاخذ الإنسان على شيء لم يكلفه، فدل على أن وجوبه
على الجميع.
المذهب الثاني: أن المخاطب بفرض الكفاية هو: بعض المكلفين
- فقط -.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كتاج الدين ابن السبكي في " جمع الجوامع ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس الإبهام في المكلََّف على الإبهام في المكلَّف به.
بيانه: كما جاز التكليف بأمر مبهم في الواجب المخيَّر، فكذلك(1/218)
يجوز تكليف بعض مبهم من الجماعة، وذلك لحصول المصلحة
المطلوبة في ذلك.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا القياس غير صحيح، لأنه قياس مع النص،
حيث وردت نصوص دلت على تكليف الجميع دون البعض، كما في
قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله) ، وقوله: (يا أيها الذين
آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، فهذه الخطابات وردت في
القتال، وهي تعم كل الأفراد بدليل واو الجماعة واسم الموصول
اللذين يفيدان العموم، مع الاتفاق على أن القتال فرض كفاية، فإن
هذا التعميم في الآيات بتوجيه الخطاب إلى مجموع المسلمين دليل
على أن الواجب الكفائي مطلوب من الجميع.
الدليل الثاني: أن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض المكلَّفين
دليل على توجيه الخطاب فيه إلى بعض المكلَّفين، لا كلهم، لأن
الأصل عدم سقوط الشيء إلا بفعل من وجب عليه، وما دام أن
الاتفاق قد وقع على سقوطه بفعل بعض المكلَّفين، فيكون الواجب
موجها إلى هذا البعض فقط.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الواجب قد سقط عن الجميع بفعل بعضهم لا
لأن هؤلاء البعض قد طلب منهم الواجب فقط، وإنما سقط الواجب
عن الجميع بفعل البعض، لأن المقصود في الواجب الكفائي هو:
فعل الواجب وإيقاعه بقطع النظر عن الفاعل - كما قلنا سابقا -،
فإذا كان الفعل قد حصل فقد حصلت المصلحة التي من أجلها صدر
الأمر من الشارع، وبعد ذلك يكون بقاء الوجوب على الباقين(1/219)
تحصيلاً للحاصل، كما لو أوجب أداء دين على كفيلين، فأدى
أحدهما الدين كله، فإنه يسقط أداء هذا الواجب عن الكفيل الآخر،
فكذا هنا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لأن الحكم لا يتغير
سواء كان المخاطب به هو الكل، أو البعض؛ حيث إنه إذا قام به
من يكفي سقط عن الباقين.
***
المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب؟
هذه المسألة تسمى تارة بهذا الاسم، وتسمى تارة بـ " مقدمة
الواجب "، وتارة تسمى بـ " الوسيلة " أو " وسيلة الواجب "
أو "ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به ".
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
أقول في ذلك: إن الذي يتوقف عليه الواجب قسمان:
القسم الأول: ما يتوقف عليه في وجوبه.
القسم الثاني: ما يتوقف عليه في وقوعه.
أما القسم الأول - وهو: ما يتوقف عليه وجوب الواجب - فهذا
القسم لا يجب إجماعا سواء كان سببا أو شرطا، أو انتفاء مانع.
فبلوغ النصاب - مثلاً - سبب يتوقف عليه وجوب الزكاة، فلا
يجب على أحد تحصيله حتى تجب الزكاة عليه.
والزوجات والمماليك سبب وجوب النفقات، فلا يجب تحصيلها
حتى تجب تلك النفقات.(1/220)
والإقامة شرط وجوب الصوم، فلا يجب على أحد أن يقيم في
بلد ويترك السفر حتى يجب عليه الصوم.
والدين مانع من الزكاة، فلا يجب على أحد أن يوفي دينه حتى
تجب الزكاة.
أما القسم الثاني - وهو: ما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تقرر
الوجوب - فهو يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: ما يكون غير مقدور للمكلف، أي: أن يكون ما
لا يتم الواجب إلا به غير مقدور للمكلف كالقدرة على الفعل،
واليد في الكتابة، والرجل للمشي، وحضور الإمام والعدد الكامل
للجمعة، فهذا النوع لا يجب إجماعاً؛ لأنه ليس بقدرة المكلف ولا
طاقته تحصيل ذلك، بل عدم تلك الأمور يمنع الوجوب.
النوع الثاني: ما يكون مقدوراً للمكلَّف، أي: أن يكون ما لا
يتم الواجب إلا به مقدوراً للمكلَّف، ويجب فيستطيع فعله واختياره.
وهذا النوع - وهو المقدور عليه - له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون إيجاب الواجب مقيَّداً بحصول المقدور
عليه، وورد صريحاً كقولك لغيرك: " إن ملكت النصاب فزك " أو
تقول: " إن توضأت فصل "، فهذا واجب مقيَّد بحصول السبب،
أو الشرط، وقد حصل الاتفاق على أن كلًّا من السبب والشرط في
- هذه الحالة - لا يجب بوجوب الواجب، بل الواجب نفسه لا
يجب إلا بعد حصول السبب والشرط.
الحالة الثانية: أن يُصرح بعدم إيجابه، كأن يقول: " صل، ولا
أوجب عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به لا يجب
بالاتفاق؛ عملاً بموجب التصريح.(1/221)
الحالة الثالثة: أن يُصرح بوجوبه كأن يقول: " صل، وأوجب
عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به واجب اتفاقاً؟
عملاً بموجب التصريح.
الحالة الرابعة: ألا يصرح الشارع بإيجابه ولا عدم إيجابه، ولا
يقيده بشيء، بل يأتي اللفظ مطلقاً مثل وجوب غسل الوجه، هل
يوجب غسل جزء من الرأس ليتحقق غسل الوجه؛ ومثل وجوب
صوم اليوم هل يجب تبعاً لذلك صوم جزء من الليل ليتحقق من
صوم اليوم؛ فهذا هو المحل الذي تنازع فيه العلماء.
أي: هل ما لا يتم الواجب إلا به واجب؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
* المذهب الأول: أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب مطلقا.
أي: سواء كان سبباً شرعياً مثل: الصيغة للعتق الواجب.
أو سبباً عقلياً مثل: النظر المحصل للعلم الواجب.
أو سبباً عادياً مثل: حز الرقبة بالنسبة إلى القتل.
أو شرطاً شرعياً مثل: الوضوء للصلاة.
أو شرطاً عقلياً مثل: ترك أضداد المأمور به.
أو شرطاً عادياً مثل: غسل جزء من الرأس مع الوجه ليتحقق
غسل كل الوجه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وهذا هو الصحيح عندي، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب،
وما لا بد منه في الواجب يكون واجباً.(1/222)
فعندنا مقدمتان:
الأولى: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب.
الثانية: أن ما لا بد منه في الواجب يكون واجباً.
دليل المقدمة الأولى: أن ما لا بد منه في الشيء الواجب لا يكمل
ذلك الشيء الواجب إلا به.
دليل المقدمة الثانية: أن ما لا بد منه المكمل للواجب لازم،
واللازم واجب، فما لا بد منه واجب.
فنتج من المقدمتين: أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
الدليل الثاني: أن الواقع المحسوس يشهد لذلك، فإن السيد لو
قال لعبده: " ائتني بماء "، ولا يوجد الماء إلا في البئر، فإنه لا
يمكن أن يحضر الماء لسيده إلا بسحب الماء من البئر برشاء ودلو،
فيلزمه - حينئذٍ - إحضار الرشاء والدلو ليسحب بهما الماء، وذلك
ليفعل ما أمره به سيده إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه - مع
القدرة - وإلا لاستحق العقوبة من السيد.
فلذلك لزمه ووجب عليه إحضار السبب " وهو الرشاء والدلو "
الذي بواسطتهما يمكنه تنفيذ أمر سيده، وهو جلب الماء؛ لأنه لا
يمكن إحضار الماء إلا بهما، فلذلك وجبا.
فنتج أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
تنبيه:
اختلف الجمهور - وهم أصحاب المذهب الأول - في وجوب ما لا
يتم الواجب إلا به - وهي مقدمة الواجب -
هل هو متلقى من نفس الصيغة الموجبة للواجب، أو متلقى من دلالتها؟(1/223)
اختلف هؤلاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من نفس
الصيغة الموجبة للواجب المطلق.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كما ذكره ابن السمعاني في
" القواطع ".
القول الثاني: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من دلالة
الصيغة، أي: أن وجوب مقدمة الواجب دلَّت عليها الصيغة من
حيث المعنى.
وهذا هو الصواب؛ لأن الدلالة اللفظية: ما كان مسموعا في
اللفظ، ولا شك أن لكل من الشرط والسبب لفظا يخصه، ولم
يسمع ذلك، فوجب أن تكون دلالته من حيث المعنى.
المذهب الثاني: أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب مطلقا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الخطاب لم يتعرض لإيجاب هذه الأشياء، وأن
هذه الشرائط لها صيغ بخصوصها، واختلاف الصيغ يدل على
اختلاف المصوغ له.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن هذا الدليل لكم يدل على أنكم تقولون
بأن لفظ الصيغة لا يدل على وجوب المقدمة، وإنما وجوب المقدمة
دل عليه معنى الصيغة، وهذا ما نقوله.
الدليل الثاني: أنه لو وجب ما يتوقف عليه الواجب للزم تعقل(1/224)
الموجب له، لأن الإيجاب بدون التعقل غير معقول، والتالي باطل
وذلك لأن كثيراً ما نؤمر بأشياء ونغفل عن مقدماتها.
جوابه:
يقال في الجواب: إنا نمنع لزوم التعقل هنا، وإنما يلزم فيما إذا
كان الأمر بالمقدمة صريحاً، ولكن مقدمة الواجب هنا صارت: واجبة
عندنا عن طريق دلالة الصيغة عليها من حيث المعنى.
- المذهب الثالث: إن كانت المقدمة شرطا شرعيا فتجب، وإن لا
فلا.
ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وابن القشيري، وابن برهان،
وابن الحاجب.
دليل هذا المذهب:
أن الشرط الشرعي إنما عرفت شرطيته من الشارع، فعدم إيجابه
بالخطاب الموجب للمشروط يوجب غفلة المكلف عنه، وعدم التفاته
إليه، وذلك موجب لتركه، وتركه يؤدي إلى بطلان المشروط، فلزم
من ذلك: أن يكون الخطاب الموجب للمشروط موجباً له.
بخلاف غير الشرعي، فإن شرطيته عرفت من غير الشرع كالعقل
والعادة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن هذا التفريق بين الشرط وغيره لا داعي
له؛ لأن كلًّا من الشروط والأسباب الشرعية وغير الشرعية يفهم
وجوبها من صيغة الخطاب الموجب للواجب عن طريق المعنى.
المذهب الرابع: إن كانت مقدمة الواجب سبباً، فتجب وإلا فلا.(1/225)
اختاره صاحب المصادر.
أي: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب سببه
فقط، سواء كان هذا السبب شرعيا، أو غير شرعي، وأما الشرط
فلا يدل الخطاب على إيجابه مطلقا.
دليل هذا المذهب:
أن ارتباط الشيء بسببه أقوى من ارتباطه بشرطه؛ لأنه معروف:
أن السبب يؤثر بطرفي الوجود والعدم، والشرط إنما يؤثر بطرف
العدم خاصة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي ولا مبرر لهذا التفريق بين
السبب والشرط، لأن كلًّا منهما يفهم وجوبه من صيغة الخطاب
الموجب للواجب عن طريق المعنى.
- المذهب الخامس: الفرق بين الملازم في الذهن، وغير الملازم.
فإن كانت مقدمة الواجب قد لازمت الذهن حال استماع المكلف
للأمر، وعلم أن الإتيان بالمأمور به ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة،
فهي واجبة.
أما إذا كانت مقدمة الواجب غير ملازمة للذهن، بل لم نعلم بها
إلا عن طريق العقل والشرع، فلا يكون الأمر واجبا من تلك
الصيغة، بل واجب من المركب من الأمر والعقل.
ذهب إلى هذا بعض المتأخرين، كما قال ذلك الزركشي.
جوابه:
يقال في الجواب عنه - كما قلنا فيما سبق -: إن هذا التفريق(1/226)
لا داعي له؛ لأنه متى ما علمنا بالمقدمة، سواء عن طريق الذهن، أو
عن طريق الخطاب الآمر بالواجب، فإنها تكون تلك المقدمة واجبة.
- المذهب السادس: التوقف.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه يحتمل أن يكون الخطاب الآمر بالواجب الأصلي آمراً بشرط
تحصيل المقدمة، ويحتمل غير ذلك والاحتمالان متساويان، فوجب التوقف.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي لهذا التوقف مع وضوح أدلتنا
على وجوب المقدمة - وهو المذهب الأول - لأن الخطاب الآمر
بالواجب الأصلي هو أمر بتحصيل المقدمة عن طريق معنى الصيغة.
بيان نوع هذا الخلاف:
هذا فيه تفصيل، إليك بيانه:
الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور القائلين بوجوب المقدمة
مطلقا، وبين أصحاب المذهب الثاني القائلين بعدم الوجوب مطلقا،
هذا الخلاف اختُلِف فيه على قولين:
القول الأول: أن الخلاف لفظي.
وهو الصحيح عندي؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقا على أن
المقدمة واجبة، دلَّ على ذلك استقراء وتتبع كلام أصحاب المذهب
الثاني؛ حيث إنه يفهم من كلامهم في تقرير مذهبهم أنهم ينكرون
وجوب المقدمة من نفس الصيغة الموجبة للواجب المطلق، ولكن لا
ينكرون وجوب المقدمة من دلالة اللفظ بالتضمن أو الالتزام.(1/227)
أي: من أنكر إيجاب المقدمة مطلقا لكون الأمر ساكتاً عنها، إنما
أراد أن الأمر لم يتناولها لفظة، ولم ينكر أنها تجب تبعا، وهذا
موافق لمذهب الجمهور بأن المقدمة واجبة مطلقا؛ حيث إنهم أرادوا به
أن المقدمة تجب تبعا للواجب الأصلي، ولم يقولوا: إنها تجب
بالأمر الدال على الواجب صراحة، فكان كل فريق موافقا للآخر في
المعنى والمراد، فكان الخلاف لفظيا.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي له فائدة.
واختلف أصحاب هذا القول - فيما بينهم - في هذه الفائدة، هل
هي في الآخرة، أو في الدنيا؟ على رأيين:
الرأي الأول: أن فائدة الخلاف في الآخرة فقط وهي: تعلق
الثواب والعقاب، أي: إذا فعل المكلف الواجب ومقدمته، فهل
نقول: يثاب ثوابين: ثواب على الواجب، وثواب على المقدمة؟
وإذا تركهما هل يعاقب عقابين: عقاب على الواجب، وعقاب على
المقدمة؟
اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في تلك المسألة
الأصولية.
الرأي الثاني: أن فائدة الخلاف في الدنيا؛ حيث إنه يترتب على
هذا الخلاف في هذه القاعدة، اختلاف في عدد كثير من المسائل
الفقهية، فقالوا على لزوم المقدمة وهو رأي الجمهور الأحكام التالية:
1 - أنه إذا اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا معاً، ووجب الكف
عنهما، وكذا إذا اشتبهت الميتة بمذكاة.
2 - إذا نسي صلاة من الخمس ولم يعلم بها لزمه أن يصلي جميع
الخمس، لتحقق براءة الذمة.(1/228)
3 - إذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب، أو البدن وجب
غسله كله.
4 - إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وجب غسل الجميع
وتكفينهم، والصلاة عليهم.
5 - إذا اشتبهت عليه الثياب النجسة بالطاهرة لزمه أن يصلي بعدد
النجس، ويزيد صلاة أخرى لتحقق الصلاة بثوب طاهر.
الجواب عن تلك الأمثلة:
يجاب عن ذلك بأن تلك الأمثلة لا تمنع من القول بأن الخلاف
لفظي، وذلك لأن أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن
المقدمة لا تجب مطلقا - لا يخالفون في ذلك، فقد وافقوا الجمهور
عليها، لكنهم وافقوهم عليها عن طريق التبع، أي: أنها وجبت
بسبب دلالة الصيغة، لا بنفس الصيغة الدالة على وجوب الواجب
المطلق.
الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب
الثالث والرابع، وهم المفرقون بين السبب والشرط، أو بين الشرط
الشرعي وغيره هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لأنه لا يستلزم الفرق
الذي ذكروه اختلافا بينهما في الأحكام الفقهية.
الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب
الخامس وهم القائلون بالفرق بين الملازم في الذهن فيجب، وبين
غير الملازم فلا يجب هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لاتفاق
الفريقين على أن المقدمة واجبة، وهو عند الجمهور واضح.
أما عند أصحاب المذهب الخامس، فالمقدمة إما واجبة، بالصيغة(1/229)
نفسها التي أوجبت الواجب المطلق، حيث قالوا: إن المكلََّف حال
استماع صيغة الأمر يعلم أن الإتيان بالمأمور ممتنع بدون الإتيان بتلك
المقدمة.
وإما إنها واجبة بدلالة صيغة الأمر، لا بالصيغة نفسها، حيث
قالوا: فلا تكون المقدمة واجبة من تلك الصيغة، بل من المركب من
الأمر والعقل، وهذا هو مقتضى مذهب الجمهور ومقصودهم من
مذهبهم.(1/230)
المطلب الثاني في المندوب
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: مناسبة ذكر المندوب هنا.
المسألة الثانية: في حقيقة المندوب:
أولاً: تعريف المندوب لغة.
ثانياً: تعريفه اصطلاحاً.
المسألة الثالثة: في صيغ المندوب وأساليبه.
المسألة الرابعة: في الاختلاف في أسماء المندوب هل هي مترادفة أو لا؟
المسألة الخامسة: هل المندوب مأمور به حقيقة؟
المسألة السادسة: هل يعتبر المندوب من أحكام التكليف؟
المسألة السابعة: هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟(1/231)
المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المندوب هنا:
لقد ذكرنا المندوب بعد الواجب مباشرة: لاشتراكهما في طلب
الفعل؛ وأن كلًّا منهما يثاب على فعله، وإن كان ثواب الواجب
أعظم من ثواب المندوب.
وبعض الأصوليين يذكرون الحرام بعد الواجب مباشرة، ويذكرون
المندوب قبل المكروه، ولعل علتهم في ذلك: أن كلًّا من الواجب
والحرام يشتركان في صيغة واحدة، والمندوب والمكروه يشتركان في
صيغة واحدة.
فالواجب والحرام يشتركان في الطلب الجازم، سواء كان طلب
فعل أو ترك.
والمندوب والمكروه يشتركان في الطلب غير الجازم، سواء كان
طلب فعل أو طلب ترك.
والأوْلى ما ذكرناه؛ لأن أثر الطلب أو الترك أقوى من أثر الجزم
وعدمه.
المسألة الثانية: حقيقة المندوب:
أولاً: المندوب لغة مأخوذ من الندب وهو: الدعاء إلى أمر مهم،
يقال: " ندبته " أي: دعيته إلى شيء مهم، ولم يرد عن العرب إلا
لذلك كما قال قريط العنبري:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم للنائبات على ما قال برهانا
والنائبة هي: المصيبة العظيمة.(1/233)
فهذا الشاعر قد دعا بني مازن من تميم لنجدته وإعانته على
استرجاع إبله ممن أخذها، فقاموا بذلك، واسترجاع الإبل من
الأعداء ليس بالأمر الهين، فيثبت: أن الندب هو الدعاء إلى فعل
أمر مهم، أما الدعاء إلى فعل أمر غير مهم، فلا يسمى ندباً.
ثانياً: المندوب اصطلاحا:
أقرب التعريفات إلى الصحة عندي هو: المطلوب فعله شرعاً من
غير ذم على تركه مطلقاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " المطلوب فعله " أخرج الحرام؛ لأنه مطلوب تركه،
- وأخرج المكروه؛ لأنه مطلوب تركه - أيضاً -، وأخرج المباح؛ لأنه
لم يطلب تركه ولا فعله.
قولنا: " شرعاً " أخرج المطلوب فعله من غير طريق الشرع.
قولنا: " من غير ذم على تركه " أخرج الواجب؛ لأنه مطلوب
فعله، ويذم على تركه مطلقا.
قولنا: " مطلقا " لبيان أنه يجوز ترك المندوب مطلقاً، أي: بلا بدل.
وأخرج بلفظ " مطلقاً " الواجب الموسَّع، والواجب المخير،
والواجب الكفائي؛ لأن هذه الواجبات الثلاثة يجوز تركها، لكن
بشرط البدل.
فالواجب الموسَّع يجوز تركه في أول الوقت بشرط العزم على
فعله في آخر الوقت.(1/234)
والواجب المخيَّر يجوز فيه ترك أيِّ خصلة بشرط العزم على فعل
الخصلة الأخرى من بين المخيَّر بينها.
والواجب الكفائي يجوز للمكلَّف ترك الواجب بشرط علمه بأن
غيره قد فعله.
أما المندوب فيجوز تركه بلا بدل ولا شرط.
المسألة الثالثة: في صيغ المندوب وأساليبه:
المندوب ليس له صيغة معينة، بل له صيغ مختلفة تدل عليه وهي:
الصيغة الأولى: الأمر الصريح إذا وجدت قرينة تصرفه من
الوجوب إلى الندب، مثل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) ، فهذا الأمر للندب وليس للوجوب، والقرينة الصارفة هي:
السُّنَّة التقريرية؛ حيث إنه لما نزلت هذه الآية لم يكاتب بعض
الصحابة عبيدهم الذين بين أيديهم، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الصيغة الثانية: التصريح بأن ذلك سُنَّة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان - في رواية -: " وسننت لكم قيامه ".
الصيغة الثالثة: التصريح بالأفضلية الوارد من الشارع، ومنه قوله
- في غسل الجمعة -: " ومن اغتسل فالغسل أفضل ".
الصيغة الرابعة: كل عبارة تدل على الترغيب، ومنه قوله - عليه
السلام - لبريرة - حيث أعتقت وفارقت زوجها مغيثا وكان رقيقا -:
" لو راجعتيه ".(1/235)
المسألة الرابعة: الاختلاف في أسماء المندوب هل هي مترادفة أو لا؟
المندوب له أسماء كثيرة، فهل تلك الأسماء مترادفة أو مختلفة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المندوب، والمستحب، والتطوع، والسُّنَّة،
والإحسان، والمرغب فيه أسماء مترادفة؛ لأنها أسماء لمعنى واحد،
وهو: المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقا، أو هو:
الفعل المطلوب طلباً غير جازم.
المذهب الثاني: أن تلك الأسماء غير مترادفة.
وهو: اختيار بعض الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الشافعية،
وبعض الحنابلة.
واختلف أصحاب هذا المذهب في التفريق بينها على أقوال:
القول الأول: إنه يوجد فرق بين السُّنَّة، والمستحب، والتطوع،
فالسُنَّة: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه، والمستحب: هو ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يواظب عليه، بل فعله مرة أو مرتين.
أما التطوع: فهو الذي لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أنشأه المكلَّف من نفسه واختاره، ذهب إلى ذلك بعض العلماء كالقاضي حسين،
والبغوي.
القول الثاني: أن لفظ " السُنَّة " يختص بالعرف بالمندوب بدليل
قولهم: " هذا واجب أو سُنَّة ".
القول الثالت: أن لفظ " السُّنَّة " غير مرادف للمندوب، بل
يتناول كل ما علم أو ظن ندبيته أو وجوبه بقوله أو فعله عليه السلام،
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الختان سُنَّة للرجال ومكرمة للنساء "،(1/236)
وقال: " النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
قال صفي الدين الهندي في " نهاية الوصول ":
وليس المراد منه النكاح المندوب فقط، بل المراد منه إما النكاح
الواجب، أو المطلق الذي هو قدر مشترك بين الواجب والمندوب،
أو العموم ليتناول جميع أفراده.
القول الرابع: إن النفل والتطوع لفظان مترادفان، وهما ما سوى
الفرائض والسنن، أما المستحب ونحو ذلك فأنواع لهما.
القول الخامس: إن السُّنَّة ترتب كالرواتب مع الفرائض، والنفل
والندب: ما زاد على ذلك.
القول السادس: إن النفل قريب من الندب، إلا أنه دونه في الرتبة.
القول السابع: إن السُّنَّة: ما ارتفعت رتبته في الأمر، وبالغ
الشرع في التحضيض عليه، أما ما كان في أول هذه المراتب فهو
تطوع ونافلة، أما ما كان متوسطا بين هذين فهو فضيلة ومرغب فيه.
القول الثامن: إن السُّنَّة: مما صلاهما - صلى الله عليه وسلم - في جماعة وداوم عليها، والفضيلة: ما دخل في الصلاة وليس من أصل نفسها
كسجود التلاوة.
بيان نوع الخلاف:
هذا الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وأصحاب المذهب الثاني
على اختلاف أقوالهم خلاف لفظي راجع إلى اللفظ والتسمية؛ لأن
حاصله أن كلًّا من تلك الأقسام، كما أنها تسمى بأسمائها المذكورة،
هل تسمى بغير تلك الأسماء؟
فعلى المذهب الأول، فإنه يُسمَّى كل منها باسم الآخر، أي:(1/237)
يصدق على كل من الأقسام أنه مرغب فيه من الشارع، ومطلوب
فعله.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا يسمى كل واحد من الأسماء
باسم الآخر، أي: لا يصدق على كل من الأقسام اسم الآخر،
بل لكل اسم واصطلاح خاص به، فالخلاف في إطلاق الاسم فقط.
***
المسألة الخامسة: هل المندوب مأمور به حقيقة؟
لا خلاف ولا نزاع في أن المندوب تتعلق به صيغة الأمر " افعل "،
وتستعمل فيه.
ولكن الخلاف في -: هل المندوب مأمور به حقيقة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المندوب مأمور به حقيقة.
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وأحمد، وأكثر أتباعهما،
واختاره المحققون من الحنفية، وهو وجه عند المالكية.
وهذا هو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول على وجه
الاستعلاء.
والاستدعاء هو: الطلب، والمندوب مستدعى ومطلوب، وبناء
على ذلك فإن المندوب يدخل في حقيقة الأمر كما دخل الواجب؟
لاشتراكهما في شيء واحد وهو: أن كلًّا منهما مستدعى ومطلوب،
فهذا يصدق عليهما.
أي: كما أن " الإنسان " و " الفرس " يصدق عليهما اسم واحد،(1/238)
وهو: " الحيوان "؛ إلا أن الأول حيوان ناطق، والثاني حيوان غير
ناطق، فكذلك الواجب والمندوب يصدق عليهما اسم واحد، وهو:
أن كلًّا منهما مأمور به حقيقة إلا أن الأمر بالواجب أمر جازم،
والأمر بالمندوب أمر غير جازم.
الدليل الثاني: أنه قد شاع وذاع بين الفقهاء وأهل اللغة أن الأمر
ينقسم إلى قسمين: " أمر إيجاب " و " أمر ندب واستحباب "،
وحيث إن مورد القسمة مشترك بين القسمين بالضرورة، فإنه يثبت:
أن المندوب مأمور به حقيقة كالواجب.
الدليل الثالث: أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أطلق الأمر على
المندوب في الكتاب، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فيكون المندوب
مأموراً به حقيقة.
من ذلك: قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) ، فهنا قد أمر اللَّه تعالى بأشياء، منها: ما هو
واجب، كالأمر بالعدل، ومنها ما هو مندوب إليه كالأمر بالإحسان،
وإعطاء ذي القربى، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الأمر يطلق
على المندوب، كما يطلق على الواجب سواء بسواء، وهذا يقتضي
أن المندوب مأمور به حقيقة كالواجب.
ومن ذلك قوله تعالى: (وأمر بالمعروف) ، فهنا قد أمر الله
تعالى بالمعروف، والمعروف عام لدخول أل الاستغراقية عليه، فهو
يشمل الطاعات الواجبة، والطاعات المندوبة، وهذا يدل على أن
الأمر يطلق على المندوب حقيقة كما يطلق على الواجب ولا فرق.
ومن ذلك ما قالته أم عطية - رضي اللَّه عنها -: "أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق "، ومعروف أنه ليس إخراجهن واجباً.(1/239)
ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم،
ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام " فإن هذه الأمور
فيها ما هو واجب، وفيها ما هو مندوب إليه، ومع ذلك قد وحَّد
الشارع الأمر، مما يدل على أن الأمر قد استعمل في المندوب،
والأصل في الاستعمال الحقيقة، فثبت أن المندوب مأمور به حقيقة.
الدليل الرابع: أن المندوب طاعة، وكل ما هو طاعة فهو مأمور به
حقيقة، فالمندوب مأمور به حقيقة.
دليل المقدمة الصغرى - وهي: أن المندوب طاعة -:
إجماع العلماء على أن المندوب طاعة.
دليل المقدمة الكبرى - وهي: أن كل ما هو طاعة فهو مأمور به
حقيقة -: أن الطاعة تقابل المعصية، والمعصية مخالفة الأمر،
فالطاعة: امتثال الأمر.
فتكون النتيجة: أن المندوب مأمور به حقيقة.
اعتراض على هذا:
قال معترض على الدليل الرابع: إن كون المندوب طاعة لا يدل
على أنه مأمور به؛ لأن الطاعة ليست من خصائص الأمر.
جوابه:
يقال في الجواب عن ذلك: إن الطاعة والمعصية مقرونتان بالأمر
من حيث الامتثال والمخالفة، فيكونان من خصائصه، ويؤيد ما قلناه
نصوص قد وردت:
منها: قوله تعالى: (أفعصيت أمري) ، وقوله: (ويفعلون ما يؤمرون) .(1/240)
ومن ذلك: قول حصين بن منذر ليزيد بن المهلَّب - شعراً -:
أمرتك أمراً جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادمَا
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالماَ
ومن ذلك قول العرب - نثراً -: " فلان مطاع الأمر "، و " فلان
معصي الأمر "، وقولهم: " أمر فأطيع "، وقولهم: "أمر فعصي ".
المذهب الثاني: أن المندوب غير مأمور به حقيقة، وإنما اعتبر
مأموراً به عن طريق المجاز.
ذهب إلى ذلك: أبو الحسن الكرخي، والجصاص، وأبو بكر
الشاشي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الإسفراييني، وفخر
الدين الرازي، وعبد الرحمن الحلواني، ونقل عن أكثر الشافعية،
وهو وجه للمالكية، واختاره إلكيا الهراسي، وأستحسنه ابن
السمعاني، وصحَّحه ابن العربي.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه حذَّرنا من مخالفة أمره، وتوعَد من يخالف
ذلك الأمر بالعقاب - وهو الفتنة والعذاب -، فلو كان المندوب
مأموراً به حقيقة لحذَّرنا اللَّه سبحانه من مخالفته، ولكن لم يصدر
أيّ تحذير من مخالفة المندوب؛ حيث إنه يثاب على فعله، ولا
يعاقب على تركه، فينتج أن المندوب ليس مأموراً به حقيقة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه؛ إنا نسلِّم أن الأمر - هنا - يقتضي الوجوب(1/241)
حيث إن اللَّه تعالى توعَّد من يخالف أمره بالعقاب، ولكن يجوز
صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب بصارف، فإذا صرف الأمر
من كونه يقتضي الوجوب إلى كونه يقتضى الندب، فإن ذلك لا
يخرج الأمر عن تسميته أمراً، فثبت: أن الأمر يطلق على المندوب
حقيقة كالواجب بدليل: اشتراكهما في التسمية.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ".
وجه الدلالة: أن " لولا " تفيد انتفاء شىء لوجود غيره، والمراد
هنا: انتفاء الأمر لوجود المشقة.
فلو كان المندوب مأموراً به حقيقة، لكان السواك مأموراً به،
ولكن الصادق المصدوق نفى الأمر عن السواك من أجل المشقة التي
ستلحق الأمة لو أمر به، والمشقة لا تلحق إلا فيما يجب فعله،
فثبت أن المندوب غير مأمور به حقيقة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن المنفي هنا هو الأمر الجازم الذي يقتضي
الوجوب، ويكون تقدير الكلام: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
أمر إيجاب وإلزام "، بدليل: أنه امتنع منه لأجل المشقة، والمشقة
إنما تلحق فيما يلزم فعله.
وإذا ثبت أن المنفي هو الأمر الجازم: ثبت أن الأمر غير الجازم لم
ينفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو الدال على المندوب، فنتج من ذلك: أن المندوب مأمور به حقيقة بقطع النظر عن كونه جازماً أو غير جازم.
الدليل الثالث: أنه يفهم من صيغة الأمر أنها تقتضي إيقاع الفعل(1/242)
اقتضاء جازما لا تخيير فيه؛ حيث إن تاركه يعاقب، بخلاف
المندوب، فإن فيه نوع تخيير، وهو: إن شاء المكلَّف فعل المندوب
وله ثواب، وإن شاء ترك ولا عقاب عليه، ولو كان المندوب مأموراً
به حقيقة لما وقع التخيير فيه، فثبت أن المندوب ليس مأموراً به حقيقة
لثبوت التخيير فيه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الأمر ليس فيه تخيير، بل يقع
التخيير فيه بدليل " الواجب الموسَّع "، حيث خيَّر الشارع المكلَّف
بين أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو وسطه، أو آخره، وبدليل
"الواجب المخيَّر "، حيث خيَّر الشارع المكلَّف بين أن يفعل إحدى
خصال الكفارة.
الجواب الثاني: سلمنا لكم قولكم: " إن الأمر لا تخيير فيه "،
ولكن لا نُسَلِّمُ أن المندوب فيه تخيير؛ لأن فعل المندوب أرجح من
تركه.
أما التخيير فهو عبارة عن كون فعل الشيء وتركه سواء لا يرجح
أحدهما على الآخر كالفعل والترك بالنسبة للمباح، فثبت أن المندوب
لا تخيير فيه، فشارك الواجب في عدم التخيير، فثبتت مشاركته في
كونه مأموراً به حقيقة، فنتج: أن المندوب مأمور به حقيقة.
الدليل الرابع: لو كان المندوب مأموراً به لسمى تاركه عاصيا،
ولجاز أن يقال لمن ترك قيام الليل، وصيام التطوع، وصلاة النفل،
وصدقات التطوع، وإماطة الأذى عن الطريق: " عصيت أمر اللَّه "،(1/243)
كما يقال في الواجب، ولما لم يجز أن يوصف تارك المندوب
بالعصيان دلَّ على أن المندوب غير مأمور به حقيقة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن تارك المندوب لم يسم عاصياً بسبب أن
العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب، فلو سمي تارك
المندوب عاصياً لالتبس مع الواجب، لذلك أسقط اللَّه تعالى الذم
عن تارك المندوب.
بيان نوع هذا الخلاف:
لقد اختلف في هذا الخلاف على قولين:
القول الأول: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له.
وهذا هو الصحيح عندي؛ لأن المندوب مطلوب فعله باتفاق
أصحاب المذهبين، فلم يبق إلا في إطلاق اسم الأمر على المندوب
حقيقة، أو مجازاً.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي، قد ترتب عليه بعض الآثار
والفوائد، منها:
1 - أنه إذا ورد لفظ الأمر، ودل دليل على أنه لم يرد به
الوجوب، فإنه يحمل على الندب، دون الحاجة إلى دليل، وذلك
بناء على المذهب الأول؛ حيث إن اللفظ عندهم له حقيقتان.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا يحمل الأمر على الندب إلا بدليل
وذلك لأن حمل اللفظ على المجاز لا يجوز إلا بدلالة؛ لجواز كون
الأمر للإباحة.
2 - أنه إذا قال الراوي: " أمرنا "، أو "أمرنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا "(1/244)
فعلى المذهب الأول: يكون الأمر متردداً بين إرادة الوجوب
والندب، فيكون الأمر مجملاً بينهما ولا بد من دليل يرجح المقصود.
أما على المذهب الثاني: فإن الأمر يكون للوجوب، وهو ظاهر
فيه حتى يقوم دليل على خلافه.
***
المسألة السادسة: هل يعتبر المندوب من أحكام التكليف؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المندوب من الأحكام التكليفية.
وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبي بكر
الباقلاني، وابن عقيل، وابن قاضي الجبل، وابن قدامة، والطوفي.
وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن التكليف طلب ما فيه كلفة ومشقة، وفعل
المندوب رغبة في الثواب واحتياطا للدين فيه مشقة، وتركه فيه مشقة
على المكلف القوي الإيمان؛ نظراً لفوات الثواب الجزيل بفعله،
وربما كان ذلك أشق عليه من الفعل.
الدليل الثاني: أن تخصيص الفعل بوعد الثواب يحث العاقل على
الفعل، وهذا من الكلفة.
فإن قال معترض: إن المندوب غير ملجا لذلك الفعل بالإكراه
الشرعي، والمشقة إنما تنشا عن الإلجاء، والمختار لا مشقة فيه.
فإنا نقول له: إن هذا الاعتراض يناسب المعنى اللغوي للتكليف(1/245)
الذي هو: إلزام ما فيه كلفة وهي: المشقة، ولا يناسب المعنى
الشرعي للتكليف وهو: " الخطاب بأمر أو نهي "، كما سيأتي.
الدليل الثالث: أن التكليف من الشارع هو: طلب ما فيه كلفة
ومشقة، إلا أن ذلك قد يكون بإلزام وذاك هو الإيجاب، وقد لا
يكون بإلزام وذاك هو المندوب، فهما قد طلبهما الشارع، ولم يخير
في فعلهما أو تركهما، وهما في فعلهما مشقة وكلفة، إلا أنهما
يختلفان في الترك، فترك الواجب يزيد في المشقة؛ لأن التارك
يعاقب، أما ترك المندوب فلا مشقة فيه؛ لأنه لا عقاب عليه، فتبقى
المشقة في المندوب في الفعل فقط.
المذهب الثاني: أن المندوب ليس من الأحكام التكليفية.
ذهب إلى ذلك: إمام الحرمين، وابن برهان، والآمدي، وابن
الحاجب، والقرافي، وتاج الدين ابن السبكي، ونسبه بعضهم إلى
الأكثرين.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة،
والمندوب لا كلفة ولا مشقة فيه، بل هو مساو للمباح في التخيير بين
الفعل والترك من غير حرج مع زيادة الثواب على الفعل.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن قياسكم المندوب على المباح قياس فاسد؟
لأنه قياس مع الفارق، حيث إنه يوجد فرق بين المندوب والمباح من
وجوه:
الوجه الأول: أن المندوب مطلوب فعله، أما المباح فهو مخير بين
الفعل والترك.(1/246)
الوجه الثاني: أن المندوب يثاب المكلََّف على فعله، أما المباح فإن
المكلَّف إذا فعله فإنه لا يثاب.
الوجه الثالث: أن العقل والشرع يمنعان من ترك المندوبات
استصلاحاً ونظراً، لا عزماً وجزماً، بخلاف المباحات، فإن العقل
والشرع لا يمنعان من تركها.
الدليل الثاني: أن المندوب في سعة من تركه، ولا تكليف في السعة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن كون الشارع قد
جوَّز ترك المندوب لا يعني أنه لم يكلف به، بل كلف به إلا أن ذلك
التكليف ليس بإلزام على فعله، - وإلا كان واجباً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ حيث إنه راجع إلى
تفسير التكليف ما هو؟
فمن فسر التكليف بأنه " الخطاب بأمر أو نهي "، أو " الأمر بما
فيه كلفة، أو النهي عما في الامتناع عنه كلفة ":
قال: المندوب من التكليف.
ومن فسَّر التكليف بأنه: " إلزام ما فيه كلفة ": قال: المندوب
ليس من التكليف؛ لأنه لا إلزام في طلب المندوب.
فيكون أصحاب المذهبين متفقين على أن المندوب مطلوب فعله،
إلا أن أحدهما نفى عنه اسم التكليف؛ نظراً لعدم الإلزام في طلبه،(1/247)
والآخر - وهو الذي اخترناه - أثبت له اسم التكليف؛ لوجود
المشقة والكلفة في طلبه كما قلنا.
***
المسألة السابعة: هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المندوب لا يلزم بالشروع فيه، أى: لا يصير
المندوب واجباً بالشروع فيه مطلقاً.
أي: أن المكلف إذا شرع بمندوب، فإنه يجوز له تركه متى ما
شاء، فهو مخير بين قطعه وإتمامه، لكن يستحب له الإتمام؛ لما فيه
من الثواب، فإن قطعه فلا إثم ولا قضاء عليه.
هذا في غير نفل الحج والعمرة، - حيث يجب فيهما الإتمام، أما
غيرهما فلا يجب عليه الإتمام - كما قلنا -.
ذهب إلى ذلك: الإمام أحمد في رواية عنه، والشافعية، والحنابلة.
وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر "،
فأجاز - هنا - قطع صيام النفل بدون إثم ولا قضاء، فيدل على أن المندوب لا يلزم بالشروع فيه.
الدليل الثاني: ما روي: " أن - صلى الله عليه وسلم - كان ينوي صوم التطوع ثم يفطر "، وهو واضح في الدلالة على أن المندوب لا يلزم في
الشروع فيه.
الدليل الثالث: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي(1/248)
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: " يا عائشة، هل عندكم شيء؟ "، فقلت: يا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما عندنا شيء، قال: " فإني صائم "
قالت: فخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأهديت لنا هدية، ثم عاد فقلت: قد خبأت لك شيئاً، قال: " ما هو؟ "
قلت: حيس، قال: "هاتيه "، فجئت به فأكل، ثم قال: " كنت أصبحت صائما ".
وجه الدلالة: أنه لو كان الإتمام واجبا لفعله النبي @س) ، ولكنه
قطعه ولم يتمه، فدل ذلك على عدم لزوم الإتمام.
الدليل الرابع: إجماع الصحابة السكوتي دلَّ على ذلك؛ حيث
إن أبا الدرداء، وأبا طلحة، وأبا هريرة، وابن عباس، وحذيفة،
كانوا يصومون تطوعا، ثم يقطعون ذلك من غير نكير من بقية
الصحابة، فصار بمثابة الإجماع السكوتي على أن النفل لا يلزم
بالشروع فيه، فلو أنكر عليهم بعض الصحابة في ذلك لنقل إلينا كما
نقل إلينا غيره.
الدليل الخامس: قول الصحابي وفعله دلَّ على ذلك، حيث إن
البيهقي وعبد الرزاق أخرجا عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا
صائمين، ثم أفطرا، وقال ابن عمر: لا بأس به ما لم يكن نذراً أو
قضاء رمضان.
وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا، ثم شاء أن يقطعه قطعه،
وإذا دخل في صلاة تطوعا، ثم شاء أن يقطعها قطعها.
الدليل السادس: آخر النفل من جنس أوله ولا فرق بينهما.
فكما أنه مخير في الابتداء بين أن يسُرع فيه وبين أن لا يشرع فيه؟
لكونه نفلاً، فكذلك يكون مخيراً في الانتهاء، وإذا ترك الإتمام فإنما
ترك أداء النفل، وذلك لا يلزمه شيئاً.(1/249)
المذهب الثاني: أن المندوب يلزم بالشروع فيه، فإذا شرع المكلف
في أداء المندوب، فإنه يجب عليه المضي فيه وإتمامه.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وأكثر المالكية على تفصيل في ذلك:
فالحنفية ذهبوا إلى أن المكلف إذا شرع في أداء النفل، فيجب عليه
الإتمام، فإن خرج منه لعذر: لزمه القضاء، ولا إثم عليه، وإن
خرج منه لغير عذر: لزمه القضاء وعليه الإثم.
هذا في جميع المندوبات.
أما المالكية، فقد ذهبوا إلى أنه يجب عليه الإتمام إذا شرع في
المندوب، فإن خرج منه بغير عذر فعليه القضاء فقط، وإن خرج
بعذر فلا قضاء عليه. هذا في سبعة من المندوبات - عندهم - وهي:
"الحج المندوب "، و " العمرة المندوبة " - وهذا بالاتفاق بين
العلماء - و " طواف التطوع "، و " الصلاة المندوبة "، و "الصوم
المندوب "، و " الائتمام: فمن صلى في جماعة امتنع أن يفارق
الإمام "، و " الاعتكاف: فمن نوى اعتكاف عشرة أيام وجب عليه
إكمالها إذا شرع فيها ".
أما ما عدا ذلك من المندوبات - فيجوز - عند المالكية - أن يقطعه
إذا دخل فيه.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
استدل هؤلاء على أن المكلََّف إذا شرع في المندوب أو النفل، فإنه
يجب عليه إتمامه، ولا يجوز قطعه بأدلة، هي كما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) .
وجه الدلالة؛ أن اللَّه نهى عن إبطال الأعمال مطلقا، وهذا يعم(1/250)
الأعمال الواجبة والأعمال المندوبة، والنهي المطلق يفيد التحريم،
فيكون الإبطال حرام، وترك الحرام واجب، فيكون إتمام ما شرعنا
فيه واجبا، سواء كان واجبا أصلاً أم مندوباً.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأجوبة:
الجواب الأول: أن النهي هنا يحمل على التنزيه، لا على
التحريم، والذي صرفه إلى التنزيه الأحاديث السابقة التي ذكرناها
ضمن أدلة المذهب الأول؛ حيث إنها خاصة، والآية عامة، وإذا
تعارض العام مع الخاص قدم الخاص؛ جمعاً بين الدليلين، وبناء
على هذا يكون النهي الوارد في الآية للتنزيه.
وإذا ثبت هذا، فإنه يجوز لمن شرع في النفل أن يقطعه مطلقاً.
الجواب الثاني: على فرض أن النهي في الآية للتحريم، وليس
للتنزيه، فإن الآية خاصة في إبطال الأعمال بالردة بدليل الآية التي
قبلها، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) .
الجواب الثالث: على فرض أن النهي في الآية للتحريم، وليس
للتنزيه، فإن الآية خاصة في إبطال الأعمال بالرياء، وهو رأي ابن
عباس، وابن جريج، ومقاتل، كما نقله بعض المفسِّرين
كالزمخشري، والقرطبي، ونقله ابن عبد البر عن أهل السنة.
الدليل الثاني: أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله
- 251 -(1/251)
الله، ماذا فرض اللَّه عليّ من الصلاة؛ قال: " خمس صلوات في
اليوم والليلة "، قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: " لا، إلا أن
تطوع ".
وجه الدلالة: أنك إن دخلت في التطوع فإنه يلزمك إتمامه، وإن
كان في الأصل هو تطوع، ولا يلزم المكلَّف فعله، لكن لزم بسبب
دخولك فيه.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن الاستثناء في قوله: " إلا أن تطوع "
منقطع، أي: أنه لا علاقة له بما تقدم بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل تطوعه بفطره بعد نية الصوم، وبدليل حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكل مما أهدي إليه قال: " كنت أصبحت صائماً "، وبدليل: أن كبار الصحابة كانوا يقطعون صيام النفل من غير نكير.
الدليل الثالث: أنه روي: أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت:
أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى لنا حيس فأفطرنا،
ثم سألنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " اقضيا يوماً مكانه ".
وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أوجب أن تقضي عائشة وحفصة يوماً مكان اليوم الذي أفطرتا فيه، فإنه يشير إلى أن المندوب يلزم بالشروع فيه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث مرسل، وضعيف، كما قال كثير من
علماء الحديث، وذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري "،(1/252)
وقال عنه الترمذي: " فيه مقال "، وقال عنه أبو داود: " لا يثبت "
وإذا كان كذلك فلا يستطيع أن يقوى على معارضة الأحاديث
الصحيحة التي أثبتت أن المندوب لا يلزم بالشروع.
الجواب الثاني: على فرض ثبوت هذا الحديث، فإن الأمر في
قوله: " اقضيا " يحمل على الندب، لا على الوجوب، والقرينة
الصارفة هي الأحاديث التي ذكرناها في المذهب الأول.
الدليل الرابع: أن النفل يلزم بالشروع؛ قياساً على النفل المنذور،
فكما أن النفل المنذور صار لله - تعالى - تسمية بمنزلة الوعد، فهو
أدنى حالاً مما صار لله تعالى فعلاً وهو المؤدى.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع
الفارق؛ حيث إنا نتكلم عن النفل المطلق، وهذا بخلاف النفل
المنذور، فإنه قد قيد بالنذر، حيث أوجب الناذر على نفسه ذلك.
الدليل الخامس: أن نفل الحج ونفل العمرة يجب بالشروع فيهما،
فكذلك أيُّ نفل يشرع فيه يجب إتمامه، ولا فرق، والجامع: أن
كلاً من الحج والعمرة وغيرهما يطلق عليه اسم " النفل ".
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن قياسكم النفل المطلق على نفل الحج
والعمرة قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن نفل الحج
والعمرة يفارق نفل غيرهما من وجهين:
الوجه الأول: أن النية في نفل الحج والعمرة لا تختلف عن النية
في فرضهما، فهي في كل منهما قصد التلبس بالحج والعمرة، وهذا(1/253)
ليس متحققاً في غيرهما من النوافل؛ حيث إن نية النفل غير نية الفرض.
الوجه الثاني: أنه تجب الكفارة فيهما بالجماع، كما تجب في
فرضهما، بخلاف وجوب الكفارة بالإفطار في الصيام، فإنها تجب
في الفرض، دون النوافل.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي، حيث أثَّر في بعض المسائل
الفقهية، وهي أنه إذا دخل في نافلة من النوافل، سواء كانت في
الصوم، أو الصلاة، فإنه عند أصحاب المذهب الأول - وهو
المختار -: يجوز له قطع ذلك بعذر أو بدون عذر، ولا شيء عليه.
أما عند المالكية من أصحاب المذهب الثاني، فإنه إذا قطع ما دخل
فيه من النافلة، فإنه ينظر:
إن كان قطعها بعذر فلا قضاء عليه.
وإن كان قطعها بلا عذر فعليه القضاء.
أما عند الحنفية من أصحاب المذهب الثاني، فإنه إذا قطع ما دخل
فيه من النافلة فإنه ينظر:
إن كان قد قطع النافلة بعذر فعليه القضاء، ولا إثم عليه.
وإن كان قد قطع النافلة بغير عذر فعليه القضاء، وعليه الإثم.(1/254)
المطلب الثالث في المباح
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المباح هنا.
المسألة الثانية: في حقيقة المباح:
أولاً: المباح لغة.
ثانياً: المباح اصطلاحا.
المسألة الئالثة: في صيغ المباح.
المسألة الرابعة: هل المباح من الشرع؟
المسألة الخامسة: حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع
بحكمها.
المسألة السادسة: المباح هل هو مأمور به؟
المسألة السابعة: هل الإباحة تكليف؟
المسألة الثامنة: هل المباح من جنس الواجب؟
المسألة التاسعة: هل يُسمَّى المباح حسنا؟(1/255)
المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المباح هنا:
مناسبة ذكره بعد الواجب والمندوب هي: أن هذه الثلاثة تشترك
في فعل المكلف الذي تعلَّق به الحكم الشرعي، لا في تركه.
المسألة الثانية: في بيان حقيقة المباح:
أولاً: المباح لغة:
المباح: اسم مفعول مشتق من الإباحة، وهو يطلق على الإظهار
والإعلان، يقال: " باح بسره " أي: أظهره وأعلنه.
ويطلق ويراد به: الإطلاق والإذن، يقال: " أباح الأكل من
بستانه " أي: أذن بالأكل منه، وهذا هو أقرب المعاني لمراد
الأصوليين من المباح.
ثانيا: المباح اصطلاحا:
المباح هو: ما أذن اللَّه - تعالى - للمكلفين في فعله وتركه مطلقاً
من غير مدح ولا ذم في أحد طرفيه لذاته.
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " ما " للجنس، ويقصد بها الفعل، أو الشيء، ويدخل
في ذلك الأحكام التكليفية - كلها - الواجب، والمندوب، والمباح،
والمكروه، والحرام.
وقولنا: " أذن اللَّه تعالى " أي: صدر هذا من اللَّه وهو الشارع
الحكيم.
وقد احترزنا بذلك من أفعال اللَّه، حيث قيل: إنها خالية من(1/257)
الثواب والعقاب، ومع ذلك فهي ليست مباحة، فذكرنا هذا القيد؟
لإخراج هذا الزعم؛ لأن الإذن صدر من اللَّه للمكلفين.
وقولنا: " للمكلفين " جمع مكلف، والمكلف هو: البالغ
العاقل الذي يفهم الخطاب الشرعي.
وخرج بهذا: الصبي والمجنون، والساهي والنائم، والبهيمة،
فأفعال هؤلاء ليست مباحة؛ لعدم التكليف في حقهم.
وقولنا: " في فعله وتركه مطلقا " أي: من غير بدل.
وخرج بهذا: " الواجب الموسَّع "، و " الواجب المخير"؛ حيث
إن المكلف مخير بين أن يفعل هذه الخصلة أو تلك من غير ذم ولا
مدح في تركها:
فالمكلف مخيَّر بين أن يفعل الصلاة في أول وقتها، أو يفعلها في
وسط وقتها، أو يفعلها في آخر وقتها، لكن هذا مشروط بأن لا
يترك الصلاة في أول وقتها، إلا إذا كان عازما على فعلها في وسط
أو آخر وقتها.
وكذلك في الواجب المخيَّر: لا يترك خصلة إلا إذا كان عازما على
فعل الخصلة الأخرى، من خصال كفارة اليمين - مثلاً -.
فذكرنا في التعريف " مطلقا " لإخراج ذلك، أي: أن الترك في
المباح يكون مطلقا غير مشروط.
قولنا: " من غير مدح ولا ذم في أحد طرفيه " معناه: أن التارك
لا يُذَم، ولا يُمدح، والفاعل لا يُذم ولا يُمدح، فالفعل والترك
- وهما الطرفان - متساويان عند الشارع.
وهذا القيد أخرج الأحكام التكليفية الأربعة وهي:(1/258)
1 - " الواجب " لأنه يتعلق بفعله مدح، وبتركه ذم.
2 - " المندوب " لأنه يتعلق بفعله مدح، ولا ذم في تركه.
3 - " الحرام " لأنه يتعلق بتركه مدح، وبفعله ذم.
4 - " المكروه " لأنه يتعلق بتركه مدح، ولا يتعلق بفعله ذم.
قولنا: " لذاته " أي: تارك المباح وفاعله لا يذم ولا يمدح لذات
المباح من غير اعتبارات أخرى.
فخرج بهذا: المباح الذي يترك به واجباً، وأخرج المباح الذي
يستعين به على واجب.
وهناك تعريفات أخرى للمباح قد تعرضت لبعضها في كتابي
"إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر".
المسألة الثالثة: في صيغ المباح:
هناك صيغ تستعمل في الإباحة هي كما يلي:
الأولى: " الإحلال " أو " أحل "، ومنه قوله تعالى:
(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ، وقوله: (وأحل لكم ما
وراء ذلكم) .
الثانية: " لا جناح "، ومنه قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
الثالثة: " لا حرج "، ومنه قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ "،
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "افعل ولا حرج ".(1/259)
الرابعة: صيغة الأمر التي صرفت من اقتضائها للوجوب والندب
إلى الإباحة بسبب قرينة اقترنت بها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ، فهذا الأمر بالانتشار هو
للإباحة، والقرينة التي صرفت الأمر إلى الإباحة هي: منع الفعل
قبل ذلك في قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) ،
حيث إنه كان الانتشار لطلب الرزق ممنوعاً إذا نودي للصلاة، ثم
أباحه بعد الصلاة.
المسألة الرابعة: هل المباح من الشرع؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المباح من الشرع، أي: أنه حكم شرعي،
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الراجح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن الإباحة: تخيير بين الفعل والترك، وهو
متوقف في وجوده على الشرع كبقية الأحكام الشرعية، فتكون
الإباحة حكماً شرعياً.
فهذا الدليل قائم على القياس، وهو قياس الإباحة على بقية
الأحكام الشرعية، كالواجب والمندوب بجامع: أن كلًّا منها متوقف
في وجوده على الشرع.
الدليل الثاني: الأفعال ثلاثة أقسام:
قسم صرَّح الشرع فيه بالتخيير بين فعله وتركه، فقال: " إن شئتم
فافعلوه وإن شئتم فاتركوه "، فهذا خطاب من الشارع صريح وهو
حكم شرعي.(1/260)
وقسم لم يرد من الشارع خطاب فيه بالتخيير، ولكن دلَّ دليل
السمع على نفي الحرج من فعله وتركه، فهذا عرف بدليل السمع،
ولولا وجود هذا الدليل الشرعي لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه،
حيث يبقيه على النفي الأصلي، فاجتمع في هذا القسم دليل السمع
والعقل.
وقسم لم يرد فيه خطاب صريح، ولا دليل من الشرع، أي: أن
هذا القسم لم يتعرض الشرع له لا بصريح لفظ الشارع، ولا هو
مفهوم من دليل من أدلة السمع، فهذا يجري فيه احتمالان:
الأول: أنه يحتمل أن يقال: لا حكم له؛ لأنه لم يرد فيه
خطاب صريح من الشرع، ولم يرد فيه دليل شرعي.
وهذا الاحتمال بعيد جداً؛ لأنه لا توجد حادثة إلا ولها حكم
شرعي.
الثاني: أنه يحتمل أن يقال: قد دلَّ السمع - بصورة عامة -
على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك، فالمكلف مخير فيه
أو بانعقاد الإجماع على ذلك، وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي
لا نهاية لها.
وعلى هذا لا يبقى فعل إلا وقد دلَّ عليه من جهة الشرع فتكون
إباحته من الشرع.
المذهب الثاني: أن الإباحة ليست بحكم شرعي.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة واحتجوا على ذلك بقولهم: إنه لا
معنى للمباح إلا انتفاء الحرج من فعله وتركه، وهذا ثابت قبل ورود
الشرع، وهو مستمر بعده، وعلى هذا لا يكون حكماً شرعياً.(1/261)
بيان نوع الخلاف:
لقد بيَّنت في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، وفي
كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ": أن الخلاف في
هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ ودليل ذلك:
أنه إن أراد أصحاب المذهب الثاني بالمباح: ما لا حرج في فعله
ولا في تركه لا غير، أو أرادوا بالحكم الشرعي الحكم الذي يخالف
حكم العقل الذي كان ثابتا قبله: فالمباح ليس حكما شرعيا.
وإن أرادوا بالمباح: ما أُعلم فاعله أو دُل بطريق شرعي على أنه لا
حرج في فعله أو تركه، أو أرادوا بالحكم الشرعي خطاب اللَّه المتعلق
بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير: فالمباح حكم شرعي؛ وذلك
لأن الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير أعم من أن يكون ذلك
على وجه التقرير، أو على وجه التغير.
فلم تتوارد أقوال أصحاب المذهبين على محل واحد، فلا خلاف
في المعنى.
المسألة الخامسة: حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود
الشرع بحكمها:
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب:
المذهب الأول: الإباحة أي: أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل
ورود الشرع بحكمها:. مباحة: إن شاء المكلف انتفع بها واستعملها،
وإن شاء تركها لا ذم ولا مدح لفاعلها ولا لتاركها.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الحنابلة كأبي الحسين التميمي(1/262)
وأبي الخطاب، وبعض المالكية كأبي الفرج، وبعض الشافعية
كالأستاذ أبي إسحاق، وأبي العباس ين سريج، وأبي حامد
المروزي، وبعض المعتزلة كأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم.
وهذا هو الراجح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) .
وجه الاستدلال: أن هذه الآية دلَّت على إباحة الأشياء وجواز
الانتفاع بها، حتى يرد دليل يغيِّر ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
(اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) .
فهو سبحانه أتى بلفظ " لكم " وكررها ليبين لنا - في موطن
الامتنان علينا - أنه خلق لنا ما في الأرض وسخره لنا، واللام في
قوله " لكم " في الآيتين للاختصاص أو الملك - وهو تمليك مجازي
وليس بحقيقي -؛ لأن المالك الحقيقي هو اللَّه عَزَّ وجَلَّ - فإذا كان
الله - تعالى - قد خصَّنا بهذه الأشياء وملكنا إياها فلا بد أن نتحصل
على فائدة الملك، وهي: الانتفاع بها.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه جعل - في هذه الآية - الإباحة أصلاً في
هذه الأشياء إلا ما استثني من ذلك.
الدليل الثالث: قوله تعالى:(1/263)
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ، وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) .
وجه الدلالة: أن هاتين الآيتين جعلتا الإباحة أصلاً في هذه
الأشياء إلا ما صرَّح اللَّه عَزَّ وجَلَّ بتحريمه.
الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن السمن والجبن والفراء فقال: " الحلال ما أحل اللَّه في كتابه، والحرام ما حِرَّم اللَّه في
كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه ".
وجه الدلالة: أن الأشياء المسكوت عنها قد عفى اللَّه لمن فعلها
ولمن تركها، وهذا هو معنى الإباحة.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه بين أنه لا يجوز لأي شخص أن
يحرم شيئاً قد أخرجه لعباده دون دليل صادر عنه سبحانه.
فهذه النصوص الشرعية دلت بعمومها على أن حكم الأفعال
والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها هو: الإباحة.
تنبيه: لقد استدل القائلون بالإباحة بأدلة عقلية، ولكن تلك
الأدلة ضعيفة، وقد أجبت عنها واعترضت عليها في كتابي " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فإن شئت فارجع إليه.
المذهب الثاني: الوقف، أي: أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل
ورود الشرع بحكمها: لا حكم لها..
ذهب إلى ذلك: بعض الحنفية، وابن الحاجب، والغزالي،
وفخر الدين الرازي، والآمدي، وأبو بكر الصيرفي، وأبو علي(1/264)
الطبري، وأبو الحسن الأشعري، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو
الحسن الخرزي الحنبلي، وعامة أهل الظاهر، وكثير من أهل العلم.
تنبيه: لقد اختلف في تفسير المراد بالوقف هنا:
فبيَّن بعض الأصوليين أن المراد بالوقف هنا: أن الحكم متوقف
على ورود الشرع بحكم تلك الأفعال، ولا حكم لهذه الأشياء في
الحال؛ لأن الحكم موقوف على ورود الشرع، ولم يرد الشرع بذلك،
وليس المراد: عدم العلم، فلا يدري أهي محظورة أم مباحة؟
وهذا تفسير الغزالي، والآمدي، وعضد الدين الإيجي.
أما ناصر الدين البيضاوي، فقد فسَّر الوقف بأنه عدم العلم.
أي: أن هذه الأشياء لها حكم، ولكن لم نعلم ما هو.
وأشار فخر الدين الرازي إلى هذين التفسيرين.
والصواب عندي: أن التفسيرين صالحان؛ لأن الشخص إذا لم
يعلم هذا الشيء، فإما أنه لم يعلمه؛ لعدم ورود الشرع بذلك،
فلا حكم عنده في الحال.
وإما أنه لم يعلمه؛ لأنه ورد في الشرع، ولكن هذا الشخص لم
يعلمه هو في الحال.
فهنا يتوقف في هذا حتى يرد عليه الشرع بذلك.
أي: أن الشرع لم يرد بالحكم بالنسبة لهذا الشخص الجاهل.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أصحاب المذهب الثاني وهم القائلون بالتوقف استدلوا بقولهم:
إن المباح: ما أذن فيه صاحب الشرع، والمحظور: ما حرَّمه صاحب
الشرع.(1/265)
فإذا لم نجد ورود الشرع في عين بحظر، ولا إباحة، فليس أمامنا
إلا التوقف؛ لأن طريق الإباحة الإذن ولم يوجد، وطريق التحريم
المنع ولم يوجد، والعقل لا مدخل له في الأحكام الشرعية، فلا
يحرم شيئاً ولا يبيحه بمجرد استحسانه أو استقباحه، فنتوقف فيها
حتى يرد الشرع ببيان حكمها.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنا نسلم بأن العقل لا يحظر شيئاً ولا يبيحه بعد
ورود الشرع، وخلافنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمنع أن
نقول: إنه قبل ورود الشرع يمكن للعقل أن يحظر ويبيح إلى أن يرد
الشرع ويمنع ذلك.
الجواب الثاني: أنه يمكن معرفة حكم تلك الأشياء قبل ورود
الشرع عن طريق آخر، وهو: الشرائع السابقة؛ إذ لا يخلو زمن
من شرع.
فإذا ثبت ذلك فليس للعقل مدخل في التحريم والإباحة، بل
يكون ذلك للشرائع.
وهذا الجواب أقوى من الأول، والله أعلم.
المذهب الثالث: الحظر والتحريم، أي: أن الأفعال والأعيان
المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها: محرمة.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وابن أبي هريرة، وأبو بكر
الأبهري، والحسن بن حامد، وتلميذه أبو يعلى، والحلواني.(1/266)
أدلة أصحاب هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة، من أهمها:
الدليل الأول: أن هذه الأعيان ملك لله تعالى، لأنه خلقها
وأنشأها، والانتفاع بملك الغير بغير إذنه قبيح فلا يجوز، قياساً على
ملك المخلوق، فكما لا يجوز التصرف في ملك الإنسان بغير إذنه،
فكذلك لا يجوز التصرف والانتفاع بما خلقه اللَّه تعالى بغير إذنه،
وهو لم يأذن، فيبقى على التحريم.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن قياسكم الخالق على
المخلوق قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الخالق لا يتضرر
إذا انتفعنا بما خلقه وما ملكه، وأما المخلوق فإنه يتضرر إذا انتفعنا
بأملاكه، بيان ذلك:
أن العادة تقضي: أن التصرف في ملك الغير من المخلوقين بغير
إذنه يقبح إذا كان هذا الغير يتضرر ويتأثر كمن أكل من طعام غيره،
أو شرب من شرابه، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب.
أما إذا كان ذلك الغير لا يتضرر ولا يتأثر فلا يقبح التصرف في
ملكه بغير إذنه عادة، كمن نظر إلى مرآة غيره، أو من استظل بجدار
غيره؛ حيث إن هذه الأمور وما شابهها لا يؤدي إلى استهلاك أو
ضرر المرآة، أو الجدار.
فإذا ثبت أن الشيء الذي لا يتضرر به المالك من الآدميين يقبح أن
يمنع من الانتفاع به، فيجب أن لا يمنع الانتفاع بشيء من الأعيان التي
يملكها اللَّه عَزَّ وجَلَّ - وكل شيء ملكه سبحانه وتعالى -؛ لأنه لا
ضرر على اللَّه تعالى في الانتفاع بشيء من ذلك.(1/267)
الدليل الثاني: أن أخذنا بالحظر والتحرير أحوط وأبعد عن الخطر.
بيان ذلك: أن تلك الأعيان والأفعال يحتمل أن يكون الانتفاع بها
مباحاً، فلا يأثم المكلف بذلك، ويحتمل أن يكون الانتفاع بها
حراماً، فيأثم المكلَّف على ذلك، ويترتب على ذلك ضرر عليه.
وبناء على هذين الاحتمالين، فإننا إذا - أقدمنا على الانتفاع بهذه
الأشياء لم نأمن العقوبة من اللَّه تعالى؛ لاحتمال كونه حراماً.
وإذا تركنا ذلك: سلمنا من ذلك الاحتمال.
فكان القول بالحظر والتحريم أحوط وأبعد عن الخطر؛ لأن فعل
الحرام يعاقب عليه مطلقاً، أما ترك المباح فهو جائز.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن قولكم هذا لو كان
صحيحاً في إثبات الحظر والتحريم لجاز أن يجعل هذا الدليل طريقاَ
في إيجاب بعض العبادات كالصوم والصلاة قبل ورود الشرع بإيجابهما
خوفاً من أن تكون واجبة، فيقال: لا نأمن من العقاب على تركها،
فيجب أن يكون ذلك واجباً قبل ورود الشرع بإيجابهما، ولما لم يصح
هذا بالإجماع - حيث إننا لم نعلم إيجاب الصلاة والصوم إلا بعد
ورود الشرع بذلك -: لم يصح ما ذكروه؛ لعدم اطراده.
بيان نوع هذا الخلاف:
لبيان نوع الخلاف في هذه المسألة لا بد من التفصيل الآتي:
أولاً: الخلاف بين المذهب الأولى - وهو الإباحة - والثاني - وهو
الوقف - خلاف لفظي، بيان ذلك:
إن القائل بالوقف هو موافق في الحقيقة للقائل بالإباحة؛ حيث إن(1/268)
مراد القائلين بالوقف هو: أنه لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم
بفعله، وهذا هو حقيقة الإباحة.
أي: أنه لا عقاب على أحد في ما يفعله، ولا ثواب في شيء
يفعله، ولا وجوب بشيء من الأشياء حتى يرد الشرع به، وهذا هو
حد الإباحة.
ومراد القائلين بالإباحة: أنه لا حرج في الفعل والترك، وهذا هو
الوقف؛ لأن المتوقف يقول: لا حكم لهذا الشيء فيعمل كيفما شاء.
فلا خلاف حقيقي بين القائلين بالإباحة والقائلين بالتوقف، وهو
اختيار إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وأبي يعلى الحنبلي.
ثانياً: يرى بعض العلماء كابن عقيل، وشمس الدين الأبياري:
أن الوقف موافق للحظر، فيكون الخلاف بين القائلين بالوقف،
والقائلين بالحظر خلافا لفظيا، وهذا هو الصحيح، بيان ذلك:
أن المتوقفين لم يتوقفوا في التصرف في هذه الأشياء، ولم ينتفعوا
بها إلا لأنهم حرموها على أنفسهم؛ حيث لا يوجد دليل من
الشرع، ولا من العقل يفيد الإذن في الانتفاع بها، وهو معنى قول
القائلين بالحظر والتحريم كما يستفاد ذلك من أدلة الفريقين.
ثالثاً: أن الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وهم القائلون
بالإباحة، وبين أصحاب المذهبين الثاني والثالث خلاف معنوي له
ثمرة، بيان ذلك:
أن الشيء الذي سكت عن حكمه الشارع، فلم يوجد له في
الشرع لا نفي ولا إثبات، أو وُجد دليلان متعارضان متكافئان فيه(1/269)
اختلف العلماء فيه، ويرجع كل واحد من العلماء في ذلك إلى أصله
قبل الشرع، ويستصحب ذلك الأصل إلى ما بعد ورود الشرع.
فالقائلون بأن الأصل في الأشياء قبل الشرع الإباحة يقولون: إن
حكم هذا الشيء الذي سكت عنه الشرع الإباحة؛ استصحابا
للإباحة السابقة قبل الشرع، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى
يأتي دليل يغير الحالة.
والقائلون بأن الأصل في الأشياء قبل الشرع الحظر يقولون: إن
حكم هذا الشيء الذي سكت عنه الشرع: الحظر والتحريم؟
استصحابا للحال السابقة قبل الشرع.
وبناء على ذلك فقد اختلف العلماء في الحيوان المشكل أمره
كالزرافة، والحشرات، والنبات المجهول تسميته، حيث إن هذه
الأشياء لم يأت الشارع بحكمها.
فالقائلون بالإباحة قالوا: إن تلك الأشياء على الإباحة فيجوز
أكلها.
والقائلون بالحظر قالوا: إن تلك الأشياء محرمة، فلا يجوز أكلها
والله أعلم.
***
المسألة السادسة: المباح هل هو مأمور به؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المباح غير مأمور به من حيث هو مباح.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأنه يعلم كل عاقل من نفسه الفرق بين أن يأذن(1/270)
الله تعالى لعبده في الفعل وبين أن يأمره به ويقتضيه منه، وأنه إن أذن
له فليس بمقتض له.
وبهذا تبين لك الفرق بين معمى " الأمر "، ومعنى " الإباحة ".
فمعنى الأمر: اقتضاء الفعل من المأمور به، والمطالبة به، والنهي
عن تركه، ومعمى الإباحة: الإذن في الفعل والترك، أي: تعليق
الفعل المباح بمشيئة المأذون له في الفعل، وإطلاق ذلك له.
وإذا ثبت الفرق بين ما يقتضيه الأمر، وما تقتضيه الإباحة: لزم
من ذلك أن المباح غير مأمور به.
تنبيه: إن ورد واستعمل وأطلق لفظ الأمر على المباح فإن هذا
الاستعمال والإطلاق ليس على الحقيقة، وذلك لأن الاسم الحقيقي
للمباح هو: المأذون فيه، ويجوز إطلاق عليه اسم الأمر مجازاً من
إطلاق اللازم على الملزوم، لأنه يلزم من خطاب اللَّه - تعالى -
بالتخيير فيه كونه مأموراً باعتبار أصل الخطاب، كما أن الرجل
الشجاع يطلق عليه اسم " أسد " مجازاً لقرينة، مع أنه اسم حقيقي
لذلك الحيوان المفترس، كذلك هنا.
المذهب الثاني: أن المباح مأمور به.
وينسب إلى الكعبي، وأبي الفرج المالكي، وأبي بكر الدقاق.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن فعل المباح لا يتحقق إلا
بترك حرام، وترك الحرام مأمور به، وعلى هذا: يكون المباح مأمور
به، بيان ذلك:
أنه لا يمكن التلبس بفعل مباح إلا ويستلزم ذلك ترك محرم، بل
قد يستلزم ترك محرمات.(1/271)
فمثلاً: السكوت المباح يترك به الكفر والقذف والكذب،
والسكون المباح يترك به الزنا والسرقة وترك الكفر، والقذف، والكذب، والزنا، والسرقة مأمور به،
ولا يمكن ترك هذه الأمور إلا بالسكوت والسكون، فيكونان مأموراً
بهما.
وعلى هذا يكون السكون المباح، والسكوت المباح مأموراً بهما.
فينتج: أن المباح مأمور به.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عن قولهم في استدلالهم -: إننا لو
سلكنا هذا المنهج فإنه يلزم أن المباح يكون واجبا؛ لأن ترك الحرام
واجب؛ حيث إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فيكون
السكوت عن الكذب - مثلاً - واجب؛ لأنه لا يتم ترك الكذب إلا
بالسكوت عنه فيصبح واجبا.
ويلزم - أيضا -: أن يكون المندوب واجبا؛ حيث إنه يترك به
الحرام، فمثلاً المشتغل في السواك قد يترك به شرب الخمر، فيكون
المندوب واجبا، لأنه ترك به حراما، وهو شرب الخمر.
ويلزم - أيضا - أن يكون الحرام واجبا؛ حيث يُترك به حرام
آخر، فمثلاً: المشتغل بالسرقة فإنه - وهو في تلك الحالة - يِترك به
الزنا فتكون - بناء على ذلك المسلك - السرقة واجبة؛ لأنه ترك بها
حراما آخر وهو الزنا، وهكذا.
هذه الأمور وغيرها تلزم لو سلكنا ونهجنا ذلك المسلك الذي سار
عليه الكعبي في استدلاله على أن المباح مأمور به.(1/272)
وهي باطلة - كلها -؛ لأمرين:
أولهما: أنه نتج - كما سبق - من تلك الإلزامات: أن يكون
المباح واجبا، والحرام واجبا، والمندوب واجبا، ونحو ذلك، وهذا
تناقض ظاهر في الشريعة، وهو لا يجوز عقلاً فضلاً على أنه لا
يجوز شرعا.
ثانيهما: أن كون المباح واجبا يقتضي كون أفعال المكلفين التي
تتعلق بها الأحكام أربعة؛ ضرورة كون المباح واجبا - حينئذٍ - وهو
خلاف الإجماع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن
المباح غير مأمور به، وبين أصحاب المذهب الثاني - وهم الكعبي
وأتباعه القائلون: إن المباح مأمور به، هو خلاف لفظي؛ لاتفاق
أصحاب المذهبين في المعنى؛ حيث إننا لو تدبرنا ودققنا فيما استدل
به الكعبي وأتباعه، لوجدنا أن ظاهر كلام الكعبي يدل دلالة واضحة
على أن المباح غير مأمور به من جهة ذاته، فلم يخالف غيره من
الجمهور في ذلك، ويدل على أن المباح مأمور به من حيث ما عرض
له من تحقق ترك الحرام وغيره، ولا يخالفه الجمهور في ذلك؟
حيث إن صيرورة المباح مأمور به لعارض مما اتفق عليه.
والخلاصة: أن الكعبي لا ينكر المباح، ولا يقول: إن المباح
مأمور به من حيث ذاته، وهو: المخير بين فعله وتركه، وإنما
يقول - كما نقله عنه كثير من الأصوليين -: إن المباح مأمور به من
حيث ما لزم عليه من ترك للحرام؛ لأن ترك الحرام واجب، وما لا
يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا لم يتم ترك الحرام إلا بفعل(1/273)
المباح، فالمباح واجمما، وهو إنما يصفه بالوجوب أثناء فعله، أما
قبل الفعل فيجوز للمكلَّف - عنده - أن يفعله ويفعل غيره من أقسام
الحكم مما يتعلق به ترك الحرام.
ويلزمه - على هذا - أن يصف جميع الأحكام بالوجوب من
حيث ما يلزم عليها من ترك للحرام، ويلزم - أيضاً - من ذلك أن
يصف الحرام نفسه بالوجوب من حيث لزم عليه من ترك لحرام أعظم
منه، وكذا يقال في بقية الأقسام.
وعلى هذا: فهو يقول في المباح: هو مباح من حيث هو مخير
بين فعله وتركه، واجب من حيث ما لزم عليه من ترك للحرام.
وهذا ما نقله عنه أكثر الأصوليين، والجميع يسلِّم له ذلك، فظهر
أن الخلاف لفظي، وأن من نسب إليه إنكار المباح لم يحرر مذهبه.
وقد تكلمت عن ذلك في كتاب " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
وكتاب " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ".
المسألة السابعة: هل الإباحة تكليف؟
اختلف العلماء في الإباحة هل تدخل تحت التكليف أو لا؟
على مذهبين:
المذهب الأول: أن الإباحة ليست تكليفاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن التكليف هو: طلب ما فيه كلفة ومشقة
بصيغة الأمر أو النهي، والإباحة - كما هو معروف - ليس فيها
مشقة جازمة كمشقة الوجوب والتحريم، ولا مشقة غير جازمة(1/274)
كمشقة الندب والكراهة، وهي: مشقة فوات الفضيلة، بل إن
المكلَّف في المباح يخير بين الفعل والترك مطلقاً، وهذا لا تكليف
فيه، وبناء على ذلك فلا تكليف في المباح.
المذهب الثاني: أن الإباحة تدخل تحت التكليف.
ذهب إلى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، واستدل بقوله:
إن التكليف هو: وجوب اعتقاد إباحته، وأنه من الشرع، فيكون
المباح يكلف به من حيث وجوب اعتقاده.
جوابه:
يمكن أن يجاب عما قاله الأستاذ في استدلاله بأن يقال: إننا لو
قلنا مثل ذلك للزم أن نقول مثله في جميع الأحكام الشرعية؛ لأنه لا
فرق بين المباح، والحرام، والمندوب، والمكروه في وجوب اعتقاد
الحكم من إباحة، أو حرمة، أو ندبية، أو كراهة، والكلام ليس
في هذا الاعتقاد فإنه لا يسمى مباحاً، وإنما الكلام في نفس الفعل
الذي تعلقت به الإباحة كالأكل والشرب.
سبب وضع المباح ضمن الأحكام التكليفية:
قد يقول قائل: إذا كان المباح لا يدخل في التكليف كما رجحت
ذلك، وأجبت عن دليل من قال بأنه من التكليف، فلماذا اعتبر من
أقسام الأحكام التكليفية الخمسة؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن المباح صار من أقسام
الأحكام التكليفية الخمسة؛ لأنه يختص بالمكلفين.
أي: أن الإباحة والتخيير لا يكون إلا ممن يصح إلزامه بالفعل أو
الترك، أما الناسي، والنائم، والمجنون، والصبي، ومن في(1/275)
حكمهم فلا إباحة في حقهم، فهذا معنى جعل المباح من أقسام
الأحكام التكليفية الخمسة، لا بمعنى أن المباح مكلف به.
بيان نوع الخلاف في هذه المسألة:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لعدم وروده على محل واحد،
فالنزاع راجع إلى الاختلاف في تفسير لفظ "التكليف ".
فمن فسَّر " التكليف " بأنه طلب ما فيه مشقة وكلفة بصيغة الأمر أو
النهي قال: إن المباح ليس مكلفاً به، وهو مذهبنا -.
ومن فسَّر " التكليف " بأنه: وجوب اعتقاد إباحته، وأنه من
الشرع قال: إن المباح مكلف به، وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق.
أو تقول في الدليل على كون الخلاف لفظياً: إن أبا إسحاق أراد
بقوله: المباح مكلف به: أنه يجب اعتقاد إباحته، فلم يثبته بالنسبة
إلى أصل الفعل، بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحاً،
والوجوب من خطاب التكليف.
والجمهور لا يخالفونه في كون المباح من التكليف بهذا الاعتبار،
وهو لا يخالفهم في أن المباح ليس من التكليف باعتبار الفعل والترك.
فالخلاف لم يرد على محل واحد، فكان الخلاف لفظيا.
المسألة الثامنة: هل المباح من جنس الواجب؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المباح ليس بجنس للواجب ولا هو داخل فيه.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.(1/276)
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه يوجد فرق بين الواجب والمباح في الحقيقة،
فالمباح مطلق الفعل ومطلق الترك، أي: لا فرق بين الترك والفعل.
أما الواجب فغير مطلق الترك - كما سبق بيان ذلك من خلال
تعريفهما -.
الدليل الثاني: أن المباح لو كان جنساً للواجب: لوجب صدقه
عليه كصدق الحيوان على الإنسان.
المذهب الثاني: أن المباح من جنس الواجب، أي: أن المباح
يدخل في مسمى الواجب.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء واحتجوا بقولهم: إن المباح هو:
المأذون في فعله، وهذا المعنى متحقق في الواجب، والزيادة التي
اختص بها الواجب غير نافية للاشتراك.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عن ذلك -: إن كلًّا من المباح
والواجب يختلف عن الآخر، فالمباح مأذون في فعله، ومأذون في
تركه بخلاف الواجب - فإنه وإن كان مأذوناً في فعله - كما أشرتم -
فإنه غير مأذون في تركه فافترقا.
بيان نوع الخلاف في هذه المسألة:
إن الخلاف في هذه المسألة - شلاف لفظي؛ راجع إلى تفسير
"المباح " ما هو؟ :(1/277)
فمن فسَّر المباح بأنه المأذون - فقط - فلا شك أن هذا مشترك بين
الواجب وغيره، فيكون المباح جنساً للواجب.
ومن فسَّر المباح بأنه المأذون فيه مع عدم المنع من الترك، فلا شك
أن المباح يكون نوعاً مبايناً للواجب، فلم يكن جنساً له.
أو تقول - في بيان الدليل على كون الخلاف لفظياً -: إن من
قال بأن المباح جنس للواجب عني بالمباح الذي هو بمعنى: " الجائز "
الذي لا يمتنع شرعاً، فلا شك: أن ذلك يشمل الواجب والمندوب
والمباح والمكروه.
ومن قال: إن المباح ليس بجنس للواجب، فإنه عني بالمباح:
المباح الذي هو: ما خيَّر الشارع بين فعله وتركه.
المسألة التاسعة هل يسمى المباح حسنا؟
أجمعوا على أن المباح لا يُسمَّى قبيحاً.
واختلفوا: هل يُسمَّى حسناً أو لا؟ على مذهبين:
المذهب الأول: أن المباح يُسمَّى حسناً، وهو الصحيح؛ لأن
الشارع رفع الحرج عن فعله، وكل ما رفع الحرج عن فعله فإنه يكون
حسناً، فالمباح يكون حسناً.
المذهب الثاني: أن المباح لا يُسمَّى حسناً، لأنه لا يستحق فاعله
المدح والثناء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، راجع إلى بيان المراد(1/278)
بـ "الحسن "، فإن كان المراد من " الحسن " كل ما رفع الشارع الحرج
عن فعله، سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن، فإن المباح يكون
حسناً.
وإن كان المراد بـ " الحسن ": ما يستحق فاعله الثناء والمدح
والثواب، فإن المباح لا يكون حسناً، والله أعلم.(1/279)
المطلب الرابع في المكروه
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المكروه هنا.
المسألة الثانية: في حقيقة المكروه.
أولاً: المكروه لغة.
ثانياً: المكروه اصطلاحا.
المسألة الثالثة: في صيغ المكروه.
المسألة الرابعة: فيما يطلق عليه المكروه.
المسألة الخامسة: في إطلاق " المكروه " بين الجمهور والحنفية.
المسألة السادسة: هل المكروه منهي عنه حقيقة؟
المسألة السابعة: في حكم المكروه.
المسألة الثامنة: هل الأمر المطلق يتناول المكروه؟
المسألة التاسعة: هل المكروه من التكليف؟(1/281)
المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المكروه هنا:
لقد ذكرنا المكروه هنا؛ لأمرين:
الأول: أنه بعد ذكر المأذون في فعله - وهو الواجب والمندوب،
والمباح لا بد أن نذكر الممنوع من فعله.
الثاني: أنه يشترك مع الحرام - الذي سيأتي ذكره - فيما يلي:
1 - أن كلًّا من المكروه والحرام مطلوب تركه، لكن الحرام طُلب
تركه طلباً جازماً، والمكروه طُلِب تركه طلباً غير جازم.
2 - أن كلًّا من المكروه والحرام منهي عنه، لكن المكروه منهي عنه
نهياً غير جازم، والحرام منهي عنه نهياً جازماً.
المسألة الثانية: في حقيقة المكروه:
أولاً: المكروه لغة:
المكروه لغة: ضد المحبوب، تقول: " كرهت الشيء " إذا لم تحبه.
وقيل: المكروه مأخوذ لغة من الكريهة، وهي الشدة في الحرب،
ومنه سمي يوم الحرب: " يوم الكريهة ".
والكره - بضم الكاف -: المشقة كما نقله الجوهري في الصحاح
عن الفراء.
وعلى هذا يكون المكروه هو: ما نفر عنه الشرع والطبع؛ لأن
الطبع والشرع لا ينفران إلا عن شدة ومشقة تلحق بالمكلف.(1/283)
ثانيا: المكروه اصطلاحا:
المكروه هو: " ما تركه خير من فعله ولا عقاب في فعله ".
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " ما " جنس في التعريف شمل كل متعلقات الحكم
التكليفي الخمسة؛ لأن المراد بها فعل المكلف.
قولنا: " تركه خير من فعله " قيد أخرج الأحكام التكليفية الثلاثة
وهي: " الواجب، والمندوب، والمباح "، وبيان ذلك:
أن الواجب خرج، لأن فعله "خير من تركه، وفي تركه عقاب.
وأما المندوب فقد خرج، لأن فعله خير لحصول الثواب، ولا
عقاب في تركه.
وأما المباح فقد خرج، لأن فعله وتركه سواء، فلا يوصف
أحدهما بالخيرية.
وقولنا: " ولا عقاب في فعله " أخرج الحرام " لأن الحرام تركه
خير من فعله، وفي فعله عقاب.
المسألة الثالثة: في صيغ المكروه:
الصيغ التي تستعمل وتدل على الكراهة هي كما يلي:
الأولى: لفظة " كره " وما يشتق منها، ومنه ما روي عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن اللَّه كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ".
الثانية: لفظة " بغض " وما يشتق منها، ومنه قوله عليه الصلاة
والسلام: " أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق ".(1/284)
الثالثة: لفظة النهي: " لا تفعل " إذا احتفت بها قرينة تصرفها
عن التحريم إلى الكراهة مثل قوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، فإن النهي في قوله: " لا تسألوا " للكراهة،
وليس للتحريم، وقد صُرِف النهي عن التحريم إلى الكراهة بسبب
قرينة صارفة، وهي آخر الآية، وهي قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ،
فالسؤال عما لا يعرف ليس بحرام.
وهناك صيغ غير ما ذكرنا للكراهة تعرف من سياق الكلام.
المسألة الرابعة: ما يطلق عليه المكروه:
اختلف في إطلاقات المكروه على ما يلي:
فبعض العلماء يطلق لفظ " مكروه "، ويريد به الحرام والمحظور،
وقد روي هذا الإطلاق عن الإمام مالك، والشافعي، وأحمد
- رحمهم اللَّه جميعاً - وهو غالب في عبارة المتقدمين، وذلك تورعاً
منهم وحذراً من الوقوع تحت طائلة النهي الوارد في قوله تعالى:
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) ،
فكرهوا - لذلك - إطلاق لفظ التحريم.
وبيَّن ابن القيم في " أعلام الموقعين " بأن هذا كان من أسباب غلط
كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم، حيث تورع الأئمة
عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ " الكراهة "، فنفى
المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة.(1/285)
وبعضهم يطلق لفظ " مكروه " على ما نهي عنه نهياً تنزيهياً، وهو
الذي عرفناه هنا.
وإذا أطلق لفظ " مكروه " انصرف إلى هذا، وهو المكروه كراهة
تنزيه، وهو الذي نحن بصدده - الآن -؛ لأن كلًّا من الأحكام
الأربعة خص باسم غلب عليه كالواجب، والمندوب، والمباح،
والحرام، فاقتضى ذلك اختصاص " المكروه " باسم غالب عليه كغيره
من الأحكام، ويكون هذا الاسم هو " المكروه ".
وبعضهم يطلقه ويريد به: ما وقعت الشبهة في تحريمه وإن كان
غالب الظن حله، كأكل لحم الضبع.
وبعضهم يطلقه ويريد به ترك ما مصلحته راجحة كترك المندوبات.
بيان نوع الخلاف:
هذا الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي؛ لأن الإطلاقات السابقة
اختلفت باختلاف مراد كل مطلق من إطلاقه، فلم يرد الخلاف على
موضع واحد
فمن أطلق الإطلاق الأول - وهو أنه مراد به الحرام - حدَّه بحد
الحرام.
ومن أطلق الإطلاق الثاني - وهو ما نهي عنه نهي تنزيه - حدَّه
بالنهي عنه الذي لا ذم على فعله - وهو الموضوع الذي نحن بصدده
الآن.
ومن أطلق الإطلاق الثالث - وهو: ما وقعت الشبهة في تحريمه -
حدَّه بأنه الذي فيه شبهة وتردد.(1/286)
ومن أطلق الإطلاق الرابع - وهو: ما أريد به ترك ما مصلحته
راجحة - حده بترك الأولى.
المسألة الخامسة: إطلاق " المكروه " بين الجمهور والحنفية:
الجمهور إذا أطلقوا لفظ " مكروه " انصرف إلى المكروه كراهة
تنزيهية - وهو الذي عرفناه فيما سبق - وذلك لأنهم لا يسمون بهذا
الاسم غيره، وإن كانوا لا يخالفون في جواز إطلاقه على الحرام
- كما سبق في المسألة الرابعة -.
أما الحنفية، فإنهم إذا أطلقوا لفظ " المكروه " انصرف هذا اللفظ
غالباً إلى المكروه تحريماً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا يترتب عليه آثار؛ حيث
إنه راجع إلى اصطلاح كل من الفريقين، ولا مشاحة في الاصطلاح.
المسألة السادسة: هل المكروه منهي عنه حقيقة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المكروه منهي عنه حقيقة.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصواب؛ للأدلة الآتية:
- الدليل الأول: أن استعمال المنهي في المكروه قد شاع في لسان
اللغة والشرع، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ولا يوجد شيء
يمنع من ذلك.(1/287)
الدليل الثاني: أن كلمة " النهي " تطلق على ما كان النهي فيه
لحرمته كما تطلق على ما كان النهي فيه لكراهته وعدم استحسانه،
ولا فرق بينهما إلا في العقاب على فعل الحرام، دون المكروه.
المذهب الثاني: أن المكروه منهي عنه مجازاً، وليس حقيقة.
وهو لبعض العلماء مستدلين بقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا) .
وجه الدلالة: أن هذا النص يقتضي أن الانتهاء لازم عن المنهي
عنه، وترك المكروه غير لازم، فكان المكروه - منهيا عنه مجازاً لا
حقيقة، أي: لو كان المكروه منهياً عنه حقيقة للزم من ذلك الانتهاء
عن فعله، وإن لم ننته حلَّ العقاب، ولكن حقيقة المكروه أنه طلب
الانتهاء عنه، ولكن لو فعلناه لما كان علينا عقاب، إذن يكون النهي
عنه نهيا مجازاً، لا حقيقة.
جوابه:
يمكن أن يقال في الجواب عنه: إننا نظرنا إلى غير ما نظرتم إليه،
فنحن نظرنا إلى إطلاق لفظ النهي على المكروه، وأنتم نظرتم إلى
حكمه، ففرق بينهما.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا يترتب عليه أي أثر؟
وذلك لاتفاقنا مع أصحاب المذهب الثاني على أن المكروه مطلوب
ترك فعله وإن كان طلبا غير جازم.(1/288)
المسألة السابعة: في حكم المكروه:
إن المكلف يثاب في ترك المكروه امتثالاً، وإذا فعله فلا يعاقب على
فعله، ولكن يقال عنه بأنه مخالف. قال القاري في " فتح العناية":
" إنما يكون - فعله لوثة مخالفة في صحيفة الإنسان ".
المسألة الثامنة: هل الأمر المطلق يتناول المكروه:
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الأمر المطلق لا يتناول المكروه.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجرجاني، والإمام مالك، وبعض
المالكية كابن خويز منداد، وأكثر الشافعية، والحنابلة.
وهو الراجح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن المكروه - كما سبق - منهي عنه نهياً غير
جازم، والنهي يقتضي ترك الفعل، أما الأمر فإنه يقتضي إيجاد الفعل،
فيلزم من ذلك أن الأمر والنهي متضادان، وإذا كانا متضادين فإنه لا
يمكن أن يطلب ترك الشيء في حين أنه يطلب فعله.
أي: يستحيل أن يكون الشيء مأموراً به منهيا عنه في آن واحد،
فينتج: أن المكروه لا يتناوله الأمر المطلق.
الدليل الثاني: أنه إذا كان المباح ليس مأموراً به - كما سبق بيانه -
مع أنه ليس منهيا عنه، فمن باب أوْلى أن المكروه لا يدخل تحت
الأمر المطلق؛ لأنه منهي عنه.
الدليل الثالث: أنه يوجد تنافي بين حقيقة الأمر، وحقيقة المكروه(1/289)
فالأمر هو: استدعاء وطلب، والمأمور به مستدعى ومطلوب فعله
كالواجب والمندوب.
أما المكروه فهو مطلوب الترك، إذن: ليس مستدعى ولا مطلوباً
فعله، فيكون المكروه منهياً عنه.
المذهب الثاني: أن الأمر المطلق يتناول المكروه.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجصاص، وبعض المالكية،
وبعض الحنابلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يجوز أداء صلاة عصر يومه بعد تغير الشمس،
فهو مأمور به شرعاً، وهو مكروه.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الكراهة ليست في صلاة
العصر، بل إن سبب الكراهة هو: التشبه بعباد الشمس.
الدليل الثاني: أن الأمر الوارد في قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) ، يتناول طواف المحدث، وهو صحيح عند الحنفية، وهو مكروه.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الكراهة ليست في
الطواف، لأنه تعظيم للبيت، بل الكراهة لوصف في الطائف،
وهو المحدث، والحدث ليس من الطواف.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له ثمرة وفائدة في كثير من المسائل
الفقهية، ومنها:(1/290)
1 - لو طاف مكلف على غير طهارة، أو طاف منكوسا وهو -
المقلوب الذي رجلاه إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل "، فهل يدخل
في الأمر الوارد في قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) .
اختلف العلماء في ذلك، وكان سبب اختلافهم هو: اختلافهم
في المسألة السابقة:
فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا
يتناول المكروه - ذهبوا إلى عدم دخول تلك الصورة المؤداة في الأمر،
ولو فعل لا يكون مجزئاً بسبب: أن المكروه لا يدخل في مطلق الأمر.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
يتناول المكروه - فقد ذهبوا إلى أن ذلك الفعل بتلك الصورة المؤداة
يدخل في الأمر، وإن كان حكمه مكروهاً إلا أنه يجزي عن الطواف.
2 - لو توضأ مكلف وضوءاً منكساً دون ترتيب، فهل يدخل في
مطلق الأمر بالوضوء ويجزئ عنه؟
اختلف العلماء في ذلك، وسبب اختلافهم هو اختلافهم في
المسألة السابقة.
فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا
يتناول المكروه - ذهبوا إلى أن الوضوء المنكس لا يدخل في مطلق
الأمر بالوضوء، وأنه إذا وقع مثل ذلك لا يجزئ.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق
يتناول المكروه - فقد ذهبوا إلى أن الوضوء المتكس يدخل في مطلق
الأمر بالوضوء، وأنه إذا وقع مثل ذلك فإنه يجزئ.(1/291)
المسألة التاسعة: هل المكروه من التكليف؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المكروه ليس من التكليف.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة،
والمكروه لا كلفة ولا مشقة فيه - كما اتضح ذلك من بيان حقيقة
المكروه السابق في المسألة الثانية، ومن بيان حكم المكروه السابق في
المسألة السابعة -.
حيث بيَّنا: أن المكلَّف إذا ترك الفعل المكروه فله أجر وثواب،
وإن لم يتركه فلا إثم عليه، وهذا لا مشقة ولا كلفة فيه، بخلاف
الواجب والحرام، فالمشقة والكلفة فيهما واضحة؛ حيث إن المكلَّف
إن فعل الواجب فله أجر، وإن تركه فعليه إثم، وإن ترك الحرام فله
أجر، وإن فعله فعليه إثم، وكل ذلك للابتلاء.
المذهب الثاني: أن المكروه من التكليف.
ذهب إلى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وبعض الشافعية
وبعض الحنابلة.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن المكروه لا يخلو من مشقة وكلفة،
فشمله معنى التكليف.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إننا لو رجعنا إلى حقيقة
المكروه لوجدنا أنه لا مشقة حقيقية فيه، ولا إلزام في ترك الفعل.(1/292)
تنبيه: إنني صححت في كتابي " إتحاف ذوي البصائر " أن المكروه
من التكليف، ولكني في كتابي الآخر وهو: " الخلاف اللفظي عند
الأصوليين " صححت: أن المكروه ليس من التكليف، وكذا في هذا
الكتاب.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا ثمرة له راجع إلى تفسير
التكليف ما هو.
فمن فسَّر التكليف بأنه: إلزام ما فيه كلفة، قال: المكروه ليس
من التكليف، لأنه لا إلزام في المكروه.
ومن فسَّر التكليف بأنه الأمر بما فيه كلفة، أو النهي عما في
الامتناع عنه كلفة، أو هو الخطاب بأمر أو نهي: قال: المكروه من
التكليف.
إذن: أصحاب المذهبين قد اتفقوا على المعنى وهو: أن المكروه
مطلوب تركه إلا أن أصحاب المذهب الأول وهم الجمهور رفع عنه
اسم التكليف، نظراً لعدم الإلزام في طلب الترك، أما أصحاب
المذهب الثاني أثبتوا له اسم التكليف لوجود الكلفة والمشقة في طلب
الترك.(1/293)
المطلب الخامس الحرام
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: في مناسبة وضع الحرام هنا.
المسألة الثانية: في حقيقة الحرام:
أولاً: الحرام لغة.
ثانياً: الحرام اصطلاحا.
المسألة الثالثة: في صيغ الحرام.
المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع حراما واجباً؟
المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من
جهة واحدة؟
المسألة السادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من
جهتين؟
المسألة السابعة: في مقدمة الحرام.
المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر.
المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّه؟(1/295)
المسألة الأولى: مناسبة وضع الحرام هنا:
مناسبة وضع الحرام بعد المكروه هي: أنهما يشتركان في شيء
واحد وهو: أن كلًّا منهما مطلوب تركه، لكن المكروه مطلوب تركه
طلباً غير جازم، والحرام مطلوب تركه طلباً جازماً.
المسألة الثانية: في حقيقة الحرام:
أولاً: الحرام لغة:
الممنوع، يقال: " حرمه الشيء ": إذا منعه إياه، ومنه قوله
تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: حرمناه رضاعهن
ومنعناه منهن.
ثانيا: المحرم اصطلاحا:
هو: ما ذُمَّ شرعاً فاعله.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما " جنس في التعريف، والمراد منه: " الفعل "،
والتقدير: " الفعل الذي يذم شرعاً فاعله "، والمقصود: فعل
المكلَّف.
ودخل في ذلك كل أقسام الحكم التكليفي وهي: الواجب،
والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام.
قولنا: " ذُمَّ " الذم هو: الاستنقاص من الشارع الذي يصل إلى
حدِّ العقاب، وهو قيد في التعريف، أخرج المندوب، والمكروه،
والمباح، بيان ذلك:
أنه أخرج المندوب؛ لأن المندوب لا ذم على تركه.(1/297)
وأنه أخرج المكروه؛ لأن المكروه لا ذم على فعله.
وأنه أخرج المباح؛ لأن المباح لا ذم على فعله ولا على تركه.
قولنا: " شرعا " قيد في التعريف لبيان أن الذم المعتبر هو الذم
الوارد من الشارع فقط، بخلاف ما تقوله المعتزلة من أن العقل يذم
ويقبح، ويمدح ويحسن.
قولنا: " فاعله " أخرج الواجب؛ لأنه الواجب يذم على تركه.
والمراد بالفعل هو: كل ما يصدر من الشخص، وذلك يشمل
فعل الجوارح كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، ويشمل
الأقوال المحرمة كالكذب، والنميمة، والغيبة، ويشمل الأعمال
القلبية المحرمة كالحقد، والحسد، والنفاق.
***
المسألة الثالثة: في صيغ الحرام:
الحرام له صيغ وأساليب، ومنها:
الأولى: لفظة " التحريم " ومشتقاتها، مثل قوله تعالى:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
الثانية: صيغة النهي المطلق، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) .
الثالثة: التصريح بعدم الحل، مثل قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام:
" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ".(1/298)
الرابعة: أن يذكر الشارع فعلاً ثم يرتب عليه عقوبة، فهذا يدل
على أن الفعل حرام، ومنه قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) .
الخامسة: صيغة الأمر التي تطلب الترك والمنع من الفعل، كقوله
تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ، فإن هذه الصيغة تعتبر من أساليب النهي؛ ترجيحاً لجانب
المعنى على جانب اللفظ؛ حيث إن معنى هذه الأوامر: النهي.
وبعضهم اعتبرها من أساليب الأمر؛ حيث إنها تفيد الطلب بصيغة
الأمر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في الصيغة الخامسة خلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن المعنى
- وهو الحكم الشرعي - متفق عليه، وهو - هنا - تحريم قول
الزور وتحريم الربا.
لكن بعضهم عبَر عنه بالأمر باجتناب قول الزور، والأمر بترك
الربا.
وبعضهم عبَّر عنه بالنهي عن الزور والربا، فكان الخلاف في
التعبير فقط.
المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع (1) حراماً واجباً؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
__________
(1) إليك بيان الواحد بالجنس، والواحد بالنوع، والواحد بالعين؛ لأن هذه المسألة والمسألتين
الآتيتين لها صلة بذلك فأقول:
الواحد بالجنس هو لفظ واحد دلَّ على جنس كالحيوان، وهو شامل للواحد بالنوع
كالإنسان، والواحد بالعين كزيد.
والواحد بالنوع هو لفظ واحد دلَّ على نوع كالإنسان، وهو شامل للواحد بالعين كزيد.
أما الواحد بالعين فهو لفظ واحد دلَّ مفهومه على شخص معين كزيد.(1/299)
المذهب الأول: يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا وحراما طاعة
ومعصية.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح، وذلك بالإضافة والاعتبار
والنسبة.
فيكون الواحد بالنوع واجبا وحراما باعتبار أشخاصه أي: واجب
باعتبار بعض الأشخاص، وحرام باعتبار بعض الأشخاص الآخرين.
فاختلاف الإضافات والاعتبارات والنسب والصفات جعل الواحد
بالنوع يكون واجبا باعتبار -، وحراما باعتبار.
مثال ذلك: " السجود " هو واحد بالنوع، فمنه: سجود واجب
وهو السجود لله تعالى، ومنه سجود حرام، وهو: السجود لغير
الله تعالى.
فهذا السجود واحد بالنوع، أي: نوع من الأفعال وأشخاص
كثيرة، فيجوز أن ينقسم إلى " واجب " و " حرام "، ولا تناقض في
ذلك؛ وذلك نظراً لتغايرهما بالشخصية، فيكون بعض أفراده واجبا
كالسجود لله تعالى، وبعضها حراما كالسجود للصنم، قال تعالى
- في ذلك -: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) .
المذهب الثاني: لا يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا حراما.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، منهم: أبو هاشم الجبائي.(1/300)
دليل هذا المذهب:
قد استدل هؤلاء بقولهم: إننا لو قلنا بجواز كون الواحد بالنوع
واجبا حراما للزم من ذلك التناقض، وذلك لأن السجود نوع واحد
مأمور به، فيستحيل أن يكون منهياً عنه.
أي: أن السجود واجب يستحيل أن يكون محرما.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك غير صحيح، لأنه
إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لا يوجد تناقض، فيكون الواحد بالنوع
- وهو هنا السجود - واجبا باعتبار، وحراما باعتبار آخر، فلا
تناقض فالسجود للصنم غير السجود لله تعالى، بدليل: أن المأمور
به ليس هو النهي عنه في قوله تعالى: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) .
وقد انعقد الإجماع على أن الساجد للصنم والشمس عاص بنفس
السجود والقصد جميعاً، وأن الساجد لله تعالى مطيع بالسجود
والقصد جميعاً.
إذاً: لا تضاد في كون الواحد بالنوع واجباً حراما، إنما التضاد
يكون في الواحد بالشخص.
المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً
واجبا من جهة واحدة؟
أقول: يستحيل ويمتنع أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا طاعة
ومعصية من جهة واحدة، كما لو قال: " صل صلاة الظهر ولا
تصل صلاة الظهر "، أو قال: " اعتق هذا العبد لا تعتق هذا العبد"
وهو يشير إلى واحد معين.(1/301)
وقلنا: إن ذلك مستحيل؛ لتضادهما وتنافيهما وتناقضهما، وهو
من باب تكليف ما لا يطاق، وهو لا يجوز كما سبق؛ لقوله
تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
***
المسألة المسادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً
واجباً من جهتين؟
مثل: الصلاة في الدار المغصوبة، أي: صلاة زيد في دار
مغصوبة من عمرو؛ حيث إن حركة زيد في الصلاة فعل واحد بعينه.
اختلف العلماء في صحة تلك الصلاة على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا من
جهتين، وعليه فتصح الصلاة في الدار المغصوبة.
ذهب إلى ذلك: أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، وهو قول الإمام
مالك، وبعض الحنابلة كأبي بكر الخلال، وابن عقيك.
وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا مانع من صحة الصلاة، وإن أوقعت في
مكان مغصوب؛ لأن فعل الصلاة في مكان مغصوب هو فعل واحد
له جهتان متغايرتان:
إحدى الجهتين مطلوب الفعل - وهو الصلاة والأمر بها -.
والجهة الأخرى مطلوب الترك - وهو الصلاة في الدار المغصوبة.
فإذا كان للفعل الواحد جهتان متغايرتان، فيجوز أن يكون مطلوب
الفعل من إحدى الجهتين مطلوب الترك، ولا مانع من الصحة -(1/302)
والحالة هذه - ولا يقع في ذلك محال، ولكن المحال إذا كان الشيء
مطلوب الفعل ومطلوب الترك من جهة واحدة.
ولعلي أبين ذلك أكثر فأقول: إن الفعل - وهو الصلاة - مطلوب
الفعل، ومن حيث إن المكان المصلى فيه مغصوب: مطلوب الترك.
فيكون متعلق الأمر والنهي غير متحد.
أي: أن الصلاة من حيث هي صلاة مأمور بها - بقطع النظر عما
يلحقها من مكان أو غيره -، والغصب من حيث هو غصب منهي
عنه - بقطع النظر عما يلابسه من أفعال الصلاة.
وعلى هذا: تكون الصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب
معقول بدون الصلاة، فيمكن وجود أحدهما بدون الآخر " قياسا
على من صلى ولم يغصب، أو غصب ولم يصل، فكما أن من
صلى ولم يغصب له أجر، ومن غصب ولم يصل عليه الإثم،
فكذا هاهنا، فإذا جمع المكلَّف بين الصلاة والغصب - أي: صلى
في مكان مغصوب - لم يخرجهما عن حكمهما في حال انفرادهما
وهو الأمر بالصلاة وكونها طاعة، والنهي عن الغصب وكونه
معصية، فيجب أن يثبت للصلاة والغصب ما يثبت لهما منفردين،
فالجمع بينهما لا يقلب حقيقتهما في أنفسهما.
اعتراض:
إن اعترض معترض قائلاً: إن قولكم هذا يلزم منه صحة صوم
يوم النحر؛ لأن الصوم من حيث هو صوم مطلوب، وإنما المنهي
عنه إيقاعه في هذا الزمن المنهي عن الصوم فيه، وأنتم تقولون: إنه
لا يصح صوم يوم النحر، وهذا تناقض.
جوابه:
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن هذا الإلزام صحيح،(1/303)
فلو لم يرد نص في النهي عن صوم يوم النحر لصح صيام يوم النحر،
ويأثم بإيقاعه في هذا اليوم المنهي عن الصيام فيه، كما قلنا في
الصلاة في الدار المغصوبة، ولكن الذي منعنا هو النص كما سبق.
الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " خط هذا الثوب ولا
تدخل هذه الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن دخلت الدار عاقبتك "
فخاط الثوب في تلك الدار المنهي عن دخولها، فإن العبد يعتبر
مطيعا لسيده من جهة، وعاصيا من جهة أخرى، فيحسن من السيد
عتقه ومعاقبته؛ نظراً للجهتين، حيث كان العبد مطيعا من جهة امتثال
أمر سيده - وهو: خياطة الئوب - فيستحق العتق من السيد على
ذلك، وكان عاصيا من جهة دخوله للدار المنهي عن دخولها،
فيستحق العقوبة.
وإذا ثبت ذلك هنا، فكذلك الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن
المكلَّف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين
خياطة الثوب ودخول الدار المنهي عنها.
الدليل الثالث: لو أن مسلما رمى سهما واحداً إلى كافر فمرق
السهم من الكافر وأصاب مسلماً فقتله: فيثاب من جهة، ويعاقب
من جهة أخرى.
بثاب ويملك سلب الكافر من جهة قتله كافرا محاربا لإعلاء كلمة
الله، وقد أمره اللَّه تعالى بذلك، ويستحق سلب هذا الكافر الذي
قتله.
ويعاقب هذا المسلم الرامي للسهم؛ لأنه قتل مسلما، وقد نهى
الله سبحانه عن قتله، فيدفع الدية، لأنه قتل خطأ.
فهذا فعل واحد عوقب وأثيب عليه، وذلك لتضمنه الأمر والنهي(1/304)
من جهتين مختلفتين، فهو مأمور به من جهة قتل الكافر المحارب،
وهو منهي عنه من جهة قتل المسلم من غير قصد.
فإذا ثبت ذلك فالصلاة في الدار المغصوبة مثله؛ لأن المكلَّف جمع
بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين قتل الكافر
المأمور به وقتل المسلم المنهي عنه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا
من جهتين، وعليه: فالصلاة في الدار المغصوبة لا تصح.
ذهب إلى ذلك الإمام مالك في رواية عنه، وهو وجه لأصحاب
الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنابلة، وهو
مذهب أهل الظاهر والزيدية، وبعض المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل
المكلَّف، لا بما ليس من فعله، والأفعال الموجودة من المصلي في
الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه، وهو عاصٍ بها، آثم
بفعلها، وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه، فلا يتصور أن
تكون طاعة ولا يثاب عليها متقربا بها إلى اللَّه - تعالى -؛ لأن
الحرام لا يكون واجبا، والمعصية لا تكون طاعة مثابا عليها، ولا
تكون متقربا بها مع أن التقرب والنية شرط في صحة الصلاة.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن المحكوم بأنه حرام ليس
هو ذات الفعل من حيث هو فعل، ولكن حكم عليه بالحرمة من
جهة كونه غصبا، وإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم منه امتناع الحكم
عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة؛ ضرورة اختلاف الجهتين.
تنبيهان:
الأول: لم أستدل على المذهب الذي اخترته - وهو: أن الصلاة(1/305)
في الدار المغصوبة صحيحة - بما تناقله الأصوليون وهو: أن السلف
- رحمهم اللَّه - لم يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء
الصلوات التي أدوها في الأماكن التي غصبوها، وهذا يدل على أنها
صحيحة، ولو لم تكن صحيحة لأمروهم بقضاءها.
فلم أذكر ذلك؛ لأمرين:
أولهما: أن حقيقة الإجماع الصريح لم توجد؛ حيث إنه لم ينقل
عن السلف أنهم اتفقوا على أن الظلمة تسقط عنهم الصلوات التي
أدوها في أماكن مغصوبة لا عن طريق التواتر، ولا عن طريق
الآحاد، وعدم النقل عن السلف لا يعتبر نقل الاتفاق، فمن زعم
الإجماع بعد ذلك فهو جاهل بحقيقته.
ثانيهما: إن زعموا: أن ذلك جاء عن طريق الإجماع السكوتي،
فهذا - أيضا - لا تقوم الحجة به لهم؛ حيث إنه معروف أن الإجماع
السكوتي لا يعتبر إجماعا ولا حجة عند بعض العلماء.
وأيضا روي عن الإمام أحمد: أنه يبطل الصلاة في الدار المغصوبة
- وهي رواية مشهورة عنه - وهو إمام النقل، وأعلم بأحوال
السلف، فمخالفته تنقض الإجماع.
التنبيه الثاني: قد ذكر بعض العلماء مذهباً ثالثا في المسألة وهو:
أن الصلاة في الدار المغصوبة ليست صحيحة، ولكن يسقط الطلب
عندها لا بها، وهو منسوب للقاضي أبي بكر الباقلاني.
ولقد ذكرت في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " دليل
هذا المذهب، وبيَّنا أنه قريب من المذهب القائل: إن الصلاة في
الدار المغضوبة لا تصح، فراجعه من هناك.(1/306)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المذهبين الأول والثاني خلاف معنوي، وهو واضح؟
حيث إن من صحح الصلاة في الدار المغصوبة لم يأمر من فعلها على
هذه الصفة بالقضاء، ومن لم يصححها فإنه يأمر من فعلها في دار
مغصوبة بالقضاء.
***
المسألة السابعة: في مقدمة الحرام:
مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان من أجزاء الحرام فهذا محرم بالتأكيد، مثاله:
الإيلاج والإخراج في عملية الزنا، فإنه لا فرق - هنا - بين المقدمة
والحرام، فإن حكمهما واحد؛ حيث إنه لا فرق بين أن يقول
الشارع: " لا تزن " أو أن يقول: " لا تولج ".
الثاني: ما كان من أسباب الحرام فهذا حرام مثل: محادثة
الأجنبيات بشهوة " لأن ذلك سبب في الوقوع في الزنا.
الثالث: ما كان من ضرورات الحرام مثل: اختلاط أخته بعدد من
الأجنبيات عنه في بلدة صغيرة، وعسر تمييزها من بينهن، فهنا يحرم
نكاح الجميع ضرورة، حتى لا يوصل به هذا إلى نكاح أخته.
المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر:
الحرام المعيَّن معروف وهو الثابت بالإجماع، وهو الذي تعين
المنهي عنه بشيء واحد كتحريم شرب الخمر، والزنا، والربا،
ونحو ذلك.(1/307)
أما الحرام المخيَّر وهو الذي لم يتعين المنهي عنه بشيء واحد، بل
تعلق النهي بأشياء متعدِّدة ومحصورة، فهل يجوز ذلك؟
أي: هل يجوز أن يحرم واحداً لا بعينه؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز أن يُحرم واحداً لا بعينه.
ذهب إلى ذلك الآمدي، وابن الحاجب، وأكثر الفقهاء.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن يقول الشارع: " لا تكلم زيداً
أو. عمرأ، وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه، ولست أحرم
عليك كلام الجميع، ولا واحداً بعينه "، فهذا كلام معقول، ولا
يلزم من تصوره محال.
الدليل الثاني: الوقوع الشرعي، ومنه: تحركيم إحدى الأختين لا
بعينها، وكذلك لو أسلم وتحته أكثر من أربع نساء، فإنه ممنوع مما
زاد عن الأربع من غير تعيين.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز تحريم واحد لا بعينه.
ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن النهي عن الشيء قبيح، فإذا نهي عن أحدهما
لا بعينه ثبت القبح لكل منهما، فيمتنعان جميعاً.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن قولكم هذا مبني على قاعدة " التحسين
والتقبيح العقليين "، ونحن لا نوافقكم عليها جملة وتفصيلاً.(1/308)
الدليل الثاني: أن التحريم ينافي التخيير، فمعنى كونه محرماً:
أنه لا يجوز فعله، ومعنى كونه مخيراً: أنه يجوز فعله وتركه.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن اللَّه عَزَّ وجَلَّ يعلم الأشياء على ما هي
عليه، فيعلم الحرام الذي ليس بمعين غير معين، وإذا أتى بها المكلَّف
كلها سقط العقاب عنه.
الدليل الثالث: أن حرف " أو " إذا ورد في النهي اقتضى الجمع
دون التخيير، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ، فالشارع نهى عن الطاعة لكل منهما.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن الترك في الآية قد تعلق بمفهوم أحدهما،
فلذلك أفاد التعميم.
المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعين نهي عن ضده؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب:
المذهب الأول: أن الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّ ذلك الشيء
المعيَّن من جهة المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد.
ذهب إلى ذلك: الأئمة الثلاثة - أبو حنيفة، ومالك، والشافعي -
وأكثر أتباعهم، وهو رواية عن الإمام أحمد وكثير من أتباعه،
واختاره فخر الدين الرازي وأكثر أتباعه، والقاضي عبد الجبار بن
أحمد، والكعبي، وأبو الحسين البصري.
وهو الصحيح عندي، فعلى هذا يكون الأمر بالصلاة: نهي في(1/309)
المعنى عن الأكل والشرب والنوم، والأمر بالجلوس في البيت يكون
نهياً في المعنى عن الجلوس في الطريق وغير ذلك من المواضع التي
يضاد الجلوس فيها الجلوس في البيت.
ولقد صحَّحته للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا يمكن أن نتوصل إلى فعل المأمور به إلا بترك
ضده، فوجب أن يكون الأمر به نهياً عن ضده، فلو قال - مثلاً -:
" قم " لا يمكنه فعل القيام إلا بترك القعود، فوجب أن يكون نهياً
عن القعود، والاضطجاع، والركوع، ونحو ذلك، قياسا على
الأمر بالصلاة لما لم يمكنه فعل الصلاة إلا بتقديم الطهارة كان الأمر
بالصلاة أمراً بالطهارة، وجلب الماء، وتوفير كل الأسباب التي
يتوصل بها إلى صحة الصلاة، فكذا هاهنا.
الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " قم " فقعد حسن ذمه
وتوبيخه على القعود، فيقول له: " لِمَ قعدت؛ "، ولو لم يكن
الأمر بالقيام اقتضى النهي عن القعود: لما حسن توبيخه وذمه على
القعود.
الدليل الثالث: أن من أذن لغيره في دخول الدار ثم قال له:
"اخرج " تضمن هذا القول منعه من القيام فيها، واللفظ إنما هو أمر
بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده.
المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء هو بعينه طلب ترك الضد، فهو
طلب واحد: بالإضافة إلى جانب الفعل: أمر، وبالإضافة إلى
جانب الترك: نهي.
فالسكون هو عين ترك الحركة، وطلب السكون هو عين طلب(1/310)
ترك الحركة، فالأمر بالسكون طلب واحد، هو بالإضافة إلى
السكون أمر، وبالإضافة إلى الحركة نهي.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في أول أقواله، وتبعه
على ذلك بعض المتكلمين.
وبنى هؤلاء مذهبهم على أساس أن الأمر لا صيغة له، وإنما هو
معنى قائم بالنفس، فالأمر - عندهم - هو نفس النهي من هذا
الوجه، فاتصافه بكونه أمراً ونهيا كاتصاف الكون الواحد بكونه قريبا
من شيء بعيداً من شيء آخر.
جوابه:
يمكن أن يجاب عنه بأن يقال: إن مذهبكم هذا مبني على أن الأمر
بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا غير صحيح؛ لأن
العرب فرقت بين لفظ الأمر، ولفظ النهي، فجعلت لفظ الأمر
موضوعا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل،
وطلب الترك، فلم يجز أن يجعل أحدهما للآخر كما لا يجوز ذلك
في الخبر.
المذهب الثالث: أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده: لا بمعنى
أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه، ولا بمعنى أنه يلازمه.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كالغزالي، وروي عن القاضي أبي
بكر الباقلاني، وجمهور المعتزلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن صيغة الأمر تختلف عن صيغة النهي، فصيغة
الأمر " افعل " وصيغة النهي " لا تفعل "، فلا يجوز أن تكون صيغة
أحدهما مقتضية للآخر.(1/311)
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إنما لا يجوز ذلك ويمتنع لو
جعلنا الأمر بالشيء نهياً عن ضده من طريق اللفظ، فيكون اختلاف
صيغتهما مانعا لكون أحدهما مقتضيا للآخر، لكنا نقول: إن الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن ضده من طريق المعنى - كما سبق بيانه -.
الدليل الثاني: أن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده،
فكذلك الأمر بالشيء وجب أن لا يكون مقتضيا للنهي عن ضده.
جوابه:
يمكن أن يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم ذلك، بل: إن النهي عن
الشيء يقتضي الأمر بضده، فإن كان له ضد واحد كالنهي عن صوم
يوم النحر: فإنه يقتضي الأمر بضده وهو الإفطار، وإن كان له
أضداد كالزنا فإنه يقتضي الأمر بضد من أضداده، لأنه بفعل ضد
واحد يترك المنهي عنه، وهو أن يشتغل عنه بأكل أو شرب أو نوم أو
نحو ذلك من الأعمال، فإنه يصير بفعله لأحد تلك الأمور تاركا
للزنا.
الدليل الثالث: أن الأمر بالشيء قد يكون غافلاً وذاهلاً عن
ضده، والنهي عن الشيء مشروط بالشعور بالمنهي عنه، فكيف يكون
الآمر طالبا ما هو غافل عنه؛ وإذا كان الآمر لم يغفل عن ضد
الشيء المأمور به: فإن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده من حيث
ذات الأمر، بل يكون الأمر نهيا عن ضده من باب ما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب.
جوابه:
يمكن أن نجيب عنه بجوابين:(1/312)
الجواب الأول: لا نسلِّم أنه يصح منه إيجاب الشيء عند الغفلة
عن الإخلال به؛ لأن الأمر المقتضي إيجاب شيء مركب من قيدين:
" إيجاب الفعل "، و " المنع من الترك "، فالمتصور للإيجاب متصور
للمنع من الترك، فيكون - بذلك - متصوراً للترك لا محالة.
الجواب الثاني: سلَّمنا أن الضد قد يكون مغفولاً عنه، ولا يمنع
ذلك من أن يكون الضد منهياً عنه؛ قياسا على مقدمة الصلاة، فإن
الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها، وإن كان مقدمتها قد تكون مغفولاً عنها،
فكذلك هنا.
بيان نوع الخلاف:
أولاً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول والثاني خلاف لفظي؟
لاتفاق الفريقين على أن الأمر بالشيء نهي عن ضدِّه، لكن أصحاب
المذهب الأول يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة المعنى،
وأصحاب المذهب الثاني يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة اللفظ.
ثانياً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وأصحاب المذهب
الثالث خلاف معنوي، قد أثر في كثير من المسائل الفقهية، ومنها:
1 - إذا قال لزوجته: " إن خالفت نهيي فأنت طالق " ثم قال
لها: " قومي " فقعدت، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، وكان
سبب خلافهم هو خلافهم في هذه القاعدة.
فقال بعض العلماء: إنها تطلق؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وقال آخرون: إنها لا تطلق بنإء على أن الأمر بالشيء ليس نهيا
عن ضده.
2 - إذا سجد على مكان نجس فما حكم صلاته؛(1/313)
اختلف في ذلك:
فذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته باطلة، فيجب أن يعيدها كلها؟
لأنه مأمور بالسجود على مكان طاهر، والأمر بالشيء نهي عن
ضده، فالسجود على مكان نجس منهي عنه، فوجب أن تبطل
صلاته؛ لفعله ما نهي عنه.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يؤمر بإعادة السجود على مكان طاهر
ويجزئه؛ لأن المأمور به السجود على مكان طاهر، وقد أتى به، أما
السجود على مكان نجس فليس بمنهي عنه، لأن الأمر بالشيء ليس
نهيا عن ضده.
وإن أردت الزيادة من هذه الأمثلة فراجع كتابي " إتحاف ذوي
البصائر ".
تنبيه: الحرام عند الجمهور يشمل ما ثبت النهي عنه بدليل
قطعي، وما ثبت النهي عنه بدليل ظني، فلم يُفرق بينهما، وقد
تكلمنا عنه فيما سبق.
أما الحنفية فإنهم يفرقون بين ما ثبت بدليل قطعي، وما ثبت بدليل
ظني.
فسموا الثابت بدليل قطعي بالحرام.
وسموا الثابت بدليل ظني بالمكروه تحريما.
وفرقوا بين " الحرام " و " المكروه تحريما " بفروق، من أهمها:
الأول: أن من أنكر الحرام الثابت بدليل قطعي اعتبر كافراً، أما
منكر المكروه تحريما، فإنه يعتبر فاسقا.
الثاني: أن العقاب في ارتكاب الحرام أشد من العقاب في ارتكاب
المكروه تحريما.(1/314)
الفصل الثالث في التكليف وشروطه
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: حقيقة التكليف:
أولاً: التكليف لغة
ثانياً: التكليف اصطلاحاً.
المبحث الثاني: في شروط التكليف.(1/315)
المبحث الأول في حقيقة التكليف
أولاً: التكليف لغة:
يرجع إلى أصل الكلمة، حيث تتكون من ثلاثة أحرف وهي:
"الكاف، واللام، والفاء "، وهذا الأصل يدل على إيلاع بالشيء،
وتعلق به مع شغل القلب.
وهو مأخوذ من الكلفة وهي: المشقة.
ويطلق التكليف على الأمر بما يشق عليك، فهو إذاً: الأمر بما فيه
كلفة.
ثانياً: التكليف اصطلاحاً هو:
الخطاب بأمر أو نهي.
وقيل: إلزام ما فيه كلفة.
ولهذا الاختلاف في تعريف التكليف اصطلاحاً أثره الواضح.
فمن عرَّفه بالأول - وهو الخطاب بأمر أو نهي - أدخل المندوب
والمكروه ضمن الأحكام التكليفية، لأن المندوب مأمور به، والمكروه
منهي عنه.
ومن عرَّفه بالثاني - وهو: إلزام ما فيه كلفة - لم يدخل المندوب
تحت الأحكام التكليفية؛ لأنه لا إلزام في فعل المندوب، ولا إلزام
في ترك المكروه، وقد سبق بيان ذلك.(1/317)
المبحث الثاني في شروط التكليف
شروط التكليف تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شروط ترجع إلى المكلَّف وهو المحكوم عليه.
القسم الثاني: شروط ترجع إلى الفعل المكلَّف به، وهو المحكوم فيه.(1/319)
القسم الأول في شروط المكلَّف
ويشتمل على مسائل.
المسألة الأولى: بيان شروط المكلف.
المسألة الثانية: تكليف الجن.
المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟
المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟
المسألة الخامسة: المجنون المميز هل هو مكلَّف؟
المسألة السادسة: المعتوه هل هو مكلَّف؟
المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى عليه مكلفون؟
المسألة الثامنة: هل السكران مكلف؟
المسألة التاسعة: تكليف المكره.
المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام.(1/321)
المسألة الأولى: بيان شروط المكلَّف:
الشرط الأول: أن يكون بالغاً.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً.
الشرط الثالث: أن يكون فاهماً للخطاب.
فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة في شخص أصبح هذا الشخص
مكلَّفاً بأحكام الشرع.
والبلوغ: هو الوصول إلى الحدِّ الذي إذا وصله الشخص فإنه
تحسب له الحسنات، وتحسب عليه السيئات.
والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام
- وهو إنزال المني -، أو بإنبات شعر من قبل، هذا بالنسبة للذكر.
أما الأنثى فيعرف بلوغها بأحد الأمور التي تخص الذكر، وتزيد
أمراً رابعاً وهو: الحيض.
والمقصود بالعقل: آلة التمييز والإدراك.
والفهم هو: جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه
من المطالب.
والمراد بالخطاب: هو خطاب الشارع، سواء كان أمراً أو نهياً أو
تخييراً.
وفرَّقنا بين اشتراط البلوغ، واشتراط العقل مع أن بعض العلماء
قد جعلوا البلوغ يدخل ضمن اشتراط العقل، وقالوا: إن البلوغ
وضعه الشارع حداً للعقل الذي يتفاوت الناس فيه، لكننا فرَّقنا بينهما(1/323)
وأفردناه عن شرط العقل، لاختلاف حكم الصبي عن المجنون
وغيره، وذلك لأن اشتراط البلوغ أخرج الصبي، واشتراط العقل
أخرج المجنون.
وفرقنا بين اشتراط العقل واشتراط الفهم، مع أن بعض العلماء لم
يُفرِّقوا بينهما؛ لأنا أردنا بالعاقل ما يخالف المجنون، وأردنا بالفاهم
ما يخالف النائم والغافل والساهي.
الحاصل: أنه يشترط في الشخص المراد تكليفه: أن يكون قدى
وصل إلى الحدِّ الذي نعرف بواسطته خروجه عن مرحلة الصبا، وأن
يتوفر فيه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والطيب والخبيث،
وأن يتوفر فيه الفهم الذي يستطيع به أن يدرك المراد والمطلوب من ذلك
الخطاب الموجه إليه، ويفهم كيفية امتثاله، ويفهم المقصود من
التكليف حتى تصح النية، حيث لا عمل إلا بنية.
***
المسألة الثانية: تكليف الجن:
الجني البالغ، العاقل، الذي يفهم الخطاب هل هو مكلَّف أو لا؟
أقول: إن الجن مكلَّفون بفروع الشريعة كأصولها، لما يلي من
الأدلة:
الأول: قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
الثاني: قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) .
الثالث: قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) .
الرابع: الإجماع، حيث أجمع العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل(1/324)
بالقرآن إلى الإنس والجن، وجميع أوامره ونواهيه تتوجه إليهما،
وهي تشمل الأوامر والنواهي في الأصول والفروع.
لكن تكليفهم يختلف عن تكليف الإنس؛ لأن طبيعة كل واحد
تختلف محن طبيعة الآخر، فالجن يخالفون بالحد والحقيقة الإنس،
وإذا خالفوهم في ذلك فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف.
فمثلاً: الجني يقصد البيت الحرام للحج طائراً؛ لأنه قد أعطي
قوة الطيران في الهواء، أما الإنسان فلا يخاطب بذلك لعدم وجود
تلك القوة عنده.
ولقد نقل بعض العلماء كابن نجيم في الأشباه والنظائر أحكاما
خاصة تتعلق بالجن ومنها: هل تصح الصلاة خلفه، ونحو ذلك.
***
المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟
الصبي غير المميز هو: الذي لا يميز ولا يفرق بين الأشياء، فلا
يميز بين الحق والباطل، وبين الطيب والخبيث، وبين الجيد والرديء.
ومدته سبع سنوات، وهو من ولادته إلى تمامه سبع سنوات من
عمره، والسبب في هذا التحديد ما رواه ابن عمر - رضي الله
عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" مروا أولادكم لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرَّقوا بينهما في المضاجع "، فقد أمر الشارع - هنا -
الولي بأن يأمر الصبي البالغ سبع سنوات بالصلاة للتمرين والتدريب،
ويفهم منه أن الصبي غير البالغ هذا السن لا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه لا
يفرق بين الأمور.
وهذا الصبي قد اختلف في تكليفه على مذهبين:(1/325)
المذهب الأول: أن الصبي غير المميز غير مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق عندي الذي لا يجوز
غيره؛ وذلك لأن الذي لا يفهم الخطاب الوارد من الشارع لا يتصور
منه قصد مقتضاه، والصبي غير المميز لا يفهم شيئاً من الخطابات،
فلذلك سقطت عنه المطالبة بمقتضى ذلك الخطاب، بيان ذلك:
أن المقصود والغرض من تكليف الشارع لعباده بالتكاليف الشرعية
هو: أن يمتثلوا بفعل المأمور به وترك المنهي عنه؛ لتحقيق امتحان الله
للمكلَّف، ولا يصح ذلك الامتثال وتلك الطاعة إلا بوجود النية
والقصد، ولا تصح النية إلا بوجود شرطها وهو: أن يعلم المكلَّف
بالفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، والمقصود منه، وأن يعلم من هو
المكلِّف - بكسر اللام - وغرضه من هذا التكليف وما يتعلق بذلك
من رغبة ورهبة، ووعد ووعيد، وهذه الأمور لا يمكن أن يدرك
حقائقها الصبي غير المميز، فلذلك رفع التكليف عنه.
فعدم معرفته لتلك الأمور وعدم فهمه للخطابات قد منع من
تكليفه، فلا يمكن تكليفه مع قيام المانع، وهذا ينزل منزلة تكليف
المقعد بالقيام وذلك مستحيل.
المذهب الثاني: أن الصبي غير المميز مكلَّف.
ذهب إلى ذلك بعض الناس كما نقل ذلك أبو البركات ابن تيمية
في " المسودة ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الصبي قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة من
ماله إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، ودفع أروش الجنايات،(1/326)
وقيم المتلفات، وهذا تكليف من جهة الشرع، فلو كان غير مكلَّف
لما لزمه دفع تلك الواجبات من ماله، فلما لزم ذلك دلَّ على تكليفه.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن وجوب تلك الواجبات عليه ليس من
باب خطاب التكليف، وإنما هو من باب خطاب الوضع؛ حيث إنه
من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فالشرع وضع أسبابا تقتضي أحكاما
تترتب عليها، تحقيقا للعدل في خلقه، ومراعاة لمصالحهم تفضلاً منه
سبحانه، فهذه لا تكليف فيها.
فبلوغ المال النصاب سبب لوجوب الزكاة في هذا المال، بعد
حولان الحول عليه سواء كان مالكه صبيا أو بالغا.
فإذا بلغ ذلك المال النصاب وحال عليه الحول، فقد وجب في ذمة
الصبي إخراج الزكاة.
كذلك الإتلاف سبب لوجوب قيمة المتلَف - بفتح اللام - على
المتلف بقطع النظر عن المتلف - بكسر اللام - أي: سواء كان صغيراً
أو كبيراً.
كذلك إذا جرح الصبي شخصا بجرح صغير: فإن هذا سبب
لإخراج أرش هذا الجرح من مال الجارح، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
الخلاصة: أن بلوغ المال النصاب، ونفس الإتلاف، والجنايات
بالجراح أسباب لثبوت حقوق في ذمة الصبي.
ولكون اللَّه سبحانه قد حفظ للناس حقوقهم، ونظراً لأن حكمته
اقتضت عدم ظلم الفقير، وظلم الآخرين، فإن هذه الأسباب تكون(1/327)
خطابات لولي الصبي، أو الوصي عليه، بحيث يخرج هذه الحقوق
من ماله من زكاة، وقيم متلف، وأرش جناية.
وإن لم يمكن ذلك فإن بلوغ النصاب والإتلاف والجنايات تكون
أسباباً لخطاب الصبي بعد بلوغه؛ لتمكنه في تلك الحال من فهم
الخطاب.
أي: إما أن يتوجه الخطاب بتلك الأسباب في الحال إلى الولي أو
الوصي.
أو يتوجه في المآل؛ لأن مآل الصبي هو البلوغ،
الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلف، وأرش الجناية تثبت في
ذمة الصبي، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو كان غير مكلَّف لما ثبت
في ذمته شيء.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن ثبوت تلك الأحكام في ذمة الصبي ليس
بسبب كونه مكلفاً، بل إن الصبي صار أهلاً لثبوت الأحكام في ذمته
بسبب توفر صفة الإنسانية فيه التي بها يكون مستعداً لقبول قوة العقل
الذي بواسطته يستطيع فهم التكليف، وذلك بعد البلوغ.
فصفة الإنسانية الموجودة في الصبى هى التى جعلته أهلاً للتكليف
بالقوة لا بالفعل.
بخلاف البهيمة، فلا يمكن أن يكون لها أهلية فهم الخطاب ولا
التكليف لا بالقوة ولا بالفعل؛ لعدم صفة الإنسانية فيها، فلذلك لا
تثبت في ذمتها الأحكام، ولم تهيا لذلك.
ومما يؤيد ذلك: القياس على النطفة في الرحم، فإنه يثبت لها(1/328)
الملك بالإرث والوصية مع أن الحياة التي هي شرط الإنسانية والتي
تثبت بها الملكية مفقودة، وليست موجودة بالفعل، ولكن هذه
النطفة تملك بالقوة؛ لأن مصير هذه النطفة - غالبا - إلى الحياة،
فلذلك صلح أن تملك تلك النطفة، ولكن هذا الملك بالقوة لا بالفعل.
فكذلك الصبي مصيره إلى العقل والبلوغ وفهم الخطاب، فصلح
لأن يثبت في ذمته بعض الأحكام من إخراج الزكاة، ودفع قيمة
المتلفات ونحو ذلك، والجامع: أن كلاً منهما لا يستطيع التصرف في
الحال فيما يملكه.
***
المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟
الصبي المميز هو: من تجاوز سن السابعة من عمره - وقيل: هو
من تجاوز سن السادسة - وهو يدرك حقائق الأمور ويميز بين الأفعال
والأقوال، والجيد والرديء، والحق والباطل.
فهو في هذه الحالة قد توفر فيه العقل، وفهم خطاب الشارع فهل
هو مكلَّف؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه غير مكلف مطلقا.
وهو قول جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن كون الصبي
المميز عاقلاً يفهم الخطاب ويميز بين حقائق الأمور جعل تكليفه
ممكن، لكن الشارع وضع وحط عنه التكليف؛ رفعا للحرج؟
حيث إن العقل والفهم يتزايدان تزايداً غير واضح، فلا يعلم هو
بنفسه ولا غيره ذلك التزايد، فلا يمكن الوقوف على أول وقت فهم
فيه خطاب الشارع، وأول وقت عرف حقيقة المرسل - بكسر السين -(1/329)
والمرسَل - بفتح السين -، والغرض من إرسال الرسل، فنظراً
لعدم معرفة ذلك بالتحديد، جعل الشارع وقتاً محدداً للتكليف، ألا
وهو: البلوغ، فهو علامة واضحة جلية لظهور العقل وفهم الخطاب
على الغالب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ ... ".
والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام، أو
بإنبات شعر من قبل، وتزيد الأنثى بخروج الحيض.
فوضع الشارع ضابطاً يضبط الحد الذي تتكامل فيه بنيته وعقله وهو
" البلوغ "، ولهذا فإن أكثر الأحكام تتعلق به.
قال بعض العلماء: كأن الشارع لم يلزم الصبي قضايا التكليف؟
لأمرين:
أولهما: أن الصبي مظنة الغباوة، وضعف العقل، فلا يستقل
بأعباء التكليف.
ثانيهما: أنه عري عن البلية العظمى، وهي الشهوة.
المذهب الثاني: أن الصبي المميز مكلف مطلقاً.
وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
أن الصبي المميز عاقل، يفهم خطاب الشرع، مميز بين الأقوال
والأفعال، ويميز بين الخير والشر، والجيد والرديء، والحق
والباطل، وما دام الأمر كذلك فما المانع من تكليفه، وقد توفر فيه
الشروط التي تشترط في البالغ وهو العقل والفهم؛(1/330)
جوابه:
يجاب عنه بأنا لا نعلم متى فهم وأدرك وعقل حتى يكلف
بالتكاليف الشرعية ويطالب بها، وذلك لأن نمو العقل وتزايد الفهم
وتطوره خفي عنا، ويصعب علينا - إن لم يستحيل - الوقوف على
الحدِّ الذي به يمكن أن نحكم عليه بأنه عاقل وفاهم للخطاب.
ثم إن الصبيان يختلفون باختلاف تنشأتهم، وبيماتهم، ومعاملتهم،
ونحو ذلك، وقد يكون عقل وفهم هذا الصبي يختلف عن عقل
وفهم صبي آخر، مما يلزم منه اختلاف الحكم باختلاف الصبيان.
فسداً لذلك ورفعا للحرج: بيَّن الشارع علامة لا نختلف عند
وجودها وهي: " البلوغ "، فإذا بلغ الشخص كان مكلَّفا، أما قبل
البلوغ فلا يمكن تكليفه.
المذهب الثالث: الفرق بين الصبي المميز البالغ عشر سنين وبين
الصبي المميز غير البالغ عشر سنين.
فالبالغ عشر سنين يكلف بالصلاة، أما من هو أقل من ذلك فلا
يكلف، ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وابن سريج من
الشافعية.
دليل هذا المذهب:
قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر".
وجه الاستدلال: أن الصبي المميز مأمور بالصلاة ومعاقب على
تركها، وهذا يدل على تكليفه، ولو لم يكن مكلَّفا لما ضُرِب على
تركها.(1/331)
جوابه:
يجاب عنه: بأن الأمر بصلاة الصبي المميز والأمر بضربه ليس من
جهة الشارع، وإنما هو من جهة الولي، والعبارة تدل على ذلك
حيث قال: " مروا ... وأضربوهم " يعني: أيها الأولياء مروا
أولادكم، واضربوهم ... ، وقلنا ذلك لأن الصبي يفهم خطاب
الولي، ويخاف ضربه، فصار أهلاً لذلك، ولكنه لا يفهم خطاب
الشارع أصلاً، ولا يفهم عقابه، فالصبي مأمور ومعاقب من قبل
الولي.
ثم الأمر والضرب هنا: للتأديب والتهذيب.
المسألة الخامسة: المجنون هل هو مكلَّف؟
المجنون مأخوذ لغة من جن يجن: إذا استتر، ويقال: جن
يجن، جناً، وجنوناً، ومجنة، أي: زال عقله، ومنه قوله
تعالى: (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ، والجنون معناه: زوال العقل، أو فساد فيه.
والجنون اصطلاحاً هو: اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة
والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا يظهر آثارها وتتعطل أفعالها.
وهو نوعان: " جنون أصلي "، و " جنون عارض ".
أما الجنون الأصلي فهو: أن يولد الإنسان فاقد العقل، ويستمر
على ذلك.
أما الجنون العارض فهو: أن يبلغ الإنسان سليم العقل، كامل
الفهم، ثم يطرأ له الجنون.
والمجنون اختلف في تكليفه على مذهبين:(1/332)
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق: لعدم فهمه للخطابات الواردة من الشارع، وعدم
إدراكه وعلمه للفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، وعدم وجود النية
والقصد منه، وهو يصدق عليه الدليل الدال على عدم تكليف الصبي
غير المميز.
المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض الناس كما حكى ذلك ابن تيمية في " المسوَّدة ".
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الجنون قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة،
ودفع قيمة المتلف، ودفع أروش الجنايات، ولو لم يكن مكلَّفا لما
وجه إليه خطاب، ولما أخذت تلك الحقوق من ماله.
جوابه:
قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الأول من أدلة
القائلين: إن الصبي غير المميز مكلَّف.
الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلفات، وأرش الجناية قد
ثبتت في ذمة المجنون، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو لم يكن مكلَّفاَ
لما ثبت في ذمته شيء.
جوابه:
قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الثاني من أدلة
القائلين بأن الصبي غير المميز مكلَّف.(1/333)
المذهب الثالث: الفرق بين المجنون المطبق، والمجنون غير المطبق،
فالمجنون المطبق - وهو الذي لا يفيق - غير مكلف مطلقاً.
أما المجنون غير المطبق - وهو الذي يفيق أحياناً - فهذا مكلَّف،
وقد حُمِل على هذا المذهب ما روي عن الإمام أحمد: أن المجنون
يقضي الصلاة والصوم.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن دليل عدم تكليف المجنون المطبق هو دليل الجمهور في المذهب
الأول.
أما دليل تكليف المجنون غير المطبق فهو: أنه يعقل ويفهم خطاب
الشارع في إفاقته، فينبغي تكليفه بناء على ذلك.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن إفاقته ليست واضحة جلية حتى نكلفه أثناء
تلك الإفاقة، فلا يمكننا الوقوف على أول وقت الإفاقة وأول وقت
فهمه للخطاب، ونظراً لعدم معوفتنا لذلك بالتحديد فإنه يستحيل
تكليفه.
***
المسألة السادسة: هل المعتوه مكلَّف؟
المعتوه لغة مأخوذ من العته، وهو نقص العقل من غير جنون.
وهو في الاصطلاح: آفة ناشئة عن الذات توجب خللاً في العقل
فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء،
وبعضه كلام المجانين.(1/334)
وقلنا بأنه: " آفة ناشئة عن الذات " لإخراج الآفة الناشئة بسبب
عارض كالمخدرات والخمور وغيرها.
الفرق بين المجنون والعتوه:
يوجد بين المجنون والمعتوه فروق إليك أهمها:
الفرق الأول: أن المعتوه له عقل ولكنه ضعيف عن إدراك وفهم
الخطاب، أما المجنون فإنه لا عقل له.
الفرق الثاني: أن المعتوه قد يكون مميزا، وقد يكون غير مميز،
بخلاف المجنون، فلا يكون مميزا أبداً.
الفرق الثالث: المعتوه لا يصاحبه تهيج واضطراب، بخلاف
المجنون فقد يصاحبه تهيج واضطراب.
فالمعتوه الذي يفهم خطاب الشارع - هل هو مكلف؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقا.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ قياسا على المجنون،
وعلى الصبي غير المميز، والجامع: ضعف العقل عن إدراك حقائق
الأمور، وعن فهم خطابات الشارع على ما هي عليه.
المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض الناس.
دليل هذا المذهب:
استدلوا بنفس الأدلة التي استدل بها القائلون: إن الصبي والمجنون
مكلَّفان من حيث وجوب دفع الزكاة، وقيمة المتلفات، وأروش
الجنايات عليه، ومن وجوب ذلك في ذمته.(1/335)
جوابه:
الجواب عن ذلك هو نفس ما أجبنا به عن الدليلين السابقين،
فاستحضرهما من هناك.
المذهب الثالث: الفرق بين العبادات وغيرها.
فالمعتوه تجب عليه العبادات ويكلف بها دون غيرها من الأحكام.
ذهب إلى ذلك أبو زيد الدبوسي من الحنفية.
دليله: الاحتياط، حيث إن العبادات يحتاط لها أكثر من غيرها.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا غير صحيح، لأن العبادات لازمة في حق
من يفهم الخطاب عند سماعه به وتوجيهه إليه، والمعتوه لا يفهم
الخطاب، فاختل شرط المكلف وهو: " فهم الخطاب "، وإذا
اختل شرط من شروط المكلف فإنه لا تكليف مطلقا.
وبناء عليه لا تجب العبادات ولا غيرها من الأحكام الشرعية.
المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى
عليه مكلَّفون؟
الناسي مأخوذ من النسيان - بكسر النون وسكون السين - وهو:
ضد الذكر والحفظ، هذا لغة.
وهو اصطلاحاً: عاهة تنشأ عن اضطراب أو عطب في المخ، أو
عن اضطراب شديد في الحياة العقلية يسببه القلق والصراع النفسي.
وقيل: معنى يعتري الإنسان بدون اختياره، فيوجد الغفلة عن
الحفظ.(1/336)
وقيل: هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه.
أما السهو: فهو أخف من النسيان؛ لأن النسيان هو: زوال
الصورة عن المدركة والحافظة معاً، فيحتاج - حينئذٍ - إلى سبب
جديد بخلاف السهو، فإنه زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في
الحافظة، فيتنبه بأدنى تنبه.
أما الغفلة فهي قريبة من السهو.
أما النوم فهو لغة: السكون، والهدوء، والكساد.
وهو اصطلاحاً: فترة طبيعية تحدث بالإنسان بلا اختيار منه، وتمنع
الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها، وتمنع استعمال
العقل مع قيامه.
أما المغمى عليه فهو في اللغة: فقد الحس والحركة.
وهو في الاصطلاح: فتور يزيل القوى ويعجز ذو العقل عن
استعماله فترة مع قيامه حقيقة.
إذا عرفت ذلك فهل هؤلاء مكلَّفون؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الغافل والناسي والساهي والنائم والمغمى عليه
غير مكلَّفين حال الغفلة، والنسيان، والسهو، والنوم، والإغماء.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن هؤلاء وهم في حالتهم تلك قد فقدوا شرط
التكليف وهو: الفهم، فالغافل في حالة غفلته، والناسي في حالة
نسيانه، والساهي في حالة سهوه، والنائم في حالة نومه، والمغمى
عليه في حالة الإغماء لا يدركون معنى الخطاب، فكيف يخاطبون(1/337)
ويقال للواحد منهم " افهم " مع أن الفهم منعدم وهم في حالتهم
تلك؛ فلو كلفوا الامتثال وهم لا يفهمون الخطاب لكان تكليفاَ
بالمحال.
المذهب الثاني: أن الغافل، والناسي، والساهي، والنائم،
والمغمى عليه مكلّفون مطلقا.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: إن تكليف هؤلاء بالإتيان بالفعل امتثالاً هو تكليف
بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق جائز، فتكليفهم جائز.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ لكم جواز تكليف ما لا يطاق
لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، ولأن الأمر استدعاء وطلب، والطلب
يستدعي مطلوباً وينبغي أن يكون مفهوماً.
ولو فرضنا - مع الفرض الممتنع -: أن تكليف ما لا يطاق جائز -
وهو رأي كثير من العلماء - فإنهم أجازوه إذا أمكن أن يكون له فائدة
اختبار اللَّه تعالى للعبد هل يأخذ في مقدمات ما كلف به؟
والغافل، والساهي، والناسي، والنائم، والمغمى عليه،
لا يمكنهم الامتثال بما كلَّفوا به - ولا بمقدماته - وهم في حالتهم تلك
- فكان - تكليفهم محالاً.
الدليل الثاني: إن هؤلاء لو أتلفوا شيئاً - وهم في حالة الغفلة،
والسهو، والنسيان، والنوم، والإغماء، لوجب ضمان المتلف(1/338)
ودفع قيمته، والوجوب من الأحكام التكليفية، وهذا دليل على
تكليفهم، إذ لو لم يكونوا مكلَّفين لما وجب عليهم شيء ولما لزمتهم
تلك الحقوق.
جوابه:
يجاب عنه: إن إلزامهم بدفع قيمة ما أتلفوه ليس من باب "الحكم
التكليفي "، وإنما هو من باب " الحكم الوضعي "؛ لأنه من قبيل
ربط الأحكام بأسبابها.
أي: أن السبب وجد وهو الإتلاف، فلا بد من وجود المسبب
وهو الحكم، وهو - هنا - دفع قيمة المتلف بقطع النظر عن كونه
غافلاً، أو ساهياً، أو ناسياً، أو نائماً، أو مغماً عليه، أو كونه
غير ذلك.
المسألة الثامنة: هل السكران مكلَّف؟
السكران مأخوذ لغة من السكر، وهو في اللغة: غيبوبة العقل
واختلاطه.
وهو في الاصطلاح: حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من
الأبخرة التصاعدة من الخمر، وما يقوم مقامها، فيتعطل معه عقله،
فلا يميز بين الحسن والقبيح.
فمن هذه حالته هل هو مكلَّف؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.(1/339)
وهو الصحيح؛ لأن السكران في حالة سكره لا يفهم الخطاب،
فكيف يوجه إليه خطاب لا يفهمه، ويقال له: " افهم "؛ فهو زائل
العقل كالمجنون، والصبي غير المميز.
فلو طلب منه امتثال ما يقتضيه الخطاب - وهو في حالته تلك -:
لكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق؛ حيث وجه إليه خطاب وهو لا يفهم
المقصود منه، وطلب منه امتثاله، وهذا محال.
المذهب الثاني: أن السكران مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والشافعية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن السكران لو أتلف شيئاً، - لوجب عليه دفع قيمة
المتلف، ولو طلق السكران لوقع طلاقه، وهذا يدل على أنه مكلَّف،
ولو لم يكن مكلَّفا لما لزمه دفع قيمة المتلف، ووقوع الطلاق منه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إلزامه بدفع قيمة ما أتلفه، ووقوع طلاقه وهو
في حالة سكره من باب الحكم الوضعي، وليس من باب الحكم
التكليفي، فهو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، وقد سبق.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه - هنا - قد وجَّه الخطاب إلى
السكران، فلو لم يكن السكران مكلَّفا لما صح توجيه الخطاب إليه.(1/340)
جوابه:
يجاب عنه: بأن استدلالكم بتلك الآية على أن السكران مكلَّف
غير صحيح، لوجهين:
الوجه الأول: أنا لا نُسَلِّمُ بأن الآية خطاب للسكران، بل هي
خطاب للصحابة - رضي اللَّه عنهم - في ابتداء الإسلام قبل أن يحرم
الخمر، حيث إن الصحابة خوطبوا في حال الصحو بأن لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى، وليس الخطاب موجَّه إليهم في حال السكر،
فقوله: (وأنتم سكارى) جملة حالية من قوله: (لا تقربوا) ،
فالسكر متعلق بقربان الصلاة، لا بخطاب اللَّه تعالى للمصلين.
والتقدير: أيها المؤمنون، لا تقربوا الصلاة وأنتم في حالة سكر
حتى لا يأتي عليكم وقت الصلاة وأنتم لا تعلمون ما تقولون فيها،
فتختلط عليكم صلاتكم نتيجة لتأثير الخمر عليكم، فكأنه قال:
"استمروا على الصحو حتى تدخلوا الصلاة وتفرغوا منها ".
قياساً على قولك - ناصحاً غيرك -: " لا تقرب التهجد وأنت
شبعان " أي: استمر على خفة البدن، ولا تشبع حتى إذا أتى وقت
التهجد تقوم به بكل خفة ونشاط.
فكذا هنا كأنه قال: " لا تقرب الصلاة وأنت سكران " أي:
استمر على الصحو، وعدم تناولك للمسكر حتى إذا أتى وقت
الصلاة تقوم بها وأنت تعلم ما تقول.
الوجه الثاني: سلمنا أن تلك الآية خطاب للسكران، لكن
السكران عندنا قسمان:
القسم الأول: سكران زال عقله كلياً، فهذا لا يفهم شيئاً.(1/341)
القسم الثاني: سكران لم يزل عقله، بل هو في مبادئ الطرب
والنشاط، فهذا يفهم الخطاب.
فالآية خطاب للقسم الثاني، أي: خطاب لمن وجد منه مبادئ
النشاط والطرب، وما زال عقله موجوداً، قال أبو إسحاق في
"شرح اللمع ": " خطاب لمن شرب ولم يبلغ قدر السكر ".
بيان نوع الخلاف في تلك المسائل الست السابقة.
الخلاف في تكليف المجنون، والصبي، والغافل، والساهي،
والناسي، والنائم، والمغمى عليه، والسكران، والمعتوه، هذا
الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأنه راجع إلى مقصد ومراد كل من
الطرفين المختلفين في كل مسألة.
فمن قال: إن هؤلاء غير مكلَّفين: أراد أنهم ليسوا مخاطبين ولا
مكلَّفين حال عدم فهمهم خطاب التكليف؛ لاستحالة ذلك وهم في
تلك الحالة.
ومن قال بأنهم مكلَّفون: أرادوا أنهم مكلَّفون حكماً، أي:
تجري عليهم أحكام المكلَّفين، ولكن هذا الجريان جاء من باب الحكم
الوضعي، لا من باب الحكم التكليفي، أي: من باب ربط
الأسباب بمسبباتها، وهذا متفق عليه، فلم يكن هناك خلاف حقيقي.
المسألة التاسعة: تكليف المكره:
قد يوجد شخص بالغ، وعاقل، ويفهم الخطاب، ولكنه أكره
على فعل محرم، أو ترك واجب، فهل يعاقب على فعل المحرم،
وعلى ترك الواجب؛(1/342)
أي: هل هو مكلَّف؟
أقول: المكره نوعان:
النوع الأول: مكره ملجأ، وهو: من حمل على أمر يكرهه ولا
يرضاه، ولا تتعلق به قدرته واختياره كمن ألقي من شاهق على
مسلم فقتله، أو من ربط بحبل وحمل على مسلم فقتله، أو ألقي
على مال فأتلفه، فهذا غير مكلَّف اتفاقاً، لأنه مسلوب القدرة غير
مختار كالآلة.
أي: لا اختيار له في ذلك، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة
كالسكين في يد القاطع، وكحركة المرتعش.
النوع الثاني: مكره غير ملجأ وهو: من حمل على أمر يكرهه،
ولا يرضاه، ولكن تتعلق به قدرته، واختياره، وإرادته كمن قيل
له: " اقتل أخاك المسلم وإلا قتلناك "، أو قيل لمسلم: " اقطع يد
فلان المسلم وإلا قطعنا يدك "، فهذا قد اختلف العلماء في تكليفه
على مذهبين:
المذهب الأول: أنه مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن شروط التكليف قد توفرت، فيه، وهي:
البلوغ، والعقل، وفهم الخطاب، فما المانع من تكليفه؟
أي: أن المكره قد بلغ الحد الذي يمكن أن نكلفه عنده بالتكاليف،
وهو عاقل يفرق بين الحق والباطل والمحرم وغيره، وهو فاهم
لخطابات الشارع يفرق بين ما يقتضي التحريم، وما يقتضي الوجوب،
وأنه يلزم من ترك الواجب وفعل الحرام: العقاب، وهو أيضا قادر(1/343)
على إيقاع ما أمر به وعدم إيقاعه، فهو مختار في الإقدام،
والانكفاف، وينسب إليه الفعل حقيقة.
إذن: المكره مكلَّف كغير المكره ولا فرق بجامع: توفر جميع
شروط التكليف إضافة إلى توفر القدرة وكمال البدن والذمة، ومجرد
الإكراه ليس سبباً لإسقاط الخطاب عن المكره بأي حال من الأحوال.
المذهب الثاني: أن المكره غير الملجأ غير مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المكره قد أتى بالفعل المكره عليه بدافع الإكراه
لا غير، وهذا يقدح في قدرته على الامتثال؛ لأن الامتثال لا يكون
إلا بأن يأتي المكلَّف بالفعل اختياراً قاصداً الطاعة لأمر الشارع، وهنا
لم يفعل المكره الشيء الذي أكره عليه إلا من أجل استجابة أمر المكره
لا من أجل استجابة أمر الشارع.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأنا لا نُسَلِّمُ أن الإكراه ينافي القدرة، ويتعارض
معها، بل إن المكره قادر على فعل ما أكره عليه، وقادر - أيضا -
على ترك فعله، ولهذا أجمع العلماء على أنه إذا أكره المسلم على
قتل أخيه المسلم، فإنه يحرم ذلك عليه، فالمكره بالقتل مأمور
باجتناب ذلك القتل، وإن فعل ما أكره عليه فإنه يأثم بلا خلاف.
وإذا كان المكره مأموراً بذلك ويأثم إذا فعل: فيلزم من ذلك:(1/344)
أن المكره مكلَّف، إذ لو لم يكن التكليف ثابتاً في حقه: لما أمر
بالكف عن القتل، ولما أثم بفعل القتل.
الدليل الثاني. أن من شرط الأمر بفعل " ما " أن يثاب المأمور
عليه، وإلا امتنع التكليف به، والمكره إن أتى بالفعل لداعي الإكراه
- فقط - فإنه لا يثاب عليه فيمتنع تكليفه به.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المكلَّف إذا فعل ما أُكرِه عليه وهو موافق للشرع،
وقصد ونوى أنه فعله لطاعة اللَّه، لا لطاعة المكرِه - بكسر الراء -
فإنه يثاب، فيكون ظاهر فعله أنه طاعة للمكرِه - بكسر الراء -،
وباطنه أنه فعله طاعة لله، وكل فعل قصد به طاعة اللَّه فله ثواب.
الدليل الثالث: أنه حال مباشرة المكرَه للفعل المكره عليه يمتنع
تكليفه بتركه، لأنه يلزم منه الجمع بين الفعل والترك في آنٍ واحد،
وهو جمع بين النقيضين، وهو ممنوع.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمنع التكليف بنقيض المكرَه عليه قبل الإقدام
على فعل المكره عليه ومباشرته، لأنه لا يلزم من هذا الجمع بين
النقيضين " لعدم اتحاد الزمن.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في كثير من مسائل الفروع،
ومنها:
1 - أن المكرَه إذا قتل من يرث منه، فهل يمنع من ذلك الميراث؟
اختلف على قولين:
الأول: أنه يمنع من ذلك الميراث، وهو الصحيح؛ لأنه مكلَّف
قادر على الامتناع.(1/345)
الثاني: لا يمنع من الميراث، بل يرث؛ لأنه غير مكلَّف،
فالإكراه سلب منه الاختيار والقدرة.
2 - أنه إذا أكره على الوطء قبل التحلل الأول.
فعلى المذهب الأول - وهو تكليف المكرَه -: يفسد حجه.
وعلى المذهب الثاني - وهو عدم تكليف المكرَه -: لا يفسد.
3 - إذا أكره المسلم على طلاق زوجته، فهل يقع طلاقه؟
على قولين:
القول الأول: إن طلاقه يقع؛ لأنه مكلَّف يتحمل مسؤولية ما
تلَّفظ به، والمكره عندما نطق بلفظة الطلاق نطق بها وهو مختار
وقاصد، كل ما هنالك أنه غير راض عن هذا التصرف.
القول الثاني: عدم وقوع طلاقه؛ لكونه غير قاصد وقوع الطلاق،
إنما الذي قصده هو دفع الأذى والضرر عن نفسه.
المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام:
تحرير محل النزاع:
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالإيمان، أي:
مكلَّفون بأصول الشريعة، وأن تركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم
في النار، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) .
ثانياً: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون. بالمعاملات
كالبيع، والشراء، والرهن، والإجارة.(1/346)
ثالثا: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالعقوبات
كالحدود والقصاص.
وبعض العلماء يعبر عما سبق بقوله: أجمع العلماء على أن
الكفار مخاطبون بخطاب الوضع مثل اعتبار جناياتهم سببا في وجوب
عقوباتهم عليهم، ولذلك تقام عليهم الحدود عند تقرر أسبابها،
كما يعتبر وقوع عقودهم على الأوضاع الشرعية سببا لترتب آثارها
عليهم كالبيع، والنكاح، ونحوهما، كما يعتبر الإتلاف منهم سببا
لوجوب الضمان عليهم.
والسبب في تكليفهم بالمعاملات: أن المعاملات قصد بها الحياة
الدنيا، فالكفار بها أنسب؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة.
والسبب في تكليفهم بالعقوبات: أن العقوبات قصد بها الزجر
عن ارتكاب أسبابها، والكفار أحق بالزجر وأوْلى به من المؤمنين.
رابعا: أن ما عدا ما ذكرنا من فروع الشريعة كالصلاة، والصوم،
والحج، والزكاة، وإيقاع طلاقه، وعتقه، وظهاره، وإلزامه
بالكفارات، ونحو ذلك، فقد اختلف العلماء هل الكفار مكلَّفون
بها أو لا؟
أي: إذا أمر الشارع بفعل شيء أو نهى عن فعل شيء،
واستعمل لفظا شاملاً وعاما، فهل يدخل الكفار في هذا الخطاب
فيكونون مكلَّفين بما كلِّف به المؤمنون؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنهم مكلَّفون بفروع الشريعة مطلقا،
أي: بالأوامر والنواهي.
ذهب إلى ذلك: الإمام مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي،(1/347)
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره كثير من المالكية، والشافعية،
والحنابلة، وعامة أهل الحديث، وبعض الحنفية كالكرخي،
والجصاص، وهو مذهب أكثر المعتزلة.
وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أنه لو لم يوجد في الكافر غير فقد شرط العبادة
وهما الشهادتان، فإن فقد شرط العبادة مع القدرة عليه لا يمنع من
توجه الخطاب بها.
يدل على ذلك: المحدَث فإنه فقد فيه شرط الصلاة، ولم يمنع
ذلك من وجوب الصلاة عليه وإلزامه بها بسبب قدرته على تحصيل
الشرط، كذلك الكافر فإنه قادر على تحصيل شرط العبادة وهو:
الإيمان.
بيان ذلك: أن المحدث - وهو في حال حدثه ونجاسته - يؤمر
بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، كذلك الكافر - وهو في حال كفره -
يؤمر بالصلاة وغيرها من العبادات بشرط تقديم الشهادتين، ولا فرق
بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما لا يصح منه العمل وهو في حالته
تلك: فإذا أمر المسلم بالصلاة - وهو محدث - فإنه يكون مأموراً
بالشيء الذي لا تتحقق صحة الصلاة إلا به وهو الطهارة من باب:
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كذلك الكافر يؤمر بالصلاة
والزكاة والصوم، وغيرها، ومعروف أنه لا تتحقق صحة الصلاِة
وغيرها من العبادات إلا بتقديم الشهادتين، إذاً هو من باب ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب.
ما اعترض به على ذلك الدليل:
الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ الحكم في المقيس عليه؛ حيث إن(1/348)
المسلم المحدث - وهو المقيس عليه - لا يؤمر بالصلاة مباشرة، بل
إنه يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة، بدليل: أن المحدث -
حال حدثه - لا يتصور أن يؤمر بالصلاة؛ لأنه حال حدثه لا يمكن
أن يمتثل الصلاة، بل يكون عاجزاً عن إيقاعها؛ لذلك قلنا: إنه يؤمر
بالوضوء والتطهر، فإذا تطهر أمر - حينئذٍ - بالصلاة.
جوابه:
يجاب عنه بأنا لو سلمنا لكم أن المحدث يؤمر بالوضوء، فإذا
توضأ أمر بالصلاة: للزم كما ذلك أمران باطلان:
أولهما: أن المحدث لو ترك الصلاة طول عمره، فإنه لا يعاقب
على تركها، بل يعاقب على ترك الوضوء - فقط -؛ لأنه ليس
مأموراً بغيره، ثم إذا فعله أمر بالصلاة، وهذا باطل؛ لأنه خلاف
الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن المحدث لو ترك الصلاة فإنه
يعاقب على ترك الصلاة، ولا يعاقب على ترك الوضوء.
ثانيهما: أنه يلزم - على كلام المعترض -: أن المحدث إذا توضأ
لا يصح أمره بالصلاة بعد ذلك، بل يؤمر بعد الوضوء بتكبيرة
الإحرام، فيشترط تقديمها، بل يؤمر بهمزة التكبيرة، ثم الكاف،
وهكذا، وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا
بالخطوة الأولى، ثم بالثانية وهكذا، وهذا لم يقل به أحد.
الاعتراض الثاني: أن قياسكم الكفر على الحدث من المسلم قياس
فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه:
أن المعنى في الحدث لا ينافي فعل الصلاة، ولهذا تصح صلاة
المتيمم وهو محدث، والكفر ينافي الصلاة بكل حال.(1/349)
جوابه:
يجاب عنه بأن قياسنا الكفر على الحدث قياس صحيح، وذلك
لأن الحدث ينافي فعل الصلاة مع القدرة على الماء، ولا يمنع توجه
الخطاب إلى المحدث وهو في تلك الحال، فكذلك الكفر ينافي فعل
الصلاة، ولكن لا يمنع من توجه الخطاب إليه، وهو في تلك الحال.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
وجه الدلالة: أن لفظ " الناس " اسم - جنس معرف بأل
الاستغراقية، فيشمل جميع الناس، والكفار من جملة الناس،
فيدخلون في هذا الخطاب، ولا مانع من دخولهم تحت الخطاب "
لأنه لو وجد مانع لكان إما عقلياً، وإما شرعياً.
ولا يوجد مانع عقلي من دخول الكافر؛ لأن المانع العقلي هو:
فقد التمكن من الفعل، والكافر يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإيمان،
كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدم عليها
الطهارة.
ولا يوجد مانع شرعي " لأنه لو وجد لعرفناه عند الطلب.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر عنهم أنهم إنما عاقبهم يوم
القيامة، وسئلوا عما عاقبهم لأجله، فاعترفوا بأنهم عوقبوا على
ترك إقامة الصلاة، وإطعام الطعام، فدل على أن الخطاب متوجه(1/350)
إليهم بالعبادات، وأنهم يعاقبون على تركها، فيعذبون على تركها
جميعاً، فدل ذلك على تكليفهم.
ما اعترض به على ذلك:
الاعتراض الأول قيل فيه: إن هذه حكاية قول الكفار، فلا يكون حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الأمة أجمعت على أن اللَّه تعالى ذكر ذلك في
معرض التصديق لهم، وبه يحصل التحذير للمؤمنين من مواقعة ذلك.
الجواب الثاني: أن اللَّه تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول
النار بترك الصلاة: وجب أن يكون ذلك صدقاً.
ولا يمكن أن يكون ذلك كذباً؛ لأمور:
الأمر الأول: أنه لو كان كذبا لا حصل تحذير المؤمنين من مواقعة
ذلك.
الأمر الثاني: أنه لو كان كذباً لم يكن في رواية ذلك فائدة،
وكلام اللَّه متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك.
الأمر الثالث: أنه لو كان كذباً: لما صح أن يعطف عليه قوله
تعالى: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) ، فهنا عطف عليه ما ثبت عليه
العذاب - وهو التكذيب بيوم الدين - فثبت: أن اللَّه عذَّبهم لأنهم
تركوا فرعاً من فروع الشريعة وهي الصلاة، وإطعام الطعام،
والخوض.
الاعتراض الثاني: قوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... ) إلخ،(1/351)
معناه: لم نك ممن يعتقد الصلاة، وإطعام الطعام - وهو الزكاة -
لتركهم المِلَّة والدخول في الإسلام، وعندنا يستحقون العقاب على
ترك ذلك.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الأول: هذا خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر يقتضي تعلق العقاب
بترك نفس الصلاة دون اعتقادها؛ حيث إن اللفظ حقيقة في فعل
الصلاة، فمن حمل ذلك على الاعتقاد فقد عدل باللفظ عن الحقيقة
إلى المجاز، وهذا لا يجوز إلا بقرينة.
الجواب الثاني: أن العقوبة وجبت على ترك الاعتقاد بقوله تعالى:
(وكنا نكذب بيوم الدين) ، فلهذا يجب حمل الصلاة والإطعام
على مقتضاه الحقيقي، لئلا يكون هناك تكرار وإعادة.
الاعتراض الثالث: يحتمل أن معنى قوله تعالى: (لم نك من
المصلين) أي: لم نك من المؤمنين، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهيت عن قتل المصلين " أي: المؤمنين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا محتمل، لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل،
ولا دليل على أن المراد من المصلين: هم المؤمنون.
الاعتراض الرابع: سلمنا لكم أن التعذيب على ترك الصلاة،
فيجوز أن يكون قوله تعالى: (لم نك من المصلين) إخباراً عن قوم
كانوا أسلموا وارتدوا بعد إسلامهم، ولم يصلوا حال إسلامهم،
لأن قوله: (لم نك من المصلين) لا يفيد أنهم لم يصلوا في جميع
الزمان الماضي.(1/352)
جوابه:
يجاب عنه: بأن قوله تعالى: (لم نك من المصلين) هو جواب
المجرمين المذكورين في قوله تعالى - قبل ذلك -: (يتسائلون عن
المجرمين) ، وذلك عام في كل مجرم مرتد وغير مرتد.
الدليل الرابع - من أدلتنا على أن الكافر مكلَّف مطلقاً -: قوله
تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
وجه الدلالة: أن هذا عام في حق المسلمين والكفار، فلا يخرج
الكافر إلا بدليل، ولا يوجد دليل على ذلك، والكفر ليس برخصة
مسقطة للخطاب عن الكافر.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) .
وجه الدلالة: أن هذا نص في مضاعفة عذاب من جمع بين هذه
المحظورات، وهي الكفر، والقتل، والزنا، وهذا يدل على أن
الزنا والقتل يدخلان فيه، فثبت كون ذلك محظوراً عليه، مما يقتضي
أن الكافر مخاطب ومكلَّف بفروع الشريعة.
الدليل السادس: قوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى ذم - هنا - الكفار لتركهم الصلاة،
وهي من فروع الشريعة، مما يدل على أن الكفار مكلَّفون بالفروع.
الاعتراض على ذلك:
قال المعترض: إن المراد بذلك ترك الاعتقاد، دون الفروع.(1/353)
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا يصح؛ لأنه قدم على التكذيب الصلاة،
وهي فرع من فروع الشريعة، فدل ذلك على أن المراد الفعل دون
الاعتقاد.
الدليل السابع: قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعَّد المشركين على شركهم، وعلى
ترك إيتاء الزكاة، فدل ذلك على أنهم مخاطبون بالإيمان، ومخاطبون
بإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتوعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا
يخاطب به، فدل ذلك على أن الكفار مكلَّفون بالفروع.
الدليل الثامن: إن صلاح الخطاب للكفار في اللغة كصلاحه
للمسلمين، فوجب أن يدخلوا تحته كما دخل المسلمون ولا فرق،
فإذا قال تعالى: (يا بني آدم) ، و (يا أولي الأبصار) ، و (لله
على الناس حج البيت) ، و (أقيموا الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، فإنهم
يدخلون حيث إنهم من جملة بني آدم، ومن أولي الأبصار، ومن
الناس، فينتج أنهم مكلَّفون بالفروع.
الدليل التاسع: أن الإجماع منعقد على أن الكافر معاقب على
قتل الأنبياء، وتكذيب الرسُل، كما يعاقب على الكفر بالله تعالى.
المذهب الثاني: أن الكفار غير مكلَّفين بفروع الشريعة مطلقا،
أي: ليسوا بمخاطبين في الأوامر والنواهي.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وهو قول للإمام
الشافعي، وهو مذهب ابن خويز منداد من المالكية، وهو اختيار أبي
حامد الإسفراييني من الشافعية، وهو مذهب كثير من الحنفية.(1/354)
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يستحيل من الكافر فعل الشرعيات عبادة وقربة
في حال كفره، فإذا كلف - مع ذلك - بالشرعيات، فإن هذا
تكليف بما لا يطاق، قياساً على المريض العاجز عن القيام لا يكلف
أن يصلي قائماً، وقياساً على الحائض لا تكلف أن تصلي مع حيضها.
جوابه:
يجاب عنه بأن المستحيل هو: تكليف الكافر بفعل الشرعيات
عبادة وقربة مع عدم استطاعته على فعلها، وهذا لم يكلف به.
ولكن لا يستحيل تكليفه بفعل الفروع ما دام أنه باستطاعته فعلها،
وذلك بأن يقدم الإيمان، ثم يفعل ما أمر به، قياسا على المحدث فقد
كلف بالصلاة لا مع حدثه، ولكن بأن يقدم عليها الطهارة ثم يفعل
الصلاة.
أما قياسكم الكافر على العاجز عن القيام، وعلى الحائض فإنه
قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الحائض والعاجز لا
يمكنهما إزالة الحيض والعجز بخلاف الكافر، فإنه يمكنه إزالة كفره
بأن يشهد الشهادتين ثم يفعل الفروع.
الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -:
"أدعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه.، فإن هم
أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات كل يوم
وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة
في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ".
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً أن يدعوهم أولاً إلى(1/355)
الإيمان، فلو كان الخطاب يتوجه إليهم بغير ذلك الأمر لأمره أن
يدعوهم إليه.
ويفهم من هذا: أنهم إن لم يمتثلوا لا يدعوهم إلى الصلاة ولا
إلى الزكاة، وهذا يؤدي إلى أنهم غير مكلفين بها عند كفرهم؛ إذ
لو كانوا مكلَّفين بها حال كفرهم كما هم مكلَّفون بها حال إسلامهم
لأمرهم بها، وإن لم يجيبوه إلى الإيمان؛ لأنهم مكلَّفون بكل من
الإيمان والفروع استقلالا.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث لو دلَّ على ما تقولون للزم منه أن
يكون الحديث دالاً على أنه لا يؤمر الشخص بالزكاة إلا إذا أجابه إلى
الصلاة، ويكون هناك ترتيب في الدعوة بين الصلاة والزكاة ولم يقل
به أحد.
وإنما الغرض من الحديث هو التسهيل في الدعوة، ومراعاة أحسن
الطرق فيها، ومعروف أن من شأن من لم يجب الداعي إلى الإيمان
أنه لا يجيبه إلى غيره من الفروع، فتكون دعوته إلى الفروع عبثا.
الجواب الثاني: أن الحديث دلَّ على أن الكافر غير مكلَّف مطلقا
بطريق المفهوم المخالف، والآيات السابقة التي استدللنا بها على أن
الكافر مكلَّف مطلقا دلَّت على ذلك بالمنطوق، والمفهوم لا يقوى
على معارضة المنطوق.
الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قيصر وكسرى وكتب إليهما في ذلك لم يدعهما إلا إلى التوحيد، ولم يدعهما إلى غيره؛ إذ(1/356)
لم يذكر في ذلك الكتاب الفروع الفقهية، فدلَّ ذلك على أنهم غير
مكلَّفين بالفروع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في كتابه شيئاً من التكاليف الفرعية؛ لأنه لا يصح فعل أيِّ عبادةٍ وهما في حالة الكفر،
فدعاهما إلى ما يصح فعله وهو التوحيد.
الدليل الرابع: لو صح تكليفهم بالفروع لصحت منهم إذا أدوها،
لموافقة الأمر، ولكنها لا تصح منهم وهم على حالة الكفر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المحدث مأمور بالصلاة لكن بشرط الطهارة.
فكذلك الكافر مأمور بالفروع لكن بشرط الإيمان، بيانه:
أن المحدث مأمور بالشرط - وهو الطهارة - ومأمور بفعل الصلاة
بعد حصول الشرط، فهو مأمور بهما في الحال، كذلك في مسألتنا
إذا كان مأموراً بالشرط ومأموراً بالفعل بعد حصول الشرط: وجب
أن يكون مأموراً بهما، لأنه لا مانع من الأمر بهما في هذه الحال.
الدليل الخامس: ْ أن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضائها في
الثاني، فصار كالجنون.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسكم الكفر على الجنون قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ حيث إن الكافر عاقل يفهم الخطاب، أما المجنون
فلا يدرك شيئاً من ذلك.(1/357)
الدليل السادس: أن الصلاة لو وجبت على الكافر لوجبت عليه
إما حال الكفر، أو بعده.
والأول - وهو وجوبها حال الكفر - باطل؛ لأن الإتيان بالصلاة
في حال الكفر ممتنع، حيث يستحيل الجمع بين فعله للصلاة وبين
كفره، فكيف يجب على الكافر ما يستحيل أن يمتثله؛ هذا ممتنع،
والممتنع لا يؤمر به.
وأما الثاني - وهو: وجوب قضاء الصلاة بعد الكفر، أي: بعد
إسلامه - فهذا باطل - أيضا -، لإجماع العلماء على عدم أمر
الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلاة في زمن كفره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المستحيل والممتنع هو تكليف الكافر بفعل الصلاة
وغيرها من العبادات مع عدم قدرته على - فعلها، ولكن لا يمتنع
تكليفه بفعل الصلاة بشرط تقديم الإيمان؛ لاستطاعته فعل ذلك.
وأما عدم أمر الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلوات في
زمن كفره، فقد أجمع العلماء عليه، لأمرين:
أولهما: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام:
" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ".
فهنا جعل الإسلام مسقطا لما قد سلف، أي: يقطع ما قبله من
أحكام الكفر حتى كأن الكافر بعد إسلامه لم يصدر منه معصية لله
تعالى أصلاً، وفي هذا ملحظ للشارع قد اهتم به، وهو تيسير(1/358)
الدخول في الإسلام عليهم، وتحبيبه عندهم وتحسينه في أنظار
الكفار، إذ أن الكافر لو أراد الإسلام - وهو شيخ كبير أو هو في
منتصف العمر - وهو يعلم بأنه سيقضي ما فاته من العبادات من
صلاة وصيام وزكاة لنفر عن الدخول في الإسلام، ولكن إذا علم أنه
إذا أسلم فإنه لا يطالب بشيء من ذلك سهل عليه الدخول فيه.
أما حقوق الآدميين فلا يسقطها الإسلام؛ تحقيقا للعدل العام.
ثانيهما: أنه كان يسلم عند - صلى الله عليه وسلم - الجم الغفير من الكفار، ولم ينقل إلينا أنه أمر أحداً بأن يقضي ما فاته من صلاة ونحوها من
العبادات.
المذهب الثالث: أن الكفار مكلَّفون ومخاطبون بالنواهي، دون
الأوامر، أي: أنهم مكلَّفون بأن ينتهوا عن المنهي عنه مثل: الزنا،
والقتل، والسرقة، ونحوها، فإن فعل أحد الكفار واحداً من تلك
الأمور فإنه يعاقب كالمسلم، أما الأمور بها كالصلاة والصوم والزكاة
والحج ونحوها، فلا يكلفون بها فلا يعاقبون على تركها.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لا يمكن الجمع بين الإتيان بالمأمور به كالصلاة،
وبين كفره، وقد سبق بيانه والجواب عنه.
أما الانتهاء عن الشيء فإنه يمكن وهو في حالة كفره؛ حيث لا
يشترط في الانتهاء عن المنهيات التقرب، بل يكتفى بالكف عنه،
فجاز التكليف بالمنهيات، بخلاف المأمور بها فإنه يشترط فيها التقرب
فلا تصح من الكافر.(1/359)
جوابه:
يجاب: بأن الفرق الذي ذكرتموه بين المأمور به، والمنهي عنه
باطل.
بيانه: أنه يقال لهم: إن عنيتم بقولكم: " إنه يمكنه الانتهاء عن
المنهيات، ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات ": أنه يتمكن من تركها من
غير اعتبار النية، فهو أيضاً متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار
النية.
وإن عنيتم به: أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال
قول الشارع، فهذا متعذر حال عدم الإيمان.
فعلمنا من ذلك استواء المأمور والمنهي، من حيث إن الإتيان بهما
من جهة الصورة لا يتوقف على الإيمان، وأن الإتيان بهما لغرض
امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإيمان.
الدليل الثاني: أن العقوبات تقع عليهم في فعل المنهيات، دون
ترك المأمورات، دلَّ على ذلك: أنهم يعاقبون على ترك الإيمان
بالقتل، والسبي، وأخذ الجزية، ويحد في الزنا والقذف والسرقة،
ولا يؤمر بقضاء شيء من العبادات إذا أسلم، وإن فعلها في كفره لم
تصح منه.
جوابه:
يجاب عنه بأن يقال.
أولاً: أما وقوع العقوبات عليهم وتمثيلكم على ذلك بأنه إذا ترك
الإيمان يعاقب بالسبي، والقتل، وأخذ الجزية، وأنه يحد في الزنا،
والقذف، والسرقة، فإن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث إننا بيَّنا(1/360)
- فيما سبق - أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات
باتفاق العلماء.
ثانياً: أما عدم وجوب قضاء شيء من العبادات إذا أسلم فقد بيَّنا
- فيما سبق - أن سقوط القضاء عنهم كان لسببين:
الأول: أن - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من أسلم من الكفار بقضاء ما فاتهم مع كثرتهم.
الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله ".
ثالثاً: أما عدم صحتها إذا فعلها في حال كفر: فلأن المانع من
الصحة موجود، وهو الكفر، لكن يستطيع أن يزيل هذا المانع
وذلك بالإيمان، فإذا فعلها بعد تقديم الإيمان تكون تلك الأفعال
صحيحة، وسبق بيان ذلك.
المذهب الرابع: أنهم مكلَّفون بالأوامر فقط، دون النواهي،
حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر المحيط "، ولم ينسبه إلى
قائل، ولم أجد دليللً عليه.
جوابه:
هذا ضعيف؛ لأمرين:
الأول: أنه لا دليل على هذا التفريق، وما لا دليل عليه فلا
يلتفت إليه.
الثاني: أن هذا المذهب يرده ما حكيناه من الإجماع على أن
خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكافر والمسلم معاً.
وترده - أيضاً - النصوص التي سقناها - في المذهب الأول -
على أن الكافر مكلَّف مطلقا.(1/361)
المذهب الخامس: أنهم مكلَّفون بالفروع جميعاً إلا الجهاد في سبيل
الله، ذكر هذا المذهب إمام الحرمين في " النهاية "، والقرافي في
"تنقيح الفصول "، والإسنوي في " التمهيد "، ولم ينسبوه إلى أحد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بما استدل به أصحاب المذهب الأول
عى أن الكافر مخاطب بجميع الفروع، ولكنهم استثنوا الجهاد؟
لأنه يمتنع أن يقاتل الكفار أنفسهم.
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا فائدة من هذا الاستثناء؛ لأنه لا يتصور الجهاد
منه، ولو حصل بعد الإيمان لخرج عن محل النزاع.
المذهب السادس: الفرق بين الكافر المرتد فيكلف بالفروع، وبين
الكافر الأصلي فلا يكلف.
حكى هذا المذهب عبد الوهاب المالكي في " الملخص "،
والقرافي في " شرح تنقيح الفصول "، وابن السبكي في " جمع الجوامع ".
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن الكافر المرتد ملتزم بأحكام الإسلام، ومنها قضاء ما فاته في
الردة من العبادات، بخلاف الكافر الأصلي فإنه غير ملتزم.
جوابه:
يجاب عنه بأن العبادات وترك المحظورات لازمة للكافر مطلقا:
"المرتد "، و " الأصلي " ولا فرق بينهما؛ لأن كلًّا منهما يطلق عليه
اسم " كافر " لغة.
وكذا الآيات السابقة التي ذكرناها في المذهب الأول لم تفرق
بينهما، فهذا التفريق زيادة لا دليل عليها.(1/362)
المذهب السابع: التفريق بين الكافر الحربي فلا يكلف، والكافر
غير الحربي فيكلف.
حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر الحيط ".
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن غير الحربي ملتزم بأحكام الإسلام بعقد الذمة فله ما للمسلمين،
وعليه ما عليهم.
أما الكافر الحربي فنظراً لكونه غير ملتزم، ولم يعقد معه عقد فإنه
لم يلتزم بشيء فلا يكلف بالفروع.
جوابه:
يجاب عنه بأن الأدلة النقلية التي ذكرناها في المذهب الأول قد
صرحت بأن الكافر مكلَّف مطلقاً، ولم تفرق بين الكافر الحربي،
وغير الحربي، وهذا التفريق بينهما زيادة بدون دليل.
المذهب الثامن: التوقف في المسألة.
حكى هذا المذهب أبو حامد الإسفراييني عن أبي الحسن الأشعري،
وحكاه سليم الرازي في " التقريب "، ولم ينسبه إلى أحد.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أنه لم يصح دليل على تكليفهم، ولم يصح دليل على عدم
تكليفهم فتوقفوا.
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا داعي لهذا التوقف مع ما أثبتناه من الأدلة القوية
على أن الكفار مكلَّفون بالفروع مطلقاً، وضعف أدلة المذاهب الأخرى.
ثم إن التوقف لا يعتبر مذهبا يعمل به لذلك يسقط.(1/363)
بيان نوع الخلاف:
اختلف العلماء في هذا الخلاف في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة، وافترق أصحاب هذا
القول إلى فريقين:
الفريق الأول قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الآخرة فقط، دون الدنيا.
ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين.
دليل هذا الفريق:
أن الكافر في حال كفره لا يمكنه فعل المأمورات، ولا يطالب
بفعلها، ولا يقضي ما فاته منها، إذن لا خلاف في العمل، وإنما
فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة.
الفريق الثاني قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الدنيا والآخرة،
وإليك بيان ذلك:
أما أثر الخلاف في الآخرة فهو كثرة عقابهم في الآخرة، أي: أن
الكفار يعذبون على ترك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج،
وعلى شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وغيرها من الفروع الفقهية
زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا
على الكفر وحده.
أما أثر الخلاف في الدنيا، فقد. وردت بعض المسائل الفقهية قد
اختلف العلماء فيها، وكان سبب هذا الخلاف: هو الخلاف في
تكليف الكفار بالفروع، ومنها:(1/364)
1 - أن الكافر إذا زنى فهل يجب عليه الحد؟
اختلف فيه على رأيين
الرأي الأول: وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار مكلَّفون
بالفروع.
الرأي الثاني: عدم وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار غير
مكلَّفين بالفروع.
2 - إذا نذر الكافر عبادة فهو صحيح، وهل يلزمه الوفاء به إذا أسلم؟
اختلف فيه على رأيين:
الرأي الأول: أنه يلزمه الوفاء به؛ لأنه مكلَّف بالفروع.
الرأي الثاني: أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنه غير مكلَّف بالفروع.
3 - هل يجوز للكافر لبس الحرير؟
اختلف على رأيين:
الرأي الأول: لا يجوز له ذلك؛ لأن الكافر مكلَّف بالفروع.
الرأي الثاني: يجوز له ذلك؛ لأن الكافر غير مكلَّف بالفروع.
القول الثاني: إن الخلاف لفظي.
وهو الصواب، لأنه لا خلاف في مخاطبة الكفار بخطاب الوضع
أي: لا خلاف في مخاطبتهم بخطاب المعاملات، والعقوبات.
ولا خلاف في أنه لا يطلب منهم إيقاع العبادات كالصلاة،
والصيام وهم في حال الكفر، وأنه لا يصح منها شيء.
ولا خلاف في أنهم لا يؤمرون بقضائها بعد الإسلام.
ولا خلاف في أنه يجب عليهم اعتقاد وجوبها، وأنهم معاقبون
على ذلك.(1/365)
وإنما الخلاف في مقدار العقاب في الآخرة هل يعاقبون على الكفر
فقط، أو يعاقبون عليه وعلى ترك أداء الفروع.
فظهر بهذا أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في حق
التكليف في الدنيا؛ حيث إن الخلاف فيها لا يتعلق بالحكم الناجز في
الدنيا الذي هو محل بحث الأصولي والفقيه، فحال الكافر في
الدنيا لا تتغير سواء قلنا بالتكليف أو لم نقل.
الجواب عما ذكره أصحاب القول الأول:
أما ما ذكره أصحاب القول الأول من زيادة العقاب على القول
بتكليفهم، فهذا أمره إلى اللَّه تعالى فهو أعلم به.
أما ما ذكروه من الآثار المترتبة على الخلاف في تكليف الكفار في
الدنيا فلا نسلمها، وذلك لأنه ظهر - بعد تدبرها - أنها ليست في
محل النزاع؛ فأكثرها يدور حول الحكم الوضعي، ولا خلاف في
أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع، وبعضها ثبتت عليهم بسب
أدلة أخرى.
وقد أفردت لهذا المسألة مصنَّفا خاصاً بها وسمَّيته: " الإلمام في
مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام "، وقد فصَّلت في بيان نوع
الخلاف في كتابي الآخر: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت فهما مطبوعان.(1/366)
القسم الثاني شروط الفعل المكلف به
معروف أنه لا تكليف إلا بفعل، والمقصود بالفعل المكلَّف فيه:
هو الفعل الذي تعلَّق خطاب الشارع به اقتضاء أو تخييراً.
والفعل يطلق على الفعل الذي أمر به الشارع وطلب أداءه كالصلاة
والصيام، ويطلق على الفعل المنهي عنه، وهو الذي طلب الشارع
الكف عنه.
وهناك يفروط لا بدَّ منها في الفعل المكلَّف فيه هي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الفعل المطلوب معلوما للمكلَّف.
أي: أن يعلم المكلَّف حقيقة الفعل الذي كلَّفه الشارع بأن يعمله
ويؤديه، وذلك من أجل أن يتصور هذا الفعل الأمور به؛ إذ لا يعقل
التكليف بشيء مجهول الذات، فالصلاة - مثلاً - يجب أن يعلم
حقيقتها وطريقتها وشروطها، وأركانها وواجباتها، ونحو ذلك مما
يتعلق بها، كذلك الزكاة يجب أن يعلم حقيقتها وطريقتها، وعلى
من تجب، ولمن تجب، وهكذا، فإن المكلَّف لو لم يعلم حقيقة
الفعل المكلَّف به من الأفعال لم يصح منه الفعل؛ لعدم وقوعه على
ما يريده اللَّه تعالى.
الشرط الثاني: أن يعلم المكلَّف أن هذا الفعل مأمور به من قبل الله
- تعالى -؛ لأنه إذا علم ذلك تصور منه قصد الطاعة والامتثال(1/367)
بفعله، لأن الطاعة: موافقة الأمر، والامتثال: جعل الأمر مثالاَ
يتبع مقتضاه.
لكن إذا لم يتصور من المكلَّف قصد الطاعة لله تعالى بهذا الفعل،
فلا يكفي مجرد حصول الفعل منه من غير قصد ولا نية لامتثال أمر
الله تعالى بفعله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالى بالنيات "، فالعمل الخالي عن النية قد يوجد، ولكن لا يصح إلا بالنية وقصد التقرب
إلى اللَّه به.
وهذا الشرط يخص الفعل الذي يجب قصد الطاعة والتقرب فيه
إلى اللَّه تعالى مثل الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وغير
ذلك.
أما ما لا يجب قصد الطاعة فيه مثل: رد المغصوب، وتأدية
الديون، فإنه يكفي فيه مجرد حصول الفعل منه، وهو نفس الرد،
ونفس التأدية.
الشرط الثالث: أن يكون حاصلاً بكسب المكلََّف.
فلا يصح تكليف المسلم بما لا يحصل بكسبه، فلا يصح تكليفه
بكسب غيره؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ،
وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) .
هذا هو المذهب الأولى في المسألة.
المذهب الثاني: أنه يجوز تكليف المسلم بكسب غيره،
ومن ذلك: التزام العاقلة خطأ غيرها.
جوابه:
يجاب عنه بأن التزام العاقلة ليس من باب التكليف بفعل الغير،(1/368)
وإنما هو من باب خطاب الوضع، أي هو: من باب ربط الحكم
بسببه، فجناية الشخص سبب في دية العاقلة؛ لأن المصلحة اقتضت "
ذلك..
الشرط الرابع: أن يكون الفعل معدوماً.
أي: أن يكون الفعل الذي طلب من المكلََّف فعله معدوماً، أي:
لم يوجد، فمثلاً: يؤمر المسلم بصلاة الظهر قبل الزوال، فصلاة
الظهر فعل أمر الشارع بفعلها قبل وجودها، وكذا يؤمر الإنسان
بخياطة ثوب معدوم، فإن هذا الأمر صحيح؛ لأن كلًّا من صلاة
الظهر والثوب لم يوجد قبل الأمر.
أما ما هو موجود فيستحيل وقوعه من المكلَّف، فلا يحسن عقلاً
الأمر بفعل شيء موجود، وهذا عند جمهور العلماء وهو الصحيح،
لوجهين:
الوجه الأول: أن يجاد الشيء الموجود تحصيل حاصل، لا يرد به
الشرع، فهو مستحيل كاستحالة الجمع بين الضدين، وجعل الجسم
في مكانين في وقت واحد.
الوجه الثاني: أنه لا يحسن أن يؤمر من هو قائم بالقيام، ومن
هو يكتب بالكتابة؛ لوجود القيام، والكتابة قبل الأمر، فكذلك هنا.
هذا هو المذهب الأول في المسألة.
المذهب الثاني: أنه يجوز الأمر بفعل شيء موجود.
ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
أنه لو لم يصح الأمر بفعل الموجود للزم من ذلك أمران:(1/369)
أولهما: أنه لا يصح ذم الكافر على كفره - الذي هو فيه في
الحال -، لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجوداً.
ثانيهما: يوجب أن لا يكون المؤمن مأموراً بالإيمان؛ لأن ما وجد
منه لا يصح الأمر به وهو على هذه الصفة.
جوابه:
يجاب عنه ت بأن الكافر إنما يستحق الذم على فعله من اعتقاد
الكفر والبقاء عليه، فهذا ليس فيه دلالة على كونه مأموراً بما قد وجد
منه.
وأما أمر المؤمن بالإيمان فليس المقصود منه الأمر الحقيقي، وإنما
المراد بالأمر هنا هو: طلب الاستمرار على الإيمان، والله أعلم.
الشرط الخامس: أن يكون الفعل مقدوراً للمكلَّف.
فلا يجوز تكليف ما لا يطاق، بل لا بد أن يكون الفعل يستطيع
المكلَّف فعله والقدرة عليه، فإن كان محالاً كالجمع بين الضدين،
وقلب الأجناس، وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، ونحو ذلك،
فلا يجوز التكليف به.
ذهب إلى ذلك الغزالي، وأبو حامد الإسفراييني، وإمام الحرمين
وأبو بكر الصيرفي، وابن قدامة، وكثير من العلماء، وهو الصحيح
عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ،
وقوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه صرح في هاتين الآيتين على اشتراط
القدرة من المكلَّف فيما يكلف به من الأفعال، وهذا يدل دلالة(1/370)
واضحة على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فلا يكلف اللَّه العباد
عملاً من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلََّف، وفي
مقتضى إدراكه.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
وجه الدلالة: أن التكليف بما لا يطاق فيه حرج واضح للمكلَّفين،
والله عَزَّ وجَلَّ - هنا - نفى أن يكلف أي إنسان بشيء فيه حرج عليه،
قال بعض العلماء: " وأي حرج فوق التكليف بما لا يطاق "،
وقال الآمدي في " الإحكام ": " ولا حرج أشد من التكليف بما لا
يطاق ".
الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
وجه الاستدلال: أن الناس إنما كلَّفوا فيما يستطيعون من الفعل،
فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
الدليل الرابع: أن المحال - وهو: ما لا يطيقه المكلَّف لا تتصور
فيه الطاعة فلا يتصور استدعاء وطلب المحال من المكلَّف؛ قياساً على
أنه يستحيل من العاقل أن يطلب من الشجرة أن تخيط له ثوباً.
أي: كما أنه يستحيل أن يطلب العاقل من الشجرة الخياطة؟
لعدم تصور الطاعة منها، فكذلك يستحيل طلب المحال من المكلف
- وهو الذي لا يستطيع أن يفعله -؛ لعدم تصور الطاعة في ذلك:
الدليل الخامس: أن اشتراط كون الفعل ممكنا ومستطاعا أوْلى من(1/371)
اشتراط كون المكلَّف عاقلاً فاهما للخطاب، ومن اشتراط كون الفعل
معدوماً؛ وذلك لأن الفعل المكلََّف به ممكن إيقاعه من غير العاقل،
وممكن إيقاعه من غير الفاهم، وممكن إيجاده مرة أخرى، أو يوقع
ما يماثله، ولكن يستحيل أن يوقع المكلََّف المحال، فكيف يطلب - من
المكلَّف إيقاعه، فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
تنبيه: المعتزلة يوافقوننا على أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
وقد استدلوا ببعض الأدلة السابقة، وأضافوا إليها دليلاً قويا
عندهم وهو قولهم: إن تكليف ما لا يطاق قبيح عقلاً، والله
سبحانه لا يكلف بالقبيح استناداً إلى قاعدتهم وهي: " التحسين
والتقبيح العقليين ".
هذا هو المذهب الأول في المسألة.
المذهب الثاني - في المسألة -: أنه يجوز تكليف ما لا يطاق.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، ونسب إلى أبي الحسن
الأشعري، واختاره فخر الدين الرازي، وذهب إليه كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) .
وجه الاستدلال: أن هذا تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة،
وهو يدل على جواز تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا يصح أن يحتج به على ما نحن فيه، وإنما
يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى(1/372)
التكليف، وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار
مجازاة، لا دار تكليف.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) .
وجه الاستدلال: أن هؤلاء سألوا اللَّه دفع ما لا يطيقون، ولو لم
يَكن تكليف ما لا يطاق جائزاً لما سألوا دفعه، ولا أقرهم عليه،
فلما سألوا دفعه، وحصل الإقرار على ذلك: دلَّ على جوازه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
أولهما: أن المراد بما لا يطاق في الآية هو: الشاق الذي يثقل
على الإنسان، وعلى هذا فهم سألوا اللَّه دفع ما فيه مشقة على
النفس بحيث يؤدي إلى هلاكها، وهذا متعارف عليه في اللغة،
فيقول الشخص لما يشق عليه: " لا أطيقه ".
ثانيهما: سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق، لكن هذه الآية معارضة بما
استدللنا به على عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وهو قوله تعالى:
(لا يكلف اللَّه نفساً إلا وسعها) ، وقوله: (وما جعل عليكم في
الدين من حرج) ، وقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) ، فإن
هذه الآيات قد صرحت في عدم جواز تكليف ما لا يطاق،
أما ما ذكرتموه من قوله تعالى: (ولا تحملنا ما لاطاقة لنا به) ، فهي
ليست صريحة في جواز تكليف ما لا يطاق، لأنه يتطرق إليها عدة
احتمالات:
ومنها: ما قلناه في الجواب الأول.
ومنها: أن سؤال دفع ما لا يطاق حكاية حال الداعين، ولا حُجَّة(1/373)
ومعلوم أن الصريح مقدم على غير الصريح.
الدليل الثالث: أن اللَّه عَزَّ وجَلَّ كلَّف أبا جهل بالإيمان، وأمره
به، ومن الإيمان تصديق اللَّه تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر
الله عن أبي جهل أنه لا يؤمن، فقد صار مكلَّفا بأنه لا يؤمن،
ومكلَّفا بأنه يؤمن، وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين وهو
محال، فجاز تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن تكليف أبي جهل غير مستحيل؛ لأمور ثلاثة:
الأول: أن الأدلة النقلية والعقلية على صدق ما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوبة، وموجودة وظاهرة لا لبس فيها.
الثاني أن أبا جهل له عقل حاضر، وفهم للخطاب.
الثالث: أن أبا جهل يستطيع أن يفعل ما كلف به من غير أن يمنعه
أحد فهو من - رؤساء الكفار.
وهذه الأمور جعلت تكليف أبي جهل غير مستحيل، وممكن أن
يؤمن، لكن علم اللَّه تعالى في علمه الأزلي أن يترك أبو جهل ما
يقدر عليه، وهو: " ما كلف به من الإيمان "، وذلك حسداً
للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعناداً، وإذا علم اللَّه سبحانه أنه لا يؤمن صار عدم إيمانه معلوما، فلن يؤمن أبداً؛ لأن العلم يتبع المعلوم المقرر، ولا يمكن أن يغيره بأي حال.
مما يؤيد ذلك: أن اللَّه تعالى قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا
هذا، وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن - حيث جعل لها علامات -
ويترك إقامتها مع القدرة على ذلك، وخلاف خبره سبحانه مستحيل.(1/374)
ولكن هذه الاستحالة لا ترجع إلى نفس الشيء، بل مستحيل
لغيره، فلا يؤثر فيه.
الدليل الرابع: إن تكليف ما لا يطاق لا يستحيل من حيث صيغته،
حيث وردت صيغته في قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) ،
وقوله: (قل كونوا حجارة أو حديداً) ، وقوله: (كن فيكون) ،
فإن هذه أوامر ظاهرها أنها مخاطبة للمكلَّفين بأن يكونوا قردة، أو
حجارة، أو أى شيء آخر، وهذا لا يستطيع المكلَّف فعله، فهذا
تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه بأنه ليس في تلك النصوص أوامر؛ حيث إن تلك
الأوامر ليست حقيقية، إذ ليس فيها مطالب.
فالمراد من قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) : التكوين من
أجل إظهار القدرة لله تعالى، وقيل: إن هذا للسخرية منهم.
والمراد من قوله تعالى: (قل كونوا حجارة أو حديداً) التعجيز؟
حيث أراد اللَّه تعالى أن يظهر قدرته عليهم وأن يعجزهم.
والمراد من قوله تعالى: (كن فيكون) ، إظهار القدرة عليهم،
لا بمعنى أنه طلب من المعدوم بأن يكون نفسه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في الفروع، حيث لا
وقوع لها في الفروع، وإن كان لها أثر في أصول الدين في مسألة
"الاستطاعة "، وفي مسألة " القدر "، فإن شئت فارجع إلى ذلك
في كتب العقيدة فهو مبسوط هناك.(1/375)
الشرط السادس: أن يكون - التكليف بفعل.
اعلم أن متعلق التكليف هو الأمر والنهي، وكلاهما لا يكون إلا
فعلاً، فلا يكلف إلا بفعل، ولا يطلب من المكلف إلا فعل.
والتكليف في الأمر تكليف بفعل بالاتفاق؛ لأن مقتضاه: إيجاد
الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والحج.
أما التكليف في النهي فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أن التكليف في النهي تكليف بفعل.
هذا مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن المكلف به في النهي هو كف النفس عن
الفعل، لا نفي الفعل؛ حيث إن كف النفس عن المنهي عنه فعل،
فمثلاً: الأمر بالصوم أمر بكف النفمس عن الفطر، والكف فعل
الإنسان وهو داخل تحت كسبه يؤجر عليه، وكذلك لما نهى عن
شرب الخمر، والسرقة، والزنا، فإنه اقتضى التلبس بضد من
أضداده، وهو: الترك، فيكون الترك داخلاً تحت كسب المكلف
فيثاب عليه، فالترك. - في الحقيقة - فعل، لكونه ضد الحال التي
هو عليها.
المذهب الثاني: أن التكليف في النهي ليس تكليفا بفعل.
ذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة، وعلى رأسهم أبو هاشم.
دليل هذا المذهب:
احتجوا - على ذلك بقولهم -: إن النهي عن الشيء معناه:
طلب تركه.
والترك نفي محض لا يدخل تحت التكليف، ولا يدخل تحت(1/376)
كسب العبد، فلا يثاب عليه، فلا يسمى الكف عن الفعل فعلاً إلا
أن يتناول التلبس بضد من أضداده، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه
يثاب على ذلك الضد المتلبِّس به، لا على مجرد الترك والكفِّ فقط.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الترك ليس نفيا للفعل، وإنما هو فعل، فترك
الشيء هو: الأعراض البدني أو القلبي عنه، والأعراض فعل،
فمن ترك الزنا فقد أعرض عنه، وذلك الأعراض فعل، وهو من
كسب العبد، ويثاب عليه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لاتفاق أصحاب
المذهبين على المعنى والحكم وهو: وجوب الانتهاء عما نهى اللَّه عنه
سواء كان ذلك الانتهاء عن طريق فعل الضد وكف النفس، أو عن
طريق الإبقاء على العدم الأصلي من غير تغيير، فالخلاف كان في
العبارة والاصطلاح.(1/377)
الفصل الرابع في الحكم الوضعي وأنواعه
لقد سبق بيان أن الحكم الشرعي يتنوع إلى نوعين:
الأول: الحكم التكليفي.
الثاني: الحكم الوضعي.
أما الحكم التكليفي فقد سبق الكلام عنه بالتفصيل.
أما الحكم الوضعي فهو موضوع هذا الفصل، ويشتمل الكلام
عنه على أربعة مباثحط:
المبحث الأول: تعريف الحكم الوضعي.
المبحث الثاني: الفرق بين الحكم الوضعي، والحكم التكليفي.
المبحث الثالث: بيان أنه قد يجتمع خطاب التكليف مع خطاب
الوضع، وقد ينفرد خطاب الوضع.
المبحث الرابع: أنواع الحكم الوضعي.(1/379)
المبحث الأول في تعريف الحكم الوضعي
الحكم قد سبق بيانه.
والوضع لغة يطلق على الولادة يقال: " وضعت المرأة حملها " إذا
ولدته، ويطلق على الإسقاط يقال: " وضعت عنك الدين " إذا
أسقطته، ويطلق على الترك يقال: " وضعت الشيء بين يديه " إذا
تركته.
أما الحكم الوضعي في الاصطلاح فهو: خطاب اللَّه - تعالى -
المتعلِّق بجعل الشيء سبباً لشيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه،
أو كون الفعل رخصة، أو عزيمة.
ومعناه:
أن الشارع وضع وشرع أموراً سميت أسباباً وشروطاً وموانع،
ونحو ذلك تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي،
وذلك لأن الأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي بوجود
الموانع، أو انتفاء الأسباب والشروط.
فالحكم الوضعي هو الوصف المتعلِّق بالحكم التكليفي، وهذا
الوصف إما أن يكون سببا كأوقات الصلاة؛ حيث إنها سبب
لوجوبها على المكلف، وبلوغ النصاب للمال، حيث إنه سبب في(1/381)
وجوب الزكاة، أو يكون شرطا كالطهارة في الصلاة، أو يكون
مانعاً كالنجاسة تمنع من صحتها، أو يكون الفعل الواقع من المكلف
صحيحاً يترتب عليه حكمه، أو ذلك الفعل فاسداً لا يترتب عليه
شيء، أو يكون ذلك الفعل رخصة كأكل الميتة عند الاضطرار، أو
يكون الفعل عزيمة كالعبادات الخمس.(1/382)
المبحث الثاني في الفروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
قد يلتبس على بعض الناس الحكم التكليفي مع الحكم الوضعي
لذلك سأبين الفروق المهمة بينهما فأقول:
الفرق الأول: من حيث الحد والحقيقة، فحقيقة الحكم الوضعي
تختلف عن حقيقة الحكم التكليفي، فالخطاب في الحكم الوضعي:
خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه، وربط فيه بين
أمرين، بحيث يكون أحدهما سبباً للآخر، أو شرطا له.
بخلاف الخطاب في الحكم التكليفي، فإنه خطاب طلب الفعل،
أو طلب الترك، أو التخيير بينهما، فخطاب التكليف هو: طلب
أداء ما تقرر بالأسباب والشروط.
الفرق الثاني: يختلفان من حيث اشتراط قدرة المكلف وعدمها،
فالحكم التكليفي يشترط فيه أن يستطيع المكلف فعله، فلا يجوز
التكليف بما لا يطاق مطلقا.
بخلاف الحكم الوضعي فلا يشترط فيه ذلك: فقد يكون مقدوراً
للمكلف، وقد يكون غير مقدور للمكلف.
فمن أمثلة ما يقدر المكلف على فعله وتركه: السرقة التي هي
سبب في قطع اليد، كذلك صيغ العقود والتصرفات الشرعية، فإنها
أسباب داخلة تحت تصرف المكلَّف وقدرته، فهو يستطيع أن يسرق(1/383)
فيكون سببا في قطع يده، ويستطيع ترك السرقة، ويستطيع أن يعقد
العقد فيكون سببا في الملك، ويستطيع ترك ذلك العقد.
ومن أمثلة ما لا يقدر المكلف عليه: دلوك الشمس الذي هو سبب
لوجوب الصلاة، وحولان الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة،
والأبوة التي هي مانعة من وجوب القصاص من الوالد لولده.
فهذه أسباب وشروط وموانع ليست في مقدور المكلف، بل هي
خارجة عن قدرته.
الفرق الثالث: أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف الذي
توفرت فيه شروط التكليف وهي: البلوغ، والعقل، والفهم،
بخلاف الحكم الوضعي، فإنه يتعلق بفعل المكلف وغير المكلف
كالصبي والمجنون والنائم والناسي والساهي والغافل والسكران والمعتوه
ونحوهم، فإن هؤلاء يضمنون - مثلاً - ما يتلفونه؛ لكون الحكم
الوضعي قد وجد وهو: السبب، وهو الإتلاف.
الفرق الرابع: أن الحكم التكليفي يتعلق بالكسب والمباشرة للفعل
من الشخص نفسه، فالمكلف إذا عمل عملاً موافقا لأمر الشارع فإنه
يؤجر عليه، أما إذا عمل عملاً مخالفا لذلك الأمر، فإنه يعاقب
عليه.
بخلاف الحكم الوضعي، فقد يعاقب أشخاصا بفعل غيرهم،
ولهذا وجبت الدية على العاقلة، فوجوب الدية عليهم ليس من باب
التكليف؛ لاستحالة التكليف بفعل الغير، بل إنها وجبت لأن فعل
الغير سبب لثبوت هذا الحق عليهم..
الفرق الخامس: أن الفعل في الحكم الوضعي قد يكون مقدوراَ
للمكلف، ولكنه لا يؤمر به كالنصاب للزكاة، فإنه لا يؤمر الإنسان(1/384)
بتحصيل النصاب لتجب عليه الزكاة، ولا يؤمر بالإقامة في رمضان
ليجب عليه الصوم إذا عرض له ما يقتضي السفر.
بخلاف الحكم التكليفي فلا بد من كون الفعل مقدوراً للمكلَّف
وداخلاً تحت إمكانه، وإذا أمر بحكم تكليفي فهو أمر بكل ما يجعل
فعله المأمور به صحيحا كالطهارة للصلاة، وإذا نهي عن فعل فإنه
نهي عن كل ما يؤدي إليه.
الفرق السادس: أن الحكم التكليفي يشترط فيه أن يكون معلومة
للمكلَّف وأن يعلم أن التكليف به صادر من اللَّه تعالى حتى يصح منه
القصد والنية.
بخلاف الحكم الوضعي فلا يشترط فيه علم المكلَّف، ولذلك
يرث الإنسان بدون علمه، وتحل المرأة بعقد أبيها عليها، وتحرم
بطلاق زوجها لها وإن كانت لا تعلم، كذلك لو أتلف النائم أو
الناسي، أو - الساهي، أو الغافل شيئاً، أو رمى إنسان في ملكه
فأصاب إنسانا، فإن هؤلاء يضمنون وإن كانوا لا يعلمون.
واستثنى العلماء من ذلك أمرين:
أولهما: أسباب العقوبات التي هي الجنايات كالقتل الموجب
للقصاص، فإنه يشترط فيه العلم والقصد، ولذلك لا يجب
القصاص على المخطى لعدم العلم، وكذا حد الزاني لا يجب في
الشبهة لعدم العلم.
ْئانيهما: أسباب انتقال الأملاك في المنافع والأعيان، كالبيع، والهبة،
والإجارة، ونحو ذلك من العقود، فإنه يشترط في ذلك العلم،
فلو تلفظ بلفظ ناقل للملك وهو لا يعلم مقتضاه: لم يلزمه شيء.(1/385)
المبحث الثالث في بيان أنه قد يجتمع خطاب التكليف مع خطاب
الوضع وقد ينفرد خطاب الوضع عن خطاب التكليف
فمن أمثلة اجتماعهما: الزنا، له حكمان:
حكم تكليفي باعتبار أنه حرام.
وحكم وضعي باعتبار أنه سبب للحد.
وكذا السرقة من جهة أنها محرمة هي خطاب تكليف، ومن جهة
أنها سبب للقطع هي خطاب وضع.
فكل ما وجد فيه أحد أحكام التكليف الخمسة، وكان من جهة
أخرى ناشئاً عن سبب، أو متوقفاً على شرط، أو غير ذلك من
متعلقات خطاب الوضع، فهو مما يجتمع فيه الأمران، فالإيمان
واجب وهو سبب لعصمة الدم والمال، والإحرام واجب عند بعض
العلماء وهو مانع من فعل المحظورات فيه.
ومن أمثلة انفراد خطاب الوضع: زوال الشمس، وحلول شهر
رمضان، وحولان الحول في الزكاة، فهذه الأمور هي أوقات محدَّدة
لا قدرة للمكلف على تحصيلها، فإنها من خطاب الوضع، وليست
من خطاب التكليف؛ إذ - ليس فيها أمر، ولا نهي، ولا إذن، أما
ما يترتب على هذه الأشياء من أداء الصلاة والصوم والزكاة، فإنه
شيء آخر غيرها.(1/386)
ولا يتصور انفراد الحكم التكليفي؛ لأنه لا تكليفِ إلا وله سبب أو
شرط، أو مانع.
وبذلك يكون خطاب الوضع أعم من خطاب التكليف، إذ لا
يوجد تكليف إلا ومعه وضع، دون العكس، بينما قد يوجد خطاب
الوضع حيث لا تكليف، وذلك مثل الأمثلة السابقة، ولزوم قيمة
المتلفات، وأروش الجنايات، والزكاة على الصبي والمجنون.(1/387)
المبحث الرابع في أنواع الحكم الوضعي
لقد اختلف في أنواع الحكم الوضعي، والسبب في هذا الاختلاف:
أن بعض العلماء أفرد كل وصف يصلح أن يكون حكما وضعيا
وجعله نوعا خاصا فقال: إن أنواعه هي: السبب، والشرط، -
والمانع، والعِلَّة، والصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة،
والأداء، والإعادة، والقضاء، والتقديرات الشرعية، والحجاج.
وبعضهم أدخل بعضها في بعض وهكذا.
والحق عندي: أن أنواع الحكم الوضعي خمسة فقط وهي:
" السبب "، و " الشرط "، و " المانع "، و " العزيمة "، و " الرخصة ".
أما العلَّة، والصحة، والفساد، والتقديرات الشرعية، والحجاج،
والأداء، والإعادة، والقضاء، فهي تدخل ضمن السبب، ولا
تخرج عنه، وسأبين ذلك - إن شاء اللَّه - في موضعه:
وللكلام عن هذه الأنواع لا بد من عقد المطالب التالية:
المطلب الأول: في السبب.
المطلب الثاني: في الشرط.
المطلب الثالث: في المانع.
المطلب الرابع: في العزيمة والرخصة.(1/388)
المطلب الأول في السبب
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة السبب:
أولاً: السبب لغة.
ثانيا: السبب اصطلاحا.
المسألة الثانية: في تقسيمات السبب.
المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء.
المسألة الرابعة: في العلَّة:
أولاً: العِلَّة لغة.
ثانيا: العِلَّة اصطلاحاً.
ثالثا: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟
المسألة الخامسة: الصحة والفساد:
أولاً: الصحة والفساد لغة.
ثانياً: الصحة والفساد اصطلاحاً.
ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية،
أو هما من الأحكام العقلية؟(1/389)
رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية،
أو هما من الأحكام التكليفية؛؟
خامساً: المقصود بالصحة في العبادات.
سادساً: المقصود بالصحة في المعاملات.
سابعاً: هل الفاسد والباطل مترادفان؟
المسألة السادسة: التقديرات الشرعية والحجاج.
المسألة السابعة: الأداء والإعادة والقضاء:
أولاً: تعريف الأداء.
ثانيا: تعريف الإعادة.
ثالثاً: تعريف القضاء.
رابعاً: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف، أو مرض آخر في رمضان فافطروا، فلما انقضى رمضان صاموا تلك الأيام التي
أفطروها، فهل يسمى فعلهم هذا قضاء أو أداء؟
خامسا: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟
سادساً: الدليل الموجب للقضاء.(1/390)
المسألة الأولى: حقيقة السبب:
أولاً: السبب في اللغة هو:
كل ما يتوصل به إلى مقصود " ما " لذلك تسمى الطريق،
والحبل، والباب أسبابا؛ لأن الطريق موصل إلى المكان المقصود،
والحبل موصل إلى الماء ونحوه، والباب موصل إلى داخل البيت.
ثانيا: السبب في الاصطلاح:
لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف السبب، وأقرب
تعريفات السبب إلى الصحة وأبعدها عن الخطأ هو: " ما يلزم من
وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم لذاته ".
شرح التعريف وبيان محترزاته:
السبب هو وصف ظاهر منضبط جعله الشارع علامة على الحكم،
وربط وجود الحكم بوجوده، وعدم الحكم بعدمه، فيلزم من وجود
السبب وجود الحكم، ويلزم من عدم السبب عدم الحكم، كدخول
الوقت، وبلوغ النصاب، فيلزم من وجود دخول الوقت وجوب
الصلاة، ويلزم من عدم دخول الوقت عدم وجوب الصلاة، ويلزم
من وجود بلوغ النصاب وجوب الزكاة، ويلزم من عدم البلوغ عدم
وجوب الزكاة، وهكذا.
وقولنا: " ما يلزم من وجوده الوجود " أخرج الشرط؛ لأن
الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم كالطهارة فإنها شرط
لصحة الصلاة، ولكن قد توجد الطهارة ومع ذلك لا يلزم صحة
الصلاة؛ لاحتمال عدم دخول الوقت، أما السبب فيلزم من وجود(1/391)
دخول الوقت وجوب الصلاة طى هذا المكلف الذي دخل عليه
الوقت، ويلزم من وجود السرقة: وجود الحكم وهو قطع اليد.
وخرج بهذه العبارة أيضا المانع؛ لأن المانع يلزم من وجوده العدم.
وخرج المانع - أيضاً - من قولنا: " ولا يلزم من عدمه العدم "،
لأن المانع لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم مثل " الذين " يلزم من
وجوده عدم الزكاة، ولكن لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، فلو
لم يكن على المسلم دين فلا يلزم من ذلك وجوب الزكاة عليه؟
لاحتمال فقره مع عدم الدين، ولا يلزم عدم وجوب الزكاة؟
لاحتمال أن يكون عنده نصاب قد حال عليه الحول فتلزمه الزكاة.
وقولنا: " لذاته " أي: لذات السبب، وأخرجنا به ما لو قارن
السبب فقدان شرط، أو وجود مانع مثل: أن يملك النصاب، لكن
لم يدر عليه الحول، فهنا لا تجب عليه الزكاة لا لأن ذات السبب لم
يتوفر، بل توفر ووجد، ولكن انتفى الشرط وهو حولان الحول،
كذلك لو ملك النصاب وحال عليه الحول، لكن عليه دين، فهذا لا
تجب عليه الزكاة مع توفر السبب.
فهنا لا يلزم من وجود السبب وجود الحكم، ولكن لا لذاته،
بل لأمر خارج عنه وهو انتفاء الشرط، أو وجود مانع.
***
المسألة الثانية: في تقسيمات السبب:
السبب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات وجهات مختلفة إلى خمسة
تقسيمات:(1/392)
التقسيم الأول: باعتبار قدرة المكلف:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مقدور عليه "،
و" سبب غير مقدور عليه ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المقدور عليه - فهو: ما كان
داخلاً تحت كسب المكلف وطاقته.، بحيث يستطيع فعله أو تركه
كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر بالنسبة لما يترتب عليها - من
العقوبات، وكذا عقد البيع؛ لانتقال الملك وحل الانتفاع، وكذا:
عقد النكاح لحل الاستمتاع.
فهذه يجتمع فيها خطاب التكليف والوضع، كما قلنا سابقا.
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المقدور عليه - فهو: ما لم
يكن من كسبه ولا دخل له في تحصيله، أو عدم تحصيله مثل: زوال
الشمس، أو غروبها، سبب لوجوب الصلوات، والموت سبب
لانتقال الملك، فهذه الأمور لا يتعلق بها خطاب تكليف؛ لأن
التكليف لا يكون إلا بمقدور، كما قلنا سابقا.
التقسيم الثاني: باعتبار المشروعية:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مشروع "،
و"سبب غير مشروع ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المشروع - فهو: ما كان سببا
للمصلحة أصالة، وإن كان مؤديا إلى بعض المفاسد تبعا مثل: الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالجهاد في سبيل اللَّه، فإنهما سببان
لإقامة الدين، وإعلاء كلمة اللَّه، وإظهار شعائر الإسلام، وإن أدى
في الطريق إلى نوع من المفاسد كإتلاف نفس، وإضاعة أموال، كذا
إقامة الحدود والقصاص سبب للمصلحة أصالة.(1/393)
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المشروع - فهو: ما كان
سببا للمفسدة أصالة، وإن ترتب عليه نوع من المصلحة تبعا مثل:
القتل، فإنه سبب غير مشروع، وإن ترتب عليه بعض المصالح
كميراث ورثة المقتول.
الئقسيم الثالث: باعتبار المناسبة:
ينقسم السبب باعتبار المناسبة للحكم وعدم ذلك إلى قسمين:
" سبب مناسب للحكم "، و " سبب غير مناسب للحكم ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المناسب للحكم - فهو: الذي
يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة يدركها
العقل مثل: السرقة بالنسبة لعقوبة القطع، حيث إنها تحقق مصلحة
حفظ الأموال وتدفع مفسدة ضياعها، وكذا عقوبة الزنا، فإنها تحقق
مصلحة حفظ الأنساب والأعراض، وكذا الإسكار لتحريم الخمر،
فإن الإسكار - يتضمن ضياع العقول فنهى عن شرب الخمر لمصلحة،
وهي حفظ العقول.
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المناسب - فهو: الذي لا
يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة، مثل
دلوك الشمس، فهو سبب لوجوب الظهر، وشهود الشهر بالنسبة
لوجوب صومه.
التقسيم الرابع: باعتبار مصدره:
السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: " سبب شرعي "،
و" سبب عقلي "، و " سبب عادي ".
أما القسم الأول - وهو: السبب الشرعي - فهو: ما كان(1/394)
مستمداً من الشرع فقط كالوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، وبلوغ
النصاب بالنسبة لوجوب الزكاة.
أما القسم الثاني - وهو: السبب العقلي - فهو: ما كان مستمداً
من العقل، ولم يكن ثابتاً عن طريق الشرع كوجود النقيض، فإنه
سبب في انعدام نقيضه عقلاً، لعدم اجتماع النقيضين كالموت سبب
لعدم الحياة، وهكذا.
أما القسم الثالث - وهو: السبب العادي - فهو: ما كان
مستمداً من العادة الألوفة المتكرر وقوعها كالذبح، فإنه عادة يتسبب
في إزهاق الروح في العادة.
والمراد بالسبب في الحكم الوضعي هو السبب الشرعي فقط.
التقسيم الخامس: باعتبار ذاته:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب قولي "،
و"سبب فعلي ".
أما القسم الأول - وهو: السبب القولي - فهو: ما كان عماده
القول كصيغ العقود مثلاً من بيع، وشراء، وهبة، وصدقة، وصيغ
التصرفات كالطلاق، والعتاق، والظهار، والرجعة، والنكاح.
وأما القسم الثاني - وهو: السبب الفعلي - فهو: ما كان ناشئاَ
عن الفعل كالقتل، وشرب الخمر، والسرقة، وإحياء الموات،
ونحو ذلك.
فإن قلت: هل يوجد فرق بين السبب القولي والفعلي؟
أقول: نعم بينهما فرق في الحكم؛ حيث إن الأسباب القولية لا
تصح من السفيه، والمحجور عليه، أما الأسباب الفعلية فإنها تصح(1/395)
منه، فمثلاً: لو وطأ المحجور عليه أمته فإنها تصير أم ولد، كذلك
لو احتطب، أو اصطاد، أو قتل، أو سرق، أو نحو ذلك فإنه
يترتب على تلك الأسباب آثارها.
بخلاف ما لو أعتق عبده، وكذا لو اشترى، أو وهب، أو باع،
أو تصدق، ونحو ذلك من الأسباب القولية، فإنه لا يترتب عليها
أثر.
وتعليل ذلك: أن أقواله يمكن إلغاؤها - كما قال ابن القيم في
"بدائع الفوائد " -: فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء، وأما
الأفعال فإنها إذا وقعت فلا يمكن إلغاؤها؛ فلا يمكن أن يقال لمن
سرق، أو قتل، أو وطأ أمَته وولدت، أو أتلف: إنه لم يسرق،
ولم يقتل، ولم يستولد له ولد، ولم يتلف شيئاً، وقد وجدت منه
هذه الأفعال فأجرى ذلك مجرى المأذون له في صحة أفعاله.
التقسيم السادس: باعتبار اقتران السبب بالحكم وعدم ذلك:
السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب متقدم على
الحكم "، و " سبب مقترن به ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المتقدم على الحكم - فهو:
الأصل، وهو أكثر الأحكام مثل الأسباب الموجبة للصلوات،
والزكاة، والحج، والبيع، والنكاح.
أما القسم الثاني - وهو: السبب المقارن للحكم - فهو: يقع
كثيراً في الشريعة مثل: شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وقطع
الطريق، ومثل: قتل الكافر في الحرب، فإنه سبب لاستحقاق سلبه
فوراً، ومثل إحياء الموات، فانه سبب فوري للملك وهكذا.(1/396)
المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء:
الأصول لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ومحققاَ
للاجتهاد فيه، وإذا كان كذلك، فالتوقع أن يكون الفقهاء تابعين
للأصوليين في اعتبار حقيقة السبب.
لكن الواقع من الفقهاء غير ذلك فهم في كتب الفروع يطلقون
لفظ " السبب " على عدة أمور قد تبدو مخالفة لما اصطلح عليه
الأصوليون في مفهوم السبب، لذلك أتيت بهذه المسألة تنبيهاً على
ذلك فأقول: إن الفقهاء يطلقون لفظ " السبب " على أربعة إطلاقات
هي كما يلي:
الإطلاق الأول: أنهم يطلقونه في مقابل المباشرة فقالوا: لو حفر
زيد بئراً، ثم جاء عمرو ودفع محمداً في البئر، فتردى فيها، فهلك
محمد، فإن الحافر - وهو زيد - صاحب سبب، والمردي - وهو
عمرو - صاحب علَّة، لأن الهلاك بالتردية، لا بالحفر، ولكن وقع
ذلك عند وجود البَئر فسموا الحافر سبباً، والدافع مباشراً، وكذلك
لو ألقى شخص شخصاً آخر من شاهق فتلقاه آخر بسيف، فإن
الضمان على المتلقي بالسيف لأنه مباشر، وهناك أمثلة كثيرة على هذا
تجدها مبسوطة في قواعد ابن رجب، والأشباه والنظائر للسيوطي
وغيرهما.
الإطلاق الثاني: أنهم يطلقونه على عِلَّة العلَّة، حيث سمّوا الرمي
سبباً للقتل من جهة: أنه سبب للعلَّة، فَكان على التحقيق عِلَّة
العلَّة، لأنه علَّة للإصابة، والإصابةَ عِلَّة لزهوق النفس، ولكن لما
حصل الموت بالإصابة التوسطة بين الرمي والزهوق لا بالرمي كان
الرمي شبيهاً بالسبب في وضع اللسان وهو: ما كان مفضياً إلى
الشيء وطريقاً إليه فسمَّوه سبباً لذلك.(1/397)
وحكم هذا السبب حكم العلَّة من كل وجه، فيضاف أثر الفعل
إليه؛ لأنه لما أضيفت العلَّة إليه كان بمنزلتها، ولهذا سمي " علَّة
العِلَّة "، ويسميه الحنفية السبب في معنى العِلَّة ".
الإطلاق الثالث: أنهم يطلقونه على العِلَّة الشرعية بدون شرطها
كملك النصاب دون حولان الحول، فإنَّ ملك النصاب سبب في
وجوب الزكاة، لكنه لا بد من حولان الحول في وجوبها، فيطلق
السبب على ملك النصاب دون حولان الحول مع أنه لا بد منهما في
الوجوب.
وكذا اليمين دون الحنث فإنها سبب في وجوب الكفارة، لكنه
لابد من الحنث في وجوب الكفارة، فيطلق السبب على اليمين دون
الحنث مع أنه لا بد منهما في الوجوب.
ويراد بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه كما يقال: " نصاب
الزكاة "، و " كفارة اليمين ".
ويسميه الحنفية بالسبب المجازي.
الإطلاق الرابع: أطلقوه على العلَّة الشرعية الكاملة التي توجب
الحكم وهي: المجموع المركب من مقتضي الحكم - وهو المعنى
الطالب له - وشرطه وانتفاء المانع، ووجود الأهل - وهو المخاطب
به - ووجود المحل - وهو: ما يتعلَّق به الحكم - فالسبب - على
هذا - بمعنى العلة يقال: " سبب الحكم كذا "، والمراد بذلك علته.
ووجه إطلاق السبب على العِلَّة الشرعية الكاملة: أن العلَّة في
معنى العلامة المظهرة للحكم؛ إذ أنها لا توجب الحكم لذاتهاً، بل
بإيجاب اللَّه تعالى لها فأشبهت السبب من هذه الناحية.(1/398)
والخلاصة: أن الإطلاق الأول المراد به إيجاد الشرط؛ لأن حفر
البئر شرط لوقوع الهلاك؛ لكونه إزالة للمانع؛ إذ لولا الحفر
لاستمسكت الأرض ولم يقع الهلاك، فيكون المراد بالمباشرة هنا:
إيجاد العِلَّة، وبالتسبب إيجاد الشرط، وهكذا.
أما الإطلاقات الثلاثة الباقية فهي تنتظم في سلك العِلَّة؛ فالرمي
عِلَّة العلَّة؛ لكونه علَّة للإصابة، والإصابة علَّة للزهوقَ، والنصاب
بدون الحول عِلَّة، وَلكن تخلَّف شرطها، والإطلاق الرابع أطلقوه
على العِلَّة الكاملة.
***
المسألة الرابعة: العِلَّة:
نظراً إلى أن العلَّة تعتبر قسما من أقسام السبب، فقد جعلناها من
مسائل السبب، وإليك بيانها فأقول:
أولاً: العِلَّة لغة:
تطلق على إطلاقات، ولكن أقربها إلى الصحة هو: أنها بمعنى
الأمر المغير للشيء، ومنه سمي المرض عِلَّة؛ لأن حالة المريض تتغير
به من الصحة والقوة والنشاط إلى المرض والضعف والسقم.
وهذا أنسب التعاريف اللغوية للعلَّة؛ لتناسبه مع المعنى
الاصطلاحي وهو: التغيير، فكما يتغير الَجسم حالة حصول العلَّة،
وهي المرض من القوة إلى الضعف، فكذلك إذا وجدت العِلًّة في
المحل، فإنها تغير حكمه مما كان عليه في الأول.
ثانيا: العلة اصطلاحا:
لقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف العِلَّة:(1/399)
فقيل: إن العِلَّة هي: المعرِّف للحكم.
وهو تعريف فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء.
وقيل: إن العِلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه تعالى.
ذهب إلى ذلك الغزالي، وأكثر الحنفية.
وقيل: إن العِلَّة: الباعث على الحكم.
ذهب إلى ذلك ابن الحاجب والآمدي.
بيان نوع الخلاف:
الحق: أن الخلاف بين تلك الأقوال الثلاثة خلاف لفظي - كما
ذكرت ذلك في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فهو
راجع إلى تفسير كل أصحاب مذهب لما قالوه.
فكل أصحاب مذهب نظروا إلى جهة معينة غير ما نظر إليها
الآخر، ففسَّر العِلَّة باعتبار تلك الجهة.
فمن قال بأن العِلَّة: المعرِّف للحكم: نظر إلى أن الحكم يضاف
إليها، فيقال: وجب القصاص للقتل، ووجب القطع للسرقة، وهكذا.
ومن قال بأن العلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه لها:
يرى أن العِلَّة تستلزمَ الحكم استلزاما عاديا بجعل اللَّه تعالى، أي:
أن كلًّا منَ الوصف والحكم من اللَّه، وقد جرت العادة بأنه متى ما
وجد السبب وجد المسبب.
ومن قال بأن العلَّة: الباعث على الحكم: يرى أنها لا بدَّ وأن
تكون مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع.
وأصحاب هذه الأقوال متفقون على أن الموجب للحكم - حقيقة
هو اللَّه ت تعالى - وهو: المؤثر الحقيقي وحده، دون العلل والأسباب.(1/400)
واتفقوا على أن اللَّه حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر وناطه
به، ورتبه عليه.
واتفقوا - أيضاً - على أن الأحكام معللة بمصالح العباد، وإن
اختلفت العبارات في مؤدى ذلك حسب ما يؤدي إليه التصور، ويدل
على ذلك: أن الكل يقول بالقياس. فالخلاف - إذاً - في العبارة
- فقط - دون المعنى.
ثالثاً: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن العِلَّة تعتبر من أقسام السبب.
وهو من التقسيم الثالث من تقسيمات السبب السابقة، وعلى هذا
فإن السبب يكون أعم من العِلَّة.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
وهذا هو الصحيح عندي، ولهذا جعلتها من مسائل السبب،
وإليك بيان ذلك:
أن السبب ينقسم إلى قسمين: " سبب معقول المعنى "، و " سبب
غير معقول المعنى ".
فإن كان الأول - أي: كان السبب مما يدرك العقل ارتباط الحكم
به -: كان سبباً وعلَّة كقطع يد السارق، فإن السرقة تسمى سببا
وعلَّة للقطع، وكذاً: السفر المبيح للفطر، فإن السفر يُسمَّى سببا
وعِلَّة لإباحة الفطر.
وإن كان الثاني - أي: إن كان السبب مما لا يدرك العقل ارتباط
الحكم به -: فإنه يسمى سببا لا عِلَّة، مثل: دخول الوقت،
وشهود الشهر.
فدخول الوقت يسمى سبباً لوجوب الصلاة، ولا يسمى عِلَّة "(1/401)
لعدم إدراكنا للمناسبة بين دخول الوقت ووجوب هذه الصلاة بعينها،
كذلك شهود شهر رمضان يسمى سببا لوجوب الصوم، ولا يسمى
عِلَّة؛ لعدم إدراكنا للمناسبة بين شهود الشهر ووجوب رمضان.
فالسبب - على ذلك - يشمل الوصف المناسب وغير المناسب،
فيكون أعم من العِلَّة.
المذهب الثاني: أن السبب والعِلَّة متفقان، وهما اسمان لمسمى
واحد.
هذا مذهب بعض العلماء.
واحتجوا بقولهم: إننا لما دققنا النظر فيهما وجدنا أوجه التشابه
بينهما واضحة، وهي كما يلي:
الوجه الأول: أن كلًّا منهما ينبني عليه الحكم ويرتبط به وجوداً
وعدماً.
الوجه الثاني: أن كلًّا منهما أمارة وعلامة على وجود الحكم.
الوجه الثالث: أن للشارع حكمة في ربط الحكم بكل واحد منهما
وإضافته إليه، وبنائه عليه.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن معناهما واحد، فالسفر يطلق عليه
سبب، ويطلق عليه عِلَّة لإباحة الفطر، ودخول الوقت سبب وعلَّة
على وجوب الصلاة.
فأصحاب هذا المذهب: جعلوا السبب مرادفا للعلَّة، واسما من
أسمائه التي تطلق عليه دون فرق بينهما.
المذهب الثالث: أن السبب والعِلَّة متغايران تمام التغاير، فهما
وصفان متباينان.(1/402)
ذهب إلى ذلك الحنفية؛ حيث عرفوا السبب بأنه: " ما يكون
طريقا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا
يعقل فيه معاني العلل ".
فهنا قد صرَّحوا بأن السبب لا يضاف إليه وجود الحكم،
ولا يعقل فيه معنى التعليل، بخلاف العِلَّة، فإنه يضاف إليها الحكم
أصالة عندهم، ويكون بين هذا الوصف الذي ورد مع الحكم وبين
الحكم مناسبة ظاهرة.
إذن: لا يطلق أحدهما على الآخر - عند الحنفية - إلا مجازاً -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي في هذه المسألة، لا يترتب عليه أي أثر، وذلك
لأنا عرفنا أن كثيراً من العلماء يقسمون السبب إلى قسمين: " سبب
مناسب للحكم " و " سبب غير مناسب للحكم "، وبهذا التقسيم
تلتقي المفاهيم، ويتحد المدلول لدى الجميع.
المسألة الخامسة: الصحة والفساد:
نظراً لكون الصحة والفساد يدخلان في السبب من جهة: أن
الفعل إذا استوفى أركانه وشروطه، فإن هذا سبب لصحته عند الله
وترتب آثاره عليه، وأن الفعل إذا لم يستوف أركانه أو شروطه، فإن
هذا سبب لفساده وعدم ترتب آثاره عليه، أقول: نظراً لذلك فإنا
جعلناهما من مسائل السبب، وإليك بيانهما فأقول:
أولاً: الصحة والفساد لغة:
الصحة لغة: خلاف السقم، وهي: عبارة عن السلامة وعدم(1/403)
الاختلال، فيقال: " صح فلان من عِلَّته "، أي: أصبح لا سقم
فيه.
والفساد لغة: عبارة عن تغير الشيء عن الحالة السليمة إلى حالة
سقيمة، والمفسدة نقيض المصلحة.
ثانيا: الصحة والفساد اصطلاحا:
الصحة في الاصطلاح هي: موافقة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع.
والمقصود بالوجهين: " موافقة الشرع "، و " مخالفته ".
ومعناه واضح وهو: أن الصحة هي: صفة للفعل الذي يقع
موافقا للشرع؛ نظراً لاستجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط
والأركان، وانتفاء الموانع.
وأما الفساد فهو عكس الصحة، فيكون هو: مخالفة الفعل ذي
الوجهين لأمر الشارع.
فيكون الفساد: صفة للفعل الذي يقع مخالفا للشرع؛ نظراً لعدم
استجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط والأركان، أو وجود مانع.
فالصلاة فعل يوصف بأنه صحيح إذا وافق أمر الشارع بأن يكون
مستجمعا للشروط والأركان التي وضعها الشارع، مع عدم المانع،
وفعل الصلاة يوصف بأنه فاسد إذا لم يوافق أمر الشارع بأن تخلف
ركن أو شرط، أو وجد مانع.
ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية أو هما من الأحكام
العقلية؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:(1/404)
المذهب الأول: أنهما من الأحكام الشرعية.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن معرفة اشتجماع الفعل لشروطه وأركانه،
وارتفاع موانعه موقوفة على معرفة الركن، والشرط، والمانع،
ومعرفة هذه الأمور الثلاثة موقوفة على خطاب الشارع اتفاقا، فتكون
الصحة والفساد لا يعرفان إلا من طريق الشرع.
المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام العقلية:
ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، والعضد، وبعض العلماء.
دليل أصحاب هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن كون الفعل موافقا لأمر الشارع، أو
مخالفا له، وكون ما فعل تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء،
أو عدم كونه كذلك لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف
ذلك بمجرد العقل، فهو ككونه مؤديا للصلاة أو تاركا لها سواء
بسواء، فلا يكون حصوله في نفسه ولا حكمنا به شرعيا، بل عقلي
مجرد.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن الصحة والفساد والحكم بهما أمور شرعية،
وكون الفعل مسقطا للقضاء، أو موافقا للشرع هو من فعل الله
تعالى، وتصييره إياه سببا لذلك، فما الموافقة، ولا الإسقاط
بعقليين، لأن للشرع مدخلا فيهما، ولو لم تكن الصحة شرعية لم
يصح أن يقضي القاضي بها عند اجتماع شرائطها، لكنه يقضي بها
بالإجماع، فدل على أنها شرعية؛ لأنه لا مدخل للأقضية في(1/405)
العقليات، وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من
الشارع.
بيان فوع الخلاف:
الخلاف بين أصحاب المذهبين لفظي، لأن كلًّا من الفريقين أقر
الصحة والفساد، لكن أصحاب المذهب الأول أقروهما على أنهما
حكمان شرعيان، والآخرون أقروهما على أنهما حكمان عقليان.
رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية، أو من التكليفية؟
اختلف القائلون بأن الصحة والفساد من الأحكام الشرعية - فيما
بينهم -: هل هما من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام
التكليفية على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما من الأحكام الوضعية.
وهو ما ذهب إليه كثير من العلماء كالغزالي، والآمدي،
والإسنوي، والشاطبي، وابن السبكي، والزركشي، والفتوحي
الحنبلي.
وهو الصحيح؛ لأمرين:
أولهما: أن الصحة والفساد قد ثبت أنهما من الأحكام الشرعية
- كما سبق -.
والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين فقط: " حكم تكليفي "،
و"حكم وضعي ".
ولا يمكن أن يكونا من الحكم التكليفي؛ لأنه بعد النظر في
الصحة والفساد تبين عدم وجود اقتضاء ولا تخيير فيهما، حيث إن(1/406)
الحكم بصحة العبادة وبطلانها، والحكم بصحة المعاملة وبطلانها لا
يفهم منه اقتضاء ولاتخيير.
فلم يبق إلا أن الصحة والفساد من الحكم الوضعي.
ثانيهما: أن الفعل إذا توفرت فيه جميع أركانه وشروطه، فإنه
يوصف عند الشارع بالصحة، وما يتبع ذلك من الآثار المترتبة عليه،
والفعل إذا لم يستوف أركانه وشروطه، فإنه يوصف بالفساد وعدم
ترتب آثاره عليه، وهذه المعاني تدخل في خطاب الوضع حقيقة؟
لأنها تكون بذلك من معاني السبب، والسبب حكم وضعي،
ووصف بعض الأصوليين كالغزالي في " المستصفى " السبب بالصحة
والفساد، فثبت بذلك: أن الصحة والفساد من أحكام الشرع
الوضعية، وهذا هو الذي جعلنا نبحث الصحة والفساد ضمن مسائل
السبب.
المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام التكليفية:
ذهب إلى ذلك فخر الدين الرازي وكثير من أتباعه، والبيضاوي.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن الصحة والفساد يرجعان - في الحقيقة - إلى خطاب التكليف،
ولا يخرجان عن مضمونه ومدلوله؛ حيث إن معنى صحة الشيء:
إباحة الانتفاع به، ومعنى الفساد: حرمة الانتفاع به والإباحة والحرمة
من الأحكام التكليفية.
جوابه:
يجاب عنه بأن إرجاع الصحة والفساد إلى الحكم التكليفي أمر فيه
عسر وتكلف لا يخفى، فهو لا يساعد عليه اللفظ، ولا ينتظمه
المعنى.(1/407)
أما قولهم: إن الصحة هي إباحة الانتفاع فمنقوض - كما قال
الإسنوي في " نهاية السول " - بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع، فإنه
صحيح، ولا يباح للمشتري الانتفاع به.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن كلًّا من أصحاب المذهبين أقر
بالصحة والفساد وبحثهما على أنهما من الأحكام الشرعية، لكن
أصحاب المذهب الأول جعلوهما داخلين ضمن الأحكام الوضعية،
وأصحاب المذهب الثاني جعلوهما داخلين ضمن الأحكام التكليفية،
وتابعين لتلك الأحكام، وهذا مجرد اختلاف في التعبير والمنهج فقط
ولا أثر له في الفروع.
خامسا: المقصود بالصحة في العبادات:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الصحة في العبادات هي: إسقاط القضاء.
أي: أن الصحة في العبادات: ما وافق الأمر، وأجزأ، وأسقط
القضاء.
فمعنى سقوط القضاء: عدم المطالبة بالفعل مرة ثانية؛ بناء على
المطلب الأول كالصلاة إذا وقعت بجميع واجباتها مع انتفاء موانعها،
فعدم وجوب قضائها هو: صحتها.
هذا ما ذهب إليه الفقهاء.
وهو الصحيح؛ لأنه موافق للغة؛ فإن الآنية إذا كانت صحيحة
من جميع الجهات، فإن العرب تسميها صحيحة، وإذا كانت
صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة واحدة، فإن العرب(1/408)
لا تسميها صحيحة، وهذه الصلاة - مثلاً - قد تطرق إليها الخلل من
جهة ذكر الحدث، فلا تكون صحيحة كالآنية المكسورة من جهة.
المذهب الثاني: أن الصحة في العبادات هي موافقة الأمر الشرعي
في ظن المكلف، لا في الواقع، سواء وجب القضاء، أو لم
يجب، وعليه فكل من أمر بعبادة فوافق الأمر بفعلها بأن أتى بها على
الوجه الذي أمر به، فإنه يكون قد أتى بها صحيحة، وإن اختل
شرط من شروطها، أو وجد مانع.
ذهب إلى ذلك المتكلمون، وقالوا: إن صلاة من ظن أنه متطهر
صحيحة عند المتكلمين، وذلك لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعاً هو
حصول الظن - فقط -؛ لأنه هو الذي في وسع المكلَّف.
أما على مذهب الفقهاء، فإن تلك الصلاة غيو صحيحة؛ لكونها
لم تسقط القضاء؛ لاحتمال ظهور بطلان الظن فيجب القضاء.
وكذلك فاقد الطهورين إذا صلى على حسب حاله على الوجه
الذي أمر به في ذلك الوقت، فإن صلاته صحيحة عند المتكلمين؟
لأنه موافق للأمر الشرعي، وهي فاسدة عند الفقهاء؛ لأن شرط
الصلاة عند الفقهاء الطهارة ولم توجد في نفس الأمر.
جواب الفقهاء عما قاله المتكلمون:
قال الفقهاء: إن مذهب المتكلمين باطل؛ لأنه لو كانت الصحة
هي موافقة الأمر - فقط - لكان الحج الفاسد صحيحا؛ لأنه مأمور
بإتمامه، والمضي - فيه، فالمتمم له موافق للأمر بإتمامه، فيجب أن
يكون صحيحاً على زعمكم، لكنه فاسد بالاتفاق.
اعتراض المتكلمين على ذلك الجواب:
قال المتكلمون: لا نُسَلِّمُ أن الحج الفاسد قد وقع على موافقة(1/409)
الأمر، بل إنه وقع على مخالفته، حيث فعل فيه ما أفسده، وحينئذ
فانتفاء صحته، إنما هو لانتفاء موافقته للأمر، وأما كون المفسد له
مأموراً بإتمامه، فلا يلزم منه أن يكون امتثاله الأمر يوجب الصحة؛ الأمر بإتمامه طرأ على الأمر الأول؛ حفظاً لحرمة الوقت من
الهتك بعد انعقاد الإحرام، أو أنه عقوبة للمفسد له على إفساده بمنعه
من التخفيف عليه، ومعارضته له بنقيض قصده؛ قياساً على من وطأ
امرأته في نهار رمضان، فإنه مأمور بالإمساك بقية يومه مع وجوب
القضاء والكفارة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف لفظي.
وهذا هو الصحيح عندي؛ حيث إنه بعد التحقيق والتدقيق قد
ثبت أنه لا يترتب على هذا الخلاف أي أثر، لأن أصحاب المذهبين
قد اتفقوا على الأحكام: فالمصلي الذي ظن نفسه أنه متطهر، ثم
تبين بعد فراغه أنه لم يكن متطهراً اتفقوا على أنه موافق لأمر الله
- تعالى - واتفقوا - أيضا - على أنه مثاب على فعله؛ لقصده امتثال
أمر اللَّه تعالى.
واتفقوا - أيضاً - على أنه لا يجب على المصلي القضاء إذا لم
يطلع على الحدث، واتفقوا على أنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على
الحدث.
فالفقهاء والمتكلمون يقولون بوجوب إعادة الصلاة على من صلى
ظاناً أنه متطهر، فبان خلافه، ولكنهما، يختلفان في وصف هذه
الصلاة قبل إعادتها.(1/410)
فالفقهاء يقولون: إنها لا توصف بالصحة؛ لأنها لم تسقط
القضاء؛ لأن المكلف لا يزال مطالبا بفعلها مرة ثانية.
والمتكلمون يقولون: إنها توصف بالصحة؛ نظراً لموافقتها لأمر
الشارع، وذلك لأن الشرع قد أمر المصلي أن يصلي بطهارة متيقنة،
أو مظنونة، وقد جعل ذلك على حسب حاله، لذا قالوا: إنها
توصف بالصحة نظراً لهذه الموافقة، وقالوا: أما إعادتها فقد جاء
من أمر آخر وهو: تبين الخطأ في الظن.
القول الثاني: أن الخلاف معنوي؛ حيث قال أصحاب هذا القول:
إن الخلاف قد ترتب عليه آثار في بعض المسائل الفقهية، ومنها:
1 - صلاة من ظن نفسه أنه متطهر ثم تبين بعد فراغه أنه لم يكن
متطهراً.
فعلى المذهب الأول وهو مذهب الفقهاء: الصلاة غير صحيحة؟
لكونها لم تسقط القضاء.
وعلى المذهب الثاني - وهو مذهب المتكلمين: فإن الصلاة
صحيحة؛ لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعا هو حصول الظن؟
حيث إنه هو الذي في وسع المكلَّف.
2 - صلاة فاقد الطهورين - الماء والتراب - إذا صلى على حسب
حاله غير صحيحة عند الفقهاء، وعليه إعادتها مرة ثانية إذا وجد ماء
أو ترابة على الأرجح، أما عند المتكلمين فصلاته صحيحة.
جوابه:
قلت: ما رتبه أصحاب القول الثاني من المسائل الفقهية للدلالة
على أن الخلاف معنوي غير مسلم؛ حيث إن الفقهاء والمتكلمين
اتفقوا على أن المصلي وهو قد ظن نفسه أنه متطهر، فبان أنه غير
متطهر يجب عليه القضاء.(1/411)
والقائلون: إن المتكلمين لا يوجبون القضاء بنو ذلك على فهمهم
من تصريح المتكلمين بالصحة في صلاة من ظن الطهارة، وهو
محدث.
وهذا البناء غير صحيح؛ لأنه لا يلزم من وصف المتكلمين للصلاة
بالصحة أنهم لا يوجبون قضاءها، فإنه لا تلازم بين الوصف
بالصحة وسقوط القضاء، فليس كل صحيح يسقط، فالمتكلمون
- أنفسهم - صرحوا بوجوب القضاء، ولكن بأمر جديد، وهو تبين
خطأ الظن، ويؤيد ذلك: أن صلاة المتيمم لبرد، أو في الحضر
موصوفة بالصحة، ومع ذلك يجب قضاؤها.
وهذا الكلام يجاب به عن كل مثال ذكره أصحاب القول الثاني
لبيان أن الخلاف معنوي.
أما المثال الثاني - وهو مثال فاقد الطهورين، فالكل قد اتفقوا
على أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة بالوضوء، أو التيمم.
ولكن من قال: إنها صحيحة - وهم المتكلمون - أرادوا أنه مأمور
بها تشبيهاً بالمصلين احتراماً للوقت.
ومن قال: إنها باطلة أراد أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة مع
الوضوء عند القدرة على الماء أو التيمم عند العجز، فهي باتفاق غير
مسقطة للقضاء.
سادسا: المقصود من الصحة في المعاملات:
الصحة في المعاملات: ترتب أحكامها المقصودة عليها، وذلك
لأن العقد لم يوضع إلا من أجل إفادة مقصوده، كملك المبيع،
وملك البضع في النكاح، فإذا أفاد مقصوده فهو صحيح، وحصول(1/412)
مقصوده هو: ترتب آثار حكمه عليه؛ لأن العقد مؤثر لحكمه
وموجب له، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو فاسد.
إذن يكون الفاسد من العقود: كون الشيء لا يترتب عليه أثره
المطلوب منه؛ لوجود خلل في ركنه أو شرطه كبيع المجنون، أو بيع
المعدوم، أو بيع الميتة، فكل عقد أو تصرف يفقد ركناً أو شرطاً،
فهو فاسد باطل لا يترتب عليه أثره الشرعي من حل، أو ملك، أو
انتفاع.
فالخلاصة: أن الصحيح هو الذي له ثمرة من حل أو ملك أو
انتفاع.
والفاسد أو الباطل هو الذي لم يثمر شيئاً ولا يترتب عليه أثر
شرعي من حل، أو ملك، أو انتفاع.
سابعا: هل الفاسد والباطل مترادفان؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما مترادفان.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو الصحيح؛ لأن الباطل لغة بمعنى الفاسد والساقط، يقال:
" بطل الشيء ": إذا فسد وسقط حكمه، فإذا لم يفرق بينهما لغة،
فوجب عدم التفريق بينهما في الشرع؛ حملاً للمقتضيات الشرعية
على مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير.
وعلى هذا: فتعريف الباطل هو نفس تعريف الفاسد السابق
الذكر، فالباطل والفاسد اسمان لمسمى واحد، ولفظان مترادفان،
فكل فاسد باطل، وكل باطل فاسد، ومعناهما اصطلاحاً:
" مخالفة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع ".(1/413)
فيكون الفساد والبطلان في العبادات: مخالفة أمر الشارع، أو
عدم سقوط القضاء بالفعل كالصلاة التي تخلف فيها شرط أو ركن،
أو وجد مانع فإنها باطلة وفاسدة.
والفساد والبطلان في عقود المعاملات هو: تخلف الأحكام عنها
وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام كالعقد الذي لم يستجمع
شروطه وأركانه، فإنه باطل وفاسد، لكونه غير مثمر، ولا يمكن أن
تترتب عليه آثاره، أي: أنه غير محصل شرعا للأملاك واستباحة
الأبضاع، وجواز الانتفاعات، ونحو ذلك.
فلا فرق بين الباطل والفاسد مطلقا عندنا.
المذهب الثاني: التفصيل:
أما في باب العبادات وباب النكاح من العقود، فإن الفاسد
والباطل مترادفان.
أما في باب المعاملات، فإنه يوجد فرق بين الباطل والفاسد.
هذا ما ذهب إليه الحنفية.
أي: أن الحنفية قدْ أثبتوا فرقاً بين الباطل والفاسد في المعاملات،
حيث رتبوا على العقود الفاسدة بعض الآثار الشرعية، وجعلوا
الفاسد مرتبة متوسطة بين الصحيح والباطل، فهو قسم ثالث مغاير
- عندهم - للصحيح والباطل، فقالوا:
الصحيح هو؛ ما كان مشروعا بأصله ووصفه جميعاً، أي: ما
استجمع أركانه وشروطه، بحيمسا يكون معتبراً شرعاً كالبيع الصحيح.
والباطل هو: ما لم يكن مشروعاً بأصله، ولا بوصفه.
أي: ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، وذلك(1/414)
إما لانعدام معنى التصرف كبيع الدم والميتة، وإما لانعدام أهلية
التصرف كما في بيع الصبي والمجنون.
والفاسد: ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه كبيع الدرهم
بالدرهمين، فإنه مشروع بأصله من حيث إنه بيع ولا خلل في ركنه،
ولا في محله، ولكنه غير مشروع بوصفه، وهو: الفضل؛ لأنه
زيادة في غير مقابل، فكان فاسداً، لا باطلاً، لملازمته للزيادة وهي
غير مشروعة، ولكن لو حذفت تلك الزيادة لصح البيع ولم يحتج
إلى عقد جديد.
دليل هذا المذهب:
العلَّة التي جعلت الحنفية يفرقون بين الفاسد والباطل في باب
المعاملاَت خاصة هي: أنه لما كان المقصود من العبادات هو التعبد
- فقط -، وهو لا يكون إلا بالامتثال والطاعة، فإن المخالفة فيها
تكون مفوتة للمقصود، فلا يظهر وجه للتفرقة بين باطل وفاسد فيها،
فذمة المكلف لا تبرأ بصلاة فاسدة، كما لا تبرأ بصلاة باطلة.
أما المعاملات فإنه لما كان المقصود منها أولاً وبالذات هو مصالح
العباد الدنيوية، فإن المجال مفتوح فيها، وتحققها في نفسها ممكن
حتى مع وجود خلل في وصفها، فلا تنعدم بالكلية إلا إذا كان الخلل
فيها راجعاً إلى الحقيقة والماهية.
فجعلوا الباطل فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أركان العقد، أو
إلى العاقدين، أو إلى محل العقد، كما في بيع الملاقيح - وهي ما
في بطون الحوامل من الأجنة - وكما في بيع المضامين - وهي ما في
أصلاب الفحول من الماء، فإن بيع الحمل وحده، أو الماء وهو في
صلب الفحل غير مشروع ألبتة، وليس امتناعه لأمر عارض، فكان
باطلاً لذلك.(1/415)
وجعلوا الفاسد فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أوصاف العقد
الخارجية، لا إلى أركانه، وذلك كما في بيع الدرهم بالدرهمين؟
حيث إن الدراهم في ذاتها قابلة للبيع، وإنما امتنع هذا البيع، نظراً
لاشتمال أحد الجانبين فيه بالزيادة، فهو مشروع من حيث إنه بيع،
وممنوع من حيث انعقاد الربا، ولذلك قالوا: لو حذفنا تلك الزيادة
- وهي الدرهم - لصح البيع.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: إنا لا نُسَلِّمُ تفسير الحنفية للفاسد - وهو: ما كان
مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه -؛ لأن كل ممنوع بوصفه، فهو
بلا شك ممنوع بأصله، حيث إنه لا يثمر ولا يترتب عليه آثار.
فإذا كان الفاسد لا يثمر، والباطل لا يثمر - أيضاً - فهما
متساويان ولا فرق بينهما.
الجواب الثاني: أن هذا التفريق بين الفاسد والباطل غير مسلم من
جهة النقل، بيان ذلك:
أن مقتضى هذا التفريق هو: أن يكون الفاسد هو: الموجود على
نوع من الخلل، والباطل هو الذي لا تثبت حقيقته بوجه، وقد
سمى اللَّه تعالى الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً، حيث
قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فسمى السموات
والأرض فاسدة على تقدير الشريك ووجوده، ودليل التمانع يقتضي
أن العالم على تقدير الشريك ووجوده يستحيل وجوده لحصول التمانع
لا أنه يكون موجوداً على نوع من الخلل، فقد سمى اللَّه تعالى
- هذا - الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً.(1/416)
فالذي لا تثبت حقيقته بوجه يطلق على الفاسد والباطل فلم يكن
- على هذا - بينهما فرق.
بيان نوع الخلاف:
الحنفية لما فرَّقوا بين الباطل والفاسد بنوا على هذا التفريق فروعا
فقهية، ومنها:
1 - أن الشخص لو باع داراً بشرط عدم سكناها، أو بيعها، فإن
هذا البيع فاسد؛ لأجل الشرط المخالف لمقتضى العقد، وهو غير
باطل؛ لأن البيع مشروع في أصله، ولا خلل في أركانه، وإنما لحقه
الفساد من جهة الوصف، وهو اشتماله على الشرط الفاسد.
2 - بيع الدرهم بالدرهمين فاسد؛ لأنه مشروع من حيث كونه
بيعا، ولكنه ممنوع من اتصافه بالربا المنهي عنه.
وقالوا: إن النهي هذا قد ورد لمعنى في غير البيع، وهو الفضل
الخالي عن العوض، فلا ينعدم بذلك أصل المشروعية، فكان
فاسداً، لا باطلاً.
جوابه:
قلت: بعد التحقيق والتدقيق ثبت أنه مع تفريع الحنفية على هذا
التفريق بين الباطل والفاسد، فإن خلافهم مع الجمهور - وهو
مذهبنا - خلاف لفظي لا يترتب عليه آثار؛ فتفريق الحنفية بين الباطل
والفاسد في بعض الأحكام لا يعني أن الخلاف بينهم وبين الجمهور
معنوي؛ بل هو لفظي؛ لأن منشأ التفرقة في الأحكام ليس هو
التفرقة في التسمية، وإنما منشأه عندهم: كون النهي وارداً عن الفعل
لأصله، أو لوصفه، فما ورد النهي عنه لأصله لم يصح بحال.
وما ورد النهي عنه لوصفه يمكن أن يصح إذا زال هذا الوصف.(1/417)
فلما اختلفت الأحكام - عندهم - رأوا أن يميزوا بينهما،
فاصطلحوا على تسمية أحدهما بالباطل، وتسمية الآخر بالفاسد،
إذن اختلاف التسمية نشأ عن اختلاف الأحكام.
المسألة السادسة: التقديرات الشرعية، والحجاج:
هذان النوعان من أنواع الحكم الوضعي داخلان ضمن السبب،
بيان ذلك:
أن التقديرات الشرعية هي: إعطاء الموجود حكم المعدوم، أو
إعطاء المعدوم حكم الموجود.
مثال الأول - وهو: إعطاء الموجود حكم المعدوم -: الماء في
حق المريض والخائف.
ومثال الثاني - وهو: إعطاء المعدوم حكم الموجود -: المقتول
خطأ تورث عنه ديته، حيث إنها لا تملك إلا بعد موته، وهي ليست
في ملكه قبل موته، فيُقدر دخوله في ملكه قبل موته حتى تنتقل إلى
ورثته، فقدرنا المعدوم - هنا - موجوداً للضرورة.
وأما الحجاج فهي التي يستند إليها القضاة في الأحكام كالشهود،
والإقرار، واليمين مع النكول، أو مع الشاهد الواحد، فإذا نهضت
تلك الحُجَّة عند القاضي وجب عليه الحكم.
وهذا لو دققت النظر فيه لوجدته يرجع إلى السبب؛ لأن هذه
التقديرات وهذه الحجاج إنما نشأت عن أسبابها، فكانت من قبيل
الأسباب.(1/418)
المسألة السابعة: الأداء، والإعادة، والقضاء:
بعض العلماء جعل تلك الأمور تقسيماً للحكم باعتبار متعلِّقة،
وهو: الفعل؛ لأن هذه الأمور أقسام للفعل الذي تعلق به الحكم.
وجعلها فريق آخر من أنواع الحكم الوضعي.
والحق: أنها داخلة ضمن السبب؛ لأن دخول الوقت سبب
للأداء، وخروجه سبب للقضاء، وبطلان الفعل سبب للإعادة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا.
أما العبادة التي لم يُعيَن الشارع لها وقتاً، فإما أن يكون لها سبب أو لا.
فالعبادة التي لم يعين الشارع لها وقتاً، والتي لها سبب كسجود
السهو سببها قراءة آية السجدة، والتي لا سبب لها، كفعل بعض
الأذكار المطلقة، فهذه العبادة لا توصف بأداء ولا بقضاء.
وأما العبادة التي عين الشارع لها وقتا محدداً، فهي إما أن تقع
قبل وقتها القدر شرعاً، أو في وقتها، أو بعد وقتها.
فإن وقعت قبل وقتها المقدر شرعا، حيث جوَّزه الشارع: فهو
تعجيل مثل إخراج الزكاة قبل تمام الحول، وإخراج زكاة الفطر في
أول شهر رمضان، فهذا الإخراج للزكاة يُسمَّى تعجيلاً؛ لأن وقت
إخراج الزكاة لا يكون إلا بعد مرور الحول، وإخراج زكاة الفطر
يكون في آخر ليلة منه.
أما العبادة التي تقع في وقتها القدر شرعا دون أن تسبق بأداء مختل
فهو أداء.(1/419)
أما العبادة التي تقع في وقتها المقدر شرعاً، ولكن سبقت بأداء
مختل فهو إعادة.
وإن فعلت العبادة بعد وقتها المقدر شرعا فهو القضاء.
وإليك بيان حقيقة كل واحد من تلك الأقسام:
أولاً: تعريف الأداء:
الأداء هو: ما فعل أولاً في وقته المقدَّر له شرعاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما فعل " جنس يشمل الثلاثة كلها: الأداء، والإعادة،
والقضاء.
قولنا: " أولاً " أخرج الإعادة؛ لأنها تفعل ثانياً لخلل في الأول.
قولنا: " في وقته المقدر له " أخرج أمرين:
أولهما: القضاء؛ حيث إنه يفعل بعد الوقت المقدر.
ثانيهما: ما لم يقدر له وقت كالنوافل المطلقة، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فلا يوصف ذلك بأداء ولا قضاء، ولا إعادة.
قولنا: " شرعاً " أي: يجب أن يكون التعيين والتحديد صادراً
من الشارع، وخرج بهذا القيد: ما فعل في وقته المقدر له عقلاً كما
لو قضى الدين عند المطالبة به، فإنه فعل في وقته المقدر له، وهو:
ما يتسع له، ولكن هذا التقدير ليس بالشرع، بل بالعقل، وكذلك
الزكاة لو قدَّر الإمام شهراً معيَّناً مثلاً لإخراجها فيه، - فهو توقيت
عقلي، لا شرعي.
سؤال: هل يشترط وقوع جميع الفعل في وقته المحدد حتى يكون
أداء؟(1/420)
جوابه: لا يشترط هذا، بل لو وقع بعضه في وقته القدر شرعاَ
كركعة من الصلاة مثلاً، فالصحيح أن الجميع أداء؛ لأن الركعة من
الصلاة مشتملة على معظم وغالب ما بعدها، فهو تكرار لها،
فيكون تابعا لها.
أما إذا أدرك أقل من الركعة، فالكل يكون قضاء عند الجمهور،
كما ذكره النووي في ""روضة الطالبين ".
وبعض العلماء يقول: إنه إذا أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج
الوقت، فإن الصلاة تكون أداء، وهذا رأي الحنفية، وكثير من
الحنابلة.
ثانيا: تعريف الإعادة:
الإعادة هي: ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " مما فعل ": جنس يشمل الأداء، والإعادة، والقضاء.
قولنا: " ثانياً ": أخرج الأداء؛ لأنه يفعل أولاً.
قولنا: " في وقت الأداء ": أخرج القضاء؛ لأنه يفعل بعد
خروج وقت الأداء.
قولنا: " لخلل في الأول ": أخرج ما يفعل ثانياً، لكن بدون
خلل في الأول كالمنفرد إذا صلى مرة ثانية مع الجماعة، فإن صلاته
الأولى ليس فيها خلل، فلا توصف الثانية بالإعادة شرعا، بل هي
أداء كالأولى.
وعلى هذا فالإعادة قسم من الأداء، وليست قسيما له؛ لأن الأداء
في الحقيقة اسم لما يقع في الوقت المحدد شرعاً مطلقا، سواء كان(1/421)
سابقاً أو مسبوقاً، أو منفرداً، فإن سبق بأداء مختل سمي إعادة،
وعلى ذلك فكل إعادة أداء، دون العكس.
فيكون فعل العبادة إما أن يكون في وقته المحدد شرعا أو لا.
فإن كان في وقته المجدد شرعاً فهو أداء، أو إعادة.
وإن لم يقع في وقته، بل بعد خروج الوقت فهو قضاء.
ثالثا: تعريف القضاء:
القضاء: ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعا مطلقاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعاً ": أخرج الأداء
والإعادة، لأنهما يفعلان في وقتهما المحدد شرعا كما سبق.
قولنا: " مطلقا " فيه بيان: أن اسم القضاء مخصوص بفعل
العبادة بعد فوات وقته المحدد له شرعاً مطلقاً، أي: سواء كان فوات
الوقت لعذر، أو لغير عذر، فإنه لا فرق في تأخير الواجب عن
وقت الأداء بين أن يكون التأخير بعذر أو لغير عذر، وسواء كان
التأخير مع التمكن من الفعل كالمسافر والمريض يستطيع الصوم مع
السفر والمرض.
أو كان مع عدم التمكن من فعله، إما لمانع شرعي كما في الحيض
والنفاس، لعدم صحة الفعل شرعاً، أو لمانع عقلي كنوم، أو
سهو، أو إغماء، فإنه لا يمكن عقلاً أداء الصلاة من النائم والساهي،
والمغمى عليه " لأنها تفتقر إلى النية والقصد، وذلك محال مع وجود
النوم والإغماء والسهو.(1/422)
رابعا: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف أو مرض آخر في رمضان
فأفطروا، فلما انقضى رمضان صاموا الأيام التي أفطروها، فهل يسمى
فعلهم هذا قضاء أوأداء؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يُسمى قضاء.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لأمرين:
أولهما: إجماع العلماء على أنه إذا صام المسافر والمريض والحائض
بعد زوال عذرهم، فإنه تجب عليهم نية القضاء، لا نية الأداء،
وأي شيء وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء؛ لأنه لو كان أداء لما جاز
أن ينووا القضاء؛ لأنهم - حينئذ - ينوون غير الواجب عليهم.
ثانيهما: أنه روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت:
"كنا نحيض على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ".
وجه الدلالة: أن عائشة - هنا - سمَّت فعل الصوم - بعد انتهاء
الشهر، وبعد زوال الحيض - قضاء، فلو كان أداءً لما سمته باسم
القضاء، والآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا اشتهر بهذه التسمية فلا يمكن أن يطلق عليه بأنه أداء.
المذهب الثاني: أن الحائض إذا فاتها أيام من رمضان، فإنه يجب
عليها أن تصومها بعد رمضان، وصيامها هذا لا يُسمَّى قضاء، وإنما
يُسمَّى أداءً.
دليل هذا المذهب:
أنه لا يجب على الحائض صيام رمضان حال حيضها، بل إن(1/423)
صومها وهي في تلك الحال حرام، ومعلوم: أن فعل الحرام معصية،
ولا يمكن أن تؤمر أن تفعل ما تعصى في فعله، ولو ماتت قبل أن
تتمكن من صيام تلك الأيام التي تركتها لا تكون عاصية بالإجماع.
فلما لم تتمكن الحائض من أن توقع الصيام في وقته المقدَّر شرعا
للعذر - وهو الحيض - فإن فعْلها فيما بعد هو نفس الأداء الذي لم
تتمكن من فعله، وعلى هذا فلا يمكن أن يُسمَّى قضاء.
جوابه:
يجاب عنه بما ورد عن عائشة - رضي اللَّه عنها - من أنها سمَّت
فعل الصوم - بعد انتهاء رمضان - قضاء، كما سبق.
والقضاء لا يمكن أن يطلق عليه أداء ولا العكس.
أما عدم وجوب الأداء أثناء الحيض فلأن التكليف تشريف، وعبادة
لله سبحانه وتعالى، ويمتنع ذلك مع حالتها المستقذرة تلك، والشيء
الذي لم يجب هو الأداء، أما جعل ذلك في الذمة، فهو واجب لا
شك فيه.
أما عدم العصيان إذا تركت الصيام حال الحيض وماتت: فهذا
مرجعه إلى كونها غير مكلفة بفعل الصيام أداء؛ للعذر وهو:
"الحيض "، فإذا زال رجع إليها التكليف، لكن تبقى ذمتها مشغولة
حتى تفعل ما وجب عليها قضاء.
المذهب الثالث: أن المسافر والمريض لا يلزمهما الصوم في شهر
رمضان، وإذا كان الصيام في الشهر لا يلزمهما، ولا يجب عليهما
حال السفر وحال المرض، ثم فعلا الصيام بعد رمضان سمي ذلك
الفعل أداء، وليس بقضاء.(1/424)
ومستند عدم وجوب الصيام على المسافر قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" ليس من البر الصيام في السفر "،
ومستند عدم وجوب الصيام على المريض:
وجود المشقة التي تحصل له عند صومه، والمشقة تجلب التيسير.
وكذا أجمع العلماء على أن من أخر رمضان لسفر أو لمرض من
غير تفريط، ثم مات - بعد ذلك - وقبل القضاء، فإنه لا يكون
عاصياً لتأخيره.
جوابه:
يجاب عنه بأن العلماء قد أجمعوا على أنه إذا صام المسافر والمريض
بعد زوال عذرهما، فإنه تجب عليهما نية القضاء؛ لا نية الأداء،
وما وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء، ولو كان أداء كما زعم
أصحاب هذا المذهب لما نووا القضاء؛ لأن حقيقة الأداء غير حقيقة
القضاء، ولأنه يلزم من ذلك أنهم ينوون غير الواجب عليهم.
أما عدم لزوم الصوم أثناء العذر وهو السفر والمرض، فقد ثبت
نظراً لحالتهما فلا يطلب أداء الصوم وهما في حالتهما تلك، لكن
تبقى ذمتهما مشغولة بالواجب فلا تبرأ إلا بالقضاء؛ لخروج وقت
الأداء.
أما عدم العصيان لما تركا الصيام حال السفر والمرض، فهذا
مرجعه إلى أنهما غير مكلَّفين بفعل الصيام أداءً؛ لعذر السفر
والمرض، وهو من باب الرخص والتيسير ورفع الحرج عن الأمة،
لكن تبقى ذمتهما مشغولة حتى يفعلا ما وجب عليهما قضاء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي - في هذه المسألة - كما هو واضح؛ حيث إن(1/425)
أصحاب المذاهب اتفقوا على أن الحائض والمريض والمسافر إذا أفطروا
في نهار رمضان لعذر الحيض والمرض والسفر، فإنه يجب عليهم
صيام تلك الأيام التي تركوها بعد انتهاء شهر رمضان، ولكن
اختلفوا في تسمية هذا الفعل، فالجمهور يسمونه قضاء؛ لانطباق
حقيقة القضاء عليه، وأصحاب المذهبين الأخيرين يسمونه أداء،
فصار الخلاف في التسمية والتعبير فقط.
خامساً: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟
اتفق العلماء على أن الأداء والإعادة يتعلقان بالمندوب،
واختلفوا في القضاء هل يتعلق بالمندوب؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أن القضاء يتعلق بالمندوب إذا كان له وقت معين؟
بخلاف المندوب المطلق، فلا يتعلق به الأداء، ولا الإعادة، ولا
القضاء.
هذا مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح، وبناء عليه: فإنه إذا
فات المندوب المؤقت: فإنه يقضى مطلقا، كما قال العلماء: إن
قضاء السنة سُنَّة كما أن قضاء الواجب واجب، والقضاء في رتبة
المقضي.
دليل ذلك: القياس على الواجب؛ إذ لا فرق بينهما من هذه
الناحية، ويشملهما حد القضاء.
المذهب الثاني: أن القضاء لا يتعلَّق بالمندوب.
ذهب إلى ذلك الحنفية، وقالوا: يقصر القضاء على الواجب
فقط؛ تنزيلاً عن درجة الواجب بسبب: أن طلبه غير جازم.
واستثنى بعض علماء الحنفية من هذه القاعدة: قضاء السُّنة إذا(1/426)
كانت شديدة التأكد بشروط، فقالوا في فروعهم: إذا فات المصلي
سُنَّة الصبح مع فرضها، فإنه يسن له قضاؤها، بخلاف ما إذا فاتته
السُّنَّة دون الفرض فلا قضاء لها.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف - هنا - لفظي؛ للاتفاق على أن المندوب إذا لم يقضه
المكلف فإنه لا تنشغل الذمة فيه، ولا يطالب به؛ لأن حقيقة المندوب
- كما سبق -: عدم العقاب على تركه.
سادساً: الدليل الموجب للقضاء:
اختلف العلماء في الدليل الموجب للقضاء هل هو أمر جديد،
ودليل مبتدأ، أو هو الأمر الأول الموجب للأداء ينسحب مع الواجب
ويلازمه في الوقت وبعده؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أن وجوب القضاء ثابت بالأمر الأول، فالدليل
الذي أوجب الأداء هو ما أوجب القضاء، ولا يحتاج إلى نص
جديد.
ذهب إلى ذلك عامة الحنفية والمالكية، وكثير من الشافعية،
وجمهور أهل الحديث.
وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الأداء قد كان واجبا مستحقا على المكلَّف في
الوقت المحدد شرعاً، وقد علمنا من قواعد الشرع بالاستقراء أن
الواجب لا يسقط عن المكلف إلا بالأداء، أو بإسقاط من له الحق،
أو بالعجز، ولم يوجد شيء من ذلك، وخروج الوقت ليس مما
يسقط الواحب، فتبقى الذمة مشغولة بهذا الواجب، لا يزول هذا
الشغل إلا بمزيل له، وهو أحد الأمور الثلاثة السابقة - فقط -.(1/427)
الدليل الثاني: القياس على الدين، بيان ذلك:
أن الوقت للمأمور به كالأجل للدين، فكما أن الدين لا يسقط
بترك تأديته في أجله المعين، فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته
المعين، فإنه لا يسقط، بل يجب قضاؤه، ويكون ذلك مستفاداً من
الأمر الأول بدلالة التضمن، لا بدلالة المطابقة.
المذهب الثاني: أن وجوب القضاء ثابت بأمر جديد، ودليل مبتدأ.
ذهب إلى ذلك أكثر المتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لو وجب بالأمر الأول لاقتضاه ذلك الأمر،
ولكان أداءً لا قضاء.
جوابه:
يجاب عنه بأن ذلك ممنوع؛ لأنه إذا فات الوقت بقي الواجب مع
نقص الواجب فيه، وهو الوقت المحدد، فكان إيقاعه بعد الوقت
قضاء، لا أداءً.
الدليل الثاني: قياس الزمان على المكان، بيانه:
أن الأمر لو علق بمكان معين كالأمر بالحج علق بمكان معين،
وهي المناسك المعروفة، فإذا تعذر فعله بهذا المكان وتلك المناسك،
فلا يجوز فعله بمكان آخر.
كذلك الأمر إذا علق بوقت معيَّن، وتعذَّر فعله بهذا الوقت فإنه
يسقط الأمر الأول، ويحتاج إلى أمر آخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسكم الزمان على المكان قياس فاسد؛ لأنه(1/428)
قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين تعلق الأمر بزمان، وبين
تعلقه بمكان من وجهين:
أولهما: أنْ الزمان يتعلق بعضه ببعض، حيث إن الزمان الثاني
تابع للأول، فالواجب الذي لم يفعل في الزمان الأول؛ فإنه
ينسحب هذا الوجوب إلى الزمان الثاني، ثم الثالث، وهكذا،
ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه ولو في آخر العمر.
بخلاف المكان، فإنه لا ينسحب إلى مكان آخر، وما يجوز فعله
في مكان قد لا يجوز فعله في مكان آخر.
ثانيهما: أن المكان لا يفوت، فيمكن الفعل فيه، ولا يعدل إلى
غيره، بخلاف الزمان، فإنه يفوت فوجب القضاء في غيره.
الدليل الثالث: قياس ما بعد الوقت على ما قبل الوقت، بيانه:
إنه كما أنه لا يجب الفعل قبل الوقت؛ لعدم تناول الأمر إياه،
كذلك أن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر، فلا يجب فيه الفعل،
ويحتاج إلى أمر جديد.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا القياس قياس فاسد؛ لأن الكلام في الواجب،
ولا وجوب قبل الوقت.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له ثمرة وفائدة، وهي: جواز
الاستدلال بالأوامر في أداء العبادة على قضائها بناء على المذهب
الأول.
وعدم جواز ذلك بناء على المذهب الثاني.(1/429)
ومن وجب عليه صوم يوم بعينه لأجل نذره فلم يصمه، أو أفسده
هل يجب عليه القضاء أو لا؟
فبناء على المذهب الأول - وهو: أن القضاء بالأمر الأول - فإنه
يجب القضاء بذلك الأمر، وهو الصحيح.
وبناء على المذهب الثاني - وهو: أن القضاء يحتاج إلى أمر
جديد - فإنه لا يجب عليه القضاء؛ لأنه لا يوجد أمر جديد.
وأيضا من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، فإنه يلزمه قضاؤها
بالأمر الأول، وهو الصحيح.
واختلف أصحاب المذهب الثاني على قولين:
القول الأول: أنه لا قضاء عليه؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر
جديد، ولا يوجد أمر.
القول الثاني: أنه يلزمه قضاء تلك الصلاة بعد خروج وقتها،
لورود الأمر الجديد، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"فدين اللَّه أحق أن يقضى".
وبعضهم قال: يجب عليه القضاء بأمر جديد وهو: القياس على
النائم والناسي، لورود الأمر بوجوب القضاء عليهما.(1/430)
المطلب الثاني في الشرط
ويشتمل على ما يلي:
المسألة الأولى: في حقيقة الشرط.
المسألة الثانية: تقسيمات الشرط.
المسألة الثالثة: الفروق بين الشرط والسبب.(1/431)
المسألة الأولى: في حقيقة الشرط:
أولاً: الشرط لغة هو:
إلزام شيء والتزامه في البيع، وجمعه شروط وشرائط.
والشرط - بتحريك الراء -: العلامة، ومنه قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) .
والأصوليون يقولون: إن الشرط في اللغة بمعنى العلامة - مطلقاً -
وهذا فيه تساهل؛ حيث إن الذي هو بمعنى العلامة هو: الشرَط
- بفتح الراء - وليس الشرط الذي هو بتسكين الراء، والذي يعنينا
هو الشرط - بتسكين - الراء - وهو الذي بمعنى الإلزام.
ثانيا: الشرط في الاصطلاح هو:
هو: " ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا
عدم لذاته ".
فمثلاً: الطهارة، فإنه يلزم من عدم الشرط وهو الطهارة عدم
الحكم، وهو صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط وهو
الطهارة وجود الحكم، وهي صحة الصلاة، فقد توجد الطهارة
ويصلي، ولكن قبل دخول الوقت، فهنا لا تصح الصلاة، وقد
توجد الطهارة ويصلي بعد دخول الوقت بدون مانع فتصح الصلاة.
بيان محترزات التعريف:
قولنا: " ما يلزم من عدمه العدم ": أخرج المانع؛ لأن المانع لا
يلزم من عدمه شيء، كالدين في الزكاة، فقد تجب الزكاة مع انتفاء المانع
لوجود الغنى، وقد لا تجب مع انتفاء المانع لعدم بلوغ المال النصاب.(1/433)
قولنا: " ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ": أخرج السبب؛ السبب يلزم من وجوده الوجود، وأخرج المانع، لأن المانع يلزم
من وجوده العدم.
قولنا: " لذاته ": احترزنا به عن مقارنة الشرط وجود السبب،
فيلزم الوجود، أو مقارنة قيام المانع، فيلزم عدم الوجود، لكن لا
لذاته، بل لأمر آخر خارجي، وهو مقارنة السبب، أو قيام المانع.
فمثلاً: تمام الحول في الزكاة يلزم من عدمه عدم وجوب الزكاة،
ولا يلزم من وجوفى هـ وجوب الزكاة " لاحتمال عدم بلوغ النصاب،
ولا يلزم عدم وجوبها " لاحتمال بلوغ المال النصاب.
أما إذا قارن الشرط وجود السبب، فإنه يلزم وجوب الزكاة،
ولكن لا لذات الشرط، بل لوجود السبب.
وإذا كان عليه دين مع تمام الحول، فإنه يلزم منه عدم وجوب
الزكاة، ولكن العدم ثبت نظراً لقيام المانع، لا لذات الشرط.
المسألة الثانية: تقسيمات الشرط:
الشرط ينقسم إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وإليك بيان
ذلك:
التقسيم الأول: ينقسم الشرط باعتبار وصفه إلى أربعة أقسام:
" شرط عقلي "، و " شرط عادي "، و " شرط لغوي "،
و"شرط شرعي ".
أما القسم الأول - وهو: الشرط العقلي - فهو: ما لا يوجد
المشروط ولا يمكن عقلاً بدونه مثل اشتراط الحياة للعلم، فإن العقل(1/434)
يحكم بأن العلم لا يوجد بدون حياة، فإذا انتفت الحياة انتفى العلم،
ولا يلزم من وجود الحياة وجود العلم.
ومثل: اشتراط الفهم في التكليف، فإن العقل يحكم بأن
التكليف لا يوجد بدون فهم الخطاب، فإذا انتفى الفهم انتفى
التكليف.
أما القسم الثاني - وهو: الشرط العادي - فهو: ما يكون شرطاَ
عادة مثل: نصب السلم لصعود السطح، فإن العادة تقضي بأنه لا
يمكن صعود السطح إلا بوجود السلم، أو نحوه مما يقوم مقامه.
أما القسم الثالث - وهو الشرط اللغوي - فهو: ما يذكر بصيغة
التعليق مثل: " إن "، أو إحدى أخواتها مثل: قول الزوج لزوجته:
" إن دخلت الدار فأنت طالق "، فأهل اللغة وضعوا هذا التركيب
ليدل على أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو: الشرط، والآخر
المعلَّق عليه هو: الجزاء.
وهذا ما ذهب إليه كثير من الأصوليين.
وذهب بعض العلماء كابن القيم، والقرافي، وابن السبكي،
والزركشي، وابن القشيري، وابن الحاجب إلى أن الشروط اللغوية
من قبيل الأسباب، لا من قبيل الشروط، وذلك لأنه يتحقق فيها
تعريف السبب؛ حيث يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها
العدم، ففي المثال السابق يلزم من دخول الزوجة الطلاق، ويلزم من
عدم الدخول عدم الطلاق.
أما القسم الرابع - وهو: الشرط الشرعي -: فهو: ما جعله
الشارع شرطا لبعض الأحكام كاشتراط الطهارة لصحة الصلاة، فإن(1/435)
هذا الشرط لم نعرفه من العقل، أو اللغة، أو العادة، وإنما الشارع
هو الذي حكم بأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة.
وهذا الشرط هو المقصود في الأصل - كما ذكر الشاطبي - فإن
حدث التعرض لشرط من الشروط السابقة - كالشرط العقلي
واللغوي والعادي - فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب
الوضع، أو خطاب التكليف، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار
فيدخل تحت قسم الشرط الشرعي.
أنواع الشرط الشرعي:
الشرط الشرعي أنواع: " شرط وجوب "، و " شرط صحة "،.
و" شرط أداء " -
فشرط الوجوب هو: ما يصير الإنسان به مكلَّفاً كالنقاء من الحيض
والنفاس، فإنه شرط في وجوب الصلاة، وبلوغ الدعوة إلى
شخص؛ حيث إنه شرط في وجوب الإيمان عليه.
وشرط الصحة هو: ما جعل وجوده سبباً في حصول الاعتداد
بالفعل وصحته مثل: الطهارة، وستر العورة، واستقبال القِبْلة.
وشرط الأداء هو: حصول شرط الوجوب مع التمكن من إيقاع
الفعل، فيخرج بذلك الغافل، والنائم، والساهي، ونحوهم،
فإنهم غير مكلَّفين بأداء الصلاة مع وجوبها عليهم.
التقسيم الثاني: ينقسم الشرط باعتبار قصد الشارع له وعدم ذلك
إلى قسمين:
القسم الأول: ما قصده الشارع قصداً واضحا.
القسم الثاني: ما ليس للشارع قصد في تحصيله.
أما القسم الأول - وهو: ما قصده الشارع قصداً واضحا - فهو(1/436)
الذي يرجع إلى خطاب التكليف، وهو إما أن يكون مأموراً بتحصيله
كالطهارة للصلاة، واستقبال القِبْلة.
وإما أن يكون منهياً عن تحصيله كنكاح المحلل في مراجعة الزوجة
لزوجها الأول.
أما القسم الثاني - وهو: ما ليس للشارع قصد في تحصيله - فهو
الذي يرجع إلى خطاب الوضع كالحول في الزكاة، فإن إبقاء
النصاب حتى يكمل الحول حتى تجب الزكاة ليس بمطلوب الفعل،
ولا هو مطلوب الترك.
التقسيم الثالث: ينقسم الشرط باعتبار مصدره إلى قسمين:
"شرط شرعي "، و " شرط جعلي ".
أما الشرط الفسرعي فهو: ما كان مصدر اشتراطه الشارع، وهو
الراد من الشرط عند الإطلاق؛ حيث إنه هو المقابل للسبب والمانع،
ومنها: الطهارة لصحة الصلاة، وحولان الحول للزكاة، والإحصان
في الرجم.
أما الشرط الجعلي فهو: ما كان مصدر اشتراطه المكلف؛ حيث
يعتبره ويعلق عليه تصرفاته ومعاملاته، كالاشتراط في البيوع،
والنكاح، والطلاق، والعتق.
والشروط الجعلية مقيدة بحدود شرعية معينة، فليس للشخص أن
يشترط ما شاء لما شاء.
فالشروط المعتبرة والتي سمح للمكلَّف أن يشترطها هي: كل ما
جاء مكملاً لحكمة المشروط، بحيث لا ينافيها بحال من الأحوال،
وهي الشروط الموافقة لمقتضى مشروطاتها في العقود والتصرفات(1/437)
الشرعية، بحيث لا تخالفها ولا تنفي مضمونها مثل: اشتراط
الرهن، أو الكفيل بالدين، واشتراط الصيام في الاعتكاف،
واشتراط الكفاءة في النكاح، واشتراط الحرز في السرقة، ونحو
ذلك، فإن هذه الشروط صحيحة؛ لما فيها من الموافقة الشرعية.
وأما الشروط التي لا تلائم مقصود المشروط ولا مكملاً لحكمته،
بل جاء على الضد من ذلك فهي لا تعتبر شرعاً، أي: أن الشروط
التي تخالف مقتضى المشروطات في العقود والتصرفات الشرعية
وتناقض مدلولاتها تعتبر شروطاً فاسدة، كما إذا اشترط الزوج أن لا
ينفق على زوجته، أو اشترط في عقد البيع عدم الانتفاع بالمبيع.
المسألة الثالثة: الفروق بين الشرط والسبب:
يوجد بين الشرط والسبب فروق، من أهمها:
الفرق الأول: أن الشرط مقارن للحكم غير مفارق له، بخلاف
السبب، فلا تلزم فيه المقارنة فقد يقع تأخير حكم الشيء عن سببه.
الفرق الثاني: أن الشرط يؤثر في الحكم من جهة العدم فقط،
بخلاف السبب، فإنه يؤثر في الحكم من جهة الوجود والعدم، كما
سبق في تعريف كل واحد منهما.
الفرق الثالث: أن الشرط ليس فيه مناسبة في نفسه، بخلاف
السبب، فإنه مناسب في ذاته، فمثلاً النصاب فإنه سبب في وجوب
الزكاة، وهو مشتمل على الغنى في ذاته، بخلاف مرور الحول فإنه
ليس فيه مناسبة في نفسه، وإنما هو مكمل لحكمة الغنى في النصاب،
وذلك بالتمكين من تنمية المال في جميع الحول.(1/438)
المطلب الثالث في المانع
ويشتمل على مسألتين هما:
المسألة الأولى: في حقيقة المانع.
المسألة الثانية: في تقسيمات المانع.(1/439)
المسألة الأولى: حقيقة المانع
أولاً: المانع لغة هو:
الحائل بين الشيئين، يقال: " منعه الأمر "، و " منعته منه "،
فهو ممنوع أي: محروم، والمانع: اسم فاعل من المنع ضد الإعطاء.
ثانيا: المانع في الاصطلاح هو:
" ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم
لذاته ".
شرح التعريف وبيان محترزاته:
الدَّين - مثلاً -: يلزم من وجوده عدم وجود الحكم - وهو:
وجوب الزكاة -، ولا يلزم من عدم الدين وجود الحكم - وهو:
وجوب الزكاة - ولا عدم وجوده: فقد يكون الشخص غير المدين
غنيا يملك النصاب مع حولان الحول، فهنا يوجد الحكم - وهو:
وجوب الزكاة -، وقد يكون الشخص غير المدين فقيراً لم يبلغ المال
الذي عنده النصاب، فهنا لا يوجد الحكم - وهو وجوب الزكاة -.
فقولنا: " ما يلزم من وجوده العدم ": أخرج السبب؛ لأن
السبب يلزم من وجوده وجود الحكم، وأخرج الشرط؛ لأن الشرط
لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم - كما سبق بيانه -.
وقولنا: " ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم ": أخرج الشرط -
أيضاً - لأن الشرط يلزم من عدمه عدم الحكم.
وقولنا: " لذاته " للاحتراز عن مقارنة عدم المانع لوجود سبب
آخر، فإنه يلزم الوجود، ولكن لا لعدم المانع، وإنما لوجود(1/441)
السبب الآخر، مثل: المرتد القاتل لولده، فإن هذا يقتل بالردة وإن
لم يقتل قصاصاً، لأن المانع إنما منع أحد السببين - فقط - وهو:
القصاص، وقد حصل القتل بسبب آخر، وهو: الردة.
المسألة الثانية: تقسيمات المانع:
ينقسم المانع إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة، إليك بيان ذلك:
التقسيم الأول: المانع ينقسم من حيث ارتباطه بالحكم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يمكن اجتماعه مع الطلب.
القسم الثاني: ما لا يمكن اجتماعه مع الطلب أصلاً.
أما القسم الأول - وهو ما يمكن اجتماعه مع الطلب - فهو نوعان:
النوع الأول: ما يرفع أصل الطلب شرعاً، وإن أمكن حصوله
معه عقلاً مثل الحيض بالنسبة للصلاة، حيث إنه يمكن اجتماع الحيض
مع الطلب - وهو طلب الصلاة - عن طريق العقل، ولكن الشارع
اعتبره مانعاً من أصل الطلب بهذه العبادة، ولو صلت الحائض لا
تصح الصلاة منها، بل تأثم بفعل الصلاة.
النوع الثاني: ما لا يرفع أصل الطلب، ولكنه يمنع اللزوم فيه،
ويحوله من طلب جازم إلى مخير، وهذا النوع شيئان:
أولهما: ما يكون منع اللزوم فيه بمعنى التخيير، وذلك كالرق
والأنوثة بالنسبة لصلاة الجماعة، والعيدين، حيث إن الرق والأنوثة
لا يرفعان أصل الطلب بهذه العبادة " حيث لو وقعت تلك الصلاة
منهما لصحت، ولكنهما يرفعان اللزوم والانحتام في هذا الطلب.
ثانيهما: ما كان منع اللزوم له بمعنى رفع الإثم والمؤاخذة من(1/442)
المخالف للأمر كالسفر بالنسبة لقصر الصلاة، وترك الجمعة،
والصيام، فإن السفر لا يرفع أصل الطلب في هذه العبادات، وإنما
يرفع اللزوم فيها فقط، ولذلك فلو فعلها المسافر لصحت منه وأجزأته
ولكنه لا حرج عليه في تركها.
ويقال هذا في كل سبب من أسباب الرخص، فكل واحد من
أسباب الرخص يعتبر مانعاً من اللزوم والحتم، فلا حرج على من
ترك العزيمة للأخذ بالرخصة، هذا القسم الأول.
أما القسم الثاني - وهو: ما لا يمكن اجتماعه مع الطلب أصلاً -
فهو ما يمنع من أصل الطلب جملة عقلاً وشرعاً مثل زوال العقل
بنوم، أو إغماء، أو غفلة، أو جنون، أو نحو ذلك، فإن زوال
العقل يمنع مطالبة النائم، أو المغمى عليه.، أو المجنون بالفعل؟
لأمرين:
أولهما: أنهم لا يفهمون الخطاب، والفهم شرط مهم من شروط
التكليف.
ثانيهما: أن خطاب الشارع إلزام والتزام، ومن زال عقله لا يمكن
إلزامه، فلا يتأتى بالنسبة إليه التزام كما لا يمكن ذلك في البهائم
والجمادات.
التقسيم الثاني: المانع ينقسم باعتبار ما يمنعه من حكم أو سبب
إِلى قسمين: " مانع الحكم "، و " مانع السبب ".
أما القسم الأول - وهو: مانع الحكم - فهو: كل وصف
وجودي ظاهر منضبط لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع تحقق
السبب مثل: الحيض فإنه مانع من وجوب الصلاة مع تحقق السبب(1/443)
وهو: دخول الوقت، فهنا: ترتب على وجود المانع عدم ترتب
المسبب على سببه.
ومثل: الأبوة في منع القصاص من والد لولده، فالحكم الذي
هو القصاص قد وجد سببه وهو: القتل العمد العدوان، وكون
القاتل أباً للمقتول منع من القصاص؛ لأن الزجر المقصود بشرعية
القصاص يعارض حال الأبوة المقتضي للعطف والحنان، بحيث يمنع
ذلك من التفكير في القتل إلا في النادر اليسير، فليس بحاجة إلى
العقوبة الزاجرة في مثل تلك الحالة النادرة.
أنواع مانع الحكم:
يتنوع مانع الحكم إلى أنواع ثلاثة هي:
النوع الأول: مانع يمنع ابتداء الحكم - فقط - دون استمراره مثل:
الإسلام، فإنه يمنع ابتداء السبي، لا يمنع استمراره، فلو أسلم بعد
أن صار مملوكاً فلا ينقطع عنه الرق، وكذا: الحج، فإنه يمنع ابتداء
النكاح حال الإحرام، ولكنه لا يمنع من الدوام على نكاح قبله.
النوع الثاني: مانع يمنع دوام الحكم واستمراره - فقط - دون
ابتداء الحكم مثل الطلاق، فإنه يمنع من الدوام على النكاح الأول،
ولكنه لا يمنع من ابتداء نكاح ثاني.
النوع الثالث: مانع يمنع ابتداء الحكم، ويمنع - أيضاً - استمراره
مثل: الرضاع، فإنه يمنع ابتداء النكاح على امرأة هي أخته من
الرضاع، كما يمنع استمراره إذا طرأ عليه، وكذلك: " الحدث "
فإنه يمنع انعقاد العبادة ابتداء، كما يمنع استمرار صحتها إذا طرأ عليها.
وأما القسم الثاني - وهو: مانع السبب - فهو: كل وصف
يقتضي وجوده حكمة تخل بحكمة السبب.(1/444)
مثل الدين في باب الزكاة، حيث إنه مانع - عندنا - من وجوب
الزكاة، لأن السبب في وجوب الزكاة هو بلوغ النصاب، حيث إنه
يفيد غنى من يملك هذا النصاب، فطلب منه مواساة الفقراء من فضل
ذلك المال، وهذه هي الحكمة، ولكن الدين في المال لم يدع فضلاً
يواسي به الفقير، لأن النصاب هذا قد صار مشغولا بحقوق
الغرماء، فهنا قد أخل الدين بحكمة السبب؛ لأنه ليس مع الدين
استغناء، والإخلال بالحكمة يسقط العلية وهي: الزكاة.
أي: أن حكمة الدين هي براءة الذمة، وهي لا شك مخلة
بحكمة النصاب التي هي مواساة الفقراء، فكانت رعاية براءة الذمة
أوْلى من رعاية مواساة الفقراء، لأمرين:
أولهما: أن فيها البداية بالنفس، وهي ألزم ما يكون.
ئانيهما: أنه إذا ازدحم حقان على مال واحد قدم أقواهما، ولا
شك أن حق الغرماء أقوى من حق الفقراء، حيث إن المستحق إذا
تعين ترجح على مستحق لم يتعين.
وذهب بعض الشافعية إلى أن الدين لا يمنع من الزكاة لاستغنائه بما
في يده، وتعلق الدين بذمته.
التقسيم الثالث: المانع ينقسم من حيث ارتباطه بخطاب الشارع
إلى قسمين: " ما يكون داخلاً تحت خطاب التكليف "، و " ما
يكون داخلاً تحت خطاب الوضع ".
أما القسم الأول - وهو: ما يكون داخلاً تحت خطاب التكليف -
فهو: يشمل المأمور به، والمنهي عنه، والمخير فيه والمأذون فيه،
مثال المأمور به: الإسلام، حيث إنه مأمور به، وهو المانع من
انتهاك حرمة الدم والعرض إلا بحقهما.(1/445)
ومثال المنهي عنه: الكفر، فإنه مانع من صحة العبادات.
ومثال المخير فيه: الاستدانة التي هي مانعة من انتهاض سبب
وجوب الزكاة، وإن كان النصاب موجوداً.
أما القسم الثاني - وهو: ما يكون داخلاً تحت خطاب الوضع -
فهو: الذي ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع، ولا
في عدم تحصيله، فإن الشخص المدين ليس مخاطبا برفع الدين عن
نفسه إذا كان عنده نصاب لتجب الزكاة عليه، كما أن مالك النصاب
غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه زكاة النصاب؛ لأن المانع
من خطاب الوضع، فلا يكون مأموراً به ولا منهيا عنه.(1/446)
المطلب الرابع في العزيمة والرخصة
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: في تعريف العزيمة.
المسألة الثانية: في تعريف الرخصة.
المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي،
أو من أقسام الحكم الوضعي؟
المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة.
المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟
المسألة السادسة: حكم الرخصة.(1/447)
المسألة الأولى: في تعريف العزيمة:
أولاً: العزيمة لغة:
مشتقة من العزم، وهو القصد المؤكد، ومنه قوله تعالى
(فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) ، أي: قصداً بليغا متأكداً في العصيان.
وعزائم اللَّه: فرائضه التي أوجبها اللَّه وأمرنا بها.
وأولوا العزم من الرسل: هم الذين عزموا على إمضاء أمر الله
فيما عهد إليهم، وسموا بذلك لتأكد قصدهم في طلب الحق.
ثانيا: تعريف العزيمة اصطلاحا هو:
" الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح "،
وهو أقرب تعريفات العلماء للعزيمة إلى الصواب.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " الحكم الثابت ": أخرج الحكم غير الثابت كالمنسوخ،
فلا يسمى عزيمة؛ حيث إنه لم يبق مشروعا أصلاً.
وهذه العبارة وهي: " الحكم الثابت " عام وشامل لجميع الأحكام
التكليفية؛ لأن كلًّا منها حكم ثابت.
قولنا: " بدليل شرعي ": أخرج ما ثبت بدليل عقلي، فإن ذلك
لا يستعمل فيه العزيمة.
قولنا: " خال عن معارض ": أخرج ما ثبت بدليل شرعي،
ولكنه معارض بدليل مساو، أو دليل راجح؛ لأنه إن كان المعارض
مساويا لزم الوقف، وحينئذِ يجب طلب المرجح الخارجي.(1/449)
وإن كان المعارض راجحاً، فإنه يجب العمل بمقتضاه، وتنتفي
العزيمة.
قولنا: " راجح ": أخرج الرخصة؛ لأن الرخصة حكم ثابت
على خلاف الدليل لمعارض راجح وهو العذر - فمثلاً: " تحريم
الميتة " حكم ثابت من غير مخالفة دليل شرعي، فإذا وجدت
المخمصة حصل المخالف لدليل التحريم، وهو قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ،
وهو راجح على دليل التحريم، وهو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ،
وذلك لحفظ النفس، فجاز الأكل من الميتة وحصلت الرخصة؛ لأن
مصلحة إحياء النفس، والمحافظة عليها مقدمة على مفسدة الميتة وما
فيها من الخبث.
***
المسألة الثانية: في تعريف الرخصة:
أولاً: الرخصة لغة:
مشتقة من الرخص، وهو: اليسر والسهولة، يقال: " رخص
لنا الشرع في كذا ": إذا يسَّره وسهَّله علينا، وهو - أيضا - مشتق
من اللين والمسامحة.
ثانيا: الرخصة اصطلاحا هي:
الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.
وهذا التعريف هو ما اخترته في كتابي: " الرخص الشرعية
وإثباتها بالقياس " من أكثر من عشرة تعريفات له.(1/450)
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنما: " الحكم ": جنس يشمل العزيمة والرخصة.
قولنا: " الثابت ": يوضح أنه لا بد من دليل على الرخصة،
فإن لم تثبت الرخصة بدليل لم يجز الإقدام والعمل بها، وإلا لزم
ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، وهذا باطل.
قولنا: " على خلاف الدليل ": يشمل الدليل الخاص، وهو ما
يقتضي الحرمة والوجوب والندب، كما يشمل الدليل العام كدليل
الأصل في نحو قولهم: " الأصل كذا "، والأصل من الأدلة
الشرعية.
وهذه العبارة - أعني: " على خلاف الدليل - أخرجت أمورا
هي:
الأول: العزيمة؛ لأنها على وفق الدليل، لا على خلافه.
الثاني: الأحكام الثابتة على وفقِ الدليل مثل إباحة الأكل والشرب
والنوم، حيث إنه لم يوجد دليل على منع هذه الأشياء حتى تكون
إباحتها ثابتة على خلافه، فلا تكون رخصة وإن وجد فيها نوع من
اليسر والسهولة.
الثالث: الحكم الثابت بدليل ناسخ لحكم ثبت بمنسوخ، لأن
المنسوخ لا يسمى دليلاً مثل: إيجاب ثبات الواحد من المسلمين أمام
اثنين من الكفار في الحرب، فإنه ثبت بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ،
وهذا الدليل ناسخ لوجوب ثبات الواحد أمام العشرة،
فإيجاب ثبات الواحد أمام الاثنين لا يعتبر رخصة؛ لأنه لم يثبت
على خلاف الدليل.(1/451)
الرابع: الحكم الثابت بدليل راجح في مقابلة حكم ثبت بمرجوح،
فإن المرجوح لا يسمى دليلاً، وحينئذ فالحكم الثابت بالدليل الراجح
لا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل.
الخامس: الأحكام التي كانت على الأمم السابقة ثم وضعت عنا
كالإصر - وهو: الحمل الثقيل الذي يأصر صاحبه فيلاقي في تحمله
أشد المشقة - وكالأغلال - وهي: الأعمال الشاقة المغلظة - فإن هذا
الوضع لا يسمى رخصة حقيقية؛ لأنها لم تخالف دليلاً من الأدلة،
وإن كان بعضهم يسميها رخصة مجازية؛ لما في ذلك من التخفيف
واليسر عند مقارنة حالنا بحالهم، كما قال الخبازي، والنسفي،
وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر بشرح
روضة الناظر "، و " الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس " فارجع
إليهما إن شئت.
قولنا: " لعذر ": المراد بالعذر: المشقة الشاملة للضرورة والحاجة.
أي: أن العذر يشمل الاضطرار من أكل الميتة ونحوها، ويشمل
أحكام السفر والمرض ونحوه، وكذلك بعض أنواع العقود من
السلم، والمساقاة، والإجارة، والقراض، والعرايا، ونحو ذلك مما
يخالف القياس والقواعد المقررة.
واشترط الشاطبي للعذر أن يكون شاقاً، حيث قال في تعريفه:
" الرخصة: ما شرع بعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع
مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".
والحق أن هذا الشرط غير صحيح؛ لأننا لو اشترطناه في العذر
للزم من ذلك خروج أكثر الرخص التي كانت كالسلم، والمساقاة،
والقراض.(1/452)
والمانع الشرعي لا يدخل في العذر كالحيض والنفاس؛ لأن
المشروعية لا تتحقق معه، ومن هنا لا يسمى إسقاط الصلاة عن
الحائض والنفساء رخصة؛ لأنهما مانعان من المشروعية كما قلنا في
مبحث المانع.
***
المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي
أو من أقسام الحكم الوضعي؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما من أقسام الحكم الوضعي.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والغزالي،
والشاطبي، وابن قدامة، والأنصاري.
وهو الصحيح عندي؛ لأمرين:
أولهما: أن الرخصة في حقيقة أمرها هي وضع الشارع وصفا
معيناً سببا في التخفيف، والعزيمة هي: اعتبار مجاري العادات سبباَ
للأخذ بالأحكام الأصلية العامة، والسبب حكم وضعي.
ثانيهما: أن اعتبار كل من السفر والمرض والضرورة أو غيرها
أسبابا للترخص، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة، كل ذلك
- لو فكرنا فيه - لوجدنا أنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع
وجعل واعتبار، وهذه كلها أحكام وضعية، وكانت من أحكام
الحكم الوضعي.
المذهب الثاني: أن العزيمة والرخصة من أقسام الحكم التكليفي.(1/453)
ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، وتاج الدين ابن السبكي، والعضد
والزركشي.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العزيمة والرخصة
يرجعان في الحقيقة إلى الاقتضاء والتخيير، فالعزيمة تحمل معنى
الاقتضاء، والرخصة تحمل معنى التخيير، فهما من صفات الأحكام
التكليفية.
أي: أن كلًّا من تلك الأحكام إما أن يكون عزيمة ومطلوبا، وإما
أن يكون رخصة ومخيراً، ولا يخرجان عن ذلك فكانا من الأحكام
التكليفية؛ لكونهما اسمين لما طلبه الشارع، أو أباحه على وجه
العموم، والطلب والإباحة حكم تكليفي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن التصاق الرخصة والعزيمة بالحكم الوضعي أقوى
من التصاقهما بالحكم التكليفي، وهذا لا يخفى على المدقق في
حقيقتهما، بيان ذلك:
أن الرخصة ترجع في الحقيقة إلى جعل الأحوال الطارئة غير
الاعتيادية أسباباً للتخفيف عن المكلَّفين؛ لأن الحكم المشروع فيها هو
جعل الضرورة أو الإكراه سببا في إباحة المحظور، وطروء العذر سببا
في التخفيف بترك الواجب، وهكذا فإن ذلك وأمثاله - في الحقيقة -
هي وضع أسباب لمسببات، والسبب من أنواع الحكم الوضعي.
وإذا دققت في العزيمة وجدتها ترجع إلى جعل الشارع الأحوال
العادية للمكلفين سبباً لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم.(1/454)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي يرجع إلى النظر إلى كل من
الرخصة والعزيمة، فاختلف الفريقان بحسب هذا النظر.
فمن نظر إلى أن كلًّا من الرخصة والعزيمة متصفة بالوجوب، أو
الندب، أو الإباحة، وأنه يوجد في العزيمة معنى الاقتضاء، ويوجد
في الرخصة معنى التخيير، فإنه عدهما من الأحكام التكليفية.
ومن نظر إلى أن الرخصة - في الحقيقة - هي وضع الشارع وصفاَ
معيناً سبباً في التخفيف، وأن العزيمة - في الحقيقة - هي: جعل
الشارع الأحوال العادية للمكلفين سببا لبقاء الأحكام الأصلية
واستمرارها في حقهم، فإنه عدَّهما من الأحكام التكليفية؛ لأنه
اعتبر السبب، والسبب من الأحكام الوضعية.
فاختلفت أنظار كل من الفريقين لاختلاف المنظور إليه، فكان هذا
الخلاف خلافا لفظيا. في المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة:
الرخصة تنقسم إلى عدة أقسام هي كما يلي:
القسم الأول: رخصة واجبة، أي: يجب الأخذ بالرخصة، فإن
امتنع عن ذلك، ثم مات، أو لحقه ضرر، فإنه يأثم بذلك، ومن
أمثلة ذلك:
1 - أكل الميتة للمضطر، وقلنا ذلك؛ لأنه حكم ثابت على
خلاف الدليل وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) لعذر،
وهو الاضطرار.
- 455 -(1/455)
2 - شرب الخمر لمن غص بلقمة، وخشي علي نفسه الهلاك،
ولم يجد ما يسيغها إلا به، وقلنا ذلك لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) .
وجه الدلالة: أنه لو لم يدفع هذه الغصة بجرعة من الخمر، ثم
مات، لكان قاتلاً لنفسه، لذلك يجب عليه شرب الخمر لإساغة
هذه اللقمة؛ إبقاء لحياته.
3 - التيمم للمريض، أو الذي به جراحة مع القدرة على
استعمال الماء، وقلنا ذلك لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ،
وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، حيث إن المريض، أو
من به جراحة لو استعمل الماء لكان مؤديا بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه
يحتمل احتمالاً راجحاً أن المرض يتزايد، والجراحة تتسع باستعماله
لهذا الماء، فلذلك أوجبنا عليه التيمم إبقاء على نفسه.
القسم الثاني: رخصة مندوبة، أي: إن أخذ بتلك الرخصة فله
أجر.
ومن أمثلة ذلك:
1 - قصر الصلاة الرباعية للمسافر، وقلنا ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
2 - الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر، فإنه رخصة مندوبة،
وقلنا ذلك لورود الأمر به مع ذكر العلَّة، وهي: أن شدة الحر من
فيح جهنم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -:
"ابردواً فإن شدة الحر من فيح جهنم ".
القسم الثالث: رخصة مباحة، ومن أمثلة ذلك:
1 - العرايا، وهي: بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله(1/456)
من التمر خرصاً فيما دون خمسة أوسق، فالقياس: عدم جواز مثل
هذا البيع؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص الشارع في
العرايا للحاجة إليها.
2 - السلم وهو: اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً،
وفي المثمن آجلاً، فالقياس: عدم جواز ذلك؛ لأنه بيع معدومِ،
وبيع المعدوم منهي عنه؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص
الشارع في السلم لحاجة الناس إليه.
3 - الإجارة، وهي: تمليك المنافع بعوض، والأصل: عدم
جواز الإجارة؛ لما فيها من الغرر والجهالة، ولكن رخص الشارع
في الإجارة لحاجة الناس.
4 - التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره على ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان،
فإن هذا يعتبر من الرخص المباحة؛ حيث إن الدليل على وجوب
الإيمان قائم، وحرمة التلفظ بالكفر قائمة، وإنما أبيح التلفظ بكلمة
الكفر حالة الإكراه - فقط - مراعاة لحق نفسه؛ حيث يفوت ذلك
الحق عند الامتناع صورة ومعنى بتخريب بدنه، وإزهاق روحه، ثم
إن إجراء كلمة الكفر على اللسان لا يوجب خللاً في الإسلام؛ لأن
بقاء الإسلام ببقاء العقيدة، وأنها لا تفوت بهذا.
لكن لو صبر وامتنع عن التلفظ بكلمة الكفر فإنه يكون آخذاً
بالعزيمة وهو أفضل؛ حيث إنه إذا صبر وبذل نفسه في دين اللَّه وقتل
وهو صابر محتسب، فإن فعله هذا أفضل وأوْلى، يدل على ذلك ما
ورد من أن مسيلمة الكذاب قال لرجل مسلم: أتشهد أن محمداً
رسول اللَّه؛ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: لا
أدري ما تقول فقتله، وقال لآخر: أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؛(1/457)
قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: نعم، فخلى
سبيله، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أما الأول فقد أتاه اللَّه أجره مرتين، وأما الآخر فقد أخذ برخصة اللَّه فلا إثم عليه ".
5 - رؤية الطبيب لعورة الرجل أو المرأة عند الحاجة.
فالدليل قائم على تحريم النظر إلى عورة المرأة والرجل، ولكن إذا
احتاج أي واحد منهما إلى طبيب لمعالجة، أو ولادة، فقد أبيح ذلك
رخصة، رفعاً للضرر الذي يلحقهما إذا لم يتم معالجتهما.
6 - الجمع بين الصلاتين في السفر، فهذا من الرخص المباحة،
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جميعاً.
7 - تعجيل الزكاة قبل تمام الحول؛ حيث رخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للعباس - رضي اللَّه عنه - في تعجيل الزكاة قبل أن تحل.
8 - النظر إلى المخطوبة؛ حيث ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة ابن شعبة - لما علم أنه خطب امرأة -:
" انظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ".
القسم الرابع: رخصة خلاف أَوْلى، أي: أن ترك الأخذ
بالرخصة أوْلى وأفضل من فجلها، ومن أمثلة ذلك:
1 - الإفطار في رمضان للمسافر الذي لا يشق عليه الصيام ولا
يتضرر به، وقلنا: إنه رخصة خلاف الأولى؛ لقوله تعالى: (وأن
تصوموا خير لكم) ، ولما روي عن أنس، وعثمان بن أبي العاص
الثقفي - رضي اللَّه عنهما - أنهما قالا: " الصوم في السفر أفضل
لمن قدر عليه ".(1/458)
2 - التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره عليه قد سبق أن ذلك خلاف
الأولى، لأن الأولى والأفضل عدم التلفظ بكلمة الكفر.
3 - المسح على الخفين، رخصة خلاف الأوْلى؛ لأن الأَوْلى
والأفضل غسل الرجلين.
القسم الخامس: الرخصة المكروهة، ومن أمثلته:
1 - السفر للترخص فقط، أي: يسافر لأجل أن يفطر أو يقصر،
وليس له غرض إلا ذلك، فهذا له أن يفطر ويقصر رخصة، ولكن
هذه الرخصة مكروهة، لأنه ضيع وقته بلا فائدة.
2 - غسل الخف بدلاً من مسحه، فهذا يعتبر من الرخص
المكروهة؛ لأنه قد يفسد ماله، ومع ذلك فهو مجزئ؛ لأنه مسح
وهذه الأقسام، والأمثلة التي أوردتها عليها خالف فيها بعض
العلماء، وذكروا أدلة على مخالفتهم، وأجبت عنها، فراجع ذلك
- إن شئت - مع تفصيلات أخرى في كتابي: " الرخص الشرعية
وإثباتها بالقياس ".
كوفي بئرث
المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الأفضل الأخذ بالعزيمة وترجيحها.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن العزيمة هي الأصل المقطوع به،
الذي لا يختلف فيه، أما الرخصة فسببها ظني وهو: المشقة؟
حيث إن مقدار(1/459)
المشقة الذي ثبت الترخص من أجلها غير منضبط؛ لأنها تتفاوت
بحسب الأشخاص والأحوال.
الدليل الثاني: أن العزيمة عامة وشاملة لجميع المكلَّفين، أما
الرخصة فهي خاصة لبعض المكلَّفين؛ حيث إنها ترجع إلى حالة
جزئية بحسب بعض المكلَّفين، ممن له عذر، أو بحسب بعض
الأحوال والأوقات.
الدليل الثالث: أن الأخذ بالرخص قد يصبح ذريعة ووسيلة إلى
انحلاك العزائم في التعبد، بخلاف الأخذ بالعزائم فإنه يعوِّد على
الثبات في التعبد والأخذ بالحزم في الأمور.
المذهب الثاني: أن الأفضل الأخذ بالرخصة.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الرخصة مقطوع بها، أما وجود الظن في سببها
فلا يؤثر؛ لأن الشارع أوجب العمل بالظن كما أوجب العمل
بالقطع.
الدليل الثاني: أن النصوص الدالة على رفع الحرج عن هذه الأمة
قد بلغت درجة القطع مثل قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ،
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُخَيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فالشارع الحكيم قد قصد السهولة واليسر على المكلَّفين مما يدل على أن الأخذ بالرخصة مقدم على الأخذ بالعزيمة.
الدليل الثالث: أن ترك الترخص مع وجود السبب قد يؤدي إلى
الانقطاع عن العمل والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة(1/460)
وترك الدوام عليها؛ وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ترك الترخص في نصوص كثيرة منها: قوله:
" خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لن يمل حتى تملوا "،
ونهى رسول اللَّه عن صوم الوصال، وعن الصيام في السفر.
هذه أهم أدلة الفريقين.
بيان القول الحق:
والحق عندي - والله أعلم -: أنه لا تفضل الرخصة على
العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة؛ وذلك لأن سبب الرخصة وهو
العذر - من مشقة، وحاجة، وضرورة - لا ضابط له معين واضح
جلي يتساوى فيه جميع المكلَّفين، فالعذر من مشقة وحاجة وضرورة
أمر إضافي نسبي، لا أصلي، فكل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها
ما لم يجد مانعا شرعيا يمنعه عن الأخذ بها، وهو داخل تحت قاعدة
" المشقة تجلب التيسير "، فالمشقة والكلفة التي يجدها المكلف عن
الإتيان بالحكم الشرعي الأصلي تكون سبباً شرعيا للتخفيف والتسهيل.
وهو أيضاً داخل في معنى قاعدة: " إذا ضاق الأمر اتسع "
قال ابن أبي هريرة: " وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت
اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت "، فالحركة القليلة في الصلاة لما
اضطر إليها المكلف ويجد مشقة في تركها قد سومح فيها، والحركة
الكثيرة فيها لما لم تكن به حاجة لم يسامح بها، وكذا قليل دم
البراغيث يسامح به، دون كثيره.
وقلنا: إن كل مكلَّف يعتبر فقيه نفسه، هذا من حيث الجملة؛ العذر من مشقة، أو ضرورة، أو حاجة تختلف بحسب الأزمان
والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل
المشاق على حد سواء، فمثلاً: لو أصاب " زيداً " من المكلَّفين(1/461)
مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب
نفس المرض " عمراً "، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة مشروعة
بالنسبة لعمرو، دون " زيد ".
وكذلك من كان من المضطرين معتاد على الصبر على الجوع، ولا
تختل حالته بسببه، فإنه لا يرخص له في أكل الميتة، بخلاف
الشخص الذي لا يستطيع الصبر على الجوع، فهذا يرخص له في
أكل الميتة؛ لأنه يخشى عليه من الهلاك، أو إلحاق ضرر به.
فعرفنا أن سبب الرخصة وهو العذر من مشقة، وضرر، وحاجة
ليس له ضابط معين، بل هو أمر إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب،
فهو راجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف وإلى
اجتهاده في ذلك بحسب طاقته الخاصة.
ثم إنه ينبغي للمكلَّف أن يحتاط في اجتناب الرخص على حسب
الإمكان، بحيث لا يفعل شيئاً مرخصا فيه إلا بعد التأكد التام أنه
مضطر إليه.
أما تتبع الرخص لغرض التخفيف والتهرب عن كامل التكاليف
فهذا غير جائز.
***
المسألة السادسة: حكم الرخصة:
الرخصة قد تكون مباحة، وقد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة،
وقد سبق بيان ذلك في أقسام الرخصة، وهذا مذهب الجمهور.
ولكن الشاطبي - رحمه اللَّه - ذكر أن حكمها: الإباحة مطلقا،
مستدلا على ذلك بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) .(1/462)
حيث إن هاتين الآيتين وغيرهما مما في معناهما قد دلَّت على رفع الإثم والحرج، ولم يرد فيها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل الذي ورد نفي الإثم والمؤاخذة على من ترك العزيمة.
الدليل الثاني: أن الرخص لو كانت مأموراً بها لكانت عزائم
لا رخصا، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين
متنافيين.
الدليل الثالث: أن الرخصة لغة التيسير والسهولة، ولا يستقيم
ذلك إلا إذا كان حكم الرخصة الإباحة لا غير.
بيان نوع الخلاف:
قلت: وفهم بعض الباحثين مما ذكره الشاطبي أن رأيه يخالف رأي
الجمهور غير صحيح؛ لأن رأيه يطابق ما ذكره الجمهور تمام المطابقة؟
حيث إن الجمهور أيضا يقولون بأن حكم الرخصة هو: الإباحة
مطلقا؛ لأن معناها التيسير والسهولة، وذلك بحصول الجواز للفعل
أو الترك، يرخص في الحرام بالإذن في فعله، وبالواجب بالإذن في
تركه، أما وصف الرخصة بالوجوب أو الندب أو غيرهما، فإنه أمر
زائد على معنى الرخصة، حيث يؤخذ من أدلة أخرى، ولهذا اقتصر
الكتاب العزيز على مجرد نفي الإثم والجناح، فعلمنا من ذلك الجواز
فقط، وقد صرَّح بذلك كثير من العلماء كالغزالي، وتاج الدين ابن
السبكي، والزركشي، والآمدي، وقد درست هذه المسألة في
كتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت.
-------------
هذا آخر المجلد الأول من كتاب " المهذب في علم أصول الفقه المقارن "
لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
حفظه الله ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثاني إن شاء الله
وأوله: " أدلة الأحكام الشرعية "، وهو الباب الثالث(1/463)
المجلد الثاني(2/464)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب الثالث في أدلة الأحكام الشرعية
إن الأحكام الشرعية السابقة - من وجوب، وندب، وإباحة،
وكراهة، وتحريم، وسبب، وشرط، ومانع،، وصحة وفساد، وعزيمة،
ورخصة، وأداء، وإعادة، وقضاء - لا يمكن أن تثبت ويعمل بها إلا
بدليل شرعي متفق عليه إجمالاً، أو مختلف فيه، لذلك عقدنا هذا
الباب بعد ذكرنا للأحكام الشرعية: التكليفية والوضعية من باب ذكر
الأثر، ثم ذكر المؤثر.
وللكلام عن الأدلة الشرعية بالتفصيل لا بد من عقد تمهيد، وفصلين:
أما التمهيد فهو في تعريف الدليل، وشموله للقطعي والظني.
أما الفصلان فهما:
الفصل الأول: في الأدلة المتفق عليها إجمالاً.
الفصل الثاني: في الأدلة المختلف فيها.(2/465)
التمهيد في تعريف الدليل، وشموله للقطعي والظني
ويشتمل على المطلبين التاليين:
المطلب الأول: تعريف الدليل.
المطلب الثاني: هل الدليل شامل للقطعي والظني؛(2/467)
المطلب الأول في تعريف الدليل
أولاً: الدليل لغة هو:
المرشد إلى المطلوب، ومنه: دليل القافلة، حيث إنه مرشدهم
إلى الطريق، وهو عام للناصب، والذاكر، وما به الإرشاد.
ثانيا: الدليل اصطلاحا هو:
ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
المراد بقولنا: " ما " اسم موصول، وهو راجع إلى شيء،
والتقدير: " الشيء الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه.. ".
وأتى بلفظ: " ما يمكن التوصل " للاحتراز عن التوصل بالفعل.
أى: أن ذكر الإمكَان في التعريف للتنبيه على أن الدليل من حيث
هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل، بل يكفي إمكان التوصل.
فالدليل هو الذي يصح أن يستدل به، ويسترشد به، ويتوصل به
إلى المطلوب، وإن لم يتوصل به أحد، ولو كان اللَّه عَزَّ وجَل خلق
جماداً، ولم يستدل به أحد على أن له محدثا: لكان دليلاً وإن لم
يستدل به أحد، فالآية والحديث تسمى أدلة وإن لم يستدل بهما
أحد، فالدليل دليل لنفسه وإن لم يستدل به.(2/469)
ولو قلنا: " ما توصلنا بصحيح النظر فيه إلى مطلوب " للزم من
ذلك خروج كل دليل لم ينظر فيه أحد.
والمراد بقولنا: " بصحيح النظر ": بيان وجه دلالة هذا الدليل
على المدلول.
والنظر هو: الفكر في حال المنظور فيه.
وخرج بهذه العبارة: النظر الفاسد؛ لأن النظر الفاسد لا يمكن أن
يتوصل به إلى مطلوب خبري؛ لأنه لا يصلح أن يكون آلة للتوصل
إلى شيء.
وقولنا: " مطلوب خبري " أي: ما يخبر به، وهو التصديق،
فيكون المطلوب التصوري خارجا عن هذا التعريف مثل: الأحوال
الشارحة، والحدود، والرسوم.
والمراد بالوصول إلى ذلك المطلوب الخبري: علمه، أو ظنه.
فعلى هذا: يكون الدليل عاماً وشاملاً لما يفيد القطع، والظن.(2/470)
المطلب الثاني في هل الدليل شامل للقطعي والظني؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الدليل عام وشامل لما يفيد القطع، ولما يفيد
الظن.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح عندي؛ لذلك عرفنا الدليل بما يعم القطعي والظني
كما سبق.
ودل على ذلك أمور ثلاثة:
الأول: أن حقيقة الدليل هي: ما أرشد إلى الشيء المطلوب،
وإذا كان الأمر كذلك فقد يرشدك مرة إلى العلم، ومرة إلى الظن،
وعلى هذا فيستحق اسم الدليل في الحالين.
الثاني: أن اللَّه عَزَّ وجَلَّ قد أوجب العمل بما يفيد الظن كما
أوجب العمل بما يفيد القطع، ولم يفرق بينهما في ذلك، فلزم أن
يكون ما يفيد الظن دليلاً، كالذي يفيد القطع.
الثالث: أن العرب لم تفرق - في كلامها - بين ما يوجب العلم
وبين ما يوجب الظن في إطلاق اسم الدليل، فلزم من ذلك التسوية
بينهما.(2/471)
المذهب الثاني: أن الدليل اسم خاص لما يفيد القطع، أما ما يفيد
الظن فيسمى أمارة.
وذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم: الغزالي، والآمدي،
وفخر الدين الرازي، والقرافي، وابن عقيل، والطوفي.
وقالوا: إن هذا اصطلاح لنا لإعطاء كل لفظ ما يفيده، ولا
مشاحة ولا حجر في الاصطلاح، ولا يلزم من كون العرب
لا تعرفه: منعه عرفاً.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الاصطلاح لكم في التفريق بينهما منع منه
أمور:
أولها: أننا لما نظرنا إلى حقيقة الدليل وجدنا أنها لم تفرق بينهما.
ثانيهما: أن الشارع لم يفرق بينهما في العمل.
ثالثها: أن العرب لم تفرق بينهما في كلامها.
الجواب الثاني: أن هذا الاصطلاح في التفريق بينهما يمكن أن يقبل
لو كان معمولاً به، ولكن - بعد تتبع واستقراء - كتب أصحاب
المذهب الثاني وجدناهم لا يلتزمون بهذا الاصطلاح، حيث إنهم
يسمون ما يفيد الظن دليلاً، ولا يفرقون بينه وبين ما يفيد القطع في
الإطلاق.
ولهذا قلت في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين ": إن
الخلاف لفظي لا ثمرة له.
تنبيه: الدليل يطلق على البرهان، والأمارة، والآية، والحُجَّة،
والبيِّنة؛ لأنها - كلها - ترشدنا إلى مطلوب خبري.(2/472)
الفصل الأول في الأدلة المتفق عليها إجمالاًَ
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: في الدليل الأول وهو: القرآن.
المبحث الثاني: في الدليل الثاني وهو: السُّنَّة.
المبحث الثالث.: في الدليل الثالث وهو: الإجماع.
المبحث الرابع: في الدليل الرابع وهو: القياس(2/473)
المبحث الأول في الدليل الأول من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الكتاب
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف القرآن.
المطلب الثاني: في القراءة غير المتواترة " الشاذة ".
المطلب الثالث: وجود المجاز في القرآن.
المطلب الرابع: هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية؟
المطلب الخامس: في المحكم والمتشابه.
المطلب السادس: هل يوجد في القرآن مشترك لفظي؟
المطلب السابع: في النسخ.(2/475)
المطلب الأول في تعريف القرآن
أولاً: القرآن لغة:
مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، قال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يُقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي: يقطع الليل قراءة للقرآن.
وقال تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أي:
قراءة الفجر.
ويُسمَّى المقروء قراءة عند العرب من باب تسمية المفعول باسم
المصدر كتسميتهم المشروب شربا، والمكتوب كتابا، وهكذا.
ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار
القرآن اسما لكلام اللَّه عَزَّ وجَلَّ.
ثانيا: القرآن اصطلاحاً هو:
" الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه، أو أقل منها المتعبد بتلاوتها،.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " الكلام " جنس يشمل كل كلام سواء كان من اللَّه، أو
من البشر، وسواء كان عربيا كالقرآن، أو أعجميا كالتوراة،
والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم.(2/477)
قولنا: " المنزل " أي: الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيه بألفاظه
ومعانيه، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) .
وخرج بلفظ: " المنزل " كلام البشر؛ حيث إنه لم ينزل.
قولنا: " للإعجاز " قيد أخرج الأحاديث كلها، سواء كانت
أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية، وخرج به - أيضا - التوراة،
والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، فإن هذه لم يقصد منها
الإعجاز.
والإعجاز هو: قصد إظهار صدق دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسالة عن اللَّه تعالى.
قولنا: " بسورة منه، أو أقل منها " لبيان أن أي سورة من سور
القرآن ولو كانت قصيرة، كسورة الإخلاص، أو أقل منها يحصل
بها الإعجاز، فلا يستطيع أحد مهما كان من الذكاء والفطنة
والفصاحة والبلاغة أن يأتي بمثلها.
قولنا: " المتعبَّد بتلاوته " قيد لإخراج الآيات المنسوخة اللفظ سواء
بقي حكمها أم لا، فهذه لا تعطى حكم القرآن.(2/478)
المطلب الثاني في القراءة الشاذة " غير المتواترة "
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: في بيان القراءة المتواترة وغير المتواترة "الشاذة"
المسألة الثانية: أمثلة للقراءة غير المتواترة.
المسألة الثالثة: هل القراءة غير المتواترة حُجَّة؟
المسألة الرابعة: هل تصح الصلاة بالقراءة الشاذة؟(2/479)
المسألة الأولى: في بيان القراءة المتواترة وغير المتواترة "الشاذة ":
القراءة المتواترة هي: كل قراءة ساعدها خط المصحف، مع
صحة النقل فيها، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب.
فلا بد أن تجتمع في القراءة تلك الشروط الثلاثة الواردة في
التعريف، فإذا اختل أحد هذه الشروط الثلاثة، فإن القراءة تكون
غير متواترة، وهي: الشاذة.
والقراءة المتواترة هي: قراءة السبعة وهم: " نافع بن عبد الرحمن
الليثي المدني "، و " عبد اللَّه بن كثير المكي "، و " زيان بن العلاء،
أبو عمرو البصري "، و " عبد اللَّه بن عامر الشامي اليحصبي "،
و"عاصم بن أبي النجود الكوفي "، و " حمزة بن حبيب بن عمارة
الزيات الكوفي "، و " علي بن حمزة الكسائي النحوي ".
وكذلك قراءة الثلاثة على الصحيح وهم: " يعقوب بن إسحاق
الحضرمي "، و " خلف بن هشام بن ثعلب الأسدي "،
و (أبو جعفر يزيد بن القعقاع ".
***
المسألة الثانية: أمثلة للقراءة غير المتواترة، وهي: الشاذة:
1 - قراءة عائشة وحفصة - رضي اللَّه عنهما -
: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ".
2 - قراءة ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -
: " لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج ".
3 - قراءة ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -
: " وأيقن أنه الفراق ".(2/481)
4 - قراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -
فاقطعوا أيمانهما ".
5 - قراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -
متتابعات ".
6 - قراءة أُبي بن كعب - رضي اللَّه عنه -
نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فيهن ".
7 - قراءة أُبي بن كعب - رضي اللَّه عنه -
متتابعات ".
: " والسارق والسارقة
: " فصيام ثلاثة أيام
: " اللذين يؤلون من
: " فعدة من أيام أخر
***
المسألة الثالثة: هل القراءة غير المتواترة حُجَّة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن القراءة غير المتواترة - الشاذة - حُجَّة، أي:
أنها تؤثر في الأحكام الفقهية نفياً وإثباتا.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم الإمام أبو حنيفة،
والإمام الشافعي في قول له، والإمام أحمد في رواية مشهورة عنه.
وهذا هو الصحيح عندي؛ لأن الناقل للقراءة الشاذة - وهو
الصحابي - أخبر أنه سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمنقول لا يخرج عن أمرين:
أولهما: إما أن يكون قرآنا.
ثانيهما: إما أن يكون خبراً عن - صلى الله عليه وسلم -.
فإن كان الأول - وهو كونه قرآنا - فيجب العمل به؛ لوجوب
العمل بكل ما جاء في القرآن الكريم.(2/482)
وإن كان الثاني - وهو كونه خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب العمل به - أيضا - لأن خبر الواحد العدل الثقة قد اتفق العلماء على العمل
فالمنقول - على التقديرين - يجب العمل به، وكل ما وجب
العمل به فهو حُجَّة.
المذهب الثاني: أن القراءة غير المتواترة ليست بحُجَّة، أي: لا
تؤثر في الأحكام الفقهية.
ذهب إلى ذلك: الإمام مالك في رواية مشهورة عنه، وهو ظاهر
مذهب الشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الذي صححه
الآمدي، وابن الحاجب، وابن السمعاني، والنووي.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن الناقل للقراءة الشاذة لا يخلو من أمرين:
أولهما: إما أن ينقلها على أنها من القرآن.
ثانيهما: أو أنه ينقلها على أنها ليست من القرآن.
فإن كان الأول - وهو أنه نقلها على أنها من القرآن - فهذا باطل؛ اللَّه - تعالى - قد كلَّف رسوله أن يبلِّغ القرآن مجموعة من الأُمَّة
تقوم الحُجَّة بقولهم، ويحصل بخبرهم العلم القطعي، فليس للنبي
- صلى الله عليه وسلم - أن يناجي بأي آية من القرآن واحداً من الأُمة.
فإذا ثبت ذلك: فإن ما نقله هذا الواحد يكون خطأ وباطلاً؛ نظراً
لوروده عن واحد، وعلى هذا فلا يحتج به.
وإن كان الثاني - وهو أنه نقلها على أنها ليست من القرآن -
فيحتمل في ذلك احتمالين هما:
الاحتمال الأول: أنه قد أورد هذا المنقول في معرض البيان لما(2/483)
اعتقده مذهبا، فقد يكون اعتقد التتابع - مثلاً - حملاً لهذا المطلق
في كفارة اليمين على المقيد بالتتابع في الظهار.
الاحتمال الثاني: أن يكون قد أورد هذا المنقول استناداً إلى خبر قد
سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.
جوابه:
نجيب عن ذلك: بأن الاحتمال الأول - وهو كونه نقل ذلك بيانا
لمذهبه الخاص - بعيد جداً؛ لأن الصحابة الذين بذلوا النفس
والنفيس لإعلاء كلمة اللَّه تعالى، والذين اختارهم اللَّه لصحبة نبيه،
ولحمل هذه الشريعة إلى من بعدهم لا يظن بواحد منهم أن يجعل
رأيه ومذهبه الخاص به قرآنا، أو أنه يلبس فى ذلك، فهذا الاحتمال
باطل لا شك في ذلك.
فإذا بطل هذا الاحتمال: تعين الاحتمال الثانى وهو: أن هذا
الناقل قد أورد هذا المنقول استناداً إلى خبر سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخبر يجب العمل به.
بيان نوع هذا الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي؛ لأنه أثر في بعض المسائل
الفقهية، ومنها:
1 - هل يجب التتابع في صيام كفارة اليمين؟
أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن القراءة الشاذة
حُجَّة - قالوا: إنه يجب التتابع مستدلين بقراءة ابن مسعود - رضي
الله عنه -: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ".(2/484)
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن القراءة الشاذة
ليست بحُجَّة - فقالوا: لا يجب التتابع.
2 - هل النفقة تجب على كل ذي رحم محرم؟
أصحاب المذهب الأول قالوا: إن النفقة تجب على كل ذي رحم
محرم محتجين بقراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " وعلى
الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ".
أما أصحاب المذهب الثاني فقالوا: إن النفقة لا تجب إلا على
الوالدين والمولودين.
***
المسألة الرابعة: هل تصح الصلاة بالقراءة الشاذة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنها لا تصح الصلاة بالقراءة الشاذة.
وهو مذهب كثير من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بقرآن، والقرآن لا يكون
إلا متواتراً، وهذه القراءة لم يثبت أنها قرآن، وهي خارجة عن
الوجه الذي ثبت به القرآن، فلا تصح القراءة بها.
المذهب الثاني: أنه تصح الصلاة بالقراءة الشاذة.
ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين للإمام مالك
وأحمد.
واستدل هؤلاء بقولهم: إن الصحابة كانوا يقرأون بهذه الحروف
في الصلاة، وكان بعضهم يصلي خلف أصحاب هذه القراءات.(2/485)
جوابه:
نجيب عن ذلك بأن هذه دعوى تحتاج إلى دليل جزئي، وعلى
فرض ثبوت ذلك فقد يكون ذلك قد ثبت ذلك قبل العرضة الأخيرة،
وقبل إجماع الصحابة على المصحف العثماني، فيكون ذلك منسوخاَ
إما بالعرضة الأخيرة، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني.(2/486)
المطلب الثالث في وجود المجاز في القرآن
ويشتمل على مسألتين هما:
المسألة الأولى: في بيان الحقيقة والمجاز.
المسألة الثانية: خلاف العلماء في القرآن هل يوجد فيه مجاز؟(2/487)
المسألة الأولى: بيان الحقيقة والمجاز:
الحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً كقولك: "رأيت
أسداً "، فإن الذهن ينصرف إلى أن لفظ " الأسد " المقصود به:
الحيوان المفترس.
والمجاز هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أصلاً لقرينة
كقولك: " رأيت أسداً يخطب "، فإن الذهن ينصرف إلى أن لفظ
" الأسد " المقصود به: الرجل الشجاع، وذلك بسبب القرينة،
وهي كونه يخطب.
وسيأتي الكلام عن الحقيقة والمجاز بالتفصيل في الفصل السابع من
الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام.
***
المسألة الثانية: خلاف العلماء في القرآن هل يوجد فيه مجاز
أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن في القرآن مجازاً كما فيه حقيقة.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية صحيحة عنه، وهو مذهب
جمهور العلماء.
وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن القرآن عربي نزل بلغة العرب، قال تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، ولغة
العرب يدخلها المجاز، فيكون القرآن قد اشتمل على المجاز؛ لأنه
نزل بلغتهم.(2/489)
والدليل على أن لغة العرب يدخلها المجاز هو: وقوعه فيها،
فاستعمل العرب لفظ " الأسد " للرجل الشجاع، و " الحمار "
للرجل البليد، و " البحر " للرجل العالم، وقولهم: " قامت
الحرب على ساق "، وقال الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
فهنا نسب الشاعر فعل الشيب، والإفناء إلى تعاقب الأيام
والليالي، وهذا لا شك في أنه مجاز.
والأمثلة على ورود المجاز في لغة العرب كثيرة لا تكاد تحصى.
ما اعترض به على هذا الدليل:
لقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين:
الاعتراض الأول: أن العرب عبروا عن الرجل الشجاع بالأسد،
وعن البليد بالحمار، ولكن هذا التعبير حقيقي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا لا يصح؛ لأنه لو كان حقيقة فيه: لكان إذا
قال: " رأيت حماراً " أنه لا يسبق إلى فهمه الحمار المعهود، بل
الذي يسبق إلى الفهم: الرجل البليد والحمار المعهود معا.، فلما
سبق فهمه إلى الحيوان البهيم دلَّ على أنه مجاز في الرجل البليد،
وأيضا: أنه لما احتاج إلى قرينة دلَّ على أنه مجاز؛ لأن الحقيقة تفهم
بدون قرينة.
الاعتراض الثاني: الحقيقة قد عمَّت جميع الأشياء، فلا نحتاج
إلى المجاز، فلم يعبر به القرآن؛ لأنه لا يفيد، وبالتالي يكون
عبثاً.(2/490)
جوابه:
نجيب عنه بأنا لا نُسَلِّمُ بأن المجاز لا فائدة فيه، بل فيه فوائد
كثير:، ومنها:
1 - أن الكلام بالمجاز أبلغ وأفصح من الكلام بالحقيقة أحياناً،
فمثلاً لو قال: " هذا بحر " يريد مدح آخر، أبلغ وأفصح من قوله:
" هذا رجل عالم بجميع العلوم ".
2 - أن الكلام في المجاز يفيد الاختصار في الكلام، فمثلاً لو
قال: " هذا الرجل أسد " أخصر من قوله: " هذا الرجل يشبه
الأسد في الشجاعة ".
وكذلك إذا أراد أن يصف نفسه يقول: " سل عني سيفي "، ولا
يقول: "سل عني علياً كيف فعلت وقتلت "، ولهذا قال تعالى:
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، ولم يقل: " واسأل أهل القرية " مع أنه هو
المقصود، وذلك لاختصار الكلام.
3 - أن الكلام في المجاز فيه تجنب ذكر ما يقبح ذكره كلفظ
"الخراءة "، فإنه حقيقة في الخارج المعتاد من الإنسان، فعدل عنه
الشارع إلى ذكر الغائط، أو قضاء الحاجة وهي مجاز.
ونحو ذلك مما سيأتي ذكره في أسباب العدول إلى المجاز، وذلك
في المطلب الخامس من المبحث الثاني من الفصل السابع من الباب
الرابع.
الدليل الثاني: أن المجاز وقع وورد في القرآن، بحيث يذكر
الشيء بخلاف ما وضع له، وهو إما زيادة، أو نقصان، أو
استعارة، أو تقديم، أو تأخير، من ذلك:
1 - قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، فإن المراد: واسأل أهل
القرية؛ لامتناع توجيه السؤال إلى نفس القرية.(2/491)
اعتراض على هذا:
اعترض أحدهم فقال: يجوز أن يأذن اللَّه تعالى للقرية أن تجيبهم.
جوابه:
نجيب عن ذلك: بأن اللَّه لم يخرج ذلك مخرج المعجزة، وإنما
أخرجه مخرج الخبر، وكل موضع في القرآن ذكر قرية فالمراد به أهل
القرية، مما يدل على ذلك قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) ،
ومعروف أن نفس القرية ما عتت عن أمر ربها، وأنها لا تحاسب
حساباً شديداً، ولا تعذب، وإنما المراد أهل القرية.
2 - من ذلك قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) ،
ومعلوم أن الذل ليس له جناح حقيقة، فاستعاره له.
3 - ومن ذلك قوله تعالى: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ،
ومعروف أن الجدار لا إرادة له؛ لأن الإرادة يوصف بها من كان له
شعور، فاستعار الإرادة للجدار، وأريد به الميل القائم بالجدار.
4 - ومن ذلك قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)
والغائط - حقيقة - يطلق على المنخفض من الأرض، وسمي ما يخرج من
الإنسان من الأذى بالمكان استعارة.
5 - ومن ذلك قوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) والرأس لا يشتعل.
6 - ومن ذلك قوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) والمقصود:
حب العجل.
7 - ومن ذلك قوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)
ومعروف أن الأصنام نفسها لا تضل أحداً.(2/492)
اعتراض على ذلك:
اعترض بعضهم على ذلك بقوله: إنا نسلم أن الله قد استعمل في
تلك الآيات اللفظ في غير ما وضع له، ولكن لا نسميه مجازاً،
وإنما زيادة، ونقصان، واستعارة، وتقديم، وتأخير.
جوابه:
نجيب عنه بأنا نسميه مجازاً؛ لصدق تعريف المجاز عليه، وأنتم لا
تسمونه بذلك، وتسمونه باسم آخر، فيكون الخلاف في التسمية
واللفظ - فقط - فلا خلاف بيننا وبينكم إذن.
المذهب الثاني: أنه لا يوجد في القرآن مجاز، بل كله حقيقه.
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة كأبي الحسن
التميمي، وابن حامد، وبعض أهل الظاهر، والروافض.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن القرآن حق، والحق لا يكون إلا حقيقة، فلا
يدخله المجاز.
جوابه:
نقول - في الجواب عنه -: لا نُسَلِّمُ لكم ذلك فقد يكون باطلاً،
ويكون حقيقة مثل: أن فرعون أخبر اللَّه تعالى عنه في القرآن قائلاً:
(وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) ،
ومعلوم أن هذا باطل وإن كان حقيقة.
وقد يكون حقاً ولا يكون حقيقة مثل ما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"يا أنجشة رفقاً بالقوارير " يقصد النساء، ومعروف أن كلام - صلى الله عليه وسلم - حق، لكن ليس هو حقيقة؛ لأن القوارير هي غير النساء.(2/493)
الدليل الثاني: أنه لو كان في القرآن مجاز: لجاز أن يسمى الله
تعالى متجوزاً أو مستعيراً، فلما لم يجز أن يُسمَّى به: دلَّ على أن
القرآن لا يوجد فيه مجاز.
جوابه:
نجيب عنه: بأن أسماء اللَّه تعالى تثبت توقيفا، ولم تثبت اشتقاقا.
الدليل الثالث: أن المجاز فيه إيهام، فهو لا يفصح عن المراد فيقع
فيه الإشكال والإلباس، والقرآن لا يجوز أن يكون فيه تلبيس؛ لأن
الله وصفه بأنه بيان، حيث قال: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .
جوابه:
نجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن التعبير بالمجاز يكون إلباسا لو لم توجد فرينة
تدل على المراد، لكن توجد قرينة في المجاز تدل على المراد، فدل
على أنه ليس فيه تلبيس.
الجواب الثاني: أن القرآن ليس كله بيانا، بل بعضه، والبعض
الآخر يحتاج إلى بيان كالمتشابه، والمجمل، ونحو ذلك، ويدل
على ذلك قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ،
فلو كان جميعه بياناً لما احتاج إلى مبين.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي يرجع إلى تفسير الحقيقة ما
هي.
فإن كان المراد بها الحق، فقد أجمع العلماء على أنه لا مجاز في(2/494)
القرآن؛ لأن المجاز مقابل الحقيقة، والحقيقة هي: الحق، فيكون
المقابل هو الباطل، وهذا نقطع بأنه لا يوجد في القرآن.
وإن كان المراد بالحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً، فإنه
يوجد في القرآن مجاز؛ لأن المجاز مقابل الحقيقة، والحقيقة هي
اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً، فيكون مقابله - وهو المجاز -
هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهذا يجيز القول بأن
القرآن مشتمل عليه؛ لأنه وقع فيه كما سبق في الآيات، ومنهم من
سماه بغير هذا الاسم، وهو المجاز، فيكون نزاع في عبارة،
أما المعنى فهو متفق عليه فيكون الخلاف لفظيا.(2/495)
المطلب الرابع في هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية؟
اتفق العلماء على وجود أسماء غير عربية في القرآن مثل:
"إسرائيل "، و " جبريل "، و " عمران "، و " إبراهيم "، و " لوط "،
و"نوح ".
واتفق العلماء على أن الكلام المركب على أساليب غير العرب لا
يوجد في القرآن.
ولكنهم اختلفوا في الألفاظ بغير العربية هل توجد في القرآن؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يوجد في القرآن لفظ بغير العربية.
ذهب إلى ذلك: أبو بكر الباقلاني، وابن جرير الطبري، وأبو
عبيدة - معمر بن المثنى -، والباجي، وأبو يعلى، وأبو الخطاب،
ونسب إلى عامة الفقهاء والمتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن اللَّه تعالى وصف القرآن بأنه عربي محض في
آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقوله:
(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) ، وقوله: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) .(2/497)
وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ، فلو كان فيه بعض
ألفاظ بغير العربية لما وصفه بأنه عربي.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه صرح بأنه لا يوجد في القرآن لفظ بغير
العربية، فمعنى الآية: إنا جعلنا القرآن كله عربيا، لأنا لو جعلناه
أعجميا لقامت حُجَّة الكفار علينا، وقالوا: كيف يأتي قرآن
أعجمي، ونبي عربي؟! ولذلك أنزلناه عربيا محضا، لنقطع عليهم
قولهم هذا، فثبت أنه عربي محض لتقوم الحُجَّة به، ولئلا يتجه
لهم إنكاره.
الدليل الثالث: أن اللَّه تعالى أنزل هذا القرآن لبيان الأحكام
الشرعية.
ولبيان إعجازه لهم في أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة
واحدة، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ) ، وقال: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) ، وقال: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) ، فقد تحداهم
بذلك وبأقل من ذلك، ويمتنع أن يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا
يتقنونه؛ لأن هذا تكليف ما لا يطاق، كما لا يمكن أن يقال
لعجمي: " هات مثل المعلقات السبع "، أو مثل واحدة منها، أو
نحو ذلك.
كذلك هنا: لا يمكن أن يتحداهم إذا كان بألفاظ ليست عربية،
حيث إنه يمكن لأي واحد منهم أن يقول: " ليس هذا بلغة لنا،
وعجزنا عن الإتيان بمثله لا يدل على إعجازك وصدق نبوتك ".(2/498)
فثبت بهذا: أن القرآن عربي محض لا يوجد فيه ألفاظ بغير
العربية، لأنه لو لم يكن كذلك لما صح هذا التحدي.
المذهب الثاني: أن القرآن فيه ألفاظ بغير العربية.
ذهب إلى ذلك ابن عباس وعكرمة - رضي اللَّه عنهم -،
ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وهو اختيار ابن الحاجب،
وابن عبد الشكور.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بالوقوع، حيث قالوا: إنه ثبت بعد التتبع للقرآن
وجود بعض الألفاظ فيه بغير العربية مثل: (ناشئة الليل) ،
حبشية، و (مشكاة) هندية، و (إستبرق) فارسية، روي ذلك
عن بعض الصحابة كابن عباس وعكرمة.
جوابه:
نجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن كل ما ذكرتموه قد جاء بلغة أعجمية
بل بلغة عربية.
فلا نسلم أن (ناشئة الليل) حبشية، بل هي عربية، حيث إن
المراد: ساعات. الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم،
فالتأنيث للفظ ساعة؛ لأن كل ساعة تحدث، وقيل: إن ناشئة الليل
هي: قيام الليل، قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي:
قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة
غالبة عليهم.
ولا نسلم - أيضاً - أن (المشكاة) هندية، بل هي عربية،(2/499)
حيث إن معناها: الكوة، وهي من كلام العرب، يدل على ذلك
أن الأنصاري وهو هندي أنكر كون المشكاة هندية، فقال في " فواتح
الرحموت ": " ثم كون المشكاة هندية غير ظاهر، فإن البراهمة
العارفين بأنحاء الهند لا يعرفونه ".
الجواب الثاني: أن تلك الألفاظ جاءت بلغة العرب، ووافق
وجود مثلها في كلام العجم، كما توافق اللسانان في كثير من
الألفاظ، فمثلاً تقول العرب: " سراج " وهو بالفارسية: " جراع "
وتقول العرب: " سماء "، وهو في العبرانية: " شما "، وتقول:
" سروال " وهو بالفارسية: " شروال "، وهكذا.
بيان القول الحق:
القول الحق عندي هو ما قاله أبو عبيد - القاسم بن سلام
البغدادي - كما ورد في " الصاحبي "، و " معترك الأقران "،
و"الإتقان في علوم القرآن "، و " المزهر " - وهو:
إن هذه الألفاظ التي ذكرها أصحاب المذهب الثاني أصولها أعجمية، لكن العرب استعملتها، فعربت بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى
ألفاظها فهي عربية بهذا الوجه.
والسبب في ذلك: أن العرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها
يقومون بتجارات إلى البلدان العجمية التي حولهم كرحلتي الصيف
والشتاء الخاصة بقريش ونحوها، فأخذ العرب من العجم بعض
ألفاظهم، وغيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف
ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت
مجرى اللغة العربية، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها
القرآن.(2/500)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن كل فريق نظر إلى اعتبار.
فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: لا يوجد في القرآن
لفظ بغير العربية - نظروا إلى ما يستعمله العرب من الألفاظ المشتهر
بينهم، سواء كانت ألفاظاً عربية محضة، أو كانت ألفاظاً معربة
بالاستعمال.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: يوجد في القرآن
ألفاظ بغير العربية - فإنهم نظروا إلى أصول الألفاظ المعربة
بالاستعمال.
وأيضاً لاتفاق أصحاب المذهبين على استواء أخذ الأحكام من
ألفاظ القرآن الكريم، سواء كانت ألفاظاً عربية ابتداء، أو كانت
ألفاظا معربة بالاستعمال.(2/501)
المطلب الخامس في المحكم والمتشابه
ويشتمل على ما يلي:
المسألة الأولى: هل القرآن يشتمل على المحكم والمتشابه؟
المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة.
المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحاً.
المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟(2/503)
المسألة الأولى: هل القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن القرآن مشتمل لما هو محكم، وما هو متشابه.
وهذا مذهب الجمهور من العلماء.
وهو الصحيح عندي؛ لدليلين:
أولهما: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
ثانيهما: الوقوع؛ حيث وقع في القرآن ما هو محكم وعرفنا
معناه، وما هو متشابه لم نعلم معناه.
المذهب الثاني: أن القرآن كله محكم، ولا يوجد فيه متشابه.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، حيث صرح بأن جميع
آيات القرآن محكم، ولا توجد أيُّ آية متشابهة.
جوابه:
نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب قد أحكمت آياته في
نظمها، ووضعها، وفصاحتها، وبلاغتها، وجزالة ألفاظها حتى
بلغ حد الإعجاز، بحيث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثل
آية منه، ونحن لا نبحث في ذلك.
المذهب الثالث: أن القرآن كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.(2/505)
دليل هذا المذهب:
قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) ، حيث إن
هذه الآية دلت على أن الكتاب كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم.
جوابه:
نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب متشابه أي: أن بعضه
يصدق بعضه الآخر، وذلك لتشابه معانيه، فهو غير متناقض.
وهذا لا نبحث فيه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المذاهب لفظي، لأنه اتضح خلال عرض أدلة المذهب
الثاني والثالث أنهم تكلموا وبحثوا في أمور ليس لها صلة فيما نحن
فيه، فهم في الحقيقة لم يخالفوا فيما نحن فيه.
***
المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة:
أولاً: المحكم لغة: المتقن، يقال: " أحكمت الشيء أحكمه
إحكاماً ": إذا أتقنته، فكان في غاية ما يبتغي من الحكمة، ومنه:
" بناء محكم " أي: متقن وثابت يبعد انهدامه.
وهذا هو أقرب المعاني اللغوية لمقصود الأصوليين للمحكم هنا.
وقيل: المحكم هو: الرد والمنع، يقال: " أحكمت " أي:
رددت ومنعت، وسمي الحاكم حاكماً: لمنعه الظالم من الظلم،
وسمي لجام الفرس حكمة؛ لأنه يمنع الفرس من الاضطراب.
ثانيا: المتشابه لغة: الملتبس بغيره، مأخوذ من الشَّبه - بفتح الشين
والباء - والشبيه هو: ما بينه وبين غيره أمر مشترك فيشتبه ويلتبس به.(2/506)
المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحا:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن المتشابه هو: ما ورد من صفات اللَّه تعالى في
القرآن مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله وتفسيره،
والتصديق بأنه لا يعلم تأويله إلا اللَّه تعالى كوصفه سبحانه بالاستواء
الوارد في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، واليد
الوارد في قوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، واليدين الوارد في قوله:
(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ، والعين الوارد في قوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ،
والوجه الوارد في قوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ، وغير ذلك من
الصفات التي اتفق السلف على إقرارها، وإمرارها على ما هي عليه،
وترك تأويلها كما قال الإمام مالك - رحمه اللَّه - لما سئل عن
الاستواء الوارد في الآية السابقة -: الاستواء معلوم، والكيف
مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلا يتعرض لهذه
الصفات بتأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تحريف.
أما المحكم فهو ما أمكن معرفة المراد بظاهره، أو بدلالة تكشف
عنه، أو بأي طريق من طرق المعرفة.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح عندي، لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه ذم المبتغين لتأويل المتشابه ووصفهم بأنهم(2/507)
يبتغون الفتنة، وسماهم أهل زيغ، ولا يذم إلا على تأويل الصفات
كما أجمع على ذلك السلف - رحمهم اللَّه -.
فلو كان المقصود بالمتشابه غير ذلك لما ذم اللَّه المبتغين لتأويله.
المذهب الثاني: أن المحكم هو: الذي اتضح معناه للعلماء
وغيرهم من طلاب العلم.
والمتشابه هو: ما علمه العلماء المحققون المدققون، وغمض على
غير العلماء كالآيات التي ظاهرها التعارض.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كابن عقيل.
ومثَّل أصحاب هذا المذهب ببعض الآيات التي ظاهرها التعارض،
إليك إياها مع الجواب عنها:
1 - قالوا: إن قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) يعارض
قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
جوابه:
يجاب عنه: بأن الآية الأولى تحمل على التوحيد بدليل قوله
تعالى بعدها: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، أما الآية الثانية
فإنها تحمل على أعمال وأفعال الجوارح.
2 - قالوا: إن قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)
يعارض قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
جوابه:
يجاب عليه بأن المراد بالآية الأولى: لا تكسب شراً ولا إثما،
فاقتصر في هذه الآية على الشر، بخلاف الآية الثانية؛ حيث ذكر
فيها الشر والخير معا، وذكر ما يميز بينهما.(2/508)
3 - قالوا: إن قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة)
يعارض قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) .
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا تنافي بين الآيتين؛ حيث إن اللَّه تعالى نفى أن
يكلمهم في الآية الأولى كلام التلطف والإكرام، وأثبت سؤالهم في
الآية الثانية سؤال التوبيخ والإهانة.
4 - قالوا: إن قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
يعارض قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) .
جوابه:
يجاب عنه بأن المراد بالعدل في الآية الأولى: العدل بين الزوجات
في توفية حقوقهن المادية والزمانية، وهذا ممكن الوقوع وعدمه،
والمراد بالآية الثانية: الميل القلبي، فالزوج الذي له زوجتان فأكثر لا
يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض.
5 - قالوا: إن قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) يعارض
قوله: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) ،
وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) .
جوابه:
يجاب عنه: بأنهم لا ينطقون بحجة نافعة ومفيدة، ومن نطق بما
لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق،
قال الحسن - رحمهم اللَّه -: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون.
فهنا قد علم العلماء ما غمض على غيرهم، وفسَّروا ذلك
التعارض لغير العالمين، وذلك بواسطة الأدلة والبراهين، فهؤلاء(2/509)
يُمدحون، ولا يُذمون؛ لأن فعلهم هذا هو الطريق لمعرفة الأحكام،
وبيان أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد
على أعداء الإسلام القائلين: إن القرآن فيه تناقض.
المذهب الثالث: أن المحكم هو: الواضح الجلي الذي لا يحتاج
إلى غيره لبيانه وتفسيره كالنصوص، والظواهر؛ حيث إن ذلك في
غاية الإحكام والإتقان.
أما المتشابه فهو المجمل الذي لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين
فهو يحتاج - لمعرفة معناه - إلى تأمل، وتفكر، وتدبر، وقرائن
تبينه وتزيل إشكاله.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، والقاضي أبو يعلى،
وتلميذه أبو الخطاب، وصحَّحه أبو إسحاق الشيرازي.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - سمى المحكمات أم الكتاب،
وأم الشيء أصله الذي لم يتقدمه غيره كما قال الجوهري، فاقتضى
ذلك أن المحكم ما كان أصلاً بنفسه المستغني عن غيره، فلا يحتاج
إلى بيان.
أما المتشابه فهو ما خالف ذلك وهو: المفتقر إلى بيان، وهو
المجمل ونحوه مما لم يتضح معناه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المجتهد إذا شرع في تأوبل المجمل وغيره مما لم يتضح معناه،(2/510)
ورجح - بالأدلة - أن يكون المقصود بذلك اللفظ هو
ذلك المعنى، وذلك الحكم فإنه يمدح، ولا يذم؛ لأن تأويله وفعله
هذا طريق إلى معرفة الأحكام وتوضيحها للناس، وتمييز الحلال من
الحرام لهم، والعلماء قديماً وحديثاً اهتموا ببيان المراد من اللفظ
المجمل، فلو كان من المتشابه لما تعرضوا لذلك؛ لأنهم أعلم الخلق
بالنواهي الشرعية.
المذهب الرابع: أن المحكم: ما عرف معناه وتفسيره، والمتشابه
هو: الذي لم نعلم معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور مثل:
"ألم "، و " ص "، و " المص "، و " ن "، و " حم "، ونحو ذلك
مما لم يكن لأحد إلى علمه إلى سبيل مما استأثر اللَّه بعلمه دون خلقه.
روي ذلك عن جابر بن عبد اللَّه، وبعض التابعين كالشعبي،
وسفيان الثوري، ووصفه القرطبي بأنه أحسن - ما قيل في المتشابه.
جوابه:
يجاب عنه بأن اللَّه تعالى ذم من يتعرض لتأويل المتشابه - وذلك
في آية آل عمران السابقة - ولا يمكن أن يُذم من تعرض لبيان الحروف
المقطعة في أوائل السور، ويتلَمَّس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي
تتخرج عليها، والعلماء قد تعرضوا لذلك، واجتهدوا لبيأن معانيها،
واختلفوا في ذلك على أقوال:
فقيل: إن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسماء اللَّه،
فالكاف من " كاف "، والهاء من " هاد "، والعين من " عليم "،
والصاد من " صادق " من قوله تعالى: (كهيعص) .
وقيل: إنها ذكرت كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج(2/511)
عنها جميع كلام العرب، تنبيهاً على أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم
وحروفهم.
وقيل: إن اللَّه تعالى أنزل هذه الأحرف مثل: " الم "،
و"كهعص "، و " ص "، وغيرها إبطالا لحساب اليهود، فإنهم
كانوا يحسبون هذه الأحرف حالة نزولها، ويردونها إلى حساب
الجمل، ويقولون: إن منتهى دولة الإسلام كذا، فأنزل اللَّه هذه
الأحرف تخبيطاً للحساب عليهم.
وقيل: إن تلك الحروف اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه
منها.
وقيل: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها، وحذفت بقيتها،
فالألف من " اللَّه "، واللام من " جبريل "، والميم من " محمد
- صلى الله عليه وسلم - "، وقيل غير ذلك
فلو كانت تلك الحروف المقطعة هي المتشابه، لما حرص العلماء
على بيان المراد منها، وتفسيرها؛ لأن العلماء يخشون اللَّه تعالى
ويخافونه أكثر من غيرهم، فلما تعرضوا لبيان المراد من تلك الحروف
اتضح أنها ليست من المتشابه الذي توعد اللَّه من يتعرض لتأويلها.
المذهب الخامس: المحكم هو: الوعد والوعيد، والحلال
والحرام، والأمر والنهي، والمتشابه هو: القصص والأمثال.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، كما أورده السيوطي في "الإتقان".
دليل هذا المذهب:
أن المحكم: ما استفيد الحكم منه، والوعد والوعيد ونحوه - مما
ذكر - نستفيد الحكم منه، والمتشابه: ما لا يفيد حكما، وهذا حال
القصص والأمثال.(2/512)
جوابه:
نجيب عنه: بأن مَنْ بيَّن أحكاما شرعية مأخوذة من تلك القصص
والأمثال، فإنه يُمدح، ولا يُذم كمن استدل بقصة يوسف عليه
السلام على مشروعية الجعالة، وذلك من قوله تعالى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، وكمن استدل بقصة موسى مع شعيب
عليهما السلام على جواز جعل المنفعة مهراً، وذلك من قوله تعالى:
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) .
وهناك مذاهب أخرى في ذلك قد ذكرتها في كتابي " إتحاف ذوي
البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ لأن كل أصحاب مذهب امتنع عن التعرض
للمتشابه بحسب اصطلاحهم؛ لئلا يكون داخلاً تحت الذم الذي
توعد اللَّه به من تعرض للمتشابه بالتأويل.
***
المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المتشابه لا يمكن إدراكه، ولا يعلم تأويله إلا
الله تعالى.
ذهب إلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين، وهو مذهب جمهور
العلماء.
وهو الصحيح؛ لقوله تعالى:(2/513)
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وجه الدلالة: أن الوقف الصحيح على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، والواو في قوله: (والراسخون) للابتداء والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا اللَّه تعالى، ولا يعلم غيره ذلك وإن كان من الراسخين في العلم.
الأدلة على ذلك:
لقد دلَّ على أن الوقف الصحيح على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) ما يلي
من الأدلة:
الدليل الأول: لفظ الآية ومعناها دلا على أن الوقف الصحيح
على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، وإليك بيان ذلك:
أما الدليل من لفظ الآية على أن الوقف الصحيح على قوله:
(إِلَّا اللَّهُ) فهو: أن اللَّه تعالى لو أراد عطف الراسخين على لفظ
الجلالة وهو " اللَّه " سبحانه وتعالى لقال: " ويقولون آمنا به " بزيادة
" واو "، حيث إن جملة (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم) تكون جملة واحدة، ولفظ " يقولون " مستأنفة، فكان لابد
من الواو، ولكنه لم يقل: " ويقولون " -، بل قال: " يقولون "
بدون " واو " مما يدل على أن عبارة (يقولون آمنا به) مرتبطة بما
قبلها، وليس لها إلا أن تكون خبر عن مبتدأ.، وهو (الراسخون)
فينتج من ذلك أن " الواو " في قوله (والراسخون) للابتداء
والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوقف يكون على قوله:
(إِلَّا اللَّهُ) .(2/514)
أما. الدليل ممت معنى الآية على أن الوقف الصحيح على قوله
تحالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، فمن وجوه هي كما يلي:
الوجه الأول: أن اللَّه - في الآية - قد ذم مبتغي تأويل المتشابه
والمتبعين لذلك؛ حيث إنهم وصفوا بزيغ القلوب، وابتغاء الفتنة،
ولو كان تأويل المتشابه معلوماً للراسخين في العلم: لكان مبتغي
تأويله ممدوحاً غير مذموم، فلما ذم اللَّه تعالى مبتغي التأويل: عرفنا
أن سبب ذلك الذم هو: كونه يزاحم اللَّه فيما استأثر بعلمه، فينتج
من ذلك: أن اللَّه هو المتفرد بعلم المتشابه، لا يشاركه فيه أحد،
وهذا يثبت المطلوب، وهو: أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) .
الوجه الثاني: أن لفظة " أما " تأتي في اللغة لتفصيل الجمل،
فلابد أن يكون في سياقها قسمان، وهذان القسمان إما أن يصرح
بهما، أو يصرح بأحدهما، ويفهم الآخر تقديراً.
مثال الأول: قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) .
ومثال الثاني - وهو ما صرح بأحد القسمين دون الآخر - قوله
تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ، ولم يذكر القسم الثاني لدلالة المذكور عليه، فكأنه
قال: وأما من لم يؤمن ولم يعمل صالحاً فلا يكون من المفلحين.
والآية التي نحن بصددها من هذا القسم؛ حيث قال تعالى:
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، فهذا تمام القسم الأول، وذكْر هذا
القسم يدل دلالة واضحة على أن هناك قسماً آخر يخالفون من ذكروا
في هذا القسم - وهو القسم الثاني للفظة: " أما " تقديرة: وأما(2/515)
غيرهم فيؤمنون بالتشابه ويقومون بتفويض معناه إلى اللَّه تعالى، دل
على ذلك قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، فكأنه قال: " وأما الراسخون في العلم فيقولون "، ولو
كان الراسخون في العلم يعلمون ويفهمون تأويل المتشابه لما خالفوا
القسم الأول في ابتغاء التأويل ولكانوا قسماً واحداً.
الخلاصة: أن اللَّه تعالى قسمهم إلى قسمين: قسم اتبع ما تشابه
من الكتاب يبتغون تأويله، فذمهم اللَّه تعالى، وقسم آمنوا بالمتشابه
وفوضوا معرفته إلى اللَّه، وأن ما يعلم تأويل المتشابه إلا هو سبحانه
وتعالى، فهؤلاء مدحهم، وهذا يدل على أن الوقف على قوله:
(إِلَّا اللَّهُ) .
الوجه الثالث: قول الراسخين في العلم: (آمنا به) يدل دلالة
واضحة على أنهم فوضوا علم المتشابه إلى اللَّه تعالى، وسلموا ذلك
إليه سبحانه، وبينوا أن ذلك من علم الغيب الذي استأثر اللَّه بعلمه،
فيدل ذلك على أن الراسخين في العلم لم يدركوا معنى المتشابه،
فمعنى قوله: (آمنا به) أي: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق،
ولم يقل: والراسخون في العلم يقولون: علمنا به.
الوجه الرابع: قول الراسخين في العلم: (كل من عند ربنا)
بعد قولهم: (آمنا به) ؛ حيث إن ذلك يقوي ذلك التفويض،
والتسليم لأمره وإن لم يعلموا معناه.
والمراد من ذلك: أن الراسخين في العلم قالوا: إن المحكم الذي
أدركنا معناه، وفهمنا المراد منه، والمتشابه الذي لم نفهم معناه، ولم
ندرك المراد منه كلاهما من عند اللَّه، فنحن نؤمن بهما معاً، دون أن(2/516)
نفرق بين ما علمنا وبين ما لم نعلم، إلا أن المحكم نؤمن به عن فهم
وإدراك المراد، أما التشابه فإنا نؤمن به عن تفويض وتسليم.
الدليل الثاني - من الأدلة على أن الوقف الصحيح على قوله:
(إلا الله) - ما روي عن بعض الصحابة من القراءات التي تدل على
أن الوقف الصحيح على قوله: (إلا الله) ؛ حيث روي عن ابن
عباس أنه قرأ: " وما يعلم تأويله إلا اللَّه ويقول الراسخون في العلم
آمنا به "، وروي عن أبي أنه قرأ: " ويقول الراسخون في العلم آمنا
به "، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: " إن تأويله إلا عند الله
والراسخون يقولون ".
وهذه الروايات عن هؤلاء الصحابة إن ثبتت أنها قراءة فهي حُجَّة -
كما قلنا فيما سبق - وإن لم تثبت قراءة فهي خبر، وإن لم يثبت
ذلك فهي تفسير من صحابي فيقبل؛ حيث إن كلامه يقدم - في
الشرع - على من هو دونه؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل،
وحضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم أعلم من غيرهم في ذلك.
المذهب الثاني: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه،
ويدركون معناه.
روي ذلك عن مجاهد والضحاك، وذهب إليه أبو إسحاق
الشيرازي، والمعتزلة، وأبو الحسن الأشعري، والآمدي، والنووي،
وابن الحاجب.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا
الله والراسخون في العلم يقولون) ، حيث قالوا: إن " الواو " في
قوله: (والراسخون) عاطفة، فعلى هذا يكون الراسخون في
العلم يعلمون تأويله؛ إذ لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون(2/517)
المتشابه لما كان لهم على العامة فضيلة ومزية؛ لأن كلًّا من الراسخين
في العلم والعامة يقولون: (آمنا به) .
جوابه:
نجيب عن ذلك بأن اللَّه تعالى قد جعل للراسخين في العلم فضيلة
ومزية عن طريق علمهم بالآيات المحكمة، وفهمهم لها وبيانها للناس،
وتوضيح ما التبس منها لهم، ولهم أجر على ذلك كما هو معلوم،
ثم إن الراسخين في العلم قد علموا ما ورد عن اللَّه سبحانه وتعالى،
دون الوقوف على كنه ذاته وصفاته، ولم يخرجهم ذلك عن كونهم
من الراسخين في العلم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ وذلك لأن هذا الخلاف راجع إلى
مقصد، ومراد كل من الطرفين، فأصحاب المذهب الأول - وهم
القائلون: إن الراسخين في العلم لا يعلمون المتشابه - أرادوا بذلك:
أنهم لا يعلمون حقيقة المتشابه، وإنما ذلك إلى اللَّه تعالى.
وأصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إنهم يعلمون تأويل
المتشابه - أرادوا بذلك أنهم يعلمون ظاهره، ولا يعلمون حقيقته.
فالاتفاق حاصل على أن الراسخين في العلم لا يعلمون حقيقة
المتشابه؛ لأن علم ذلك قد استأثر اللَّه به.
قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: " وكلا القولين حق، فمن قال:
لا يعلم تأويله إلا اللَّه فمراده: ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي
لا يعلمها إلا اللَّه، ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون
التأويل فالمراد به: تفسير القرآن الذي بيَّنه الرسول والصحابة ".(2/518)
المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي؟
اللفظ المشترك هو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنيين فأكثر وضعاً
أولاً، وسيأتي إن شاء اللَّه بيان ذلك مع ذكر مسائله في الفصل الرابع
من الباب الرابع الذي هو في " الألفاظ ودلالتها على الأحكام "
وبما أني - الآن - أتكلم عن القرآن وما يخصه من مباحث، فإنه
لزاماً عليّ أن أبين هذا الموضوع، وهو: هل يوجد في القرآن
مشترك لفظي؛ فأقول:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يوجد في القرآن مشترك لفظي.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن القرآن نزل بلغة العرب، قال تعالى: (بلسان
عربي مبين) ، ولغة العرب يرد فيها المشترك، فيكون القرآن قد
اشتمل على المشترك؛ لأنه نزل بلغتهم.
والدليل على أن لغة العرب يرد فيها المشترك: التردد في المراد من
لفظ " القرء "، و " العين "، و " الشفق "، و " الجون "،
و"الجلل "، وإذا تردد الذهن بين معنيين فهو علامة الاشتراك، فمثلاً:
أطلق أهل اللغة: " القرء " على الطهر والحيض وهما ضدان، فدل
على وقوع الاشتراك في اللغة.(2/519)
الدليل الثاني: أن المشترك اللفظي قد وقع في القرآن، بحيث يرد
اللفظ فيه فيتردد الذهن بين معنيين له أو أكثر.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ،
والقرء يصلح للطهر والحيض.
فجاء لفظ " القرء " بمعنى الطهر فى قول الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزاً وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي: ضيع أطهارهن في غزواته، فالقرء هنا: الطهر.
وجاء لفظ " القرء " بمعنى: الحيض في قول الشاعر:
يا رب ذي طعن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض
أي: أنه لما طعن كان له دم كدم الحائض.
وبسبب هذا اللفظ المشترك اختلف العلماء في عدة المطلقة الحائض
على رأيين:
الرأي الأول: أن عدتها ثلاث حيضات؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء
الوارد في الآية هو: الحيض.
الرأي الثاني: أن عدتها ثلاثة أطهار؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء
الوارد في الآية هو: الطهر.
واستدل كل فريق من العلماء بأدلة قد ذكرت أكثرها في " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فراجعه من هناك.
ومن ذلك - أي: من الألفاظ المشتركة الواردة في القرآن - قوله
تعالى: (والليل إذا عسعس) ، فإن لفظ " عسعس " يأتي بمعنى
"أقبل "، و " أدبر " على سبيل الاشتراك ذكره الجوهري في الصحاح.(2/520)
اعتراض على ذلك:
اعترض معترض قائلاً: إن القرء ليس مشتركاً بين " الطهر "،
و"الحيض "، بل هو موضوع للقدر المشترك بينهما، واختلف في
تعيين ذلك المشترك على أقوال.
أولها: أنه " الجمع " من قول القائل: " قريت الماء في
الحوض ": إذا جمعته فيه، والدم يجتمع في زمن الطهر في الجسد،
وفي زمن الحيض في الرحم.
ثانيها: أنه الانتقال، فالانتقال يُسمَّى قرءاً لغة، فالحائض تنتقل
من الطهر للحيض، وتنتقل من الحيض للطهر.
ثالثها: أنه الزمان تقول العرب: " جاءت الريح لقرئها " أي:
لزمانها، والحيض له زمان، والطهر له زمان، فسميا قرءاً لذلك.
وكذلك قالوا: إن لفط " عسعس " ليس مشتركا، بل هو
متواطئ، نظراً للقدر المشترك بينهما، وهو: اختلاط الظلام بالضياء.
وفعلوا ذلك في كل مشترك فردوا ذلك إلى التواطؤ، أو الحقيقة
والمجاز.
جوابه:
نجيب عن ذلك الاعتراض: بأن هذه التأويلات يمكن أن تسوغ
وتقبل لو امتنع ثبوت المشترك في اللغة، ولكن الحقيقة: أن لفظ
"القرء " ولفظ " عسعس " من الألفاظ المشتركة، وهذا ثابت في
اللغة كما سبق بيان ذلك، وهذه التأويلات التي ذكرها المانعون من
ثبوت المشترك متكلَّفة، وليس لأحد أن يتعسف التأويل.(2/521)
المذهب الثاني: أنه لا يوجد في القرآن مشترك.
نسب هذا المذهب إلى داود الظاهري.
دليل هذا المذهب:
استدل من ذهب إلى هذا المذهب بقوله: إن المشترك لو وقع في
القرآن لوقع إما مبيَّناً بأن يذكر معه قرينة تفيد المعنى المراد من المعاني
كما يقال - مثلاً -: " ثلاثة قروء وهي الأطهار ": فيلزم التطويل
بغير فائدة " لأنه يمكن أن يعبر عن ذلك المعنى بلفظ مفرد وضع له
فقط.
وإما أن يقع المشترك غير مبيَّن فيكون غير مفيد - حيث إنه لم
يحصل المقصود وهو: الفهم التفصيلي - وغير المفيد لا يقع به
الخطاب، ولو وقع لكان عبثاً، والله عَزَّ وجَلَّ منزه عن العبث.
جوابه:
نجيب عنه: بأنا لا نسلِّم أنه إذا وقع غير مبيَّن لم يكن مفيداً،
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الفائدة منحصرة في الفهم التفصيلي وهو:
ممنوع، وذلك لأن غير المبيَّن في القرآن مفيد، وهو إما أن يقع في
الأحكام، أو يقع في غير الأحكام.
فإن وقع في الأحكام ففائدته الاستعداد للامتثال إذا بين.
وإن وقع في غير الأحكام ففائدته مثل الفائدة في أسماء الأجناس
وهو الفهم الإجمالي.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه راجع إلى اصطلاح كل من
الفريقين.(2/522)
المطلب السابع في النسخ
النسخ يلحق الكتاب والسُّنَّة معاً، ولكن جعلناه من مباحث القرآن؟
لأنه أخص به بسبب إشكاله وغموضه بالنسبة إليه.
وقد شمل الكلام عن النسخ المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريفه لغة.
المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، أو العكس؟
المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحاً، واختلاف العلماء هل هو
رفع أو بيان؟
المسألة الرابعة: شروط النسخ.
المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص.
المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص.
المسألة السابعة: هل النسخ جائز عقلاً؟
المسألة التامنة: هل النسخ جائز شرعا؟
المسألة التاسعة: حكمة النسخ.
المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة.(2/523)
المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام التي لا
يتناولها.
المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها وبالعكس
ونسخهما معا؟
المسألة الثالثة عشرة: النسخ قبل التمكن من الفعل.
المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ أو لا؟
المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء من أجزاء العبادة، أو شرط من
شروطها.
المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل.
المسألة السابعة عشرة: النسخ با لأخف، والمساوي، والأثقل.
المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ بعض الأمة فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟
المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن.
المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة.
المسألة الحادية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد.
المسألة الثانية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة.
المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُنَّة بالقرآن.
المسألة الرابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّئة المتواترة.
المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة
بخبر الواحد؟(2/524)
المسألة السادسة والعشرون: هل يكون الإجماع منسوخا؟
المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟
المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟
المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسحْ حكم
الفرع تبعا لذلك؟
المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخا ومنسوخا؟
المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يفع منسوخا؟
المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع ناسخا؟
المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ.(2/525)
المسألة الأولى: تعريف النسخ لغة:
النسخ لغة يطلق على إطلاقين هما:
الإطلاق الأول: يطلق ويراد به الإزالة والرفع، ومنه قولهم:
"نسخت الشمس الظل "، أي: أزالته ورفعته، وهذا مثال النسخ
إلى بدل.
ومنه أيضاً قولهم: " نسخت الريح الأثر " أي: رفع الريح آثار
القوم وأزالتها، وهذا مثال النسخ إلى غير بدل.
الإطلاق الثاني: النسخ يطلق ويراد به لغة النقل مع بقاء الأول،
ومنه قولهم: " نسخت الكتاب " أي: نقلت ما فيه، مع بقاء
الأصل.
***
المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل أو العكس؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة
بالاشتراك المعنوي.
ذهب إلى ذلك ابن المنير في " شرح البرهان ".
بيان الاشتراك المعنوي هنا:
أن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب قدراً مشتركاً، وهو:
الرفع؛ حيث إن الرفع في نسخ الظل واضح؛ لأنه زال بضده.(2/527)
أما الرفع في نسخ الكتاب فهو مقدر؛ حيث إن الكلام المنقول
بالكتابة لم يكن مستفاداً إلا من الأصل، فكان للأصل بالإفادة
خصوصية، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية، وارتفاع
الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع.
وهذا المذهب هو الحق عندي، لسلامته من المجاز، ومن
الاشتراك اللفظي اللذين هما على خلاف الأصل، بيان ذلك:
أن المجاز خلاف الأصل، لأنه يحتاج إلى قرينة عند استعمال
المعنى المجازي تمنع من استعماله في المعنى الحقيقي، بينما الحقيقة لا
تحتاج إليها، لأن الأصل في الكلام الحقيقة.
كذلك الاشتراك اللفظي خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد
الوضع، ولأن الاشتراك اللفظي يحتاج إلى قرينة ترجح أحد معنييه.
فيكون النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة بالاشتراك المعنوي،
لأنه لا يحتاج إلى قرينة، فإذا دار اللفظ بين الاشتراك اللفظي
والاشتراك المعنوي قدم الاشتراك المعنوي، لأنه هو الأصل، لأن
الأصل عدم تعدد الوضع ولعدم احتياجه إلى قرينة، وإذا دار اللفظ
بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة، لأنها هي الأصل، والمجاز
خلاف الاءصل.
المذهب الثاني: أن النسخ يطلق حقيقة على الإزالة، ويطلق على
النقل مجازاً.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم: فخر الدين الرازي،
والبرماوي وغيرهما.
دليل هذا المذهب:
أن النسخ مستعمل في إطلاقين هما: "الإزالة" و " النقل "،(2/528)
ولا ثالث لهما، فإذا كان إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم:
"نسخت الكتاب " مجازاً؛ لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، بل
نقل مجازاً: لزم أن يكون حقيقة في الإزالة؛ لأنه إذا بطل كونه
حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر.
المذهب الثالث: أن النسخ يطلق عليهما حقيقة بالاشتراك اللفظي.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والقاضي
عبد الوهاب المالكي.
دليل هذا المذهب:
أن النسخ استعمل في الإزالة والنقل، وأطلق عليهما معا في لسان
العرب، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وليس أحدهما بأوْلى من
الآخر.
الجواب عن المذهبين السابقين:
نجيب عنهما: بأن المجاز والاشتراك اللفظى خلاف الأصل - كما
بينا فيما سبق - فلا يقاوم ذلك الاشتراك المعنوي؛ لأنه موافق
للأصل، وقد سبق بيان ذلك.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي؛ لعدم تأثيره في الفروع الفقهية.
***
المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحا، واختلاف العلماء
هل هو رفع أو بيان؟
لقد ذكر العلماء تعريفات للنسخ، ومن أهمها:(2/529)
التعريف الأول: أنه: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه.
اختار ذلك: القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وأبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والتبريزي.
وهو الحق عندي؛ لكونه جامعاً مانعاً، وإليك بيان وشرح ذلك:
إن هناك حكماً قد ثبت بخطاب شرعي متقدم، فجاء خطاب آخر
من الشارع - فجأة - وهو متأخر عن الأول فرفع ذلك الحكم مثل:
أن اللَّه تعالى حكم بأن عدة المتوفى عنها زوجها حول كامل، وذلك
بخطاب شرعي وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بعد ذلك بزمن
رفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه، وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
فالرفع هو إزالة ذلك الحكم على وجه لولا هذا الرفع لبقي الحكم
ثاشاً مستمراً يعمل به.
فالنسخ - إذن - قطع لدوام الحكم فجأة، لا بيان انتهاء مدته.
وهناك فرق بين قطع دوام الحكم، وبين انتهاء المدة، يتبين ذلك
الفرق إذا فرقنا بين فسخ الإجارة، وانقضاء مدتها، بيان ذلك:
الإجارة هي: عقد على منفعة لسنة كاملة - مثلاً - فإذا رفعت
الإجارة بالفسخ، فإن ذلك يغاير زوالها بانقضاء مدتها؛ لأن فسخ
الإجارة: قطع لدوامها لسبب خفي عن المتعاقدين عند ابتداء العقد.
أما إنقضاء مدة الإجارة فهو ارتفاع حكمها لسبب قد علمه(2/530)
المتعاقدان عند ابتداء العقد وهو: " انقضاء الأجل "، وهو انتهاء
السنة.
فلو استأجر منزلاً لسنة كاملة، فإن المستأجر والمؤجر يعلمان - عند
ابتداء العقد - أنه عند انتهاء السنة سيرتفع حكم الإجارة، ولو انهدم
المنزل في أثناء السنة فإن للمستأجر الفسخ مع عدم علمه عند ابتداء
العقد بانهدام المنزل.
فكذلك يقاس على ذلك نسخ الحكم، وهو قطع دوام الحكم،
لا بيان انتهائه.
فنسخ الحكم فجأة مثل فسخ الإجارة.
أما انتهاء مدة الحكم فإنه لا يسمى نسخا، كما أن انقضاء مدة
الإجارة لا يسمى فسخا.
ولقد عبرنا بلفظ " الثابت " لبيان أنه يشترط في الحكم الأول أن
يكون ثابتا، لأن ما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه؛ لأنه أصلا لم
تنشغل الذمة به.
ولقد عبرنا بلفظ " الخطاب " ولم نعبر بلفظ " النص "؛ لأن لفظ
" الخطاب " شامل للفظ، والفحوى، والمفهوم؛ لأن النسخ يجوز
بجميع ذلك.
وعبرنا بلفظ " رفع الحكم " ولم نعبر بعبارة: " رفع الأمر والنهي "
وذلك ليتناول الأمر والنهي والخبر، وجميع أنواع الحكم من واجب
ومندوب ومكروه ومباح وحرام، فإن جميع ذلك قد ينسخ.
وقد قيدنا التعريف بالخطاب المتقدم؛ لبيان أنه إذا زال حكم العقل
بإيجاب العبادات ابتداء كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك، فإن هذا(2/531)
لا يسمى نسخاً؛ لأن الحكم المرفوع - وهو حكم العقل، أو حكم
النفي الأصلي - لم يكن ثابتا بخطاب من الشارع متقدم، بل هو
ثابت بالأصل؛ لأن الأصل براءة الذمة.
وقيدنا التعريف بالخطاب المتأخر للاحتراز من زوال الحكم بدون
خطاب كالموت والجنون؛ لأنه من المعلوم: أن من مات أو جن فإن
التكاليف ترتفع عنه، ولا يسمى ذلك نسخاً؛ لأن رفع الحكم عنهما
لم يكن بخطاب، بل بسبب الموت والجنون.
وقلنا: " بخطاب متأخر عنه " لبيان أنه يشترط: تأخر الخطاب
الثاني - وهو الناسخ - عن الخطاب الأول المثبت للحكم الأول
المنسوخ.
واشتراط التأخر - هنا - لإخراج المخصِّصات المتصلة، كالشرط،
والغاية، والاستثناء.
مثال الشرط قولك: " أنت طالق إن دخلت الدار "، فإن قولك:
" إن دخلت الدار " شرط قد رفع حكم عموم وقوع الطلاق الذي
دلَّ عليه قوله: " أنت طالق "، وهذا لا يسمى نسخا وإن كان رفعا
لحكم بخطاب؛ لأن الخطاب غير متأخر.
ومثال الغاية قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، فإن
مجيء الليل لا يكون نسخاً للصوم؛ لأنه وإن كان رفعاً لحكم
بخطاب إلا أن هذا الخطاب غير متأخر، بل هو متصل، فهو قد
انتهى بانتهاء غاية الحكم وانقضاء وقته.
ومثال الاستثناء قولك: " أنت طالق ثلاثا إلا واحدة "، فإن هذا
الاستثناء قد رفع عموم الطلاق الثلاث حتى ردَّه إلى اثنتين، فهذا(2/532)
رفع لحكم بخطاب، ولكن لا يسمى نسخاً؛ لأن الخطاب غير
متأخر عنه، بل هو متصل.
الحاصل: أنه يكون الخطاب الرافع ناسخا إذا ورد هذا الرافع بعد
أن ثبت الحكم المراد نسخه واستقر، بحيث يدوم لولا هذا الرافع.
أما إذا اتصل الرافع بالمنسوخ، فإنه يكون بيانا وإتماماً لمعنى
الكلام.
اعتراض على هذا التعريف:
قال كثير من المعتزلة: إن تحديد النسخ بـ " الرفع " لا يصح؟
لأدلة هي كما يلي:
الدليل الأول: قالوا: إن النسخ بمعنى الرفع يدل على البَداء -
وهو: الظهور بعد أن لم يكن - والبَداء محال في حق اللَّه تعالى؟
حيث إننا لو قلنا به في حق اللَّه تعالى فإنه يلزم منه: أن اللَّه لما حكم
بشيء بدا له وظهر له - فيما بعد - أن هذا الحكم خطأ ثم ندم عليه
وهذا محال في حق اللَّه تعالى.
جوابه:
نجيب عنه بثلاثة أجوبة هي كما يلي:
الجواب الأول: أنا نقطع بعدم لزوم البَداء من رفع الحكم،
وذلك لأنا نقطع بكمال علم اللَّه تعالى، والبَداء ينافي كمال العلم؟
لأنه يستلزم الجهل المحض، لأن البَداء - كما قلنا - هو: ظهور
الشيء بعد أن كان خافياً.
الجواب الثاني: نحن لا نقول: إن اللَّه تعالى كان قد خفي عليه
شيء في الأول وظهر في الثاني، وإنما نقول: إنه خاطب بهذا(2/533)
الخطاب وهو يعلم بأنه سيسقطه عن العباد بعد مدة من الزمان، فهو
سبحانه علم أن مصلحة العباد تقتضي هذا الحكم في هذا الزمان بعينه
وهو مفسدة لهم في زمن ثاني، فلما انتهى الزمن الأول رفع ذلك
الحكم عنهم، وهذا ليس ببداء.
الجواب الثالث: أن اللَّه سبحانه خلق الخلق على صفات مختلفة،
فخلق الإنسان على صفة ثم نقله إلى صفة أخرى؛ حيث إنه خلقه
طفلاً ثم رجلاً ثم شيبة، فإذا كان يفعل ذلك وهو لا يسمى بَداءً،
فإن ما نحن فيه مثله، حيث إنه أنزل علينا حكما فعملنا به مدة، ثم
نقلنا إلى حكم آخر فلا يسمى ذلك بَداء.
الدليل الثاني: قالوا: إن خطاب اللَّه تعالى قديم، والقديم لا
يصح رفعه، لأن الرفع نقل وإزالة وتغيير، وكل ذلك محال على
القديم.
جوابه:
نجيب عنه: بأنه ليس معنى النسخ رفع الخطاب نفسه، بل المراد
بالنسخ: رفع وقطع تعفُق الخطاب بالمكلَّف؛ قياسا على المكلف إذا
طرأ عليه طارئ مثل: أن يصاب بجنون، فإن تعلق الخطاب بهذا
المكلف يزول بسبب هذا الطارئ، ثم إذا زال الجنون وأصبح قادراً
على القيام بما كلف به عاد إليه تعلق الخطاب به، فالخطاب نفسه لم
يتغير، حيث إنه باق على ما هو عليه من حيث ذاته، فالجنون
- مثلاً - سبب من جهة المخاطب بقطع تعلق الخطاب عنه.
فكذلك النسخ سبب من جهة المخاطب بقطع تعلُّق الخطاب بهؤلاء
المكلَّفين.
الدليل الثالث: قالوا: إن تحديد النسخ بالرفع يؤدي إلى تناقض(2/534)
الله في أحكامه، حيث إنه من جهة إثبات الحكم فإنه قد أمر به وأراد
وجوده وشرعه، ومن جهة رفع الحكم فإنه قد نهى عنه، ولم يرد
وجوده ولا شرعه.
فلزم من ذلك: أن يكون الحكم الواحد مراداً وغير مراد ولا معنى
للتناقض إلا هذا.
جوابه:
نجيب عنه: بأن هذا مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهذا
باطل؛ لأن الأمر - عندنا - يفارق الإرادة بدليل: أن اللَّه - تعالى -
قد أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر
إبليس بالسجود ولم يرده منه؛ لأنه لو أراد ذلك لوقع؛ فإن الله
تعالى فعال لما يريد.
فالله تعالى قد يأمر بالشيء ولا يريد وقوع ووجود المأمور به، فلا
تناقض بين الأمر بالشيء وكونه غير مراد الوقوع والوجود.
الدليل الرابع: قالوا: إن الحكم المنسوخ إنما أثبته اللَّه تعالى لحسنه
وصلاحيته للمكلَّفين فيمتنع رفعه، لأن رفعه - بالنهي عنه - يلزم منه
أن ينقلب الحسن قبيحا، لأنه لولا قبحه وعدم صلاحيته لما رفع.
جوابه:
نجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن هذا مبني على قاعدة وهي: " التحسين والتقبيح
العقليين " وهي باطلة عندنا، لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات،
فالشارع هو اللَّه تعالى، فما أمر به يكون حسنا، وما نهى عنه يكون
قبيحاً.(2/535)
ثانيهما: أن الشيء قد يكون حسنا في وقت، وقبيحاً في وقت
آخر، فإذا أمر اللَّه تعالى في هذا الوقت بحكم فإنه يكون حسنا وفيه
مصلحة للعباد، وإذا نهى عنه في وقت آخر يكون قبيحاً وفيه مفسدة
على العباد، وهذا ليس فيه انقلاب الحسن إلى القبيح لمن دقق فيه.
التعريف الثاني: أن النسخ: النص الدال على انتهاء أمد الحكم
الشرعي مع التأخير عن مورده.
اختاره: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين، وفخر
الدين الرازي، والقرافي، وجماعة من المعتزلة، ونسب إلى الفقهاء.
شرح التعريف:
إن الحكم المنسوخ مغيا بغاية معينة ينتهي إليها، وله مدة معلومة
محدودة، فإذا جاءت تلك الغاية ينتهي العمل به بذاته، والنسخ
كشف هذا الانتهاء.
فأصحاب هذا التعريف يجعلون النسخ بيانا، أي: أن الخطاب
الثاني بين وكشف أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مراداً من
الخطاب الأول، كما أن التخصيص في الأعيان كذلك.
سبب اختيار هؤلاء لهذا التعريف:
إن هؤلاء اختاروا هذا التعريف وعدلوا عن التعريف الأول لسبب
وهو: أن الحكم راجع إلى كلام اللَّه - تعالى - وهو قديم،
والقديم لا يرفع ولا يزال.
جوابه:
نجيب عنه بأن المرفوع ليس نفس الخطاب، بل إن المرفوع هو
تعلق الخطاب بالمكلف فقط، وقد بيَّنا ذلك فيما سبق.(2/536)
* ما يمكن الاعتراض به على هذا التعريف:
يعترض على هذا التعريف بما يلي:
الاعتراض الأول: أن هذا التعريف قد جعل النسخ تخصيصا
زمانياً.
أي: أن الخطاب الثاني قد كشف وبيَّن أن الأزمنة بعده لم يكن
ثبوت الحكم فيها مراداً من الخطاب الأول، كما أن التخصيص في
الأعيان كذلك، ومعلوم أن النسخ يختلف عن التخصيص كما سيأتي
بيان ذلك إن شاء اللَّه.
الاعتراض الثاني: أن التعريف غير جامع لأفراد المعرف؛ لأنه لا
يشمل " النسخ قبل التمكن من الفعل والامتثال "؛ لعدم دخول وقته؟
حيث إن عبارة: " ... الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي "
تشعر بأن الحكم الذي بين أمده قد دخل وقت العمل به، فيكون
الفعل الذي لم يدخل وقت العمل به غير داخل في التعريف.
ومقتضى هذا: أن النسخ قبل التمكن من الفعل غير جائز، وهذا
مخالف للقول الحق، وهو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل
ووقوعه كنسخ أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه، ونسخ
الخمسين صلاة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.
بيان نوع الخلاف في هذا:
أصحاب التعريف الأول قالوا: إن النسخ رفع، وأصحاب
التعريف الثاني قالوا: إن النسخ بيان فما نوع هذا الخلاف؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن الخلاف لفظي؛ لاتفاق
الفريقين على أن الحكم الأول له انعدام، وتحقق انعدامه لانعدام
متعلقه، لا لانعدام ذات الحكم.(2/537)
ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد أن
يكون منافياً للأول؛ وأن وجوده يتحقق عدم الأول.
ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أنه ليس كل الأحكام مؤقتة في
علم اللَّه، وأنه ليس كل الأحكام مؤبدة، فلا يمكن لأحد الفريقين:
أن يجزم بأنها مؤبدة، أو مؤقتة مطلقاً؛ فلا يستطيع أحد أن يقول:
إن الخطاب المطلق في علمه تعالى كان مقيداً بالدوام، أو يقول:
كان ذلك الخطاب مخصصا ببعض الأزمنة.
ثم إن أصحاب التعريف الثاني - وهم القائلون: إن النسخ بيان -
قد جوَّزوا نسخ الحكم المؤقت قبل مجيء وقته - كما سيأتي بيانه -
وهذا لا يمكن إلا إذا كان رفعاً.
فالحكم الشرعي له عمر عند اللَّه تعالى مقدّر، وأجل معين،
والله تعالى يعلم هذا الأجل، فإذا جاء ذلك الأجل أنزل حكما
اَخر، وارتفع الحكم الأول، فالحكم المنسوخ قد مات بأجله، وذلك
بإماتة اللَّه تعالى له، وبيان وظهور الإماتة ليس إلا بهذا الرفع.
فيكون في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي
كان معلوماً عند اللَّه تعالى، إلا أنه أطلقه، فصار ظاهر البقاء في
حق البشر، فكان تبديلاً - في حقنا، بيانا في حق الشارع.
أو تقول - في تعليل كون الخلاف لفظيا -: إن القائلين بأن
النسخ رفع يثبتون معه بيانا، وأن القائلين بأن النسخ بيان يثبتون معه
رفعاً؛ وذلك لأن القائلين بأنه بيان لا ينازعون في أن الحكم المنسوخ
كان قبل النسخ ثابتا، وهو بعد النسخ غير ثابت، وإنما أنكروا رفعا
يناقض الإثبات ويجامعه.
والقائلون بأن النسخ رفع لا ينازعون في أن المكلَّفين كانوا على(2/538)
ظن بأن الحكم لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم
النسخ، ثم تبيَّن لهم بالنسخ أن اللَّه - تعالى - أراد من الأول نسخه
في الزمان المخصوص؛ لأن الإرادة قديمة ولا بد منها اتفاقا، فالتقى
المذهبان.
***
المسألة الرابعة: شروط النسخ:
لعله قد اتضح لك من شرحنا للتعريف الأول وهو الذي اخترناه
الشروط التي ينبغي أن تتوفر في النسخ، وإليك أهمها:
الشرط الأول: أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بخطاب متقدم.
أما الحكم الثابت بدليل العقل أو البراءة كان يتعارف الناس على
شيء فيفعلونه كاستباحتهم الخمر في أول الإسلام على عادة كانت
لهم فرفع ذلك، فإن ذلك ليس بنسخ؛ لأنه لم يثبت بخطاب متقدم.
الشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ مطلقا لم يُحدد بمدة
معلومة، فيأتي الناسخ فجأةً دون انتظار من المكلَّفين.
الشرط الثالث: أن يكون الناسخ خطابا شرعيا، فإن ارتفع الحكم
بموت المكلَّف، أو جنونه، أو غير ذلك من عوارض الأهلية فليس
هذا بنسخ، وإنما سقط التكليف بسبب ذلك العارض.
الشرط الرابع: أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخر عنه،
فإن كان النص قد اقترن بعضه ببعض كالشرط، والغاية، والاستثناء،
فليس بنسخ؛ حيث يكون تخصيصا.
وهناك شروط مختلف فيها سنذكرها أثناء بحث المسائل التفصيلية
للنسخ.(2/539)
المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص:
النسخ قد سبق تعريفه وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم،
بخطاب متأخر عنه.
أما التخصيص فهو: " قصر اللفظ مطلقا على بعض مسماه "،
أو تقول: " هو قصر العام على بعض مسمياته "، أو هو: إخراج ما
تناوله الخطاب عنه ".
فإذا دققنا النظر في تعريف النسخ وتعريف التخصيص، فإنا نجد
أنهما يشتركان ويتفقان في أن كل واحد منهما يوجب إخراج بعض ما
تناوله اللفظ لغة، أي: أن كلًّا منهما فيه قصر للحكم على بعض
مشتملاته إلا أن النسخ: قصر للحكم على بعض الأزمان،
والتخصيص: قصر للحكم على بعض أفراده.
***
المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص:
مع اتفاقهما - فيما سبق - إلا أن بينهما فروقا هي كما يلي:
الفرق الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم - وهو
المخصوص - لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
بخلاف النسخ، فإنه يدل على أن ما خرج - وهو المنسوخ - لم
يرد التكليف به، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
الفرق الثاني: أن النسخ يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخراً عن
المنسوخ بخلاف التخصيص، فلا يشترط ذلك فيه: فيجوز أن يكون
المخصِّص مقترنا مع العام كالتخصيص بالصفة، والشرط، والغاية،
والاستثناء، ويجوز أن يكون المخصِّص متأخراً عن العام.(2/540)
الفرق الثالث: أن التخصيص لا يدخل ولا يرد على الأمر بمأمور
واحد مثل: " أكرم زيداً "؛ لأنه لا يكون إلا من متعدد.
بخلاف النسخ، فإنه يجوز وروده على الأمر بمأمور واحد كما
نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام.
الفرق الرابع: أن التخصيص تبقى معه دلالة اللفظ العام على ما
تحته حقيقة على رأي الجمهور، أو مجازاً على رأي أبي ثور وعيسى
ابن أبان فيما عدا الصورة المخصَّصة، بخلاف النسخ فلا يبقى معه
دلالة اللفظ على ما تحته.
أي: أن العام يبقى حُجَّة فيما بقي بعد التخصيص، فلا يخرج
العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقل الزمان، فإنه يبقى معمولاً
به فيما عدا الصورة المخصوصة.
أما النسخ فإنه يبطل الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في
مستقبل الزمان بالكلية، وذلك عندما يرد النسخ على الأمر بمأمور
واحد.
الفرق الخامس: أنه لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى،
ويجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى.
الفرق السادس: أن التخصيص لا يكون إلا لبعض أفراد العام.
أما النسخ فقد يرفع جميع أفراد العام، وقد يرفع بعض أفراده.
الفرق السابع: أن التخصيص لا يرد إلا على العام.
بخلاف النسخ، فإنه يرد على العام والخاص.
الفرق الثامن: أن التخصيص يجوز بالأدلة النقلية كالكتاب(2/541)
والسُّنَّة، ويجوز بالأدلة العقلية كالقياس، ويجوز بالقرائن الحالية،
والقرائن المقالية.
بخلاف النسخ، فإنه لا يجوز إلا بالأدلة النقلية كالكتاب والسُّنَّة.
الفرق التاسع: أن العام المقطوع بدليله يجوز أن يُخصص بمقطوع
مثله، ويجوز أن يخصص بمظنون كالقياس، وخبر الواحد ونحوهما
من الأدلة المخصصة.
بخلاف النسخ، فإن الحكم المقطوع بدليله لا ينسخ إلا بقاطع مثله.
***
المسألة السابعة هل النسخ جائز عقلاً؟
النسخ جائز عقلاً للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنا نعلم بصحة تحريك الجسم بعد تسكينه، وتفريقه
بعد جمعه، وإماتته بعد إحيائه.، وليس في الأمر بالشيء بعد النهي
عنه إلا ما في تحريك الجسم بعد تسكينه، وتبييضه بعد تسويده وإذا
كان ذلك كله من جملة الجائز، وجب أن يكون الأمر بالشيء بعد
النهي عنه من جملة الجائز، وهذا هو النسخ.
الدليل الثاني: أنا نعلم اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان، فلا
يمتنع أن يأمر اللَّه - تعالى - بالفعل في زمان لعلمه - سبحانه - أن
العباد لهم مصلحة فيه في هذا الزمن، ثم ينهاهم عنه ويحرمه عليهم
في زمن آخر لعلمه - سبحانه - أن العباد لو عملوا بذلك الفعل في
هذا الزمن الثاني لترتب عليه مفسدة، كما يفعل الطبيب بالمريض؟
حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في
زمن آخر بسبب اختلاف المصلحة.(2/542)
الدليل الثالث: أنه لا يمتنع عقلاً أن يأمر اللَّه تعالى بالشيء ثم
ينسخه، سواء نسخ قبل الفعل، أو بعده للامتحان والابتلاء، فمن
فعل الشيء قبل نسخه، أو عزم على فعله، أو استعد للامتثال، أو
ظهرت عليه أي علامة تدل على استعداده لامتثال ذلك الأمر قبل أن
ينسخ: فإنه يثاب.
ومن لم يمتثل، ولم تظهر عليه أيُّ علامة للامتثال فإنه يأثم.
الدليل الرابع: أنه إذا جاز أن يطلق الأمر ثم يسقطه بالعجز
والمرض جاز أن يطلق الأمر ويسقطه بخطاب آخر.
الدليل الخامس: أنه إذا جاز أن يخلق اللَّه - تعالى - خلقا على
صفة، ثم بنقله إلى صفة أخرى: مثل أن يخلقه طفلاً، ثم ينقله
إلى الشباب، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى الوت
من غير اختيار للعبد، ولم يكن ذلك قبيحا في شرع ولا عقل،
فوجب أن يجوز - هنا - أن يكلف اللَّه خلقه بعبادة ثم ينقلهم عنها.
المسألة الثامنة: هل النسخ جائز شرعاً؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن النسخ جائز شرعا.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: إجماع الصحابة، فقد أجمعوا على أن شريعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السابقة إما بالكلية، وإما فيما(2/543)
يخالفها فيه، فالأحكام التي كانت عليهم لا تلزمنا، ولسنا مطالبين
بها إذا لم يرد بها شرعنا.
الدليل الثاني: وقوع النسخ في الشريعة، والوقوع دليل الجواز:
فقد وقع في شريعتنا نسخ بعض الأحكام بعد ثبوتها، ومنها:
1 - أنه نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها
بالتربص أربعة أشهر وعشراً، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، ثم
قال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
2 - أنه نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة،
قال اللَّه تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ، وقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
3 - أنه نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان.
4 - أنه نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة، فقال تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) نسخ ذلك بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) .
وهناك أمثلة كثيرة ستأتي أثناء كلامنا عن بقية مسائل النسخ.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى بيَّن أنه إذا نسخ آية أورد مكانها آية
أخرى، وكلام اللَّه صدق، فالنسخ جائز.
وسبب نزول الآية يؤيد ذلك: حيث إن سببها هو: أن اليهود
عابوا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تحوله عن بيت المقدس إلى البيت الحرام،(2/544)
وقالوا: إن محمداً يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، فأنزل اللَّه تعالى تلك
الآية رداً عليهم، فهذا يدل دلالة واضحة على جواز النسخ؛ لأنها
ردت عليهم في شيء عابوه قد وقع فعلاً.
ما اعترض به على الاستدلال بهذه الآية:
الاعتراض الأول: أن المراد من النسخ - في هذه الآية -:
الإزالة، ونسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ.
جوابه:
يجاب عنه بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، لأنه معلوم أن القرآن كله خير من
غير تفاوت فيه، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح
المحفوظ، وكتابة آية أخرى بدلها: لما تحقق هذا الوصف - وهي
الخيرية بالنسبة لنا - وإنما تتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى
أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن بعض
الأحكام قد يكون أخف من بعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة، أو
أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض الآخر من الأحكام - على
خلاف بين العلماء - فوجب حمل النسخ على أحكام الآيات
الموجودة في المصحف لا على ما ذكره المعترض.
الاعتراض الثاني: أنه ليس المراد من الآية النسخ، وإنما المراد
التخصيص.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا غير صحيح لأمرين:
أولهما: أن لفظ الآية هو: " ما ننسخ "، والنسخ غير التخصيص،
فكل واحد منهما له مفهوم يخالف الآخر كما سبق بيان ذلك.(2/545)
ثانيهما: أن التخصيص لا يستدعي بدلاً مثله، أو خيراً منه، وإنما
التخصيص بيان للكلام.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) .
وجه الدلالة: أن التبديل عام وشامل للرفع والإثبات، والمرفوع
إما تلاوة، وإما حكم، وكيفما كان فهو نسخ.
المذهب الثاني: أن النسخ ممتنع شرعاً.
نسب هذا المذهب إلى أبي مسلم الأصفهاني - محمد بن بحر
المتوفى عام 422 هـ.
دليل هذا المذهب:
استدل على ذلك بقوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
وجه الاستدلال: أن النسخ باطل؛ لأن فيه إلغاء للحكم
المنسوخ، فلو وقع في القرآن لأتاه الباطل، وفى ذلك تكذيب لخبر
الله تعالى، والكذب محال في خبره.
جوابه:
يجاب عنه بأن الآية لا تدل على أن النسخ ممتنع؛ لأمرين:
أولهما: أن معنى الآية: أنه لم يتقدم على القرآن من كتب اللَّه ما
يبطله، ولا يأتي من بعده من كتب اللَّه ما يبطله، وهذا ليس فيه
معارضة في أنه ينسخ بعضه بعضاً.
ثانيهما: أن النسخ إبطال، وليس بباطل؛ لأن الباطل ضد
الحق، والنسخ حق، فهو إبطال العمل بالحكم المنسوخ.(2/546)
بيان نوع الخلاف:
ابن دقيق العيد، وابن السمعاني، وابن الحاجب، وتاج الدين
ابن السبكي، وغيرهم ممن تعرضوا لذلك يذكرون أن الخلاف بين
الجمهور وأبي مسلم الأصفهاني لفظي.
والقول الحق عندي التفصيل، وبيانه:
أن العلماء الذين بلغهم مذهب أبي مسلم اختلفوا في مراده على
أقوال:
فقيل: إنه لا ينكر حقيقة النسخ، لكن لا يسميه بهذا الاسم،
بل يسميه تخصيصا زمنيا.
وقيل: إنه ينكره، وهو باطل عنده، وقيل: ينكره في شريعة
واحدة - فقط -، وقيل: ينكره في القرآن خاصة.
والراجح عندي هو الأول - وهو: أنه يسميه تخصيصا زمنيا -
لأمرين:
أولهما: أنه لا يتصور من مسلم إنكار النسخ؛ لأن النسخ من
ضروريات هذه الشريعة؛ إذ هو ثابت وواقع.
ثانيهما: أن أبا مسلم مؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومقر بأن التعبد بشرع من قبله من الأنبياء السابقين إنما هو مغيًّا إلى حين ظهور نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعند ظهوره - صلى الله عليه وسلم - زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية، ولو لم يقر بذلك لانتفت عنه صفة الإسلام.
وإذا كان يسميه تخصيصا فالخلاف لفظي؛ لأن النسخ تخصيص
في أزمان الخكم، ومعروف أن تخصيص الأزمان كتخصيص
الأشخاص، فمعنى النسخ وحقيقته قد اتقق عليه بين الجمهور وأبي مسلم.(2/547)
لكن الجمهور يسمونه نسخا، وأبا مسلم يسميه تخصيصا،
فكل منسوخ عنده فيها مغيًّا عنده في علم اللَّه تعالى إلى ورود ناسخه
كالمغيا في اللفظ، فنشأ من هذا تسمية النسخ تخصيصا، والغاية من
المخصصات المعروفة، إذن الخلاف في العبارة والاصطلاح، فيكون
الخلاف لفظياً.
أما على قول من قال: " إن النسخ باطل عنده، وهو ينكره
حقيقة "، أو من قال: " إنه ينكره في شريعة واحدة "، أو من
قال: " ينكره في القرآن خاصة "، فالخلاف يكون معنوياً، إذ يترتب
عليه آثار كثيرة، حيث يلزم منه إنكار كثير من الآيات الناسخة.
تنبيه: بعض الأصوليين ذكروا أن من المنكرين للنسخ بعض فرق
من اليهود، وهي ثلاث فرق هي كما يلي:
الشمعونية - نسبة إلى شمعون بن يعقوب - ينكرون النسخ عقلاً
وشرعاً.
العنانية - نسبة إلى عنان بن داود - ينكرون النسخ سمعا، وجوازه
عقلاً.
العيسوية - نسبة إلى أبي عيسى: إسحاق بن يعقوب الأصفهاني -
يجوزونه عقلاً، وسمعاً، ولكن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم ليست ناسخة لشريعة موسى عليه السلام.
هذه الفرق الثلاثة لهم أدلة على ما ذهبوا إليه، ولقد ذكرت ذلك
بالتفصيل، والأجوبة عن كل دليل من أدلتهم في كتابي: " إتحاف
ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت.
ولم أذكر ذلك هنا لأني توصلت أخيراً إلى أن حكاية خلاف(2/548)
اليهود في كتب أصول الفقه لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه
فيما هو مقرر في الإسلام، وفي اختلاف فرق الإسلام مما يؤثر
خلافهم في عمل المكلف، أما أقوال الكفار فلا يعتد بها في
الإسلام، وموضع حكاية خلاف الكفار، وشبههم والرد عليها هو
أصول الدين.
***
المسألة التاسعة: حكمة النسخ:
عندنا نوعان من النسخ هما:
أولهما: نسخ الإسلام لما سبقه من الأديان.
ثانيهما: نسخ بعض الأحكام ببعض في الإسلام.
أما الأول - وهو: نسخ الإسلام لجميع الشرائع السابقة - فله
حِكَمٌ ومنها:
الحكمة الأولى: أن الأعمال البدنية إذا واظب عليها الخلف عن
السلف صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها،
ومنعهم ذلك الظن من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله
وتمجيده، فإذا غيرت تلك الأعمال إلى أعمال أخرى، وتبين أن
المقصود من تلك الأعمال رعاية أحوال القلب، والأرواح في المعرفة
والمحبة: انقطعت تلك الظنون والأوهام عن الاشتغال بالصور
والظواهر إلى علام السرائر.
الحكمة الثانية: أن الخلق طبعوا على الملالة من الاستمرار على
نوع من أنواع العبادة، فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا
في أدائها.(2/549)
الحكمة الثالثة: أن النوع الإنساني يتقلب كما يتقلب الطفل في
مراحل مختلفة، ولكل مرحلة حال تناسبها، فالبشر أول عهدهم
في الوجود كانوا كالوليد في السذاجة والجهالة والبساطة، ثم بدأ
التطور شيئاً فشيئاً، وفي أثناء هذا التطور مرَّتْ عليهم أعراض متباينة
ومتفاوتة، فاقتضى ذلك وجود شرائع مختلفة لهم، فلما نضج هذا
العالم واستوى جاء هذا الدين الحنيف خاتما للأديان كلها، ومتممًا
للشرائع، وجامعاً لمصالح العباد والبلاد، فهو بحق دين عام وخالد
إلى قيام الساعة.
أما النوع الثاني - وهو: نسخ بعض الأحكام ببعض في شريعتنا -
فله حِكَم، ومنها:
الحكمة الأولى: تهيئة نفوس الناس إلى تقبل الحكم الأخير، بيان
ذلك:
أن الناس قبل مجيء الإسلام في جاهلية تعمها الفوضى، وعدم
الانضباط بأنظمة وأحكام وقيود، فاقتضت حكمة الشارع ألا ينقلهم
دفعة واحدة إلى ما يستقر عليه التشريع آخر الأمر، بل إن اللَّه تعالى
سلك بهم طريق التدريج في التشريع من الأخف إلى الأشد، من
أجل أن تتهيأ نفوسهم إلى تقبل حكمه النهائي، فيأتي ذلك الحكم
وهم على أتم الاستعداد لتقبله والعمل به؛ إذ لو ألزمهم بالأحكام
النهائية من أول وهلة لأدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام، والقضاء
على الإسلام في مهده.
ومن أمثلة ذلك: تشريع الصلاة، فقد شرعت الصلاة أولاً
ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، ثم شرعت خمسا ركعتين
ركعتين عدا المغرب فقد كانت ثلاثا، ثم أقرت تلك الصلاة في
السفر، وزيد في الحضر، فجعلت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء.(2/550)
مثال آخر: تحريم الخمر، فإنه سبحانه بيَّن أولاً ما في الخمر من
الإثم والنفع، وإن إثمه أكبر من نفعه، ثم منع - ثانيا - الصلاة في
حالة السكر، ثم حرَّم الخمر في جميع الأوقات.
مثال ثالث: تحريم الربا: فقد بيَّن - أولاً - ما في الصدقة من
الخير بخلاف الربا، فإنه لا يربو عند اللَّه، ثم بيَّن ثانيا: أن الربا
كان سبباً في تحريم بعض الطيبات على اليهود، ثم نهى - ثالثا -
عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة وهو ما كان شائعاً بين أهل الجاهلية،
ثم جاء - رابعاً - التحريم العام الذي لم يختلف فيه.
مثال رابع: عقوبة الزنا جعله الشارع - أولاً - الإيذاء بالقول
للرجال، والحبس في البيوت للنساء، ثم نسخ ذلك إلى الجلد لغير
المحصن، والتغريب والرجم للمحصن.
الحكمة الثانية: استمالة القلوب إلى اعتناق الإسلام كما في مسألة
القبلة.
بيان ذلك: أن الشارع الحكيم لم يشأ أن يفاجئ أهل الكتاب من
اليهود الذين كانوا في المدينة بخلاف ما عهدوه من أنبيائهم من الصلاة
إلى بيت المقدس، فجاء الأمر بالصلاة نحو بيت المقدس؛ لبيان أن
وجهة الرُّسُل واحدة، وأنه لا يخالف الأنبياء السابقين، وما ذلك إلا
لاستمالة قلوبهم إلى هذا الدين، فلما نسخ ذلك وأمر بالتوجه إلى
الكعبة لم يستغرب ذلك أكثرهم.
الحكمة التالثة: الابتداء والامتحان، وهذا في النسخ من الأشد
إلى الأخف، ليظهر المؤمن الحق فيفوز، وليظهر المنافق فيهلك،
وليميز اللَّه الخبيث من الطيب.
ومن أمثلة ذلك: أن اللَّه أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبخ ابنه ثم نسخ ذلك.(2/551)
مثال آخر: نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها
زوجها بالتربص أربعة أشهر وعشراً.
مثال ثالث: نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي
- صلى الله عليه وسلم -.
مثال رابع: أنه نسخ ثبات الواحد للعشرة.
***
المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة:
النسخ في الكتاب والسُّنَّة قليل؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن الشريعة الإسلامية مبنية على إرساء القواعد
الكلية والمبادئ العامة في الدين، وحفظ الضروريات، والحاجيات،
والتحسينيات، وكل ذلك لم ينسخ منه شيء، بل أتى بتقوية تلك
القواعد، وتحصينها، فلم يتناول النسخ القواعد الكلية والقواعد
العامة.
الدليل الثاني: أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ
كالخمر والربا، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد
نسخاً لحكم الإباحة الأصلية، وكذلك رفع براءة الذمة بدليل يثبت
حكماً لا يعتبر نسخاً.
الدليل الثالث: أن غالب ما ادعي فيه النسخ وجدته قد تنازع
العلماء فيه؛ لأنه يقبل الاحتمال والتأويل والجمع بين الدليلين على
وجه من كون الثاني بياناً لمجمل، أو تخصيصا لعموم، أو تقييداً
لمطلق.، ونحو ذلك.
الدليل الرابع: أن ثبوت الأحكام على المكلَّف مؤكد، فادعاء(2/552)
النسخ فيها لا يكون إلا بأمر مؤكد ومحقق؛ لأن ثبوتها أولاً محقق،
فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.
***
المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام
التي لا يتناولها:
بعد تتبع واستقراء الأحكام المنسوخة وجد أن النسخ يتناول الأحكام
الشرعية الجزئية التكليفية الفرعية العملية التي تحتمل كونها مشروعة،
أو غير مشروعة في نفسها في زمن النبوة، أي: أن مصلحتها تتغير
فتكون في وقت نافعة، وفي وقت ضارة ومفسدة على ما يعلمه الله
سبحانه.
وعلى هذا، فإن النسخ لم يتناول - واقعا - الأحكام التالية:
1 - الأحكام الأصلية المتعلقة بأصول الدين والعقائد كالإيمان بالله
وملائكته، وكتبه، ورسله، والقَدَر خيره وشره، فهذه لا تقبل
التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال.
2 - الأحكام العامة والقواعد الكلية كالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ولا ضرر ولا ضرار، وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو باطل،
والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فهذه لا يمكن رفعها؛ مصالحها ظاهرة.
3 - الأحكام التي لا تحتمل عدم المشروعية كأمهات الأخلاق،
والفضائل كالعدل، والصدق، والأمانة، وبر الوالدين، والوفاء
بالعهد، ونحو ذلك، فإن هذه لا تنسخ؛ لأن مصلحة التخلق بها
أمر ظاهر، وحسنها لا يتغير بتغير الأزمان، ولا يختلف الأشخاص
والاءكل م فيها.(2/553)
4 - الأحكام التي لا تحتمل المشروعية كأمهات الرذائل: كالكفر،
والكذب، والظلم، والخيانة، والغدر، وعقوق الوالدين، وعدم
الإخلاص، ونحو ذلك، فهذه لا تنسخ؛ لأن قبحها لا يتغير بمرور
الزمن، ولأن المفسدة التي تنال العباد في الأخذ بها ظاهرة.
5 - الأحكام المؤقتة، فهذه لا يدخلها النسخ؛ لأن التوقيت بيان
انتهاء مدة الحكم كالصيام إلى غروب الشمس.
6 - الأحكام التي لم يثبت نسخها في عصر الرسالة صراحة، أو
ضمناً، فإن تلك الأحكام مؤبدة لا تحتمل النسخ؛ لأنه لا نسخ إلا
بوحي، ولا وحي إلا بنبي، ولا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم -.
7 - الأحكام التي ارتبط بها ما ينافي النسخ كالتأبيد مثل: الجهاد
ماضٍ إلى يوم القيامة، وتحريم زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن تأبيد الحكم يقتضي حسنه على الدوام، والنسخ ينافي ذلك، هذا على حسب الواقع.
المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها،
وبالعكس، ونسخهما معا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها، ويجوز
نسخ حكمها دون لفظها، ويجوز نسخهما معاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن العقل لا يمنع من جواز نسخ لفظ الآية دون(2/554)
حكمها ونسخ حكمها دون لفظها، ونسخهما معاً، وذلك لأن الآية
يتعلق بها أحكام هي كما يلي:
" أن تلاوة لفظ الآية يثاب عليها بالإجماع ".
و" أن كتابة الآية في القرآن حكم من أحكامها ".
و" أن انعقاد الصلاة بتلك الآية يعتبر حكماً من أحكامها ".
وأن ما دلت عليه الآية من وجوب أو تحريم، أو ندب، أو
كراهة، أو إباحة مما يتعلق بالمكلَّف يعتبر - أيضاً - حكماً من
أحكامها.
فإذا ثبت أنه يتعلَّق بالآية أحكام جاز أن يكون إثبات التلاوة
والحكم معاً فيه مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر، وجاز أن
لا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقاً، وجاز أن يكون إثبات
أحدهما مصلحة في وقت دون وقت.
وبناء على ذلك جاز عقلاً رفع الحكم والتلاوة معاً، أو رفع
الحكم دون التلاوة، أو رفع التلاوة دون الحكم، فلا تلازم بينها؟
لأنها كلها أحكام شرعية، وكل حكم قابل للنسخ.
الدليل الثاني: الوقوع فقد وقع نسخ الحكم والتلاوة معاً، ونسخ
الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم، والوقوع دليل
الجواز، وإليك أمثلة على ذلك:
مثال نسخ التلاوة والحكم: ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها -
أنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن "، فكانت العشر منسوخة الحكم والتلاوة معاً بخمس رضعات.(2/555)
والمراد من الحديث: أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله حتى
إنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنأ متلواً؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى.
مثال نسخ الحبهم وبقاء التلاوة: نسخ حكم آية الاعتداد بالحول
الثابت بقوله تعالى: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بالاعتداد أربعة
أشهر وعشراً الثابت بقوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
مثال آخر - لما سبق -: أن الحكم الذي يعمل به في أول الإسلام
هو أن المكلف الذي يطيق الصيام يجوز له ترك الصيام، وتكون
الفدية واجبة عليه، قال تعالى في ذلك: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، فقد نسخ ذلك الحكم - مع بقاء تلاوة الآية -
بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) .
مثال نسخ التلاوة وبقاء الحكم: ما رواه عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - أنه فيما أنزل: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة
نكالا من الله والله عزيز حكيم".
فهذا يثبت الرجم، فنسخت هذه الآية وبقي حكمها وهو: الرجم للمحصن.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ لفظ الآية، ويبقى حكمها.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بدليلين هما:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن نسخ لفظ الآية وبقاء ما أفادته من(2/556)
الأحكام يضيع فائدة إنزال القرآن؛ لأنَّ فائدة إنزاله هي: إفادة
الأحكام، وما دامت الأحكام تستفاد بدونه، فلا فائدة من إنزاله،
فامتنع بقاء الحكم ونسخ لفظ الآية.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك،، لأن فائدة إنزال القرآن ليست
محصورة في إفادة الأحكام، فالفائدة كما تكون في إفادة الأحكام
تكون - أيضاً - للإعجاز، وزيادة الثواب بتلاوته، والإعجاز
والثواب قد حصلا من الآية قبل نسخ تلاوتها.
الدليل الثاني: قالوا فيه: إن فائدة بقاء لفظ الآية هي: تلاوتها
والثواب على ذلك، فرفعها حرمان للعباد من هذا الثواب، والله
سبحانه لا يحرم عباده من شيء فيه مصلحة لهم، فكيف يقال:
يجوز رفعها؟!
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمتنع عقلاً أن يكون مقصود الشارع من إنزال
الآية هو تعريف العباد بالحكم دون تلاوة الآية، فلما نزلت تلك الآية
بلفظ معين وعرف العباد عن طريق ذلك اللفظ الحكم الشرعي المراد
- وهو مثلاً: رجم الزاني المحصن - رفع لفظ الآية وانتهت. مهمته،
وبقي الحكم المستفاد من تلك الآية ليعمل به.
المذهب الثالث: لا يجوز نسخ الحكم، وبقاء التلاوة.
نسب هذا إلى طائفة شاذة من المعتزلة.
دليل هذا المذهب:
لقد استدلوا على ذلك بقولهم: إن بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم(2/557)
يوهم أن الحكم باق؛ نظراً لبقاء دليله وهي الآية - وفي ذلك إيقاع
المكلَّف في الجهل والحيرة، وهو قبيح من الشارع، والشارع منزه
عن ذلك: فامتنع لذلك بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم الذي أفاده.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الكلام مبني على قاعدة " التحسين والتقبيح
العقليين "، ونحن لا نقول بها.
وعلى فرض أن ذلك الكلام غير مبني على تلك القاعدة فإنا نقول
- في الجواب عنه -: إن الآية إنما تكون دليلاً إذا لم يرفع حكمها،
فيقال: إن تلك الآية دئَت على ذلك الحكم المعمول به، أما إذا رفع
وأزيل حكم تلك الآية فإنها لا تبقى دليلاً على شيء.
أي: أن الآية إنما تدل على الحكم بشرط: عدم نسخ حكمها،
وإذا انتفى هذا الشرط، ونسخ حكمها فلا تسمى دليلاً؛ لأن الدليل
هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والآية
المنسوخ حكمها لا يتوصل بها إلى شيء، إذن لا تسمى دليلاً فيبطل
ما ذكرتم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي لا ثمرة له في الفروع الفقهية؛ لأن عمل المكلَّف
لم يختلف باختلاف تلك المذاهب.
المسألة الثالثة عشرة: هل يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من
فعله وامتثاله؟
إذا ورد الناسخ بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة،(2/558)
أو بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه بعصها، فإن هذا قد اتفق
العلماء على جواز النسخ؛ لأن شرط الأمر حاصل وهو: التمكن
من الفعل.
أما إن ورد الأمر بفعل الشيء قبل وقته، ثم نسخ قبل دخول
الوقت، أو بعده، ولكن قبل التمكن من فعل ذلك الأمر، فإن
هذا هو المختلف فيه؛ حيث اختلف العلماء في نسخ الأمر بفعل
شيء قبل التمكن من امتثاله على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من فعله، فيجوز
أن يقول الشارع - مثلاً - في رمضان: " حجوا في هذه السنة "،
ثم يقول قبل ابتداء الحج: " لا تحجوا ".
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن النسخ قبل التمكن من الفعل رفع لتكليف قد
ثبت على المكلََّف، فكان نسخا، ولا يترتب على ذلك محال ولا
بَداء، فيجوز أن يأمر اللَّه - تعالى - زيداً بفعل في يوم الأحد -
مثلاً -، ويمنعه منه بمانع عائق له قبل يوم الأحد، فيكون زيد مأموراً
بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع، وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء
المانع: جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ ولا فرق.
الدليل الثاني: أنه لو قال تعالى: " واصلوا الفعل سنة "، ثم
نسخه بعد مضي شهر: جاز ذلك، وإن كان ذلك نسخا قبل وقت
الفعل في بقية السنة.
اعتراض على ذلك:
قال معترض على هذا الدليل: إن نسخه يدل على أنه لم يرد(2/559)
السنة كلها، وإنما أراد الشهر، فصار ذلك بيانا للمراد بخلاف نسخ
الكل قبل وقت فعله؛ لأنه يكون قد نسخ ما تناوله الأمر وذلك بَداء.
جوابه:
يجاب عنه بأن العبارة: " واصلوا الفعل سنة "، والسنة لا يعبر
بها عن الشهر لا حقيقة ولا مجازاً، بل هي عبارة عن اثني عشر
شهراً، فنسخه قبل ذلك هو النسخ قبل الوقت.
الدليل الثالث: الوقوع، بيان ذلك:
أن اللَّه أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه فقال سبحانه:
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) .، ثم نسخ ذلك قبل التمكن من الذبح فقال: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فقد وقع - هنا - النسخ قبل التمكن من الفعل، والوقوع دليل الجواز.
وهناك وجوه قد دلَّت على أن إبراهيم قد أمر بالذبح هي كما يلي:
الوجه الأول: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ، فقال تعالى - حكاية عن ابن إبراهيم -: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) .
فإن قول الابن - يدل على أن هناك أمراً بالذبح صدر من اللَّه إلى
إبراهيم؛ لأن معنى قوله: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به،
ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد، وإخراجه إلى الصحراء،
وأخذ آلات الذبح، وترويع الولد، فإن ذلك كله محرم من غير أمر
من اللَّه تعالى، ولا إذن منه سبحانه.(2/560)
الوجه الثاني: قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) ، فلو
لم يكن الدبح مأموراً به حقيقة لما كان هناك بلاء وامتحان عظيم.
أي: لو كان المأمور به مقدمات الذبح من أخذ الولد إلى
الصحراء، واستصحاب المدية والحبل، ونحو ذلك مما يلزم في
الذبح لما كان هناك بلاء مبين؛ لأنه يسهل على النفس فعل المقدمات
ما دامت النتيجة مأمونة وبعيدة عن الخطر.
الوجه الثالث: قوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فإن
الفداء هو البدل، والذي يصلح أن يكون الفداء بدلاً عنه هو الذبح،
فكان الذبح مأموراً به حقيقة.
وهناك وجهان دلا على أن أمر إبراهيم بالذبح قد نسخ قبل التمكن
من الذبح هما:
الوجه الأول: أنه لو لم ينسخ لذبح إبراهيم ابنه، ولكنه لم
يذبحه، فدل على أنه نسخ الأمر قبل التمكن من فعله.
الوجه الثاني: أنه لو نسخ بعد التمكن من الفعل ولم يفعل:
لكان ذلك تقصيراً من إبراهيم - عليه السلام - في امتثال ما طلب
منه، والتقصير ليس من شأن الأنبياء - عليهم السلام -؛ حيث إنه
معروف عنهم المبادرة في امتثال ما أمروا به، ولو كان وجوبه موسعا
عليهم.
* ما اعترض به على الدليل الثالث - وهو الاستدلال بتلك الآية -:
لقد اعترض أصحاب المذهب الثاني - الذي سيأتي - على
الاستدلال بتلك الآية بعدة اعتراضات، إليك إياها مع أجوبتها.
الاعتراض الأول: أن ذلك الأمر ورد في المنام، وما ورد في المنام(2/561)
لا أصل له، ولا يصلح أن يكون مستنداً، فلا يعتمد عليه، ولا
يثبت به الأمر.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه منام؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه لو كان مناما وخيالا، لا وحيا، لما جاز
لإبراهيم عليه السلام قصد الذبح المحرم، والتل للجبين، ولما سماه
الله - تعالى - بلاء مبينا، ولما احتاج إلى الفداء.
الأمر الثاني: قوله تعالى: (افعل ما تؤمر) فلو لم يؤمر
إبراهيم - عليه السلام - حقيقة كان ذلك كذباً.
الجواب الثاني: سلمنا أنه منام، لكن ما يراه الأنبياء - عليهم
السلام - في مناماتهم فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي يجب
العمل به، وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام، وقد ثبت أن وحي
نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان ستة أشهر بالمنام، فقد قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: " أول ما ابتدئ به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من النبوة الرؤيا الصادقة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ".
وعلى هذا: يكون ما ورد في منام إبراهيم - عليه السلام - من
الأمر بذبح ابنه له أصل ومستند، فيجب العمل به.
الاعتراض الثاني: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم - عليه السلام - قد أمر
بالذبح حقيقة، بل قد كلف بالعزم على الفعل فقط، لابتلاء صبره،
فيكون القصد من الأمر هو العزم على الفعل، وذلك بلاء عظيم،
والفداء إنما كان عما يتوقعه إبراهيم من الأمر بالذبح، لا عن نفس(2/562)
وقوع الأمر بالذبح، أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء،
وأخذ المدية، والحبل، والتل للجبين، ونظرا لاستشعار إبراهيم أنه
مأمور بالذبح قال تعالى: (قد صدقت الرؤيا) .
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا فاسد لوجوه:
الوجه الأول: أن إبراهيم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح فقط،
دون فعل الذبح نفسه: لما سماه بلاء مبيناً، ولما احتاج إلى الفداء،
ولما قال الذبيح: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، يؤيد ذلك
قوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) ، أي: إنك عملت في
المقدمات عمل مصدق لرؤيا فعلية.
الوجه الثاني: أن حمل الأمر على العزم على خلاف قوله تعالى:
(إني أرى في المنام أني أذبحك) فصرح - هنا - بالذبح،
ومعروف أن العزم لا يسمى ذبحا، فهذا فيه حمل شيء على غير
محمله.
الوجه الثالث: أن العزم على الفعل لا يجب إذا لم يُعتقد وجوب
المعزوم عليه، فلو لم يكن المعزوم عليه - وهو الذبح - واجباً:
لكان إبراهيم - عليه السلام - أَوْلى بمعرفة عدم الوجوب من ذلك
المعترض، أي: أنه لو لم يجب على إبراهيم الفعل - وهو الذبح
حقيقة - لم يصح منه العزم على فعله على سبيل الوجوب.
قال تعالى مؤيداً لذلك: (إني أرى في المنام أني أذبحك) ،
فقال تعالى - حكاية عن ابنه -: (افعل ما تؤمر) يعني الذبح الحقيقي.(2/563)
ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) استسلاما لفعل
الذبح، لا للعزم.
الاعتراض الثالث: أن إبراهيم لم يؤمر بنفس الذبح وحقيقته،
وإنما أمر بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء، وأخذ المدية،
والحبل، والاضطجاع، والتل للجبين، ونحو ذلك من لوازم
الذبح، دون الذبح نفسه.
وسمينا مقدمات الذبح ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم
ذلك الشيء، فتسمى " النائحة " باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء،
وكذلك يُسمى المريض الذي يخاف عليه الهلاك: ميتا، وذلك
لحصول مقدمات الموت.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا فاسد؛ لوجوه:
الوجه الأول: أن الله تعالى قال - حكاية عن ولد إبراهيم -:
(ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، ومعلوم أن مقدمات الذبح لا
تفتقر إلى الصبر؛ لأنه أمر سهل يتلاعب به الصبيان.
الوجه الثاني: أن اللَّه تعالى قال: (إن هذا لهو البلاء المبين) ،
فلو كان المأمور به مقدمات الذبح فقط: لما كان فيه بلاء واختبار
مبين، فلا يعطى هذا التفخيم، والمأمور به سهل، وهو مقدمات
الذبح.
الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه أمر بالذبح نفسه، فقال تعالى:
(يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) ، ولم يرد ذكر المقدمات،
والمقدمات لا تسمى ذبحاً في لغة العرب؛ لأن الذبح لغة هو:(2/564)
الشق والفتح، وفي الاصطلاح هو: عبارة عن قطع مكان
مخصوص تبطل معه الحياة.
وعلى هذا يكون: حمل الأمر بالذبح على المقدمات حمل بلا
دليل، فثبت: أن المأمور به هو الذبح الحقيقي.
الوجه الرابع: أن اللَّه تعالى قال: (وفديناه بذبح عظيم) ، ولو
كان إبراهيم - عليه السلام - قد فعل المأمور به من مقدمات الذبح
- كما زعمتم - لما احتاج إلى الفداء، وذلك لأن الفداء لا يكون مع
الامتثال للأمر؛ حيث إنه لا يجمع بين البدل والمبدل.
الوجه الخامس؛ أن زعمكم إن إبراهيم قد أمر بمقدمات الذبح،
دون الذبح نفسه خلاف إجماع السلف - كما قال الباجي في إحكام
الفصول - حيث إن السلف - رحمهم اللَّه - فسَّروا ما ورد في الآية
بأن إبراهيم قد أمر بنفس الذبح.
وبهذه الوجوه بطل ما زعمتم، وهو: أن المأمور به مقدمات
الذبح.
الاعتراض الرابع: أنا نسلم أن إبراهيم - عليه السلام - قد أمر
بالذبح الحقيقي، ولكن الشارع قد منعه من إنفاذه وإيقاعه بأن جعل
على عنق ابنه صفيحة من نحاس مانعة من الذبح والقطع، فلم ينسخ
الأمر، ولكن الشارع منع من تنفيذه، وهذا قد جعل التكليف
بالذبح يرتفع وينقطع، لكون إبراهيم أصبح معذوراً؛ لعدم
استطاعته القطع والذبح، والمعذور لا تكليف عليه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:(2/565)
الجواب الأول: أن قلب عنق ولد إبراهيم - عليه السلام - حديداً
لو حصل ووقع لنقل إلينا نقلاً متواتراً، ولاشتهر؛ لكونه من
المعجزات العظيمة، لكنه لم ينقل نقلاً متواتراً، ولا آحاداً، فما
زعمتموه يحتاج إلى دليل.
الجواب الثاني: أنه إن كان هذا الاعتراض صادراً من بعض المعتزلة
فإنه متناقض مع قولهم: " لا يجوز تكليف ما لا يطاق "؛ حيث إن
الله إذا علم أنه سيقلب عنقه حديداً يكون الشارع قد أمر بما يعلم
امتناع وقوعه، وهذا تكليف ما لا يطاق، وتكليف ما لا يطاق لا
يجوز.
كذلك ثبت عند المعتزلة أن الشارع لا يأمر إلا بما فيه مصلحة
للمكلَّف، ولا يجوز عندهم أن يمنع الشارع المكلَّف ما فيه مصلحة،
والكلام الوارد في هذا الاعتراض مناقض لهذه القاعدة عندهم.
الاعتراض الخامس: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم - عليه السلانم - قد أمر
بالذبح، وإنما أخبر أنه سيؤمر في المستقبل يدل على ذلك قوله تعالى
- حكاية عن الابن -: (يا أبت افعل ما تؤمر) ، فلفظ " تؤمر "
هو للاستقبال، فلو كان قد أمر بالماضي لقال: " افعل ما أمرت به "
ولكنه لم يقل ذلك؛ بل عبر بلفظ يدل على الاستقبال.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الله سبحانه قد أمر إبراهيم - عليه السلام - في
الماضي، وحصل الأمر ثم نسخ قبل التمكن من فعله، فالمراد من
قوله تعالى: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به في السابق،
والتعبير باللفظ الدال على الاستقبال والمراد به الماضي اقد وقع في
الكتاب، وكلام العرب، فمن أمثلة وقوعه في الكتاب قوله تعالى:(2/566)
(إني أرى سبع بقرات سمان) ، والمراد: إني رأيت،
وقوله تعالى: (إني أراني أعصر خمراً) ، والمراد: إني رأيت.
ومن أمثلة وقوعه في لسان العرب قول ضمرة بن جابر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يُدعى جندب
فهنا عبر بالمستقبل وهو لفظ " أدعى "، ولفظ " يدعى "،
والمراد: " إني دعيت "، و " دعي جندب " في الماضي.
وما نحن فيه من ذلك، والمراد: افعل ما أمرت به في السابق،
وحملناه على ذلك؛ لأنه لا يمكن حمله على الاستقبال؛ لأنه لو
كان الشارع قد أراد أنه سيأمر إبراهيم - عليه السلام - في المستقبل؟
لوجد ذلك الأمر قطعا؛ لئلا يكون خلفا وكذبا في الكلام، والله
منزه عن ذلك؛ حيث إنه صادق لا خلف في خبره سبحانه وتعالى،
فلما لم يوجد الأمر في المستقبل عرفنا أن المراد بقوله: (ما تؤمر) :
ما أمر به في الماضي.
الاعتراض السادس: نُسلِّم أن إبراهيم كان قد أمر بذبح ابنه حقيقة
ونسلم أنه وقع منه الذبح وحصل، ولكن كلما قطع جزءاً من رقبة
ابنه عاد ملتحما، وكلما قطع موضعا التحم الموضع الأول، وهكذا
حتى التأم الجرح كأن لم يكن، ويدل على ذلك قوله تعالى:
(قد صدقت الرؤيا) ، والمراد: إنك يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا
فامتثلت ما أمرت به، ولو لم يذبح لما كان مصدقا للرؤيا، وإذا كان
ما أمر به من الذبح قد وقع، ولكنه التحم، فلا نسخ قبل التمكن
من الفعل.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن هذا الاعتراض باطل، لوجوه:(2/567)
الوجه الأول: أنه لو كان إبراهيم كلما قطع جزءاً التحم - كما
زعمتم - لنقل إلينا نقلاً متواتراً؛ لأنه لا يمكن ترك نقله؛ لكونه من
المعجزات والآيات الباهرة التي لا يمكن تركها، لكن ذلك لم ينقل
متواتراً ولا آحاداً، ولم يسمع به قبل أن يأتي هذا المعترض، فثبت
أنه لا سند له.
واستدلال المعترض بقوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) على ما
زعم غير صحيح؛ وذلك لأن المراد بالتصديق هنا: هو التصديق
بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق يكون في القلب، دون تحقيق الفعل،
فكأن اللَّه تعالى قال: إنك يا إبراهيم لما صدقت وآمنت واعتقدت
وجوبه وعزمت على فعله وعملت في مقدماته عمل مصدق جزيناك
كما نجزي المحسنين الصادقين، فنسخنا عنك فعل الذبح وتحقيقه بذبح
كبش، فالتصديق يختلف عن التحقيق والامتثال والعمل وإيقاع ما أمر
الوجه الثاني: أن قول المعترض هذا يخالف قوله تعالى:
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) ،
فهنا نودي إبراهيم، فلو كان قد ذبح والتحم محل الذبح كما زعم المعترض: لقال: "فلما أنفد الأمر "، أو لقال: " فلما ذبح "، ونحو ذلك من
العبارات التي تدل على أنه امتثل للأمر، ولكن اللَّه سبحانه لم يأت
بشيء من ذلك، بل أتى بتلك الآية مما يدل على أنه نسخ قبل
الفعل.
الوجه الثالث: أن قول المعترض يخالف ظاهر قوله تعالى:
(وفديناه بذبح عظيم) ، فلو كان إبراهيم - عليه السلام - قد ذبح
حقيقة والتجم محل الذبح لما احتاج إلى الفداء، لأنه لا معنى للفداء(2/568)
مع تنفيذ الذبح، أي: أن الفداء بدل عن الذبح، فلا يمكن أن
يؤتى بالبدل مع فعل المبدل.
الدليل الرابع - من الأدلة على جواز نسخ الشيء قبل التمكن من
الامتثال - قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما
أحب، وظاهر هذا: جواز النسخ في عموم الأحوال، سواء بعد
التمكن من الفعل أو قبل التمكن.
الدليل الخامس: ما رواه أبو هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في بعث وقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار "، ثم قال حين
أردنا الخروج: " إن النار لا يعذب بها إلا اللَّه وإن وجدتموهما فاقتلوهما ".
الدليل السادس: ما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكسر قدور من لحم حمر إنسية فقال رجل: أو نغسلها؛ فقال:
" اغسلوها ".
ما سبق هو المذهب الأول، وهو جواز نسخ الشيء قبل التمكن
من الفعل وأدلته.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من فعله وامتثاله.
ذهب إلى ذلك المعتزلة، واختاره أبو بكر الصيرفي، وهو مذهب
بعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، والماتريدي، والدبوسي،
وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة، ونسبه الفخر الرازي إلى
الفقهاء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن الأمر بالشيء يدل على حسنه وكونه(2/569)
مصلحة، والنهي عنه يدل على قبحه وكونه مفسدة، فإذا أمر بالحج
في رمضان - مثلاً - دلَّ ذلك على حسن الحج وكونه مصلحة للعباد،
فإذا نهى عن إيقاع الحج وقال في أول شهر ذي الحجة: "لا تحجوا"
دلَّ ذلك على قبح الحج وكونه مفسدة، والفعل الواحد في حالة
واحدة لا يكون مصلحة مفسدة بالإضافة إلى شخص واحد.
فنتج أن نسخ الشيء قبل التمكن من فعله يفضي إلى أن يكون
الشيء الواحد على وجه واحد مأموراً به ومنهيا عنه، حسنا قبيحا،
مصلحة مفسدة، وهذا هو التناقض.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمتنع أن يكون الأمر بالفعل يدل على حسنه
بشرط: أن لا ينهى عنه، والنهي عنه يدل على قبحه بشرط: أن لا
يؤمر به، فيجوز أن يجعل بقاء حكمه واستمراره شرطا في الأمر
فيقول الشارع: "افعل ما أمرناك به إن لم يأت نهي يزيل أمرنا عنك ".
اعتراض على ذلك:
اعترض بعضهم على هذا الجواب بقوله: إن اللَّه تعالى إذا علم أنه
سينهى عنه، فما معنى أمره بالشرط الذي يعلم انتفاءه قطعة فيما
بعد، أي: ما الفائدة من أمره به وهو عالم بأنه سينسخه؟
جوابه:
يجاب عنه: بأن فائدة ذلك: امتحان وابتلاء المأمور، فإن عزم
على الفعل، واشتغل بالاستعداد لامتثال الأمر فإنه يثاب، أما إن لم
يعزم على الفعل، ولم يشتغل بالاستعداد للامتثال فإنه يعاقب،
وهذا من حكم النسخ التي ذكرناها فيما سبق.(2/570)
ثم كيف ينكر المعترض ذلك مع أنه يجوز الوعد والوعيد من
العالم بعواقب الأمور بالشرط؟! ، فإن اللَّه تعالى وعد على الطاعة
بالثواب بشرط عدم ما يحبط تلك الطاعة كالردة مثلاً، وتوعَّد
سبحانه على فعل المعصية بالعقاب بشرط خلو تلك المعصية عما
يكفرها من توبة، والله سبحانه عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة،
أو التوبة، ثم شرط ذلك في وعده ووعيده.
إذا ثبت ذلك فلا يستحيل أن يشرط الشارع في أمره ونهيه،
وتكون شرطيته بالنسبة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر، فكأنه قال:
"أثبتك على طاعتك ما لم تحبطها بالردة "، وهو سبحانه عالم بأنه
سيحبط أو لا يحبط، فإذا جاز ذلك بلا خلاف: جاز أن يقول:
"أمرتك بشرط البقاء والقدرة، وبشرط أن لا أنسخ عنك ذلك الأمر".
الدليل الثاني: قالوا فيه: إنه لو جاز أن يرد الأمر بشيء في وقت
ثم يرد النهي عن فعله في ذلك الوقت: للزم من ذلك أن يكون
الشخص الواحد بالفعل الواحد في الوقت الواحد مأمورا منهيا،
وذلك محال على اللَّه تعالى؛ لأنه أمر بالشيء ونهي عنه في وقت واحد.
جوابه:
يجاب عنه: بأن ذلك يكون محالا إذا كان الغرض من الأمر هو:
حصول الفعل، أما إذا كان الغرض والمقصود هو: ابتلاء المأمور
وامتحانه، فيجوز ولا مانع من ذلك؛ فإن السيد قد يقول لعبده:
"اذهب غداً إلى موضع كذا راجلاً حافيا "، وهو لا يريد الفعل،
بل يريد امتحانه ورياضته مع ما علمه بأنه سيرفع عنه غداً ذلك قبل
فعله.(2/571)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له في الفروع؛ لأن الخلاف
راجع إلى المراد من حكمة التكليف.
فمن قال: إن حكمة التكليف هي: امتثال وإيقاع ما كلف به من
المكلف، وكذلك من حكم التكليف ابتلاء وامتحان المكلف - وهو
قول أصحاب المذهب الأول وهو الصحيح - قال: يجوز نسخ
الشيء قبل التمكن قبل فعله.
وعلى هذا: فالمنسوخ بعد التمكن من الفعل حكمته الامتثال،
وقد حصل.
والمنسوخ قبل التمكن من فعله حكمته الامتحان والابتلاء، وقد
حصل قبل النسخ.
أما من قال: إن حكمة التكليف هي الامتثال والإيقاع فقط - وهو
قول أصحاب المذهب الثاني -: قال: لا يجوز نسخ الشيء قبل
التمكن من فعله؛ حيث لم تحصل الحكمة من التكليف وهي الامتثال.
***
المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ؟
تنقسم الزيادة على النص باعتبار تعلُّقها بالمزيد عليه وعدم ذلك إلى
أربعة أقسام:
القسم الأول: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وليست
من جنسه.
القسم الثاني: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وهي
من جنس المزيد عليه.(2/572)
القسم الثالث: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الجزء
بالكل.
القسم الرابع: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط
بالمشروط.
والسبب في هذا التقسيم: أن الزيادة على النص إما أن تكون
مستقلة أو غير مستقلة.
والمستقلة إما أن تكون من جنس المزيد عليه أو لا.
وغير المستقلة إما أن تكون جزءاً من المزيد عليه، أو شرطا للمزيد
عليه.
وإليك بيان كل قسم من تلك الأقسام والأمثلة عليه وحكمه.
القسم الأول: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه، ولا تتعلَّق به،
وليست من جنس المزيد عليه.
مثالها: أن يوجب اللَّه تعالى الصلاة ثم يوجب - بعد ذلك -
الصوم، والمزيد عليه وهو الصلاة مستقل تماما عن الزيادة وهي:
الصوم، وهما جنسان مختلفان - كما هو ظاهر -.
حكم هذه الزيادة:
هذه الزيادة ليست نسخا باتفاق العلماء؛ لأن حقيقة النسخ لم
تتحقق هنا؛ حيث قلنا: إن النسخ: رفع الحكم، وهنا لم يرتفع
الحكم وهو - وجوب الصلاة مثلاً - ولم يتبدل ويتغير بالزيادة - وهو
الصوم -.
أي: بقي حكم المزيد عليه - وهو الصلاة - بعد الزيادة كما كان
ثابتاً قبلها.(2/573)
فهذه الزيادة ليست بنسخ لما تقدمها من العبادات بالإجماع؛ لعدم
التنافي.
القسم الثاني: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلَّق به، وهي
من جنس المزيد عليه.
مثل: زيادة صلاة على الصلوات الخمس.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن تلك الزيادة لم ترفع حكما شرعياً، فلم
توجد حقيقة النسخ، حيث إن المزيد عليه باقِ بعد الزيادة، كما كان
قبل الزيادة مثل: الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا
فرق، فكما أن وجوب الصلاة لم يتغير بزيادة الصوم، فكذلك
الحال بالنسبة لزيادة صلاة على صلاة أخرى ولا فرق.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة تكون نسخا لحكم المزيد عليه.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية العراقيين.
دليل هذا المذهب:
أن حقيقة النسخ وهو: " رفع الحكم " قد وجدت، فكان نسخا.
بيان ذلك:
أن زيادة صلاة على الصلوات الخمس يغيِّر الصلاة الوسطى فيرتفع(2/574)
وجوبها الستفاد من قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) .
فوسطية الصلاة متوقفة على العدد المفرد - وهو الخمس هنا -
لكي يكون عدد ما قبلها كعدد ما بعدها، فإذا زيدت صلاة سادسة
فإنها ترفع كون الوسطى وسطى وتغيره، فتتبدل الوسطية بالنسبة لها
إلى غيرها فتزيل وترفع الحكم وهو: وجوب المحافظة على الصلاة
الوسطى المستفاد من الأمر بها في الآية السابقة.
إذن: هذه الزيادة رفعت حكما شرعياً، وهذا هو معنى النسخ.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الزيادة المستقلة التي هي من جنس المزيد عليه
مثل الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا فرق.
فلو كانت زيادة صلاة سادسة نسخا للزم أن تكون زيادة العبادة
المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه نسخا؛ لأنها تجعل العبادة
الأخيرة غير أخيرة فتغير صفتها، وتتساوى مع السادسة في هذا
التعبير، فلما لم تجعل هذه نسخا بالإجماع، يلزم أن لا تجعل الزيادة
المستقلة التي من جنس المزيد عليه نسخا.
الجواب الثاني: أن زيادة صلاة سادسة على الخمس - لا تزيل
المحافظة على الوسطى؛ لأن وجوب المحافظة قد تعلق بمسمَّى
الوسطى عند نزول الآية، وهذا المسمى لما صدق: لا تؤثر عليه هذه
الزيادة.
القسم الثالث: الزيادة غير المستقلة التي تتعلق بالمزيد عليه تعلَّق
الجزء بالكل.(2/575)
أي: أن هذه الزيادة غير مستقلة عن المزيد عليه، فتتعلق به بأن
تكون جزءاً من المزيد عليه.
مثال ذلك: زيادة تغريب عام على جلد مائة في حد الزاني
البكر، حيث أصبح جزءاً من الحد، فأصبح حد الزاني البكر بعد
الزيادة مكونا من جزأين:
أولهما: جلد مائة جلدة، وهو الوارد في نص القرآن الكريم.
ثانيهما: تغريب عام، وهو الوارد في نص السُّنَّة.
مثال آخر: زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة، وذلك في حد
القذف.
بيانه: أن حد القذف هو: ثمانون جلدة - كما هو معلوم، فإذا
زيد - على سبيل الافتراض - عشرون جلدة، فإنه يصبح جزءاً من
الحد، فأصبح حد القذف بعد الزيادة مكونا من جزأين:
أولهما: ثمانون جلدة، وهو الوارد في نص القرآن.
ثانيهما: عشرون جلدة، وهي زيادة مفترضة.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم وتبديله
لم توجد عند تلك الزيادة، بل إن هذه الزيادة تقرير للحكم المزيد(2/576)
عليه، وتثبيت له، لأن ضم شيء إلى شيء آخر يثبت المضموم إليه
ويُقوره؛ نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل تقوم به،
ولهذا نرى حكم المزيد عليه ثابتا لم يتغير ولم يتبدل ولم يرتفع بعد
إلحاق الزيادة به، فكان ثابتا بعد الزيادة، كما كان ثابتا قبل الزيادة؟
قياسا على الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه بجامع
عدم التغير في كل.
فمثلاً: بعد زيادة " التغريب " وإلحاقه بـ " الجلد مائة " لم تخرج
تلك الزيادة الجلد عن كونه واجبا، بل استمر على هذا الحكم بعد
إلحاق الزيادة - وهي التغريب - به كما كان واجبا قبله، وذلك مثل:
إيجاب الصوم بعد إيجابه للصلاة لم يخرج الصلاة عن كونها فرضاً،
بل ظلت فرضاً بعد الصيام كما كانت قبله، كل ما في الأمر أنه
أضاف إليه زيادة.
كما لو أن إنسانا معه كيس فيه ريالات فأضاف إليها ريالا لا يقال:
إنه رفع وأزال ما في الكيس، بل يقال: أضاف إليه زيادة، كذا لو
كتب كتابا، ثم كتب في حاشيته زيادة معلومات أو تعليقات لا يقال:
نسخ ما في الكتاب ورفعه، بل يقال: إنه أضاف إليه زيادة وهكذا.
فكذلك هنا لم يكن في زيادة التغريب على الجلد مائة رفع ولا
إزالة، فاستعمال لفظ النسخ فيه محال.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ.
ذهب إلى ذلك الحنفية كما صرح بذلك أبو عبد اللَّه الصيمري،
وأبو بكر الرازي، والسرخسي، وعبد العزيز البخاري، والأنصاري.
دليل هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن جلد مائة في حد(2/577)
الزاني البكر كان هو الحد الكامل، ويجوز الاختصار عليه؛ لقوله
تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ،
فلما جاءت السُّنَّة بزيادة التغريب، وذلك بحديث عبادة بن الصامت:
" البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ": رفعت هذه الزيادة ذلك
الحكم، وهو: " صفة الكمال والاقتصار على جلد مائة "، وأصبح
الحد بعد الزيادة: " الجلد والتغريب "، فتكون صفة الكمال قد
رفعت، والاقتصار على الجلد قد رفع، والرفع هو النسخ.
جوابه:
إن رفع صفة الكمال بالزيادة، ورفع الاقتصار على المائة لم
يتحقق به النسخ، بيان ذلك:
أن صفة الكمال إذا ارتفعت بالزيادة لا يتحقق النسخ؛ لأن صفة
الكمال لا يندرج ضمن أقسام الأحكام الشرعي، فليس مقصوداً،
بل المقصود هو وجوب الحد - الذي هو مائة جلدة - والوجوب لم
يرتفع، بل هو باق على حاله، وهو كل الواجب، فلما زيد
"التغريب " لم يتغير، بل هناك واجب قد أضيف إليه.
يؤيد ذلك: أن الشارع لما أوجب الصلاة فقط كانت هي كل
الواجب على المكلف، فلما أوجب الصوم بعد ذلك: خرجت
الصلاة عن كونها هي كل الواجب، بل صار الواجب الصلاة
والصوم، وليس ذلك بنسخ باتفاق العلماء.
فكذلك هنا يقال: إن جلد مائة هو الواجب الكامل على الزاني
البكر، فلما زيد " التغريب ": خرج " جلد مائة " عن كونه هو كل
الواجب، بل صار الواجب: الجلد والتغريب، فلا يسمى ذلك
نسخاً.(2/578)
وأيضاً: رفع الاقتصار على مائة جلدة لا يحقق النسخ؛ لان
منطوق النص هو قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لا يدل على هذا الاقتصار، أي: لا يستفاد
الاقتصار من هذا المنطوق؛ وذلك لأن وجوب الشيء لا ينفي وجوب
غيره، فإيجاب الحد - وهو جلد مائة - لا ينفي أن يوجب الشارع
غيره زيادة عليه.
وإنما الاقتصار على الحد المذكور في الآية يستفاد من مفهوم المخالفة
للنص القرآني، والحنفية لا يحتجون بمفهوم المخالفة.
ثم اعلم: أن الاقتصار على الحد المذكور قد فُهِم من النص
القرآني والمفهوم يجوز أن يرفع بخبر الواحد وهو: حديث عبادة بن
الصامت، ورفع المفهوم لا يُسمى نسخا.
القسم الرابع: الزيادة غير المستقلة التي تتعلَّق بالمزيد عليه تعلُّق
الشرط بالشروط.
أي: تكون الزيادة شرطا للمزيد عليه، فإذا فقد المزيد عليه هذه
الزيادة - وهو الشرط - يكون وجوده وعدمه واحداً.
من أمثلة ذلك: زيادة النية في الطهارة؛ حيث إن الشارع أمر
بالطهارة مطلقاً، ثم زيد شرط النية لها.
وأيضاً: زيادة الطهارة في الطواف؛ حيث إن الشارع أمر
بالطواف مطلقا، ثم زيد شرط الطهارة له، وكذا زيادة اشتراط
الطهارة على وجوب الصلاة.
حكم ذلك:
لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على
مذهبين:(2/579)
المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الصحيح، لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم لم توجد
هنا، بيان ذلك:
أن قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) - مثلاً - اقتضى أمرين:
أحدهما: " وجوب الصلاة،.
والثاني: " الإجزاء "، حيث يجوز على هذا اللفظ الصلاة بدون
طهارة.
فلما جاءت الزيادة - وهي اشتراط الطهارة للصلاة - فالوجوب
لم يرتفع بها، بل هو باق على حاله بعد الزيادة وقبلها؛ حيث بقي
الأمر به.
وأما الإجزاء فهو الذي ارتفع بهذه الزيادة؛ حيث أصبحت الصلاة
لا تجزئ إلا بطهارة، فهنا ارتفع الإجزاء فقط، وارتفاع الإجزاء فقط
جعل المرتفع بعض ما تناوله واقتضاه اللفظ الذي هو قوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وهذا يسمى تخصيصا، لا نسخا.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ.
ذهب إلى ذلك: الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي.
دليل هذا المذهب:
استدلوا على ذلك بقولهم: إنه كان حكم المزيد عليه الإجزاء
والصحة بدون تلك الزيادة، فلما جاءت الزيادة ارتفع ذلك الحكم،
فاصبح المزيد عليه لا يجزئ، ولا يصح إلا بتلك الزيادة، والرفع
نسخ.(2/580)
فمثلاً: كانت الصلاة تجزئ وتصح بدون طهارة، فلما زيد
اشتراط الطهارة: أصبحت الصلاة لا تجزي، ولا تصح لوحدها،
بل لا بد من الطهارة، فرفع إجزاء الصلاة لوحدها، والرفع نسخ.
كذلك: الطهارة كانت تجزئ بدون النية، فلما زيد عليها اشتراط
النية أصبحت الطهارة لا تصح إلا بنية، فأمر الشارع بالطهارة مع
النية، وهذا هو الرفع؛ حيث رفع إجزاء الطهارة لوحدها،
وأصبحت لا تجزئ إلا بنية، والرفع نسخ.
جوابه:
يجاب عنه بأن ما ذكرتموه صحيح لو أن الإجزاء استقر وثبت أولاً،
ثم وردت الزيادة بعده؛ لأن من شرط النسخ: تأخر الناسخ عن
المنسوخ، وهنا لم يتحقق ذلك الشرط؛ لأنه يحتمل أن تكون الزيادة
قد ثبتت وهي مقارنة للفظ المزيد عليه.
وعلى هذا: يكون إدعاؤكم استقرار الإجزاء، ثم ورود الزيادة
بعد ذلك هو دعوى يحتاج إلى دليل، ولا دليل عندكم، فثبت أن
تلك الزيادة ليست بنسخ.
الخلاصة:
يتلخص مما سبق من أقسام الزيادة على النص: أن الجمهور
يقولون: إن الزيادة ليست بنسخ في جميعها.
وأن الحنفية يقولون: إن الزيادة نسخ.
بيان نوع الخلاف في تلك الأقسام:
الخلاف في تلك الأقسام معنوي، قد أثر في إثبات تلك الزيادة
بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، أو القياس.(2/581)
فبناء على المذهب الثاني - وهو مذهب الحنفية - وهو الذي يرى
أن الزيادة نسخ، فإنه لا تثبت تلك الزيادة بخبر الواحد أو القياس؛ كلًّا منهما لا ينسخ المتواتر كزيادة " تغريب عام "، فهذا خبر
واحد لذلك رده أبو حنيفة؛ لأنه زيادة عما في القرآن؛ لأن القرآن
لا يوجد فيه إلا الجلد، وذلك في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، والقرآن متواتر لا ينسخه خبر آحاد.
أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور وهو الذي يرى:
أن الزيادة ليست بنسخ - فإن تلك الزيادة ثابتة عندهم وإن كان ثبوتها
بخبر الواحد، فقبلوها، لذلك زادوا على حد الجلد التغريب.
كذلك لم يئبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية -
وجوب قراءة الفاتحة الئابت بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
لأنه خبر واحد، فقالوا: إن قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ،
يفيد افتراض مطلق القراءة لما تيسر من أي سورة كانت، فجعل الفاتحة ركنا نسخ لهذا القاطع بخبر الواحد فلا يجوز.
أما على المذهب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن الزيادة
ليست بنسخ - فإنهم قبلوا تلك الزيادة وهي ثابتة عندهم، فلا صلاة
لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
كذلك لم يثبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية
القائلون: إن الزيادة نسخ - اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة
الظهار؛ لأن المثبت لذلك هو القياس على كفارة القتل؛ حيث
اشترط في كفارة القتل في عتق الرقبة الإيمان بقوله تعالى:(2/582)
(فتحرير رقبة مؤمنة) ، والقياس لا يقوى على نسخ ما في القرآن؛ حيث إن
الثابت في كفارة الظهار في القرآن هو قوله تعالى: (فتحرير رقبة)
بدون اشتراط الإيمان.
أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور - فإنهم قبلوا تلك
الزيادة وهي ثابتة عندهم، وزادوا ذلك الشرط، فاشترطوا: أن
تكون الرقبة مؤمنة؛ لأن الزيادة على النص ليست بنسخ عندهم.
تنبيه: لا بد أن تعلم أن الحنفية قد ردوا أخباراً كثيرة بسبب تمسكهم
بهذا الأصل وهو: " أن الزيادة على النص نسخ "؛ لأنه اقتضى
زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر
الواحد.
المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء العبادة أو شرطها:
أي: نسخ جزء العبادة أو شرط من شروطها هل هو نسخ لجملة
العبادة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن نسخ جزء من أجزاء العبادة أو شرط من
شروطها ليس بنسخ للعبادة كلها.
ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هو: الرفع والإزالة، وهذه
الحقيقة قد تناولت " الجزء "، و " الشرط " المنسوخ فقط،(2/583)
أما ما عدا. ذلك فلم تتناوله تلك الحقيقة؛ حيث إنه باق على حاله لم يتبدل
ولم يتغير.
الدليل الثاني: الوقوع: فقد وقع أن نسخ الشارع شرط عبادة من
العبادات، ولم تكن تلك العبادة قد نسخت بانكلية مثل: استقبال
بيت المقدس الذي هو شرط لصحة الصلاة، فقد نسخ هذا الشرط،
ولم يكن نسخه نسخاً لحكم الصلاة، بل هي باقية بحالها لم تتغير،
وإنما التغير قد تناول شرطها فقط.
وأيضاً: فقد نسخ عشر رضعات بخمس، ونسخ هذا الجزء
- وهو الخمس - لم يكن نسخاً لكل العشر.
الدليل الثالث: قياس النسخ على التخصيص، فكما أن
التخصيص لا يكون تخصيصاً للجميع، فكذلك نسخ بعض العبادة
لا يكون نسخاً لجميعها.
الدليل الرابع: أن نقص الجزء أو الشرط لم يرفع حكم تلك
العبادة من الوجوب أو الندب أو غيرهما، فلا يكون نسخا؛ وذلك
لأن النسخ هو رفع الحكم الشرعي.
المذهب الثاني: أن نسخ جزء العبادة أو شرطها نسخ للعبادة
جملتها.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، وبعض
المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن نقص جزء من أجزاء
العبادة، أو إلغاء شرط من شروطها يرفع حرمة فعلها بدون ذلك(2/584)
الجزء أو الشرط، ويبيح الفعل بدونهما، والحرمة حكم شرعي،
فيكون رفعه نسخ؛ لأن حقيقة النسخ قد وجدت.
جوابه:
يجاب عنه: بأن وجوب العبادة بعد نقص الجزء، أو إلغاء الشرط
لم يتغير ولم يرفع، بل إنه عين وجوبها قبل النقص وإلغاء الشرط،
فالحكم الثابت للعبادة حال النسخ هو الوجوب، ولم يرفع، إذن
لم توجد حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم، وإذا لم توجد فلا نسخ.
كمن أخذ ريالاً من كيس فيه عشرة ريالات، فإن الباقي بعد نقص
الريال باق على حاله لم يرفع، ولم يتأثر بشيء.
المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل:
لقد اختلف العلماء في نسخ الحكم، هل يجوز إلى غير بدل أو لا؟
على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من غير أن يأتي ببدل عنه.
وهذا مذهب الجمهور.
وهو الصحيح لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هي: الرفع والإزالة، ورفع
الشيء يتحقق في نفسه، وإن لم يثبت له خلف وبدل، فليس في
حقيقة النسخ تعرض للخلف والبدل.
الدليل الثاني: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم
دون وضع بدل عنه، أي: أن اللَّه تعالى علم أن نسخ هذا الحكم
مصلحة، ولا مصلحة في إثبات بدل له.(2/585)
الدليل الثالث: أن نسخ الحكم بلا بدل قد وقع، والوقوع دليل
الجواز.
فمن أمثلة ذلك: أن تقديم الصدقة بين يدي المناجاة لرسول الله
- صلى الله عليه وسلم - كان واجباً؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ، ثم نسخ ذلك بقوله
تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ... ) .
وكان هذا النسخ بلا بدل.
ومن ذلك أيضاً: أن الشارع نهى عن ادخار لحوم الأضاحي، ثم
نسخ ذلك بلا بدل؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -:
"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، أما الآن فكلوا، وتصدقوا، وادخروا".
ومن ذلك أيضاً: أن اللَّه تعالى أوجب على الصائم في أول
الإسلام أن يمسك بعد الفطر في أول الليل، فلو نام قبل الفطر، ثم
استيقظ ليلاً حرم عليه الطعام والشراب، ثم نسخ تحريم الأكل
والشرب في الليالي إلى غير بدل.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل.
ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض أهل الظاهر.
أدلة هذا المذهب:
استدلوا على ذلك بأدلة ومنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه لا ينسخ شيئاً من الأحكام إلا(2/586)
إذا وضع مكانه بدلاً عنه خيراً منه أو مثله، وخبر اللَّه تعالى صدق،
فالخلف في خبره محال.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أنه ليس في الآية ما يدل على أنه لا بد من
البدل، بل إن الآية تدل على أن البدل الثابت خير من المبدل إن ثبت
البدل، فهو كقول السيد لعبده: " لا آخذ منك ثوبا وأعطيك بدله
إلا إذا كان البدل خيراً من الأول "، فهذا اللفظ لا يدل على وجوب
البدل، ولكنه يدل على أن البدل إذا وقع فلا بد أن يكون خيراً.
الجواب الثاني: أن الآية وردت في التلاوة، وليس للحكم فيها ذكر.
أي: أنه يدل على نسخ لفظ الآية؛ لأن الآية حقيقة فيها،
والأصل في الإطلاق الحقيقة، فيكون على ذلك معنى الآية: لا
يوجد هنا نسخ لآية من الآيات القرآنية إلا أتينا بآية أخرى بدلها،
وليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب هو نسخ الأحكام، والآية
لا تفيد ذلك.
الجواب الثالث: أن الآية تصلح أن تكون حُجَّة لنا، بيان ذلك:
أن رفع الحكم إلى غير بدل قد يكون خيراً من المبدل؛ لما في ذلك
من رفع المشقة عن المكلف، ولكونه لو وجد في الوقت الثاني
- الذي نسخ فيه - لكان فيه مفسدة على العباد والبلاد.
الدليل الثاني قالوا فيه: إنما قلنا: إن النسخ لا يكون إلا إلى
بدل؛ لأنه أمر يلزم في كل حكم رفع، وذلك لأن الحكم إذا رفع(2/587)
عاد الأمر إلى ما كان عليه من حكم العقل، فمثلاً: إذا رفع تحريم
الخمر عاد إلى ما كان عليه قبل التحريم، وهو محرم بحكم العقل.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا غير صحيح، لأن العقل لا مدخل له في
الشرعيات، فليس له أن يحرم أو يبيح، وهذا من كلام المعتزلة بناء
على قاعدتهم: " التحسين والتقبيح العقليين "، ونحن لا نقول بها.
***
المسألة السابعة عشرة: النسخ بالأخف، والمساوي، والأثقل:
نسخ الحكم ببدل هو أخف من المنسوخ قد اتفق على جوازه كنسخ
عدة المتوفى عنها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر أيام.
نسخ الحكم ببدل مثله في التخفيف والتثقيل والتشديد كنسخ
استقبال بيت المقدس بالكعبة، قدْ اتفق على جوازه.
نسخ الحكم ببدل أثقل منه قد اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم
من الأخف إلى الأثقل، وهذه المصلحة هي التدرج والترقي من
الأحكام الخفيفة إلى الأحكام الثقيلة والشديدة: فالناس حديثو عهد
بكفر، فلو نزلت الأحكام الثقيلة في أول الأمر لنفر أكثر من دخل
في الإسلام عنه، ولكن اللَّه عَزَّ وجَكَّ رأى أن المصلحة تقتضي(2/588)
التدرج بهم في الأحكام؛ لتلافي ذلك: فينزل اللَّه الأحكام الخفيفة
في أول الأمر حتى تتمرن النفوس عليها وتتهيأ لقبول غيرها مما هو
مثلها وأثقل منها كما حصل في ابتداء التكاليف الشرعية كتحريم
الخمر، وتحريم الربا.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث وقع نسخ الحكم. من الأخف إلى
الأثقل، والوقوع دليل الجواز.
فمن أمثلة ذلك: أنه كان في أول الإسلام يجوز تأخير الصلاة في
حالة الخوف إلى وقت آخر أكثر أمنا، ونسخ ذلك إلى وجوب
الإتيان بها في حالة الخوف قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ..) ، ولا شك أن الصلاة حالة الخوف أشد.
مثال آخر: أن اللَّه تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام
مخيراً بينه وبين الفداء بالمال الثابت بقوله تعالى: (وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين) ، ثم نسخ ذلك بتعيين الصيام فقط
بقوله تعالى: (فمن شهد الشهر فليصمه) ، ومعلوم أن تعيين
الصيام أشد.
مثال ثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أمروا في أول
الإسلام بترك القتال والإعراض عن ذلك، قال تعالى: (فأعرض
عنهم) ، (وأعرض عن المشركين) ، ثم نسخ ذلك بإيجاب
الجهاد في سبيل اللَّه، ومعلوم أن وجوب الجهاد أثقل من عدمه.
الدليل الثالث: أنه إذا جاز أن لا يكلف اللَّه عباده ابتداء، ثم
يكلفهم العبادات الشاقة جاز أن ينتقل من الأخف إلى الأثقل، ولا
فرق بينهما لمن تدبر.(2/589)
المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل.
ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية كأبي بكر بن داود، ونسب إلى
كل الظاهرية، ونسب إلى بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل هؤلاء بأدلة، ومنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى نفى إرادة العسر، والعسر هو الأشق
والأثقل، إذن اللَّه لا ينقل العباد من حكم أخف إلى حكم أثقل؛ فيه عسراً عليهم ومشقة، فلو قلنا: إنه ينسخ من الأخف إلى
الأثقل لكان ذلك تكذيباً لخبر الصادق.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن الآية وردت في صورة خاصة؛ حيث وردت
في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، والخاص لا يستدل به
لإثبات قاعدة أصولية تعم كثيراً من الأحكام.
الجواب الثاني: على فرض أنها عامة، فإنا نحملها على ما فيه
اليسر والعسر بالنظر إلى المال، ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق
في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب: أنه يسر، لا عسر.
الجواب الثالث: أنه لو صح أن اللَّه لا يريد العسر لما كلف الخلق
بعبادة فيها مشقة، وهذا لا يقوله أحد.(2/590)
الدليل الثاني: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أنه ليس المراد منه أن يأتي بخير من الآية في نفسها؛ القرآن كله خير، وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا،
ومعروف أن الأصعب والأشق والأثقل ليس خيراً من الأخف
والأسهل، وليس مثلاً له، وعليه: فلا يجوز نسخ الحكم من
الأخف إلى الأثقل.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن ظاهر هذه الآية أنه نسخ التلاوة، وقد يجوز
أن يكون ثوابه أكثر، وقد ورد التفضيل في ثواب القرآن.
الجواب الثاني: أن الخير المذكور في الآية هو ما كان خيراً في
الدين، ولعل الأصعب في العبادات هو الخير في الدين من الأخف؛ ثوابه أكثر، أخرج البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي اللَّه عنها -.ْ: " ثوابك على قدر نصبك ".
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله
للأمم قبلهم، فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه: كان تكذيبا لخبره
تعالى وهو محال.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يلزم من وضع الإصر والثقل الذي كان على
من قبلنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا.(2/591)
الدليل الرابع: أن اللَّه سبحانه أخبر عن نفسه بأنه رؤوف رحيم
بعباده بقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، وغيرها من
الآيات، وخبر اللَّه تعالى صدق لا شك في ذلك، ونسخ الحكم من
الأخف إلى الأثقل ينافي تلك الرحمة والرأفة مما يؤدي إلى أن يكون
خبر اللَّه كذباً، وهذا محال.
جوابه:
يجاب عنه: بأن كون اللَّه تعالى يتصف بالرحمة والرأفة لا يمنع
من نسخ الشيء من الأخف إلى الأثقل؛ قياساً على التكاليف ابتداء،
وقياساً على تسليط الأمراض أو الفقر، وغير ذلك من أنواع المؤذيات،
بيان ذلك:
أن اللَّه تعالى قد كلَّف عباده ابتداء بإقامة العبادات الشاقة الشديدة
- بعد أن لم يكونوا مكفَفين بشيء -، وهو مع ذلك متصف
بالرحمة والرأفة، فإذا جاز ذلك: جاز أن ينقل الحكم من الأخف -
إلى الأثقل، ولا فرق بينهما في المعنى.
وكذلك: اللَّه تعالى قد سلَّط بعض الأمراض والفقر، والهموم
والغموم، وغير ذلك من أثواع العذاب والمؤذيات على بعض
المؤمنين، ومع ذلك فهو رحيم رؤوف بهم، وإنما يصيبهم بما ذكر
ابتلاء وامتحانا لهم، وتكفيراً لذنوب قد اقترفوها في دنياهم، فهو
سبحانه لا يصيب أيَّ عبد من عبيده بأيِّ مصيبة إلا وفيها مصلحة له،
فأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر وفيه أجر، وإن أصابته
ضراء صبر وفيه أجر.
كذلك هنا ينسخ الحكم من الأخف "إلى الأثقل ابتلاء وامتحانا
للمكلَّفين، ولمصالح يعلمها اللَّه تعالى.(2/592)
الدليل الخامس قالوا فيه: إن النسخ والتخفيف والحط بمعنى
واحد، فلو قال قائل: " خففت عليك ولكن إلى شيء هو أثقل ":
كان تناقضا، فكذلك إذا قال: " نسخت إلى ما هو أثقل ".
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن النسخ ليس بمعنى التخفيف
والحط في اللغة، بل النسخ لغة: هو الرفع والإزالة.
***
المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ بعض الأمَّة، فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يكون نسخا في حق من لم يبلغه، أي:
أن الحكم الأول لم يرتفع في حق من لم يبلغه الناسخ، ولا يلزمه
العمل بالناسخ، فلا يأثم إذا لم يعمل به.
هذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنفية،
والمعتزلة، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وابن
الحاجب، والقاضي أبو يعلى الحنبلي، وغيرهم.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: ما رواه ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه قال:
"بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول
الله قد أنزل عليه الليلة، وقدْ أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها،
وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
وجه الاستدلال: أن أهل قباء قد اعتدوا بما مضى من صلاة(2/593)
الصبح فلم يقضوها، ولو كان النسخ ثبت في حقهم لأمروا
بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء: دلَّ على أن النسخ لم يكن ثبت
في حقهم.
الدليل الثاني: أن الخطاب الناسخ غير لازم للمكلَّف قبل تبليغه
به لا نصاً ولا حكماً.
أما النص فقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) .
وأما الحكم فهو: أن المكلَّف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ
على وجهها قبل بلوغه بالناسخ: لكان آثما عاصيا غير خارج به عن
العهدة، كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه، ولو كان
مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة، ولما كان عاصيا بفعل ما خوطب
المذهب الثاني: أنه يكون نسخا في حق من لم يبلغه.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
لقد استدل هؤلاء بأدلة هي كما يلي:
المدليل الأول: القياس على الوكيل إذا عزله الموكل، بيان ذلك:
لو وكل شخص وكيلاً في بيع سلعة، ثم عزل الموكل ذلك
الوكيل فإنه ينعزل، وإن لم يعلم الوكيل بذلك العزل، فإن باع
سلعة بطل ذلك البيع، ويبطل أي تصرف من الوكيل بعد عزل
الموكل له، وإن لم يعلم الوكيل بذلك، فكذا الناسخ يُبطل العمل
بالمنسوخ وإن لم يعلم المكلف.(2/594)
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه قياس على أصل قد اختلف فيه؛ حيث إنه لم
يتفق على أن الوكيل ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، بل قد
اختلف فيه على رأيين:
الرأي الأول: أنه ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، فلا
تصح جميع تصرفات الوكيل بعد العزل وإن لم يعلم به.
الرأي الثاني: أن الوكيل لا ينعزل إلا بعد علمه فيصح بيعه
وجميع تصرفاته، وكذلك إن مات الموكل ولم يعلم الوكيل.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح القياس.
الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين عزل
الوكيل مع عدم علمه، وثبوت حكم الناسخ على المكلف مع عدم
علم المكلف، وهو: أن أوامر اللَّه - تعالى - ونواهيه مقرونة
بالثواب والعقاب فاعتبر فيها علم المأمور به والمنهي عنه، بخلاف
الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب.
الدليل الثاني: أن الحكم المنسوخ يرفع اتفاقا بعد علم المكلف
بالنسخ، فرفعه إما أن يكون بعلم المكلف، أو يكون بالنسخ.
لا يمكن أن يرفع بعلم المكلف؛ لأن العلم لا دخل له في ثبوت
النسخ.
فلم يبق إلا أن يرفع بالنسخ وهو الصحيح، فثبت - بهذا - أن
النسخ متحقق قبل علم المكلف، فيكون نسخا في حق من لم يبلغه
وهو المطلوب.(2/595)
جوابه:
يجاب عنه بأن الرفع بالنسخ مشروط بعلم المكلََّف به، وللشروط
لا يتحقق بدون شرطه.
بيان نوع الخلاف:
إنَّ الخلاف لفظي في هذه المسألة، حيث إنه راجع إلى المراد من
ثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الناسخ: فإن أريد بثبوت النسخ
في حق من لم يبلغه الخبر: أنه يجب عليه الأخذ بحكم الناسخ قبل
العمل به فهو إلزام بالمحال وتكليف بما لا يطاق عند الفريقين.
وإن أريد أنه إذا بلغه الناسخ يلزمه تدارك ما مضى فهذا مما لا امتناع فيه.
***
المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن:
نسني القرآن بالقرآن جائز بالإجماع، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها) ، وهو صريح في ذلك.
الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز: فقد وقع
نسخ القرآن بالقرآن كثيراً، من ذلك نسخ عدة المتوفى عنها من سنة
كاملة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، قال تعالى: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، ثم - نسخ ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ،
ونسخ الفداء(2/596)
بالمال عن الصيام، قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين) ، فنسخ ذلك بقوله: (فمن شهد الشهر فليصمه) .
الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة من حيث السند؛ حيث إن كلاً
منهما قطعي الثبوت. -
***
المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة:
هذا جائز بالاتفاق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن ينسخ الحكم الثابت بالتواتر
بمتواتر مثله.
الدليل الثاني: القياس على القرآن، فكما أنه يجوز نسخ القرآن
بالقرآن كذلك يجوز نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة بجامع: أن
كلاً منهما قطعي الثبوت.
الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة؛ حيث إن الناسخ والمنسوخ
يتفقان في أن كلًّا منهما قطعي اكشبوت.
المسألة الحادية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد:
هذا جائز بالاتفاق؛ لدليلين:
الدليل الأول: وقوعه، والوقوع دليل الجواز، من ذلك:
ما رواه بريدة - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "،
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - في شارب الخمر -: " إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه "(2/597)
، فأتي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بسكران في الرابعة فخلَّى
سبيله.
الدليل الثاني: الاتحاد في الرتبة، حيث إن الناسخ والمنسوخ
يتحدان في أن كلًّا منهما ظني الثبوت.
***
المسألة الثانية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة:
هذا جائز بالاتفاق؛ لأن التواتر يفيد العلم، ويقطع العذر،
والآحاد يفيد الظن، ونسخ الشيء بما هو أقوى وأعلى منه جائز،
ولكنه لم يقع.
المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُّنَّة بالقرآن:
هذا قد اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن مطلقا.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن القرآن والسُّنَّة وحي من اللَّه تعالى، - قال تعالى
في ذلك: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، غير أن
الكتاب متعبد بتلاوته، بخلاف السُّنَّة، ونسخ حكم أحد الوحيين
بالآخر غير ممتنع عقلاً، ولهذا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل
القرآن ناسخا للسُّنَّة لما لزم عنه محال عقلاً، فدلَّ على الجواز
العقلي.(2/598)
الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز، فلو لم يكن
جائزاً لما وقع، فقد وقع في الشرع أن القرآن نسخ السُّنَّة، من ذلك:
1 - أنه نسخ تأخير الصلاة حالة الخوف الثابت بالسُّنَّة؛ حيث
روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر الصلاة يوم الخندق: الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي من الليل فصلاها، ثم نسخ ذلك بالقرآن وهو قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة) .
2 - أنه نسخ الصلاة على المنافقين، فقد روى عمر بن الخطاب:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد اللَّه بن أبي بن سلول المنافق، فعارضه عمر - رضي اللَّه عنه - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخَّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي: " استغفر لهم " لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت " -
قال الراوي: فصلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه،
قال: فعجبت من جرأتي على رسول اللَّه، والله ورسوله أعلم،
قال: فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، فما صلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللَّه تعالى، فهذا نسخ السُّنَّة بالقرآن.
3 - أنه نسخ القبْلة إلى بيت المقدس الثابتة بالسُّنَّة بالقرآن؛ حيث
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدمَ المدينة صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
ولا يمكن أن يقال: إن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما
بالقرآن، وهو قوله تعالى: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ؛ لأن هذه الآية فيها
تخيير بين بيت المقدس وغيره من الجهات، والمنسوخ إنما هو وجوب
التوجه إليه عيناً، وذلك غير معلوم من القرآن.(2/599)
اعتراض على هذا الدليل:
قال المعترض: لعل هذه الأحكام كانت ثابتة بقرآن نسخ تلاوته،
وبقى حكمه، فيكون نسخ القرآن بالقرآن، أو لعل تلك الأحكام قد
ثبتت بالسُّنَّة، ونسخت بالسُّنَّة، فيكون من قبيل نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة
وهذا متفق عليه.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك؛ لأمرين:
أولهما: أنه لا دليل عند المعترض على أن تلك الصور من باب
نسخ القرآن بالقرآن، أو من باب نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة، ونحن قد
تمسكنا بالأصل، وهو عدم الدليل على ذلك - بعد البحث التام -.
ثانيهما: أنه لو قبل مثل هذه الاحتمالات لاقتضى أن لا يتعين
ناسخ ولا منسوخ؛ حيث إنه سيقال في كل ناسخ: إنه ليس بناسخ
بل غيره، ويقال في كل منسوخ: إنه ليس بمنسوخ بل غيره، وهذا
خلاف الإجماع، بل لما ثبت ناسخ علم تأخره عن منسوخ إلا إذا
قيل: " هذا ناسخ وذلك منسوخ "، وهو خلاف ما قاله العلماء.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن.
نسب هذا إلى الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -.
أدلة هذا المذهب:
استدل أصحاب. هذا المذهب بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
وجه الاستدلال: أن الآية دلَّت على أن السُّنَّة بيان للقرآن،(2/600)
والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخا للسُّنَّة لكان القرآن
بياناً للسُّنَّة، وسيأتي أن السُّنَّة بيان للقرآن، فيلزم من ذلك أن كل
واحد منهما بيان للآخر، وهذا دور، والدوبى باطل، فامتنع أن
يكون القرآن ناسخاً للسُّنَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الشارع لما جعل السُّنَّة بياناً للقرآن نبَّه بذلك على
أن القرآن أَوْلى أن يكون بيانا للسُّنَّة؛ لأنه أعلى منها، أي: إذا جاز
أن يبين الأعلى بالأدنى، فجواز تبيين الأدنى بالأعلى أوْلى.
الدليل الثاني: قالوا: إنه لو نسخت السُّنَّة بالقرآن للزم تنفير
الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن طاعته؛ لإيهامهم أن اللَّه - تعالى - لم يرض السُّنَّة التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مناقض لمقصود البعثة، ولقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) .
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه لو امتنع نسخ السُّنَّة بالقرآن للإيهام أن اللَّه لم
يرض عن تلك السُّنَّة، وهذا يؤدي إلى تنفير الناس عن طاعة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما زعمتم: لامتنع نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنَّة، وهو خلاف " الإجماع، حيث إنه قد اتفق على جواز نسخ
القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنّة - كما سبق ذكره -.
الجواب الثاني: أن ما قلتموه في دليلكم إنما يصح أن لو كانت
السئُنَّة من عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من تلقاء نفسه، وليس كذلك، بل إنما السُّنَّة وحي قال تعالى في ذلك: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .(2/601)
الدليل الثالث لهم قالوا فيه: إن القرآن والسُّنَّة جنسان مختلفان
من الأدلة، فلم يجز نسخ أحدهما بالآخر.
جوابه:
يجاب عنه بأن النسخ في الأصل لم يمتنع لكونهما جنسين، وإنما
امتنع؛ لأن أحدهما فرع للآخر، وأن أحدهما أدنى، فلم يجز نسخ
الأصل بفرعه، ولا نسخ الأعلى بالأدنى، وهذا لم يكن في مسألتنا؟
لأننا لم ننسخ الأعلى بما هو دونه، وإنما ننسخ الأدنى بما هو أعلى
منه، ولا مانع من ذلك.
تئبيه: لقد قلت: إن المذهب الثاني قد نسب إلى الإمام
الشافعي، وقد كثر كلام العلماء حول هذه النسبة، وقد حققت ذلك
في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه
إن شئت.
***
المسألة الر ابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة:
لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها: مذهبان:
المذهب الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً وشرعا.
وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وعامة المتكلمين، وأهل الظاهر،
وهو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه وبعض الحنابلة، وهو - اختيار
أكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.
وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة لا يستحيل عقلاً،
فالناسخ - في الحقيقة - هو الله عَزَّ وجَل، كل ما في الأمر أنه(2/602)
سبحانه أنزل الناسخ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي غير نظم القرآن، وإذا كان المنسوخ - وهو القرآن - والناسخ - وهي السُّنَّة - من اللَّه تعالى فما المانع من نسخ أحدهما للآخر؟
اعتراض على ذلك:
قال معترض على هذا الدليل: قد ينسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية اجتهاداً منه، فإن هذا ليس من اللَّه تعالى.
جوابه:
يجاب عنه بأن يقال: إن جوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - النسخ بالاجتهاد فهو من عند اللَّه - أيضا -، فالله هو الذي أذن له بالاجتهاد في هذا الأمر، فثبت المطلوب، وهو: أن الكل من اللَّه تعالى.
الدليل الثاني: أن القرآن والسُّنَّة لا فرق بينهما من حيث السند،
فكل واحد منهما متواتر، ولا فرق بينهما من حيث المصدر - كما
قلنا سابقا -.
وإذا كان كل واحد منهما قطعي الثبوت، ومصدره من اللَّه تعالى،
فإن كل واحد منهما يقوى على نسخ الآخر.
الدليل الثالث: أن النسخ تعريف بانقضاء مدة العبادة، وإعلام
سقوط مثل ما كان واجبا بالمنسوخ وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان،
والمعرفة بذلك تقع بالسُّنَّة كما تقع بالقرآن.
الدليل الرابع: الوقوع، فقد وقع في الشريعة نسخ القرآن بالممئُنَّة
المتواترة، والوقوع دليل الجواز، من ذلك:
أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، فنسخ ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا وصية لوارث".(2/603)
اعتراض على ذلك:
لقد اعترض على ذلك الدليل باعتراضين:
الاعتراض الأول: أن الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخ بقوله
- عليه السلام -: " لا وصية لوارث "، بل إنها نسخت بآية المواريث، وبيان سهام الوالدلين والأقربين، وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: " إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
جوابه:
يجاب عن هذا الاعتراض بأنه يمكن الجمع بين هذا الحديث وآية
المواريث التي هي قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب.
الاعتراض الثاني:
إن الوصية للوالدين الثابتة بالآية لا يمكن أن تنسخ بالحديث وهو:
" لا وصية لوارث "؛ لأن الحديث خبر آحاد، وليس بمتواتر،
وخبر الواحد لا يقوى على نسخ ما ثبت بالقرآن.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الحديث في قوة المتواتر؛ لأن المتواتر نوعان:
متواتر من حيث السند، ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير
نكير، فإن ظهوره يغني الناس عن روايته، والحديث الذي معنا من
النوع الثاني، حيث إن ظهور العمل به من العدول من أئمة الفتوى
بلا منازع، فإنه يجوز النسخ به.
المذهب الثاني: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً، ولا يجوز شرعا.(2/604)
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وبعض
الحنابلة، واختاره أبو إسحاق الإسفراييني، وأبو منصور البغدادي،
والقلانسي، والحارث المحاسبي.
أدلة هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب على جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة
المتواترة عقلاً بالأدلة الثلاثة الأولى التي استدل بها أصحاب المذهب
الأول.
واستدل أصحاب هذا المذهب على عدم جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة
المتواتر شرعا بما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه جعل البدل خيراً من المنسوخ أؤ مثلاً له،
والسُّنَّة ليست خيراً من القرآن ولا مساوية له في الخيرية، فلا تكون
بدلاً عن الكتاب ولا ناسخة له.
وكذلك: أخبر اللَّه تعالى أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه،
وذلك يفيد أنه يأت بما هو من جنسه، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن
لا السُّنَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المراد بالخيرية والمثلية الواردة في الآية: الخيرية
والمثلية في الحكم لا في اللفظ، ولا شك أن الخكم الثابت بالسُّنَّة قد
يكون أنفع للمكلف من الحكم المنسوخ.
ثم اعلم بأن السُّنَّة كالقرآن ولا فرق بينهما، حيث إن كلًّا منهما(2/605)
من عند اللَّه سبحانه وتعالى، كل ما في الأمر أن القرآن معجز
ومتعبد بتلاوته، والسُنَّة ليست كذلك.
فإذا علمت أن الكل من عند اللَّه، وأن المصدر واحد، وكل
منهما قطعي الثبوت، فإنه ثبت أن الآية ليس فيها ما يدل على أن
السُّنَة لا تنسخ القرآن.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
وجه الدلالة: أن المراد بما نزل هو القرآن، والمراد من الذكر هو
السُّنَة، وقد جعل اللَّه السُّنَّة مبينة لكل القرآن؛ لأن " ما " للعموم،
فلو كانت السُّنَّة ناسخة للقرآن للزم أن تكون رافعة للقرآن، لا مبينة
له؛ لأن النسخ رفع لا بيان، وذلك يخالف ما دلت عليه الآية.
جوابه:
يجاب عنه بأن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم
الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، وما دام النسخ بيانا، وقد جعلت
السثُنَة مبينة للقرآن، فإنه يجوز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة، ولا
مانع من ذلك.
***
المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسّنَّة
المتواترة بخبر الواحد؟
في ذلك تفصيل:
. أما نسخ القرآن والسُنَّة المتواترة بخبر الواحد عقلاً فهو جائز
باتفاق العلماء المعتدّ بأقوالهم، وذلك لأنه لا يمتنع عقلاً أن يأتي(2/606)
الشارع بخبر الواحد، ويقول: إنه ناسخ للحكم الفلاني الذي ثبت
بالتواتر، فإن اللَّه ينزل ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا يلزم من جوازه
محال.
أما نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد شرعا، فقد اختلف
العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: لا يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد
شرعاً، وهو مذهب الجمهور من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأنه بعد تتبع الأدلة واستقرائها لم نجد فيها أن
متواتراً قد نسخه خبر واحد، وهذا يدل على عدم الوقوع، وماذا كان
الأمر كذلك فإنه يدل على عدم الجواز.
المذهب الثاني: يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد
شرعا.
ذهب إلى ذلك بعض أهل الظاهر كداود، وابن حزم، وبعض
العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع، حيث إنه قد وقع أن القرآن والسُنَّة
المتواترة قد نُسخا بخبر الواحد، بيان ذلك:
أولاً: أنه ثبت: أن رجلاً جاء إلى أهل قباء وهم يصلون العصر
نحو بيت المقدس، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو الكعبة فانحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قباء(2/607)
وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد؛ إذ قبلوا كلامه، وتحولوا نحو
المسجد الحرام، وعلى هذا يكون خبر الواحد قد نسخ المتواتر.
جوابه:
يجاب عنه بأن محل النزاع هو وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد
المجرد عن القرائن المفيدة للعلم، أما في هذه القصة فإنه يحتمل أن
يكون قد انضم إليه ما يفيد العلم كقربهم من مسجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسماعهم لضجة الخلق في ذلك.
ثانيا: قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) ، حيث نسخ
ذلك بخبر الواحد وهو: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ".
جوابه:
يجاب عنه: بأن الحديث مخصص للآية، وليس بناسخ لها؛ النص يقتضي أن يكون كل ما عدا المذكورات حلالا، فأخرج
عنه هذا الحديث بعضه فيكون تخصيصا لا نسخا.
ويمكن أن يكون نسخاً لو أثبت المستدلون: أن الخبر ورد بعد
العمل بمقتضى الآية، فحينئذ يكون نسخا؛ إذ لا يجوز تأخير بيان
المخصص عن وقت العمل.
ثالثا: أنه ثبت بالتواتر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الآحاد من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - إلى البلدان والنواحي لتبليغ الأحكام، وتبليغ الناسخ والمنسوخ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك: لما كان قبوله واجباً.(2/608)
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد، كان
ينسخ ما ثبت بخبر الواحد، أما ما لا يجوز فيه فلا، مثل مسألتنا
وهي: نسخ المتواتر بالآحاد، ومن ادعى أن خبر الواحد قد نسخ
متواتراً فعليه الإثبات.
الدليل الثاني: أن خبر الواحد ينسخ المتواتر من القرآن والسُّنَّة؟
قياساً على التخصيص به، بيان ذلك:
أنه كما يجوز تخصيص المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر
الواحد، كذلك يجوز نسخ المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة
بخبر الواحد؛ إذ لا فرق بينهما، والجامع: رفع الضرر المظنون.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن
التخصيص: بيان وجمع بين الدليلين، أما النسخ فهو: إبطال ورفع
وإزالة كما تقدم.
الدليل الثالث: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار
معارضاً لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر؛ قياساً على سائر الأدلة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؟
لوجود الفرق بين المتواتر والاَحاد، فالمتواتر مقطوع في سنده،
والآحاد مظنون في سنده، فهذا الفرق مانع من ترجيح خبر الواحد.(2/609)
المسألة السادسة والعشرون: هل الإجماع يكون منسوخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الإجماع لا يكون منسوخا.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الصواب؛ لأن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن ينسخ بنص، أو إجماع،
أو قياس.
أما الأول - وهو كون الإجماع منسوخا بنص - فهو باطل؛ لأن
الناسخ لا بد أن يكون متأخراً عن المنسوخ، ومعلوم أن النص متقدم
على الإجماع.
وقلنا: إن النص متقدم على الإجماع؛ لأن النصوص تتلقى من
النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع لا ينعقد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد، وإن وافقهم كان قوله هو الحُجَّة؛ لاستقلاله بإفادة الحكم، فإذا ثبت أن النص متقدم على الإجماع، فلا يمكن أن يكون النص ناسخاً للإجماع؛ لأن المتقدم لا ينسخ المتأخر.
أما الثاني - وهو كون الإجماع منسوخا بإجماع آخر - فلا يصح
- أيضا -؛ لأنه يستحيل انعقاده على خلاف إجماع آخر؛ إذ لو
انعقد لكان أحد الإجماعين خطأ؛ لأن الأول إن لم يكن عن دليل
فهو خطأ، وإن كان عن دليل كان الثاني خطأ؛ لوقوعه على خلاف
الدليل.
أما الثالث - وهو كون الإجماع منسوخا بقياس - فهو باطل
- أيضا -؛ لأن القياس لا يكون على خلاف الإجماع؛ لأنه يشترط(2/610)
في القياس: أن لا يكون مخالفا لنص أو إجماع، فعند مخالفة
الإجماع للقياس: يكون القياس باطلاً فلا يكون حُجَّة، وعليه فلا
يصح أن يكون ناسخا للإجماع.
اعتراض على ذلك:
اعترض معترض قائلاً: إنه يُتصور أن يكون الإجماع منسوخاً،
بيان ذلك:
أنه يمكن أن يكون الإجماع قد انعقد في زمن، ثم بعد ذلك ظهر
للمجمعين خبر كان قد خفي عليهم، ولم يعلموا به أثناء إجماعهم،
هذا الخبر الذي ظفروا به هو أقوى من مستندهم في ذلك الإجماع،
فيكون - على هذا - هذا الخبر ناسخا للإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا باطل؛ لأن المنسوخ يكون هو النص الذي
كان مستند الإجماع، ولا يمكن أن يكون المنسوخ هو الإجماع؛ لأن
الإجماع بطل من أصله بظهور ذلك النص، لا أن الإجماع يكون
مرفوعا بعد استقراره.
المذهب الثاني: أن الإجماع يكون منسوخا.
ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن العلماء المعتد بأقوالهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين: فإن
المكلَّف مخير في العمل بكل واحد من القولين، إذا أجمع علماء
الأُمَّة على هذين القولين؛ إذ لا ثالث لهما، فإذا أجمع العلماء -
بعد ذلك - على أحد القولين: لم يجز العمل بالقول الآخر،(2/611)
وحينئذ يكون الإجماع الثاني ناسخا لما دلَّ عليه الإجماع الأول من
جواز العمل بكل واحد من القولين، وبذلك يكون الإجماع الثاني
ناسخاً للإجماع الأول، فصح بذلك أن يكون الإجماع منسوخا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن علماء الأُمَّة إنما جوَّزوا للمكلف الأخذ بأي واحد
من القولين بشرط: أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين، فكان
الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط، فإذا وجد الإجماع الثاني فقد
زال شرط الإجماع الأول، فانتفى الإجماع الأول بسبب انتفاء
شرطه، لا لكون الثاني قد نسخه.
***
المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأولي: أن الإجماع لا يكون ناسخا، أي: أن الإجماع
لاينسخ به.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا، أو
إجماعاً، أو قياسا.
أما الأول - وهو كون المنسوخ بالإجماع نصا - فهذا باطل؟
لاستحالة انعقاد الإجماع على خلاف ذلك النص؛ لأن الإجماع
لابد له من مستند فلا يخلو: إما أن يطلع المجمعون على هذا النص
أو لا.
فإن لم يطلعوا عليه: كان إجماعهم باطلاً؛ لوجود ما يخالفه.(2/612)
وإن اطلعوا عليه وأجمعوا على خلافه:. دلَّ على أن هذا النص
مرجوح، وما استندوا إليه في إجماعهم راجح، فيكون - بذلك -
الناسخ للنص هو النص الذي استندوا إليه، فثبت: أن ذلك من
باب نسخ النص بالنص، لا من باب نسخ النص بالإجماع.
وأما الثاني - وهو كون المنسوخ بالإجماع إجماعا آخر - فهو
باطل؛ لأن الإجماع لا ينعقد على خلاف إجماع آخر - كما سبق
ذكره -.
وأما الثالث - وهو كون المنسوخ بالإجماع قياسا - فهو باطل
- أيضاً - لأن من شرط حجية القياس والعمل به: عدم مخالفته
للإجماع، فإذا انعقد الإجماع على خلاف القياس: زال القياس
لزوال شرطه، وزوال المشروط لزوال الشرط لا يسمى نسخاً.
الدليل الثاني: أن الإجماع إنما يكون حُجَّة بعد عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -،
والنسخ إنما يكون في زمن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -،
وعلى هذا يستحيل اجتماعهما.
المذهب الثاني: أن الإجماع يكون ناسخ@.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان من الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة قد سقط بإجماع
الصحابة، فهذا يدل على أن الإجماع يكون ناسخا.
جوابه:
يجاب عنه بأن سقوط سهم المؤلفة قلوبهم ليس من باب النسخ،
بل هو من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المقررة، وهي: تحبيب(2/613)
الإسلام في نفوس حديثي العهد بالإسلام لإعزاز الإسلام، فلما
حصلت العزة للإسلام في عهد الصحابة سقط سهم المؤلفة قلوبهم،
وليس انتهاء الحكم لانتهاء علته نسخا.
الدليل الثاني: كما أن الإجماع مخصص للعام كذلك يصح أن
يكون ناسخا ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه بأنه ليس كل ما يُخصص به ينسخ به، فدليل العقل
يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به، ثم إن قياسكم النسخ على
التخصيص قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن، النسخ رفع
للحكم بالكلية بخلاف التخصيص؛ فإنه قصر للحكم على بعض
أفراده، وبذلك لا يمنع أن يكون الإجماع مخصصا، بخلاف النسخ،
فقد وجد فيه ما يمنع من كون الإجماع ناسخا وهي أدلتنا السابقة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين متفقون على أنه لا
إجماع في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نص بعد وفاته، فيحمل كلام أصحاب المذهب الثاني على أن مرادهم: النسخ بالدليل الذي هو
مستند الإجماع، وهذا لا خلاف فيه.
***
المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟
لقد كثر كلام العلماء حول هذه المسألة وكثرت المذاهب فيها،
ولكن الأصح عندي ما ذهب إليه ناصر الدين البيضاوي، والإسنوي
وكثير من العلماء وهو:
أن القياس يُنسخ بقياسٍ أجلى وأظهر وأقوى منه، فمثلاً نص(2/614)
الشارع على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً، فقسنا عليه السفرجل لعلَّة
جمعت بينهما، وقلنا: لا يجوز بيع السفرجل بالسفرجل متفاضَلاً
قياسا على بيع البر بالبر، ثم نص - أيضاً - على إباحة التفاضل في
الموز، وكان مشتملاً على علَّة أقوى من العِلَّة التي في الأول، فإن
هذا يقتضي إلحالق السفرجلَ بالموز، ويكونَ بيع السفرجل بالسفرجل
جائزاً كالموز، فإن القياس هنا يكون ناسخا للقياس الأول.
وإنما حصرنا ناسخ القياس في قياس أقوى وأجلى منه؛ لأنه لا
ينسخ بنص ولا إجماع، ولا بقياس مساوي، ولا بقياس أخفى وأدنى
منه.
أما كونه لا ينسخ بالنص ولا بالإجماع؛ لأن شرط العمل
بالقياس: ألا يوجد ما يخالفه من نص أو إجماع، فإذا وجد ما
يخالفه من نص أو إجماع، فقد بطل العمل به، أي: زال القياس
بزوال شرطه.
أما كونه لا ينسخ بالقياس المساوي فلأن ذلك يؤدي إلى ترجيح
أحد المتساويين على الآخر بدون مرجح وهو باطل.
أما كونه لا ينسخ بالقياس الأخفى والأدنى منه، فلأن ذلك يؤدي
إلى العمل بالمرجوح وترك العمل بالراجح وهو باطل.
فثبت أن القياس ينسخ بالقياس الأقوى فقط.
وعلى ذلك فالقياس الأقوى والأجلى ناسخ للقياس الأضعف
والأخفى.
فيكون القياس ناسخاً ومنسوخا.(2/615)
المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسخ
تبعا لذلك حكم الفرع؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه إذا نسخ حكم الأصل في القياس، فإن حكم
الفرع ينسخ تبعاً له مطلقاً، أي: سواء كان القياس قطعياً أو ظنياً،
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن حكم الفرع قد ثبت بالعلَّة التي اعتبرت
لحكم الأصل، فإذا نسخ حكم الأصل فقد زال اعتبار أي عِلَّة لهذا
الحكم، ومتى زال اعتبار العلَّة فقد زال اعتبار الحكم الذي ثبت بها،
وبذلك يكون رفع حكم الأصل مستلزما لرفع حكم الفرع.
فمثلاً: قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان:
"اعتق رقبة"، فإن هذا يفيد أن المجامع في نهار رمضان عليه الكفارة،
وعلَّة ذلك: إفساد اليصوم المحترم - عند بعضهم - فألحق به الأكل
عمَداً في نهار رمضان، نظراً لوجود العِلَّة فيه، فالكفارة في الأكل
في نهار رمضان ثابتة بالقياس؛ بناء على تلك العلَّة، فإذا فرضنا أن
الشارع نسخ هذا الحديث وبنسخه ينسخ الحكمَ الذي اشتمل عليه
وهو: وجوب الكفارة في الجماع في نهار رمضان: فإن حكم الفرع
- وهو وجوب. الكفارة في الأكل - يرتفع تبعاً لذلك؛ لأن العلَّة
وهي: انتهاك حرمة رمضان قد زال اعتبارها بسبب رفع حكم الأصل
الذي استنبطت منه.
المذهب الثاني: أنه إذا نسخ حكم الأصل، فإن حكم الفرع
الثابت بعلته لا يرتفع، أي: لا يرتفع حكم الفرع بارتفاع حكم
الأصل.(2/616)
ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الفرع تابع لدلالة حكم
الأصل، ولم يتبع حكم الأصل، وعلى هذا: فلا يلزم من انتفاء
حكم الأصل بالنسخ انتفاء دلالته، فلم يحدث شيء إلا انتفاء حكم
الأصل، أما دلالته فباقية كما هي فيبقى معها حكم الفرع.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم بأنه لم يحدث شيء إلا انتفاء حكم
الأصل، بل ثبت انتفاء العلَّة التي استنبطت من حكم الأصل، وهو
ملزوم لانتفاء حكم الأصلَ؛ حيث إن السبب في وجود العِلَّة التي
أوجدت الحكم في الفرع هو وجود حكم الأصل، فلما انتفى حكم
الأصل، انتفت تلك العِلَّة المستنبطة منه، وبانتفائها انتفى ما تعلق بها
وهو: حكم الفرع.
تنبيه: نسب أبو يعلى، وأبو الخطاب، وأبو إسحاق الشيرازي،
وصفي الدين الهندي المذهب الثاني إلى كل الحنفية، ونسبه الآمدي،
وابن قدامة إلى بعض الحنفية، وهذه النسبة فيها تساهل؛ حيث
أنكرها ابن عبد الشكور، والأنصاري، والكمال بن الهمام من
الحنفية.
المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخاً ومنسوخا؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن مفهوم الوافقة يقع ناسخاً ومنسوخاً.(2/617)
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن مفهوم الموافقة كالنص المنطوق به، فكما
يجوز نسخ النص، والنسخ به، فكذلك يجوز نسخ المفهوم الموافق
والنسخ به ولا فرق، بل قد يكون المفهوم الموافق أقوى من المنطوق
به، فمثلاً قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمنطوقه على
تحريم التأفيف، ودل بمفهومه الموافق على تحريم الضرب والشتم
والقتل والسب، أي: إذا حرم مجرد التأفيف فمن باب أوْلى أن
يحرم الضرب والشتم؛ لأنه أشد في الإيذاء.
المذهب الثاني: أن مفهوم الموافقة لا يقع ناسخا ولا منسوخا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المواققة قياس
جلي، وانقياس لا ينسخ ولا يُنسخ به، بيانه:
أن قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمفهومه على تحريم
الضرب والشتم، والقتل للوالدين، فلم ينطق بذلك، ولم يكن
في ذلك صيغة الضرب والشتم والقتل، وإنما المنطوق به التأفيف
فألحق به الضرب والشتم بجامع الأذى في كل، وهذا هو القياس،
والقياس لا يكون ناسخاً ولا منسوخاً.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
- الجواب الأول: أن تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى ثبت(2/618)
نطقا، لا قياساً، فصح نسخه، ويدل على أنه ثبت نطقا قولهم:
هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه.
الجواب الثاني: أن من سمى هذا قياسا من الشافعية صرَّحوا بأنه
قياس جلي يجري مجرى النطق في الدلالة، ونحن سميناه بمفهوم
الموافقة، أو التنبيه، أو دلالة النص عند الحنفية، وهذا اختلاف في
التسمية لا يضر ما دام أن المعنى متفق عليه.
الجواب الثالث: على فرض أنه قياس، فإن هذا لا يمنع أن يكون
ناسخاً ومنسوخاً؛ لأننا بينا فيما سبق أن القياس يكون ناسخاَ
ومنسوخاً، وذلك في المسألة الثامنة والعشرون.
المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع منسوخاً؟
الحق: أن مفهوم المخالفة يأتي منسوخاً، أي: يجوز نسخ حكم
المسكوت الذي هو مخالف للمذكور مع نسخ الأصل ودونه.
أما نسخ المفهوم المخالف مع أصله فهو واضح، حيث إنه إذا نسخ
الأصل وهو النص ينسخ معه جميع ما يفهم منه.
أما نسخ المفهوم المخالف مع بقاء أصله فمثاله: ما روي عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الماء من الماء "،
فقد نسخ مفهومه بما روته عائشة - رضي اللَّه عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل "،
وبقي أصله وهو: وجوب الغسل بالإنزال.
***
المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يأتي ناسخا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:(2/619)
المذهب الأول: أن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن النص أقوى منه، فمفهوم المخالفة يضعف
عن مقاومة النص.
المذهب الثاني: يكون مفهوم المخالفة ناسخا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كأبي إسحاق الشيرازي.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المخالفة في معنى
النص، فكما أن النص يأتي ناسخاً، فكذلك مفهوم المخالفة ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياس مفهوم المخالفة على النص قياس فاسد؟
لأنه قياس مع الفارق، فالنص دلالته قطعية على المدلول: أما دلالة
مفهوم المخالفة فليست كذلك، لذلك منع الحنفية من الاحتجاج
بمفهوم المخالفة على تفصيل سيأتي، أما الاحتجاج بالنص فلم يمنع
منه أحد.
المذهب الثالث: التفريق بين المفاهيم:
فإن كان مفهوم المخالفة من المفاهيم القوية كمفهوم الصفة،
ومفهوم الشرط ونحوهما، فيجوز أن يكون ناسخاً؛ لأنه قريب من
المنطوق، وإن كان من المفاهيم الضعيفة كمفهوم العدد واللقب
ونحوهما، فلا يجوز أن يكون ناسخا؛ نظراً لضعفه وعجزه عن
مقاومة النص.(2/620)
جوابه:
يجاب عنه: بأن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا - كما قلنا في
مذهبنا - ولا يمكن أن يكون مفهوم المخالفة قريبا من النص في
الدلالة، وهذا التفريق بين المفاهيم لا دليل عليه.
المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ:
أولاً: لا يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق العقل، ولا عن
طريق القياس، لأمور:
الأول: أن النسخ إما رفع الحكم الشرعي، أو بيان مدة انتهاء
العمل به، وكل واحد منهما لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا
مدخل له فيه.
الثاني: أنه لو كان للعقل طريق إلى معرفة النسخ بدون النقل للزم
أن يكون له طريق إلى معرفة ثبوت الأحكام بدون النقل، وليس
كذلك.
الثالث: أن النسخ لا يكون إلا بتأخر الناسخ عن زمن المنسوخ،
ولا مدخل للعقل ولا القياس في معرفة المتقدم والمتأخر.
ثانياً: يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق النقل المجرد، ويعتبر
لصحة النسخ أن يتأخر ناسخ عن منسوخ وإن لم يتأخر لا يصدق
عليه اسم ناسخ.
ثالثاً: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المتفق عليها.
الطريق الأول: أن يعلم من اللفظ - النطق - تقدم أحد الحكمين
على الآخر، فيكون المتقدم منسوخا، والمتأخر ناسخا.(2/621)
والمراد بالتقدم: التقدم في التنزيل، لا التقدم في التلاوة، كما
قال الماوردي.
من أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)
هذا اللفظ يفيد أنه نسخ عنهم أن يصابر كل واحد لعشرة إلى أن
يصابر الواحد منهم للاثنين فقط.
2 - قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) يفيد نسخ الإمساك بعد الفطر.
3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ".
4 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا".
5 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب ".
الطريق الثاني: أن يذكر الراوي - صراحة - وقت وتاريخ سماعه
ذلك النص مِنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: " سمعت عام الفتح كذا "، ونحو ذلك، فيكون المنسوخ هو الذي تقدم على ذلك التأريخ.
ويمثلون لهذا الطريق بما رواه شداد بن أوس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم "، حيث إنه منسوخ بما رواه ابن عباس:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم "، فإن ابن عباس إنما صحبه محرماً في حجة الوداع عام عشر، وفي بعض طرق حديث شداد أن ذلك كان في زمن الفتح، وذلك في سنة ثمان.(2/622)
الطريق الثالث: أن تجمع الأمة أو الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر، لا أن الإجماع هو
الناسخ.
مثل: نسخ رمضان لصيام يوم عاشوراء، ونسخ الزكاة لسائر
الحقوق المالية، فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم هذا، فدل
عدولهم عنه على نسخه.
الطريق الرابع: أن يخبر الراوي عن الناسخ والنسوخ، ويفهم
من كلامه صراحة مثل: قول بعض الرواة: " رخص لنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في المتعة ثلاثا، ثم نهانا عنها ".
2 - ما رواه عليٌّ رضي اللَّه عنه أنه قال: " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام للجنازة ثم قعد ".
الطريق الخامس: أن يكون راوي أحد الخبرين لم يصحب النبي
- صلى الله عليه وسلم - إلا في أول الإسلام ثم انقطع، وأن راوي الخبر الآخر أسلم في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون نقل الثاني هو الناسخ، وما نقله الأول هو المنسوخ.
مثاله: ما رواه طلق بن عليّ: أن - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الوضوء من مس الذكر فقال: " هل هو إلا بضعة منك ".
فهذا الخبر يفيد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، فهذا
مخالف لما رواه أبو هريرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من مس ذكره فليتوضأ"
حيث إنه يفيد وجوب الوضوء من مس الذكر.
وعلم أن حديث أبي هريرة متأخر عن حديث طلق؛ لأن أبا هريرة
أسلم في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاة طلق بن علي، وبناء على ذلك: يكون حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق.(2/623)
رابعا: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المختلف فيها:
الطريق الأول: قول الصحابي: " هذا الخبر منسوخ "، أو
قوله: " كان الحكم كذا ثم نسخ "، أو نحو ذلك هل يثبت به
النسخ؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يثبت النسخ بهذا الطريق.
ذهب إلى ذلك الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن قول الصحابي
هذا يحتمل أن يكون قد صدر عن اجتهاد، فيظن غير الناسخ ناسخا
وأن غير الرافع رافعاً، فلا يمكن أن نترك ما تيقنا من ثبوته وهو خبر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل كلام يدخله الاحتمال قد يصدق، وقد لا يصدق.
ثم إن قول الصحابي اختلف في حجيته، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة إجماعاً، فلا نترك الحُجة إجماعاً وقطعا بالمختلف في حجيته؟
حيث إن قول الصحابي لا يسلم على سل حال، بل لا بد من النظر
فيه والتأكد منه، ولهذا لما نقل عن طائفة من الصحابة قولهم:
"نسخ السح بآية الوضوء التي نزلت في المائدة "، لم نسلم ذلك،
بل أجمعنا على أن هذه الآية غير ناسخة لها؛ لأنه ليس في الآية ما
يدل على النسخ.
المذهب الثاني: أنه يثبت النسخ بهذا الطريق.
ذهب إلى ذلك الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أن الصحابي العدل الثقة إذا قال: إن هذا الخبر منسوخ، فإنه لم
يقله إلا عن علم بالتأريخ والتعارض؛ فإن المراد عنده معلوم بمشاهدة(2/624)
القرائن، فحكمه بالنسخ عن بصيرة، والصحابي غير متهم،
فوجب الرجوع إلى ما قاله وقبوله كما يقبل منه الخبر الذي رواه عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هناك فرقاً بين روايته لخبر عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبين دعواه للنسخ، وهو: أننا قبلنا روايته للخبر وعملنا به نظراً
لثبوت عدالته والوثوق به، وكونه قد شاهد التنزيل؛ ولأن الشريعة
تؤخذ عن طريقه، فلو أننا لم نقبل الأخبار التي ينقلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في الشريعة شيء.
أما دعوى النسخ فهو متعلق بالاجتهاد والنظر، وهو في ذلك غير
معصوم، فلو وجب قبول قوله في ذلك لوجب قبول قوله في مسائل
الاجتهاد - كلها - وهذا ليس بصحيح.
الطريق الثاني: كون أحد النصين المتعارضين مثبتا في المصحف
بعد النص الآخر، هل يثبت به النسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المتأخر في الترتيب لا ينسخ المتقدم في الإثبات
في المصحف، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن ترتيب
الآيات في المصحف ليس على ترتيب النزول، بل قد يكون المتقدم
في الترتيب متأخراً في النزول كما في آيتي عدة المتوفى عنها زوجها
فقد قال تعالى في سورة البقرة، الآية الرابعة والثلاثين بعد المائتين:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، وقال في الآية الأربعين بعد المائتين من نفس السورة:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(2/625)
فإن الآية الناسخة هي الأولى مع تقدمها في
المصحف عن الآية المنسوخة.
المذهب الثاني: أن المتأخر في الترتيب والإثبات في المصحف
ناسخ للمتقدم في ذلك، ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن تأخر النص في ترتيب المصحف دليل على تأخره في النزول،
والمتأخر في النزول ينسخ المتقدم.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا ليس على إطلاقه، بل قد يكون المتقدم في
ترتيب المصحف متقدماً في النزول، والمتأخر في الترتيب متأخراً في
النزول، وقد يكون المتقدم في الترتيب متأخراً في النزول كما مثلنا.
الطريق الثالث: كون أحد النصين المتعارضين موافقا للبراءة
الأصلية والآخر مخالفاً لها، هل يثبت به النسخ؛ لقد اختلف في
ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن هذا الطريق لا يثبت به النسخ.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن جعل أحد النصين
بعينه متقدماً والآخر بعينه متأخراً ليس بأولى من العكس؛ لعدم
وجود المرجح الصحيح، والموافقة والمخالفة للبراءة لا تصلح أن
تكون مرجحاً.
المذهب الثاني: أن هذا الطريق يثبت به النسخ.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن النص الموافق للبراءة متأخر عن النص المخالف لها لكونه مفيداً(2/626)
فائدة جديدة، وهي رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية بعد نسخ الحكم
الذي شرع بعدها ولو جعل متقدما على النص الآخر لم يكن مفيداً
فائدة جديدة، لأن البراءة الأصلية مستفادة قبله، ومتى جعل الموافق
متأخراً كان ناسخا للنص المتقدم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الموافق للبراءة الأصلية، كما أنه قد يأتي بفائدة
جديدة عند تأخره - وهي: رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية -
كذلك قد يأتي عند تقدمه بفائدة جليلة وهي: أن الشرع جاء موافقاَ
للعقل وغير مخالف له.
الطريق الرابع: كون الراوي لأحد الخبرين المتعارضين أصغر سناَ
من الراوي الآخر، أو متأخراً في الإسلام، هل يثبت بذلك النسخ؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يثبت به النسخ.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لجواز أن يكون الراوي
الأصغر سنا قد روى عمن هو أكبر منه، ولجواز أن يكون الراوي
المتأخر إسلاماً قد روى عمن تقدمه في الإسلام؛ فنظراً إلى هذا
الاحتمال القوي، فإن هذا الطريق لا يثبت به النسخ.
المذهب الثاني: أنه يثبت به النسخ.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الخبر الذي رواه الأصغر، أو المتأخر في الإسلام يكون ناسخاَ
للخبر الآخر، لأن الظاهر أنه متأخر في الزمن عن الخبر الآخر،
والظاهر يرجح على غيره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الظاهر الذي استندتم إليه ليس بأولى من
الاحتمال الذي ذكرنا في دليلنا.(2/627)
المبحث الثاني في الدليل الثاني من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: السُّنَّة
وهو يشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: في تعريف السُّنَّة.
المطلب الثاني: في حجية السُّنَّة.
المطلب الثالث: في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينه
وبين الإنشاء وأقسامه.
المطلب الرابع: في خبر المتواتر.
المطلب الخامس: في خبر الواحد.(2/629)
المطلب الأول في تعريف السُّنَّة
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة.
المسألة الثانية: تعريف السُّنَّة عند الأصوليين.
المسألة الثالثة: تعريف السُّنَّة عند غير الأصوليين.
المسألة الرابعة: بيان السبب في الاختلاف في تعريف السُّنَّة.(2/631)
المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة:
السئُنَّة لغة: الطريقة مطلقا سواء كانت حسنة أو قبيحة وسيئة،
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من سن سُنَّة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،
ومن سنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
هذا هو الراجح من أقوال أهل اللغة؛ لورودها كثيراً في ذلك.
وأما ما ذكره الأزهري من أن السُّنَّة تطلق على الطريقة المحمودة
المستقيمة بدليل قولهم: " فلان من أهل السُّنَّة " أي: من أهل
الطريقة المستقيمة المحمودة: فإن هذا لا يسلم له؛ لأن هذا تخصيص
وتقييد بدون مخصص أو مقيد، وأما قولهم: " فلان من أهل
- السُّنَّة"، فهو استعمال في عرف أهل الشريعة، وليس إطلاقا
لغويا، والمراد بالسُّنَّة في هذا القول هو: ما يقابل البدعة.
وتطلق السُّنَّة لغة على الشريعة، ومنه قوله تعالى: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) أي: شريعة اللَّه قد اقتضت في الكفار أنه
لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب كما ذكر القرطبي، وابن منظور.
وتطلق السُّنَّة لغة على الدوام، فتأتي بمعنى الدوام، ومنه
قولهم: " سننت الماء " إذا واليت في صبه، ويراد بذلك الأمر الذي
يداوم عليه، نقل ذلك عن الكسائي، وإلكيا الهراسي.
وتطلق السُّنَّة لغة على المثال المتبع، ومنه قول النابغة الذبياني:
أبوه قبله وأبو أبيه ... بنو مجد الحياة على إمام
أي: على مثال، ذكر ذلك أبو جعفر الطبري.(2/633)
وتطلق السُّنَّة لغة على الطبيعة، ومنه قول الأعشى:
كريم شمائله من بني ... معاوية الأكرمين السُّنَن
أي: الأكرمين الطبائع.
***
المسألة الثانية: تعريف السُّنَّة عند الأصوليين:
السُّنَّة في الاصطلاح هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول، أو فعل، أو تقرير مما يخص الأحكام التشريعية.
شرح التعربف، وليان محترزاته:
قولنا: " ما " جنس شامل لما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما صدر عن غيره، وهو اسم موصول، تقدير الكلام: " الذي يصدر ".
قولنا: " صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " جنس يدخل فيه: كل ما ألقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وأظهره لهم سواء كان قرآنا أو سُنَّة، أو كان مما يخص الأحكام الشرعية أو لا.
وذكرنا هذه العبارة؛ لإخراج ما يلي:
أولاً: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، فإن كل شيء صدر عنه قبلها لا يسمى سُنَّة؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - حينها - ليس بنبي ولا رسول.
ثانيا: ما صدر عن الرسل والأنبياء الذين أتوا قبله.
ثالثا: ما صدر عن الصحابة رضي اللَّه عنهم وغيرهم.
قولنا: " غير القرآن " خرج به القرآن؛ لأنه كلام اللَّه - تعالى -
تلاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على جماعة تقوم الحُجَّة بقولهم.
ويدخل بهذه العبارة: الحديث القدسي فإنه - مع كونه قد أنزل(2/634)
لفظِه - ليس بمعجز، ولا متعبد بتلاوته فليس بقرآن، وإنما هو
سُنَّة.
وبعض الأصوليين عئر بقوله: " غير الوحى " بدلاً عن عبارة:
"غير القرآن "، وهذا فيه تساهل؛ حيث إن السُّنَّة وحي باطني لكنها
لا تتلى ولا يتعبد بتلاوتها.
قولنا: " من قول ": بيان لقولنا: " ما صدر "، والمراد: ما
تلفظ به - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بتشريع الأحكام،
وأكثر السُّنَّة هي أقوال كقوله: " لا وصية لوارث "،
وقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ... ".
والقول يشمل الكتابة مثل أمره - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي اللَّه عنه - بالكتابة يوم الحديبية.
قولنا: " أو فعل " الفعل هو: ما يفعل بالجوارح، والمراد: ما
فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بتشريع الأحكام كحجه - عليه السلام -، وصلاته، ورفع يديه عند افتتاح الصلاة، ونحو ذلك.
والفعل تدخل فيه الإشارة كإشارته بأن الشهر يكون هكذا وهكذا.
ويدخل فيه - أيضاً - الهئمُ؛ حيث إن الهم من أفعال القلوب،
فلا يهمُّ - صلى الله عليه وسلم - على فعل شيء إلا وهو مشروع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، كهمِّه عليه السلام في جعل أسفل الرداء أعلاه في
الاستسقاء، فثقل عليه فتركه.
ويدخل في الفعل - أيضاً - جميع أفعاله القلبية كالاعتقادات
والإرادات، فهذه وإن كانت ليست أفعالاً حقيقية، لكنها قد تعد
أفعالاً، لاتصالها بالأفعال.(2/635)
قولنا: " أو تقرير " المراد منه: أن يفعل أو يقال شيء بحضرته
- صلى الله عليه وسلم - أو بغيبته، وعلم به - من غير كافر - وأقره عليه وسكت عن إنكاره، كقول أنس - رضي اللَّه عنه -: " كنا نصلي على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقيل له: أكان رسول اللَّه يراكم؛ قال: نعم رآنا، فلم يأمرنا ولم ينهنا.
بعض الأصوليين لم يذكر قيد " أو تقرير "؛ لأنه يدخل في
الفعل؛ حيث إن التقرير كف عن الإنكار، والكف فعل.
وهذا فيه نظر؛ لأن التقرير يشمل الفعل والقول كما سبق في
تعريفه.
***
المسألة الثالثة: المراد بالسُّنَّة عند غير الأصوليين:
تطلق السُّنَّة في الاصطلاح الشرعي على معان أخرى غير إطلاق
الأصوليين.
فتطلق السنَّة عند المحدثين على: ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خُلقية، أو صفة خَلقية، أو سيرة.
فلم يقصر المحدثون السنَّة على إفادة الحكم الشرعي، بل توسعوا
في الإطلاق، بخلاف الأصوليين، فإنهم قصروها على ما يفيد
حكما شرعيا - فقط -.
وتطلق السُنَّة عند الفقهاء على ما يقابل الواجب، فالسُنَّة عندهم
هي: كل ما يتقرب به إلى اللَّه - تعالى - من العبادات مما يثاب على
فعله ولا يعاقب على تركه، فيشمل ذلك: النافلة، والمندوب،
والتطوع، والمستحب، والطاعة، والقربة، والإحسان، والمرغب
فيه، والفضيلة.(2/636)
وتطلق السُّنَّة عند أهل الكلام على ما يقابل البدعة يقال: " فلان
من أهل السُّنَّة " إذا كان عمله على وفق ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويقال: " فلان على بدعة "
إذا عمل على خلاف ذلك.
وتطلق السُّنَّة على ما عمل عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
سواء وجد ذلك في الكتاب، أو السُّنَّة، أو كان اجتهاداً منهم بدليل
قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"عليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ".
ومنه قول علي - رضي اللَّه عنه -: " جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة ".
***
المسألة الرابعة: بيان السبب في الاختلاف في تعريف السُّنَّة:
إن سبب هذا الاختلاف فيما تطلق عليه السُّنَّة يرجع إلى الغرض
الذي يعتني به كل فريق.
فغرض الأصوليين هو: إثبات وبيان أدلة الأحكام إجمالاً،
فنظروا إلى السُّنَّة من هذا المنطلق، فاعتنوا بالأقوال، والأفعال،
والتقريرات التي تكون أدلة إجمالية للأحكام الفقهية.
وغرض المحدثين هو: نقل كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان مما يخص الأحكام أو لا، وبيان أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الهادي والأسوة للأُمَّة؛ لذلك تجدهم نقلوا كل ما يتصل به - صلى الله عليه وسلم - من سيرة، وخلق، وأخبار، وأقوال، وأفعال، ونحو ذلك.
وغرض الفقهاء هو: إثبات أدلة الأحكام تفصيلاً، لذلك تجدهم
اهتموا بدلالة أقواله وأفعاله، وتقريراته على الأحكام الجزئية الخاصة
بالمكلَّف من ندب، ووجوب، وتحريم، وإباحة، ونحو ذلك.(2/637)
المطلب الثاني في حجية السُّنَّة
السُّنَّة حُجَّة يجب قبولها والعمل بها، كما يجب قبول القرآن
والعمل به.
ودلَّ على ذلك أدلة كثيرة منها:
الدليل الأول: الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ،
وقوله:
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، ونحو ذلك، فإن اللَّه تعالى في
تلك الآيات قد أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
والأمر إذا تجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فيلزم من ذلك قبول كل ما يأتي به، فتكون السُّنَّة حُجَّة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فقد أخبرنا اللَّه تعالى - هنا - أن كل ما ينطق به
هذا الرسول ليس من عند نفسه، بل هو وحي يوحى إليه، فالسُّنَة
وحي كالقرآن، ولا فرق سوى أن القرآن يتعبد بتلاوته، ومعجز في
ألفاظه.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فحذرَ اللَّه تعالى من
مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلزم من ذلك: وجوب موافقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(2/638)
ومتابعته في كل ما يصدر عنه؛ لأن المخالفة حرام، وترك الحرام
واجب، فترك المخالفة واجب، فيكون اتباع الرسول واجبا.
الدليل الرابع: الآيات الدالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين للقرآن وشارح له شرحاً وبيانا معتبراً عند اللَّه، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ،
وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
الدليل الخامس: الآيات الدالة على وجوب الإيمان به - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ،
وقوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) ،
والإيمان هو: التصديق برسالته وبجميع ما جاء به، وأن عدم اتباعه والعمل بما صدر عنه والرضا بحكمه يتنافى مع حقيقة الإيمان.
الدليل السادس: الآيات الدالة على وجوب اتباعه في جميع ما
صدر عنه، والدالة على أن اتباعه لازم لمحبة اللَّه تعالى،
كقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ،
وعلامة حبهم له: اتباعهم لسُنّته - صلى الله عليه وسلم.
الدليل السابع: أن ورود القرآن على وفق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزل منزلة قول اللَّه تعالى له:
" لقد صدقت فيما أخبرت به عني ".
الدليل الثامن: الإجماع؛ حيث أجمع المسلمون منذ بعثة النبي
- صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذأ على أن كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال وتقريرات حُجَّة يجب العمل به.
الدليل التاسع: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
معصوم من تعمُّد ما يخل بالتبليغ إجماعاً، ومعصوم من المعاصي التي تخل بالتبليغ، ثبت(2/639)
ذلك بالقرآن؛ إذ لو لم يكن معصوما لما أمر اللَّه تعالى بطاعته في
كل ما يأتي به، وحذَّر من مخالفته.
وذلك يستلزم أن كل خبر يأتي به صادق مطابق لما عند اللَّه تعالى
إجماعاً، فيجب التمسك به والعمل به.
فإن قلت: ما معنى: " معصوم "؟
قلت: المعصوم مأخوذ من العصمة، والعصمة لغة: المنع
والحفظ والوقاية، يقال: " هذا طعام يعصم " أي: يمنع من الجوع.
والعصمة في الاصطلاح: سلب قدرة المعصوم على المعصية، فلا
يمكنه فعلها؛ لأن اللَّه سلب قدرته عليها.
الدليل العاشر: الضرورة اقتضت أن تكون السُّنَّة حُجَّة، وذلك
لأنه لا يمكن - بأي حال - العمل بالقرآن وحده؛ حيث إن القرآن
يشتمل على المبهم والمشكل والمجمل، فلا يمكن أن نعرف المراد من
ذلك إلا عن طريق السُنَّة - فمثلاً قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، أو قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ،
وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، وغيرها
من الآيات، فلا يمكن أن تعرف كيفية الحج، وكيفية الصلاة،
وكيفية الزكاة، إلا عن طريق السُّنَّة ا، فلو لم تكن السُّنَّة حُجَّة
لتعطلت أكثر الأحكام الشرعية، وهذا لا يمكن.(2/640)
المطلب الثالث في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينه
وبين الإنشاء، وأقسامه
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الخبر لغة واصطلاحا.
المسألة الثانية: بيان السبب في عدم تعريف بعض العلماء للخبر.
المسألة الثالثة: في إطلاقات الخبر.
المسألة الرابعة: الفرق بين الخبر والإنشاء.
المسألة الخامسة: أقسام الخبر.(2/641)
المسألة الأولى: تعريف الخبر لغة واصطلاحاً:
أولاً: الخبر لغة مشتق من الخبار - بفتح الخاء والباء - وهي:
الأرض الرخوة، والعلاقة بين ذلك، وبين الخبر: أن الخبر يثير
الفائدة، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الغبار.
ثانياً: الخبر اصطلاحا هو: القول الذي يتطرق إليه التصديق، أو
التكذيب.
شرح التعريف:
قلنا: " القول " مع أنه قد يستعمل في غير القول؛ لأن القول
هو الأكثر في الاستعمال، ويتطرق إلى غير القول التصديق أو
التكذيب، لكنه مجازاً كالإيماء والإشارة، كأن تسأل بعض الطلاب
وتقول: هل نجحت؛ فيشير بيده، أو يومى برأسه، ويفهمنا أن
"لا" أو "نعم".
قولنا: " يتطرق إليه " أي: يحتمل، فهو: يحتمل دخول
التصديق والتكذيب.
قولنا: " التصديق أو التكذيب " أخرج الإنشاء؛ لأنه لا يحتمل
صدقا ولا كذبا كالأوامر والنواهي.
والتصديق مأخوذ من الصدق وهو: الإخبار بالشيء على ما هو
والتكذيب مأخوذ من الكذب وهو: الإخبار بالشيء على خلاف
ما هو به.
وعبرنا بقولنا: " التصديق أو التكذيب " بخلاف ما عبر به بعضهم(2/643)
وهو: " التصديق والتكذيب "؛ لأن الخبر الواحد لا يدخله التصديق
والتكذيب معاً، بل إما أن يكون الخبر صدقا، أو كذباً.
ومعروف أن كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخله الكذب أصلاً، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلاً، كأن يقول القائل:
"الاثنين أكثر من الأربعة "، فهذا كذب ظاهر.
***
المسألة الثانية: بيان السبب في عدم تعريف بعض العلماء للخبر:
مذهب الجمهور أن الخبر يُحَدُّ ويعرف كغيره، وهو الذي نذهب
إليه، وقد سبق - تعريفنا له.
أما بعض العلماء فقد ذهبوا إلى أن الخبر لا يُحَدُّ ولا يُعَرَّف،
كالوجود والعدم، واختلف أصحاب هذا المذهب في السبب الذي
جعلهم يقولون بعدم تحديده:
فمنهم من زعم بأنه لا يُحد ولا يُعرَّف الخبر بسبب عسره، وأنه لا
يسلم من توجيه الاعتراضات والإشكالات عليه، كما قيل في العلم.
ومنهم من زعم أن الخبر لا يُحدُّ بسبب أنه غني عن التحديد،
فكل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر، ويُميزه عن
الموضع الذي يحسن فيه الأمر والنهي، فهذا متصوَّر بديهيا، وهو ما
ذهب إليه فخر الدين الرازي وبعض أتباعه.
والحق أن الخبر يحد كغيره من المصطلحات، وما قاله المخالفون
فلا يسلم؛ لعدم الدليل عليه.(2/644)
المسألة الثالثة: في إطلاقات الخبر:
يطلق الخبر في اصطلاح العلماء على إطلاقات:
الإطلاق الأول: يطلق على المحتمل للتصديق والتكذيب المقابل
للإنشاء، وهو اصطلاح الأصوليين وأهل اللغة كما سبق.
الإطلاق الثاني: يطلق على ما هو أعم من الإنشاء والطلب،
وهذا إطلاق المحدثين كقولهم: " أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - " مع أن هذه الأخبار مشتملة على الأوامر والنواهي.
وسبب هذا الإطلاق: أن حاصل الأوامر والنواهي آيل إلى الخبر،
فالمأمور به والمنهي عنه في حكم المخبر عنهما؛ وذلك لأن الرسول
- صلى الله عليه وسلم - ليس آمراً ولا ناهياً على سبيل الاستقلال،
وإنما الآمر والناهي حقاً هو اللَّه عَزَّ وجلَّ، وصيغ الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - في حكم الإخبار عن اللَّه.
الإطلاق الثالث: يطلق الخبر على ما يقابل المبتدأ، وهذا إطلاق
النحاة.
الإطلاق الرابع: يطلق الخبر على القضية، وهو إطلاق أهل
المنطق، وسميت بذلك لما فيها من القضاء بشيء على شيء.
***
المسألة الرابعة: الفرق بين الخبر والإنشاء:
لقد سبق بيان حقيقة الخبر.
أما الإنشاء فهو: القول الذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر،
وهو متعلق بمعدوم مستقبل.(2/645)
وسمي بذلك؛ لأنك أنشأته وابتكرته من غير أن يكون موجوداَ
قبل ذلك في الخارج.
وهو يكون بالأمر والنهي، والدعاء، والترجي، والتمني،
والشرط والجزاء، والوعد والوعيد، والإباحة، والتحضيض.
فإذا عرفت الخبر والإنشاء، فقد بانت لك الفروق بينهما والتي من
أهمها:
الفرق الأول: أن الخبر يحتمل للتصديق والتكذيب، أما الإنشاء،
فهو لا يحتمل ذلك.
الفرق الثاني: أن الإنشاء سبب لمدلوله، أما الخبر فليس سببا
لمدلوله.
الفرق الثالث: أن الإنشاء يتبعه مدلوله، أما الخبر فهو تابع
للمخبر عنه في أي زمان كان.
***
المسألة الخامسة: أقسام الخبر من حيث سنده:
الخبر من حيث سنده ينقسم إلى قسمين:
الفسم الأول: الخبر المتواتر.
القسم الثاني: الخبر الآحاد.
فالمتواتر مأخوذ من التواتر وهو لغة: تعاقب أشياء واحداً بعد
واحد بينهما مهلة، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا)
أى: رسولا بعد رسول بمهلة، والمهلة: الفترة التي توجد بينهما.
والمتواتر في اصطلاح الاصوليين هو: خبر عدد يمتنع معه لكثرته
التواطؤ على الكذب.(2/646)
شرح التعريف:
قولنا: " خبر " جنس يشمل المتواتر والآحاد.
قولنا: " عدد يمتنع معه لكثرته التواطؤ على الكذب " معناه: أن
المتواتر: خبر عدد من المخبرين يمتنع تواطؤهم وتوافقهم على
الكذب؛ نظراً لكثرة هؤلاء المخبرين.
وهذه العبارة أخرجت خبر الآحاد؛ لأنه لا يمتنع التواطؤ على
الكذب؛ لأن احتماله قوي.
أما الآحاد فهو جمع أحد، قياسا على " أبطال " جمع بطل،
وهمزة أحد أصلها واو، حيث كانت: " واحد "، فأبدلت بهمزة
فصارت " أحد " أي: واحد، ويطلق عليه خبر الواحد.
وهو في الاصطلاح: ما كان من الأخبار غير منتهٍ إلى حدِّ التواتر.
أو تقول: هو خبر واحد، أو عدد لا يمتنع معه التواطؤ على
الكذب.
أما قول بعض العلماء في تعريفه: إن خبر الواحد هو: ما أفاد
الظن فهو غير صحيح؛ لأنه غير مانع من دخول غيره، فالقياس
يدخل فيه، حيث إنه يفيد الظن، وليس هو خبر الواحد، وغير
منعكس؛ حيث إن الواحد إذا أخبر بخبر، ولم يفد الظن، فإنه
يُسمَّى خبر واحد وإن لم يفد الظن.
ونظراً لأهمية هذين القسمين وهما: المتواتر والآحاد، حيث إن
دراسة السُّنَّة تدور حولهما، فقد اهتم بهما العلماء من أصوليين،
وفقهاء ومحدثين اهتماماً بليغاً، مما ستجده في المطالب التالية.(2/647)
المطلب الرابع في خبر المتواتر
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: هل المتواتر يفيد العلم؟
المسألة الثانية: هل العلم الحاصل بالمتواتر ضروري أو نظري؟
المسألة الثالثة: في شروط المتواتر المتفق عليها.
المسألة الرابعة: هل يشترط في المتواتر عدد محصور؟
المسألة الخامسة: هل يشترط في المتواتر أن يكون المخبرون مسلمين
وعدولا؟
المسألة السادسة: هل يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم
عدد، ولا يحويهم بلد؟
المسألة السابعة: هل يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم وأوطانهم
وأديانهم؟
المسألة الثامنة: هل يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين؟
المسألة التاسعة: العدد المفيد للعلم في التواتر هل هو واحد في كل
الوقائع والأشخاص، أو يختلف باختلاف الوقائع والأشخاص، والقرائن؟
المسألة العاشرة: حكم كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله.(2/649)
المسألة الأولى: هل المتواتر يفيد العلم؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الخبر المتواتر يفيد العلم اليقيني بالمخبر عنه.
ذهب إلى ذلك العلماء المعتد بأقوالهم.
وهذا هو الحق؛ لأن الواقع يشهد لذلك؛ حيث إنه حصل لنا
العلم اليقيني بما أخبرنا عنه عن طريق متواتر، فقد حصل لنا العلم
بوجود بعض البلدان البعيدة كالصين، والهند، ونحوهما، وكذلك
حصل لنا العلم بالأنبياء السابقين، والعلماء، والسلاطين، والوقائع
والغزوات، ونحو ذلك، وسبب حصول العلم بذلك هو أننا أخبرنا
عن ذلك بأخبار متواترة؛ حيث إننا لم نشاهد ذلك.
أي: إنا وجدنا أنفسنا عالمة بذلك كله كما نجدها عالمة بما نشاهده
وما نحس به، ومن أنكر ذلك فقد أنكر ما قطع به، فيكون معانداً
ومكابراً، والمعاند والمكابر لا يعتد بقوله.
فثبت أن المتواتر يفيد العلم، وإذا كان كذلك فيجب تصديق خبر
المتواتر بدون قرائن.
وهذا كله يفارق خبر الآحاد، فإنه لا يعلم صدقه إلا بقرائن،
كما سيأتي.
المذهب الثاني: أن المتواتر لا يفيد العلم، بل يفيد الظن.
ذهب إلى ذلك السُّمَنية - بضم السين مع تشديدها وفتح الميم -
نسبة إلى بلد في الهند اسمه " سومانا "، وكانوا من عبدة صنم
اسمه " سومانات "، وذهب إلى ذلك - أيضاً - البراهمة - وهم
من منكري الرسالة.(2/651)
دليل هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لا سبيل لإدراك
علم من العلوم إلا طريق الحواس الخمس - وهي: السمع،
والبصر، واللمس، والشم، والذوق - والمتواتر ليس منها، فلا
يفيد العلم إلا إذا انضم إليه بعض القرائن، أما الخبر المتواتر بمجرده
فلا يفيد العلم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا باطل من وجهين هما:
الوجه الأول: أن حصركم مدركات العلوم بالحواس الخمس فقط
منتقض بالأمور التي تدرك بالعقل المحض، كعلمنا بأن الاثنين نصف
الأربعة، وعلمنا بأن الضدين - كالسواد والبياض - يستحيل
اجتماعهما.
ومنتقض أيضا بالمشاهدات الباطنة مثل علم الإنسان بجوع نفسه.
ومنتقض أيضاً بالتجريبيات وهي: اطراد العادات مثل كون النار
محرقة.
وإذا ثبت أن هناك طرقاً تفيد العلم - غير الحواس الخمس - فإنه
يبطل حصركم مدركات العلوم بالحواس الخمس فقط.
الوجه الثاني: أنكم قلتم: إن العلوم لا تدرك إلا عن طريق
الحواس الخمس - فقط - فمن أين علمتم ذلك؟ ولا علم لكم
بذلك إلا عن طريق العقل.
أي: أنكم حصرتم إدراك العلوم بهذه الخمس عن طريق العقل،
وهنا قد أقررتم بطريق - وهو العقل - تدرك به العلوم غير الحواس(2/652)
الخمس، فثبت أن هناك طرقا أخرى تدرك بها العلوم غير الحواس
الخمس.
بيان نؤع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لأن السُّمَنية ومن وافقهم لا ينكرون وقوع
العلم من المتواتر في الجملة، لكنهم لم يضيفوا وقوعه إلى مجرد
الخبر، بل إلى قرينة، ووقوع العلم عن القرائن لا ينكره عاقل.
***
المسألة الثانية: هل العلم الحاصل بالمتواتر ضروري أو نظري؟
لقد اختلف أصحاب المذهب الأول - من المسألة السابقة، وهم
القائلون: إن المتواتر يفيد العلم فيما بينهم - في هذا العلم الذي
أفاده المتواتر هل هو علم ضروري أوَّلي قد حصل للسامع بلا نظر
واستدلال، أو هو نظري لم يحصل إلا بعد اكتساب واستدلال؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن العلم الحاصل بالمتواتر ضروري.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو المختار عندي؛ فالعلم الحاصل بالمتواتر قد علمناه. بالضرورة
من غير نظر ولا استدلال، فيضطر العقل إلى تصديقه، والعمل
بمقتضاه بدون حاجة إلى دليل أو قرينة.
والمراد بالعلم الضروري هو: ما يعلمه المكلف ويلزمه - من غير
نظر واستدلال - لزوماً لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك ولا شبهة،
كالعلم الحاصل بما تواترت به الأخبار من ذكر الأمم السالفة والبلاد
النائية، والعلم الحاصل بالحواس الخمس، والعلم الحاصل(2/653)
بالمشاهدات الباطنة، كالعلم بجوع نفسه وعطشه، ونحو ذلك ولا
فرق بينها.
ثبت ذلك بأدلة هي كما يلي:
الدليل الأول: أنه لو كان العلم الحاصل عن التواتر نظريا لم يقع
إلا لمن هو من أهل النظر والاستدلال والاكتساب كالعلماء، وللزم
اختلاف الناس فيه " فعلمه بعضهم وجهله آخرون بسبب اختلافهم في
النظر والأدلة.
لكن لما وقع العلم الحاصل من المتواقي لغير أهل النظر والاستدلال
كالعوام، والصبيان، والنساء، كما وقع لأهل النظر، واشترك
الجميع في ذلك، ثبت أن العلم الحاصل عن المتواتر ليس نظريا،
فثبت أنه ضروري.
الدليل الثاني: أن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة
والبلاد النائية - التي لم يدخلها - عند سماعه لخبر المتواتر بها، مع
أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر.
فعلمنا بذلك أن العقل مضطر إلى التصديق بما ينقل إلينا بخبر
المتواتر، ولو كان العلم من المتواتر قد حصل عن طريق النظر: لما
اضطررنا إلى العلم به إلا بعد النظر والاستدلال والقرائن.
المذهب الثاني: أن العببم الحاصل بالمتواتر نظري.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كأبي بكر الدقاق، وابن القطان،
وأبي الحسين البصري، وأبي القاسم الكعبي، وأبي الخطاب الحنبلي
إلا أن الأخير لم ينص عليه في " التمهيد "، لكنه نصره بالأدلة
وأجاب عن أدلة أصحاب المذهب الأول.(2/654)
دليل هذا المذهب:
استدل على هذا المذهب بأنه لو كان العلم الحاصل من المتواتر
ضرورياً لما احتاج إلى النظر، ولكنه احتاج إلى النظر، فيكون نظريا.
ويدل على ذلك: أن خبر المتواتر لم يفد العلم بنفسه، بل حصل
هذا العلم بواسطة مقدمتين هما:
المقدمة الأولى: أن هؤلاء المخبرين مع اختلاف أحوالهم، وتباين
أغراضهم، وكثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع، ويستحيل
عادة تواطؤهم على الكذب.
المقدمة الثانية: أن هؤلاء قد اتفقوا عن الإخبار عن واقعة واحدة
كوجود الهند مثلاً.
فالعلم بصدق الخبر المتواتر قد توصلنا إليه عن طريق مجموع
هاتين المقدمتين.
فيقال مثلاً: وجود الهند قد أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على
الكذب عادة، وكل ما أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب،
فهو معلوم، فوجود الهند معلوم، وهذا هو العلم النظري؛ حيث
نظرنا في هاتين المقدمتين واستدللنا بهما على ثبوت العلم بوجود
الهند.
وهاتان المقدمتان تشعر النفس بهما وإن لم يكونا بلفظ منظوم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا ضعيف، لأن المقدمات التي يتوقف حصول
هذا العلم على النظر فعها حاصلة في أوائل الفطرة، وهذا لا يحتاج
إلى كبير تأمل وفكر، ومثل ذلك لا يسمى نظرياً؛ لأن النظري هو
الذي يتوقف على أهلية النظر، وليس هذا من هذا الباب.(2/655)
المذهب الثالث: أن العلم الحاصل بالمتواتر بين النظري وبين
الضروري، فهو أقوى من النظري المكتسب، وليس في قوة
الضروري.
قاله أبو الفضل الخوارزمي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا المذهب لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا
يعتمد عليه، وليس بشيء.
المذهب الرابع: التوقف في المسألة.
وهو رأي الشريف المرتضى، والآمدي.
وسبب توقفهما: ضعف أدلة أصحاب المذهبين، فكل دليل من
أدلة الفريقين قد اعترض عليه باعتراض قوي عندهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأن التوقف ليس مذهباً معتبراً.
وعلى فرض أنه يعتبر مذهبا: فإنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة
أدلة أصحاب المذهب الأولى - وهو المختار - والاعتراضات التي
ذكرها الآمدي في " الإحكام " لا تقوى على إبطال تلك الأدلة.
بيان نوع هذا الخلاف:
إن المذهبين الثالث والرابع لا يعتبران؛ لما سبق، فينحصر الخلاف
في المذهبين الأولى والثاني، والخلاف بينهما لفظي لا ثمرة له؛ لأن
أصحاب المذهبين قد اتفقا على النتيجة، ولكنهما اختلفا في الطريق
إليها، فأصحاب المذهب الأول وهم القائلون: إن العلم الحاصل
بالمتواتر ضروري لا ينازعون في توقفه على النظر في المقدمات(2/656)
المذكورة، وأصحاب المذهب الثاني وهم القائلون: إن العلم
الحاصل بالتواتر نظري لا ينازعون في أن العقل يضطر إلى التصديق
إليه، وإذا وافق كل فريق ما يقوله الفريق الآخر في حكم هذا العلم
وَصفيه لم يبق النزاع بينهما إلا في اللفظ.
***
المسألة الثالثة: في شروط المتواتر المتفق عليها:
إن هناك شروطاً قد اشترطت لخبر التواتر حتى يكون مفيداً للعلم،
وإليك الشروط المتفق عليها:
الشرط الأول: أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا به، أي: قد
علموه ضرورة عن طريق إحدى الحواس الخمس كان يقولون: "رأينا
الهند "، أو " سمعنا قيصر يقول "، أو " لمسنا الثلج فوجدناه باردا"
أو نحو ذلك.
دليل هذا الشرط: أن ما لا يكون كذلك، فإنه يحتمل أن يدخله
عدة احتمالات من غلط، أو سهو، أو غفلة، فلا يحصل به
العلم، كذلك لو تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه عن طريق
النظر والاستدلال، فإنه لا يحصل العلم لنا بتلك الأخبار؛ - لأن
العلم قد حصل لنا بالطريق الذي حصل لهم من النظر والاستدلال.
فمثلاً لو أخبرنا العدد الكثير بأن الأنبياء صادقون، فإنه لا يحصل
لنا العلم بهذا عن طريق خبرهم، بل إنه حصل لنا العلم بذلك عن
طريق النظر والاستدلال، فننظر ونستنبط مثل المخبرين، بخلاف ما
لو أخبرونا عن شيء محسوس، فإنه لا يمكننا أن نشاهد الهند، أو
نلمس الثلج إذا كنا لا نعرف ذلك وليس ببلادنا.
الشرط الثاني: أن يكون حال وعدد من نقل عن الأولين كحال(2/657)
وعدد الأوَّلين الذين شاهدوا المخبر عنه، أو سمعوه، وكذلك مثل
هؤلاء الطبقة التي تليها، وهكذا حتى ينتهي الخبر إلينا، فكل طبقة
يشترط فيها شروط التواتر.
دليل هذا الشرط: أن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه،
فلابد من توفر شروط التواتر فيه، فإن نقل الخلف عن السلف ذلك
الخبر وتوالت الأعصار، ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر: لم
يحصل العلم بصدقهم؛ لعدم استواء طرفا الخبر ووشطه في كمال
العدد والصفة.
الشرط الثالث: أن لا يكون السامع عالماً بما أخبر به اضطراراً.
دليله: أن تحصيل الحاصل محال، وتحصيل مثل الحاصل - أيضاً -
محال؛ حيث إن العلم الضروري يستحيل أن يصير أقوى مما كان.
الشرط الرابع: أن يكون السامع للخبر من أهل العلم غير
المتشددين أو المتساهلين.
دليله: أنه يستحيل حصول العلم من غير متأهل له.
تنبيه: هذه شروط الخبر المتواتر المتفق عليها، وهناك شروط له
مختلف فيها ستعرفها فيما يلي من المسائل.
المسألة الرابعة: هل يشترط في المتواتر عدد محصور؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط في التواتر عدد محصور.
فحصول العلم بالخبر المتواتر ليس له عدد محصور، بل متى ما
حصل العلم بخبر المخبرين المجرد عن القرائن: علمنا أن الخبر بلغ(2/658)
التواتر، وإذا لم يحصل لنا العلم بى خبر المخبرين: علمنا أن الخبر لم
يبلغ حدَّ التواتر.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأنه لا يمكن معرفة العدد بالتحديد الذي
حصل علمنا عنده بوجود بلد لم نشاهده، أو بوجود الأنبياء، أو
الأئمة الأربعة، فلا سبيل واضح جلي نسلكه ونعرف به العدد
- بالتحديد - فهذا عسير جداً؛ وإنما السبيل إلى معرفة كون هذا الخبر
متواتراً هو حصول العلم بالخبر، فالعلم يتزايد تزايداً خفي التدريج
فهو يشبه تزايد عقل الصبي، فإذا لا نعرف متى بدأ الصبي يعقل
ويميز بين الخير والشر؛ لذلك لا يكلف الصبي العاقل حتى يبلغ،
ويشبه أيضاً تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال.
فكذلك الخبر، فإن الأول يحرك. الخبر، والثاني يؤكده، والثالث
كذلك، وهكذا، فإنه لا زال يتزايد تأكيد الخبر حتى يصبح التصديق
به ضروريا لا يمكن الشك فيه، ولكن لا يمكننا أن نعرف بالتحديد
العدد الذي لما بلغه المخبرون أصبح الخبر متواتراً.
والسبب في ذلك هو: قصور القوة البشرية عن إدراك ذلك، فلا
يمكن لأي عاقل - مهما كان - أن يدرك متى بالتحديد حصل العلم
بخبر مخبرين كثيرين عن شيء معين، بل يحصل لنا العلم بخبر
المتواتر، وإن كنا لا نقف على أول عدد أفاده، كما نعلم حصول
الشبع عن طريق الأكل وإن كنا لا نقف على آخر لقمة تسببت في
هذا الشبع، وكما نعلم حصول الري عن طريق شرب الماء، وإن
كنا لا نقف على آخر جرعة تسببت في هذا الري، وهكذا.
المذهب الثاني: أنه يشترط في التواتر عدد محصور ومعروف.(2/659)
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
والقائلون بهذا الشرط اختلفوا في تحديد العدد على أقوال:
فقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر اثنين؛ قياساً على الشهادة.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر أربعة؛ قياساً على أعلى
الشهادات كالزنى.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر خمسة؛ قياسا على أولي العزم
من الرُّسُل وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد
- عليهم أفضل الصلاة والتسليم -.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر عشرة؛ لأن العشرة مما فوق
جمع كثرة.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر اثني عشر؛ قياساً على نقباء بني
إسرائيل، لقوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) .
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر عشرين؛ لقوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، فأوجب الجهاد على
العشرين، وإنما خصهم بذلك؛ لأنهم إذا أخبروا حصل العلم
بصدقهم.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر أربعين؛ قياساً على من تنعقد
بهم الجمعة.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر سبعين؛ لقوله تعالى:
(واختار موسى قومه سبعين رجلاً) ، وإنما خصَّهم بذلك لحصول
العلم بما يخبرون به.(2/660)
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ قياساً على
عدد أهل بدر.
وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر ألف وخمسمائة، وهم عدد بيعة
الرضوان.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا المذهب ظاهر الفساد؛ لأمرين:
أولهما: أن تعارض أقوالهم في تحديد العدد واختلافهم دليل
ظاهر على فساده.
ثانيهما: أنه لا دليل صحيح على هذا المذهب، وما ذكروه من
الأدلة على تلك الأقوال لم تبن على شيء سوى قياسات واعتبارات
بعيدة كل البعد عما نحن فيه، فلا تُسلَّم لهم.
المسألة الخامسة: هل يشترط في المتواتر أن يكون المخبرون
مسلمين وعدولاً؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يشترط في التواتر أن يكون المخبرون مسلمين
ولا عدولاً، فيقع العلم بالتواتر، سواء كان المخبرون مسلمين، أو
كفاراً، أو عدولاً، أو فساقاً، لا فرق بينهم.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن الخبر المتواتر يفضي إلى العلم بالمخبر عنه،
وسبب إفضائه إلى العلم هو: كثرة المخبرين الذين لا يتصور أن
يجتمعوا على الكذب في الخبر، أو يتواطؤا عليه، وإذا كان الأمر(2/661)
كذلك فإنه يمكننا أن نستفيد العلم بأخبار الكفار - كما لو أخبروا عن
موقعة وقعت في السوق - كما يمكن أن نستفيد العلم بأخبار
المسلمين، ولا فرق بجامع: الكثرة المانعة من التواطؤ على الكذب،
فكثرة المخبرين جعلته في مرتبة قوية في إفادته للعلم، فلا يحتاج إلى
شيء يقويه كالإسلام والعدالة.
المذهب الثاني: أنه يشترط في التواتر أن يكون المخبرون مسلمين
وعدولاً، فلا يقبل من الكفار، ولا من الفساق.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كعبد اللَّه بن عبدان ذكره في كتابه
" الشرائط ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الكفر عرضة للكذب والتحريف، والإسلام
والعدالة ضابطان للصدق والتأكد من الأخبار.
جوابه:
يجاب عنه بأن الكثرة هي المانعة من التواطؤ على الكذب،
فلذلك نستفيد العلم بأخبار العدد الكثير، ولا فرق فى ذلك بين
المسلمين والكفار.
ولذلك لما لم يكن في خبر الواحد كثرة اشترطنا الإسلام
والعدالة؛ لأن العدد القليل الذي لم يبلغ حدَّ التواتر لو أخبر عن
شيء فإنه لا يفيد العلم؛ لأنه يمبهن تواطؤهم على الكذب.
الدليل الثاني لهم قالوا فيه: إن المسلمين اختصوا بدلالة الإجماع
على القطع، فوجب أن يختصوا بالمتواتر.(2/662)
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسكم المتواتر على الإجماع قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق.
بيانه: أنه اختص علماء المسلمين بالاحتجاج بالإجماع للأدلة
الشرعية السمعية، دون الأدلة العقلية، أما الخبر المتواتر فيقع به
العلم؛ لما سبق ذكره من أنه لا يمكن فيه الكذب، ولا يصح التواطؤ
عليه، وهذا موجود في الكفار كما هو موجود في المسلمين.
المذهب الثالث: الفرق بين أن يطول الزمان فيمكن حصول
التواطؤ على الكذب فيعتبر الإسلام، وبين ألا يطول الزمان فلا
يعتبر الإسلام، إذ لا يمكن حصول التواطؤ على الكذب.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا التفريق لا دليل عليه؛ حيث إن الكثرة هي
المانعة من حصول التواطؤ على الكذب، سواء طال الزمان أم لا.
المذهب الرابع: الفرق بين ما طريقه الديانات فلا مدخل للكفار
فيه، لأنه لا يؤمن جانبهم في ذلك، وبين ما طريقه الأقاليم وما أشبه
ذلك، فيدخل فيه الكفار، كما يدخل المسلمون.
جوابه:
يجاب عنه: بأن العلم قد حصل من المتواتر بسبب الكثرة المانعة
من الكذب بالشرط الذي قلناه وهو: استحالة تواطؤهم على
الكذب، فإذا وجد هذا الشرط، فإن الخبر يفيد العلم، سواء
كانت هذه الكثرة كفاراً أو مسلمين، لا فرق بينهم في ذلك، وسواء
كان الخبر عن ديانات أو عن أقاليم أو بلدان أو حوادث لا فرق.(2/663)
أما إذا لم يوجد ذلك الشرط - وهو: أن يستحيل تواطؤهم على
الكذب - فإن الخبر لا يفيد العلم مطلقا، سواء كانوا مسلمين أو
كفاراً، وسواء كانوا قد أخبروا عن ديانات، أو عن غير ذلك.
المسألة السادسة: هل يشترط في المتواتر كون المخبرين لا
يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط في المتواتر كون المخبرين لا
يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق؛ لأن الواقع يدل على ذلك، فلو أخبرنا المصلون في
جامع واحد من جوامع الرياض - مثلاً - عن وقوع حادثة في
المسجد كسقوط الإمام من المنبر، فإنه يحصل العلم بخبرهم مع أنهم
محصورون بدليل أن المسجد قد حواهم، فإذا حصل العلم بخبر
هؤلاء مع حصرهم وكون المسجد قد حواهم، فمن باب أَوْلى أن
يحصل العلم بخبر أهل بلد لو أخبروا عن وقوع شيء.
المذهب الثاني: أنه يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم
عدد ولا يحويهم بلد، ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، واختاره فخر
الإسلام البزدوي.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بأنه اشترط ذلك للتأكد من صحة
الخبر؛ لأنه كلما كثر العدد كلما كان الخبر أقوى. وأصح.(2/664)
جوابه:
يجاب عنه بأنه إذا حصل العلم بالمخبر عنه: كان الخبر متواتراً
مطلقا، سواء كانوا معروفين العدد، أم لا، أو يحويهم بلد أم لا،
فنستدل بحصول العلم على كمال العدد.
المسألة السابعة: هل يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم،
وأوطانهم، وأديانهم؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك في المخبرين.
ذهب إلى ذلك الجمهور، وهو الحق؛ لأن الواقع يدل عليه،
فمثلاً لو أن قبيلة من القبائل المتفقة في الدين والنسب، والوطن،
أخبروا عن واقعة وقعت في ناحيتهم، فإنه يحصل العلم بخبرهم
ضرورة.
المذهب الثاني: أنه يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم،
وأوطانهم، وأديانهم.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه يشترط ذلك لتندفع التهمة بصورة آكد.
جوابه:
يجاب عنه بأن الكثرة المانعة من التواطؤ على الكذب يكفي عن
هذا الشرط.(2/665)
المسألة الثامنة: هل يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن الواقع يدل على عدم
اشتراط ذلك، فمثلاً لو أخبر أهل بلد من بلدان الكفار على الإخبار
عن حصول فتنة: لحصل العلم بخبرهم مع كونهم كفاراً فضلاً عن
كون الإمام المعصوم ليس فيهم.
المذهب الثاني: أنه يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين.
دليل هذا المذهب:
أنه اشترط ذلك حتى لا يتفقوا على الكذب، فالمعصوم هو المانع
من اتفاقهم على الكذب.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا لو كان شرطا صحيحا، فإن العلم قد
حصل بخبر الإمام المعصوم بالنسبة لمن سمعه، لا بخبر التواتر.
***
المسألة التاسعة: العدد المفيد للعلم في التواتر هل هو واحد في كل الوقائع والأشخاص، أو يختلف باختلاف الوقائع والأشخاص والقرائن؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: الفرق بين ما احتفت به قرائن، وبين الخبر
المجرد، بيانه:
إن كان العلم الحاصل بالتواتر قد اقترنت به قرائن تدل على(2/666)
صدقه: فيجوز أن تختلف الوقائع فيه والأشخاص؛ لاختلاف
الهيئات المقارنة للخبر الموجبة لتعريف متعلقه، ولاختلاف أحوال
المخبرين في اطلاعهم على قرائن التعريف، ولاختلاف إدراك
المستمعين؛ لتفاوت الأذهان والقرائح، ولاختلاف الوقائع على
عظمها وحقارتها.
وإن كان العلم الحاصل بالتواتر لم تقترن به قرائن، بل حصل من
نفس خبر ذلك العدد المجرد: فإنه لا يتصور أن يختلف في الوقائع
والأشخاص.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن مجرد الإخبار
يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين، وإن لم توجد قرائن،
وكذلك مجرد القرائن قد تورث العلم، وإن لم يوجد إخبار، فلا
يبعد أن تنضم القرائن إلى الإخبار، فتقوم بعض القرائن مقام بعض
العدد من المخبرين.
ومثال الخبر بدون قرائن: أنه لو أن عشرة أشخاص قد أخبروا زيداً
ومحمداً بأن بكراً قد نجح، فإنه يحصل العلم بهذا العدد عند الاثنين
معا على السواء؛ لعدم وجود قرينة عند أحدهما دون الآخر.
ومثال الخبر المقترن بقرينة: لو أخبر واحد محمدأ وزيداً بأن بكرأ
قد مات، وكان محمد يعلم - قبل الإخبار - بأن بكراً مريض دون
زيد، فإنا نعلم بأن محمداً قد حصل له العلم الموجب للتصديق،
وسبب ذلك: هذه القرينة، وهي: علمه بمرض بكر، ولم يحصل
ذلك لزيد.
وأيضا: فإنا نرى الصبي - الذي لم يتجاوز السنتين - يرضع من
ثدي المرأة الشابة، فيحصل لنا العلم بأن اللبن قد وصل إلى معدة(2/667)
هذا الصبي وإن لم نشاهد اللبن في الثدي، ولم نشاهده عند خروجه،
ولم نشاهده في المعدة؛ لأنه مستور، لكن قطعنا بوصول اللبن إلى
معدة ذلك الصبي بسبب قرائن هي كما يلي: " حركة حلق الصبي
أثناء امتصاصه للبن "، و " أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها من لبن "،
و" أن هذا الثدي فيه ثقب يخرج منه اللبن "، و " أن الصبي فيه القوة
على الامتصاص "، و " أن الصبي قد سكت عن البكاء بعد ذلك
الامتصاص مع أنه لم يتناول طعاما آخر ".
هذه قرائن قد حصل لنا العلم القطعي عن طريقها مجتمعة على أن
ذلك اللبن قد وصل إلى معدة ذلك الصبي، وإن لم نشاهده، لكن
لو انفردت قرينة واحدة كحركة حلق الصبي، فإنا لا نحكم بوصول
اللبن إلى معدته؛ لأنه قد يوجد سبب آخر لهذه الحركة غير
الامتصاص.
المذهب الثاني: أن الخبر المفيد للعلم في واقعة يفيده في كل
واقعة، وإذا حصل العلم لشخص فلا بد أن يحصل لكل شخص
يشاركه في السماع، ولا يتصور أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص
بسبب وجود قرائن ودلائل، فلا يلتفت إلى تلك القرائن، ولا
يجعل لها أثراً في تصديق الخبر.
ذهب إلى ذلك أبو بكر الباقلاني، وأبو الحسين البصري.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن حكم المتماثلين واحد،
فلو أن مائة شخص أخبروا محمداً بأن زيداً قد قتل وحصل العلم
بخبرهم وجب أن يفيد عليا خبر مائة شخص بأن صالحا قد قتل؟
وذلك لاستواء الوقائع والأشخاص في ذلك.(2/668)
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا صحيح إذا كان الخبر مجرداً عن القرائن،
فإنا نوافقكم بأن ما حضَل العلم في واقعة فإنه يفيده في كل واقعة،
وما حصَّله لشخص فإنه يحصتَله لكل شخصٍ يشاركه في السماع،
ولا يمكن أن يختلف، وبينا ذلك.
لكن إذا كان الخبر قد احتف به قرائن وعلم بها بعض السامعين
للخبر دون بعض، فإنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك كما بينا فيما سبق.
المسألة العاشرة: حكم كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجوز على أهل التواتر، والجماعة العظيمة
أن يكتموا ما يحتاج الخلق إلى نقله ومعرفته.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن كتمان ما
يحتاج إلى نقله ومعرفته قبيح، وهو في القبح بمثابة الكذب - وهو:
الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع - والكذب محال على أهل
التواتر والجماعة العظيمة؛ لاستحالة تواطؤ أهل التواتر على الكذب.
فلما لم يجز على أهل التواتر الكذب: كذلك لم يجز أن
يجتمعوا على كتمان نقل ما يحتاج الناس إلى نقله ومعرفته، ولا
يجوز أن يتواطؤ عليه.
يؤيد ذلك: أنه لو حدث في الجامع وقت الصلاة حادثة عظيمة
تظهر لجميع من حضر لم يجز أن يترك نقلها جميع من حضر، كما
لا يجوز أن يخبر عنها جميعهم بالكذب.(2/669)
المذهب الثاني: أنه يجوز كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله
ومعرفته.
ذهب إلى ذلك الإمامية - من الشيعة - وعلى هذا المذهب بنوا
كلامهم في ترك الصحابة، نقل النص على خلافة عليّ - رضي الله
عنه - وإمامته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: إن الصحابة قد تواطئوا على ترك نقل ذلك النص وهم من أهل التواتر.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يجوز أن تترك الجماعة نقل الشيء تقية، أو
خوف فتنة، فلذا جاز لهؤلاء كتمان ما يحتاج إلى نقله.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا كله لا يجوز، إذ لو جاز ذلك لجاز أن
يكذبوا ولا فرق؛ لأنهما سواء في القبح.
الدليل الثاني: الواقع دلَّ على ذلك، وهو من وجهين:
أولهما: أن النصارى لم تنقل كلام عيسى - عليه السلام - وهو
في المهد، في حين أنهم نقلوا إحياءه للموتى وإبراءه الأكمه والأبرص.
ثانيهما: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد تركت نقل القِران
والإفراد في الحج حتى اختلفوا بعد ذلك، فنقلوا.
جوابه:
يجاب عنه بأن يقال:
أما الوجه الأول فيجاب عنه: بأن كلام المسيح في المهد لم ينقل؟
لأنه كان ووقع منه قبل ظهوره، وقبل نبوته، وقبل أن يتبعوه،(2/670)
والذي ينقل كلامه ويعتبر ويعتد به في الأحكام الشرعية هو الذي
ثبتت نبوته.
فإن اعترض معترض على ذلك - كالطوفي وغيره - قائلاً: إن
كلامه في المهد كان من خوارق العادات قبل نبوته والدواعي تتوفر
على نقل مثله عادة.
فإنا نقول - في الجواب عنه -: إن كلام الشخص قبل نبوته قد
ينقله بعض الخبرين، لكن لا يُهتم بنقله كالاهتمام بنقل كلامه بعد
النبوة؛ لأن كلامه بعد النبوة يعتبر من التشريع، أما كلامه قبل ذلك
فلا يعتبر من التشريع.
أما الوجه الثاني فيجاب عنه: بأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
لم يتركوا نقل القِران والإفراد في الحج، بل نقلوه وذكروه، لكن
اختلفوا في النقل، نظراً لاختلافهم في السماع، فبعضهم سمعه
يلبي بالحج والعمرة، وبعضهم سمعه يلبي بالحج فقط، - فنقل كل
واحد ما سمع.(2/671)
المطلب الخامس في خبر الواحد
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟
المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان ضمن
خبر الواحد؟
المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً.
المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به سمعا.
المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟
المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟
المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت عدالته.
أولاً: حقيقة الصحابي.
ثانيا: طرق معرفته.
ثالثاً: ثبوت عدالته.
المسألة الثامنة: شروط الراوي غير الصحابي.
المسألة التاسعة: شروط ظن بعضهم أنها تشترط في الراوي، وهي
ليست كذلك.(2/673)
المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المأوِّل.
المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المأولّ.
المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأداه بعد البلوغ فهل
يقبل؟
ْالمسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة.
المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه:
أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح.
ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي.
ثالثا: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟
رابعا: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟
خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟
سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟
سابعا: حكم تعديل العبد للراوي.
ثامنا: حكم تعديل المرأة للراوي.
تاسعا: الجارح والمعدل هل يقبل قولهما بدون ذكر سبب التعله يل والجرح؟
عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدل.
حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه.(2/674)
ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم؟
ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين.
المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية الحدود بالقذف.
المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر:
القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر.
أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي
يقول، أو حدَّثني، أو أخبرني، أو شافهني ".
ثانيا: إذا قال الصحابي: " قال رسول الله، أو
أخبر، أو حدث " فما الحكم؟
ثالثا: إذا قال الصحابي: " أمر رسول الله، أو
نهى، أو حرم، أو أباح، أو فرض "، فما
الحكم؟
رابعا: قول الصحابى: " أمرنا بكذا، أو نهينا
عن كذا " ما حكمه؟
خامسا: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا " أو
" السُّنَّة جارية بكذا " ما حكمه؟
سادسا: قول - الصحابي: " عن - صلى الله عليه وسلم - " ما حكمه؟
سابعا: قول الصحابي: " كلنا نفعل، أو كانوا
يفعلون " ما حكمه؟(2/675)
ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون " هل
يفيد حكاية الإجماع؟
القسم الثاني: كيفية ألفاظ الراوي غير
الصحابي في نقل الخبر:
أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع.
ثانياً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي إذا أراد أن
يحدث بما سمعه من شيخه فيما سبق.
ثالثا: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي
أم العكس أم ماذا؟
رابعا: قراءة الراوي على الشيخ وهو يسمع،
ثم قال الشيخ: نعم، هل تجوز الرواية عنه؟
خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو
يسمع، ثم قال الراوي للشيغ: هل سمعت أيها
الشيخ؛ فسكت الشيخ فهل تجوز الرواية عنه؟
سادساً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما
يريد أن يحدث بما قرأه على شيخه.
سابعا: إذا قرأ الراوي على الشيخ فهل يجوز
أن يقول: " أخبرنا "، و " حدثنا " مطلقا بدون
عبارة. " قراءة عليه "؟
ثامنا: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز
للراوي أن يبدل ذلك بلفظ " أخبرنا " أو بالعكس؟(2/676)
تاسعا: إذا قال الشيخ: "حدَّثنا " أو " أخبرنا "
فهل يجوز أن يبدل الراوي ذلك إلى لفط "سمعت "؟
عاشراً: حقيقة الإجازة أو صورة المناولة، وصيغة الراوي فيهما.
حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة.
ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة.
ثالث عشر: أنواع الإجازة.
رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدثني
فلان " أو " أخبرني فلان " وأطلق ولم يقيد ذلك بلفظ: " إجازة "،
فهل هذا يجوز؟
خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر، والفاسق؟
سادس عشر: إذا قال الشيخ: " خذ هذا
الكتاب وهو مسموعي "، ولم يقل: "إروه عني"، فهل تجوز الرواية بذلك؟
سابع عشر: حقيقة الوجادة، وهل تجوز الرواية بها؛ وما هي صيغتها؟
ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " فهل يقبل قوله،
وهل يروى عنه؟
تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب(2/677)
ووجده ولم يذكر سماعه، ولا قراءته، لكن
غلب على ظنه سماعه كلما يراه من خطه الذي
توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟
عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟
واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث، والتبس عليه مع غيره فما الحكم؟
تاني وعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في
حديث أنه مسموع من شيخه؟
ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ
الحديث إنكاراً صريحاً؟
رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ
الحديث إنكاراً غير صريح وهو التوقف؟
المسألة السابعة عشر: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟
المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه.
المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد.
المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس.
المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات.
المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى.
المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث.(2/678)
المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي.
المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي.
المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند.
المسألة الثامنة والعشرون: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحكامها.
أولاً: أفعاله الجبلِّية.
ثانياً: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات.
ثالثاً: أفعاله التي لم يتبين أمرها ولا يعلم هل هي قربة أو عادة.
رابعاً: أفعاله لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق.
خامساً: الفعل الخاص به - صلى الله عليه وسلم -.
سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟
المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أولاً: بيان تعريفه.
ثانيا: حجيته.
ثالثاً: أنواع الإقرار.
المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة:
أولاً: أقسام السُّنَّة من حيث حقيقتها:
1 - قولية
2 - فعلية
3 - تقريرية.(2/679)
ثانيا: أقسام السُنَّة من حيث السند:
1 - متواتر
2 - آحاد.
ثالثاً: أقسام السُنَّة من حيث الصحة وعدمها:
1 - الحديث الصحيح، تعريفه، أنواعه، حجيته.
2 - الحديث الحسن، تعريفه، أنواعه، حجيته.
3 - الحديث الضعيف، تعريفه، حجيته.(2/680)
المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد لا يفيد العلم، بل يفيد الظن.
ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من
الأدلة:
الدليل الأول: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لكان العلم
حاصلاً بخبر الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم من غير حاجة إلى إظهار
المعجزات والأدلة على صدقهم، فلما أخبروا عن نبوتهم وأظهروا
المعجزات الدالة على ذلك: ثبت أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد
العلم.
الدليل الثاني: أنه لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لوجب على
القاضي أن يصدق المدعي على غيره من غير بينة؛ لأن العلم يحصل
بقوله، فلما ثبت أنه لا يصدق إلا ببينة ثبت أن خبر الواحد بمجرده
لا يفيد العلم.
الدليل الثالث: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لما احتيج إلى
عدد من الشهود - اثنين فأكثر -، بل كان الشاهد الواحد يكفي،
ولما كان الأمر بخلاف ذلك وأنه احتيج إلى عدد من الشهود دلَّ على
أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم.
الدليل الرابع: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لجاز لخبر
الواحد أن ينسخ القرآن والسُنَّة المتواترة؛ لأنه يكون حينئذٍ - في
قوتهما فيقوى على نسخهما، ولكن لما لم يجز نسخ خبر الواحد(2/681)
للقرآن والممئُنَّة المتواترة - كما سبق بيانه - دلَّ على أن مرتبته أضعف
من مرتبتهما، فدلَّ على أنه لا يفيد العلم مثلهما، بل يفيد الظن.
المذهب الثاني: أن خبر الواحد يفيد العلم.
ذهب إلى ذلك كثير من أهل الظاهر كداود الظاهري، والحسين
الكرابيسي، والحارث المحاسبي، وابن حزم، واختاره بن خويز
منداد من المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل أصحاب هذا المذهب:
لقد استدل لهذا المذهب بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، ثم أمرثا
بالعمل بخبر الواحد، وهذا الأمر يدل على أن خبر الواحد يفيد
العلم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن وجوب العمل بخبر الواحد لا يدل على أنه يفيد
العلم؛ إذ لو كان لا يفيد العلم لم نعمل به هذا غير مراد، وإنما
العمل بخبر الواحد لا يقف على كونه مفيداً للعلم، وإنما وجب
العمل بغلبة الظن كما وجب العمل بالقياس، وكما وجب العمل
بقول الشاهدين، وكما وجب العمل بقول المفتي.
المذهب الثالث: أن خبر الواحد مفيد للعلم إذا كان في رؤية الله
تعالى وما ماثلها ممن توفرت فيه أمور ثلاثة: كثرة رواته، وتلقي
الأُمَّة له بالقبول، ودلالة القرائن على صدق راويه.
وهذا رواية عن الإمام أحمد.(2/682)
المذهب الرابع: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن
تؤيده، وتدل على صدقه، وهي كما يلي:
1 - أن يروي خبر الواحد راوي متصف بالعدالة، والثقة، والإتقان.
2 - أن ينقل الخبر من طرق متساوية بحيث لا تختلف.
3 - أن تتلقاه الأُمَّة بالقبول.
4 - أن لا ينكره أحد ممن يعتد بقوله.
فإذا توفرت هذه الأمور في خبر الواحد فإنه - حينئد - يفيد العلم.
الجواب عن هذين المذهبين:
يجاب عنهما بأن هذين المذهبين - الثالث والرابع - لا يدخلان
في محل النزاع؛ لأن النزاع في خبر الواحد المجرَّد عن القرائن التي
تدل على صدقه، أما خبر الواحد الذي احتفت به قرائن دلت على
صدقه، فإنه يفيد العلم بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على أنه
يجب العمل بخبر الواحد، سواء أفاد العلم أو الظن، وهذا هو
الذي يهم الأصولي؛ حيث إنه يبحث في الأحكام الناجزة وهي
أحكام الدنيا، والله أعلم.(2/683)
المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان
ضمن خبر الواحد؟
المستفيض هو: ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة، فلا بد أن يكون
الرواة أربعة فصاعداً، وهو مذهب جمهور الأصوليين.
وقيل: إن المستفيض هو الشائع بين الناس، وقد صدر عن أصل.
ولا فرق بين المستفيض والمشهور.
وقيل: بل بينهما فرق وهو: أن المستفيض: ما سبق بيانه،
والمشهور هو: ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث.
والمستفيض والمشهور داخلان ضمن الآحاد؛ لأن خبر الواحد
ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما لا يفيد الظن أصلاً وهو: ما تقابلت فيه
الاحتمالات على السواء.
والقسم الثاني: ما يفيد الظن وهو: ترجيح أحد الاحتمالين
الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع سواء أخبر نقله واحد
فقط، أو نقله الثلاثة والأربعة، وهذا مذهب جمهور الأصوليين
وهو الحق.
وقيل: إن المستفيض والمشهور في مرتبة متوسطة بين المتواتر
والآحاد. نقل هذا عن الأستاذين: أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي
منصور، لذلك قال بعض العلماء: إن ضابطه: أن ينقله عدد كثير
يربو على الآحاد، وينحط عن عدد المتواتر.
وقيل: إن المستفيض بمعنى المتواتر.
وقيل: إن المستفيض في رتبة أعلى من المتواتر.
والصحيح ما قلناه وهو: أن المستفيض والمشهور بمعنى واحد.(2/684)
وأنهما داخلان ضمن الآحاد، ولا يخرجان عنه؛ لأنه لا يفيد إلا الظن.
المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً:
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجوز التعبُّد بخبر الواحد وقبوله عقلاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، أي: أن العقل أجاز قبول خبر
الواحد والعمل به.
وهو الحق؛ لأن جواز التعبد بخبر الواحد لا يفضي إلى اجتماع
الضدين، ولا يفضي إلى أن يكون الواحد أكثر من الاثنين، ولا
يناقض مصلحة عقلية، فجاز القضاء بتجويزه.
المذهب الثاني: أنه يجب التعبُّد بخبر الواحد عقلاً، أي: أن
العقل أوجب علينا قبول خبر الواحد والعمل به.
ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الحوادث والوقائع الجديدة كثيرة، فلو لم نتعبد
بخبر الواحد ونعمل به: للزم من ذلك تعطيل وخلو تلك الحوادث
والوقائع عن الأحكام الشرعية، لأمرين: أولهما: ندرة الأدلة
القواطع، وثانيهما: قلة مدارك اليقين كالأوليات، وهي العقليات
المحضة كعلم الإنسان باستحالة اجتماع الضدين، والمشاهدات كعلم
الإنسان بجوع نفسه، والمحسوسات الظاهرة وهي الحواس الخمس،
والمتواترات.(2/685)
ولكن بتعبدنا بخبر الواحد وعملنا به يلزم منه إيجاد أحكام شرعية
لكثير من الحوادث المتجددة.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا يسلَّم، أي: لا يلزم من عدم التعبد بخبر
الواحد والعمل به تعطيل الحوادث بلا أحكام؛ وذلك لأن المجتهد إذا
لم يجد حكماً للحوادث المتجددة من القواطع، فإنه لا يتركها بلا
حكم، بل يستصحب حال البراءة الأصلية فيها حتى يأتي دليل قاطع
يغير الحالة.
الدليل الثاني قالوا فيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث إلى جميع الناس، ولا يمكنه مشافهة جميعهم، ولا إبلاغهم بالتواتر، فلم يبق إلا
الآحاد لإبلاغهم بالرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب التعبد به
عقلاً؛ إذ لا طريق غيره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مكلَّف بإبلاغ الجميع عن طريق الإيجاب، بل إنه أرسل إلى الناس كافة وكلف بأن يبلغ من يقدر
عليه، ويستطيع تبليغه، فليقتصر على ذلك، فليس تبليغ الجميع
واجباً.
الدليل الثالث: أن الواحد إذا أخبرنا بأن اللَّه أمر بكذا، أو رسوله
أمر بكذا، فإنا نحتمل صدقه، وإذا احتملنا صدقه، فإنه يجب
العمل به احتياطاً لأنفسنا، إذ لو لم نعمل بذلك للزم مخالفة أمر
ظننا وجوده.(2/686)
جوابه:
يجاب عنه بأنا لا نسلِّم ذلك؛ لوجوه:
الوجه الأول: أن خبره يحتمل الكذب - أيضاً - فربما يكون عملنا
بخلاف الواجب.
الوجه الثاني: إذا كان مستند العمل هو احتمال صدقه - فقط -
فإنه يلزم من ذلك وجوب العمل بخبر الكافر والفاسق؛ لأن صدقه
محتمل.
الوجه الثالث: أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي، فلا
ترفع بمجرد ظن لا دليل عليه.
المذهب الثالث: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً.
ذهب إلى ذلك الجبَّائي، وابن علية، وأبو بكر بن الأصم،
وطائفة من المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد يحتمل أن
يكون صدقاً، ويحتمل أن يكون كذباً، والاحتمالان متساويان،
وهذا هو الشك - الذي هو تساوي الطرفين - فإذا عملنا بخبر
الواحد المحتمل لهذين الاحتمالين على التساوي نكون قد عملنا
بالشك، والشك يؤدي إلى الجهل؛ حيث إننا إذا شككنا في شيء
نكون قد جهلنا المراد به، فنكون قد أقدمنا على العمل بالجهل،
ويقبح أن نحيل الخلق أن يعملوا بالمجهولات، فيكون العمل بالجهل
قبيح، والعقل لا يجيز القبيح.(2/687)
جوابه:
يجاب عنه بوجهين:
الوجه الأول: أن هذا الدليل مبني على قاعدة وهي: " التحسين
والتقبيح العقليين "، وهي صحيحة عند المعتزلة؛ حيث زعموا أن
إحالة الأحكام على ما يجوز كذبه قبيح، وأن اللَّه لا بد أن يفعل
كذا؛ لأنه حسن، وهذه القاعدة باطلة عندنا.
الوجه الثاني: لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد هو عمل بالشك
المؤدي إلى الجهل، بل إن العمل بخبر الواحد عمل بالظن؛ حيث
إن خبر الواحد يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، ولكن احتماله
للصدق أرجح، والظن غير الشك؛ لأن الظن هو ترجيح أحد
الطرفين، والشك هو تساويهما، وأيضاً: الظن يجب العمل به،
أما الشك فلا يعمل به.
ثم إننا لا نعمل بظن كل أحد، بل إننا لا نعمل إلا بظن المجتهد
الذي بلغ درجة الاجتهاد، أما من لم يبلغ ذلك فلا يعمل بظنه مهما
كان.
اعتراض على ذلك:
اعترض معترض قائلاً: إن الظن - أيضاً - لا يعمل به؛ لوجود
احتمال كذبه.
جوابه:
فإنا نجيب عن ذلك: بأن هناك أموراً كثيرة قد أفادت الظن، ومع
ذلك قد تعبدنا اللَّه بأحكامها وعمل بها منها: أنه يجب العمل
بالشهادة مع أنها تفيد الظن ط ومنها: أنه يجب العمل بالفتوى مع
أن المفتي واحد، ولم يفد إلا الظن، ومنها: أنه إذا اشتبهت عليه
القِبْلة في سفر وحضرت الصلاة: فإنه يجتهد في اتجاه القِبْلة ويصلي،(2/688)
وهذا كله ظني، فإذا كان الأمر كذلك في هذه الصور، فما المانع
من التعبد بخبر الواحد وإن كان لا يفيد إلا الظن.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ إذ لا يترتب عليه عمل.
***
المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: إجماع الصحابي السكوتي، بيان ذلك:
أنه ثبت في وقائع وحوادث - لا يمكن حصرها - قد اشتهرت
ونقلت عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - أنهم عملوا بخبر الواحد
بدون نكير، مما يدل على إجماعهم على ذلك.
وكل واقعة لم تتواتر، ولكن بمجموع تلك الوقائع والحوادث قد
حصل لنا العلم بأنهم اتفقوا على العمل به، وإليك بعضا منها:
1 - أن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة قد شهدا عند أبي بكر
- رضي اللَّه عنهم - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الجدة السدس فقبل منهما وعمل به، مع أن ذلك لم يبلغ حد التواتر.
2 - أن حمل بن مالك قال: " كنت بين امرأتين فضربت
إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في(2/689)
جنينها بغرة عبد أو أَمَة، وأن تقتل "، فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان يسأل عن إملاص المرأة - قبل منه وقال: " اللَّه أكبر
لو لم أسمع بهذا لقضينا بغيره "، فقبل منه هذا الخبر وعمل به مع
أنه خبر واحد.
3 - أن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - كان يقول: الدية
للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، فقال له الضحاك بن
سفيان الكلابي: كتب إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فقبل منه ذلك وعمل به مع أنه خبر واحد.
4 - أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " سنوا بهم سُنَّة أهل
الكتاب "، فقبل عمر ذلك وعمل به وبدأ يأخذ من المجوس الجزية
مع أنه خبر واحد.
5 - أنه لما اختلف بعض المهاجرين والأنصار - رضي اللَّه عنهم -
في الذي يوجب الغسل سألوا عائشة - رضي اللَّه عنها - فقالت:
قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل "،
فقبل الصحابة وعملوا به مع أنه خبر واحد.
6 - أنه لما كان أهل قباء يصلون إذ جاءهم آت فقال: " إن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة ".
فقبل هؤلاء خبر الواحد وعملوا به من غير نكير.
7 - أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - كان يذهب إلى أن الربا
المحرم هو ربا النسيئة فقط، ثم حكي عنه أنه رجع، وذهب إلى
تحريم؛ كلٍّ من ربا النسيئة وربا الفضل، ولا يفرق بينهما أخذاً بخبر(2/690)
أبي سعيد الخدري في الصرف وهو: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض "
أي: لا تفضلوا، فأخذ بخبر الواحد وعمل به.
8 - قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر أربعين سنة
لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة "، فهنا قد أخذ بخبر الواحد وعمل به.
وغير ذلك من الأخبار مما لا يحصى، حيث رجعوا إلى عائشة،
وأم سلمة، وحفصة، وميمونة، وزيد، وأسامة، وأبي الدرداء،
وغيرهم من الرجال والنساء، والعبيد والموالي، مما يدل دلالة
واضحة على أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد ويعملون به.
وهذه الأخبار وإن لم تتواتر آحادها، إلا أنها بمجموعها أفادتنا
علماً يقينياً لا يقبل الشك: أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد
ويعملون به، ويتركون ما خالفه، دون نكير من أحد، إذ لو وجد
إنكار لبلغنا كما بلغتنا تلك الأخبار، مما يدل على إجماع الصحابة
على العمل بخبر الواحد.
الاعتراض على هذا الدليل:
أنه يحتمل أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - لم يعملوا بتلك الأخبار
الآحادية بمجردها، وإنما عملوا بها بسبب قرائن اقترنت بها، ونظراً
إلى هذا الاحتمال الذي تطرق إلى هذا الدليل، فإنه يبطل به الاستدلال.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد عملوا بمجرد
خبر الواحد دون قرائن، دلَّ على ذلك أمران:(2/691)
أولهما: أن بعض الصحابة قد صرح بأنه لم يعمل إلا بمجرد
الخبر فقط من ذلك:
(أ) أن عمر - رضي اللَّه عنه - قال في خبر حمل بن مالك في
إسقاط الجنين: " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ".
(ب) أنه لما اختلف الصحابة في الغسل من الجنابة رجعوا إلى
قول عائشة بمفرده وهو: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ".
(ب) قول ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر أربعين
سنة حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها ".
هذه النقول تدل على أنهم قد عملوا بمجرد خبر الواحد دون قرائن.
ثانيهما: أنه لو كان هناك قرائن اقترنت بالخبر بسببها عملوا بذلك
الخبر: لنقلت إلينا كما نقل الخبر، وبلغتنا كما بلغنا الخبر، فلما أنه
بلغنا الخبر، ولم يبلغنا شيء من القرائن دلَّ على أن الصحابة قد
عملوا بالخبر فقط، فأصبح كلامكم مجرد احتمال لا دليل عليه،
وما لا دليل عليه لا يلتفت إليه.
الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الصحابة لم يعملوا بخبر
الواحد بمجرده، بل عملوا به بسبب قرينة أوجبت العمل به "، يلزم
منه أن الصحابة لم يعملوا بأي آية من الكتاب، أو أي حديث متواتر
إلا بسبب قرينة أوجبت العمل بهما، وأنه لو لم توجد هذه القرينة
لم يعملوا بالكتاب، ولا بالسُّنَّة المتواترة، وهذا باطل قطعاً،
لأمرين:
أولهما: أن الصحابة قد ثبت عنهم أنهم عملوا بظواهر الآيات
والأحاديث المتواترة بدون قرائن.(2/692)
ثانيهما: أن تقدير قرينة في الآية والمتواتر يؤدي إلى إبطال أدلة
الشريعة عن العمل، وبالتالي يؤدي إلى تعطيل الشريعة كلها؟
حيث يلزم منه: أنه لا يعمل بأي دليل إلا بقرينة، إذن لا حاجة إلى
الأدلة؛ لأن العمل كان بسبب القرينة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد شرط في التبين والتثبت: كون
المخبر فاسقاً، فبان من هذا أن خبر العدل يقبل بدون تثبت؛ لأنه لو
كانت حالة الفاسق والعدل سواء لم يكن لذكر الفسق معنى.
اعتراض على هذا الدليل:
أن هذه الآية نزلت في حالة خاصة، فلا تصلح للاستدلال بها
على إثبات قاعدة عامة وهي: " حجية خبر الواحد "، حيث إنها
نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حينما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - جابياً للزكاة، فعاد وأخبر أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله، فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم، فنزلت تلك الآية لتخبره أنه غير عدل.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذه الآية تصلح للاستدلال بها من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبل خبره لذلك هم بغزوهم لولا أن الوحي قد نبهه، فدل على أن خبر الواحد مقبول ويعمل به.
الوجه الثاني: أن الآية وإن كانت قد نزلت بسبب خاص فإنها
تصلح للاستدلال بها على إثبات ما نحن فيه؛ لأن اللفظ أعم من
سببه فلا يقتصر عليه؛ حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، كما سيأتي تفصيله في باب العموم.(2/693)
الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث آحاد الصحابة إلى البلاد النائية ليعلمهم الأحكام الشرعية: مثل ما بعث مصعب بن عمير إلى المدينة، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وعلياً ومعاذا إلى اليمن، وابن
حزم إلى نجران، وبعث سعاته لجباية الصدقات، وتعليم أرباب
الأموال ما يجب عليهم من الزكاة، فكان السامعين يقبلون ذلك بلا
تردد، فثبت أن خبرهم - وإن كانوا آحاداً - مقبول؛ إذ لو كان قول
الواحد غير مقبول لما بعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما قبل السامعون لهم الأحكام التي جاءوا بها من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد التأكد والتثبت.
الدليل الرابع: قياس الرواية على الفتوى، بيان ذلك:
أن المفتي إذا أفتى شخصاً بحكم شرعي، فإنه يجب على المستفتي
أن يصدق ذلك المفتي ويعمل بفتواه، مع أن ذلك المفتي ربما يخبر عن
ظنه، فإذا كان الأمر كذلك في الفتوى فإنه إذا أخبر هذا المفتي بخبر
سمعه، فكذلك يجب قبول خبزه وتصديقه، ولا فرق بينهما،
والجامع: أن كلًّا منهما يجوز عليه الغلط، أي: يجوز الغلط على
المفتي كما يجوز على الراوي، بل الغلط على المفتي أقرب منه على
الراوي " لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم،
وعرف كيفية الاستدلال به، وذلك دقيق، أما الرواية فلا تحتاج إلا
إلى السماع، فثبت أنه إذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد، فمن
باب أوْلى أن تكون الرواية مقبولة.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أن هذا الدليل مبني على القياس، والقياس لا
يفيد إلا الظن، والظن لا يثبت به أصل حجية خبر الواحد والعمل(2/694)
جوابه:
يجاب عنه بأن:
قياس الرواية على الفتوى قياس يفيد القطع؛ لأن الفرع - وهي
الرواية - أَوْلى بالحكم من الأصل - وهي الفتوى - أي: أنه إذا
كانت الفتوى مقبولة وهي من واحد، فمن باب أوْلى أن يقبل الخبر
إذا رواه واحد؛ لأن الغلط في الفتوى أقرب من الغلط في الرواية
كما قلنا سابقاً.
وإذا لم يسلم أنه قياس أولى، فإنه قياس مساوي، أي: أن الفرع
مساوي للأصل ولا فرق بينهما؛ حيث إنه لا فرق بين المفتي الذي
يخبر عن ظن نفسه، والراوي الذي يروي عن قول غيره.
فإذا كان القياس أولى، أو مساوياً، فإنه يكون قطعيا، وإذا كان
قطعياً فإنه تثبت به قاعدة أصولية كحجية خبر الواحد.
الاعتراض الثاني: أن قياسكم الرواية على الفتوى قياس فاسد؟
لأنه قياس مع الفارق؛ ووجه الفرق بين الرواية والفتوى هو: أن
العمل بالفتوى ضروري؛ لأن تكليف العامي الاجتهاد في كل حادثة
لا يمكن، فاضطر إلى تقليد المفتي، أما العمل بخبر الواحد فغير
ضروري؛ لأنا إن وجدنا في المسألة دليلاً قاطعاً عملنا به، وإن لم
نجد عملنا بالبراءة الأصلية.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسنا الرواية على الفتوى قياس صحيح؛ لأن
العمل بالفتوى غير ضروري مثل العمل بخبر الواحد ولا فرق؟
فالعامي - أيضاً - يرجع إلى البراءة الأصلية، ويستصحب حال الحكم
السابق الذي يعرفه إذا لم يجد مفتياً، أو وجد ولكن لم يثق به.(2/695)
الدليل الخامس: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:
إذا وجب العمل بشهادة الشاهدين العدلين، فيجب العمل بخبر
العدلين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعثد بخبر الواحد سمعا، أي:
لا يجوز العمل بخبر الواحد.
نسب ذلك إلى محمد بن داود الظاهري، ومحمد بن إسحاق
القاساني الظاهري، وبعض الرافضة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) .
وجه الدلالة: أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وقد نهانا الله
تعالى عن اتباع الظن؛ لأنه لا يغني عن الحق شيئاً.
جوابه:
يجاب عنه: بأن اللَّه قد ذم من اتبع مجرد ظنه من غير دليل،
ونحن لا نتبع خبر الواحد بالظن، بل بالدليل الموجب للعلم.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ،
وقوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) .
وجه الدلالة: أن العمل بخبر الواحد اقتضاء لما لا نعلم، وقول
بما لا نعلم؛ لأنه موقوف على الظن.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لم نتبع خبر الواحد ونعمل به إلا بعد أن ثبتت(2/696)
الأدلة الدالة على وجوب العمل به، وهي الأدلة الخمسة السابقة،
وكذلك لم نقل إلا ما علمناه.
الدليل الثالث: أن المخبر الواحد يجوز أن يكذب، أو يغلط،
فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز العمل بخبره.
جوابه:
يجاب عنه بأنه إذا كان ما ذكرتموه هو عِلَّة عدم العمل بخبر
الواحد، فإنه يلزم منه عدم قبول خبر الشاهدين في الحقوق، وعدم
قبول فتوى المفتي، وعدم قبول رسول المفتي، وعدم قبول قول
الطبيب في المرض، وعدم قبول الخبر عن الطريق؛ لأنه يجوز
عليهم الكذب والغلط، وهذا غير صحيح؛ لأنا عملنا بتلك الأخبار
ويجب العمل بها، فإذا عملنا بها مع جواز الكذب والغلط، فإنه
يجوز العمل بخبر الواحد ولا فرق.
الدليل الرابع: أن من ادَّعى أنه نبي، وخوَّفنا من مخالفته، لا
يلزمنا قبول قوله من غير حُجَّة، فكذلك من أخبرنا بأحكام الشرع
بخبر الواحد لا نقبله ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق من
وجهين:
الوجه الأول: أنه لم يدل دليل واحد على قبول مدعي النبوة،
بخلاف خبر الواحد فقد دلَّت أدلة كثيرة على قبول قوله والعمل به.
الوجه الثاني: أن النبوة من الرياسات العظيمة التي تحبها النفوس،
ويحمل عليها حب التعظيم، فلا يقبل قول المدعي لها بغير دليل،(2/697)
يؤيد ذلك أنا لا نقبل قول من ادَّعى مالاً لنفسه من غير دليل، وتقبل
شهادته لغيره، أما المخبر بخبر واحد فهو لا يضيف إلى نفسه شيئاً،
وإنما ينقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقبل.
الدليل الخامس: أنه لا طريق لقبول شيء والعمل به إلا طريق
الشرع، ونحن لما استقرأنا الشرع وتتبعناه لم نجد أي دليل منه يدل
على قبول خبر الواحد، ولو كان قبول خبر الواحد جائزاً لوجدنا
ذلك في الشرع كما وجدنا الدليل على قبول الشاهدين في الحقوق،
وهو قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ، ووجدنا
الدليل على قبول قول المفتي، وهو قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك، بل لما تتبعنا الشرع وجدنا
أدلة كثيرة دلَّت دلالة واضحة على قبول خبر الواحد، وهي الأدلة
الخمسة السابقة التي ذكرناها.
المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين هما:
المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك، بل يقبل الخبر وإن كان راويه
واحداً.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق: لما سبق من الأدلة على قبول خبر الواحد فقط؟
حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث آحاد الصحابة إلى القبائل والبلدان(2/698)
النائية للإخبار عن الأحكام الشرعية والناسخ والمنسوخ، وكان
الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وغيرهم يقبلون خبر الواحد منهم
ويعملون به، كما قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس،
وخبر عائشة في الغسل، وخبر رافع بن خديج في المخابرة.
المذهب الثاني. أنه يشترط لقبول الخبر أن يرويه عدلان عن النبي
- صلى الله عليه وسلم -، ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان عدلان، أما إذا رواه واحد لم يجز العمل به إلا بأحد شروط، منها: أن يعضده ظاهر، أو
عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشراً.
ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس الرواية على الشهادة، بيانه:
أن الشهادة لا يقبل فيها إلا قول اثنين، فكذلك الرواية ينبغي أن لا
يقبل فيها إلا رواية اثنين ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما إخبار
عن الغير، فالشهادة هي شهادة على الغير، والرواية هي رواية عن
الغير، وهناك جامع آخر وهو: أن كلًّا منهما يعمل به، فإذا اتفقت
الرواية مع الشهادة في هذين الأمرين وهما: " الإخبار عن الغير "
و" جواز العمل بهما "، فلماذا يفرق بينهما في العدد، بحيث
يشترط العدد في الشهادة دون الرواية؟!
فثبت أن الرواية مثل الشهادة في اشتراط العدد ولا فرق.
جوابه.
يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ حيث إن الرواية تفارق الشهادة من وجوه:(2/699)
أولها: أن الشهادة إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص
بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام، أما الرواية فهو إخبار عن أمر
عام لا يختص بشخص معين من الأُمَّة، فلا ترافع فيه عند الحكام.
ثانيها: أن الشهادة لا تقبل من النساء إلا إذا كان معهن رجل إلا
ما خصصه الشارع، أما الرواية فإنها تقبل من النساء فقبلت من
عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وغيرهن.
ثالثها: أنه لا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على شهادة الأصل،
أما الرواية فبخلاف ذلك: فقد كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض
مع القدرة على مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان يلزمهم قبول أقوال وروايات آحاد رسله وسعاته من غير مراجعة.
الدليل الثاني: أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين في الصلاة حتى قال لأبي بكر وعمر: " أحق ما يقول ذو اليدين؛ " فقالا:
نعم، وهذا واضح.
جوابه:
يجاب عنه: أنه لم يقبل قول واحد في السهو؛ لأن هذا القول
مساو لظنه، فليس أحدهما بأوْلى من الآخر، فأراد أن توجد قرينة
ترجِّح قول ذلك الواحد، فلما شهد معه أبو بكر وعمر قبل قول
الواحد؛ لأنه صار أقوى من ظنه.
الدليل الثالث: أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - لم يقبل قول المغيرة
ابن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة، وأن
عمر - رضي اللَّه عنه - لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى
شهد معه أبو سعيد الخدري، فهذا يدل على أنه لا يقبل خبر الواحد
فقط وإن كان ثقة.(2/700)
جوابه:
يجاب عنه: بأننا نقبل خبر الواحد إذا غلب على ظننا أن الراوي
قد توفرتْ فيه شروط الرواية، أما إذا لم يغلب على ظننا ذلك فلا
يقبل، بل لا بد من التأكد والاستظهار، وهنا ربما أن أبا بكر وعمر
لم يغلب على ظنهما أن أبا موسى والمغيرة قد توفرت فيهما شروط
الراوي، فطلبا من يشهد معهما للتأكد وللاستظهار، ولهذا إذا لم
يتقوى في قلب الحاكم قول الشاهدين فإنه يجب عليه أن يلتمس
شاهداً ثالثاً.
***
المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الرواية في الزنا لا يشترط فيها أن يكون الرواة
أربعة، بل يكفي واحد كغير الرواية في الزنا ولا فرق.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو الحق؛ لعموم أدلة قبول خبر الواحد السابقة الذكر وهي:
إجماع الصحابة، وبعث - صلى الله عليه وسلم - آحاد الصحابة إلى البلدان النائية، وقياس الرواية على الفتوى وغيرها، حيث دلَّت على أن خبر الواحد
الثقة يقبل مطلقاً سواء في الزنا أو في غيره.
المذهب الثاني: أن الرواية في الزنا يشترط فيها كون الرواة أربعة،
أى: أنه لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة.
ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي.(2/701)
دليل هذا المذهب:
استدل على ذلك بقياس الرواية في الزنا على الشهادة فيه، بيانه:
أنه كما يشترط في الشهادة في الزنا أربعة شهود، فكذلك يشترط
في الرواية فيه أربعة رواة ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما ينبغي
الاحتراز والحذر منه، وأن الخطأ والغلط فيهما أعظم من غيرهما.
جوابه:
يجاب عنه بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد، لأنه قياس
مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية من وجوه ذكرنا ثلاثة
منها في المسألة السابقة، ونزيد هنا أمراً رابعاً وهو: أن الشهادة ينبغي
أن يحتاط فيها، لذلك اشترط العلماء فيها العدد بخلاف الرواية.
المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت
عدالته:
ويتبين ذلك فيما يلي:
أولاً: حقيقة الصحابي:
أقرب تعريفات الصحابي إلى الصحة هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به، واختص به اختصاص المصحوب، متبعاً إياه مدة يثبت
معها إطلاق صاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة، سواء
روى عنه أو لم يرو عنه.
وهذا هو تعريف جمهور الأصوليين وأكثر العلماء، وقد صوَّبته،
لأنَّ شهود التنزيل، والاطلاع على أسباب ورود الأحكام، ومعرفة(2/702)
التأويل، ومقاصد الشريعة لا يمكن إلا باختصاص مصاحبة، وكثرة
مجالسة.
وهناك تعريفات أخرى للصحابي لعلي أشير إليها هنا فأقول:
قيل: إن الصحابي هو: من أدرك زمن - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به وإن لم يره.
وقيل: هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار وهو مسلم عاقل بالغ.
وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين.
وقيل: هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به، وصاحبه ولو ساعة سواء روى عنه، أو لم يرو عنه، وسواء اختص به اختصاص
المصحوب أو لم يختص به.
وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وطالت صحبته، ولازمه، وأخذ عنه العلم، وروى عنه.
وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة قدرها ستة أشهر فصاعداً.
وهذه التعريفات للصحابي قد ذكرتها، ناسباً كل تعريف إلى قائله
ذاكراً دليل كل قول، وقد اعترضت على تلك التعريفات وبيَّنت
أسباب اختياري للتعريف الأول الذي صحَّحته وذلك في كتابي
"مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية "
فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع متداول، ولا داعي لأن أكرر ما
ذكرناه هناك في هذا المقام.(2/703)
بيان ثمرة الخلاف في تعريف الصحابي:
إن الخلاف في تعريف الصحابي له ثمرة، حيث إنه من دخل
ضمن الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة - فإنه تثبت له
أمور وصفات هي كما يلي:
1 - ثبوت عدالته، فلا يحتاج إلى تزكية.
2 - تفسيق من سبه.
3 - قبول مراسيله.
4 - حجية قوله وفتواه وفعله عند كثير من العلماء.
5 - أنه إذا خالف الحديث النبوي الشريف، فإن مخالفته معتبرة،
ويسقط الاحتجاج بالحديث عند بعض العلماء.
وهذا الأمر الخامس هو الذي دعاني لتأليف كتابي السابق الذكر وهو:
" مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، دراسة نظرية تطبيقية".
أما من خرج من الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة -
فلا تكون تلك الصفات والميزات ثابتة له.
ثانيا: طرق معرفة الصحابي:
الطريق الأول: أن يخبر الشخص عن نفسه بأنه صحابي بأن
يقول: " أنا صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فإذا قال ذلك العدل الثقة المعاصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكون صحابيا؛ لأنه ثقة عدل مقبول في ذلك كروايته، ولم يرد عن واحد من الصحابة رد قوله.
الاعتراض على هذا:
قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن قوله:(2/704)
" أنا صحابي " يعتبر شهادة لنفسه، وشهادة الشخص لنفسه لا تقبل،
إذن لا يقبل قوله؛ لأنه متهم بتحصيل منصب الصحبة لنفسه.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن هذا الشخص الذي قال: " أنا صحابي "
موصوف بالعدالة والثقة، في حين أنه معاصر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك نرجح صدقه، وإذا ترجح صدق شخص، فيجب قبول قوله بأنه
صحابي كما وجب قبول روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما، وعلى هذا: تكون التهمة بعيدة.
الطريق الثاني: النقل المتواتر؛ حيث إن كثيراً من الصحابة قد
علمنا أنهم صحابة عن طريق التواتر كالخلفاء الأربعة، وزوجاته - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار، ويشمل المشهورين كرواة الأحاديث،
والقادة، والقضاة الذين لم يحصل الاختلاف فيهم.
الطريق الثالث: أن يخبر الواحد ممن ثبتت صحبته: أن فلاناً من
الصحابة، فإذا أخبر بذلك يكون ذلك الشخص المخبر عنه صحابيا؛ الصحابي عدل، فيقبل ما يأتي به كروايته.
اعتراض على هذا:
قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن
الشخص لا تثبت له الصحبة بقول الواحد؛ حيث يترتب على قوله
ثبوت كل ما يأتي به من أحاديث، وإنما يثبت بما يوجب العلم
ضرورة أو اكتساباً.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الصحابي قد ثبتت عدالته، ومن ثبتت عدالته(2/705)
فإن كل ما يأتي به فهو مقبول من أقوال، وأخبار، فكما يقبل كل
خبر يأتي به، فكذلك يقبل خبره عن غيره بأنه صحابي ولا فرق:
بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما.
الطريق الرابع: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " كنت أنا
وفلان من الصحابة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
الطريق الخامس: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " دخلنا
على النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
ثالثاً: ثبوت عدالة الصحابي:
الصحابة كلهم عدول، دلَّ على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: (لقد رضى اللَّه عن المؤمنين) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد صرَّح - هنا - بأنه قد رضي عن
الصحابة، ومن رضي اللَّه عنه فقد اتصف بالعدالة، حيث إنه لا
يرضى عن الفاسق.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم) .
وجه الدلالة كسابقه.
الدليل الثالث: ما رواه عمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".
وجه الدلالة: أنه وصف الصحابة بأنهم خير القرون، ولو لم
يكونوا عدولاً لما وصفهم بهذا الوصف - وهو الخيرية -؛ لأن
الفساق لا خير فيهم.
الدليل الرابع: ما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/706)
"لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد
أحدهم ولا نصيفه ".
وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن سب الصحابة وبين فضلهم، ولا يكون ذلك إلا لمن اتصف بالتقوى والمروءة، وهذه هي العدالة، فلو كانوا فساقاً أو واحداً منهم لما نهى عن سبهم جميعاً "
لأن الفساق لا خير فيهم.
اعتراض على ما سبق من الأدلة:
لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن تلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة
لم تصرح بعدالة الصحابة، وكل ما فيها بيان فضلهم - فقط -،
وبيان الفضل لا يدل على تعديلهم.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه إذا كان التعديل يحصل بقول واحد أو اثنين من
الناس مع عدم عصمتهما، وعدم علمهما إلا ببعض الظواهر،
فكيف بتعديل علام الغيوب، وتعديل رسوله الكريم الذي لا ينطق
عن الهوى؟! لا شك أن تعديل علام الغيوب الذي لا يعزب عن
علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء مع استحالة الكذب عليه،
وتعديل رسوله المعصوم عن الخطأ والكذب: هو التعديل الحق الذي
يجب الأخذ به.
الدليل الخامس: أن عدالتهم ثبتت من العقل السليم، بيان ذلك:
أن تواتر واشتهار طاعتهم المطلقة لله ولرسوله، وبذل النفس
والنفيس، وقتالهم للآباء، والأبناء، والأقرباء، والأهل في سبيل
إعلاء كلمة اللَّه، واشتدادهم في أمور الدين بحيث لا تأخذهم في(2/707)
الله لومة لائم، كل ذلك يقطع بالحكم بصلاحهم وأنهم آمنوا
وصدقوا باطناً وظاهراً، وكل ذلك قد نفى فسقهم، ومن انتفى
فسقه، وظفر صلاحه فهو العدل.
والمراد بعدالة الصحابة هو: ليس ثبوت العصمة لهم، واستحالة
المعصية، وإنما المراد بعدالتهم هو: قبول رواياتهم من غير تكلف في
أن يبحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا من يثبت عليه
ارتكاب قادح، ولم يثبت والحمد لله، فنحن نستصحب ما كانوا
عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التقوى والمروءة حتى يثبت خلافه.
ثمرة ذكر عدالة الصحابة:
إنه يتخرج عليه أنه إذا قال العدل في الإسناد: " عن رجل من
أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ": كان حُجَّة، ولا تضر الجهالة به؛ نظراً لثبوت عدالتهم.
هذا هو الحق؛ لأن من توفرت فيه شروط الرواية التي ستأتي
وهي: - الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - إذا روى
خبراً فإنه يغلب عندنا ظن صدقه، فيكون خبره حُجَّة.
وذهب بعض العلماء - كأبي زيد الدبوسي - إلى أن العدل إذا
قال: " عن رجل من الصحابة " لا يكون حُجَّة إلا بأحد الشروط
التالية:
إما أن يعمل السلف بهذا الخبر الذي يرويه.
أو ينتشر الخبر بين السلف، ويسكتوا عن ردة.
فإن لم ينتشر فإن وافق القياس: عمل به، وإلا: فلا.(2/708)
جوابه:
يجاب عن ذلك بأنا لو قلنا بأنه لا يقبل خبره إلا بأحد تلك
الشروط، فلا داعي لاشتراط العدالة في الراوي؛ ولكن إذا توفر
في الراوي هذا الشرط - وهو العدالة - قد كفانا عن البحث عما
يقوي الحديث.
***
المسألة الثامنة: في شروط الراوي غير الصحابي:
الراوي الصحابي يقبل خبره؛ لثبوت عدالته كما سبق بيان ذلك،
أما الراوي غير الصحابي فلا يقبل خبره إلا إذا توفر فيه شروط هي
كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما.
فلا تقبل رواية الكافر في أمور الإسلام؛ لأن الكافر متهم بالدين
غير مؤتمن على أي خبر يخص الشريعة الإسلامية، فخصومته
للمسلمين وعداوته لهم في الدين يحمله على الكيد لهم والحرص
على التدليس والتلبيس عليهم في دينهم؛ لأنه إنما أبغضهم من أجله،
فهو لا يتحرج من الكذب على الرسول وتحريف دينه؛ ليبين للغير أن
هذا الدين الإسلامي أضعف وأقل شأنا مما هو عليه، لذلك ليس من
اللائق لمن عنده ولو ذرة من الحكمة والسياسة أن يقبل أيَّ شيء من
الكافر مما يخص الأحكام الشرعية.
الشرط الثاني: أن يكون الراوي بالغا.
وهو من احتلم، أو أنبت من قبل، أو بلغ خمسة عشر سنة، أو
جاء المرأة الحيض.(2/709)
أما الصبي - مطلقاً - المميز أو غير المميز - فلا تقبل روايته؟
لأدلة ثلاثة هي كما يلي:
الأول: أن الصبي لا يعرف اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فلا
يخاف عقاب من لا يعرفه، ولا يرجو ثواب من يجهله، فيكون
الصبي لا رغبة له في الصدق، ولا يوجد شيء يجعله يتجنب
الكذب، فينتج عدم الثقة بخبره، فلا يقبل.
الثاني: أن الصبي إذا أقر بشيء على نفسه فإنه لا يقبل، فإذا كان
لا يقبل منه هذا مع أنه خاص بنفسه، فإنه من باب أوْلى أن لا يقبل
خبره عن غيره.
اعتراض على هذا:
لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن هذا الدليل مبني على القياس،
وهو غير صحيح، وذلك لأن الأصل المقاس عليه لا نسلِّمه؛ حيث
إن الصبي يقبل إذا أخبر عن نفسه، فإنه إذا أخبر أنه متطهر: قبل
خبره، ويصح الاقتداء به في الصلاة.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يلزم من قبول قوله في التطهر: قبول روايته،
وذلك لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في
الصلاة، ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته، ولا تقبل
روايته وإن ظن صدقه.
الثالث: قياس الصبي على الفاسق، بيانه:
إذا كان الفاسق لأ تقبل روايته مع أنه يخاف اللَّه أحياناً، فمن باب
أَوْلى أن لا تقبل رواية الصبي؛ لأنه لا يخاف اللَّه تعالى في جميع
الأوقات؛ حيث لا يعرف اللَّه حتى يخافه.(2/710)
الشرط التالث: أن يكون الراوي عاقلاً.
فلا تقبل رواية المجنون مطلقاً - أي سواء كان جنونه مطبقاً أو لا -.
واشترط كونه عاقلاً؛ لأمور ثلاثة هي:
الأول: ليعلم بهذا العقل ما ينقل كيف هو.
الثاني: ليميز بهذا العقل بين خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخبر غيره.
الثالث: ليعلم بهذا العقل قبح الكذب، وحسن الصدق.
الشرط الرابع: أن يكون الراوي عدلاً.
والعدالة هي: هيئة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة
التقوى والمروءة، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه، ويتحقق ذلك
باجتناب جميع الكبائر وهي: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق،
وقذف المحصن، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل
مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد بالبيت الحرام، والغيبة
والنميمة على الراجح، وشهادة الزور.
وباجتناب بعض الصغائر مما يدل فعله على نقص الدين وعدم
الترفع عن الكذب مثل: التطفيف بحبة، وسرقة لقمة، ونحو ذلك.
وباجتناب بعض المباحات التي يدل فعلها على نقص المروءة،
ودناءة الهمة مثل: الأكل في السوق، والإفراط في المزاح، والبول
في الشارع، وصحبة الأراذل، ونحو ذلك.
والضابط في ذلك: ظهور أمارة الصدق، وعدم ظهور أمارة
الكذب، وهذا يختلف باختلاف المجتهدين.
وعلى هذا لا تقبل رواية الفاسق، وقد أجمع العلماء على ذلك؟
لدليلين:(2/711)
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد نهانا عن قبول ص الفاسق
والعمل به إلا بعد التثنت والتأكد من صحته، فلو كان خبر الفاسق
مقبولاً لما أمرنا بالتثبت عن خبره.
الدليل الثاني: أن الشخص إذا ثبت أنه فاسق، فإنه لا يتقي الله
ولا يخافه ولا يخشى عقابه، ولا يرجو ثوابه، - فهو - بهذا - لا
نستبعد عنه الكذب، فلا نثق بقوله وخبره، والخبر الذي لا نثق به لا
يقبل.
ولا بد من الكشف عن سبب التفسيق ليظهر إن كان يصلح سببا
لذلك أو لا، كما سيأتي بيان ذلك في الجرح والتعديل إن شاء اللَّه.
الشرط الخامس: أن يكون الراوي ضابطاً.
أي: أن يكون الراوي يحفظ الخبر بإتقان دون تغيير أو تبديل.
واشترط كونه ضابطاً لأنه إذا لم يضبط فإنه ينتج ما يلي:
الأول: أنه يغير لفظ الخبر ومعناه، فيتغير بسبب ذلك الحكم
الشرعي.
الثاني: أنه يسقط من الخبر ما يحتاج إليه للاستدلال به على حكم
من الأحكام.
الثالث: أنه يضيف إلى الخبر ما يفسد الاستدلال به.
فإذا كان كذلك فلا تحصل الثقة بقوله ولا بخبره، وإن توفرت فيه
الشروط السابقة وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة.
ولا يشترط - هنا - القطع بضبطه وإتقانه لما حفظه، بل المشترط:(2/712)
أن يكون ضبطه لما سمعه أرجح من عدم ضبطه، وذكره له أرجح من
سهوه وغفلته مما يحصل غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.
أما إذا تساوى ضبطه مع عدمه، أو كان محدم ضبطه أرجح فلا
تكون روايته مقبولة، لعدم حصول الظن بصدقه.
أما إن جهل حاله في ذلك: فلا بد من اختباره وامتحانه.
المسألة التاسعة: شروط ظَنَّ بعضهم أنها تشترط في الراوي
وهي ليست كذلك:
لما ذكرنا الشروط المعتبرة في الراوي وهي: الإسلام، والتكليف،
والعدالة، والضبط: كان لا بد أن أذكر أن بعض العلماء ذكروا أشياء
ظنوا أنها تشترط وهي ليست كذلك، وفيما يلي بيانها:
أولاً: اشترط بعض أهل الحديث كون الراوي معروف ومشهور
النسب.
وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط
الأربعة السابقة، سواء عرفنا نسبه أو لم نعرف ذلك.
دليل ذلك: أن العدالة هي السبب لعدم الكذب، وهي السبب
لغلبة الظن بالصدق، فإذا توفرت العدالة في الراوي مع الإسلام
والضبط والتكليف: غلب على ظننا أنه صادق، وبناء عليه تقبل
روايته، سواء علمنا نسبه أو لا، فليست معرفة النسب تفيد شيئاً،
فلذلك لا ينظر إلى وجودها ولا إلى عدمها.
ثانياً: اشترط بعض العلماء: كون الراوي فقيهاً مطلقاً.
وقال آخرون: يشترط فقه الراوي إذا خالف خبره القياس.(2/713)
وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر المسلم المكلف الضابط
العدل، سواء كان فقيهاً أو لا؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أوجب أن نتبين في حالة الفسق،
وبناء عليه: لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان فقيهاً أو غير
فقيه.
الدليل الثاني: ما رواه زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه
غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ".
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمع الحديث، وأداه كما سمعه دون تعديل ولا تبديل، سواء كان فقيهاً أو غير فقيه.
الدليل الثالث: أن الاعتماد على خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخبرنا العدل بذلك، فإن الظاهر منه أنه لا يروي إلا ما ثبت عنده على
الوجه الذي سمعه، وخبر العدل يفيد الصدقَ، فوجب العمل به؛ العمل بالظن ؤاجب، وهذا مطلقاً سواء كان هذا الراوي العدل
فقيهاً أو لا.
ثالثاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة مجالسته للعلماء.
وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله
عنهم - قد قبلوا رواية بعض الأعراب، والأعرابي - بحكم كثرة
تنقله وترحاله - لا يجالس العلماء، فلم يفرقوا بين الراوي المكثر
لمجالسة العلماء وبين غيره إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة
الذكر.(2/714)
رابعاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة روايته للأحاديث.
وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله
عنهم - قد قبلوا خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثاً واحداً
- فقط - فلم يفرقوا بين من يروي حديثاً واحداً، وبين من يروي
الأحاديث الكثيرة إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة الذكر.
خامساً: اشترط بعضهم في الراوي: أن يكون الراوي مشاهداً
حال السماع منه.
وهذا الشرط ليس بصحيح؛ فتقبل الرواية بشرط أن تتوفر شروط
الراوي السابقة - وهي: الإسلام، والتكليف، والعدالة،
والضبط - وله آلة الأداء، وهذا مطلقاً أي: سواء رأى المخبر أو لم
يره بشرط معرفته لصوته.
دليل ذلك: إجماع الصحابة على قبول رواية عائشة - رضي الله
عنها - فقد كانوا يسمعون حديثها وخبرها من ستر؛ اعتماداً على
صوتها، بدون رؤية شخصها، فهم في تلك الحالة كالعميان بالنسبة
لعائشة.
سادساً: اشترط بعضهم: كون الراوي عالماً باللغة العربية.
وهذا الشرط ليس بصحيح، فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط
السابقة مطلقاً، سواء كان عارفاً باللغة العربية أو لا.
دليل ذلك أن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه للحديث،
ولهذا يمكنه حفظ القرآن الكريم وإن لم يعرف معناه.
سابعاً: اشترط بعضهم: أن يكون الراوي ذكراً.
وهذا الشرط ليس بصحيح، فتقبل رواية كل من توفرت فيه(2/715)
الشروط السابقة - الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط -
سواء كان ذكراً، أو أنثى، أو خنثى بدون فرق.
دل على ذلك الأدلة التالية:
الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
قد قبلوا أخبار وأقوال عائشة، وحفصة، وأم سلمة - رضي الله
عنهن أجمعين - ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو وقع الإنكار لبلغنا،
ولم يبلغنا شيء من ذلك، فصار إجماعاً منهم على قبول روياتهن.
الدليل الثاني: أن النساء في الشهادة فوق الأعمى، وقد قبلت
رواية الأعمى، فالمرأة أَوْلى.
الدليل الثالث: أنه لو كان نقص الأنوثة مانعاً للمرأة من قبول
روايتها لم يقبل قولها في الفتوى، ولكن قولها يقبل في الفتوى،
فيقبل خبرها في الرواية قياساً عليه.
ثامناً: اشتراط بعض العلماء عدم القرابة، وعدم العداوة، قياساً
على الشهادة.
وهذا الشرط ليس بصحيح، بل تجوز رواية الولد بما يعود منفعته
إلى والده، ويجوز العكس، ويجوز أن يروي خبراً يضر بعدوه،
وينفعه مطلقاً.
أي: لا يشترط في الرواية عدم القرابة بين الراوي وبين من ينفعه
مضمون الحديث الذي رواه، ولا تشترط في الرواية عدم العداوة بين
الراوي وبين من يضره مضمون الحديث الذي رواه، بل تقبل رواية
كل واحد إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة.
دليل ذلك: أن الرواية تختلف عن الشهادة، ووجه الاختلاف:
أن حكم الرواية عام، وأن الشهادة خاصة، بيان ذلك:(2/716)
أن الحديث عام في حق الكل يلزم الراوي، والمروي له،
وغيرهما، فلا يختص بواحد معين، فالتهمة معدومة حتى تكون
العداوة، أو القرابة، أو الصداقة مؤثرة فيه بنفي أو إثبات، بخلاف
الشهادة، فإنها مختصة بالمشهود له أو عليه نفعا أو ضراً.
***
المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المتأوِّل:
الكافر الخارج عن الإسلام كاليهودي، والنصراني، لا تقبل
روايته، وقد سبق بيان ذلك:
أما الكافر المتأوِّل، وهو المسلم الذي فعل بدعة كفَّره بها أهل
السُّنَّة والجماعة، وهو يعلم بهذا التكفير أو لا يعلم، فهل هذا تقبل
روايته إذا توفرت فيه شروط الراوي؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو لبدعته، فلا يقبل خبره،
وبين من لم يدع إلى بدعته فيقبل.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وكثير من العلماء.
وهو الحق عندي، فلا يقبل خبر من يدعو إلى بدعته؛ لأنه لا
يؤمن أن يضع حديثا يوافق تلك البدعة ويقويها، فأثر ذلك في صدقه.
ويقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي كفر بسببها -؛ لأن
الراوي الذي توفرت فيه شروط الرواية الذي أخطأ بتأويل: قد أمن
جانبه، وهذا يقوي الظن لصدقه، وإذا ثبت ذلك، فإن خبره
مقبول.(2/717)
المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الكافر المتأوِّل مطلقاً أي: سواء
كان داعية أو لا.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن علماء الأُمَّة قد أجمعت
على ردِّ خبر الكافر، ولا فرق بين كافر وكافر، فإن الكافر الذي لم
يؤمن بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كاليهودي والنصراني أيضاً متأوِّل، فهو لا يعلم أنه كافر، بل يزعم أنه هو الذي على حق وغيره على باطل،
وأما الذي ليس بمتأول وهو: المعاند بلسانه بعد معرفته للحق بقلبه،
فذلك مما يندر وجوده.
وتورع الكافر المتأول عن الكذب كتورع النصراني واليهودي بلا
فرق، فلا يقبل أي خبر يأتي به أي واحد منهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأن العلماء قد أجمعوا على ردِّ خبر من كفر لا
بتأويل، بل ابتغى غير الإسلام ديناً، أما المتمسك بالإسلام، ولكن
فعل بدعة كُفِّر من أجلها - فقط - وثبت أنه لا يدعو إلى بدعته ولا
ينشرها، وتوفرت فيه شروط الراوي السابقة، فإن هذا معظم للدين
الإسلامي، ممتنع عن المعصية، فهذا يؤمن جانبه، وإذا أمن جانبه
ترجح صدقه، وإذا ترجح صدقه قبل خبره فيما لا. يخص بدعته.
فبان أن هذا يفارق الكافر بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كاليهودي والنصراني؛ حيث إن هذا يحتقر الدين الإسلامي ويعتقد بطلانه، فالحكمة
والسياسة تمنع قبول أي شيء منه، كما بيَّنا فيما سبق.(2/718)
المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المتأوِّل:
لقد سبق بيان أن الفاسق بعمل الجوارح لا تقبل روايته،
أما الفاسق المتأول، وهو الذي فعل بدعة فسِّق بسببها، وقد يعلم بذلك
التفسيق، وقد لا يعلم، فهل هذا تقبل روايته إذا توفرت فيه شروط
الراوي؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو إلى بدعته فلا يقبل، وبين
من لا يدعو إلى بدعته فيقبل.
ذهب إلى ذلك أكثر العلماء.
وهو الحق، فلا يُقبل خبر من يدعو إلى بدعته، لأنه لا يؤمن أن
يضع خبراً يوافق تلك البدعة، فأثرت تلك الريبة في صدقه،
فترجح عدم صدقه، فلا يقبل ما يأتي به من الأخبار.
ويُقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي فسِّق بسببها -؛ لأمرين:
أولهما: أن الراوي الذي توفرت فيه شروط الراوي الذي أخطأ
بتأويل، إذا كان لا يجوِّز الكذب، وهو يعتقد أنه على حق قد أمن
جانبه، وهذا يقوي الظن بصدقه فيقبل خبره.
ثانيهما: أن السلف من الصحابة والتابعين وقع بينهم اختلاف في
كثير من المسائل، وكل واحد يعتقد أنه على حق وغيره على خطأ،
ومع ذلك قبل بعضهم أخبار بعض.
المذهب الثاني: أن الفاسق المتأول لا يقبل خبره مطلقاً.(2/719)
ذهب إلى ذلك الإمام مالك، والباقلاني، والآمدي، وكثير من
المعتزلة.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الفاسق المتأول على الفاسق
غير المتأول، وهو الفاسق بأفعال الجوارح، بيانه:
أنه لا فرق بين فسق وفسق، فإن خبر من فسَق بأفعال الجوارح قد
رُدَّ لأجل الفسق، وقد وجد سبب الرد هذا في الفسق في الاعتقاد.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق،
ووجه الفرق: أنا لم نقبل خبر من فسق بأفعال الجوارح " لأن هذا
الفاسق يفعل المعصية، وهو يعلم أنه فسق بسببها، ومن يفعل ذلك،
فإنه يوصف بالاستهتار وعدم المبالاة في الدين، وهذا لا يؤمن أن
يقدم على الكذب، فأثر ذلك في قوة الظن بصدقه.
أما الفاسق المتأول، فإنه أوَّل ما هو عليه من بدعة وهو يظن أنه
على حق، في حين أنه لا يجوِّز الكذب، فلهذا قوي الظن بصدقه،
فقبل خبره.
المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأدَّاه بعد البلوغ
فهل يقبل؟
لقد سبق بيان أن الصبي إذا سمع الخبر قبل البلوغ، وأدى ما
سمعه قبل البلوغ - أيضاً - فإنه لا يقبل خبره مطلقاً.(2/720)
أما إذا سمع الخبر وهو صبي وتحمَّله قبل البلوغ، وكان مميزاً
ضابطاً لذلك الخبر، لكنه لم يؤده ولم يخبر به إلا بعد البلوغ
وظهور رشده في دينه، فإن خبره مقبول؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: إجماع الصحابة والسلف على قبول أخبار وروايات
أصاغر الصحابة - وهم الذين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لم يبلغوا - كابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن جعفر، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين،
وغيرهم من أحداث الصحابة - رضي اللَّه عنهم أجمعين - فقُبل منهم
كل خبر يروونه من غير تفريق بين ما تحملوه في حالة الصبا، وما
تحملوه بعد البلوغ.
الدليل الثاني: أن السلف والخلف قد درجوا على إحضار الصبيان
مجالس سماع الأحاديمث والأخبار، ولو كان خبر الصبي غير مقبول
إذا أداه وهو بالغ لما كان لإحضاره في هذه المجالس وهو صبي فائدة،
فثبت أن فائدة إحضارهم لصبيانهم - تلك المجالس هي: قبول تلك
الأخبار اِذا أدوها بعد البلوغ.
الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:
أنه مع أن العلماء يحترزون في الشهادة أكثر من الرواية، فقد
أجمعوا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به
بعد البلوغ، فإنه مقبول، فالرواية أَوْلى بالقبول، أي: إذا جاز أن
يتحمل الشهادة صبياً، ويشهد بها بعد البلوغ، فمن باب أَوْلى جواز
تحمل الرواية في حالة الصبا وأداءها بعد البلوغ؛ لأن الشهادة يحترز
منها أكثر من غيرها.(2/721)
المسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة:
إذا روى لنا شخص حديثاً وهو مجهول الحال عندنا في الشروط
الثلاثة وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، أي: لا نعرف أنه
مسلم أو كافر، ولا نعلم عنه أنه مكلف أو غير مكلف، ولا نعلم
عنه أنه يضبط أو لا، فإن هذا لا نقبل حديثه ولا نعمل به.
أما إذا كنا نعلم أنه مسلم، ومكلَّف، وضابط، ولكننا لا نعلم
هل هو عدل أو فاسق؛ فقد اختلف العلماء في قبول خبره على
مذهبين:
المذهب الأول: أن خبر مجهول الحال في العدالة غير مقبول.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قياس مجهول الحال في العدالة على مجهول الحال
في الإسلام والتكليف والضبط، بيان ذلك:
أننا إذا شككنا في الشخص هل هو مسلم أو لا، أو هل هو
مكلف أو لا، أو هل هو ضابط أو لا، فإن خبره لا يقبل بالاتفاق،
فكذلك إذا شككنا في الشخص هل هو عدل أو فاسق لا تقبل
روايته وخبره، ولا فرق، والجامع: أنه لم يثبت شرط قبول
الرواية، وإذا تخلف الشرط، فلا بد أن يتخلف المشروط، وهو
القبول كالطهارة في الصلاة إذا لم توجد الطهارة فإن الصلاة لا
تصح، كذلك هنا.
الدليل الثاني: أن هناك ثلاثة أشخاص: " عدل "، و " فاسق "
و" مجهول الحال "، أما العدل فقد ثبت أنه مقبول الرواية،(2/722)
أما الفاسق فقد ثبت أنه غير مقبول الرواية، أما مجهول الحال - وهو
الذي لم نعرف عنه عدالة ولا فسقاً - فلم يثبت أنه عدل، ولم يثبت
أنه في معنى العدل حتى يقاس على العدل، فإذا كان مجهول الحال
ليس بعدل، ولا هو في معنى العدل، فقد انتفى فيه شرط من أهم
شروط الراوي، وهو: " العدالة "، وإذا انتفى الشرط فقد انتفى
المشروط - وهو قبول روايته - فثبت أنه غير مقبول الرواية.
الدليل الثالث: قياس مجهول العدالة في الرواية على مجهول
العدالة في الفتوى، بيان ذلك: أن المفتي إذا بلغ درجة الاجتهاد
وشُك في عدالته، أي: لا يعلم هل هو عدل أم فاسق؛ فإن هذا
الشك منع من قبول فتواه.
فكذلك الراوي الذي شك السامع في حاله، فلم تثبت عنده
عدالته ولا فسقه، يجب أن يكون هذا الشك مانعاً من قبول روايته
وخبره، والجامع: أن كلا منهما يحكي حكماً شرعياً يعمل به، إلا
أن المفتي يحكيه عن اجتهاد نفسه واستنتاجه من الأدلة المعتبرة،
والراوي يحكي ذلك الحكم عن غيره بصورة خبر.
الدليل الرابع: قياس مجهول العدالة في الرواية على مسألة
الشهادة على الشهادة، بيان ذلك:
أنه لا تقبل شهادة الفرع - وهو زيد مثلاً - إلا إذا عيَّن زيد شاهد
الأصل - وهو عمرو مثلاً - وعرَّفه إن كان الحاكم يجهل عمرو.
فهنا: يجب تعيين والتعريف بشاهد الأصل.
فلو كان قول مجهول الحال مقبولاً فلأي غرض وجب تعيين شاهد
الأصل والتعريف به؛(2/723)
ولا جواب عن ذلك إلا أن يقال: لم يجب تعيين شاهد الأضل
إلا للتأكد من عدالته، فإن كان عدلاً قبلت شهادته، وإن كان فاسقاَ
أو مجهولاَ رُدَّت شهادته، وبناء عليه لا تقبل شهادة الفرع.
فكذلك مجهول العدالة في الرواية لا يقبل خبره حتى نتأكد من
عدالته قياساً على مجهول الحال في مسألة الشهادة على الشهادة.
المذهب الثاني: أن خبر مجهول الحال في العدالة يقبل.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كابن فورك،
وسليم الرازي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى أن أعرابياَ
جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رأيت الهلال قال: " أتشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنَّ محمداً عبده ورسوله "؛ فقال: نعم، قال: " يا بلال،
أذن في الناس فليصوموا غداً ".
وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة هذا الأعرابي في رؤية
هلال شهر رمضان، وهو لا يعرف عنه إلا كونه مسلماً، ولم يعلم
منه عدالة ولا فسقاً، فإذا قبل شهادته فمن باب أَوْلى أن يقبل خبره؟
نظراً لأنه يحترز بالشهادة أكثر من الرواية.
جوابه:
يجاب عنه بأنكم لم تثبتوا دليلاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبل شهادة ذلك الأعرابي، وهو لا يعلم عن عدالته شيئاً، فقولكم هذا مجرد
دعوى لا دليل عليها.(2/724)
بل إن الظاهر أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل شهادته إلا لكونه عدلاً؟
لوجهين:
الوجه الأول: أن الصحابة كلهم عدول بتعديل اللَّه لهم، حيث
قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وبتعديل رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: " إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، ونحو ذلك من النصوص، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل.
فلذلك لا يشك بعدالة أي صحابي.
الوجه الثاني: أن زمن - صلى الله عليه وسلم - كانت الخيانات قليلة، والخبث والكذب نادراً، والقلوب صافية، فكان الظاهر من المسلمين
العدالة، فلذلك قبل شهادته، فأما في زماننا فقد كثرت فيه الخيانات
من المسلمين، فليس الظاهر من السلم كونه عدلاً.
وبذلك ثبت أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر مجهول الحال في العدالة، وإنما قبله؛ لأن ظاهره العدالة.
الدليل الثاني: اتفق الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على قبول
روايات وأخبار العبيد، والنساء، والأعراب؛ مع أنه لا يعرف عنهم
إلا الإسلام فقط، ولم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر قول أو خبر
أيّ واحد من هؤلاء، فصار إجماعا سكوتيا.
جوابه:
يجاب عنهم بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ هذا على إطلاقه، فإن الصحابة - رضي
الله عنهم - كانوا يقبلون رواية العبيد، والنساء، والأعراب الذين
كانوا يعرفونهم بالعدالة والضبط والثقة كزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزوجات أصحابه، وإمائهم، وعبيدهم، وبعض الأعراب.(2/725)
أما الذين لا يعرفون عنهم شيئاً، فقد ثبت أنهم لا يقبلون منهم
شيئاً من الأخبار، كما رد عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - خبر
فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة، وكما رد عليّ - رضي الله
عنه - خبر معقل بن سنان الأشجعي في المفوضة، وكان - أي:
عليّ بن أبي طالب - إذا روى له أحد خبراً يستحلفه إلا أبا بكر،
فإنه إذا حدَّثه لا يستحلفه لكونه عدلاً عنده.
الجواب الثاني: سلمنا أن الصحابة كانوا يقبلون روايات العبيد،
والنساء، والأعراب مطلقاً؛ وذلك لأن كل من عاش في عصر النبي
- صلى الله عليه وسلم - ورآه، وهو مؤمن به فهو صحابي، والصحابة كلهم عدول، فثبت أنه قبلت أخبارهم لكونهم عدولاً، لا لكونهم مجهولين.
الدليل الثالث: أن المسلم مجهول العدالة إذا أخبر بخبر يخص
أحكاماً شرعية معينة: فإنه يقبل خبره كأن يخبر بأن هذا الماء طاهر،
أو يخبر بأنه نجس، أو أخبر بأنه متطهر، أو أخبر بأن هذه الجارية
التي عرضها للبيع ملكه، وأنها خالية عن زوج، فإنه يقبل خبره في
تلك الحالات فيترتب على ذلك أحكام شرعية: فيجوز - بناء على
القبول - في الحالة الأولى: صحة الوضوء من الماء الذي أخبر بأنه
طاهر، ويجوز - في الحالة الثانية - اللجوء إلى التيمم وترك الماء
الذي أخبر بأنه نجس، ويجوز - في الحالة الثالثة - كونه إماماً لغيره
ويحل وطء الجارية التي أخبر أنها ملكه وأنها خالية عن زوج في
الحالة الرابعة.
فإذا قبلت منه هذه الأخبار السابقة في الأحكام الشرعية، فما
المانع من قبول قوله فيما يرويه عن غيره؛ إذ لا فرق بينهما،
والجامع: أن الكل يعمل به.(2/726)
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياس الرواية على ما ذكرتموه من الصور قياس
فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الرواية عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أعلى رتبة، وأشرف منصباً، وأعم خطراً من الأخبار فيما ذكرتموه من الصور، فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي
والمخبر فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما.
المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه:
لقد بيَّنا فيما سبق أن العدالة من أهم شروط الراوي، وبيَّنا حقيقة
العدالة، وفي هذه المسألة سنبين حقيقة التعديل والتجريح، والأمور
التي يحصل بها التعديل، وهل يشترط العدد فيه، وحكم تعديل
العبد والمرأة، وذكر سبب التعديل والجرح، ونحو ذلك مما يتعلق
بالتعديل والتجريح فأقول:
أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح:
التعديل هو: أن يوصف المسلم المكلَّف الضابط بملازمة التقوى
والمروءة، فينسب إليه فعل الخير والعفة، والتدين بفعل الواجبات،
وترك المحرمات، والشبهات، وكل شيء يجعلنا نحكم بأن هذا
الشخص يتحرى الصدق، ويتجنب الكذب مما يؤدي بنا إلى قبول
قوله شرعاً.
أما التجريح فهو ضد التعديل، أي: أن ينسب إلى ذلك
الشخص ما يرد لأجله قول من فعل معصية، أو ارتكاب ذنب،
ونحو ذلك مما يخل بالعدالة مما يجعلنا نظن ظناً غالبا بأن هذا
الشخص لا يتحرى الصدق.(2/727)
ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي هي كما يلي:
الأمر الأول: التعديل بالحكم بشهادته إذا علمنا أنه حكم بتلك
الشهادة.
فإذا حكم الحاكم العدل بشهادة الراوي فإنه يدل على أن هذا
الراوي عدل عنده.
وهذا الأمر هو أقوى الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي، لذا
قدمناه على التزكية والتعديل بالقول؛ لأن الحكم بشهادته استلزم
القول وتضمنه، أما التعديل بالقول - وهو قوله: هو عدل رضي
كما سيأتي - فهو قول مجرد لم يتضمن الحكم بشهادته، فيكون
الحكم بشهادته قولاً وزيادة.
الأمر الثاني: التعديل بالقول، وهو على مراتب:
المرتبة الأولى: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع ذكر السبب.
المرتبة الثانية: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع عدم ذكر
السبب.
وهذه المرتبة - أعني الثانية - تتفاوت في القوة، فأعلاها قوة: أن
يكرر اللفظ فيقول: " هو عدل عدل "، أو " ثقة ثقة "، أو " ثقة
عدل "، أو " ثقة ثبت "، أو " ثقة حُجَّة "، أو " ثقة حافظ "،
أو " ثقة ضابط ".
وأدناها: أن يذكر اللفظ بدون تكرار فيقول: " هو عدل "، أو
"ثقة".
المرتبة الثالثة: أن يقول المعدِّل: " هو صدوق "، أو " مأمون "،
أو " خيار ".(2/728)
المرتبة الرابعة: أن يقول المعدِّل: " محله الصدق "، أو " رووا
عنه "، أو " صالح الحديث "، أو " حسن الحديث "، أو " أرجو
أن ليس به بأس "، ونحو ذلك.
الأمر الثالث: أن يعمل العدل الثقة بخبر ذلك الشخص، فهذا
يعتبر تعديلاً لذلك الشخص بشرط: أن نعلم يقيناً أن العدل لم يعمل
إلا بخبر ذلك الشخص.
أي: أن نعلم أنه لا مستند للعمل إلا ذلك الخبر الذي رواه ذلك
الشخص، فهذا يعتبر تعديلاً لذلك الشخص، لأن عمله بخبر ذلك
الشخص يدل على ثبوت عدالة ذلك الشخص، فلو لم يدل على
ثبوت عدالته عند العامل - وهو الثقة العدل - للزم من ذلك أن
يكون ذلك العامل قد عمل بذلك الخبر بدون ثبوت عدالة المروي عنه
عنده، ولو ثبت ذلك - وهو: أنه عمل بذلك الخبر بدون ثبوت
عدالة المروي عنه عنده - لثبت فسق ذلك العامل؛ لأنه عمل بخبر
من لم تثبت عدالته عنده، وفي ذلك تلبيس وتدليس على الأُمَّة "
حيث إن عمله بذلك الخبر يوهم بعدالة المروي عنه، والحقيقة ليست
كذلك.
أما إذا انتفى الشرط بأن لم نعلم يقيناً - أن ذلك العدل الثقة لا مستند
له في العمل إلا ذلك الخبر، فإن العمل بذلك الخبر لا يكون تعديلاً
للمروي عنه؛ لاحتمال أن يكون قد عمل به احتياطاً، أو أنه عمل
بدليل آخر وافق روايته، وإذا تطرق الاحتمال يبطل الجزم.
هذا هو الحق.
وبعض العلماء لا يرى ذلك الشرط، فقال: إن عمل العدل الثقة(2/729)
بخبر شخص يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لأنه لم يعمل
بذلك الخبر عند رواية الراوي له إلا لكون الراوي عنده عدلاً.
وبعض العلماء ذهبوا إلى أن عمل العدل الثقة بخبر شخص لا
يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لوجود الاحتمال.
والحق هو ما قلناه؛ لما ذكرنا من التعليل، وفيه الجواب عما ذكره
الآخرون.
ثالثاً: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟
لقد اختلف العلماء على مذاهب:
المذهب الأول: أن رواية العدل عن غيره لا تعتبر تعديلاً لذلك
الغير مطلقاً.
ذهب إلى ذلك الماوردي، والروياني، وأبو الحسين القطان،
وصحَّحه ابن الصلاح، والقاضي أبو بكر، وابن حزم، والخطيب
البغدادي، وهو مذهب أكثر أهل الحديث وأكثر الشافعية والمالكية،
وهو رواية عن الإمام أحمد.
وهو الصحيح عندي؛ لأمرين:
أولهما: أن بعض الأئمة قد رووا عن العدل وغير العدل، وإذا
كان الأمر كذلك فقد وجد الاحتمال - وهو احتمال أن يكون عدلاً أو
غير عدل - وليس أحدهما أَوْلى من الآخر، فيجب التوقف فيه حتى
يأتي دليل وقرينة تبين عدالة المروي عنه.
ثانيهما: أنه قد يكون هذا الشخص عدلاً عند الراوي، وليس
عدلاً عند غيره، فيجب التأكد.
المذهب الثاني: أن رواية العدل عن غيره تعديل لذلك الغير مطلقاً.(2/730)
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، واختاره أبو يعلى في
" العدة "، وتلميذه أبو الخطاب في " التمهيد "، وهو مذهب بعض
الشافعية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العدل يتحرج أن يُحدِّث
عمن يعلم كذبه أو فسقه؛ لأن ذلك يفضي إلى الكذب على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلما حدَّث عنه وروى عنه ظهر لنا أنه قد عرف عدالته.
جوابه.
يجاب عنه: بأن هذا المحدث عنه يجوز أن يكون عدلاً وعند غيره
ليس بعدل، أو مجهول الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول
الحال.
المذهب الثالث: التفصيل: بيانه:
إن عرفناً أدن من عادة هذا الراوي العدل الثقة أنه لا يروي إلا عن
عدل: إما بصريح قوله بأنه لا يروي إلا عن عدل، وإما لمعرفتنا من
مذهبه أنه لا يجوز الرواية إلا عن العدل: فإن روايته عن ذلك
الشخص تعتبر تعديلاً لذلك الشخص.
أما إذا عرفنا أن من عادة هذا العدل الثقة أنه يروي عن العدل،
وعن غير العدل، فلا تعتبر روايته تعديلاً للشخص المروي عنه.
ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية كالغزالي، والرازي،
والآمدي، والهندي، وبعض المالكية كابن الحاجب، والمازري،
وبعض الحنفية كابن الهمام، وابن عبد الشكور، وبعض الحنابلة
كابن قدامة.(2/731)
جوابه:
يجاب عن هذا بأن يقال: يجوز أن يكون هذا الشخص المروي
عنه عدلاً عند هذا الراوي، وليس عدلاً عند غيره، أو هو مجهول
الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول الحال.
رابعاً: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟
إذا اشتهر شخص بين طائفة من الناس بالعدالة والثقة، وشاع
الثناء عليه بينهم فهل يعتبر ذلك تعديلاً له؟
الحق عندي: أن الاستفاضة لا تكون من الأمور التي يحصل بها
التعديل؛ لأن الشخص قد شاع عنه أنه عدل وثقة، وما أشاع ذلك
إلا أنصاره وأتباعه، ومن لهم فيه مصلحة، فإذا تحققنا من الأمر
ودققنا فيه بأن خلاف ذلك، لذلك يقتصر في التعديل على الأمور
الثلاثة التي يحصل التعديل بها وقد سبقت؛ لما فيها من الاحتياط.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الاستفاضة تعتبر في التعديل.
نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وقال ابن الصلاح:
هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.
دليل هذا: أن العلم بذلك من الاستفاضة أقوى من تعديل واحد
واثنين يجوز عليهما الكذب.
جوابه:
يجاب عنه: بأن تعديل الشخص الواحد الموصوف بالعدالة والثقة
أقوى من تعديل طائفة كثيرة لم يوصفوا بالعدالة، أو قد يكونوا
مجهولين الحال.(2/732)
خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟
لقد قلنا: إن الحاكم العدل إذا حكم بشهادة الراوي، فإنه يدل
على أن الراوي عدل عنده، لكن إذا لم يحكم الحاكم بشهادة
الراوي - ولم يعمل بها، فهل هذا يعتبر جرحاً للراوي فلا تقبل
روايته؟
الحق: أن هذا لا يعتبر جرحاً في الراوي، فلا يلزم من عدم
قبول شهادته عدم قبول روايته؛ لأن الحاكم قد يتوقف في الحكم
بشهادة الراوي لأسباب غير الجرح، وذلك لأن الشهادة والرواية
تشتركان في شروط الراوي الأربعة السابقة الذكر - وهي: الإسلام،
والتكليف، والعدالة، والضبط -.
وانفردت الشهادة في أمور - غير معتبرة في الرواية - منها: عدم
القرابة، والحرية، والذكورية، والبصر، والعدد، والعداوة،
والصداقة، فهذه تؤثر في الشهادة، ولا تؤثر في الرواية، لذلك
تقبل رواية القريب بما ينفع قريبه، وتقبل رواية العبد والمرأة إلى غير
ذلك - كما سبق بيانه -.
فهنا يحتمل أن الحاكم العدل ترك الحكم بشهادته لسبب غير الفسق
كعداوة، أو تهمة قرابة، أو صداقة، فيكون ترك شهادة الراوي
لواحدٍ من تلك الاحتمالات، لا لانتفاء العدالة، إذن: لا يحكم
عليه بالجرح والتفسيق مع وجود تلك الاحتمالات.
سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يشترط العدد في التعديل والتجريح، بل(2/733)
يكفي في مسائل الجرح والتعديل واحد ليس من عادته أن يتساهل في
التعديل أو يبالغ في الجرح، فلو عدَّل شخص عارف بأمور التعديل
راوياً من الرواة فإنا نسمع منه ذلك، ونقبل رواية الراوي المعدَّل،
وكذا لو جرح شخص عارف بأمور الجرح راوياً من الرواة، فإنا
نسمع منه ذلك ونرد رواية ذلك الراوي المجرح.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح عندي؛ لأن العدالة شرط من شروط قبول الرواية،
والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه، أي: أن شرط الشيء لا
يزيد على أصله، ومعروف أن الأصل - وهو الرواية - يكفي فيه
واحد، فتعديل الراوي وتجريحه تبع للرواية وفرع لها؛ لأنه إنما يراد
لأجلها، فإذا كانت الرواية يكفي فيها راو واحد، فكذا ما هو تبع
وفرع لها.
فلو قلنا: تقبل رواية الواحد، ولا يكفي في تعديله وتجريحه إلا
اثنان لزاد الفرع على أصله، وزيادة الفرع على الأصل مخالف
لقواعد الشريعة.
ففي هذا: قياس التعديل والجرح على الرواية، وهو واضح.
المذهب الثاني: أن العدد مشترط في التعديل والتجريح.
ذهب إلى ذلك ابن حمدان من الحنابلة، وأكثر فقهاء المدينة كما
حكاه عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني.
دليل هذا المذهب:
لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقياس التعديل والتجريح على
الشهادة؛ وذلك لأنه يشترط في تعديل الشاهد أو جرحه اثنان،(2/734)
فكذلك الرواية يشترط في تعديل الراوي أو جرحه اثنان، فكان
العدد معتبراً فيهما معاً.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لافتراق
أصل الشهادة عن أصل الجرح والتعديل، بيان ذلك:
أنه لا يقبل في تعديل الشاهد، أو جرحه إلا اثنان، ولا يكتفى
بواحد، وذلك لأن الأصل - وهي الشهادة - يشترط فيه اثنان،
فالفرع مثل ذلك يشترط فيه اثنان.
أما الرواية فتختلف عن ذلك فيقبل في تعديل الراوي أو جرحه
واحد، وذلك لأن الأصل - وهي الرواية - لا يشترط العدد فيه
فيكفي فيه واحد، فالفرع - وهو جرح الراوي أو تعديله - مثل ذلك
لا يشترط.
أي: كما أن العدد لا يشترط في قبول الخبر، فلا يشترط في
جرح وتعديل راوي الخبر.
المذهب الثالث: الفرق بين تعديل الراوي فيقبل من واحد، وبين
تجريحه فلا يقبل إلا من اثنين.
نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، واختاره بعض الحنفية،
ومنهم الكمال بن الهمام.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا التفريق بينهما لا دليل عليه صحيح، وما لا
دليل عليه فلا يعوَّل عليه، ثم إنه لا فرق بينهما فيما يؤول إليه الأمر.(2/735)
سابعاً: حكم تعديل العبد للراوي:
الحق: أن تعديل العبد للراوي مقبول، وبناء على ذلك تقبل
رواية من عدَّله ذلك العبد؛ قياساً على روايته للخبر، بيانه:
أنه كما أن رواية العبد للخبر مقبولة، فكذلك تعديله لراوي الخبر
مقبول، ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق.
ثامناً: حكم تعديل المرأة للراوي:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن تعديل المرأة للراوي مقبول.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق، لدليلين:
الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة - رضي اللَّه عنها - عن حال عائشة أم المؤمنين - في قصة الإفك - حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: " هل علمت على عائشة شيئاً يريبك؛ أو رأيت شيئاً تكرهينه؟
" قالت: أحمي سمعي وبصري، عائشة أطيب من طيب الذهب.
وجه الدلالة: أنه لو لم يكن تعديل المرأة مقبولاً لما سأل الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بريرة عن عائشة، وهذه هي فائدة سؤاله، ولو لم نقل ذلك لكان سؤاله لا فائدة فيه ويكون لغواً، وهذا لا يمكن.
الدليل الثاني: القياس على روايتها للخبر، بيانه:
أنه كما أن رواية المرأة للخبر مقبولة، فكذلك تعديلها لراوي الخبر
مقبول، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه
الصدق.
المذهب الثاني: أن تعديل المرأة للراوي لا يقبل.(2/736)
حكي هذا المذهب عن كثير من فقهاء المدينة.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك:
أنه كما أن تعديل المرأة وتزكيتها للشاهد لا يقبل، فكذلك تعديلها
للراوي لا يقبل ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه:
أنه لا يقبل تعديل المرأة للشاهد، وذلك لأن الأصل - وهي
الشهادة - لا تقبل فيها المرأة، فالفرع - وهو تعديل الشاهد - مثله.
أما الرواية فبخلاف ذلك: فيقبل تعديل المرأة للراوي، وذلك لأن
الأصل - وهي الرواية - يقبل فيه رواية المرأة، والفرع - وهو تعديل
الراوي - مثله.
تاسعاً: الجارح والمعدِّل هل يلزمهما ذكر سبب التعديل والجرح؟
لقد اختلف العلماء في هذا على مذاهب:
المذهب الأول: يلزم الجارح والعدل ذكر سبب التعديل والجرح.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
وهذا هو الحق: فيجب بيان سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل
لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة؛ لأن العادة قد جرت بتسارع الناس
إلى ذلك بناء على الظاهر، وكم من شخص قد خدعنا بمظهره،
حيث يظهر الصلاح والتقى، فإذا دققنا في شأنه وحالته وجدناه على(2/737)
خلاف ظاهره، فمثلاً: بعض الناس تجده يحافظ على الصلوات
وعلى مظهره الإسلامي، ولكنه يتساهل في كسب ماله، فلا يأخذه
من طرقه التي أحلها اللَّه تعالى، وبعضهم يظهر الصلاح لطائفة من
العلماء " نظراً لطمعه في منصب أو جاه، بينما يحتقر آخرين،
كذلك تجد أناساً يتساهلون في تعديل شخص، بينما يتشدَّدون في
تعديل شخص آخر، وهكذا والأمثلة على ذلك كثيرة، فيجب أن
يبين المعدِّل سبب تعديله للشحخص، فإن كانت صحيحة ويعدل بها:
وافقناه، وإن كانت غير صحيحة: بيَّنا وجه الخطأ فيها " قياساً على
الاستدلال على المذاهب، فإن المجتهد تجده يأخذ بمذهب معين، ثم
يقيم أدلة على ذلك، وتجد المجتهد الآخر يخالفه ويبين أدلته على
ذلك، فلو ذكر كل واحد منهما مذهبه بدون ذكر أدلة لما قبل.
وقلنا: جب بيان سبب الجرح " لاختلاف الناس فيما يجرح به،
فلعل الجارح اعتقد شيئاً جارحاً، وغيره لا يراه جارحاً: فتجد
شحخصاً يرد الخبر بسبب تدليس الراوي، وتجد آخر يرد الخبر بسبب
فسق اعتقاد الراوي، وتجد ثالثاً يرد الخبر بسبب تعبير الراوي بالعنعنة
وتجد رابعاً يرد الخبر بسبب إسباله لثوبه وإزاره، وتجد خامساً يرد
الخبر بسبب كذب الراوي مرة واحدة في العمر، وكل ما سبق فيه
نظر هل يجرح به ويفسق أم لا؟
وقد ثبت عن بعض العلماء أنه ردَّ تجريح بعض العلماء الآخرين،
وإليك بعض الأمثلة.
1 - ذهب الخطيب في الكفاية: أن الإمام الشافعي إنما أوجب
الكشف عن ذلك " لأنه بلغه أن إنساناً جرح رجلاً فسئل عما جرحه
به، فقال: رأيته يبول قائماً، فقيل له: ما في ذلك ما يوجب(2/738)
جرحه؛ فقال: لأنه يقع الرشش عليه، وعلى ثوبه، ثم يصلي،
فقيل له: رأيته يصلي كذلك؛، فقال: لا، فهذا جرح بالتأويل،
والعالم لا يجرح أحداً بهذا.
2 - أنه قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟
قال: رأيته يركض على برذونه فتركته،
ومن العلوم: أن هذا ليس بجرح موجب لتركه.
3 - أن شعبة أتى النهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور من بيته
فتركه، فقال له تلميذه وهب بن جرير: فهلا سألت؛ عسى أن لا
يعلم هو.
قال السخاوي - في شرح الألفية -: قال شيخنا -
يقصد ابن حجر -: " وهذا اعتراض صحيح، فإن هذا لا يوجب
قدحاً في النهال ".
4 - أن الحكم بن عتبة سئل مرة: لِمَ لم ترو عن راذان؛ فقال:
كان كثير الكلام.
وهناك أمثلة كثيرة لكون بعض العلماء يجرحون بعض الأشخاص،
فإذا سئلوا عن السبب اتضح أن السبب الذي جرح به لا يصلح
لتجريح الراوي.
فبان: أن الحق أنه لا بد من ذكر سبب التعديل والجرح حتى يسبر
ويختبر، فإن كان صالحاً قبلناه، وإن كان غير ذلك رددناه.
المذهب الثاني: أنه لا يلزم الجارح والمعدل ذكر سبب الجرح
والتعديل، فيقبل قولهما بدون ذكر السبب.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم القاضي أبو بكر.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنا نكتفي ببصيرة المعدل(2/739)
والجارح، فهما عارفان بالأمور التي يُعدَّل بها، وبالأمور التي يجرح
جوابه:
يجاب عنه: بما قلناه فيما سبق من أن بعض المعدلين قد ينخدعون
في المظاهر، وقد يكون مظهر الشخص يختلف عن باطنه، وهذا قد
كثر في الأزمنة المتأخرة.
ولا يكتفي ببصيرة الجارح؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به، فقد
يعتقد الجارح شيئاً جارحاً، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وقد بيَّناه
فيما سبق.
المذهب الثالث: أنه لا يلزم الجارح ذكر سبب الجرح، فيقبل قوله
بدون ذكر السبب؛ لأن مطلق الجرح مبطل للثقة.
أما المعدل فيلزمه ذكر سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل لا تحصل
به الثقة، نظراً لتسارع الناس إلى الظاهر - كما سبق بيانه -.
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا فرق بين التعديل والجرح، بل إن ذكر سبب
الجرح أَولى؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به أكثر من اختلافهم فيما
يعدل به.
المذهب الرابع: - عكس الثالث - وهو: أنه لا يلزم المعدل ذكر
سبب التعديل، فيقبل قوله بدون ذكر السبب؛ لكثرة أسباب التعديل
فيشق ذكرها.
أما الجارح فيلزمه ذكر سبب الجرح لنرى فيه، وذلك لاختلاف
الناس في سبب الجرح - كما سبق -.(2/740)
جوابه:
يجاب عنه: بأنكم فرقتم بين متماثلين، ثم إنا لا نجد تلك الشقة
التي تكون في ذكر أسباب التعديل.
المذهب الخامس: أن ذكر السبب وعدم ذكره يختلف باختلاف
العدلين والمزكين والمجروحين، فإن كان عالما بأسباب الجرح والتعديل
اكتفينا بإطلاقه فيهما، وإن لم يكن عارفاً فلا بد من ذكر سبب
التعديل والجرح لنرى فيهما.
ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية.
جوابه:
يجاب عنه: بأن علمنا بأن هذا الشخص عالم بأسباب الجرح
والتعديل، أو غير عالم لا يمكن؛ لأن بعض الناس قد يذَعي
معرفته بذلك، فإذا دققنا فيه وجدناه غير عارف، أو أنه يجعل أسبابا
تعدل وتجرح ويدعي بأنها هي الأسباب الحقيقية، بينما الأمر غير
ذلك فلا ضابط لذلك.
لذلك اضطررنا إلى الأخذ بالمذهب الأول وهو: أن يبين العدل
والمجرح سبب الجرح والتعديل مطلقاً، سواء كان عارفا لأسباب
التعديل والجرح أو ليس كذلك؛ لأمرين:
أولهما: أن أسباب التعديل والجرح لا ضابط لها.
ثانيهما: الاحتياط للشريعة، والابتعاد عن ظلم الآخرين.
عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدَّل:
إذا ذكر اسم راوي الحديث، وهذا الاسم معدَّل، ولكنه اشتبه
باسم رجل آخر مجروح، فإن خبره لا يقبل؛ نظراً للاشتباه بالاسم(2/741)
الثاني؛ وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح، فلا تقبل
روايته، بل يتوقف حتى يعلم هل هو المجروح أو غيره، ويفعل
المدلسون ذلك أحياناً: يذكرودن الراوي الضعيف باسم يشاركه فيه راو
تقة.
حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه:
إذا كان للراوي اسمان، وهو بأحدهما أشهر: فإنه تجوز الرواية
عنه بواسطة الاسم المشهور؛ لأنه عُرِف به.
وإذا اختلف في اسم الراوي، وله كنية أو لقب يعرف به، فلا
يرد بذلك خبره ولا روايته، لأنه عرف بتلك الكنية واللقب، وخرج
عن الجهالة.
ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم:
هذا له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا جرح عمرو الراوي، وعدَّله زيد، ولم يذكر
كل واحد منهما سبب ذلك: فإنه يقدم قول الجارح، ويرد خبر ذلك
الراوي؛ لأن الجرح تضمن زيادة لم يعرفها المعدل، ولم ينف
المعدل هذا الجرح، لامتناع الشهادة على النفي، ولأن الجارح مصدق
للمعدل فيما يخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه - أي الجارح - يخبر
عن أمر باطن خفي عن المعدل.
وهذا على رأي من يجوز قبول قول الجارح والمعدل بدون ذكر
السبب.
وقد أجبنا عنه فيما سبق.
الحالة الثانية: إذا جرح عمرو الراوي، وعدله زيد، وذكر(2/742)
الجارح سبب الجرح بأن يقول: " رأيته وقد قتل فلاناً " فلا يخلو من
أمرين:
الأول: إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك.
الثاني: أن يتعرض المعدل لنفيه.
فإن كان الأول - وهو: عدم تعرض المعدل لنفي ذلك - فإنه
يقدم قول الجارح؛ لأن قوله تضمن زيادة لم يعرفها المعدل ولم ينفها
- كما سبق -.
وإن كان الثاني - وهو: تعرض المعدل لنفي ذلك - بأن قال
المعدل: " رأيت فلاناً المدعى قتله حياً بعد ذلك "، فهاهنا يتعارضان
ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بشدة التورع، والتحفظ، وزيادة
البصيرة، ونحو ذلك.
الحالة الثالثة: إذا ورد التجريح والتعديل من واحد، أي: أن
زيداً جرح عمراً وعدَّله، ففيه تفصيل:
فإن علمنا التأخر من المتقدم من الجرح والتعديل، فإنا نعمل
بالمتأخر، لكونه نسخ المتقدم.
وإن لم نعلم المتأخر من المتقدم، فإنا نتوقف حتى يثبت جرحه أو
تعديله.
ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يقدم الجرح على التعديل وإن كثر عدد المعدلين.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.(2/743)
وهو الحق، لأن سبب تقدم الجرح هو اطلاع الجارح على زيادة
في العلم عن الراوي قد خفيت على المعدل؛ لأن المعدلين وإن كثروا
ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك
لكانت شهادة باطلة على نفي، فلا ينتفي ذلك العلم الذي أخبر به
الجارحون بسبب كثرة عدد المعدلين، فلا يلتفت إلى الكثرة مع وجود
زيادة في الجرح.
المذهب الثاني: أنه يقدم التعديل.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن كثرة المعدلين تقوي
حالهم، وقلة الجارحين تضعف قولهم، فالكثرة تقدم على القلة؛
حيث إن الكثرة تقوي الظن، والظن إذا قوي وجب العمل به.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المعدلين مهما كثروا، فإنه قد خفيت عليهم
الزيادة في العلم التي أتى بها المجرح، وهم - أي: العدلون - لم
ينفوا تلك الزيادة التي ذكرها المجرح، فلا يلتفت إلى الكثرة مع
وجود زيادة في الجرح كما قلنا.
***
المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية المحدود بالقذف:
إذا قذف مكلف آخر بالزنا وحدَّه الإمام حدَّ القذف فهل روايته
مقبولة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:(2/744)
المذهب الأول: أن روايته مقبولة، أي: نقبل خبره بشرط: أن
يكون قد أخرج القول بالقذف مخرج الشهادة، أما إن أخرج القول
مخرج القذف فلا تقبل إلا إذا ثبتت توبته.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: الوقوع، فقد ورد أن أبا بكرة - نفيع بن الحارث
ابن كلدة الثقفي - قد شهد - هو واثنان معه - على المغيرة بن شعبة
بالزنا، ولم تتم الشهادة فجلده عمر ثمانين جلدة حد القذف، ومع
ذلك فقد قبل أهل الحديث ما رواه من الأحاديث، وقد ورد في
كتاب " الخلاصة " أن لأبي بكرة مائة واثنين وثلاثين حديثاً، اتفق
البخاري ومسلم على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم
بأخرى، روى عنه أولاده عبد الرحمن، وعبد العزيز، وعبيد اللَّه،
ومسلم، وجماعة.
الدليل الثاني. أن الشاهد العدل يغلب على الظن صدقه، ولكن
لم يكمل العدد في الشهادة على الزنا؛ ونقصان عدد الشهادة لم
يكن من جهته ولا من فعله، وبناء على نقص الشهادة أقام الإمام
الحد على هؤلاء الذين لم تكتمل شهادتهم، وذلك لا يقدح بعدالة
المحدود بالقذف؛ لأنه - كما قلنا - لا دخل له فيما حصل من
نقصان العدد في الشهادة، فلا مانع من قبوله روايته.
المذهب الثاني: أن المحدود في القذف تقبل روايته مطلقاً، سواء
كان قوله بلفظ الشهادة أو لا.
ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء على ذلك: بأن هذا المحدود قد توفرت فيه شروط(2/745)
الراوي، وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فما
المانع من قبول روايته؟
يجاب عنه: بأنا قبلنا خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ الشهادة
لما ذكرناه من الدليلين السابقين، ولما ذكرتم من اجتماع شروط
الراوي فيه.
ولم نقبل خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ القذف؛ لأنه قد فسق
بهذا، فإن تاب توبة نصوحاً قبلنا خبره؛ لأنه يلحق بالأول ولا فرق.
المذهب الثالث: أن المحدود في القذف لا تقبل روايته مطلقاً،
أي: سواء كان قوله بلفظ الشهادة أو لا.
نسب هذا إلى أبي حنيفة، ونفى هذه النسبة بعض الحنفية كابن
الهمام في " التحرير ".
دليل هذا المذهب:
استدل لهذا المذهب بأن القاذف بالزنا الذي لم تتم شهادته قد
اتهم بالكذب، ولذلك حدَّه الإمام حدَّ القذف، ويبقى هذا الاتهام
بعد الحد، ومع بقاء ذلك لايقبل منه شيء.
جوابه:
يجاب عنه بأن ترجيح صدقه ممكن، نظراً لتوفر شروط الراوي
الأربعة فيه، أما عدم إكمال العدد في الشهادة على الزنا فلم يكن
من فعله، ولذلك أقام الإمام عليه حد القذف، وهذا لا يقدح في
عدالته فلا مانع من قبول روايته.(2/746)
المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر:
الراوي للخبر إما أن يكون صحابياً، أو غير صحابي.
فالصحابي إذا نقل خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ينقله بألفاظ وطرق وكيفيات، وكذلك غير الصحابي، لذلك قسمت الكلام عن هذه المسألة إلى قسمين:
القسم الأول: في كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر.
القسم الثاني: في كيفية ألفاظ غير الصحابي في نقل الخبر.
وإليك بيان ذلك فأقول:
القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر وتتبين فيما يلي:
أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي يقول، أو
أخبرني، أو حدَّثني، أو شافهني ":
إذا قال الصحابي: " سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا "، أو قال: " أخبرني رسول اللَّه بكذا "، أو قال: " حدَّثني بكذا "، أو
قال: " شافهني بكذا "، فإن هذا خبر عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يجب قبوله والعمل به بإجماع العلماء؛ لصراحته في أنه لا يوجد واسطة بين الصحابي وبين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتطرق إلى هذه الرواية أيُّ احتمال.
ثانياً: إذا قال الصحابي: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو: " أخبر رسول اللَّه "، أو: " حدَّث رسول اللَّه "، فما الحكم؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنا نحكم بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون حُجَّة كقوله: " سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا ".(2/747)
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي:
الدليل الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: " قال
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا يمكن أن يجزم بذلك إذاً إلا عن سماع؛ حيث إن الظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة العربية وطرق استعمالاتها المتأكد من أن هذه الشريعة سيعمل بها إلى قيام الساعة: أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره.
بخلاف غير الصحابي إذا قال ذلك، فإن قرينة حاله تدل على أنه
لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثاني: اتفاق السلف على أن الخبر إذا نقل على هذه الصفة
- وهي قول الصحابي: " قال رسول اللَّه كذا " - فإنهم لم يفهموا
من ذلك إلا السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، فلذلك اتفقوا على قبوله.
المذهب الثاني: أنه لا يحكم بأنه إذا قال: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كذا " أنه قد سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بل هو متردد بين أن يكون سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكون قد سمعه من غيره.
ذهبِ إلى ذلك أبو الخطاب الحنبلي، ونسبه الآمدي، وأبو يعلى
إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وهذه النسبة إلى الباقلاني قد أنكرها
الزركشي في البحر المحيط، وأكد أن القاضي الباقلاني مع الجمهور.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم:
إن صيغة: " قال رسول اللَّه " أعم من صيغة: " سمعت رسول
الله "، وذلك لأن قوله: " قال رسول اللَّه " يعم ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/748)
مباشرة، ويعم ما حكاه له صحابي آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أما قوله: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فهو خاص بالأصل وهو: ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة.
ويدل على عموم الصيغة الأولى: أنه وقع من بعض الصحابة
- رضي اللَّه عنهم - أنهم يعبرون بها - أي: بقولهم: " قال رسول
الله " - عما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة وهذا كثير، ويعبرون بهذه الصيغة عما سمعوه من صحابة آخرين، فلما استكشفوا وروجعوا بيَّنوا وقالوا: لم نسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل حدَّثنا به فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما نقل عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -
أنه كان يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلا في النسيئة "، فلما سئل عنه قال: حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الربا في النسيئة "، وكذلك أبو هريرة كان يقول: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما بينت عائشة - رضي الله
عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم، قال أبو هريرة: لم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعته من الفضل بن العباس.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
أولها: أن نقل الصحابي الحديث عن غيره من الصحابة ثبت في
وقائع قليلة، والوقائع القليلة لا يثبت بها قاعدة أصولية، بخلاف
نقل الصحابي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيها: أنه لو فرض أن الصحابي قال: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " وهو لم يسمعه مباشرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل سمعه من بعض الصحابة،(2/749)
فإن هذا يصبح مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع
العلماء المعتد بأقوالهم، فيكون لا فرق بينه وبين قوله: " سمعت
رسول اللَّه يقول ".
ثالثها: أنه على فرض أن الصحابي قد سمعه من غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الصحابة كلهم عدول كما سبق بيانه.
ثالثاً: إذا قال الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا "، أو "نهى عن كذا "، أو " حرم كذا "، أو " أباح كذا "، أو " فرض
كذا "، أو " يأمر بكذا "، أو " ينهي عن كذا "، فما الحكم؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه حُجَّة، وأن الحكم يثبت بذلك، ويحكم به
بالأمر والنهي.
هذا ما ذهب إليه الجمهور.
وهو الحق، لدليلين:
الدليل الأول: أن بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كان ينقل
الحديث بمثل تلك الألفاظ - نهى رسول اللَّه أو أمر ... إلخ - وكان
الصحابة الآخرون يقبلون هذا، ويعولون عليه، ويحتجون به من
غير نكير، ولا يمكن لمن اختارهم اللَّه لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعولوا ويعتمدوا على شيء لا تقوم به الحُجَّة، فكان ذلك إجماعا سكوتيا
على ذلك.
من ذلك ما قاله بعض الصحابة: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمضمضة والاستنشاق، وأمر ألا توصل صلاة بأخرى، وفرض زكاة(2/750)
الفطر صاعاً من تمر..، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى
الصلاة، وأمر برجم ماعز، والغامدية، ونهى عن المخابرة، ونهى
عن الوصال، ونهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى،
ونهى عن الضرر والضرار، ونهى عن قراءة القرآن في الركوع
والسجود، والأمثلة على ذلك كثير.
الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابي وهو المشهود له
بالعدالة، ومعرفته بأوضاع اللغة وطرق استعمالاتها: أن لا يطلق
ذلك اللفظ - وهو أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى، أو فرض ... إلخ - إلا إذا كان متيقناً وعالماً تمام العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك أو نهى حقيقة، بحيث سمعه يقول: " أمرتكم بكذا "، أو يقول: "افعلوا كذا "، أو يقول: " نهيتكم عن كذا "، أو يقول:
" لا تفعلوا كذا "، وينظم إلى ذلك من القرائن ما يدل كونه أمراً، أو
يدرك ضرورة قصده الأمر أو النهي، أو نحو ذلك مما ذكر.
وذلك نفياً للتدليس والتلبيس عن الصحابي بنقل ما يوجب على سامعه
اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً أو نهياً.
المذهب الثاني: أن الصحابي إذا قال: " أمر رسول اللَّه أو نهى ... إلخ "، فإن هذا لا يثبت به الحكم، ولا يحكم به بالأمر
والنهي، وأنه لا حُجَّة فيه ما لم ينقل لفظ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وحكاه الجزري من الظاهرية عن
داود الظاهري
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الحُجَّة بلفظ الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، وقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه، أو نهى ... إلخ "(2/751)
لا يدل على وجود الأمر والنهي حقيقة، وذلك لأنه يتطرق إليه
احتمالان:
الاحتمال الأول: أن هذا التعبير ليس نصا صريحاً في سماعه من
الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل يحتمل أن يقول الصحابي:
" أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو نهى " اعتماداً على ما بلغه تواتراً، أو بلغه بلسان يثق بقوله.
الاحتمال الثاني: أن العلماء اختلفوا في صيغ ومعاني الأوامر،
فمنهم من قال: الأمر المطلق للوجوب، ومنهم من قال: هو
للندب، ومنهم من قال: للإباحة.
وكذلك اختلفوا في صيغ ومعاني النواهي، فمنهم من قال:
النهي المطلق يقتضي التحريم، ومنهم من قال: هو للكراهة.
فإذا كان كذلك فربما ظن الصحابي الراوي واعتقد ما ليس بأمر
أمراً، وما ليس بنهي نهياً، أي: سمع الصحابي الراوي صيغة
اعتقد أنها أمر أو نهي، وليست كذلك حقيقة مما يسبب اللبس في
أوامر الشريعة ونواهيها.
ونظراً لهذين الاحتمالين قلنا: إنه لا يحكم به بالأمر والنهي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول مسلَّم وقد يقع، ولكنه لا يمنع
من قبول قول الصحابي: " أمر رسول اللَّه أو نهى " فهو حُجَّة،
وكأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ لأنه مرسل صحابي، ومرسل الصحابي مقبول بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، فلا فرق بينه وبين
قوله: " قال رسول اللَّه "، أو " سمعت رسول اللَّه ".(2/752)
أما الاحتمال الثاني - وهو أنه قد يعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما
ليس بنهي نهياً - فإنه يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الغلط والوهم من الصحابة بعيد جداً، نظراً
لمعرفتهم الدقيقة باللغة العربية وطرق استعمالاتها وأساليبها،
ومعرفتهم يعموم وشمول هذه الشريعة لهم ولغيرهم ممن سيأتي
بعدهم إلى قيام الساعة - فلا يمكن - والأمر كذلك - أن يتساهلوا
بهذا لعلمهم بأن فيه تدليساً وتلبيساً على الأُمة، وهذا مستحيل على
الصحابة المشهود لهم بالعدالة من قِبَل اللَّه ورسوله.
لذلك يجب علينا حمل ظاهر أقوالهم وأفعالهم على أنها سليمة
وصحيحة وموافقة لما أمر به رسول اللَّه ونهى عنه - مهما أمكن -.
الجواب الثاني: وقولكم - في الاحتمال الثاني - يمكن أن يصح
لو كان الاختلاف في صيغ الأوامر والنواهي مبنيا على اختلاف
الصحابة فيها.
ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فلم يرد عن الصحابة - رضوان
الله عليهم - أنهم اختلفوا في تلك الصيغ واقتضائها، إذ لو كان
هناك اختلاف في ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا اختلافهم في بعض
الأحكام الفقهية كاختلاف ابن عباس مع زيد بن ثابت في مسألة الجد
والأخوة، واختلاف عائشة مع ابن عمر في نقض شعر المرأة في
الاغتسال من الجنابة، واختلاف عليّ وعثمان في الجمع بين الأختين
الأمتين، واختلاف عليّ مع عمر في بيع أمهات الأولاد، واختلاف
علي مع ابن مسعود في المفوضة، واختلافهم في العول، وغير ذلك
من المسائل الفقهية التي نقلت إلينا.
ثم اعلم أنه ليس من ضرورة اختلاف العلماء في زمن من(2/753)
الأزمان - بعد الصحابة - في مسألة معينة أن يكون هذا الاختلاف مبنيا
على اختلاف الصحابة بدليل: أن علماء السلف والخلف اختلفوا في
كثير من المسانل الأصولية والفقهية في حين أنه لم يرد عن الصحابة
أنهم اختلفوا في أي منها.
المذهب الثالث: التفصيل، وبيانه:
إن كان الصحابي القائل لذلك من أهل المعرفة باللغة وطرق
استعمالاتها وأساليبها، فإن هذا يجعل قوله: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو نهى رسول اللَّه " مثل نقله لفظة الأمر حقيقة، وذلك نظراً لتلك المعرفة.
أما إن كان الصحابي غير ذلك، فإنه يجوز عليه احتمال أنه يجعل
ما ليس بأمر أمراً وما ليس بنهي نهياً، وذلك لجهله باللغة العربية
وطرق استعمالاتها.
حكى هذا المذهب كل من القاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن العدل الثقة إذا نقل شيئاً مطلقاً، فإنا نحمله على
أرجح محامله، إلا إن وجد ما يعارض ذلك، فلا يتعرض لتقرير
وجوه البطلان فيه، يؤيد ذلك: أن الشخص إذا شهد على بيع أو
إجارة، أو غيرهما من العقود فإنا لا نكلفه أن ينعت لنا وجه الصحة
فيما يشهد عليه، بل يكتفي بإطلاقه القول، وكذا هنا.
والصحابي الذي ليس من أهل المعرفة باللغة - إن وجد - لا يمكن
أن يعبر بمثل هذا ويقول: " أمر رسول اللَّه أو نهى " إلا إذا كان(2/754)
متأكداً من أن ذلك أمر حقيقة، وإن شك في ذلك فإنه يسكت نظراً
لعدالته.
المذهب الرابع: التوقف، وهو الذي يفهم من كلام الإمام الرازي
في " المحصول "، وهو الذي حكاه إمام الحرمين عن بعض الظاهرية
في " التلخيص "، وذلك لتعارض الأدلة.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلتنا على أنه
يحكم به.
رابعاً: قول الصحابي: " أُمِرْنا بكذا "، أو " نُهينا عن كذا "،
أو " أوجب علينا كذا "، أو " حُرِّم علينا كذا "، أو " أُبيح لنا كذا"
ونحو ذلك من الفعل المبني للمجهول، ما حكمه؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الصحابي إذا قال ذلك، فإنه يفيد أن الآمر
والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحمل على غير ذلك.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح، لدليلين:
الدليل الأول: أن مراد الصحابي وغرضه من نقله لهذا الخبر بهذه
الصيغة - وهي أمرنا أو نهينا - هو الاحتجاج به لإثبات الأحكام
الشرعية، فيجب حمل الأمر على أنه صدر ممن يحتج بقوله وهو
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحمل على أنه صدر ممن لا يحتج بقوله من الأئمة والولاة والعلماء.
الدليل الثاني: أن الواقع يشهد لذلك، حيث إنه من المعروف أن(2/755)
من يتبع رئيساً أو أميراً إذا قال: " أمرنا بكذا "، أو " نهينا عن
كذا"، وأطلق ذلك فإنه يفهم منه أن الآمر هو ذلك الرئيس أو الأمير،
فكذلك الصحابة بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ولا فرق، فإنه إذا قال الصحابي: " أمرنا "، أو " نهينا "، فإنه لا يفهم من ذلك إلا أن الآمر والناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " أمرنا. "، أو " نهينا " - وما
ذكر هنا - لا يفيد هذا أن الآمر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يضاف إليه، وبالتالي لا يكون حُجَّة.
ذهب إلى ذلك أبو الحسين الكرخي، والسرخسي، والجصاص،
وأبو بكر الصيرفي، والإسماعيلي، وإمام الحرمين، وأكثر مالكية
بغداد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن قول الصحابي ذلك
ليس بنص صريح في النقل بل يتطرق إليه ثلاثة احتمالات هي كما يلي:
الاحتمال الأول: أن قوله: " أمرنا أو نهينا " لا يفيد أنه سمعه من
النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة - فقط -، بل قد يحتمل أنه قال ذلك اعتماداً على ما بلغه بالتواتر، أو بلغه على لسان شخص يثق به.
الاحتمال الثاني: أن الصحابي ربما توهم ما ليس بأمر أمراً، وما
ليس بنهي نهياً.
الاحتمال الثالث: أنه يحتمل أن يكون الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة والعلماء بدليل قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(2/756)
، فهنا أمر اللَّه عَزَّ وجَلَّ باتباع أمره، وأمر
رسوله، وأمر العلماء، والخلفاء، والسلاطين المحكمين لشرع اللَّه.
وعلى هذا يكون ذلك متردداً بين كونه مضافاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين كونه مضافاً إلى الأئمة والعلماء، وإذا احتمل هذا وذاك فلا يكون مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ولا يكون حُجَّة.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني
باطلان؛ لما سبق من الدليل والتعليل.
أما الاحتمال الثالث - وهو قولهم: يحتمل أن الآمر غير النبي
- صلى الله عليه وسلم - من العلماء والولاة - فيجاب عنه بأن الصحابي إذا قال: " أمرنا أو نهينا "، وأطلق، فإنا لا نعقل من هذا الإطلاق سوى أن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون غيره؛ لأن الآمر والناهي حقيقة هو اللَّه تعالى، ويبلغنا بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال الصحابي: " أمرنا أو نهينا " انصرف إلى الحقيقة، ولا يقال: إن الآمر والناهي غيره إلا بقرينة، كما لو قال مثلاً: " هذا الفعل طاعة "، فإنه لا يعقل أحد إلا طاعة اللَّه تعالى وطاعة رسوله.
أما الآية، وهي قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فإنه يحتمل أن يكون المراد بها: أطيعوا أولي الأمر فيما نقلوه من أمري، وما أخبروا به عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما
قال أبو يعلى الحنبلي.
المذهب الثالث: التفصيل، بيانه:
إن كان الصحابي القائل: " أمرنا ونهينا " من أكابر الصحابة(2/757)
وعلمائهم كالخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن
ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس،
وغيرهم ممن يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يغلب على الظن أن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن كثرة ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - تجعلنا
نكاد نجزم بأنه لا آمر ولا ناهي إلا هو - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال أن الآمر والناهي غيره احتمال بعيد جداً.
أما إذا كان الصحابي لم يكثر ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن يفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يعود، أو من تأخر إسلامه والتحق به في آخر سنة عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن احتمال كون الآمر والناهي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - احتمال قوي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا التفريق بين الصحابة لا دليل عليه،
فالصحابي الذي شهد له اللَّه عَزَّ وجَلَّ، وشهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعدالة إذا نقل شيئاً وأطلق قائلاً: " أمرنا ونهينا "، فإنا لا نحمله
إلا على أمر من له الأمر الحقيقي، وهو اللَّه تعالى الذي بلغنا به
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نحمله على أمر غيره إلا بقرينة، وهذا الكلام ينطبق على جميع الصحابة.
تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي: " أمرنا
ونهينا "، فالآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
خامساً: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا "، أو " السُّنَّة جارية
بكذا "، أو " مضت السُّنَّة بكذا "، ما حكمه؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:(2/758)
المذهب الأول: أنه لا يفهم من ذلك إلا سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحمل عليه دون غيره.
هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء.
وهو الحق عندي، لدليلين هما:
الدليل الأول: أن غرض الصحابي ومراده من روايته لذلك أن
يعلمنا الشرع، فيجب حمل قوله: " من السُّنَّة كذا " - وغيرها من
الصيغ الأخرى مما في معناها - على أنه صادر منِ الشرع، وهو
سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثاني: أن كلمة "؛ السنَّة" إذا أطقت في أحكام الشرع،
فإن المقصود بها ما سَنَّه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه، لأنه إذا أريد بها سُنَّة غيره فإن لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها، يؤيد ذلك: ما انتشر على ألسنة جميع العلماء، وهو
قولهم: " عليكم بالقرآن والسُّنَّة "، فلا يعقل من ذلك إلا اتباع
النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون غيره.
المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا ".. إلخ
لا يحمل على سُنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وهو مذهب بعض العلماء، ونسبه الآمدي إلى الكرخي، ونسبه
الزركشي إلى الصيرفي.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن اسم " السُّنَّة " متردد
بين سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -:
"عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "،
وقال عليّ بن أبي طالب:(2/759)
" جلد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّة ".
فإذا كان اللفظ متردد بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما
دون الآخر أَوْلى من العكس.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا لا يعارض ما ذهبنا إليه، بيان ذلك:
أننا قلنا: إن لفظ " السُّنَّة " إذا أطلق فلا يتبادر إلى الذهن من
هذا الإطلاق شرعاً إلا سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، أما إذا وجدت قرينة، فإنا نحمل لفظ " السُّنَّة " على ما دلَّت عليه تلك
القرينة.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسُنَتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قال: عليكم بما سمعتموه مني، وبما حدَّثكم به خلفائي عني.
وكذلك قول عليّ يحمل على سُنَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الزيادة حد، وقد ثبت الحد بالسُّنَّة.
تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي:
" من السُّنَّة كذا "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يمكن لأي عالم من التابعين أو غيرهم، ممن ثبتت عدالته أن يقول ذلك، ويطلق إلا وهو يريد سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، حيث هو الذي تجب طاعته.
وقيل: لا يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ لتطرق احتمال أن يقصد التابعي سُنَّة الصحابة، والجواب عن ذلك كما سبق.(2/760)
وقيل: الفرق بين قول سعيد بن المسيب فيحمل على سُنَّة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، نظراً لثبوت ذلك عنه، وبين قول غيره فيتطرق إليه الاحتمال، والجواب عنه: أن العدل الثقة لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان قاصداً سُنَّة من تقوم الحُجَّة بقوله وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بين عالِم وعالِم في ذلك.
سادساً: قول الصحابي: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما حكمه؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه ظاهر في أن الصحابي قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يطلق
ذلك إلا لأنه سمعه حقيقة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن عدالته تمنعه من إطلاق ذلك إذا لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو شك في ذلك، وقد سبق بيان ذلك.
المذهب الثاني: أنه لا يحمل على أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يكون سمعه من غيره بالتواتر أو ممن يثق بقوله، ونظراً لهذا
الاحتمال، فإنه لا يحكم بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون حُجَّة حتى يثبت بالقرائن على أنه سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال وارد، ولكنه لا يمنع من قبول
قول الصحابي: " عن النبي "، فهو حُجَّة فكانه سمعه من النبي
- صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنه مرسل صحابيْ، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، إذن لا فرق بينه وبين قوله:
" قال رسول اللَّه ".(2/761)
المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يأتي دليل يرجح أحد
الأمرين، وهو اختيار فخر الدين الرازي فى " المحصول "، وذلك
نظراً لتعارض أدلة أصحاب المذهبين السابقين، وضعف كل منهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة الدليل على أنه
ظاهر في أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعف دليل أصحاب المذهب الثاني.
سابعاً: قول الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون " ما حكمه؟
فيه تفصيل وهو كما يلي:
إذا قال الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون "، وأطلق فإنه
لا يكون كالمستند فلا يكون حُجَّة اتفاقاً؛ لأن الحُجَّة في إقراره - صلى الله عليه وسلم -، والإقرار هنا منتف في غير عهده، فيحتمل أنه رأي جماعة.
أما إذا قال الصحابي: " كنا نفعل فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو كانوا يفعلون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه كالمسند، فهو حُجَّة.
وهذا هو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن الصحابي ذكر ذلك في معرض الاحتجاج
لإثبات حكم من الأحكام يدل على أنه أراد ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت عنه، ولم يتبين أنه دليل، فأراد الصحابي أن يبين لنا ذلك
ليكون دليلاً شرعيا يستدل به في الأحكام الشرعية، ولا يكون كذلك
إلا وقد علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره.(2/762)
الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابة أنهم لا يقدمون على
أمر من أمور الدين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا إذا كان عالِماً به فيكون من السُّنَّة التقريرية.
المذهب الثاني: أن هذا التعبير لا يكون كالمسند، فلا يكون حُجَّة.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون
الصحابة يفعلون ما لا يعلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
يؤيد ذلك الاحتمال: ما روي أن زيد بن ثابت كان يحدث الناس
بأن الرجل إذا جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، فسأله عمر عن ذلك
قال: حدَّثني أعمامي: " أبي بن كعب "، و " أبو أيوب "،
و"رفاعة"، وكان رفاعة عند عمر فقال رفاعة لعمر: " قد كنا نفعله
على عهد رسول اللَّه "، فقال عمر: ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعلم؛ قال: لا علم له، فجمع عمر المهاجرين والأنصار فأشاروا إليه: أن لا غسل في ذلك، إلا علياً ومعاذاً قالا: إذا جاوز الختان، فقد وجب
الغسل، قال عمر: لا أسمع برجل يفعل ذلك إلا أوجعته، فهذه
القصة تدل على أن الصحابة كانوا يفعلون أشياء لا يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال - وهو كون الصحابة يفعلون ما لا
يعلمه - صلى الله عليه وسلم - في عهده - لا دليل عليه، والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يلتفت إليه.
أما القصة التي ذكروها فيمكن أن يجاب عنها بأن نقول: إنه في(2/763)
أول الإسلام كان التقاء الختانين لا يوجب الغسل، ثم نسخ ذلك،
فعلم ذلك قوم، ولم يعلمه آخرون، فكان من لم يعلم النسخ
مستمراً على ذلك الحكم الذي كان في صدر الإسلام حتى تبين لهم
خبر عائشة - رضي اللَّه عنها - والعمل على حكم سابق جائز إذا لم
يعلم الناسخ، أما الإقدام على ابتداء فعل يتعلق بالدين من غير
استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يظن بالصحابة فعله.
ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون كذا " هل يفيد حكاية الإجماع؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يفيد حكاية الإجماع، أي: أن الصحابي
يكون بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع على هذا الفعل.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن اللفظ - في قوله: كانوا يفعلون كذا -
يدل دلالة واضحة على أن الصحابي يحكي هذا الفعل عن الجميع؛
لأنه قال ذلك في معرض الاحتجاج به على حكم معين، فيجب أن
يحمل على من قولهم حُجَّة، وهو الإجماع.
فلو كان الصحابي الراوي يحكي ذلك عن واحد منهم، أو عن
طائفة: لما قاله في معرض إقامة الحجة على حكم معين؛ لأن قول
البعض لا حُجَّة فيه.
المذهب الثاني: أنه لا يفيد حكاية الإجماع، أي: أنه لا يفيد
إضافة الفعل المحكي عن الصحابة إلى جميعهم ما لم يصرح
الصحابي الراوي بنقل الإجماع عن أهله.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.(2/764)
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لو كان ذلك مستندا إلى
فعل الجميع، لكان إجماعا، ونظراً لأنه يسوغ مخالفته عن طريق
الاجتهاد دلَّ على عوده على البعض دون الجميع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن سبب تسويغ الاجتهاد فيه هو: أن إضافة ذلك
إلى الجميع وقع ظنا، لا قطعا، كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه
الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان طريق اتباعه ظنيا، وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد إذا ثبت بطريق القطع.
القسم الثاني - من قسمي كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر - هو:
كيفية ألفاظ الراوي غير الصحابي في نقل الخبر، وتتبين فيما يلي:
أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع، سواء كانت
قراءته إملاء من مكتوب، أو من حفظه، فتجوز الرواية عنه مع
العمل بذلك بالاتفاق.
ثانياً: الصيغ التي يتلفظ الراوي إذا أراد أن يُحدِّث بما سمعه من
شيخه فيما سبق، فيهاتفصيل:
1 - إن قصد الشيخ إسماع الراوي خاصة فإن الراوي يقول:
"حدَّثني فلان "، أو " أخبرني فلان ".
2 - إن قصد الشيخ إسماع الراوي مع. غيره فإنه يقول: " حدثنا
فلان "، و " أخبرنا فلان ".
3 - إن لم يقصد الشيخ إسماع الراوي منفرداً ولا مع جماعة،(2/765)
فلا يقول الصيغ السابقة، بل يقول: " سمعته يقول كذا "، أو
"يخبر بكذا "، أو " قال فلان كذا "، أو " سمعته يحدث بكذا ".
ثالثاً: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي أم العكس، أم
ماذا؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن قراءة الشيخ على الراوي أقوى من قراءة
الراوي على الشيخ، وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق، لدليلين:
الدليل الأول: أنه طريق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه الذي كان يحدث أصحابه كما نقلوه عنه.
الدليل الثاني: أن قراءة الشيخ على الراوي أبعد عن الخطأ والسهو
والغلط؛ لكونه يقرأ ما تحقق منه، فيكون أحق فيما هو المقصود،
وهو تحمل الأمانة بصفة تامة.
المذهب الثاني: العكس، وهو: أن قراءة الراوي على الشيخ
أقوى.
ذهب إلى ذلك أبو حنيفة كما نقله عنه السرخسي، وحكاه ابن
الصلاح عن ابن أبي ذؤيب.
دليل هذا المذهب:
أن عناية الطلب أشد عادة؛ لأنه إذا قرأ الراوي على الشيخ كانت
المحافظة من الطرفين، وإذا قرأ الشيخ لا تكون المحافظة إلا منه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا لا يسلَّم؛ فإن قراءة الشيخ على إلراوي(2/766)
أقوى من العكس؛ لما قلناه، والراوي المستمع لقراءة الشيخ أحرص
على استماع كل ما يقوله شيخه، وكل منهما قد توفرت فيه شروط
الراوي - الإسلام والتكليف والضبط والعدالة -.
المذهب الثاني: هما سواء.
ذهب إلى ذلك الإمام مالك فيما نقله عنه ابن الصلاح، واختاره
ابن الساعاتي.
دليل هذا المذهب:
أن الذي يقرأ كتاباً ويسهو لا فرق فيه بين القارئ والسامع؛ نظراً
لمساواة من يتكلم أو يستمع فيستفهم فيقول: نعم.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يسلم تساوي القارئ والمستمع، فإن الشيخ
إذا قرأ مع تثبت ودقة في حين أن الراوي قد اتصف بشدة الطلب
يكون هذا أقوى وأصح.
رابعاً: قراءة الراوي " التلميذ " على الشيخ وهو يسمع، فيقول
الراوي للشيخ - بعد الفراغ من القراءة -: هل سمعت أيها الشيخ؛
فيقول الشيخ: نعم، أو يقول الشيخ: " الأمر كما قرئ عليّ "،
فتجوز الرواية عنه، مع العمل بذلك بالاتفاق.
خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو يسمع، ثم قال الراوي
للشيخ: هل سمعت أيها الشيخ؛ فسكت الشيخ، فهل تجوز
الرواية عنه؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه تجوز الرواية عنه، ويجب العمل به.(2/767)
وهذا هو مذهب جمهور العلماء بشرط: أن لا يوجد لدى الشيخ
أي مانع من الإنكار إذا أخطأ الراوي في القراءة.
وهو الحق؛ لأنه لو لم يكن ما قرأه الراوي صحيحا كله لما سكت
الشيخ، بل لاعترض على الخطأ منه، ولكن سكوت الشيخ وعدم
اعتراضه دليل واضح على أن كل ما قرأه وما ذكره الراوي صحيح،
وما دام أنه صحيح فيجب العمل به.
أي: لو لم تكن قراءة الراوي على الشيخ صحيحة لكان سكوت
الشيخ عَن الإنكار مع القدرة عليه فسقا؛ لما فيه من إيهام صحة ما
ليس بصحيح، وذلك بعيد جداً عن العدل الثقة.
أما إذا غلب على ظننا بأنه يوجد لدى الشيخ مانع من الإنكار
كغفلة فيه، أو قلة مبالاة، أو نوم، أو إكراه على السكوت، ففي
هذه الحالة لا يكتفى بسكوته، بل لا بد من - نطقه بقوله: " نعم " أو
نحو ذلك مما يدل على موافقته على صحة ما قرئ عليه.
المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية عنه، ولا العمل به.
ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن سكوت الشيخ لا يكفي
في الدلالة على صحة ما قرأه، فقد يكون غافلاً، أو مكرها، أو
نحو ذلك، فلا بد من نطقه بأن يقول: " نعم ".
جوابه:
يجاب عنه: باننا لما قلنا: إن سكوت الشيخ إذا قرأ عليه الراوي
وقال له: هل سمعت أيها الشيخ يدل على صحة ما قرأه عليه،(2/768)
فتجوز الرواية عنه، ويجب العمل به، فإننا لم نقل ذلك مطلقا،
بل اشترطنا: أن لا يكون عند الشيخ أيُّ مانع من الإنكار - إذا أخطأ
الراوي في القراءة - كما بينا فيما سبق، فلذلك لا يصح ذلك
الاحتمال الذين ذكرتموه.
سادسا: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما يريد التحدث بما قرأه
على شيخه هي: أن يقول: " أنبأنا فلان قراءة عليه "، أو يقول:
"حدَّثنا فلان قراءة عليه "، أو يقول: " أخبرنا فلان قراءة عليه "،
وهذا متفق عليه؛ لتصريحه بهذه الرتبة.
سابعاً: إذا قرأ الراوي على الشيخ، فهل يجوز أن يقول:
"أخبرنا"، أو " حدَّثنا " مطلقاً، أي: بدون عبارة: " قراءة عليه "؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول:
" أخبرنا أو حدَّثنا قراءة عليه ".
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وعبد اللَّه بن المبارك،
والإمام مسلم، والنسائي، وإلغزالي، - وأبو إسحاق الشيرازي،
والآمدي، وأبو الحسين البصري، وهو مذهب كثير من العلماء.
وهو الحق عندي؛ قياسا على أنه لا يجوز لمن قرأ على الشيخ أن
يقول: " سمعت من فلان كذا "، والجامع: أن ظاهر هذه العبارة،
وقول التلميذ في هذه المسألة: " حدَّثنا أو أخبرنا " مطلقا: يقتضي:
أن الشيخ هو الذي تولى القراءة بنفسه، وهذا ليس بصحيح؛ حيث
إن حقيقة الأمر أن الراوي هو الذي تولى القراءة على الشيخ، فترك
عبارة: " قراءة عليه " يوهم السماع من لفظ الشيخ، وهذا كذب
في الرواية.(2/769)
المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك، فيقول: " أخبرنا وحدَّثنا " في
هذه المسألة بدون ذكر عبارة: " قراءة عليه ".
ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة، ومالك، ومحمد بن الحسن،
وأبو يوسف، والإمام أحمد في رواية أخرى عنه، والبخاري،
وسفيان بن عيينة، وأبو يعلى، وأبو بكر عبد العزيز، ومعظم
الحجازيين والكوفيين.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك:
أن الراوي إذا قرأ على الشيخ، فلما فرغ قال له: هل سمعت
أيها الشيخ؛ فقال: " نعم "، أو سكت - مع عدم المانع من
النطق -: كان هذا يعتبر إقراراً من الشيخ أن قراءة الراوي عليه
صحيحة، فكأنه بذلك قال له: " نعم قراءتك صحيحة "،
والجواب بلفظ: " نعم " خبر؛ قياسا على الشهادة، فلو قال
شخص لعمرو: " هل لزيد عليك خمسة ريالات؛ "، فقال
عمرو: نعم: كان للشاهد عليه أن يقول: " أشهدني على نفسه
بخمسة ريالات " قال ذلك مع أنه لا يوجد إلا لفظ " نعم "،
فكذلك في الرواية فإذا قال الشيخ: " نعم "، فإنه يكون.
تقدير الكلام: " نعم أخبرني بأني رويت له كذا ".
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
ْالجواب الأول: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛
حيث إنه يوجد فرق بين الشهادة والرواية، كما سبق بيانه.(2/770)
الجواب الثاني: أن هذا الدليل لا يمنع من إيهام السماع من لفظ
الشيخ، فيكون احتمال السماع من الشيخ قوياً؛ لذلك لا بد من
ذكر عبارة " قراءة عليه " منعا من ذلك الإيهام.
المذهب الثالث: التفصيل؛ بيانه:
أنه يجوز أن يقول الراوي - وهو القارئ على الشيخ -: "أخبرنا
فلان بكذا " مطلقا، أي: بدون ذكر لفظ " قراءة عليه "، ولا
يجوز أن يقول: " حدثنا فلان كذا " مطلقاً، بل لا بد أن يقيد ذلك
بقوله: " قراءة عليه " ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب: بوجود الفرق بين " أخبرنا "،
و"حدَّثنا "، وهو: أن الإخبار يستعمل في كل ما يتضمن الإعلام،
أما التحديث فإنه لا يستعمل إلا فيما سمع من فيه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن بعض أهل الحديث قد اصطلح على التفريق
بينهما بما ذكرزم، وهذا لا يلزمنا؛ لأن معنى " حدَّثنا "، و " أخبرنا"
متحد في اللغة؛ ذلك لأنه مشتق من الخبر والحديث وهي واحدة.
ثامناً: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز للراوي أن يبدل
ذلك بلفظ: " أخبرنا "، أو العكس؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، فيجوز أن يقول الشيخ:
"حدَّثنا "، ثم يقول الراوي القارئ عليه: " أخبرنا "، ويجوز
-(2/771)
العكس، وهو أن يقول الشيخ: " أخبرنا "، فيقول الراوي القارئ
عليه: " حدَّثنا".
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وهو الحق: لما سبق من أن معنى " حدَّثنا " و " أخبرنا " متحد في
اللغة؛ لاشتقاقه من الخبر والحديث، وهي واحدة.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون الشيخ
من الذين لا يرون التسوية بين " أخبرنا "، و " حدَّثنا "، فيكون
كذباَعليه.
جوابه:
يجاب عنه بما سبق، وهو أن تفريقه بينهما لا يلزمنا ما دامت اللغة
لم تفرق بينهما، فالمرجع في ذلك إلى لسان العرب.
تاسعاً: إذا قال الشيخ " حدَّثنا "، أو " أخبرنا "، فهل يجوز
للراوي أن يبدل ذلك بلفظ: " سمعت فلانا "؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق؛ لأن لفظ " سمعت " مشعر بأن شيخه هو الذي تولى
القراءة بنفسه، أي: هو الذي نطق، وهذا خلاف الحقيقة؛ لأن(2/772)
الحقيقة أن الراوي هو الذي قرأ على الشيخ، فقال الشيخ: نعم،
أو سكت، وإذا كان مخالفاً لحقيقة الأمر الواقع فهو كذب.
المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك إذا علمنا بصريح قوله، أو بقرينة
حاله أنه يريد بقوله: " وهو سمعت فلاناً " - القراءة على الشيخ
دون سماع حديثه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا متفق عليه، وإنما الخلاف فيما إذا قال:
"سمعت فلاناً "، وهو في الحقيقة قد قرأ على الشيخ، ولم يسمع
منه.
عاشراً: حقيقة الإجازة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " أجزت لك
أن تروي عني ما صح عندك من مسموعاتي "، وعند ذلك يجب
الاحتياط في تعيين المسموع.
وحقيقة المناولة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " خذ هذا الكتاب
فأروه عني "، أو يقول: " خذ هذا وحدث به عني فقد سمعته من
فلان "، وهو اصطلاح قد اتفق عليه أهل الحديث؛ حيث إن
أحدهم يناول الآخر كتابا فيقول: " اروه عني ".
وصيغة الراوي أن يقول: حدَّثني فلان إجازة "، أو " أخبرني
فلان إجازة ".
حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة.
الحق أن المناولة تعتبر قسما من أقسام الإجازة، فالمناولة لا تخرج
عن الإجازة؛ لأن الشيخ لو اقتصر على مجرد المناولة، وهو:
اعطاؤه الكتاب دون اللفظ - أي: لم يقل له: " اروه عني " -(2/773)
لم تجز الرواية مطلقاً، أما لو اقتصر الشيخ على مجرد اللفظ - وهو
قوله له: " اروه عني " - دون أن يناوله كتابا بيده فإنه يكفي ويغني،
وتجوز الرواية بذلك؛ لأن الإذن إنما يستفاد من اللفظ، لا من إعطائه
الكتاب، فبان أنه لا معنى للمناولة بدون إجازة، وحينئذ تعتبر
المناولة نوعاً من أنواع الإجازة.
ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة.
لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أنه تجوز الرواية بهما.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، ومنهم: مالك، والشافعي،
وأحمد.
وهذا هو الحق؛ لدليلين هما:
الدليل الأول: أن الطريق - وهو قول الراوي: حدثنا فلان عن
فلان - إنما هو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث، ومعرفة صحة
الحديث حاصلة بالإجازة والمناولة؛ لأن المجيز عدل ثقة، والظاهر
أنه لم يجز إلا ما علم صحته، وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه
فاسقاً، وهو لا يمكن في العدل، وإذا علمت الرواية، أو ظننت
بإجازته جازت الرواية عنه.
الدليل الثاني: قياس الإجازة والمناولة على الراوي إذا قرأ على
الشيخ، بيانه:
أن الشيخ - وهو المجيز - إذا قال للراوي: " هذا كتاب مسموعي
فاروه عني "، يكون ذلك بمنزلة ما إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو
ساكت، ولا فرق بينهما بجامع: أن الشيخ فيهما لم يتكلم بما في
داخل الكتاب ومسموعاته.(2/774)
المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية بالإجازة والمناولة.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالقاضي حسين،
والماوردي، والروياني، وبعض الظاهرية كابن حزم، وبعض أهل
الحديث كشعبة بن الحجاج، وأبي زرعة، وإبراهيم الحربي من
أصحاب الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشهادة على الشهادة لا
تجوز بالإجازة والمناولة، فيقاس عليها الأخبار، فلا تجوز بالمناولة
والإجازة، ولا فرق بينهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس غير صحيح؛
لأنه قياس مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية في أمور
كثيرة، ومنها: أن شاهد الفرع لا يقبل مع وجود شاهد الأصل
بخلاف الرواية، فإن رواية الراوي تقبل مع وجود شيخه الذي أخبر
بهذا الخبر.
ثالث عشر: أنواع الإجازة:
تتنوع الإجازة إلى أنواع:
النوع الأول: الإجازة بمعين لمعين مثل أن يقول الشيخ:
" قد أجزت لك الكتاب الفلاني "، وهذا النوع أعلى أنواع الإجازة.
النوع الثاني: الإجازة لمعين في غير معين مثل أن يقول الشيخ:
"قد أجزت لك جميع مسموعاتي "، وهذا يجوز عند الجمهور.
النوع الثالث: إجازة معين لمعين بوصف العموم مثل أن يقول:(2/775)
"أجزت للمسلمين، أو لمن أدرك حياتي الكتاب الفلاني "، وهذا
جائز لمن كان موجوداً من المسلمين عند الإجازة.
النوع الرابع: إجازة المجاز مثل أن يقول الشيخ: " أجزت لك
ما أجيز لي روايته ".
النوع الخامس: الإذن في الإجازة مثل أن يقول الشيخ: " أذنت
لك أن تجيز عني من شئت ".
رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدَّثني فلان "، أو قال:
" أخبرني فلان " وأطلق، ولم يقيد ذلك بلفظ " إجازة "، فهل هذا
يجوز؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول: " حدَّثني
فلان إجازة "، أو يقول: " أخبرني فلان إجازة ".
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي، لأنه لو قال الراوي المجاز: " حدَّثني فلان "،
أو أخبرني فلان " بدون لفظ " إجازة " لأوهم ذلك أن الرواية
بالتحديث على الحقيقة والسماع " لأنها الأصل المتبادر إلى الذهن،
ومنعاً لهذا الوهم، قلنا: لا بد من ذكر لفظ " إجازة ".
المذهب الثاني: أنه يجوز للراوي المجاز أن يقول: " حدَّثنى "،
أو " أخبرني " بدوق ذكر لفظ " إجازة ".
ذهب إلى ذلك الإمام مالك وأهل المدينة، وبعض الحنفية
كالجصاص، والبزدوي، والدبوسي، وابن عبد الشكور.(2/776)
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الإجازة والمناولة على السماع
حيث قالوا: إن الإجازة والمناولة بمعنى إسماع الشيخ وقراءة الراوي
عليه، فكأن الشيخ لا قال للراوي عنه: " أجزت لك أن تروي عني
هذا الكتاب " أن الراوي قرأه عليه ولا فرق.
جوابه:
يجاب عن هذا بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛
لأن الراوي المجاز لم يسمع من الشيخ شيئاً، ولم يقرأ على الشيخ
شيئاً في الحقيقة، بل أعطاه كتاباً وقال: " أجزت لك أن تروي عني
هذا الكتاب "، وليس في ذلك ما يفيد أنه سمع منه، أو قرأ عليه،
فكيف يجعل في مرتبة السماع؟!
خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر والفا سق؟
الحق: أنه تجوز الإجازة لهؤلاء، وذلك ليروي الصبي ما أجيز به
إذا بلغ، ويروي المجنون ما أجيز به إذا عقل، ويروي الكافر ما أجيز
به إذا أسلم، ويروي الفاسق ما أجيز به إذا صلح وثبتت عدالته.
سادس عشر: إذا قال الشيخ: " - خذ هذا الكتاب وهو مسموعي "
ولم يقل: " اروه عني " فهل تجوز الرواية عنه؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا تجوز الرواية عنه مطلقاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:(2/777)
الدليل الأول: أن جواز الرواية يستفاد من عبارة: " اروه عني "
فهذه العبارة علامة على الإذن، وما دام أن هذه العبارة لم ترد من
الشيخ - وهو المجيز - فهو لم يأذن بالرواية عنه؛ لأنه ليس في
الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه، ولا على صحة
الحديث نفسه، فيحتمل - احتمالاً قوياً - أن الشيخ لم يقل: " اروه
عني " نظراً لكونه يعرف أن في هذا الكتاب أو بعضه خللاً قد منع من
إذنه لروايته عنه، فلم يجوز ذلك، فامتنع من قوله: " اروه عني ".
الدليل الثاني: قياس المناولة على الشهادة، بيان ذلك:
إن الشاهد لو قال: " عندي شهادة بكذا "، ولم يقل: " أذنت
لك أن تشهد على شهادتي " لا يجوز - حينئذٍ أن يشهد بها،
فكذلك الرواية إذا قال الشيخ: " هذا مسموعي "، ولم يقل:
"اروه عني "، فإنه لا يجوز أن يروي هذا الكتاب، ولا فرق بينهما
في ذلك.
المذهب الثاني: أنه إذا قال الشيخ: " خذ هذا الكتاب "، أو
قال: " هذا سماعي "، ولم يقل: " اروه عني "، فإنه يجوز
للراوي أن يرويه عنه.
ذهب إلى ذلك ابن الصباغ الشافعي وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشيخ لو علم أن في
بعض مروياته الموجودة، في الكتاب الذي ناوله الراوي خللاً لما قال
للراوي: " خذ هذا الكتاب أو هذا مسموعي "؛ لأنه يكون بهذا
القول قد غش المسلمين ودلس عليهم.(2/778)
جوابه:
يجاب عنه: بأن الإنسان قد يوجد منه تساهل في إلقاء الكلام،
ولكن عندما يكون هذا الكلام يترتب عليه عمل في الشريعة يتوقف
عن ذلك.
فلا يمتنع أن يقول الشيخ للراوي: " خذ سماعي "، أو أن
يقول: " هذا سماعي "، ليروي عنه، ولكن بشرط أن يتحقق حال
روايته له فيما بعد، فإذا تحقق من ذلك وقال له: " اروه عني " فإنه
حينئذٍ يجوز للراوي أن يروي عنه، أما قبل أن يتلفظ بذلك فلا يجوز.
سابع عشر: حقيقة الوجادة هي: ما أخذ من العلم من صحيفة
من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، وهي عند الحدثين: أن
يجد الراوي شيئاً من الأحاديث مكتوباً بخط الشيخ الذي يعرفه ويثق
بأنه خطه حياً كان الكاتب أو ميتاً.
ولا تجوز الرواية هنا، فلا يجوز أن يقول: " حدَّثني، أو حدَّثنا،
أو أخبرني، أو أخبرنا فلان إجازة ولا غيرها "؛ لأن روايته بذلك
شهادة عليه بأنه قاله، وهذا ليس بصحيح، فيكون كذباً.
ولكن الشخص إذا وجد صحيفة مكتوبة بخط شيخه له أن يقول:
" رأيت مكتوباً في كتاب بخطٍ ظننت أنه خط فلان " يقول ذلك؛
لأن الخط قد يشبه الخط.
ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " يقبل قوله، ولكن لا
يروى عنه ما لم يأذن بروايته عنه بصريح قوله بأن يقول: " اروه عني "
- كما سبق - أو يكون الإذن بقريتة حاله في الجلوس لرواية الحديث.
تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب ووجده، ولم يذكر(2/779)
سماعه، ولا قراءته، لكن غلب على ظنه سماعه كما يراه من خطه
الذي توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز له روايته، والعمل به.
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، كما نسبه إليه الآمدي في
"الإحكام "، والإمام أحمد كما ذكر ذلك أبو يعلى في " العدة "،
وأبو الخطاب في " التمهيد "، واختاره أبو يوسف، ومحمد بن
الحسن، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله ".
وهذا هو الصحيح عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها، فقد كان الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - يعتمدون على كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ينقلها آحاد الصحابة، وكانوا يعملون بها مثل عملهم على كتب الصدقات، وعملهم على كتاب عمرو بن حزم، وهو الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في - الديات، وبعث به إلى أهل نجران، ثم رواه الناس عن آل عمرو بن حزم من بعده، كما ذكر ذلك النسائي، والدارقطني، فهذا من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب.
الدليل الثاني: أن الرواية قد بني أمرها على حسن الظن،
وغلبته، والمسامحة، ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أن الرواية
تقبل من العبيد والنساء، ولا تعتبر فيها العدالة الباطنة، كل ذلك
دل على خفتها، فإذا وجد الراوي سماعه، وغلب على ظنه أنه
سمعه كما يراه من خطه الذي توثق منه، فإنه تجوز الرواية بذلك،
والعمل به.(2/780)
المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، ولا يعمل به إلا أن يذكر
سماعه.
ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله "
وتبعه على ذلك بعض الحنفية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان
ذلك:
كما أنه لم يجز أن تؤدى الشهادة معتمداً على خطه - ولم يذكر
شهادته - فكذلك الخبر لا يجوز أن يرويه معتمداً على خطه إذا لم
يذكر سماعه؛ والجامع: أن كل واحد منهما يحتاج فيه إلى معرفة
المخبر عنه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن دليلكم مبني على قياس الرواية على الشهادة؛
ولا نسلم هذا القياس ولا يصح؛ لأمرين هما:
الأمر الأول: أنكم قستم على شيء لم يتفق عليه الخصمان؛
حيث إن المقاس عليه وهي - الشهادة - يجوز - فيها - أن يشهد إذا
عرف خطه، ولم يخرج عن يده، وإن لم يذكر شهادته هذا عند
بعض العلماء، ومنهم الإمام أحمد.
فإذا كان هذا يجوز في الشهادة فمن باب أوْلى جوازه في الرواية؛
حيث إن الشهادة آكد من الرواية، فحينئذ إذا وجد سماعه في كتاب
بخطه الذي يثق به، فإنه يجوز أن يرويه وإن لم يذكر سماعه.
الأمر الثاني: على فرض أن المقاس عليه متفق عليه وهو:(2/781)
أنه لا يشهد إذا عرف خطه، فإن قياسكم فاسد أيضاً؛ لأنه قياس مع
الفارق " حيث إنه اعتبر. في الشهادة من الاحتياط والتأكد ما لم يعتبر
مثله في الرواية كما سبق.
عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟
إن الراوي إذا شك في سماع حديث واحد من شيخه وتردد فيه:
هل سمعه منه أو لا؛ فإنه لا يجوز له أن يرويه عنه، فلو وجد في
مسموعاته عن الزهري - محمد بن مسلم المدني - حديثاً معينا شك
أنه سمعه من الزهري أم لا؛ لم يجز أن يرويه عنه ويقول: "سمعت
الزهري "، ولا يقول: " قال الزهري "، ولا يقول: " أخبرنا أو
حدَّثنا الزهري "، أو نحو ذلك.
دليل ذلك: أن روايته عنه، وقوله: " قال فلان "، أو "سمعت
فلاناً "، أو نحو ذلك يعتبر شهادة عليه، والشهادة لا بد فيها من
الجزم والعزم والعلم " حيث لا شهادة مع التردد والشك، ولا يوجد
علم مؤكد، - بل شك في سماعه، فلا يجوز أن ينسبه إليه مع هذا
الشك، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقراراً ولم يعلم أن
المقر زيد، أو عمرو، فلا يجوز أن يجزم أنه زيد كما لا يجوز أن
يجزم أنه عمرو.
واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث والتبس عليه مع غيره
فما الحكم؟
إن الراوي إذا روى كتاباً عنْ بعض المحدثين فيه مائة حديث
- مثلاً - وشك في سماع حديث واحد منها، ولم يستطع أن يعين هذا(2/782)
الحديث ولا تميزه من مسموعاته والتبس عليه، فالحكم والحالة هذه
أنه لا يجوز أن يروي شيئاً من جميع تلك الأحاديث المائة.
دليل ذلك: أن الرواية عنه تعتبر شهادة عليه، والشهادة لا تجوز
مع الشك والتردد، فهنا ما من حَديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي
لم يسمعه من شيخه، فلذلك يتركها جميعها احتياطا.
ثاني والعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في حديث أنه
مسموع من شيخه؛
إذا غلب على ظن الراوي أن حديثاً قد سمعه من شيخه - ولكنه
لم يقطع بذلك، فهل يجوز أن يرويه أو لا؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يجوز أن يرويه.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق؛ لأن الراوي العدل الثقة إذا غلب على ظنه وجود
شيء فهو صدق يجب العمل على مقتضاه في حين أنه لا معارض
لذلك، وغالب الأحكام مبناها على غلبة الظن، وهذا منها: فإن
الراوي العدل الثقة قد غلب على ظنه أنه سمع الحديث من شيخه،
فعليه أن يعمل بذلك فيرويه؛ عملاً بغلبة الظن.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، أي: لا يجوز للراوي أن
يروي حديثاً قد غلب على ظنه أنه سمعه من شيخه، بل لا بد من
الجزم في ذلك وإلا يتوقف.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الغزالي في " المستصفى".(2/783)
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيانه:
أن الشهادة لا بد فيها من العلم والجزم، فالشاهد يجب عليه أن
يتأكد ويتحقق؛ لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم، وكذلك
الراوي لا سبيل إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة
قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق ويتأكد من السماع، فلا يروي.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
أولهما: أن هذا قياس للرواية على الشهادة، وهو قياس فاسد؛
لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشهادة يحتاط فيها، ويحترز منها ويتأكد
منها، ويعتبر فيها أشياء لا تعتبر في الرواية كما سبق.
ثانيهما: أننا قلنا إذا غلب على ظن الراوي: أن هذا الحديث قد
سمعه من شيخه بأمارات وقرائن، فإنه يجوز أن يرويه ويعمل به؛
لأنه إذا غلب على ظنه فإنه يكون راجحاً، والعمل بالراجح متعين،
وجل الأحكام الشرعية مبنية على الظنون، ولو قصرنا ذلك على
القطع، لانتفت أكثر الأدلة مما يؤدي إلى تعطيل أكثر الحوادث بلا
أحكام.
ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً صريحاً؟
إذا أنكر الشيخ العدلى الحديث الذي رواه عنه الفرع - وهو الراوي
الفرع - إنكار جحود وتكذيب للفرع بصورة صريحة كقوله - مثلاً -:
" كذب عليَّ "، أو " ما رويت له قط ": فالحكم هنا: أن الحديث
لا يقبل، فيمتنع العمل بهذا الحديث اتفاقاً.(2/784)
دليل ذلك: أن كل واحد منهما - أعني: الشيخ والفرع الراوي
عنه - موصوف بالعدالة والثقة، وكل منهما مكذب للآخر فيما
يدعيه، فلا بد أن يكون أحدهما - غير معين - كاذب، وهذا
موجب للقدح في الحديث.
لكن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين؛ لأنه وقع
الشك في كذبه، والأصل العدالة، وهي متيقنة، فلا يترك اليقين
بالشك.
وفائدة ذلك: تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك
الحديث الذي أنكره الشيخ، هذا إذا كان الإنكار صريحاً.
رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير
صريح وهو التوقف؟
إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير صريح بأن يقول - مثلاً -:
"لست أذكر ذلك الحديث "، أو نحو ذلك: فقد اختلف العلماء هل
يقدح ذلك الإنكار في الحديث فلا يقبل، أو لا يقدح فيقبل؛ على
مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يقدح في الحديث، بل يقبل ويُعمل به.
ذهب إلى دلك الإمام مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه،
وجمهور العلماء، وبعض الحنفية كمحمد بن الحسن.
وهو الصحيح عندي، لدليلين:
الدليل الأول: أن الراوي - وهو الفرع - موصوف بالعدالة
والثقة، وقد روى هذا الحديث، وقد جزم بهذه الرواية عن الشيخ
في حين أن الشيخ لم يكذبه، ولم ينكر حديثه على وجه العزم، بل(2/785)
كل ما قاله: " لست أذكره "، وهذا لا يفيد إنكاره بصراحة، فهذا
كله يقتضي ترجيح صدق الراوي - وهو الفرع -، وإذا كان صادقا
فيجب قبول الحديث الذي رواه والعمل به.
أما قول الشيخ، فإنه يحمل على أنه قد نسي هذا الحديث، لأن
النسيان غالب على الإنسان، ولا يمكن لأي شخص أن يتذكر كل ما
حفظ في عمره في لحظة واحدة.
الدليل الثاني. ما ثبت في سن أبي داود عن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن - ربيعة الرأي - عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمن مع الشاهد، فذكر ذلك لسهيل فقال:
"أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه، ولا أحفظه،
فلم ينكره أحد من التابعين، فكان ذلك إجماعاً على قبول الحديث
والعمل به، إذا رواه الراوي وإن لم يذكره الشيخ.
ما وجه إلى هذا الدليل من الاعترضات:
الاعتراض الأول: قال المعترض فيه: إن هذه القصة لا حُجَّة
فيها، لاحتمال أن سهيلاً قد ذكر الرواية لما روى ربيعة عنه، ومع
الذكر فالرواية تكون مقبولة.
جوابه:
يجاب عنه بأن النص الذي ذكره أبو داود في سننه يُضعِّف هذا
الاعتراض، حيث قال سهيل: " أخبرني ربيعة أني حدَّثته إياه " فلو
صح ما قاله ذلك المعترض - وهو أن سهيلاً قد تذكر - لما ذكر
ربيعة، إذ لا حاجة إلى ذلك، ولروى سهيل عن شيخه مباشرة كما
لو نسي ثم تذكر بنفسه، ولكنه ذكر ربيعة، فهذا يقوي ما قلناه.
الاعتراض الثاني: قال المعترض: إنكم قلتم بأن التابعين قد(2/786)
أجمعوا على جواز مثل ذلك، ولا نسلم ذلك الإجماع؛ إذ لا دليل
عليه، وعلى فرض صحة الإجماع، فإنه لا يلزم منه وجوب العمل
بالحديث إذا أنكره الشيخ إنكار توقف؛ حيث إن سهيلاً لم ينقل ذلك
عن طريق تصحيح روايته، وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة
بزعمه، وهذا لا يدل على وجوب العمل، وإنما يدل على جواز
قول الأصل بعد النسيان: " حدثني الفرع عني "، وهذا لا يلزم منه
وجوب العمل ولا جوازه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إجماع التابعين صحيح؛ لأنه لم ينكر أحد على
سهيل فيما قاله؛ إذ لو وجد إنكار لنقل، ولكن لم ينقل شيء من
ذلك فيعتبر ذلك إجماعاً سكوتياً، وبناء على هذا الإجماع فإنه يلزم
العمل بمقتضى الخبر.
المذهب الثاني: أن إنكار الشيخ للحديث إنكاراً غير صريح يقدح
في الحديث فلا يقبل.
ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، ومنهم أبو الحسن الكرخي،
والجصاص، وأبو زيد الدبوسي، وأبو عبد اللَّه الصيمري،
والبزدوي، والنسفي، وهو ظاهر كلام السرخسي في أصوله،
ونسبه إلى أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذ. االمذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان
ذلك:
أنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فإذا نسي شاهدا(2/787)
الأصل الشهادة وقالا: لا نذكر ولا نحفظ شيئاً: ففي هذه الحالة لا
يجوز للحاكم العمل بشهادة شاهدي الفرع، فكذلك هنا في
الرواية، فإن الأصل - وهو الشيخ المروي عنه - لم يصدِّق الفرع -
وهو الراوي عنه، وإنما توقف في ذلك ونسي ما رواه الفرع عنه،
فلا يجوز العمل بروايته عنه بجامع: الفرعية والنسيان في كل منهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأنكم قستم الرواية على الشهادة في ذلك، وهذا
القياس فاسد؛ لأن قياس مع الفارق؛ حيث إنا بينا - فيما سبق -
أن الشهادة تفارق الرواية وتختلف عنها في أمور كثيرة؛ فباب الشهادة
أضيق من باب الرواية وأغلظ حكماً، وقد اعتبر في الشهادة من
الاحتياط والشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية، فكيف يقاس
أحدهما على الآخر مع الاعتراف بتلك الفروق.
ومن هذه الفروق بينهما - مما يخص الموضوع الذي نحن
بصدده -: أن شهادة الفرع - وهو الذي شهد على شهادة الأصل - لا
تسمع مع وجود شاهد الأصل والقدرة على سماع الشهادة منه مباشرة
على مذهب جمهور العلماء.
بخلاف الرواية: فإن رواية الفرع تسمع وتقبل ويعمل بها مع
القدرة على السماع من الأصل وهو الشيخ.
دل على ذلك ما يلي:
1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله وسعاته أفراداً وجماعات إلى القبائل، وأطراف البلدان، فيخبرون المسلمين في هذه البلدان بما جد من الأحكام الشرعية، فكان هؤلاء يسمعون ذلك ويلزمون أنفسهم(2/788)
بالعمل بتلك الأعمال أخذاً من هؤلاء الرواة، ولا يرجعون إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - مع استطاعتهم على الرجوع إليه.
2 - أن أهل قباء تحولوا من التوجه إلى بيت المقدس إلى الكعبة
بقول واحد، ولم يرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع استطاعتهم على ذلك.
3 - أنه كان أبو طلحة، وأبو عبيدة، وأبي بن كعب يشربون
الخمر - قبل أن تحرم - فجاء آتٍ، وقال لهم: إن الخمرة قد
حرمت، فقبلوا ذلك منه، فأمروا أنساً بإراقة ما في الجرار من الخمر
فهؤلاء عملوا بهذا الخمر، دون مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع القدرة على ذلك.
فهذه أدلة على أن رواية الفرع تسمع ويعمل بها مع القدرة على
سماع رواية الأصل.
أما الشهادة على الشهادة فلا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على
سماع شهادة الأصل.
فإذا افترقا في ذلك، فإنهما كذلك يفترقان في هذه المسألة،
وهي: أن شاهد الأصل إذا نسي الشهادة، فإنه لا يجوز العمل
بشهادة شاهد الفرع.
بخلاف الرواية، فإن راوي الأصل - وهو الشيخ - إذا نسي
الرواية فإنه يجوز للراوي - وهو الفرع - أن يروي وتقبل روايته،
وذلك لأن الرواية يتوسع فيها أكثر من الشهادة كما سبق بيانه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وهو واضح.(2/789)
المسألة السابعة عشرة: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟
المسألة تحتاج إلى تفصيل:
أولاً: إن كانت الزيادة مخالفة للمزيد عليه، بحيث لا يمكن
الجمع بينهما: كانا متعارضين، ولا يمكن أن نرجح أحدهما إلا
بمرجح خارجي.
ثانياً: وإن كانت الزيادة غير مخالفة للمزيد عليه، بل موافقة
مثل: " ما روي أن - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فصلى بين العمودين
اليمانيين " وما روي: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وكبر، ولم يصل فيها "، فهنا لا تنافي بين الروايتين، وفي ذلك تفصيل كما يلي:
1 - إن علم تعدد المجلس: قبلت الزيادة اتفاقاً؛ لأنه لا يمتنع أن
يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة في مجلس، ويتركها في مجلس آخر، فيكون راوي الزيادة قد حضر المجلس الذي ذكرت فيه تلك الزيادة،
أما الآخر فلم يحضر ذلك المجلس.
2 - إن لم نعلم ذلك، أي: جهلنا أن المجلس متعدد، أو
متحد، فإنا نقبل تلك الزيادة؛ لأن ذاكر تلك الزيادة قد توفرت فيه
شروط الراوي، ومنها: العدالة والثقة، فيترجح صدقه، وإذا
ترجح صدقه وجب قبول قوله، والمعارض له لم ينف احتمال تعدد
المجلس.
3 - إن علمنا أن المجلس واحد ففيه تفصيل:
(أ) فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً، والذي نقل الخبر بدون
زيادة جماعة، لا يجوز في العادة ذهولهم عما ضبطه الراوي الواحد
وانفرد به: فإن الزيادة - حينئذٍ - لا تقبل؛ وذلك لأن تطرق الخطأ(2/790)
والسهو والغفلة إلى الواحد فيما نقله من الزيادة أقرب من تطرق ذلك
إلى هؤلاء الجماعة.
(ب) أما إن كان الذي نقل تلك الزيادة واحد، والذي نقل الخبر
بدون زيادة واحد أيضاً، ففيه تفصيل:
إن كان ناقل الزيادة أشهر ممن لم ينقل الزيادة بالحفظ والضبط
والعدالة والثقة، فإن الزيادة تقبل لتلك الشهرة بالأوصاف السابقة.
وإن كان العكس فالعكس، أي: إن كان الذي لم ينقل الزيادة
أشهر ممن نقل الزيادة بالحفظ والضبط والثقة والعدالة: لم تقبل تلك
الزيادة.
أما إن تساويا في جميع تلك الأوصاف، أي: أن ناقل الزيادة
قد تساوى مع من لم ينقل الزيادة في الحفظ والضبط والعدالة وجميع
شروط الراوي، فهذا هو الذي اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة تقبل مطلقا، سواء كانت تلك
الزيادة معنوية كما سبق، أو لفظية، كما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في رواية: " إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد "، وروي عنه أنه قال: " ربنا لك الحمد " بحذف الواو.
وهذا هو الحق عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن العدل الثقة لو انفرد بنقل حديث لقبل،
فكذلك لو انفرد بزيادة ولا فرق بجامع: رواية العدل الثقة الجازم
لكل منهما.
الدليل الثاني: أن من أتى بالزيادة قد وصف بالعدالة والثقة، وقد
جزم بتلك الزيادة، ولم يوجد له مخالف، فهذا يغلب صدقه على(2/791)
كذبه، وإذا غلب صدقه فلا يجوز تكذيبه، وإذا لم يجز تكذيبه
فيجب قبول ما أتى به من الزيادة.
الدليل الثالث: أن انفراد الثقة العدل بحفظ زيادة في الحديث غير
ممتنع عقلاً ولا شرعا؛ لأنه ممكن وواقع - كما سبق - وما دام أنه
يمكن رواية الزيادة، فإنه يجب قبولها؛ نظراً لورودها من شخص قد
اتفق على قبول كل ما رواه.
المذهب الثاني: أن تلك الزيادة لا تقبل.
ذهَب إلى ذلك بعض الظاهرية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ تلك الزيادة مع
إصغاء الآخر للحديث واستماعه له مع اتحادهما بالثقة والعدالة
والضبط والحفظ، فتكون هذه الزيادة قد توهمها من أتى بها فلا
تقبل.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن الراوي قد قطع بسماع تلك الزيادة،
والآخر ما قطع بنفيها، وكون ذلك الراوي لم ينقل تلك الزيادة التي
تفرد بها ذلك الراوي، فلاحتمالات كثيرة.
منها: كون راوي الزيادة قد. حضر جميع المجلس، بينما الذي لم
يرو الزيادة قد دخل في أثناء المجلس، ففاته ما قيل في أوله.
ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما
قيل فيه، أما الذي لم يورد الزيادة، فإنه حضر أول المجلس، ثم
خرج في آخره لشيء أوجب خروجه وقيامه.(2/792)
ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما
قيل فيه، أما الآخر وهو الذي لم ترد الزيادة في حديثه، فإنه عرض
له في أثناء المجلس ما يزعجه ويدهشه عن الإصغاء لكلام الشيخ.
ومنها: أن الذي لم يرو الزيادة قد نسيها، بينما حفظها الآخر.
وغير ذلك من الاحتمالات، وإذا تطرقت هذه الاحتمالات فلا
يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ زيادة.
الدليل الثاني: أنه قد جرت عادة الراوي بتفسير الحديث، فيزيد
لفظاً من أجل ذلك، فربما ظنها من سمع منهم أنها من قول النبي
- صلى الله عليه وسلم - فيرويها، وليست من قوله.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا بعيد جداً، لأن العدل الثقة الضابط المثبت
يظهر من حاله أنه لا يدرج في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس.
ولو قبلنا مثل هذا الاحتمال فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق
إليه مثل ذلك الاحتمال، مما يؤدي إلى الشك في جميع الأحاديث
أن فيها زيادات، وهذا يبطلها كلها - وهذا لا يمكن -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي له أثره في الأحكام الفقهية، وهو واضح،
فعلى مذهبنا وهو المذهب الأول، فإنه يؤخذ، ويعمل بما دلَّ عليه
الخبر، وما دلت عليه الزيادة، وعلى المذهب الثاني فإنه يعمل بما دل
عليه الخبر فقط، ولا يعمل بما دلت عليه الزيادة.(2/793)
المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه:
إذا روى الراوي العدل حديثا، وروي عنه: أنه قد عمل بخلافه،
فهل نعمل بالحديث، ونترك عمله المخالف له أو نترك الحديث ونعمل
بما رآه وعمل به؟
الحق أن في ذلك تفصيلاً هو كما يلي:
أولاً: إن علمنا مأخذه ودليله على مخالفته للحديث الذي رواه،
وكان هذا المأخذ وهذا الدليل مما يوجب حمل الحديث على ما ذهب
إليه وجب اتباع ذلك الدليل، وترك الحديث لأجل ذلك الدليل
الذي أوجب مخالفته، لا لأن الراوي عمل به؛ لأنه ليس عمل أحد
المجتهدين حُجَّة على المجتهد الآخر.
ثانياً: إن جهلنا مأخذه ودليل الراوي على مخالفة الحديث الذي
رواه، فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنة يجب العمل بالحديث، وترك عمل الراوي
مطلقا.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الراوي قد توفرت فيه شروط الرواية، وقد
جزم بروايته للحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الأصل في وجوب العمل بالحديث.
أما عمل الصحابي بخلاف ما روى فيتطرق إليه عدة احتمالات:
ومنها: احتمال أنه قد نسى الحديث، ومنها: احتمال أنه قد
حمل الحديث على أحد محامله وقد أخطأ فيه، ومنها: أنه قد اطلع(2/794)
على وجود ناسخ للحديث، وقد يكون ناسخا في ظنه، ولا يكون
ناسخاً عند غيره من المجتهدين، ومنها: احتمال أنه خالفه لدليل
أقوى من الحديث وقد أخطأ فيه، أو هو مما يقول به دون غيره مق
المجتهدين كما فعل الإمام مالك، حيث ترك حديث خيار المجلس؟
لأنه خالف إجماع أهل المدينة، وإذا تردد عمل الراوي بين تلك
الاحتمالات، فلا يترك ما جزم به، وهو ثبوت الحديث عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - من أجل شيء دخله الشك والاحتمال.
الدليل الثاني: أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حُجَّة، وقول الراوي أو عمله ليس بحُجَّة، وبناءعلى ذلك لا يقدم ما ليس بحُجَّة على ما
هو حُجة.
المذهب الثاني: أنه يقدم عمل الراوي، ويترك الحديث الذي رواه.
ذهب إلى ذلك كثير من الحنفية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الراوي قد ترك العمل
بالحديث إما لأمر أوجب الترك، أو فعل ذلك تحكماً.
فإن فعل ذلك تحكماً فهذا باطل؛ لأن عدالته تمنع من ذلك.
فلم يبق إلا الأول وهو: أنه قد ترك العمل بالحديث لأمر أوجب
الترك، فيجب متابعته في ذلك؛ لأن حسن الظن بالراوي يقتضي
تقديم ما فعله على ما رواه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الأمر الذي اقتضى ترك العمل بالحديث قد(2/795)
يكون ثابتاً عنده بالاجتهاد كما قلنا في الاحتمالات السابقة، وما ثبت
عنده قد يكون غير ثابت عند غيره من المجتهدين، فما ظهر في نظره
لا يكون حُجَّة على غيره، وإذا احتمل هذا وهذا فلا يترك النص
الذي لا احتمال فيه لأمر محتمل.
ويدل على حسن الظن بالراوي المخالف لروايته: أننا قد عملنا
بالحديث الذي خالفه؛ إذ لو كنا نسيء الظن به لما علمنا بروايته
أصلاً، أما عمله الذي خالف به ما رواه فلا نعمل به؛ نظراً لما يعتريه
من الاحتمالات التي ذكرنا بعضها.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في بعض المسائل الفقهية
ومنها:
1 - هل يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً أو ثلاثا؛ على
قولين:
القول الأول: أنه يجب غسل الإناء من ذلك سبع مرات لحديث
أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ... "، وهذا هو قول أصحاب المذهب الأول السابق وهم الجمهور.
القول الثاني: أن الواجب غسل الإناء من ذلك ثلاث مرات؛
لأن أبا هريرة قد خالف ما رواه وغسل ثلاثا، وهو قول أكثر الحنفية.
2 - هل يشترط الولي في النكاح؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يشترط الولي في النكاح.
وهو مذهب أصحاب المذهب الأول السابق في المسألة مستدلين(2/796)
بحديث عائشة وهو: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل.. ".
القول الثاني: أنه لا يشترط الولي في النكاح.
وهو قول أصحاب المذهب الثاني، وهم أكثر الحنفية مستدلين بأن
عائشة قد زوجت ابنة أخيها عبد الرحمن بدون إذنه على المنذر بن
الزبير، وبهذا خالفت ما روته، وبهذا يسقط الاستدلال بذلك
الحديث.
وقد بحثت هذه المسألة بالتفصيل في كتاب سميته " مخالفة
الصحابي للحديث النبوي الشريف " قد طبع في مجلد فارجع إليه إن شئت.
***
المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد:
الحق: أنه إذا عمل أكثر الأمة بما يخالف حديثا من الأحاديث،
فإنه يعمل بالحديث، ويترك عمل الأكثر؛ لأن عمل أكثر الأمة حجة
ظنية، وخبر الواحد وإن كان يفيد الظن في سنده إلا أننا نرجح
العمل به؛ لأن الراوي العدل قد جزم بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون قولا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله حُجَّة فيعمل به لذلك.
***
المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس:
لقد اختلف في ذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه إذا تعارض خبر الواحد مع القياس، فإنه يقدم
خبر الواحد مطلقا.(2/797)
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق " للأدلة التالية:
الدليل الأول: حديث معاذ، وهو أنه لما بعثه إلى اليمن قال له:
" بِمَ تقضي؛ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ "
قال: بسُنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: " فإن لم تجد؟
" قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر معاذاً على تقديم السُّنَّة على العمل بالاجتهاد الذي يعتبر القياس نوعا من أنواعه من غير تفريق بين السُّنَّة المتواترة والسنَّة الآحادية، وهذا يفيد تقديم الخبر على القياس
إذا تعارضا.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة السكوتي على تقدرم خبر الواحد
على القياس.
بيان ذلك: أن بعض الصحابة كانوا إذا حدثت حادثة فإنهم
يبحثون عن حكمها في كتاب اللَّه، فإن لم يجدوا فيه، بحثوا عنه
في السُّنَّة، فإن لم يجدوا حكمها اجتهدوا بأنواع الاجتهادات،
ومنها: القياس، فكانوا لا يستدلون بقياس ولا بغيره من أنواع
الاجتهادات إلا إذا لم يجدوا نصا، كان هذا فعل بعضهم، ولم
ينكر عليهم أحد؛ إذ لو أنكر لبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من
ذلك، فكان إجماعا سكوتيا، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومنها: أن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب قضى
بالإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر،
وفي التي تفي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست، فحكم بذلك لما
عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة(2/798)
أطراف مختلفة الجمال والمنافع، فحكم لكل واحد من الأطراف
بقدره من دية الكف، وهذا يعتبر قياسا على الخبر، ووافقه من سمع
من الصحابة على ذلك، فلما علم بكتاب عمرو بن حزم في
الديات، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه:
" وفي كل إصبع مما هنا لك عشر من الإبل "
رجع إليه هو ومن وافقه من الصحابة.
ومنها: أنه كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من دية زوجها
اجتهاداً؛ لأن الميراث يثبت بملكه قبل الموت، وهو لا يملك الدية
قبله، فلما علم بخبر الضحاك بن سفيان وهو: أنه كتب إليه النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "أن أرث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها " رجع إليه، وعمل به دون إنكار من الصحابة، فهذا يدل على أن خبر الواحد مقدم على الاجتهاد مطلقاً، سواء كان قياسا أم لا.
الدليل الثالث: أن خبر الواحد قول للمعصوم، وهو - صلى الله عليه وسلم - وكلامه، أما القياس فإنه اجتهاد المجتهد واستنباطه، وإذا تعارض
كلام المعصوم، وكلام غيره، فإنه يقدم كلام المعصوم؛ لأنه يثير
غلبة الظن بصورة أبلغ وأقوى من كلام غيره، فخبر الواحد أغلب
على الظن من القياس، فيجب تقديمه عليه.
المذهب الثاني: أن القياس يقدم على خبر الواحد مطلقا.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والمالكية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن القياس أقوى من خبر
الواحد؛ لأن الاحتمالات تتطرق إلى الخبر أكثر من تطرقها إلى
القياس، بيان ذلك:(2/799)
أن خبر الواحد يحتمل فسق أحد الرواة، ويحتمل ذهول أحد
الرواة وغفلته وسهوه، ويحتمل الخبر النسخ والتجوز والإضمار، أما
القياس فلا يحتمل شيئاً من ذلك، وغير المحتمل يقدم على المحتمل،
فيقدم القياس على الخبر.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أننا بينا أن الراوي المقبول خبره يشترط فيه أربعة
شروط هي: (لإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فهذه
الاحتمالات بعيدة جداً إذا توفرت هذه الشروط حقيقة في ذلك
الراوي.
الجواب الثاني: أن هذه الاحتمالات كما تتطرق إلى الخبر تتطرق
- أيضاً - إلى القياس إذا كان أصله خبراً.
المذهب الثالث: التفصيل بين الرواة.
فإن كان الراوي فقيها كالخلفاء الأربعة، والعبادلة، وزيد بن
ثابت، ومعاذ، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري،
فإن خبره يقدم على القياس إذا عارضه.
وإن كان الراوي غير فقيه كأبي هريرة، وأنس، وسلمان، وبلال،
فإن القياس يقدم على خبره إذا تعارضا، وهذا عند الضرورة.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن الراوي نقل
الحديث بالمعنى على حسب فهمه وأخطأ في ذلك، ولم يدرك مراد(2/800)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا كان مخالفا للقياس من كل وجه، فلهذه الضرورة
يترك الحديث ويعمل بالقياس.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه هذا التفريق بين الرواة لا دليل صحيح عليه،
وما لا دليل عليه فلا يعتد به.
وما ذكرتموه من احتمال أن الراوي نقل الحديث بالمعنى وأخطأ فيه،
وأنه لم يدرك مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا بعيد جدا مع ظهور عدالة الراوي، لا سيما الصحابة الذين قد عدلهم اللَّه ورسوله - كما سبق بيانه -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي، وقد أثر في كثير من مسائل الفقه
ومنها:
1 - إذا مات زوج عن امرأته بعد العقد وقبل الدخول، فهل لها
المهر أو لا؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن لها مهر مثلها.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء مستدلين بما روي عن ابن مسعود
أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أرى أن لها مهر مثيلاتها وعليها العدة
ولها الميراث، فقال معقل بن سنان الأشجعي: أشهد أنك قضيت
فيها بقضاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق من جماعتنا.
القول الثاني: أنه لا مهر لها.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الإمام مالك ورد الحديث(2/801)
بأنه مخالف للقياس، وذلك لأن المهر عوض عن الاستمتاع بالبضع،
فلما لم يقبض المعوض - وهو البضع - لم يجب العوض؛ قياسا
على البيع.
2 - هل يجب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا قضاء عليه.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه اللَّه وسقاه ".
القول الثاني: أنه يجب القضاء عليه.
ذهب إلى ذلك بعض المالكية، ولم يعملوا بالحديث؛ لأنه على
خلاف القياس، فإن الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات،
والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات.
***
المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى:
المراد بذلك: أن يرد خبر واحد ويدل على حكم شرعي يحتاج
كل أحد من المكلَّفين إلى معرفته مع كثرة تكرره ووقوعه، كان يتعلق
بأحكام الوضوء، أو الصلاة، ونحو ذلك مما تشتد حاجة المكلَّفين
إلى معرفة حكمه مثل: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من مس ذكره فليتوضأ "، ونحوه.
فإذا روى واحد خبراً تعم به البلوى هل يقبل؟
اختلف في ذلك عاى مذهبين:
المذهب الأول: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول.(2/802)
ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء.
وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي على ذلك: فقد قبل
الصحابة - رضي اللَّه عنهم - خبر الواحد فيما تعم به البلوى
وعملوا به دون أن ينكر ذلك أحد منهم؛ إذ لو وقع إنكار لبلغنا
ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فيكون إجماعاً سكوتيا، ومن أمثلة
ذلك ما يلي:
1 - أنهم قبلوا خبر عائشة وهو:
" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ".
2 - أنهم قبلوا خبر رافع بن خديج: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة ".
3 - أنهم قبلوا خبر الغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء
الجدة السدس.
فهنا كل واحد من هذه الأحاديث مما تعم به البلوى، وانفرد
بروايته واحد، ومع ذلك فقد قبلها الصحابة وعملوا بها دون نكير.
الدليل الثاني: أن هذا الراوي لهذا الخبر فيما تعم به البلوى عدل
ثقة قد جزم بتلك الرواية، فهذا يغلب على الظن صدقه، وإذا كان
كذلك فيجب تصديقه؛ لأن العمل بالغالب واجب، فيقبل خبره؛
قياساً على خبر الواحد فيما لا تعم به البلوى.
المذهب الثاني: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يقبل، ولا
يعمل به.
ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية وعلى رأسهم: أبو الحسن الكرخي(2/803)
وعيسى بن أبان، والجصاص، وبعض المالكية كمحمد بن خويز
منداد، نقله عنه الباجي في " إحكام الفصول "، واختاره أبو
العباس بن سريج من الشافعية، كما نقله عنه صاحب الكبريت
الأحمر.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول قالوا فيه: إن الدواعي متوفرة على نقل خبر الواحد
فيما تعم به البلوى على سبيل الشهرة والاستفاضة، نظراً لحاجة
عموم المكلَّفين إليه، وكثرة سؤالهم واستفسارهم عنه، وإذا كثر
السؤال كثر الجواب، وإذا كثر الجواب كثر ناقليه من الرواة، فيبعد
كل البعد أن يخفى حكم ما يقع للمكلفين بكثرة، فإذا لم يروه - مع
ذلك - إلا واحد وانفرد به دلَّ على كذبه، وأنه لا أصل له كانفراد
الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه إنما يلزم توفر الدواعي على نقله أن لو كان لا
طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر، وأما إذا كان طريق معرفة ذلك
إنما هو الظن، فخبر الواحد يكفي فيه، ولهذا يجوز إثبات ما تعم
به البلوى بالقياس اتفاقاً.
ولا نسلم ما قلتموه من أنه يلزم من كثرة الاستفسارات والأسئلة
والأجوبة عنها أن يكثر النقل، بل إنه يجوز أن تكثر الأجوبة، ولا
يكثر الناقلون، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: شروط البيع،
وشروط النكاح، والأذان والإقامة، فإنها نقلت وثبتت بخبر الواحد
وهي مما يفعل في كل يوم، ولم ينقل نقلاً عاما، والسبب في(2/804)
ذلك: انشغال الصحابة بأمورهم الخاصة والعامة وانشغالهم بالجهاد،
وإذا كان هذا جائزاً فإنه يجوز كثرة الأجوبة دون كثرة الناقلين.
الدليل الثاني قالوا فيه: إن ما تعم البلوى به كخروج النجاسة من
السبيلين يوجد كثيراً، ويتكرر في كل وقت، فيجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إشاعته، وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به، بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته؛ لأن عدم إشاعته يؤدي إلى إخفاء بعض
الأحكام الشرعية، وإبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون، ولما
كان هذا الخبر مما تعم به البلوى لم ينقله إلا الواحد، فإن هذا مما
يثير الشك في ثبوته، والحديث المشكوك في ثبوته لا يقبل.
جوابه:
يجاب عنه: بأن ما ذكرتموه إنما يصح أن لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلَّفه الّه تحالى بإشاعة الأحكام على لسان أهل التواتر، وهذا غير مسلم، فليس من شرط الخبر الذي تعم به البلوى أو غيره أن يشيعه
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل الحق في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكلَّف بإشاعة بعض الأحكام، ورد الخلق في بعضها الآخر إلى خبر الواحد؛ لأن مصلحة الخلق اقتضت ذلك؛ قياساً على حديث الأشياء الستة، فقد بين فيه: أنه لا يجوز الربا في البر - فقط - فقاس العلماء عليه كل المطعومات بجامع: الطعم في كل، وكان يسهل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم أن يقول: " حرمت الربا في المكيل أو في المطعوم " حتى يستغنى عن الاستنباط والقياس على الأشياء الستة،
وما فعل ذلك إلا لمصلحة أرادها الشارع، كذلك يقال هنا: من
الجائز أن تقتضي مصلحة الخلق ردهم فيما تعم به البلوى إلى خبر
الواحد.(2/805)
- أما ما ذكروه من أنه يلزم من عدم إشاعته إبطال صلاة أكثر الخلق،
فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لا يلزم العمل بأي خبر إلا بشرط بلوغ
ذلك الخبر إليهم، فمثلاً: من لم يبلغه حديث الوضوء من مس
الذكر، فإنه غير ثابت في حقه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية
ومنها: -
1 - هل ترفع اليدان عند الركوع والرفع منه؟
اختلف في ذلك
على قولين:
القول الأول: إن المصلي يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه
كما يفعل ذلك عند تكبيرة الإحرام، وهو مذهب الجمهور مستدلين
بحديث ابن عمر أنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع
الله لمن حمده.. ".
القول الثاني: إن المصلي لا يرفع يديه عند الركوع ولا عند الرفع
منه.
ذهب إلى ذلك الحنفية وبعض العلماء من غيرهم مستدلين بحديث
ابن مسعود أنه قال: " لأصلين لكم صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فصلى فلم يرفع يديه إلا مرد واحدة "، ولم يعمل هؤلاء بحديث ابن عمر مع أنه في الصحيحين؛ لأنه من باب ما تعم به البلوى، فكان من
حقه أن يشتهر ولم يشتهر.
2 - هل مس الذكر باليد ينقض الوضوء؟
اختلف في ذلك على قولين:(2/806)
القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء، وهو مذهب
الجمهور وقد استدلوا بحديث بسرة بنت صفوان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ ".
القول الثاني: أن مس الذكر غير ناقض للوضوء، وهو مذهب
أكثر الحنفية، وقد استدلوا بحديث قيس بن طلق عن أبيه طلق بن
عليّ أنه سأل - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من مس الذكر، فقال " لا، هل هو إلا بضعة منك "، ولم يأخذوا بحديث بسرة، لأنه خبر
واحد فيما تعم به البلوى.
المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات:
خبر الواحد إذا ورد بإيجاب حد أو نحوه مما تسقطه الشبهة، فهل
يقبل ذلك الخبر، ويثبت به أصل الحد والعقوبة؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الوارد بإثبات حد، أو ما يجري
مجراه مما تسقطه الشبهة يقبل مطلقاً.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قياس خبر الواحد في الحدود على خبر الواحد في
غير ذلك، بيانه:
أنه كما وجب قبول خبر الواحد فى غير الحد من سائر الأحكام
الشرعية، فإنه يجب قبول خبر الواحد في الحدود وما يجري مجراها(2/807)
مما تسقطه الشبهة، ولا فرق بينها، والجامع: أن الراوي في ذلك
كله عدل ثقة جازم في الرواية، ولم يعارضه مثله.
الدليل الثاني: أن أدلة حجية خبر الواحد عامة لجميع أخبار
الآحاد، فلم تفرق بين ما ورد بإثبات حد، أو بغير ذلك، ولا
يوجد دليل صحيح على التفريق بينهما.
الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:
أن شهادة الشهود توجب غلبة الظن، والاحتمال فيها متطرق،
ومع ذلك تثبت بها - أي بالشهادة - الحدود وما يجري مجراها مما
تسقطه الشبهة، فإذا كان الأمر كذلك في الشهادة وهي آكد، فمن
باب أَوْلى قبول خبر الواحد الوارد في إثبات الحدود، قياساً عليها،
ولا فرق بينهما، والجامع: إفادة الظن، وتطرق الاحتمال لكل
منهما.
المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الواحد الوارد بإثبات الحدود،
وما يجري مجراها مما تسقطه الشبهة.
حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي، واختاره أبو عبد اللَّه البصري،
والسمرقندي في " ميزان الأصول "، وهو ظاهر كلام أبي عبد الله
الصيمري في " مسائل الخلاف "، والبزدوي في " أصوله "،
والسرخسي في " أصوله ".
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد لا يفيد إلا
الظن، فهو غير مقطوع في صحته، فصار فيه شبهة الغلط، وشبهة
الكذب، فلم يثبت كونه خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق القطع، بل إن(2/808)
الشبهة والحدود وضعت أصلاً على أنها تسقط بالشبهات؛ لما روي
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ادرأوا الحدود بالشبهات "، فعلى هذا: لا يجوز إثبات الحدود وما يجري مجراها بخبر الواحد؛ نظراً لتطرق الشبهة إلى ذلك.
جوابه:
يجاب عن ذلك بما يلي:
1 - قولكم: " إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وما دام كذلك
ففيه شبهة الغلط والكذب " ظاهر البطلان؛ لأن الحدود تثبت بما لا
يفيد إلا الظن مثل " الشهادة " - كما سبق -، ومثل " القياس "
فهو لا يفيد إلا الظن ومع ذلك فإن الحد يثبت به.
2 - استدلالكم بحديث: " ادرأوا الحدود بالشبهات "
لا نسلمه؛ لوجهين:
الوجه الأول: أن لفظ " الشبهة "، أو " الشبهات " لم يرد في
الحديث، والحديث الذي روته عائشة - رضي اللَّه عنها - ورد
بلفظ: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " - أخرجه الحاكم في
" المستدرك " وقال " صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي
في " مختصره "، فقال: فيه يزيد بن زياد - وهو من رواة الحديث -
قال فيه النسائي: متروك، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في "سننهما"
مرفوعاً، وقال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب، وللحديث
طريق آخر عن عليّ - رضي اللَّه عنه - مرفوعاً بنفس اللفظ السابق.
قال الزيلعي في " نصب الراية " - لما ذكر ما سبق -: " ولكن في
إسناده رجل ضعيف ".
الوجه الثاني: على فرض صحته، وعلى فرض ورود لفظ(2/809)
"الشبهة أو الشبهات " في الحديث، فإن المراد بالشبهة هنا هي:
الشبهة في الفاعل كأن يكون جاهلاً للتحريم، أو زائل العقل، أو
الشبهة في الفعل، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، أو أمَته، أو الشبهة
في المفعول به، كأن تكون الموطوءة أَمَة ابنه، أو أمَة مشتركة.
فتكون الشبهة - على هذا - في نفس السبب، لا في المثبت.
إذن لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية،
فأصحاب المذهب الثاني لا يعملون بخبر الواحد الوارد بإثبات حد
بمجرده، بل يشترطون أن يؤيد بدليل آخر.
أما أصحاب المذهب الأول: فإنهم يعملون بخبر الواحد الوارد
بإثبات حدود وما أشبه ذلك بمجرده.
المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه تجوز رواية الحديث بالمعنى.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل بشروط هي كما
يلي:.
الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما مكلفا، ضابطا عدلا -
وهو شروط الراوي السابقة الذكر - مع معرفته بدلالات الألفاظ،(2/810)
وصيغ الخطابات وأساليبها واستعمالاتها، بأن يكون مفرقا بين أقسام
المنطوق، والمفهوم، ومفرقاً بين عبارة النص، وإشارته، ودلالته،
واقتضائه، ومفرقاً بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر
والعام والأعم، واشترطنا ذلك حتى تكون روايته لمعنى الحديث
مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، فإن كان جاهلاً بذلك فلا تجوز
له رواية الحديث بالمعنى.
الشرط الثاني: أن يبدل لفظة بما يرادفها، ولم يختلف الناس في
هذا الترادف كأن يبدل لفظ " الجلوس " بلفظ " القعود "، ويبدل
لفظ " الصب " بلفظ " الإراقة "، ولفظ " الاستطاعة " بلفظ
"القدرة"، ونحو ذلك مما لا يتطرق إليه تفاوت الاستنباط والفهم بين
الناس، أما إذا تفاوتت أنظار المجتهدين في هذا اللفظ، فلا يجوز
قطعاً إبداله بلفظ آخر.
الشرط الثالث: أن لا يكون اللفظ في الحديث من باب المتشابه
كأحاديث الصفات، فإن كان من هذا الباب فلا يجوز نقلها بالمعنى،
لأن الذي يحتمله ما أطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه التأويل لا ندري أن غيره من الألفاظ يساويه أم لا.
الشرط الرابع: أن لا يكون اللفظ الوارد في الحديث مما تعبدنا
بلفظه، فإن كان مما تعبدنا بلفظه كألفاظ " التشهد " والأذان،
والتكبير، فهذا لا يجوز نقله بالمعنى.
الشرط الخامس: أن لا يكون الحديث من جوامع الكلم، فإن
كان منها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جبار "،
وقوله: " البينة على المدعي "، وقوله: " لا ضرر ولا ضرار "،
وقوله: " الخراج بالضمان "،
فلا تجوز رواية ذلك بالمعنى، أي: لا بد من نقلها
بلفظها؛ لأنه لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم.(2/811)
فإذا توفرت هذه الشروط فإنه تجوز رواية الحديث بالمعنى عندنا ولا
مانع؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: القياس على ترجمة السُّنَّة بلغة العجم، بيانه:
أنه يجوز شرح ونقل الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال
لفظة عربية بلفظة أعجمية تساويها وترادفها، فإنه يجوز إبدال لفظة
عربية بلفظة عربية أخرى ترادفها بجامع: استبدال لفظة بما يرادفها
دون زيادة ولا نقصان.
بل إن إبدال لفظة عربية بأخرى عربية ترادفها أَوْلى من إبدال لفظة
عربية بلفظة أعجمية؛ لأن اللسان متحد في إبدال لفظة عربية بلفظة
عربية، بخلاف إبدال لفظة عربية بعجمية، فإن اللسان مختلف.
الدليل الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم -
الذين رووا عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس، وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس، بل كما
سمعوها تركوها، وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين، وذلك
يغلِّب على الظن أنه يتعذر روايتها على تلك الألفاظ التي سمعوها
من النبي - صلى الله عليه وسلم -
الدليل الثالث: الوقوع من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم -
بيان ذلك:
أن - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الخطب في الجمع،
وفي بعض الوقائع يتكلم بكلام طويل فيه الأوامر والنواهي، والمواعظ والإرشادات التي تهم المسلمين، وقد رواها بعض الصحابة بألفاظ تختلف عن ألفاظ البعض الآخر، مع أن المقصود واحد، ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو(2/812)
كان هناك إنكار لنقل وبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك مما يدل
على أن نقل الحديث بالمعنى جائز.
الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث سفراءه ورسله إلى الروم، والفرس، وأطراف البلاد، والقبائل، وكان هؤلاء يبلغون أوامر
النبي - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه، وكل ما يقولونه بلغة المبعوثين إليهم بدون إنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يعلم أن لغته تختلف عن لغة هؤلاء، فكان هذا إقرار منه على جواز نقل الحديث بالمعنى.
المذهب الثاني: أنه لا تجوز رواية الحديث بالمعنى مطلقا، بل
الواجب نقل الحديث بلفظه وصورته.
ذهب إلى ذلك أكثر الظاهرية، وبعض متأخري أهل الحديث،
وبعض الفقهاء كمحمد بن سيرين.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: ما رواه زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "،
فإن هذا نص في عدم جواز رواية الحديث بالمعنى، حيث إن قوله: " فوعاها
فأداها كما سمعها " يدل على ذلك دلالة صريحة.
جوابه:
يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن الحديث حُجَّة مؤيدة لمذهبنا
- وهو جواز رواية الحديث بالمعنى - وذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الظاهر أن الحديث المروي حديث واحد، ولم
يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الأصل عدم التكرار، ومع ذلك فقد روي نفس(2/813)
الحديث بألفاظ مختلفة، فإنه قد روي بلفظ: " نضر اللَّه امرءاً "،
وروي بلفظ: " رحم اللَّه امرءاً "، وروي بلفظ: " فرب حامل فقه
غير فقيه "، وروي بلفظ: " ورب حامل فقه لا فقه له "، وكلها
بمعنى واحد، فهذا يدل على جواز رواية الحديث بالمعنى.
الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر علَّة المنع من رواية الحديث بالمعنى وهي: اختلاف الناس في الفقه والفهم، لأنه هو المؤثر في اختلاف المعنى، فيكون المراد بذلك على طريق الاحتياط في حق من
لا يفهم المعنى خوفاً من أن يبدله بما ليس في معناه، ونحن قد
اشترطنا لرواية الحديث بالمعنى شروطاً، منها: أن يكون الراوي عالما
مفرقاً بين صيغ الخطابات ودقائق الألفاظ ودلالتها، فإن لم يكن
كذلك فلا تجوز رواية الحديث بالمعنى.
الوجه الثالث: أن من نقل معنى لفظ الحديث، دون زيادة: ولا
نقصان، فقد أدى الحديث كما سمعه، ولا يمكن أن يقال عنه: إنه
كذب في الحديث، يؤيد ذلك: أن المترجم والشاهد يقال له: أدى
ما سمع، وكذلك من بلغ إنساناً رسالة فحفظ معناها يقال له: أدى
ما سمع.
وهكذا بأن لك أن الحديث يدل على ما ذهبنا إليه، وهو جواز
رواية الحديث بالمعنى.
الدليل الثاني: قياس الحديث على القرآن وكلمات الأذان،
والتشهد، والتكبير.
بيان ذلك: أن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قول: " قد تعبدنا باتباعه " فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن، وكلمات الأذان، كالتشهد، والتكبير.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لأن(2/814)
المقصود من ألفاظ القرآن الكريم الإعجاز، فتغييره مما يخرجه عن
ذلك الإعجاز لا يجوز، بخلاف الحديث؛ حيث إن المقصود منه
المعنى دون اللفظ.
أما كلمات الأذان والتشهد والتكبير، فالمقصود منها إنما هو التعبد
بها، وذلك لا يحصل إلا بألفاظها، دون معانيها، وقد بينا ذلك في
الشرط الرابع، بخلاف الحديث، فالمقصود المعنى دون اللفظ.
المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث:
إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه، فالحكم في
ذلك فيه تفصيل:
أولاً: إن كان الحديث قد تضمن أحكاماً يتعلق بعضها ببعض كأن
يكون مشتملاً على ذكر شرط، أو استثناء، أو غاية، فلا يجوز
للراوي أن يحذف شيئاً منه؛ لأن فيه تغييراً للحكم وتبديلاً للشرع.
مثال الشرط: قوله عليه الصلاة والسلام: " من قاء أو رعف أو
أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة ".
ومثال الاستثناء: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبيعوا البر
بالبر ... إلا سواء بسواء مثلاً بمثل ".
ومثال الغاية: " نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهى "، فهذه الأحاديث لا يجوز حذف بعضها.
ثانيا: إن كان الحديث قد تضمَّن أحكاما لا يتعلق بعضها ببعض،
فإن الأفضل نقل الحديث بتمامه.
ولكن يجوز حذف بعضه عند الحاجة؛ قياسا على الأخبار المتعددة(2/815)
بيان ذلك: أن من حفظ أخباراً متعددة، فله رواية بعضها وترك
بعضها الآخر عند الحاجة، فإذاً هذا جائزاً، فهذا مثله ولا فرق
بجامع: أنه نقل ما يتم المعنى به.
مثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم "،
فهنا يجوز حذف بعض هذا الحديث للاستدلال به على حكم معين.
***
المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي:
المقصود بذلك: أن يروى الصحابي حديثا عن - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يسمعه منه شفاها، بل سمعه من صحابي آخر.
وسمي مرسلاً نظراً لعدم تقييده بذكر الواسطة بين الراوي
والرسول - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف العلماء في قبول مرسل الصحابي على مذهبين:
المذهب الأول: أن مرسل الصحابي مقبول مطلقا، أي: سواء
عرفنا أنه لا يروي إلا عن عدل أو لم نعرف بذلك، وسواء صرَّح
بذلك، أو لم يصرح.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: الإجماع؛ حيث وقع أن الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا يرسلون الأحاديث، بدون نكير من أحد، إذ لو كان
هناك إنكار لبلغنا، وما دام أنه لم يبلغنا شيء من ذلك، فإنه يدل
دلالة واضحة على إجماعهم على قبول مرسل الصحابي مطلقا،
فأكثر روايات الصحابة - سواء كانوا صغاراً أم كبارا - عن - صلى الله عليه وسلم -(2/816)
لم يسمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل بواسطة صحابي آخر، فتكون مراسيل، أيَّد ذلك أمران:
الأمر الأول: ما ذكره الخطيب البغدادي في " الكفاية ": أن
البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري قال: " ليس كلنا سمع
حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا صنيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون - يومئذٍ - فيحدث الشاهد الغائب "،
وهذا نص فيما نحن فيه.
الأمر الثاني: أنه وقع من بعض الصحابة أنه كان يروي الحديث
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه سمعه منه مباشرة، فإذا استكشف وسئل عنه بين أنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل سمعه من صحابي آخر، ومن أمثلة ذلك:
المثال الأول: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا ربا إلا في النسيئة "،
ولما أخبره أبو سعيد الخدري بحديثه في الربا، قال ابن عباس:
" ما سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حدثني به أسامة بن زيد
المثال الثاني: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى أنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما سئل عنه أسنده إلى الفضل بن عباس.
المثال الثالث: أن أبا هريرة - رضي اللَّه عنه - روى - عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما أخبر أن عائشة أنكرت ذلك وقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا ويتم صومه، ذكر أن الفضل بن عباس هو الذي حدَّثه بهذا الحديث.
المثال الرابع: أن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - روى: أن النبي(2/817)
- صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى على جنازة فله قيراط "، وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة.
الدليل الثاني: أن الأُمَّة قد أجمعت على قبول كل ما رواه عبد الله
ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - مع إكثاره في الرواية، وهو لم
يسمع أكثر الأحاديث التي يرويها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وابن عباس لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، بل سمعها وأخذها من كبار الصحابة.
وكذلك غير ابن عباس من صغار الصحابة كعبد الله بن جعفر بن
أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والنعمان بن بشير، والحسن
والحسين ابني عليّ بن أبي طالب، وغيرهم، فقد كان الصحابة
وغيرهم من التابعين يقبلون ما يروون مع علمهم بأن أكثر ما رووه لم
يسمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل من كبار الصحابة، حيث كان هؤلاء يحرصون كل الحرص على إحضار صغارهم أماكن اجتماعاتهِم ليرووا عنهم، ولما روى هؤلاء - أعني صغار الصحابة - قبلت الأُمَّة كل رواياتهم، ولم ينكر أحد شيئاً من ذلك، ولو وقع إنكار لنقل
إلينا، ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فثبت أنه يجب قبول مرسل
الصحابي مطلقا.
المذهب الثاني: أن مرسل الصحابي لا يقبل إلا بشرط معرفتنا:
أن من عادة هذا الصحابي أنه لا يروي إلا عن صحابي آخر.
ذهمب إلى ذلك قوم وصفهم بعض العلماء بانهم شواذ.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن عدالة الصحابي معلومة
وثابتة، ولا نتهمه في ذلك، فلم يكن السبب في عدم قبولنا لمرسله(2/818)
هو الشك في ذلك، ولكن لم نقبل مرسله لسبب آخر وهو:
احتمال أن يروي عن شخص لم تثبت صحبته، أو عن تابعي لم
تثبت عدالته.
وهذا الاحتمال هو الذي سبب هذا التوقف حتى يأتي ما ينفي ذلك.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه لا يروي الحديث
إلا عن شخص قد ثبتت صحبته، وقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحتمال الرواية من غير الصحابي احتمال بعيد، وتصور مجرد عن الدليل، والاحتمال المجرد عن الدليل لا يعتمد عليه.
الجواب الثاني: على فرض أن الصحابة قد روى عن بعض
التابعين فإنا نجزم بأنه لا يروي إلا عن من ثبتت عدالته لديه،
واحتمال أن الصحابي قد يروي عمن لم تثبت عدالته هذا احتمال
بعيد جداً، وتصور غير واقع، ولا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا
يعول عليه؛ ذلك لأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد اختارهم الله
عَزَّ وجَلَّ لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد عدلهم اللَّه في كتابه وسُنَّة رسوله، فمن كانت هذه صفته يستحيل أن يرووا عن غير العدل الثقة؛ لأن هذا فيه تلبيس وتدليس على الأُمَّة، وهذا يستحيل في حقهم.
تنبيه: قال أبو الخطاب في " التمهيد "، وعبد العزيز البخاري
في " كشف الأسرار ": إن مراسيل الصحابة مقبولة بالإجماع.
قلت: هذا ليس بصحيح، بل الصحيح: أن قبول مراسيل(2/819)
الصحابة هو مذهب الجمهور، كما قلنا - هنا -؛ لأن هناك فرقة
من الناس قد خالفت في ذلك، ومع ذلك فلا إجماع.
اعتراض على ذلك:
قال معترض على ذلك: إن الفرقة المخالفة فرقة شاذة لا يُعتد
بقولها، فلا يؤثر بإجماع العلماء.
جوابه:
يجاب عنه: بأن العلماء قد اعتدوا بخلاف تلك الفرقة، وسردوا
أدلتهم، وأجابوا عنها، ولو لم يعتد بخلاف تلك الفرقة لما ردوا
عليهم ولما أبطلوا مذهبهم بالأدلة.
المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي:
والمراد به: أن يقول الراوي العدل الثقة المتحرز لدينه الذي لم
يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كذا ".
أو يقول الراوي الذي لم يدرك أبا هريرة: " قال أبو هريرة كذا".
هذا تعريف المرسل عند الفقهاء وأكثر الأصوليين، وهو الحق؛
لأنه أعم من غيره.
أما عند المحدثين وبعض العلماء من غيرهم، فالمرسل هو: قول
التابعي: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف العلماء في قبول مرسل غير الصحابي على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يقبل مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء،
وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الحق؛ للأدلة التالية:(2/820)
الدليل الأول: أن الظاهر من حال الراوي العدل الثقة أنه لا يجوز
لنفسه أن يروي حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا علم، أو غلب على ظنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قاله فعلاً، وهذا لا يكون إلا إذا كانت عدالة الشيخ الذي روى له الحديث قد ثبتت واستقرت عند ذلك الراوي الذي أرسل هذا الحديث؛ لأنه يبعد أن يظن ذلك الراوي عدم صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك يرويه؛ لأن ذلك كذب مسقط لعدالته، وإذا كان الأمر كذلك فيجب قبول ما ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الثاني: أن من عادة الراوي العدل أن لا يرسل الحديث إلا
إذا تيقن من ثبوت هذا الحديث، فإذا شك فيه فإنه لا يرسله، بل
يذكر الشيخ الذي حدثه به؛ لتكون العهدة على ذلك الشيخ، وهذه
عادة مستمرة لهم، يؤيد ذلك ما ذكره ابن عبد البر في " التمهيد "
عن إبراهيم النخعي أنه قال: " إذا رويت عن عبد اللَّه - يقصد ابن
مسعود - فقد حدَّثني واحد، وإذا أرسلت فقد حدَّثني جماعة عنه "،
فإذا كانت هذه عادتهم - وهي: أنهم لا يرسلون إلا ما ثبت
عندهم - فيكون الحديث المرسل ثابتاً، والثابت يقبل ويعمل به.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
وجه الدلالة: أن هذه الآية أوجبت على الطائفة إذا رجعت إلى
قومها أن تنذرهم، ولم تفرق الآية في الإنذار بين ما أرسلوه وما
أسندوه، فهذا يدل على قبول الحديث المرسل كما يقبل الحديث
المسند ولا فرق.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .(2/821)
وجه الدلالة: أن الآية أوجبت التبين والتثبت إذا جاء فاسق بنبأ
وخبر، فإن كان غير فاسق - وهو العدل - وجب قبول خبره
مطلقاً، أي: سواء كان مسنداً أو مرسلاً.
المذهب الثاني: أن الحديث المرسل يقبل إذا كان مرسله في
العصور الثلاثة: عصر الصحابة،، وعصر التابعين، وعصر تابعي
التابعين، ولا يقبل في غيرها إلا من أئمة النقل، وهو مذهب بعض
الحنفية كعيسى بن أبان.
دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ".
وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قد شهد لأصحاب تلك القرون
بالعدالة، وذلك يوجب صدقهم، فيجب قبول قولهم وخبرهم
مطلقاً، سواء كان مرسلاً أو مسنداً.
وقالوا: إنا نقبل الحديث المرسل من غير تلك العصور بشرط كون
المرسل - بكسر السين - واحداً من أئمة النقل؛ لأن أئمة النقل قد
عرفوا بالبحث والاطلاع على أحوال الرواة، فإذا أرسلوا فذلك
لمعرفة من أرسلوا عنه معرفة توجب حد اطمئنان النفس إلى صدقه،
بخلاف غيرهم، فلا يقبل منهم شيئاً إلا إذا تعين اسمه، فنبحث عنه.
جوابه:
يجاب عنه بأنكم فرقتم بين أئمة النقل وغيرهم، وهذه التفرقة لا
تفيد إذا تحققت في الراوي العدالة والثقة وبقية شروط الراوي
السابقة، أي: أن الراوي إذا توفرت فيه شروط الرواية - وهي
الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - فإنا نقبل خبره سواء(2/822)
كان مرسلاً أو مسند، وسواء كان من أئمة النقل أو من غيرهم،
وسواء كان من العصور الثلاثة أو لا.
المذهب الثالث: أن الحديث المرسل يقبل من أئمة النقل فقط،
دون غيرهم، وهو اختيار ابن الحاجب.
دليل هذا المذهب: أن إرسال أئمة النقل من النابعين كان مشهوراً
مقبولاً، ولم ينكره أحد كإرسال سعيد بن المسيب، والشعبي،
والنخعي، وغيرهم، فكان إجماعاً على قبول مرسل أئمة النقل.
جوابه:
يجاب غنه: بأنه لا وجه للتفرقة بين أئمة النقل وغيرهم؛ لأن
الراوي إذا كان عدلاً، فإنه يرجح جانب الصدق على جانب الكذب،
وإن لم يكن من أئمة النقل كما قلنا في جواب دليل أصحاب المذهب
الثاني.
المذهب الرابع: أن المرسل يقبل إذا توفر فيه أحد الأمور التالية:
1 - أن يكون قد أسنده غير مرسله.
2 - أن يكون قد أرسله آخر يروي عن غير شيوخ الأول.
3 - أن يعضده قول صحابي.
4 - أن يعضده قول أكثر العلماء.
5 - أن يعرف من حمال الذي أرسله أنه لا يرسل عمن فيه جهالة
أو غيرها، وأنه لا يرسل إلا عمن يقبل قوله كمراسيل سعيد بن
المسيب.
فإن انضم إلى الحديث المرسل أحد هذه الأمور قبل، وإلا: فلا.(2/823)
ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -، واختاره بعض
الشافعية كفخر الدين الرازي، وناصر الدين البيضاوي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الراوي لا يقبل خبره إلا إذا كان عدلاً، ومن
أرسل عنه الراوي لم نعرف عدالته، فلا موجب لقبول خبره.
وقلنا: إن المرسل عنه غير معروف العدالة، لعدم معرفة اسم
المرسل عنه.
وقلنا: إن المرسل يقبل عند انضمام واحد من تلك الأمور السابقة
إليه، لأن الواحد من تلك الأمور يغلِّب جانب الصدق على جانب
الكذب، وبذلك يقبل.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه إذا لم يذكره أنا نجهل عدالته،
وذلك لأنا بينا - فيما سبق - أن الراوي لو لم تصح وتثبت عنده
عدالة شيخه الذي حذَثه لا يمكن أن يروي عنه فيلزم الناس تحكما
بقول فاسق أو مجهول، وهذا ينافي عدالته، فثبت بهذا أنه لا يروي
إلا عن عدل.
الجواب الثاني: أن رواية الراوي عمن أرسل عنه تعتببر تعديلاً له؛
لأن المرسل لو روى عن غير عدل ولم يبين لنا حاله كان غاشا
ومدلساً على الأمة، وتسقط عدالته بذلك، وما دامت الرواية عنه
تعديلاً له وجب قبول خبره؛ نظراً لتوفر العدالة المقتضية للقبول.
الدليل الثاني: أن شاهدي الفرع إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا(2/824)
على شاهدي الأصل من غير ذكرهما، كذلك هنا في الخبر لا يمكن
أن نقبل حديثا رواه عدل إلا إذا عين الشيخ المروي عنه، ولا فرق
بينهما، والجامع: أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس مع الفارق فلا
يصح؛ حيث توجد فروق بينهما، ومنها:
1 - أن الشهادة آكد من الرواية - كما سبق بيانه -.
2 - أن الشهادة تجب باللفظ ولا تقبل بالمعنى، بخلاف الرواية
فتجوز بالمعنى - كما سبق -.
3 - أن الشهادة يشترط فيها العدد، بخلاف الرواية فلا يشترط
فيها ذلك.
4 - أنه يشترط في الشهادة الذكورية، أما الرواية فلا.
5 - أنه يشترط في الشهادة الحرية، بخلاف الرواية.
6 - أنه في الشهادة لا تسمع شهادة الفرع إلا بعد العجز عن
سماع شهادة الأصل، أما في الرواية فيجوز ذلك.
7 - أن شهود الفرع لا يشهدون إلا بعد أن يحمِّلهم شهود الأصل
تلك الشهادة، فيقولوا: " اشهدوا على شهادتنا "، بخلاف الرواية،
فإن الراوي يروي الخبر من غير أن يقول له: " ارو عني ذلك ".
وإذا اعترفتم بتلك الفروق بين الشهادة والرواية، فلا يصح قياسكم
الرواية على الشهادة.
المذهب الخامس: أن مرسل غير الصحابي لا يقبل مطلقا.(2/825)
وهو ما ذهب إليه الظاهرية، ونسبه ابن عبد البر إلى أصحاب
الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بالدليلين السابقين اللذين استدل بهما
أصحاب المذهب الرابع، وقد سبق الجواب عنهما.
وزادوا دليلاً ثالثاً وهو: أنه لو جاز العمل بالحديث المرسل لم
يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم فائدة ولا معنى؛ حيث
إن الناس قد تكلفوا حفظ الأسانيد في باب الأخبار، وضبطها، فلو
لم يكن لذلك فائدة - وهي الاطلاع على عدالة جميع رواة
الحديث -: لما اشتغلوا به، نظراً لتساوي الإسناد والإرسال.
جوابه:
يجاب عنه: بأن ذكر أسماء الرواة له فائدتان، هما:
الأولى: أن المخبر قد يشتبه عليه حال من يخبره، فلا يقدم على
تعديله ولا على تجريحه، فيذكره ليتفحص فيه غيره.
الفائدة الثانية. الاحتياط لنفسه، أي: أن الراوي يذكر من يخبر
عنه؛ لا لأنه شك في عدالته، بل يذكره مع أنه يعدله ليتمكن
السامع من الاطلاع على ذلك الراوي، فقد يكون عدلاً عند من
ذكره، بينما يكون مجروحاً عند غيره، فيذكره الراوي احتياطا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، لأن أصحاب المذاهب قد
اتفقوا على أن مرسل العدل الثقة مقبول، وعلى أن مرسل غير العدل
غير مقبول.(2/826)
فلو دققت النظر في أدلة أصحاب المذاهب لوجدت أنهم يعنون
بالمرسل المقبول هو مرسل العدل الثقة، ويكنون بالرسل غير المقبول
هو مرسل من لم تثبت عدالته.
دلطَّ على ذلك كلام المحققين الأصوليين كأبي الوليد الباجي في
"الإحكام "، والجصاص في " أصوله "، وأبي يعلى الحنبلي في
"العدة"، وابن عقيل في " الواضح "، وشيخ الإسلام ابن تيمية في
" المسودة "، والأنصاري في " فواتح الرحموت ".
وهو الحق عندي: فمن قال بقبول الحديث المرسل يحمل على ما
إذا كان المرسل - بكسر السين - من أولئك العلماء العدول الثقات
الماهرين بمعرفة شرائط قبول الرواية، الذين يعرف من حالهم أنهم لا
يرسلون إلا عمن يقبل حديثه.
أما من قال بعدم قبول الحديث المرسل، فيحمل على موضع غلبة
الريبة والشك في المرسِل - بكسر السين -.
يؤيد ذلك: أن من قال بقبول المرسل - بشروط أو بعدم شروط -
تراهم قد امتنعوا من قبول المراسيل إذا لم يكن المرسل من الأئمة
العدول الثقات، وذلك لغلبة الريبة والشك في المرسل.
وأن من قال بعدم قبول المرسل تراهم قد قبلوا مراسيل التابعين
كسعيد بن المسيب، وذلك لانتفاء غلبة الريبة في المرسل.
فيكون الخلاف - بذلك - لم يتوارد على محل واحد، فيكون
لفظيا.
أما ما ذكره بعضهم من أن الخلاف له ثمرة وأثر في بعض الفروع
الفقهية، وذكر عدداً من المسائل الفقهية التي تأثرت بهذا الخلاف،(2/827)
فهذا غير صحيح؛ لأنك لو دققت النظر لوجدت أن الذي قبل
الحديث المرسل في تلك المسائل لم يقبله لكونه مرسلاً وإنما قبله؛
لأنه غلب على ظنه صدق المرسل، أو لأن عمل الصحابة يوافقه،
أو وافقه حديث آخر مسند، أو أنه لم ينكره أحد ممن يعتد بقوله، أو
غير ذلك من الأدلة.
وأن الذي لم يقبل الحديث المرسل لم يتركه، لكونه مرسلاً،
وإنما تركه؛ لأنه شك في الراوي أو غير ذلك من الأدلة.
***
المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند:
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يقدم المسند على المرسل.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وأكثر المالكية، وكثير من الحنفية.
وهو الحق؛ لأن المسند قد اتفق على قبوله والاحتجاج به، أما
المرسل فقد اختلف فيه، فالمسند له مزية فضل لموضع الاتفاق،
وسكون النفس إليه أكثر من المرسل، ولذلك يقدم المسند.
المذهب الثاني: أنه يقدم المرسل على المسند.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض المالكية.
دليل هذا المذهب: أن من أسند فقد أحالك على البحث عن
أحوال الرواة الذين سماهم لك، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع
توفر شروط الراوي فيه، فقد قطع لك بصحة هذا الحديث وكفاك
النظر.(2/828)
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ حيث إن المسند تطمئن النفس
إليه، نظراً لاطلاعنا على رواة الحديث وتأكدنا من عدالة كل راوٍ
بأنفسنا، أما المرسل فلم نعلم عدالة الراوي الذي لم يذكر إلا من
خلال الذي روى الحديث لنا، فيكون المسند أقوى.
المذهب الثالث: أنهما سواء في وجوب الاحتجاج.
ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري، والأبهري، وأبو الفرج المالكي.
دليل هذا المذهب:
أن السلف - رحمهم اللَّه - قد أرسلوا، ووصلوا وأسندوا، ولم
يعب واحد منهم على صاحبه شيئاً من ذلك، وعملوا بالجميع ولم
يفرقوا بين مرسل ومسند.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا معكم بأنه يجب العمل بالمرسل والمسند؛ إذ لا
فرق بينهما في العمل، ولكن الخلاف فيما إذا تعارضا أيهما المقدم،
فدليلكم ليس في محل النزاع.
يؤيد ذلك: أن الدليل الظني والدليل القطعي كل واحد يجب
العمل به، ولكن إذا تعارضا، فإنه يقدم القطعي على الظني.
المذهب الرابع: التوقف، أي: إذا تعارض المسند مع المرسل،
فإنا نتوقف ولا نرجح أحدهما على الآخر حتى يأتي دليل آخر يرجح
أحدهما، وهو مذهب بعض العلماء.(2/829)
دليل هذا المذهب:
أنه لا فرق بينهما في القوة، والعمل، والاحتجاج، فليس
أحدهما بأولى من الآخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنهما متساويان في القوة، حيث إنا بينا
أن المسند أقوى من المرسل لذلك تسكن النفس إليه، واتفق العلماء
على قبوله، أما المرسل فنظراً لضعف سكون النفس إليه فقد اختلف
العلماء فيه كما سبق.
المسألة الثامنة والعشرون: أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكامها:
للكلام عنها لا بد من التفصيل الآتي:
أولاً: أفعاله الجبلية:
وهي ما جبل الإنسان عليها وما تشترك فيها نفوس الخلق، وما
فطر اللَّه عليها البشر مما لا يملك الإنسان فيه حرية التصرف كالقيام،
والقعود، وهواجس النفس، وحركة اليد أثناء المشي، ونحو ذلك،
فهذا لا أسوة فيه، ولا يتبع النبي في شيء منه.
ثانيا: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات:
مثل أحواله في مأكله ومشربه، وملبسه، وتوسده يده إذا أراد
النوم، ولبس الأبيض. من الثياب، وطريقة مشيته، وطريقة كلامه،
فهذا يباح منا ومنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يقصد به التشريع، ولم نتعبَّد به، ولم تقع تلك الأفعال على سبيل الطاعة.(2/830)
ثالثا: الأفعال التي لم يتبين أمرها، ولم يوجد دليل على وقوعها
قربة، أو عادة:
كجلوسه - صلى الله عليه وسلم - للقيام إلى ثالثة من الصلاة الرباعية، والاضطجاع بعد الفجر، ومبيته بذي طوى، ونزوله بالأبطح، فقد اختلف
العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يستحب للأُمَّة اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأفعال، ويندب إلى ذلك، ولا يجب.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لعدم وجود الدليل
الذي يدل على الوجوب، فيحمل على أن فعله أرجح من تركه،
وهو الندب.
المذهب الثاني: أنه يجب اتباع الأُمَّة لذلك، إلا ما دلَّ الدليل
على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهو مذهب الإمام مالك فيما حكي عنه، وهو رواية عن الإمام
أحمد، واختاره بعض الشافعية كأبي العباس ابن سريج، والأصطخري.
دليل هذا المذهب:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل تلك الأفعال على أنها واجبة عليه، فيجب علينا الاقتداء به فيها.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك لأمرين:
أولهما: أنه لا يوجد دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعلها وهي واجبة عليه.(2/831)
ثانيهما: لو سلمنا أنها واجبة عليه فلا يلزم أنها واجبة علينا؛
لعدم الدليل على دخولنا فيه.
المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يقوم دليل يطلب منا الفعل
على الوجه المطلوب.
وهو مذهب ابن فورك، وصحَّحه كثير من العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه لما كان هذا الفعل يحتمل أن يكون للندب، ويحتمل أن يكون
للوجوب، ويحتمل الإباحة، ويحتمل أن يكون من خصائصه: كان
التوقف متعيناً؛ لأن كل واحد منها ليس أَوْلى من الآخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول وهو كونه للندب هو الراجح؛
لأن الدليل قد قواه وهو: أن فعله أرجح من تركه كما قلنا فيما
سبق، أما الاحتمالات الثلاثة الأخرى فهي احتمالات بعيدة؛ لعدم
وجود أدلة عليها، فيعمل على ما ترجح بالدليل.
رابعاً: أفعاله التي فعلها لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق:
فإن هذا حكمه حكم المبين: فإن كان المبين واجباً فهو واجب،
وإن كان المبيَّن مندوباً: فهو مندوب، وإنما كان كذلك؛ لأن البيان
لا يتعدى رتبة المبين، ومتى تعداه لا يكون بياناً له، ولأن البيان ما
انطبق على المبين كالتفسير ينطبق على المفسر.
خامساً: الفعل الخاص به - صلى الله عليه وسلم -:
كالزواج بأكثر من أربع، وجواز زواجه بدون مهر، ونحو ذلك،
فهذا خاص به، لا يفعله غيره، ولا يجوز أن نتأسى به في تلك الأفعال.(2/832)
سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟
إذا فعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وثبت أنه على وجه القربة، ولم يكن بيانا بالمجمل أو غيره، ولا قام الدليل على أنه من خواصه، وعلمنا
صفته من الوجوب أو الندب، أو الإباحة، وذلك بنصه - صلى الله عليه وسلم -، أو بغير ذلك من الأدلة، فهل نحن متعبدون بهذا الفعل والتأسي به في فعله، سواء كان واجبا، أو مندوبا، أو مباحاً؟
اختلف في ذلك على مذاهب؛ ومن أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أنا متعبدون بالتأسي به.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد كانوا
مجمعين على الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بذلك - وهو أن يفعلوا مثل ما فعل - كرِجوعهم إلى تزويجه ليمونة وهو حرام،
وفي تقبيله للحجر الأسود، وجواز تقبيله وهو صائم، ونحو ذلك.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) .
وجه الدلالة: أنه جعل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من لوازم رجاء اللَّه تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي: عدم الملزوم، وهو:
الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر كما هو واضح.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) .
وجه الدلالة: أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة اللَّه الواجبة،
فلو لم تكن المتابعة لازمة: للزم من عدمها عدم المحبة، وذلك حرام.(2/833)
المذهب الثاني: أنا لسنا متعبدين بالتأسي به مطلقا.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لما كان احتمال
الخصوصية قائماً في كل فعل مجرد، فلا يجوز التأسي به ومتابعته
وأخذ الحكم منه؛ لاحتمال أن يكون مما يجوز له - صلى الله عليه وسلم -، ويحرم على غيره، فيكون من اقتدى به قد فعل حراماً.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن خصائصه التي ثبتت
بأدلة صحيحة قليلة جداً، وقد قدرت بخمس عشرة خاصة، بينما
أكثر الأحكام ثبت الاشتراك فيها كأنواع العبادات، وأركانها،
وشروطها، وأسبابها، وما يستحب فيها من الأفعال والهيئات،
وكذلك الآداب والمعاملات التي ثبت الاشتراك فيها، فهذه تزيد
أضعافاً مضاعفة عما ثبت الاختصاص به، فلا يجوز أن تمنع دلالة
الفعل المجرد في حقنا من أجل الاحتمال الذي لم يرد إلا قليلاً،
وهو كونه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -.
المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ويتبين ذلك فيما يلي:
أولاً: تعريفه:
تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - هو: كف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار على ما علم به من قول أو فعل، وستأتي الأمثلة على ذلك.(2/834)
ثانياً: حجيته:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن التقرير حُجَّة، وهو قسم من أقسام السُّنَّة
النبوية، وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن النهي عن المنكر واجب، وتركه معصية،
ويتنزه عنها أهل التقى من الأُمَّة، فمن باب أوْلى أن يتنزه عنها
الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ وهو أول المسلمين
وأتقاهم لله، ولو جاز له ترك إنكار المنكر لجاز ذلك لأُمَّته.
الدليل الثاني: أن اللَّه تعالى أرسل نبيه بشيراً ونذيراً يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، فلو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع لم
يكن ناهياً عن المنكر.
الدليل الثالث: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - فقد كانوا
يحتجون بتقريره - صلى الله عليه وسلم - على الجواز، بدون نكير من أحد منهم، ومن أمثلة ذلك:
1 - قول أبي بن كعب: " الصلاة في ثوب واحد سُنَّة كنا نفعله
على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعاب علينا ".
2 - أن أنس بن مالك سئل وهو غاد إلى عرفة: كيف كنتم
تصنعون في هذا اليوم مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال:
" كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ ".
المذهب الثاني: أن التقرير من - صلى الله عليه وسلم - ليس بحُجَّة في الشرع.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.(2/835)
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه من الجائز أنه سكت؛
لأنه أنكر عليه مرة فلم ينفع فيه الإنكار، وعلم أن إنكاره عليه ثانيا لا
يفيد، فلم يعاود، وأقره عليه كما أقر اليهود على معتقداتهم، وإذا
كان الأمر كذلك فلا يصلح التقرير دليلاً على الجواز.
جوابه: -
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع، فهو
خارج عن الإقرار الذي يحتج به؛ لأن شرطه: أن يكون المقر مسلماً
ملتزماً، واليهود والنصارى ليسوا كذلك، فكيف يترك المسلم الملتزم
المطيع المتتبع يفعل المنكر فلا ينهاه عنه.
الجواب الثاني: على فرض أن الإقرار على مثل هذا جائز في
بعض الأحوال، فإن هذا نادر جداً، والنادر لا حكم له، والحكم
للأعم الأغلب.
ثالثا: أنواع الإقرار:
التقرير على أنواع:
النوع الأول: الإقرار على الأقوال، ومثاله: أن ماعزاً اعترف
بالزنا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، كل ذلك يرده، فقال له أبو بكر: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وهو على قسمين:
الأول: ما يتعلق بالدين وأصوله وفروعه، وما ينبني عليه تشريع،
فتقريره يدل على صحته.(2/836)
الثاني: ما كان قولاً يتعلق بالدنيا، والأمور المغيبة عنه، فالتقرير
عليه لا يدل على صدق الخبر، وثبوت مدلوله كما في قصة المنافقين.
النوع الثاني: الإقرار على الأفعال، مثاله: إقراره - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على أكل لحم الضب، فهذا النوع يدل على أنه لا حرج في ذلك.
النوج الثالث: الإقرار على الترك، ومثاله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أمر أهل مكة بالإتمام، فقال: " يا أهل مكة، أتموا
صلاتكم فإنا قوم سفر "، وأما ما بمِنَى وعرفة ومزدلفة، فلم ينقل
أحد أنه أمرهم بذلك، فقال ابن تيمية: لو كان المكيون قد قاموا
فأتموا الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا لما أهمل الصحابة نقل ذلك
وهذا يدل على أنهم قصروا، ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ورجح بهذا: أن للمكيين القصر بالمناسك بعذر النسك.
***
المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة:
السُّنَّة تنقسم إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة هي كما يلي:
أولاً: تنقسم السُّنَّة من حيث حقيقتها إلى ثلاثة أقسام:
1 - السُّنَّة القولية.
2 - السُّنَّة الفعلية.
3 - السُّنَّة التقريرية، وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل.
ثانيا: تنقسم السُّنَّة من حيث السند إلى قسمين:
1 - المتواتر.
2 - الآحاد.
والحنفية يجعلون قسما ثالثا بينهما هو: المشهور،
وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل.(2/837)
ثالثاً: تنقسم السُّنَّة من حيث الصحة وعدم ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الحديث الصحيح وهو: ما اتصل سنده بنقل
العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله إلى نهاية السند من غير شذوذ ولا
علَّة قادحة.
وهو نوعان:
1 - الصحيح لذاته، وهو الذي عرفناه فيما سبق.
2 - الصحيح لغيره، وهو ما صحح لأمر أجنبي عنه؛ إذ لم
يشتمل على صفات القبول على أعلاها كالحسن إذا روي من غير وجه.
حجيته:
اتفق العلماء على الاحتجاج به في الأحكام الشرعية.
القسم الثاني: الحديث الحسن، وهو: ما اتصل سنده بنقل
العدل الضابط ضبطاً غير تام عن مثله إلى منتهى السند من غير شذوذ
ولا عِلَّة قادحة.
وهو نوعان:
1 - حسن لذاته، وهو ما تقدم.
2 - حسن لغيره، ْ وهو: ما رواه ضعيف يكون ضعفه بغير كثرة
الخطأ، وبغير اتصافه بالفسق، وأن يروي هذا الحديث راو آخر عن
شيخ هذا الراوي الضعيف.
حجيته:
لقد اتفق العلماء على أن الحسن لذاته يحتج به، ولكنه دون
الصحيح في الرتبة.(2/838)
وكذلك الحسن لغيره يحتج به بشرط: كثرة طرقه وتعددها.
القسم الثالث: الحديث الضعيف، وهو ما لم توجد فيه شروط
الصحة، ولا شروط الحسن.
حجيته:
لقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث الضعيف.
والحق: أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال
والترغيب والترهيب - ما لم يكن موضوعاً - ولا يحتج به إلا
بشروط هي كما يلي:
الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديداً، فيخرج عن هذا: من
انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
الشرط الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.
الشرط الثالث: ألا يعتقد - عند العمل به - ثبوته؛ لئلا ينسب
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، بل يعتقد الاحتياط.
وأما الأحكام كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق،
ونحو ذلك، فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن فقط.(2/839)
المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الإجماع
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: في تعريف الإجماع.
المطلب الثاني: في إمكان الإجماع.
المطلب الثالث: في العلم بالإجماع والاطلاع عليه.
المطلب الرابع: في حجية الإجماع.
المطلب الخامس: في شروط الإجماع.
المطلب السادس: أقسام الإجماع.
المطلب السابع: الإجماعات الخاصة.(2/841)
المطلب الأول في تعريف الإجماع
ويشتمل على مسألتين:
المسألة الأولى: تعريفه لغة.
المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحا.(2/843)
المسألة الأولى: في تعريفه لغة:
الإجماع: لغة يطلق على إطلاقين:
الأول: العزم المؤكد، ومنه قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)
أي: اعزموا على أمركم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل "
أي: يعزم عليه، ومنه قولهم: " جمع أمره " أي: عزم عليه.
الثاني: الاتفاق، ومنه قولهم: " أجمع المسلمون على كذا "
أي: اتفقوا، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تجتمع أمتي على ضلالة " أي: لا تتفق.
وهذا المعنى هو الذي يناسب المعنى الاصطلاحي للإجماع الذي
سيأتي إن شاء اللَّه.
***
المسألة الثانية: الإجماع اصطلاحا:
الإجماع في اصطلاح أهل الشريعة هو: اتفاق مجتهدي العصر
من أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته على أي أمر كان من أمور الدين.
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " اتفاق " المراد به: الاتحاد والاشتراك في الأقوال
والأفعال، والسكوت، والتقرير.
قولنا: " مجتهدي العصر " المجتهد هو: كل من توفرت فيه
شروط المجتهد، وهي كثيرة سيأتي التفصيل فيها إن شاء اللَّه.(2/845)
وخرج بذلك العوام، وطلاب العلم الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد.
وعبَّرنا بذلك ليشمل جميع المجتهدين في عصر واحد، فلو
تخلف واحد من المجتهدين فلا يسمى ذلك إجماعاً.
أي: أن يتفق علماء العصر الذي حدثت فيه الحادثة التي تحتاج
إلى النظر فيها، أما من بلغ درجة الاجتهاد بعد حدوث الحادثة،
والحكم عليها، فلا يعتبر من أهل ذلك العصر.
قولنا: " من أُمَة محمد - صلى الله عليه وسلم - أخرج اتفاق المجتهدين من أتباع الشرائع السابقة كاليهود والنصارى وغيرهم، فلا يعتد بإجماعهم ولا
خلافهم.
قولنا: " بعد وفاته " أخرج اتفاق المجتهدين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا لا يسمى إجماعاً؛ لأنه لا إجماع إلا بعد اجتهاد، ولا
اجتهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قولنا. " على أي أمر كان من أمور الدين " لبيان أن الإجماع
الشرعي يشترط أن يكون متعلقاً بحكم شرعي يهم المكلَّف.
وخرج بذلك اتفاق المجتهدين على أمر ليس من أمور الدين
كالاتفاق على بعض مسائل اللغة، أو الحساب، أو الأمور الدنيوية،
ونحو ذلك.(2/846)
المطلب الثاني في إمكان الإجماع
لا خلاف بين العلماء في إمكان الإجماع عقلاً؛ لأن اتفاق
المجتهدين في عصر على حكم لا يمتنع عقلاً، ولا خلاف في تصوره
وإمكانه في ضروريات الأحكام.
أما في غير ذلك وهو: الإجماع على الأحكام التي لا تكون
معلومة بالضرورة بأن كان الإجماع عن مستند ظني، فقد اختلف
العلماء في إمكانه على مذهبين:
المذهب الأول: أن الإجماع ممكن، أي: إجماع المجتهدين من
أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور ممكن عادة.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الإجماع وقع فعلاً، ولا أدل
على الإمكان من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، ومنها:
1 - الاجماع على حرمة شحم الخنزير كلحمه.
2 - الإجماع على حجب ابن الابن بالابن.
3 - الإجماع على تقديم الدَّين على الوصية.
4 - الإجماع على أنه لا زكاة في أعيان الشجر.
5 - الإجماع على أن الواجب في الغسل والمسح في الوضوء هو
الفعل مرة واحدة.(2/847)
6 - الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه،
أو طعمه، أو ريحه بنجاسة لا يجوز الوضوء منه.
وغير ذلك من الأمثلة.
فهذا دليل واضح على انعقاد الإجماع بالفعل فضلاً عن إمكانه.
الدليل الثاني: أنه كما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب،
فكذلك لا يمتنع اتفاقهم على حكم معين لحادثة حدثت في عصرهم،
ولا فرق، والجامع: توافق الدواعي لكل منهما.
الدليل الثالث: أن الأصل الإمكان، فيستمر هذا الأصل ويتمسك
به لعدم وجود ما يمنعنا من استصحابه.
المذهب الثاني: أن الإجماع مستحيل عادة، فهو غير ممكن.
ذهب إلى ذلك بعض النظامية، وبعض الشيعة، وبعض الخوارج.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن أهل الإجماع قد انتشروا
في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم إليهم
عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق الذي هو وقوع تساويهم
في نقل الحكم إليهم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم،
وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن ينقل الحكم إلى جميعهم، ولا
يخفى على واحد من المجتهدين، ثم إن أهل الإجماع يكونون عادة
أهل جد وبحث، وليسوا خاملين، فالمطلوب لا يخفى على الطالب
الجاد، وإنما يمتنع ذلك لمن قعد في عقر داره لا يبحث ولا يطلب،
وهذا قد ينزله عن درجة الاجتهاد.(2/848)
المطلب الثالث في العلم بالإجماع والاطلاع عليه
الاطلاع على الإجماع والعلم به يكون بأحد طريقين:
أولهما: الأخبار والنقل إن كان الإجماع متقدما؛ لتعذر المشاهدة.
ثانيهما: المشافهة والمشاهدة إن كان الإجماع قد حصل في عصر
المجتهدين.
ووجه الحصر في هذين الطريقين.: أنه لا يمكن أن يعلم الإجماع
بالعقل، ولا يمكن أن يعلم بخبر اللَّه تعالى ولا بخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لتعذر ذلك، فتعين ما ذكرنا من الطريقين.
واختلف العلماء القائلون بإمكان الإجماع ووقوعه، وهم الجمهور
في إمكان العلم به والاطلاع عليه على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يمكن العلم به والاطلاع عليه مطلقا في جميع
العصور.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن أرباب العلوم غير الدينية قد تحقق الإجماع بينهم(2/849)
في كثير من الأحكام التي تخصهم فمثلهم الفقهاء، بل الفقهاء أوْلى
لوجود الدافع الديني.
الدليل الثاني: أن ضروريات المذاهب مقطوع بالإجماع عليها من
العوام وغيرهم، والعوام أكثر عدداً من غيرهم، وأقل نظراً، وقد
تحقق العلم منهم، فأوْلى أن يتحقق العلم بالإجماع من الفقهاء،
وهم أقل عدداً، وأكثر نظراً.
المذهب الثاني: أنه يمكن العلم به والاطلاع عليه في زمن الصحابة
فقط.
وهو مذهب بعض الشافعية كالأصفهاني، وبعض الإمامية، وأهل
الظاهر.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لا يتعذر العلم
بالإجماع في زمن الصحابة والاطلاع عليه، نظراً لقلتهم،
وحصرهم، واجتماعهم في الحجاز، ومن خرج منهم فيعرف
مكانه، فيمكن الرجوع إليهم جميعاً، وعليه فيمكن معرفة ما اتفقوا
عليه جميعاً، وما اختلفوا فيه.
أما في غير الصحابة، فإن العلم بالإجماع متوقف على معرفة
أعيان المجمعين، وما غلب على ظنهم، واتفاقهم عليه في وقت
واحد، وهذه الأمور غير ممكنة إلا في زمن الصحابة فقط، أما في
زمن غيرهم: فلا يمكن نظراً لكثرتهم وتفرقهم.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المجتهدين وإن كانوا كئيرين فإنه يمكن معرفة(2/850)
الإجماع بمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل
كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم،
فيتضح إمكان الاطلاع على إجماع من عدا الصحابة.
هذا على فرض أن المجتهدين في كل عصر كثيرون، ولكن الحق:
أن الذين بلغوا درجة الاجتهاد في كل عصر هم فئة قليلة جداً يمكن
العلم بهم، فهم من الشهرة بحيث لا يخفون على باحث فيمكن
العلم بأقوالهم ونقلها.
المذهبِ الثالث: أنه يمكن معرفة الإجماع والاطلاع عليه في
القرون الثلاثة الأولى، وهو اختيار بعض الحنفية، ومنهم الأنصاري.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن المجتهدين في هذه
العصور وهي القرون الثلاثة يمكن معرفتهم، فيسهل معرفة الإجماع
في هذه الأزمنة والاطلاع عليها.
جوابه:
يجاب عنه بالجواب السابق على دليل أصحاب المذهب الثاني.(2/851)
المطلب الرابع في حجية الإجماع
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الإجماع حُجَّة.
وهو مذهب جمهور العلماء المعتد بأقوالهم.
وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
وجه الدلالة: أن معنى مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: منازعته، ومخالفة ما جاء به عن ربه، ومعنى سبيل المؤمنين: ما اختاروه لأنفسهم من
قول أو فعل أو اعتقاد، وقد توعد اللَّه بالعقاب على متابعة غير سبيل
المؤمنين، وهذا يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين، وتحريم
مخالفتهم، ولو لم تكن مخالفتهم حراماً لما توعد عليه ولما حسن
الجمع بينه وبين المحرم وهو: مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوعيد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.
وبذلك يكون سبيل المؤمنين حُجَّة يجب اتباعه والعمل بمقتضاه.(2/852)
ما وجه إلى هذا الاستدلال من الاعتراضات:
الاعتراض الأول: أن اللَّه تعالى إنما توعد على أمرين لا بد منهما
معاً، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر وهما:
1 - مشاقة الرسول
2 - ترك اتباع سبيل المؤمنين، فيلحق الوعيد بالأمرين معاً،
فثبت أنه لا يتعلق الوعيد بأحدهما على الانفراد، وبناء على ذلك:
فلا يلحق الوعيد التارك لاتباع سبيل المؤمنين منفرداً؛ إذن: لا يجب
اتباع الإجماع، لأنه لا وعيد عليه، فيكون الإجماع ليس بحُجَّة.
جوابه:
يجاب عنهْ بأن هناك قاعدة وهي: أن اللَّه تعالى إذا توعد على
شيئين، فإن الوعيد يلحق بكل واحد منهما على انفراد واجتماع،
لكن لا يجوز أن يلحق الوعيد بأحد الشيئين معيناً، والآخر لا يلحق
به الوعيد.
يؤيد ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) ،
فإن اللَّه لما جمع بين هذه الأفعال في الوعيد كان منصرفاً
إلى كل واحد منها، فكذلك في هذه الآية وهي: " ومن يشاقق
الرسول.. " قد جمع اللَّه بين هذين الفعلين، وهما: " المشاقة،
ومتابعة غير سبيل المؤمنين " فينصرف الوعيد إلى كل واحد منهما
بانفراد، فلو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين محرماً بانفراده، فإنه لا
يمكن أن يقرن بما هو محرم وهو: " المشاقة " كسائر المباحات، ألا
ترى أنه لا يجوز الجمع بين المحرم والمباح في باب الوعيد، فلا
يجوز أن يقال: " من زنا وشرب الماء عاقبته "، وذلك لأن الزنا
محرم، وشرب الماء مباح.(2/853)
الاعتراض الثاني: أن اللَّه تعالى قد توعد على ترك سبيل المؤمنين
فيما صاروا به مؤمنين وهو التوحيد، والتصديق، وفعل الإيمان.
يؤيد ذلك: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) التي أتت بعد تلك الآية المستدل بها، ومعروف
أن الشرك مقابل التوحيد، ويؤيد ذلك: سبب نزول هذه الآية،
حيث إنه قيل: إن الآية نزلت في بشير بن أبيردتى المنافق لما سرق ثم
رمى بذلك لبيد بن سهيل، ولما كشف أمره هرب إلى مكة، ولحق
بالمشركين، فأنزل اللَّه تلك الآيات.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا حمل الآية على صورة واحدة، وهذا تأويل
لا دليل عليه، والتأويل الذي لا دليل عليه باطل.
الاعتراض الثالث: أن التوعد قد لحق جميع - المؤمنين إلى قيام
الساعة، وأهل العصر ليسوا كل المؤمنين، ودليل ذلك: أن لفظ
"المؤمنين " جمعٌ معرف بـ " أل "، فتكون عامة لجميع المؤمنين، وجميع
المؤمنين كل من آمن بالله إلى يوم القيامة، وذلك لا يدل على أن ما
وجد من الإجماع في بعض الأعصار حُجَّة؛ لأمرين:
أولهما: أن المجمعين - في عصر واحد هم بعض المؤمنين.
ثانيهما: أن المخالف في حجية الإجماع من جملة المؤمنين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المقصود بلفظ " المؤمنين " الوارد في الآية هم
أهل العصر الذي حدثت فيه الحادثة - كما قلنا في تعريف الإجماع
السابق - فتحمل لفظة " المؤمنين " على ذلك.(2/854)
الاعتراض الرابع: أن حجية الإجماع مسألة علمية لا تفيد فيها إلا
الأدلة القطعية، ودلالة الآية ظنية للاحقمالات التي ذكرت، فهي من
قبيل الظاهر، فلا تثبت حجية الإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الآية وإن كانت ظنية الدلالة إلا أنها تثبت حجية
الإجماع، ويكون حُجَّة ظنية كخبر الواحد هذا على قول.
أما على القول بأن الإجماع حُجَّة قطعية فإنا نقول: إن هذه الآية
وإن كانت ظنية فقد احتفت بقرائن صيرتها قطعية، والقرائن هي ما
سيأتي من السُّنَّة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد وصف الأُمَّة بأنهم أُمَّة وسطا،
والوسط: الخيار العدل، دلَّ على ذلك قوله تعالى:
(قال أوسطهم ألم أقل لكم) أي: أعدلهم، فالله عَزَّ وجَل عدلهم
بقبول شهادتهم، ولما كان قول الشاهد حُجَّة، إذ لا معنى لقبول
شهادته إلا كون قوله حُجَّة يجب العمل بمقتضاه، فيدل هذا على أن
إجماع الأُمَّة يجب العمل بمقتضاه.
وكون الوسط: العدل هو الذي ذكره الجوهري في الصحاح،
وذكره القرطبي في تفسيره.
الاعتراضات التي وجهت إلى الاستدلال بهذا الآية:
الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ أن العدالة تنافي الخطأ في الاجتهاد،
بل إنما تنافي الكبائر، فاحتمال الخطأ في الكبائر باق.(2/855)
جوابه:
يجاب عنه بأن ما قلتم مسلم بالنسبة لتعديل الأُمَّة بعضها لبعض،
وأما بالنسبة لتعديل اللَّه للأُمَّة فينافي الخطأ مطلقا؛ لأنه لم يعدلهم إلا
لكونهم يصيبون الحق في الواقع مطلقاً لقبول شهادتهم، والشهادة
إنما تقبل لموافقتها الصواب، فلزم أنهم معصومون عن الخطأ.
الاعتراض الثاني: أن الآية قد قيدت عدالة الأُمَّة في يوم القيامة
فقط؛ لأن التعديل من اللَّه للأُمَّة معلل بقبول شهادتها يوم القيامة
على الأكل م السابقة، والعدالة تعتبر وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن من دقق النظر في الآية فإنه يتبين له أن اللَّه قد ميَّز
الأُمَّة الإسلامية على غيرها من الأمم السابقة بهذه الميزة المذكورة فيها،
فلو جعلت عدالتها خاصة بيوم القيامة لما كانت لها ميزة على الأمم
السابقة؛ لأن الأمم جميعها يوم القيامة عدول فلا داعي لذكر هذا
الأمر، يؤيد ذلك قوله: " وجعلناكم " بلفظ الماضي، ولم يقل
سنجعلكم، فتكون العدالة محققة في الدنيا.
الاعتراض الثالث: سلمنا أن العدالة لهم في الدنيا، ولكن
العدالة التي وردت في الآية إنما هي لجميع الأُمَّة، وعلى هذا فلا
خصوصية للمجتهدين منهم، إذن: لا تثبت حجية الإجماع إلا
بانتهاء الأُمَّة، وبانتهائها لا تحتاج إليه، فلا تصلح الآية للاستدلال
بها على حجية الإجماع.
جوابه:
يجاب عنه: بانا بيَّنَّا أن المجتهدين هم الذين يعتبر قولهم فقط،
وبيَّنا أن المقصود اجتهادهم في عصر من العصور، هذا كله سبق.(2/856)
ونزيد هنا: أن المقصود من حجية قولهم: العمل بمقتضاه،
وليست الآخرة دار عمل، وإلا لقال تعالى: " سنجعلكم " فتعبيره
بالماضي يدل على أن قولهم حُجَّة.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)
وجه الاستدلال: أن اللَّه تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمَّة بأنهم
يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وهذا يقتضي كون
قولهم حقاً وصوابا في جميع الأحوال، والخيرية توجب حقيقة ما
اجتمعوا عليه؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان ضلالاً، فإذا اجتمعوا
على مشروعية شيء يكون ذلك الشيء معروفاً، وإذا اجتمعوا على
عديِم مشروعية شيء يكون ذلك الشيء منكراً، فيكون إجماعهم
حُجة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل
الجزم، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم لا بد أن يكون معصوما
عن الخطأ؛ لأنه لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه
على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بطاعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك
الخطأ، فثبت أن أولي الأمر المذكورين في هذه الآية لا بد وأن يكونوا
معصومين.
وهؤلاء المعصومون اما مجموع الأفة، أو بعضها، ولا ثالث
لهما.(2/857)
لا يجوز أن يكونوا كل الأُمَّة، لأنا قد بيَّنا أن اللَّه قد أوجب طاعة
أولي الأمر في هذه الآية، وهم أهل الحل والعقد من الأُمَّة وهم
المجتهدون؛ لأن إيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين
على الوصول إليهم والاستفادة منهم؛ لأنه: " لا يكلف اللَّه نفسا إلا
وسعها "، وهذا هو الراجح في المراد من " أولي الأمر ".
الدليل الخامس: من السُّنَّة:
1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد ".
2 - قوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتيهم أمر
الله وهم ظاهرون ".
3 - قوله: " فإن يد اللَّه على الجماعة، وإن الشيطان مع من
فارق الجماعة يركض ".
4 - قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد اللَّه على الجماعة،
ومن شذ شذ في النار "،
وفي رواية: " إن اللَّه لا يجمع هذه الأُمَّة على ضلالة أبداً، وأن اللَّه مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار "،
وفي رواية: " إن أُمَّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم "،
وفي رواية: " سألت ربي أن لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة فأعطانيها ".
5 - قوله: " ومن فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ".
6 - قوله: " إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو
عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا تجتمعوا على ضلالة ... ، إلخ.(2/858)
إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة، البالغة مبلغ التواتر
المعنوي، لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين لم يدفعها
أحد من أئمة النقل من سلف الأُمَّة وخلفها، بل هي مقبولة من
الجميع -، ومعمول بها، ولم ينكوها أحد، ولم تزل الأُمَّة تحتج بها
في أصول الدين وفروعه.
وجه الاستدلال من تلك الأحاديث على حجية الإجماع من
طريقين:
الطريق الأول: حصول العلم الضروري، فكل واحد من تلك
الأحاديث وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الاحتمال إليه، إلا أنه
حصل لنا بمجموعها علما ضرورياً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عظم شأن هذه الأُمَّة وأخبر أنها معصومة عن الخطأ، كما علمنا بالضرورة شجاعة عليّ، وكرم حاتم، وإذا عصمت الأُمَّة عن الخطأ فيكون إجماعهم
حُجَة؛ لأنه حق.
الطريق الثاني: حصول العلم الاستدلالي، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن تلك الأحاديث الآحادية لم تزل ظاهرة مشهورة
بين الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، وقد تمسكوا بها فيما
بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها، ولم يزالوا على ذلك
حتى وقت النظام وغيره من المخالفين، ويستحيل عادة توافق الأمم
في عصور مختلفة على التسليم لما لم تقم الحُجَّة بصحته مع اختلاف
الطباع وتفاوت الأفهام والهمم والمذاهب والآراء.
فهذا يدل على عدم اختلاف هؤلاء في استدلالهم بتلك الأحاديث
على ثبوت الإجماع، وأنه حُجَّة.
الوجه الثاني: أن الذين احتجوا بتلك الأخبار الآحادية أثبتوا بها(2/859)
أصلاً مقطوعا به، وهو الإجماع الذي يقدم على النص من الكتاب
والسنَّة، والعادة تحيل أن يسلم لخبر يرفع به النص إلا إذا كان مستنداً
إلى مستند مقطوع به، وهو مجموع تلك الأخبار الآحادية؛ حيث
أفادتنا العلم الضروري بأن الأُمَّة لا تجتمع على خطأ.
الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الاستدلال:
الاعتراض الأول: أنه ربما خالف واحد وردها، ولكنه لم ينقل إلينا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا خلاف العادة؛ لأن الإجماع من أعظم
الأدلة، فلو خالف فيه أحد لاشتهر كما اشتهرت مخالفة الصحابة
في كثير من المسائل الفقهية.
الاعتراض الثاني: يحتمل أنهم أثبتوا الإجماع بغير تلك الأخبار.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الظاهر أن الصحابة والتابعين قد تمسكوا بتلك
الأخبار على إثبات الإجماع، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل.
الاعتراض الثالث: أن هذا إثبات الإجماع بالإجماع؛ لأنكم
استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، والخبر على صحة الإجماع،
وهذا باطل.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل استدللنا على الإجماع بمجموع تلك
الأخبار؛ بناء على أنها تفيد التواتر المعنوي، فيكون استدلالنا
بالمتواتر وهو مقطوع به على إثبات الإجماع.(2/860)
المذهب الثاني: أن إجماع الصحابة حُجَّة فقط، أما إجماع غيرهم
فليس بحجة.
وهو مذهب كثير من الظاهرية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) .
وجه الدلالة: أن الله قد أثنى على الصحابة في القرآن الكريم،
والثناء يدل على أن أقوالهم معتبرة، لصدقها يقينا، فدل على أن
اجتماعهم حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الآية ليست خاصة بالصحابة، بل هي شاملة لهم
ولغيرهم بدليل قوله: (والذين اتبعوهم) ، فهذا شامل لجميع
المتبعين بإحسان من بعد الصحابة إلى آخر المسلمين، فيلزمهم أن
تكون دالة أيضاً على حجية إجماع غيرهم لاشتراكهم جمبعا في المدح.
ثانيهما: إذا كان الثناء والمدح يدل على أن أقوال الممدوحين
معتبرة، فالله تعالى كما أثنى على الصحابة فقد أثنى على الأُمَّة
الإسلامية بقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) أي:
اختاركم لدينه ونصرته، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي: عدولاً، وقال: (كنتم خير أُمَّةٍ) ، وغير ذلك من الآيات،
فيدل على أن اللَّه قد أثنى على الأُمَّة - أيضاً - فيلزم أن الإجماع ليس
خاصا بالصحابة، بل هو عام لكل عصر.(2/861)
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه حفظ القرآن بحفظ الصحابة له، ونقلهم
إياه، وإجماعهم عليه، والآية تدل على صدق إجماعهم، فيكون حجة.
جوابه:
يجاب عنه: أن الآية عامة، فإنها كما دلَّت على صدق إجماع
الصحابة دلَّت أيضاً على صدق إجماع من جاء بعد الصحابة، حيث
إن من جاء بعد الصحابة من التابعين، وتابعيهم إلى يومنا هذا قد
حفظوا ذلك القرآن وكتبوه وعملوا به.
الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" يأتي على الناس زمان فيغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون:
نعم، فيفتح لهم، ثم يغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من
رأى من صحب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون: نعم، فيفتح لهم.. "
كذلك ما روي عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" إن اللَّه اختار أصحابي على العالمين سوي النبيين "،
ونحو ذلك من الأحاديث.
وجه الدلالة: أن الشارع قد أثنى على الصحابة بالعدالة، وأنهم
اختارهم على العالمين، فدل على أنهم قد فضلوا على غيرهم، فدل
على أن إجماعهم حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن غير الصحابة ممن جاء بعدهم قد وردت
الأحاديث بعصمتهم عند الاتفاق وهي الأحاديث التي ذكرناها في(2/862)
استدلالنا على حجية الإجماع، فلا اختصاص للصحابة - رضي الله
عنهم - بالإجماع.
المذهب الثالث: أن الإجماع ليس بحُجَّة مطلقا.
وهو مذهب بعض الخوارج، وبعض النظامية، وبعض الشيعة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول لهم قالوا فيه: إنه لا دليل على كون الإجماع حُجَّة،
لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، فإذا لم يدل عليه شيء
وجب القطع بنفي كونه حُجَّة؛ لعدم ما يدل عليه.
جوابه:
يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنه لا دليل عليه، بل دلَّت الأدلة النقلية
على أن الإجماع حُجَّة، وهي التي ذكرناها فيما سبق من الآيات
والأحاديث.
فإن أنكر أحد بعضها، فلا يمكنه أن ينكرها جميعها، ومن أنكرها
جميعا فهو معاند ومكابر، والمعاند لا يعتد بقوله.
ثم إن منكر ذلك جاء بعد تحقق الإجماع والاحتجاج به، فإنكاره
مكابرة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
وجه الدلالة: أن الآية بيَّنت أنه إذا حدث تنازع في حكم حادثة
فإنه يجب أن يؤخد حكمها من الكتاب والسُّنَّة فقط، والإجماع
ليس بكتاب ولا سُنَّة، فلا يصح حُجَّة..(2/863)
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحكم بالإجماع هو حكم بالكتاب والسُنَّة؛ لأن المجمعين لا بد أن يستندوا في اجتهادهم إلى نص الكتاب والسُنَّة
أو ما فهم منهما.
الجواب الثاني: أنه يجب أن نعمل بما جاء في الكتاب والسُنَّة،
وقد جاءت آيات في الكتاب، وأحاديث في السُنَّة تدل على أن
الإجماع حُجَّة فيجب أن نعمل بها.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) .
وجه الدلالة: أن الآيتين تفيدان أن الكتاب قد ورد فيه حكم كل
شيء، فلا حاجة إلى الإجماع، فالمرجع هو الكتاب والسُّنَّة، أما
الإجماع فنظراً لعدم الحاجة إليه فلا يصلح أن يكون مرجعا.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الكتاب قد بين كل شيء ومما بيَّنه أن الإجماع
حُجة، وذلك بالآيات التي ذكرناها ودلَّت على حجية الإجماع،
وكذلك بيَّن أن السُّنَّة حُجَّة بقوله: (وما أتاكم الرسول فخذوه..)
وغيرها، والسُّنَّة بيَّنت أن الإجماع حُجَّة بالأحاديث التي ذكرناها.
الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -: " إذا عرض عليك قضاء فبِمَ تقضي؟
قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟
قال: بسُنَة رسول اللَّه، قال: فإن لم تجد؟
قال: أجتهد رأيى ولا آلو، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ".(2/864)
وجه الدلالة: أن معاذاً ذكر الأدلة المعمول بها، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر الإجماع معها، فهذا يدل على أنه ليس بدليل، إذ لو كان دليلاً لما تركه مع الحاجة إليه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الإجماع لا يكون دليلاً في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبناء على ذلك فليس فيه تأخير عن وقت الحاجة.
الجواب الثاني: أن الإجماع هو حكم بالكتاب والسُّنَّة ولا يخرج
عنهما؛ لأن مستنده: إما الكتاب، أو السُّنَّة، أو شيء يقاس على
ما ثبت بهما.
الدليل الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ".
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يدل على جواز خلو العصر عمن
تقوم الحُجَّة بقوله.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الحديث لا يدل على ما ذكرتم، بل إن ما
دلَّ عليه الحديث هو: أن أهل الإسلام سيكونون هم الأقلين، لا أنه
لا يبقى من تقوم به الحُجَّة.
الدليل السادس: أن الإجماع لا يمكن في ذاته، ولا يمكن العلم
به، ولا يمكن نقله - وقد سبق ذلك -.
جوابه:
يجاب عنه: بانا قد أثبتنا فيما سبق أن الإجماع يمكن في ذاته،
ويمكن العلم به، ويمكن نقله.(2/865)
الدليل السابع: القياس على الأمم السابقة، فكما أنه لم يعتبر
إجماع الأمم السابقة ولم يكن حُجَّة، فكذلك إجماع هذه الأُمَّة لا
يكون حُجَّة ولا فرق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إجماعنا قد وردت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على
اعتباره، بخلاف إجماعهم فإنه لم ترد الأدلة على أنه حُجَّة، وهذا
هو الفرق، إذن قياسكم لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق.(2/866)
المطلب الخامس في شروط الإجماع
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل يشترط في أهل الإجماع بلوغ حد التواتر؟
المسألة الثانية: إذا لم يوجد في العمر إلا اثنان من المجتهدين فهل
يعتبر اتفاقهما إجماعا؟
المسألة الثالثة: إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فهل يعتبر قوله
إجماعا؟
المسألة الرابعة: هل يشترط في أهل الإجماع عدالة المجمعين؟
المسألة الخامسة: هل يعتد بقول الكافر المجتهد في الإجماع؟
المسألة السادسة: هل يعتبر قول العوام في الإجماع؟
المسألة السابعة: العالم بالفقه دون أصوله، والعالم باصول الفقه
دون فزوعه هل يعتبر قولهما في الإجماع؟
المسألة الثامنة: هل يشترط انقراض العصر في صحة الإجماع؟
المسألة التاسعة: إذا بلغ التابعي درجة الاجتهاد في عصر الصحابة قبل
اتفاقهم فهل يعتد بقوله وفاقا وخلافا؟
المسألة العاشرة: هل يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين أو هل
ينعقد الإجماع بقول الأكثر؟(2/867)
المسألة الحادية عشرة: اتفاق الأكثر هل يكون حُجَّة يجب الأخد به؟
المسألة الثانية عشرة: هل يشترط في انعقاد الإجماع وحجيته أن يكون
له مستند ودليل؟
المسألة الثالثة عشرة: الدليل القطعي هل يصلح أن يكون مستنداً
للإجماع؟
المسألة الرابعة عشرة: الدليل الظني هل يصلح أن يكون مستنداً
للإجماع؟
المسألة الخامسة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن خبر الواحد.
المسألة السادسة عشرة: لو ظهر خبر واحد موافق لمقتضى الإجماع
فهل يجب تعيينه مستنداً للإجماع؟
المسألة السابعة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن القياس.
المسألة الثامنة عشرهْ: هل يشترط نقل الإجماع بالتواتر؟(2/868)
المسألة الأولى: هل يشترط في أهل الإجماع بلوغ حد التواتر؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط في حجية الإجماع أن يبلغ عدد
المجمعين حد التواتر.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن أدلة حجية الإجماع من الكتاب والسُّنَّة
السابقة الذكر وردت مطلقة، وبناء على ذلك فإنه مهما كان عدد
الإجماع أنقص من عدد التواتر صدق عليهم لفظ " المؤمنين " ولفظ
"الأُمة"، فإذا قالوا قولاً كانت الحُجَّة فى قولهم؛ لأن الأدلة السمعية
- كما سبق - موجبة لعصمتهم عن الخطأ، فإذا لم يكن على وجه
الأرض سوى هؤلاء البالغين درجة الاجتهاد فهم على الحق قطعا
- مهما كانوا قلة أو كثرة - فيجب اتباعهم، صيانة لهم عن الاتفاق
على الخطأ.
المذهب الثاني: أنه يشترط أن يبلغ عدد المجمعين حد التواتر.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليلِ هدا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الجمع الكثير لا يتصور
تواطؤهم على الخطأ، لأن العادة تحيل تواطؤهم على الكذب، ولا
تحكم العادة بالقطع في غيره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن العدد الكثير إذا لم يكونوا كل المجتهدين فإنه(2/869)
لا يصدق عليهم أنهم كل الأُمَّة، ولم تثبت العصمة إلا للكل، ولا
تلازم بين إحالة العادة تواطؤهم على الكذب، وبين إحالة تواطؤهم
على الخطأ المستفاد من الإجماع، حيث لم يكونوا كل الأُمَّة، وإنما
ثبتت عصمتهم بشهادة النصوص، لا بالعادة، ولذلك وجب بهذه
النصوص أن تثبت العصمة للمجمعين، سواء بلغوا حد التواتر أو
لا، نظراً لثبوت الصفة فيهم متى كانوا كل المجتهدين.
***
المسألة الثانية: إذا لم يوجد في العصر إلا اثنان من المجتهدين
فهل يعتبر اتفاقهما إجماعا؟
لقد اختلف في ذلك.
والحق: أن اتفاقهما يعتبر إجماعا؛ لدليلين:
الأول: أن حقيقة الإجماع وحده يصدق عليهما، لأن الاتفاق أقل
ما يصدق باثنين.
الثاني: أنه يصدق عليهما أنهما كل الأُمَّة، وكل المؤمنين الذين
معه يعتبرون في الإجماع.
وعلى هذا، فإن اتفاقهما على حكم يصبح إجماعا لا يجوز لهما
مخالفته، ولا لغيرهما ممن يأتي بعدهما.
***
المسألة الثالثة: إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فهل
يعتبر قوله إجماعا؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن قول هذا الواحد لا يعتبر إجماعا، ولكنه يعتبر حُجة.
-(2/870)
وهو مذهب ابن سريج، وهو قول كثير من العلماء.
وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية:
الأول: أن الأدلة النقلية الدالة على عدم خروج الحق عن الأُمَّة
تتناوله ويدخل ضمنها.
الثاني: أن الأدلة على كون قوله حُجَّة عليه وعلى غيره من
العوام، كقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
تتناوله.
الثالث: حفظ دين اللَّه حتى لا يخلو الزمن الذي وقعت فيه
الحادثة من حكم فيها؛ لذلك يكون قوله حُجَّة على غيره ممن لم
يبلغ الاجتهاد وليس إجماعاً؛ لأنه لا يصدق عليه تعريف الإجماع.
المذهب الثاني: أن قوله حُجَّة وإجماع.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أستدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه عند الانفراد يصدق عليه
لفظ الأُمَّة؛ لقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أُمَّة) ، فأطلق لفظ
"الأُمَّة " عليه وهو واحد، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فكذلك
أصبح المجتهد وحده أُمَّة، فتناولته الأدلة الدالة على عصمة الأُمَّة.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إطلاق الأُمَّة على إبراهيم - عليه السلام -
مجاز؛ للقطع بأن إطلاقها على الجماعة حقيقة، والأصل عدم
الاشتراك، ولا يلزم من إطلاقها على إبراهيم - نظراً لتعظيمه -(2/871)
إطلاقها في حق غيره، لذلك فإن لفظ " الأُمَّة " لا تطلق على
الواحد أبداً.
المذهب الثالث: أنه لا يعتبر حُجَّة ولا إجماعا.
وهو مذهب بعض الشافعية.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العصمة عن الخطأ ثبتت
لجماعة المجتهدين في العصر الواحد، وأقل ما يكون ذلك يتكون من
اثنين فصاعداً، وهذا منتف في الواحد؛ لأنه ليس له اجتماع،
وليس هو بكل المؤمنين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا الدليل دلَّ على أن قول المجتهد الواحد لا
يعتبر إجماعاً، ولكن هذا الدليل لم ينف كون قوله حُجَّة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ لأنه يترتب على المذهب الأول - وهو كون
قوله حُجَّة وليس بإجماع -: أنه لا يمنع من رجوعه عن فتواه متى
ظهرت له الحُجَّة في غيره، ولا يمنع من مخالفة غيره له من
المجتهدين، سواء كان في عصره، أو بعد ذلك.
ولكن يجب على العوام أن يعملوا على ما أفتى به.
ويترتب على المذهب الثاني - وهو كون قوله حُجَّة وإجماعا - أنه
لا يجوز له الرجوع عن قوله، لكونه إجماعا، ولا يجوز لمن جاء
بعده أن يخالفه؛ لأن مخالفة الإجماع لا تجوز، سواء كان في
عصره ممن بلغ درجة الاجتهاد، أو بعد عصره.(2/872)
أما على المذهب الثالث فلا يترتب عليه شيء إلا أنه يجب عليه أن
يعمل باجتهاده، ويجب على مقلده أن يعمل على ذلك الاجتهاد.
المسألة الرابعة: هل يشترط في أهل الإجماع عدالة المجمعين؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أنه تشترط عدالة المجتهدين في الإجماع، فلا
يقبل قول المجتهد الفاسق في الإجماع مطلقاً، سواء كان فسقه من
جهة الاعتقاد، أو من جهة الفعل.
وهو مذهب كثير من العلماء، ونسبه بعضهم إلى الجمهور.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أُمَّة وسطا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس،
وحُجة عليهم فيما يشهدون به؛ لكونهم عدولاً، والوسط هو العدل
- كما تقدم -، فلما لم يكن الفاسق متصفا بهذه الصفة - وهي
العدالة - لم يجز أن يكون من الشهداء على الناس، فلا يعتد بقوله
في الإجماع، ولا في الشهادة، ولا في الرواية؛ وذلك لاتهامه في
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أوجب التوقف في أخبار غير العدل،
واجتهاده إخبار بأن رأيه كذا، فوجب التوقف في قبوله، وإذا وجب
التوقف في قبول إخباره لم يحكم بقبول خبره.(2/873)
الدليل الثالث: أن الفاسق لا يقبل قوله ولا يقلد في فتوى وهو
منفرد، نظراً لفسقه، واتهامه في الدين جعله غير مؤتمن فيقاس على
ذلك أنه لا يقبل قوله مع الجماعة ولا فرق " حيث إن الاتهام في
الدين لا زال موجوداً.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) .
وجه الدلالة: أن سبيل أهل الفسق والضلال لم يكن سبيلاً للمؤمنين.
المذهب الثاني: أنه لا يشترط عدالة المجتهدين في الإجماع، أي:
أنه يعتبر قول العدل والفاسق في الإجماع بشرط بلوغهم درجة
الاجتهاد.
وهو مذهب إمام الحرمين، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني،
والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والغزالي، والآمدي، وأبي الخطاب
الحنبلي.
دليل هذا المذهب: أن أدلة حجية الإجماع عامة، لم تشترط
عدالة المجتهد، فالفاسق يدخل في عموم " المؤمنين "، وعموم
"الأُمَّة "، فاشتراط العدالة في ذلك تخصيص بلا دليل،
والتخصيص الذي لا دليل عليه لا يقبل.
جوابه:
بأن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع السابقة ليست عامة، يدخل فيها
كل أحد، بل هي مخصصة بأن المراد بالأُمَّة وبالمؤمنين هم العدول
منهم، وقد خصص ذلك أدلتنا الأربعة السابقة الذكر، ويضاف إلى
ذلك: أن هذا الفاسق يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه في الإجماع
كما يعصي في غيره، وما دام أنه يجوز ذلك فلا يمكن الاعتداد به،
والاعتماد عليه في أمرٍ يهمُّ الإسلام والمسلمين حالاً ومستقبلاً.(2/874)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، ويتضح فيما إذا اتفق مجتهدو العصر إلا
واحداً قد خالف، فإنا ننظر في هذا الواحد: إن كان عدلاً فإنه لا
ينعقد الإجماع، لمخالفة واحد معتبر في الإجماع.
وإن كان المخالف فاسقاً فإنه ينعقد الإجماع - بناء على المذهب
الأول - لأن المخالفة ليس من أهل الإجماع، فينعقد الإجماع بدونه.
أما على المذهب الثاني فإنه لا ينعقد الإجماع، لأن المخالف من
أهل الإجماع، فلا ينعقد الإجماع لمخالفة واحد معتبر في الإجماع
عندهم.
***
المسألة الخامسة: هل يعتد بقول الكافر المجتهد في الإجماع؟
لقد اختلف في ذلك.
والحق في ذلك: أن الكافر لا يعتد بقوله في الإجماع مطلقاً،
أي: سواء كان كافراً أصلياً - وهم اليهود والنصارى ونحوهم - أو
كان كافراً متأولاً - وهو الذي كفر بسبب بدعة، أو شبهة مثل
الخوارج والجهمية ونحوهم -.
والدليل على ذلك:
أنا لم نقبل قول الكافر الأصلي في الإجماع، لعدم دخوله في
لفظ " الأُمَّة "، ولفظ: " المؤمنين ".
أما الكافر المتأول فلم نعتد بقوله في الإجماع؛ لأمرين:
أولهما: القياس على الفاسق: فإذا لم نعتد بقول الفاسق في(2/875)
الإجماع، فمن باب أوْلى لا نعتد بقول الكافر المتأول؛ لأن الكفر
فسق وزيادة.
ثانيهما: القياس على الكافر الأصلي بجامع: الكفر في كل
منهما، وإن لم يعلم هو كفر نفسه.
***
المسألة السادسة: هل يعتبر قول العوام في الإجماع؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يعتبر قول العامي في الإجماع.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ،
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا سألوا إذا لم يعلموا فإن شفاء العي
السؤال ".
وجه الدلالة: أن هذين النصين بينا أن العامي يلزمه المصير إلى
أقوال العلماء، فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه.
الدليل الثاني: أن المجتهدين من الأمَّة إنما كان قولهم حُجَّة؛ لأن
قولهم مستند إلى دليل؛ لأنه لا يجوز إثبات الأحكام بلا دليل،
والعامي ليس أهلاً للاستدلال والنظر في الأدلة، فلا يكون قوله
معتبراً لذلك.
الدليل الثالث: القياس على الصبي " المجنون: فكما أن الصبي
والمجنون لا يعتبر خلافهما ولا وفاقهما في الإجماع، فكذلك العامي
ولا فرق، والجامع: نقصان الأهلية في كل، فكيف يساوى مع
كاملي الأهلية وهم المجتهدون.(2/876)
الدليل الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بين أن الأُمَّة معصومة عن الخطأ
بالأحاديث السابقة الذكر، فإنه لم يفهم من ذلك إلا عصمة العلماء
المجتهدين الذين تتصور منهم إصابة الحكم الشرعي الصحيح؛ نظراً
لأهليتهم ومعرفتهم بالاستدلال، أما العامي، فلا نتصور ثبوت
العصمة في حقه؛ لأنه يقول الحكم بلا دليل.
المذهب الثاني: أن قول العامي معتبر في الإجماع، أي: أن
موافقة العوام معتبرة في انعقاد الإجماع، وكذلك مخالفتهم.
وهو ما اختاره بعض المتكلمين كما حكاه ابن الصباغ وابن برهان،
ونقله إمام الحرمين وابن السمعاني والصفي الهندي عن القاضي أبي
بكر الباقلاني.
دليل هذا المذهب: عموم لفظ " المؤمنين "، ولفظ " الأُمَّة "
للعالم، والعامي، إذن اسم " المؤمنين "، و " الأُمَّة " يتناول
الجميع، فلا يخرج العوام إلا بدليل، ولا دليل، وعلى ذلك يعتبر
قول العامي كغيره من الأُمَّة في انعقاد الإجماع.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين.
الجواب الأول: أن العوام وإن كانوا من الأُمَّة ومن المكلَّفين إلا
أنهم ليسوا من أهل النظر، فأشبهوا غير المميزين في عدم الفهم،
فهم مقلدون للمجتهدين الذين هم من أهل النظر، ولا يتصور
عصمة الأُمَّة عن الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة هو وحده أو
مع غيره؛ لكونه أهلاً لها، فوجب أن يراد من الأدلة الدالة على
عصمة الأُمَّة: عصمة مجتهديهم فقط، وهذا هو دليل إخراجهم من
عموم تلك الألفاظ.(2/877)
الجواب الثاني: أن هذا المذهب - وهو أن قول العوام معتبر في
الإجماع - يؤدي إلى تعطيل دليل يعتبر من أقوى الأدلة الشرعية
وهو: الإجماع، وذلك من وجهين:
أولهما: أنه لا يركن أن يتصور عاقل أن جميع الأُمَّة العلماء
والعوام يتفقون كلهم على قول واحد في حادثة واحدة.
ثانيهما: أنا لو فرضنا - مع الفرض الممتنع - تصور اجتماع
جميع الأُمَّة على قول واحد في حادثة واحدة، فمن الذي يقوم بنقل
هذا القول وجمعه من كل فرد من أفراد الأمَّة مع كثرة هؤلاء وتفرقهم
في مدن، وقرى، وبوادي، وهجر، ووديان العالم الإسلامي؛
هذا مستحيل.
بيان نوع هذا الخلاف:
إن الخلاف في هذه المسألة لفظي من وجه، ومعنوي من وجه آخر.
أما وجه كون الخلاف لفظياً فهو أنه لم يؤثر في الفروع الفقهية،
فمن قال: أجمعت الأُمَّة على كذا يريد: أجمع علماء الأُمَّة
ومجتهدوهم، ومن قال: أجمع العلماء على ذلك فقد صرح به.
أما وجه كون الخلاف معنوياً فهو: أن هذا الخلاف قد أثر في
مسألتين من مسائل أصول الفقه هما:
1 - مسألة: " هل فقدان أهلية الاجتهاد تخل بأهلية الإجماع؛ "
فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون - إن العوام لا يعتبر قولهم
في الإجماع - قالوا: إن فقدان أهلية الاجتهاد تخل بالإجماع.
أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن العوام يعتبر(2/878)
قولهم فيه - فقد قالوا: إن فقدان أهلية الاجتهاد لا تخل بأهلية
الإجماع.
2 - مسألة: " قول الواحد إذا لم يكن في العصر سواه هل يكون إجماعاً "؟ فمن قال: إن العوام يعتبر قولهم في الإجماع
- وهم أصحاب المذهب الثاني - قال: إذا لم يوجد في العصر إلا
مجتهد واحد فهم داخلون معه، فيكون إجماعا، وإلا: فلا؛ لأن
الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعداً، وقد سبق أن بيَّنا هذه
المسألة، وذكرت أن الحق هو: أن قول الواحد لا يكون إجماعاً إذا
لم يوجد غيره في العصر، ولكنه يكون حُجَّة يجب على العوام
اتباعه؛ لئلا يخلو العصر من حكم في الحادثة النازلة.
***
المسألة السابعة: العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول
الفقه دون فروعه هل يعتبر قولهما في الإجماع؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يعتبر قول العالم بأصول الفقه، دون الفقيه،
ولا يمكن أن ينعقد الإجماع بدون العالم بأصول الفقه.
وهو ما ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وإمام
الحرمين، وابن السبكي، والمحلي.
وهو الحق عندي؛ لأن العالم بأصول الفقه قد توفر فيه آلة
الاستنباط لمعرفة الحكم الشرعي لأي حادثة جديدة، وهو أقرب من
غيره إلى الاجتهاد فيها؛ وذلك نظراً لعلمه بمدارك الأحكام على
اختلاف أقسامها، وكيفية دلالتها، وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها(2/879)
ومفهومها ومعقولها، ونظراً لعلمه الشامل الدقيق بالأصول التي
يستدل بها المتفق عليها والمختلف فيها، وعلمه بمقاصد الشريعة،
فمن هذه صفته، فهو ممن يستضاء برأيه، ويستشهد بهديه، وإذا كان
كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر، وإذا ظهرت عِلَّة
اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار الوفاق، فلا يشترط فيمن ينعَقد
به الإجماع حفظ الفروع يؤيد ذلك أمران:
أولهما: أن بعض الصحابة كالعباس، وطلحة، والزبير، وسعد
ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح،
ونحوهم ممن لم يشتهروا بالفتوى كان يعتد بخلافهم ووفاقهم في
انعقاد الإجماع، فلا ينعقد الإجماع بدونهم، وهم يتساوون مع أهل
الفتوى من الصحابة المشهورين - كابن عباس، وابن عمر، ومعاذ،
وزيد، والخلفاء الأربعة - فلم يفرق بين هؤلاء وأولئك في انعقاد
الإجماع، مع أن الأوَّلين لم يكونوا من الحافظين للفروع، وما كان
ذلك إلا لأن الأولين أهل لفهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويعرفون
طرق استنباط الأحكام منهما، ومن هذه صفته فلا يمكن أن ينعقد
الإجماع بدونه.
ثانيهما: أن العالم بأصول الفقه يعتبر قوله في الإجماع، دون
الفقيه، لأن الفقيه الحافظ للفروع يحتمل أن يفوته حفظ الجزئيات
الدقيقة لمسائل الحيض، أو دقائق مسائل الوصايا، أو النفقات، أو
الطلاق، أو الحدود، أو دقائق أي باب من أبواب الفقه، أما
الأصولي فلا يحتمل، ذلك فيه؛ لأنه قد فهم القواعد الأصولية التي
تندرج تلك الفروع تحتها.
المذهب الثاني: أنه يعتبر قول الفقيه في الإجماع، دون الأصولي.
وهو مذهب بعض العلماء.(2/880)
دليل هذا المذهب:
أن الفقيه عالم بجزئيات الفروع، وأنه يحفظها فهو أعلم بحكم
النازلة بقياسها على نازلة أخرى، فرأيه محتاج إليه في الإجماع،
دون الأصولي الذي لا يحفظ تفاصيل الفروع.
جوابه:
إن احتمال فوات بعض الفروع والجزئيات على هذا الفقيه هو الذي
منعنا من قبول قوله في الإجماع، ثم إن القياس ودقائقه وشروطه
مختص به الأصولي، والمسألة مفروضة في " الفقيه الذي لا يعرف
الأصول، والأصولي الذي لا يعرف الفقه ".
المذهب الثالث: أنهما يعتبران معا، فلا ينعقد الإجماع بدونهما،
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن كل واحد منهما قد توفرت فيه أهلية النظر، ولدخولهما في
عموم لفظ " الأُمَّة "، و " المؤمنين ".
جوابه:
إنا نسلم أنهما يدخلان في عموم " الأُمَّة "، و " المؤمنين " أيضا،
ولكن خصصنا ذلك بأن المقبول قوله من الأُمَّة والمؤمنين هم المجتهدون.
والأصولي وهو العالم بدقائق أصول الفقه قد بلغ درجة الاجتهاد
بمعرفته بالقواعد الأصولية التي يندرج تحتها عدد لا يحصى من
الجزئيات - كما فصلناه فيما سبق - فهو عنده أهلية النظر.
أما الفقيه الذي لا يعلم أصول الفقه، فلا نسلم أن عنده أهلية
النظر؛ حيث إنه لا يمكنه الاستدلال على ما يقول لعدم معرفته لطرق(2/881)
الاستدلال التي هي وظيفة الأصولي، ومن لا يعرف الاستدلال فلا
يمكن أن يقبل قوله.
المذهب الرابع: أنهما لا يعتبران معا، فيمكن انعقاد الإجماع
بدونهما.
وهو مذهب أكثر العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنهما ليسا من أهل النظر، ولم تتحقق الأهلية المعتبرة في أئمة
أهل الحل والعقد من المجتهدين من الأئمة الأربعة، ومن سار على
نهجهم ممن عرفوا الأصول والفروع معا.
جوابه:
إنا نسلم أن الفقيه لم تتحقق فيه الأهلية للنظر؛ لعدم علمه بطرق
الاستدلال كما قلنا فيما سبق.
أما العالم في أصول الفقه فلا نسلم لكم أنه لم تتحقق فيه أهلية
النظر، بل توفرت تلك الأهلية؛ نظراً لمعرفته بطرق الاستدلال وهي
القواعد التي يندرج تحتها ما لا يحصى من الجزئيات - كما بيَّنا ذلك
فيما سبق -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي، حيث إنه قد أثر فى بعض المسائل،
ومنها:
1 - قول الواحد إذا لم يكن في العصر سواه هل يكون إجماعا؟
فمن قال يعتبر قول الفقيه والأصولي أو أحدهما في الإجماع - وهم
أصحاب المذهب الأول والثاني والثالث -: قال: إذا لم يوجد في
العصر إلا مجتهد واحد فهما داخلان معه فيكون إجماعا.(2/882)
ومن قال لا يعتبر قولهما في الإجماع - وهم أصحاب المذهب
الرابع - قال: إذا لم يوجد إلا مجتهد واحد في العصر، فلا
يدخلان معه، فلا يكون إجماعاً؛ لأن الإجماع لا يصدق إلا من
اثنين فصاعداً.
2 - لو وجد في هذا العصر خمسة مجتهدين قد علموا الفروع
والأصول، ووجد معهم في هذا العصر عالم بأصول الفقه دون
فروعه، وعالم بالفقه دون أصوله، واتفق الخمسة على حكم شرعي
وخالف الفقيه، والأصولي.
فعلى المذهب الرابع: يكون اتفاق الخمسة إجماعاً؛ لأن مخالفة
الفقيه والأصولي لا تعتبر.
وعلى المذهب الأول والثاني والثالث: لا يكون اتفاق الخمسة
إجماغا؛ لأن مخالفة الفقيه والأصولي معتبرة أو أحدهما.
3 - لو اتفق هؤلاء الخمسة، وخالف الأصولي فقط.
فعلى المذهب الأول والثالث لا يكون اتفاقهم إجماعاً؛ لأن
مخالفة الأصولي معتبرة.
وعلى المذهب الثاني والرابع: يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن
مخالفة الأصولي عند أصحابه غير معتبرة.
4 - لو اتفق هؤلاء الخمسة وخالف الفقيه فقط.
فعلى المذهب الأول والرابع: يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن مخالفة
الفقيه غير معتبرة.
وعلى المذهب الثاني والثالث: لا يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن
مخالفة الفقيه معتبرة.(2/883)
المسألة الثامنة: هل يشترط انقراض العصر في صحة الإجماع؟
المراد من انقراض عصر المجمعين: موتهم جميعاً بعد اتفاقهم على
الحكم في الحادثة التي نشأت في عصرهم.
وقد اختلف العلماء في اعتبار هذا الشرط في انعقاد الإجماع على
مذاهب:
المذهب الأول: أن انقراض أهل العصر - وهو موت جميع
المتفقين على الحكم - لا يشترط لصحة الإجماع مطلقا، أي: سواء
كان صريحاً أو سكوتياً، إجماع صحابة أو غيرهم.
وهو مذهب جمهور انعلماء منهم الأئمة الثلاثة: " أبو حنيفة،
ومالك، والشافعي " وأكثر أتباعهم، وهو ورواية عن الإمام أحمد
وبعض الحنابلة كأبي الخطاب وغيره، وهو اختيار بعض المعتزلة.
وبناء على ذلك فإنه لو اتفق جميع مجتهدي الأُمَّة على حكم
شرعي لمسألة معينة: ولو في لحظة واحدة مهما قصرت - انعقد
الإجماع وأصبح حُجَّة تحرم مخالفته على المجمعين وعلى غيرهم.
وهذا هو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة التي ذكرناها في
حجية الإجماع - توجب أن الإجماع حُجَّة بمجرد اتفاق مجتهدي
العصر الواحد ولو في لحظة؛ حيث إن الحجية تترتب على نفس
الاتفاف؛ لأن الاتفاق مناط العصمة، فاشتراط انقراض العصر لا
دليل عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به.
الدليل الثاني: أن التابعين كانوا يحتجون بإجماع الصحابة في
أواخر عصر الصحابة، فقد حكي عن الحسن البصري - رحمه اللَّه -(2/884)
أنه قد احتج بإجماع الصحابة وأنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - كان
حيًّا، وغيره فعل ذلك فقد زاحمهم كثير من التابعين، واحتجوا
بإجماعهم وهم - أي: الصحابة بين أظهرهم - والاحتجاج
بإجماعهم مع وجودهم قد وقع، ولم ينكره أحد، فعلم أن شرط
الانقراض غير معتبر، فلو كان الانقراض شرطا لما احتج التابعون
بإجماع الصحابة؛ لأنه لم يكن قد زم لفقد شرطه.
الدليل الثالث: قياس الحكم الثابت بالإجماع على الحكم الثابت
بالنص، فكما أن الحكم الثابت بالنص لا يختص بوقت دون وقت،
فكذلك الثابت بالإجماع ولا فرق.
الدليل الرابع: أن اشتراط انقراض العصر يؤدي إلى تعذر الإجماع
وعدم تحققه، وامتناع انعقاده مطلقا مع كونه حُجَّة متبعة، وكل شرط
أدى إلى إبطال المشروط المتفق على تحققه كان باطلاً، بيان ذلك:
أن من اشترط انقراض العصر في صحة الإجماع جوز من جاء من
التابعين - وهو من أهل الاجتهاد - مخالفة من أدركهم من
الصحابة، وشرط في صحة إجماع الصحابة موافقة ذلك التابعي،
وإذا صار التابعي من أهل الإجماع، فقد لا ينقرض عصرهم حتى
يأتي تابع التابعي - وهو من أهل الاجتهاد - ويخالفهم، وهكذا
إلى يوم القيامة، مما يؤدي إلى عدم تحقق الإجماع في عصر من
العصور، ولا يكون ثابتا.
المذهب الثاني: أن انقراض أهل العصر - وهو: موت جميع
المعتبرين في الإجماع - شرط لصحة انعقاد الإجماع مطلقا، أى:
سواء كان صريحا أو سكوتيا، في عصر الصحابة أو غيرهم، أي:
لا يسمى الاتفاق إجماعا إلا بعد موت المجمعين.(2/885)
وهو رواية ظاهرة للإمام أحمد، وهو اختيار بعض الشافعية كابن
فورك، وسليم الرازي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وتلميذه ابن
عقيل، والحلواني، وبعض المعتزلة، ورواية عن الخوارج.
وبناء على هذا المذهب فلا تحرم مخالفتهم للإجماع في عصرهم،
فيصح أن يرجع بعضهم، أو يرجعوا جميعاً عن الحكم، ولا يكون
اتفاقهم إجماعا ولا حُجَّة إلا إذا ماتوا، وإذا أدركهم من جاء بعدهم
- وبلغوا درجة الاجتهاد - وخالفوهم في ذلك الحكم فإنه يعتد
بخلافهم.
أدلة هذا المذهب؛
الدليل الأول: أنه لو كان اتفاق المجتهدين حُجَّة قبل انقراض
العصر لامتنع رجوع المجتهد عن اجتهاده؛ إذا ظهر له أنه أخطأ فيه،
وهذا مخالف لإجماع العلماء؛ حيث أجمعوا على وجوب رجوع
المجتهد عند ظهور الدليل الموجب لذلك، فبطل كون الاتفاق قبل
الانقراض حُجَّة، وبناء على ذلك: وجب اشتراط الانقراض في
الحجية.
جوابه:
إن العلماء قد أجمعوا على وجوب رجوع المجتهد عند ظهور
موجبه إذا كان الاجتهاد انفرادياً، أما إذا كان الاجتهاد جماعياً، فلا
يجوز لأي مجتهد أن يرجع عن اجتهاده، ولو ظهر له موجب،
فيكون هذا الموجب مؤول، أو منسوخ، فلم يكن موجبا للرجوع؛
لأن الإجماع قاطع، فيدل على بطلان مقابله، أو تأويله.
الدليل - الثاني: قياس الإجماع على السُّنَّة، بيان ذلك:
إن وفاة - صلى الله عليه وسلم - شرط في استقرار الحُجَّة فيما يقوله، فكذلك(2/886)
وفاة المجمعين - وهو: المراد بانقراض العصر - شرط في استقرار
قول الجماعة وصحته.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن الأصل المقاس عليه لا نسلمه؛ فلا نسلم أن
وفاة - صلى الله عليه وسلم - شرط في حجية سُنَته، ولا في استقرارها، بل هي حُجَّة بمجرد ورودها، ولو لم تكن حُجَّة بمجرد ورودها لما وجبت
طاعته فيها، والإجماع حاصل في طاعته - صلى الله عليه وسلم -، وكذا يجب اعتقاد استقرار حجية السُّنَّة بمجرد ورودها حتى يظهر المغير، ولو لم يكن كذلك لارتفعت الثقة بالقرآن والسُّنَّة، وهذا باطل.
الجواب الثاني: لو سلمنا أن الأصل المقاس عليه صحيح - وهو
اشتراط وفاته في استقرار حجية السُّنَّة - فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين إجماع الأُمَّة، وهو: أن قول - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يستقر قبل موته؛ لاحتمال نسخه وهو متوقع، وذلك إنما هو بالوحي القاطع، ورفع القاطع بالقاطع بطريق الوحي جائز في عهده - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد، فإنه لا ينسخ.
المذهب الثالث: أن انقراض المجمعين شرط في إجماع الصحابة
فقط.
وهو اختيار ابن جرير الطبري وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب: الوقوع؛ حيث وقع رجوع بعض الصحابة عن
إجماع الصحابة في مسألة معينة، فلو لم يشترط انقراض عصر(2/887)
الصحابة لم يصح رجوع بعضهم؛ نظراً لاستلزام الرجوع مخالفة
الإجماع، وإليك بعض أمثلة رجوع بعض الصحابة.
فمنها: أنه أجمع عمر وعليّ - رضي اللَّه عنهما - على أن أم
الولد لاتباع، ثم خالف علي هذا بعد وفاة عمر، ورأى أن يبعن،
قال عليّ - رضي اللَّه عنه -: " اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات
الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن "، فقال له عبيدة
السلماني: " رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك "،
فهنا عليّ - رضي اللَّه عنه - أظهر الخلاف بعد الإجماع، وأقر عليه،
فلو كان لا يشترط انقراض عصر الصحابة ما جاز له الخلاف، ولما
أقر عليه.
جوابه:
يجاب عنه: بانا لا نُسَلِّمُ بأن مخالفة عليّ - رضي اللَّه عنه -
كان لإجماع سابق، حيث لم يتم إجماع في زمن عمر - على عدم
بيع أم الولد - يدل على ذلك قول جابر: " بعناهن على زمن النبي
- صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وشطر من زمن عمر "،
وهو قول ابن عباس، فهنا جابر وغيره قد خالفوا في ذلك.
أما قول عبيدة السلماني: " رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك
وحدك "، فلم يُرد به أن موافقة الجماعة إجماعا، وإنما أراد به: أن
رأيك في زمان الألفة، والجماعة والاتفاق، والطاعة للإمام أحب
إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة.
بيان نوع الخلاف في هذه المسألة:
الخلاف هنا معنوي، يظهر أثره في أمرين هما:(2/888)
أولهما: هل يجوز رجوع المجمعين أو بعضهم عما أجمعوا عليه أو لا؟
اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة.
فعلى المذهب الأول - وهو: أن انقراض العصر لا يشترط لصحة
الإجماع مطلقاً -: لا تجوز مخالفة المجمعين لما أجمعوا عليه، ولا
تجوز مخالفة بعضهم له أيضاً.
أما على المذهب الثاني - وهو: أن الانقراض شرط لصحة
الإجماع مطلقاً -: فإنه يجوز أن يرجع جميع المجتهدين المجمعين
عن إجماعهم، ويجوز رجوع بعضهم، فيبطل إجماعهم.
أما على المذهب الثالث - وهو: أن الانقراض شرط لصحة
إجماع الصحابة - فإنه يجوز رجوع المجمعين الصحابة أو بعضهم،
ولا مانع من ذلك دون إثم، أما غير الصحابة فلا يجوز للمجمعين
كلهم ولا لبعضهم الرجوع عن الإجماع.
ثانيهما: هل يُعتد بخلاف الناشئ إذا بلغ درجة الاجتهاد بعد أن
أجمع العلماء على تلك المسألة وبعض المجمعين على قيد الحياة؛
اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة.
فعلى المذهب الأول - وهو عدم اشتراط انقراض العصر لصحة
الإجماع - مطلقاً، لا يعتد بخلاف ذلك الناشئ مطلقا، سواء كان
من الصحابة أو غيرهم.
أما على المذهب الثاني - وهو: اشتراط انقراض العصر مطلقا -
فإنه يُعتد بخلاف ذلك الناشئ مطلقا.
أما على المذهب الثالث - وهو اشتراط الانقراض لصحة إجماع(2/889)
الصحابة - فإنه يُعتد بخلاف الناشئ التابعي البالغ درجة الاجتهاد في
عصر الصحابة فقط، أما غير التابعي فلا يعتد بخلافه إذا بلغ درجة
الاجتهاد بعد اتفاق علماء عصره.
***
المسألة التاسعة: إذا بلغ التابعي درجة الاجتهاد في عصر
الصحابة قبل اتفاقهم، فهل يُعتد بقوله وفاقاً وخلافاً؟
لقد قلنا في المسألة السابقة: إنه لا يشترط انقراض عصر المجمعين
مطلقاً، أي: سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وترتب على هذا
القول: إنه لا يُعتد بخلاف من خالفهم بعد انعقاد الإجماع منهم
مطلقا، سواء كان تابعياً بلغ درجة الاجتهاد في عصر الصحابة بعد
إجماعهم أو لا.
لكن هذه المسألة تختلف عن تلك فهي مفروضة فيمن بلغ درجة
الاجتهاد من التابعين في عصر الصحابة، وقبل انعقاد إجماع
الصحابة على مسألة معينة، فهل يُعتد بقوله وفاقا وخلافا أو لا؟
على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يُعتد بقوله.
أي: إذا حضر المجتهد من التابعين مع الصحابة في وقت حدوث
الحادثة فخالفهم، لم ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفتة، وتكون
المسألة مختلف فيها.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدلبل الأول: عموم الأدلة المثبتة لحجية الإجماع، وهي التي
ذكرناها من الآيات والأحاديث، فإنها دلَّت على أن المتبع هم كل(2/890)
المجتهدين من " المؤمنين " ومن " الأمة " الموجودين حين حدوث الحادثة في عصر واحد، وهذا الاسم - وهم المؤمنون والأمة - لا يصدق مع خروج التابعي المجتهد عن الصحابة، لأن التابعي المجتهد من الأمة ومن المؤمنين، فلو نظر الصحابة دون التابعي المجتهد في تلك المسألة وأجمعوا على حكمها، فإنه لا يقال: " أجمع جميع مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - "، فالحجة إجماع الكل، وما دام الأمر كذلك فإنه يعتد بقول التابعي مع الصحابة.
الدليل الثاني: الوقوع، حيث إن بعض التابعين قد اجتهدوا وأفتوا في مسائل مع وجود بعض الصحابة، ولم ينكر الصحابة عليهم ذلك، ولو كان قول التابعي المجتهد مع وجود الصحابي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والأخذ به، والرجوع إليه، وإليك أمثلة على ذلك:
1 - أن كبار أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه - كعلقمة النخعي، والأسود النخعي، وغيرهما كانوا يفتون الناس مع وجود ابن مسعود وغيره من الصحابة بدون نكير.
2 - أن سعيد بن المسيب كان يفتي بالمدينة المنورة، وفيها خلق كثير من الصحابة، وكذلك فقهاء التابعين المعاصرين لبعض الصحابة يفعلون ذلك كسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن البصري.
3 - أن أنساً سُئل عن مسألة فقال: " سلوا مولانا الحسن - يعني الحسن البصري - فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
4 - أن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب قد وليا شريحا بن الحارث التابعي القضاء وأمراه بالاجتهاد إن لم يجد حكم الحادثة في النص ولم يعترضا - أي: عمر وعليّ - على ما قضي به شريح فيما(2/891)
خالفهما فيه، وحكم على عليّ في خصومة عرضت له عنده على
خلاف رأي عليّ، ولم ينكر عليه.
5 - أن رجلاً سأل ابن عمر عن فريضة، فقال: سل سعيد بن
جبير، فإنه يعلم منها ما أعلم، ولكنه أحسب مني.
وغير ذلك من الأمور التي دلَّت على أن الصحابة قد أجازوا
وسوغوا للتابعين الاجتهاد معهم، وأخذ رأيهم، وكيف لا يعتبر
قولهم، وقد أقر الصحابة لهم بالفضل والعلم والفهم للشريعة،
ولم ينكروا عليهم؟! ولو وجد إنكار لبلغنا، ولكن لم يصح شيء
من ذلك.
المذهب الثاني: أنه لا يُعتد بقول التابعي المجتهد مع الصحابة.
أي:. أن الصحابي إذا بلغ درجة الاجتهاد وأدرك عصر الصحابة،
فحدثت حادثة في ذلك العصر، فإنه لا يُعتدُّ بقوله: فإذا أجمع
الصحابة على رأي في تلك الحادثة وخالفهم ذلك التابعي، فإنه
ينعقد الإجماع بدون النظر في مخالفة التابعي.
وهو مذهب بعض المالكية كابن خويز منداد، وبعض الشافعية
كابن برهان، وبعض الحنابلة كأبي يعلى.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد تميزوا عن
غيرهم بالصحبة، وهذا الوصف يقتضي أن الموصوف به قد شاهد
التنزيل، وعلم التأويل، وعلم الشرع من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وعرف مقاصد الشريعة، فإذا كان الصحابة يتميزون بذلك في حين أن هذه المميزات معدومة في التابعين، فإنه يتبين لك ان الحق معهم،(2/892)
ولا يكون مع مخالفهم، وأن مرتبة الصحابة بالنسبة للتابعين كمرتبة
العلماء مع العوام، فكما أن العامي لا يعتد بقوله في إجماع
العلماء، نظراً لعدم العلم، فكذلك التابعي لا يعتد بخلافه في
إجماع الصحابة، نظراً لتلك المميزات التي تميز بها الصحابة.
جوابه:
إننا نسلم بأن الصحابة يفضلون على التابعين بفضيلة الصحبة،
ولكن فضيلة الصحبة لا تجعل الإجماع مختص بهم، وأنه لا يُعتد
بقول غيرهم ممن عاصرهم من مجتهدي التابعين؛ وذلك لأن شرط
الإجماع الأساسي هو: كون المجمعون قد بلغوا درجة الاجتهاد
مطلقا، فكون الصحابة أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد لا ينفي وجود
من يعلم ذلك من مجتهدي التابعين، إذن مجتهدو العصر الواحد قد
تساووا في الاجتهاد، فيقبل قول كل واحد من المجتهدين سواء كان
صحابيا أو غير صحابي.
أما قولكم: إن الصحابة مع التابعين كالعلماء مع العامة، فهذا لا
نسلمه لكم مطلقاً؛ لأن هذا القول مخالف للحقيقة، فقياس التابعين
على العوام قياس فاسد؛ لأن مجتهدي التابعين قد وصلوا إلى درجة
من العلم والفقه والفهم قد تساوي ما علمه الصحابي إن لم تزد عليه.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث وقع إنكار بعض الصحابة على
بعض التابعين ولو كان التابعي المجتهد يُعتد بخلافه مع الصحابة لما
وقع هذا الإنكار، والإنكار ورد في قصة عائشة - رضي اللَّه عنها -
مع أبي سلمة؛ حيث روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
أنه قال: كنا نتذاكر أنا، وابن عباس، وأبو هريرة في عدة المتوفى
عنها زوجها، فقال ابن عباس: تعتد بأقصى الأجلين، فقلت: بل(2/893)
عدتها: أن تضع حملها، فأنكرت عائشة - رضي اللَّه عنها - على
أبي سلمة ذلك، وقالت: مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح
فصاح لصياحها.
وروى الإمام مالك في " الموطأ ": أن عائشة قالت ذلك لأبي
سلمة في الغسل من التقاء الختانين، قال أبو سلمة: سألت عائشة
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يوجب الغسل؛ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ :
مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها، إذا
جاوز الختان فقد وجب الغسل.
فلو كان قول التابعي - وهو هنا أبو سلمة - معتبرا مع الصحابة:
لما أنكرت عائشة على أبي سلمة مجاراته للصحابة، وكلامه واجتهاده
معهم، ولما زجرته عن ذلك، وهذا يدل على أنهم لم يسوغوا
خلاف التابعين معهم.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن إنكار عائشة على أبي سلمة قد وقع، ولكن
هذا الإنكار اجتهاد منها - رضي اللَّه عنها - خالفها فيه ابن عباس
وأبو هريرة - رضي اللَّه عنهم - حيث إن أبا سلمة لما قال - في
القصة السابقة -: " وقلت: أنا عدتها أن تضع حملها ":
قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم
سلمة يسألها، قالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية، وهي حبلى
فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
فهنا لم ينكر ابن عباس وأبو هريرة مخالفة أبي سلمة في هذه
المسألة، مما يدل على تسويغ بعض الصحابة لذلك، وعدم فعله ما(2/894)
ينكر عليه، لأنه مجتهد ناظر مجتهدين، إذن: إنكار عائشة على
أبي سلمة يقابل بموافقة هذين الصحابيين، والوافقة مقدمة على
الإنكار، فيثجت أن التابعي المجتهد يُعتد بقوله مع الصحابة.
الجواب الثاني: أن إنكار عائشة لا يدل على مذهبكم وهو: أن
التابعي المجتهد لا يعتد بقوله في إجماع الصحابة؛ حيث إن إنكارها
ورد على شخص معين في قضية معينة، وهذا يحتمل احتمالين:
الاحتمال الأول: أن عائشة قد أنكرت على أبي سلمة؛ لأنه
يبلغ درجة الاجتهاد - من وجهة نظرها - ومن لم يبلغ درجة
الاجتهاد فلا يؤخذ برأيه في المسائل الفقهية.
الاحتمال الثاني: أن أبا سلمة قد يكون من البالغين درجة
الاجتهاد، ولكن عائشة أنكرت عليه لعدم تأدبه مع ابن عباس حبر
هذه الأُمَّة حال المناظرة من رفع صوت ونحوه، وقولها: " يصيح "
يشعر بذلك، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، له أثره وهو واضح، فلو اتفق الصحابة
على حكم معين وخالفهم تابعي مجتهد، فهل يكون الإجماع صحيحا؟
اختلف في ذلك: والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة.
فعلى المذهب الأول: لا يكون اتفاق الصحابة إجماعاً، بل
تكون المسألة مختلف فيها، لأنه يُعتد بخلاف التابعي المجتهد مع
الصحابة.
وبناء على المذهب الثاني: يكون اتفاق الصحابة إجماعاً،(2/895)
ولا عبرة بخلاف التابعي، وتكون المسألة مجمعا عليها، لا تجوز
مخالفته.
***
المسألة العاشرة: هل يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين؟
أو هل ينعقد الإجماع بقول الأكثر؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين، فلا
ينعقد الإجماع بقول أكثر العلماء، فلو اتفق علماء العصر على حكم
حادثة إلا الواحد أو الاثنين منهم: لم ينعقد الإجماع.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن النصوص السابقة - وهي التي ذكرناها في
حجية الإجماع - دلَّت على عصمة الأُمَّة عن الخطأ، ولفظ الأُمَّة إنما
يُطلق حقيقة على جميع الأُمَّة، ولا يُطلق على أكثر الأُمَّة، وإن
أطلق على أكثر الأُمَّة فإطلاق مجازي لا يصح إلا بقرينة، وحيث لا
توجد قرينة، فإنا نحمل لفظ " الأُمَّة " على كل الأُمَّة وجميعها،
فينتج: أن العصمة عن الخطأ يكون بجميع الأُمَّة، أما أكثر الأُمَّة فلا
عصمة لهم، ونظراً إلى أنه لا عصمة لأكثر الأُمَّة، فلا ينعقد
الإجماع باتفاقهم.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إنه قد وقع في زمن الصحابة اتفاق
الأكثر منهم على حكم من الأحكام، ومخالفة الأقل، بل تفرد
الواحد منهم برأيه في مسألة معينة مع اتفاق الأكثر على رأي آخر،
فلو كان اتفاق الأكثر يعتبر إجماعاً للزم الأقل أو الواحد منهم أن(2/896)
يعمل بذلك الإجماع، ولأنكروا على ذلك المخالف مخالفة ذلك
الإجماع، وعلى ذلك أمثلة:
1 - مخالفة ابن عباس لاكثر الصحابة في مسألة الجد والإخوة،
ومسألة العول.
2 - مخالفة ابن مسعود لأكثر الصحابة في بعض مسائل الفرائض.
3 - مخالفة زيد بن أرقم لأكثر الصحابة في مسألة العينة.
وغير ذلك من الأمثلةْ، ولم ينكر ذلك أحد منهم، ولو وجد
إنكار لنقل وبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك.
وما نقل من الإنكار على بعض الصحابة لم يكن إنكار تخطئة،
وإنما هو إنكار في الدليل والمأخذ فقط، كما يجري ذلك مع مجتهد
حينما يناظر مجتهداً آخر.
ومما يؤيد أن اتفاق الأكثر لا يُسمَّى إجماعا: أن الرأي الذي ذكره
الأقلون من الصحابة أو الواحد منهم بقي إلى زماننا هذا، وسمِّيت
المسألة خلافية، وربما كان الرأي الذي ذهب إليه الأقل منهم كان هو
المعمول به عند بعضهم، فلو كان ذلك مخالفاً للإجماع لما كان ذلك
جائزاً.
المذهب الثاني: أنه لا يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين،
فينعقد الإجماع بقول الأكثر، فلو اتفق علماء العصر على حكم
معين وخالفهم الواحد أو الاثنين منهم، فإنه ينعقد الإجماع.
وهو ما ذهب إليه ابن جرير الطبري، وأبو بكر الجصاص، وأبو
الحسن الخياط من المعتزلة، وابن حمدان من الحنابلة، وأبو محمد
الجويني من الشافعية.(2/897)
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع: فإنه لما اتفق أكثر الأُمَّة على مبايعة "أبي
بكر - رضي اللَّه عنه - بالخلافة، انعقد الإجماع على ذلك،
وخالف في ذلك بعض الصحابة كعليّ وغيره، فلو لم يكن اتفاق
الأكثر إجماعاً لما كانت خلافة أبي بكر ثابتة بالإجماع.
جوابه:
لا نسلم ما ذكرتم، بل إن خلافة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - قد
اتفق عليها جميع الصحابة: فبعضهم نطق بالمبايعة، وبعضهم لم
ينكر ذلك، ولو أنكر لنقل، ولكن لم ينقل شيء من ذلك، وما
قيل من مخالفة علي - رضي اللَّه عنه - في ذلك غير صحيح،
ولكنه تأخر في البيعة لعذر خاص به، فلما علم بتلك البيعة وافق
وقال: " رضيه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا! ".
الدليل الثاني: أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد أو الاثنين لما انعقد
الإجماع أصلاً؛ لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين
جوابه:
إنه إذا اتفق جميع المجتهدين في العصر على حكم معين، فإن
ذلك يكون إجماعاً، ويحتج به، وتحرم مخالفته، واتفاق هؤلاء
يعلم إما بصريح القول، أو بقرائن تدل على موافقته، وذلك ممكن
كما سبق.
أما إذا خالف واحد أو اثنان - ممن بلغوا درجة الاجتهاد - هؤلاء
الأكثر، فإنه لا إجماع، بل تكون المسألة مختلف فيها - كما قلنا
ذلك فيما سبق.(2/898)
الدليل الثالث: أن الإجماع حُجَّة في العصر الذي هِم فيه،
وذلك يقتضي أن يكون منهم مخالف ليكون ذلك الإجماع حُجَّة عليه.
جوابه:
أن الإجماعِ حُجَّة على من خالف منهم بعد انعقاد الوفاق في
زمنهم، وحُجة على من يوجد بعدهم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي، وهو واضح، فلو اتفق أكثر
علماء العصر على حكم معين، وخالف واحد ممن بلغ درجة
الاجتهاد، فهل يسمى هذا الاتفاق إجماعا أو لا؟
فعلى المذهب الأول: لا يُسمَّى هذا الاتفاق إجماعا، فتجوز
مخالفة الرأي الذي اتفق عليه الأكثر، ويتخير المكلََّف بين رأي
الأكثر والاءقل.
أما على المذهب الثاني، فإنه يسمى هذا الاتفاق إجماعا، فلا
تجوز مخالفة الرأي الذي اتفق عليه الأكثر، ويلزم المكلََّف المقلد بما
اتفق عليه الأكثر.
***
المسألة الحادية عشرة: اتفاق الأكثر هل يكون حُجَّة يجب الأخذ به؟
لقد اختلف أصحاب المذهب الأول في المسألة السابقة - وهم
القائلون: إن اتفاق الأكثر لا يعتبو إجماعا - فيما بينهم هل يكون
اتفاق الأكثر حُجَّة.
والحق: أن اتفاق أكثر العلماء ليس بحُجَّة، فيجوز مخالفة ما(2/899)
اتفق عليه الأكثر إذا ظهر الحق في غيره؛ لأن الحق قد يكون مع
الأكثر، وقد يكون مع الأقل، والاحتمالان متساويان، فنتوقف في
ذلك حتى يظهر لنا دليل يرجح أحد هذين الاحتمالين.
والكثرة لا تتميز بشيء؛ لما تقدم من أن العصمة قد ثبتت للكل،
لا للكثرة، وكثيراً ما ظهر أن الحق في جانب قول الأقل.
***
المسألة الثانية عشرة: هل يشترط في انعقاد الإجماع وحجيته
أن يكون له مستند ودليل؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يشترط في الإجماع وحجيته أن يكون له مستند
ودليل ومأخذ يوجب ذلك الإجماع.
وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قياس علماء الأمَّة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بيانه:
أنه كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول شيئاً ولا يحكم بحكم إلا عن وحي، كما قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إلا وحي
يوحى) ، فكذلك علماء الأُمَّة يجب أن لا يجمعوا على حكم إلا
عن مستند ودليل قد اعتمدوا عليه.
الدليل الثاني: أن عدم المستند من دليل أو أمارة يحتمل عدم
الوصول إلى الحق، مما يؤدي ويفضي إلى جواز الخطأ، فلذلك
قلنا: لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند؛ سدا لهذا الاحتمال.
الدليل الثالث: لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن
لاشتراط الاجتهاد فيمن يُعتدُّ به في الإجماع معنى؛ لأننا لم نشترط(2/900)
بلوغ درجة الاجتهاد لكل واحد من المجمعين إلا من أجل أن ينظر في
المسألة عن استدلال، وأن يعتمد فيما يقول على دليل وأمارة، ولو
كان الإجماع ينعقد بلا مستند لدخل المجتهد وغير المجتهد.
المذهب الثاني: أنه لا يشترط في الإجماع أن يكون له مستند،
فيجوز انعقاد الإجماع عن غير مستند، وذلك بأن يوفقهم اللَّه تعالى
لاختيار الصواب من غير أن يكون لهم مستند أو دليل يستندون إليه،
وهو مذهب طائفة شاذة، وقيل: إنه مذهب بعض أهل الأهواء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع، فقد وقع الإجماع عن غير دليل وغير
مستند، والوقوع دليل الجواز، وذلك كإجماع العلماء على جواز
عقد الاستصناع، وأجرة الحمام، وبيع المعاطاة أو المراضاة.
جوابه:
لا نسلم أن هناك أحكاماً شرعية قد أجمع العلماء عليها بدون
مستند.
أما ما ذكرتموه من الأمثلة والصور، فلم يقع الإجماع عليها إلا
عن دليل ومستند، وإليك بيان ذلك:
أما عقد الاستصناع، فقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكره - مع علمه به - فكان ثبوته عن طريق السُّنَّة التقريرية.
أما أجرة الحمام فهي مقدرة بالعادة والعرف، وهو دليل شرعي؛
لقوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) .
أما بيع المراضاة - وهو ما حصل بتراضي الجانبين - بلا لفظ -(2/901)
فلا نسلم أنه صحيح - بإجماع العلماء، بل خالف في ذلك الإمام
الشافعي - رحمه اللَّه -.
الدليل الثاني: لو لم ينعقد الإجماع إلا عن مستند ودليل، لكان
ذلك الدليل هو الحُجَّة في المسألة، فلا يكون للإجماع فائدة.
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل إن فائدة الإجماع هي: أنه يكفينا مؤنة
الرجوع إلى أدلة المجمعين، وكيفية دلالة كل دليل على مدلوله ونحو
ذلك.
فإذا قيل: إن العلماء أجمعوا على حكم تلك المسألة نكتفي
بذلك، ولا نسأل عن أدلة المجمعين.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ لأنه لا يعمل بالإجماع الذي لا مستند له،
وقيل: إن الخلاف لفظي؛ لعدم اختلاف عمل المكلف على المذهبين.
***
المسألة الثالثة عشرة: الدليل القطعي هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟
أصحاب المذهب الأول من المسألة السابقة - وهم القائلون: لا بد
للإجماع من مستند - اختلفوا فيما بينهم في جواز كون الدليل
القطعي مستنداً للإجماع على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع دليلاً قاطعاً من
كتاب أو سُنَّة، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق لدليلين:
الدليل الأول: أنه لا مانع من ذلك، فهو يكون من تضافر(2/902)
الأدلة؛ قياساً على ثبوت الحكم الواحد بآيات متعددة، أو بالكتاب
والسُّنَّة المتواترة، كما هو واقع في الصلاة والزكاة وجميع أركان
الإسلام، وما دام أنه لا يمتنع: إذن هو جائز.
الدليل الثاني: الوقوع، فقد وقع من العلماء - أنهم يستدلون
على بعض الأحكام الثابتة بالكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع مع أن
مستند الإجماع آيات من الكتاب، وبعض الأحاديث المتواترة،
فيقولون - مثلاً -: ثبت تحريم الأمهات والجدات والبنات بالكتاب
والسُّنَّة والإجماع، وهكذا، والوقوع دليل الجواز.
المذهب الثانى: أن الإجماع لا ينعقد عن الدليل القطعي من
الكتاب، أو السُّنَّة المتواترة، أي: لا يكون مستند الإجماع دليلاً
قطعياً.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه إذا وجد الدليل القطعي من الكتاب، أو السُّنَّة المتواترة، فإنه
لا يُحتاج إلى الإجماع، نظراً لثبوت الحكم بهما، فلا فائدة - إذن -
من الإجماع.
جوابه:
لا نسلم أنه إذا دلَّ على الحكم دليل قطعي من الكتاب أو السُّنَّة
المتواترة، فإنه يصبح الإجماع لا فائدة فيه، بل فيه فائدة وهي: أن
المستدل بالإجماع لا يطالب بمستند سواه؛ وهذه الفائدة تكفي
المجتهدين مؤنة البحث عن مستند الإجماع من الأدلة القطعية،
وكيفية دلالته، ثم إن الإجماع يكون من الأدلة القطعية مؤكدا لما
أفادته من القطع.(2/903)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن الحكم واحد، ولكن
أصحاب المذهب الأول قالوا: إنه ثبت بالإجماع المستند إلى أدلة
قطعية، وأصحاب المذهب الثاني قالوا: إنه ثبت بذلك المستند
القطعي نفسه، لا بالإجماع.
المسألة الرابعة عشرة: الدليل الظني هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الدليل الظني يصلح أن يكون مستنداً للإجماع،
فيجوز انعقاد الإجماع عن أي دليل ظني.
وهو مذهب الجمهور.
وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أنه لا مانع من انعقاد الإجماع عن دليل ظني؛
قياساً على انعقاد الإجماع عن دليل قطعي ولا فرق، والجامع: أن
كلاً من الدليل القطعي والظنى يوجب العمل، ولذلك يستند إليهما
الإجماع.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إن أكثر الإجماعات الموجودة لدينا
قد ثبتث وانعقدت وهي مستندة إلى أدلة ظنية، كالعموم والظاهر
والمفاهيم، والقياس، وخبر الواحد، والوقوع دليل الجواز.
الدليل الثالث: أن النصوص - السابقة الذكر - المثبتة لحجية
الإجماع جاءت عامة، لم تفصل بين الإجماع المستند لدليل قطعي أو(2/904)
ظني، فلا يجوز اشتراط كون الدليل قطعيا؛ لأنه تقييد بلا دليل
صحيح وهو باطل.
الدليل الرابع: أنا وجدنا الخلق الكثير الزائد على عدد التواتر قد
أجمعوا على أحكام باطلة لا تستند إلى دليل قطعي ولا ظني،
فجواز انعقاد الإجماع عن الدليل الظني الظاهر أوْلى.
المذهب الثاني: أن الدليل الظني لا يصلح أن يكونا مستنداً
للإجماع، فلا ينعقد الإجماع إلا عن دليل قطعي من كتاب أو سُنَّة
متواترة، وهو مذهب أكثر الظاهرية، وكثير من الشيعة، وابن جرير
الطبري.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إن الدليل الظني لا يوجب العلم القطعي، فلا يجوز أن
يصدر عنه الإجماع؛ لأن الإجماع يوجب العلم القطعي، فالقطعي
لا يثبته إلا القطعي، والظني لا يقوى على إثبات القطعي.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة.:
الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن الإجماع يكون قطعيا دائماً، بل إن
أكثر الإجماعات ظنية.
الجواب الثاني: أن ما قلتموه في المستند الظني ينطبق تماما على
المستند القطعي؛ حيث إن المستند القطعي يحتمل النسخ، أو غيره،
فالإجماع عليه قد رفع عنه هذا الاحتمال، ولم تقولوا: إن الإجماع
حينئذ أقوى من مستنده فيمتنع، بل جوزتم الإجماع عنه.
الجواب الثالث: الوقوع؛ حيث وقع أن أكثر الإجماعات قد(2/905)
استندت إلى دليل ظني - كما سبق ذكر ذلك - والوقوع هذا يخالف
ما ذكرتموه.
بيان نوع الخلاف:
يفهم من الخلاف السابق أنه معنوي إذا عرفنا مستند الإجماع، فإن
كان مستند الإجماع قطعياً، فاتفق أصحاب المذهبين على أنه يسمى
إجماعاً تحرم مخالفته.
أما إن كان مستند الإجماع ظنياً، فعلى المذهب الأول: أنه يُسمَّى
إجماعاً كالمستند على الدليل القطعي ولا فرق.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا يُسمى إجماعاً، نظراً لاستناده
إلى دليل لا يصلح مستنداً للإجماع، وعليه فإنه لا تحرم مخالفته.
المسألة الخامسة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن خبر الواحد:
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: جواز انعقاد الإجماع عن خبر واحد.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق " لما يلي:
الدليل الأول: أن النصوص المثبتة لحجية الإجماع قد وردت عامة
وشاملة للإجماع المستند إلى قطعي، والمستند إلى دليل ظني، فلم
تفرق بينهما، وما دام أن خبر الواحد يفيد الظن، فيكون صالحاً لأن
يستند عليه الإجماع.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث ثبت أن أكثر الإجماعات مستندة
إلى خبر واحد مثل:(2/906)
1 - الإجماع على وجوب الغسل من التقاء الختانين مع أن مستنده
خبر عائشة - رضي اللَّه عنها -.
2 - إجماع العلماء على حرمة بيع الطعام قبل القبض مع أن
مستنده خبر واحد، وهو حديث ابن عمر وهو أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفية "، ونحو ذلك،
والوقوع دليل الجواز.
المذهب الثاني: عدم جواز انعقاد الإجماع عن خبر الواحد.
وهو مذهب أكثر الظاهرية، والشيعة، وابن جرير الطبري.
دليل هذا المذهب:
هو دليل أصحاب المذهب الثاني في المسألة السابقة، وقد سبق قريباً.
جوابه:
قد سبق جوابه فراجعه من هناك.
بيان نوع الخلاف:
هو نفسه نوع الخلاف في المسألة السابقة.
المسألة السادسة عشرة: لو ظهر خبر واحد موافق لمقتضى
الإجماع، فهل يجب تعيينه مستندا للإجماع أو لا؟
اختلف أصحاب المذهب الأول من المسألة السابقة في هذه المسألة
على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجب تعيينه، فالحديث الذي وافقه حكم(2/907)
الإجماع يجوز أن يكون مسنداً للإجماع، ويجوز أن لا يكون هو
مستند الإجماع، وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق، لأن هذا الخبر يحتمل أن يكون هو المستند للإجماع،
ويحتمل أن يكون مستند الإجماع دليلاً آخر، ومع الاحتمال، فلا
جزم.
وإذا صح هذا الخبر كان دليلاً آخر للحكم المجمع عليه، ويجوز
توارد دليلين وأكثر على حكم واحد.
المذهب الثاني: أن الحديث الذي وقع الإجماع على مقتضاه يجب
أن يتعين سنداً للإجماع، وهو اختيار أبي حنيفة، وحكي عن
الشافعي، وهو مذهب بعض الأشاعرة.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إن الإجماع لا بد له من مستند، وقد تيقنا صلاحية هذا
الحديث لأن يكون مستنداً لذلك الإجماع؛ لأنه لم ينقل إلينا مستند
لهذا الإجماع، فنتج من ذلك: تعين أن يكون الحديث المذكور
مستنداً للإجماع، ولو لم نجعل ذلك مستنداً له لخلا الإجماع عن
مستند، وهذا لا يجوز.
جوابه:
إن تيقن استناد الإجماع لذلك الخبر؛ نظراً لموافقته له، وصلاحيته
له هذا لا يسلَّم؛ لجواز أن يكون هناك خبر آخر، أو دليل آخر
استندوا إليه في إجماعهم ولم ينقل؛ استغناء بالإجماع عنه، ونظراً
لهذا الاحتمال فلا يمكن القطع والتيقن، بل ولا يغلب على الظن.(2/908)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي هنا؛ لأنه يترتب على المذهب الأول: أن
الإجماع لا يصلح أن يكون دليلاً على صحة الخبر الذي وافقه؛ لأنا
لم نجزم بأن العلماء أجمعوا على ذلك الحكم، وكان مستند ذلك
الإجماع هو الخبر، فيطلب تصحيحه من جهة أخرى.
ويترتب على المذهب الثاني: أن ذلك الإجماع يصلح أن يكون
دليلاً على صحة الخبر الذي وافقه.
***
المسألة السابعة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن القياس:
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: جواز انعقاد الإجماع عن القياس.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: الوقوع، حيث وقع أن الصحابة والسلف قد
أجمعوا على أحكام، وكان مستند ذلك الإجماع هو القياس مثل:
1 - إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، وكان مستند ذلك
القياس فقاسوا: الإمامة الكبرى - وهي الخلافة - على الإمامة
الصغرى - وهي الإمامة في الصلاة.
2 - إجماعهم على تحريم شحم الخنزير؛ قياساً على تحريم لحمه.
3 - إجماعهم على كتابة المصحف؛ قياساً على حفظه في
الصدور.
4 - إجماعهم على قتال مانعي الزكاة؛ قياسا على تارك الصلاة.(2/909)
وغير ذلك، والوقوع دليل الجواز.
الدليل الثاني: القياس على خبر الواحد، بيانه:
أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع خبر واحد، فكذلك يجوز أن
يكون مستند الإجماع القياس ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما يفيد
الظن.
الدليل الثالث: أنه لا يستحيل عقلاً، فلا يبعد اتفاق مجتهدي
الأُمَّة على أن النبيذ في معنى الخمر، فيكون حكمهما واحداً، وهو:
التحريم؛ لاتفاقهما في العِلَّة وهي الإسكار.
الدليل الرابع: أن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع عامة وشاملة
للإجماع المستند إلى دليل القطعي، والمستند إلى الظني، فلم تفرق
بينهما، والقياس يفيد الظن، فهو يصلح أن يكون مستنداً للإجماع.
المذهب الثاني: الفرق بين أن يكون القياس جليا، فيصح أن يكون
مستنداً، وبين أن يكون القياس خفياً، فلا يصلح.
وهو ما اختاره بعض الشافعية.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إن القياس الجلي يفيد القطع، فيصلح أن يكون مستنداً
للإجماع " لأن الإجماع لا يستند إلا إلى قطعي، أما القياس الخفي
فإنه يفيد الظن، والظن وأي دليل ظني لا يصلح أن يكون مستنداً
للإجماع.
جوابه:
إن هذا التفريق لا دليل صحيح عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتمد
عليه، ثم إنه مخالف لعموم الأدلة المثبتة لحجية الإجماع، حيث(2/910)
إنها شاملة للإجماع المستند لدليل قطعي، والدليل ظني ولم تفرق
بينهما.
المذهب الثالث: أنه لا يجوز عقلاً انعقاد الإجماع، وهو مستند
للقياس، وهو اختيار بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إن القياس تجوز مخالفته اتفاقاً، والإجماع لا تجوز
مخالفته اتفاقا، فلو استند الإجماع إلى القياس، مع قولنا بأن
القياس تجوز مخالفته: للزم من ذلك جواز مخالفة الإجماع؛ لأن
مخالفة الأصل - وهو القياس - تجوِّز مخالفة الفرع - وهو
الإجماع -، وعلى هذا فتجوز مخالفة الإجماع باعتبار سنده وهذا
باطل.
جوابه:
إن القياس تجوز مخالفته قبل الإجماع عليه، وأما بعد الإجماع
عليه، فلا تجوز مخالفته؛ لظهور صحته من الإجماع عليه، فلا
يصح قولكم: " إن مخالفة الأصل تجوّز مخالفة الفرع "؛ لأن
الأصل أصبح غير جائز المخالفة بالإجماع عليه.
المذهب الرابع: أن انعقاد الإجماع عن القياس يجوز عقلاً،
ولكنه لم يقع، ونسب إلى بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إنه لا يمتنع عقلاً استناد الإجماع إلى القياس؛ لأنه لا
يترتب على فرض وقوعه محال، وكل ما كان كذلك فهو جائز
عقلاً، ولكن بعد تتبع واستقراء النصوص لم نجد إجماعا استند إلى
قياس، فدل على عدم وقوعه.(2/911)
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ ما زعمتم من أنه لم يقع إجماع مستند إلى قياس، بل
وقع، وهو كثير جداً، وقد مثلنا لذلك فيما سبق، فيكون كلامكم
إما مكابرة ومعاندة، أو أنه استقراء ناقص، وكلاهما لا يعتد به.
بيان نوع الخلاف:
هو نفس نوع الخلاف في مسألة: " الدليل الظني هل يصلح أن
يكون مستنداً للإجماع؟ "، وهي المسألة الرابعة عشرة.
المسألة الثامنة عشرة: هل يُشترط نقل الإجماع بالتواتر؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يشترط، فالإجماع يثبت بخبر الواحد،
ويكون الإجماع المنقول إلينا عن طريق الآحاد ظنيا، ويجب العمل
وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض المالكية كابن الحاجب،
وجماعة من الشافعية.
وهو الحق؛ لأن الآحاد إذا نقل الدليل الظني كخبر الواحد، فإنه
يوجب العمل به اتفاقا، فنقل الدليل القطعي الدلالة بخبر الواحد
أَوْلى بأن يوجب العمل؛ لأن الضرر في مخالفة المقطوع أكثر،
واحتمال الغلط والخطأ في نقله أقل.
المذهب الثاني: أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد، بل يشترط فيه
أن يكون منقولاً عن طريق التواتر، فالإجماع المنقول عن طريق
الآحاد لا يوجب العمل.(2/912)
وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، وبعض
الخوارج.
دليل هذا المذهب:
قالوا: إن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسُّنَّة،
وخبر الواحد دليل ظني، فكيف يثبت الدليل القطعي بالدليل الظني.
جوابه:
إن الإجماع مسألة شرعية طريقها طريق بقية المسائل المعمول بها
التي يكفي في ثبوتها الظن، فإذا غلب على الظن شيء: يجب
العمل به ما لم يمنع منه مانع، والإجماع هنا نقل إلينا بطريق يغلب
على الظن ثبوته وهو خبر الواحد، فيكون ذلك الإجماع إجماعا
ظنيا؛ نظراً لطريق ثبوته، وعلى ذلك يجب العمل به كنقل القراءة
الشاذة، ونقل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، كما ظهر من المذهبين، حيث لو أجمع
العلماء على حكم معين، ونقل هذا الإجماع بخبر الواحد، فإنه
يُعمل به عند أصحاب المذهب الأول، أما عند أصحاب المذهب
الثاني فلا يعمل به، ولكني أستبعد ذلك عن أصحاب المذهب الثاني.(2/913)
المطلب السادس في أقسام الإجماع
ينقسم الإجماع إلى قسمين:
القسم الأول: الإجماع القطعي.
القسم الثاني: الإجماع الظني.(2/915)
القسم الأول الإجماع القطعي
وهو: أن يتوفر فيه ما يلي:
أولاً: أن تتوفر جميع شروط الإجماع السابقة - على التفصيل
المذكور -.
ثانيا: أن يصرح كل واحد من المجتهدين بحكم المسألة، أو أن
يصرح بعضهم، ويعمل البعض الآخر على وفق هذا القول المصرح
ثالثا: أن ينقل هذا القول وهذا التصريح إلينا نقلاً متواتراً.
إذا توفرت هذه الأمور، فإن الإجماع يكون حُجَّة قاطعة.(2/917)
القسم الثاني
الإجماع الظني
وهو: ما اختل فيه أحد الأمور الثلاثة السابقة في القسم الأول،
ويشتمل الكلام عن هذا القسم على مسائل كثيرة، منها المسألة الثامنة
عشرة - من مسائل شروط الإجماع - وهي: " هل يشترط نقل
الإجماع بالتواِتر؟ " فإذا نقل الإجماع الصريح بالآحاد صار إجماعاً
ظنياً، وقد بينت ذلك في موضعه، ومما يدخل في ذلك ما يلي من
المسائل:
المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون، على قولين،
فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما،
فهل يكون ذلك إجماعاً؟
المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟
المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز لمن
بعدهم إحداث قول ثالث؟
المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا تأويلاً، ولم
يصرحوا بشيء فهل لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟
المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين فهل لمن
بعدهم التفريق بينهما؟
المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق علماء
الأمَّة على عدم العلم به؟(2/919)
المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً، وسكت الباقون
سكوتا لا يفهم منه الرضا ولا السخط فهل يعتبر
هذا إجماعا وحجة؟ " الإجماع السكوتي ".
المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة
فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل؟(2/920)
المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون على
قولين، فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما، فهل
يكون ذلك إجماعا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يكون إجماعاً، وبناء على ذلك فإنه تحرم
مخالفته، مثل مسألة " بيع أم الولد "، فإن الصحابة اختلفوا فيها
على قولين - الجواز وعدم الجواز - ثم اتفقوا على قول واحد وهو:
عدم الجواز، فإن هذا يكون إجماعا تحرم مخالفته ويجب العمل به.
وهو مذهب أكثر الحنفية، والمعتزلة، وأكثر المالكية، وبعض
الشافعية كأبي بكر القفال، وأبي إسحاق الشيرازي، وبعض الحنابلة
كأبي الخطاب.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن النصوص الدالة على حجية الإجماع - السابقة
الذكر - تدل على حجية أيِّ إجماع من مجتهدي العصر سواء سبقه
اختلاف في العصر الذي سبقه، أو لم يسبقه شيء، فاتفاق علماء
العصر المتأخر على أحد قولي علماء العصر المتقدم يعتبر سبيل المؤمنين
فيجب اتباعه.
الدليل الثاني: أن إجماع التابعين أو علماء العصر المتأخر، هو:
اتفاق من أهل العصر على حكم فقهي معين، فلم يجز خلافه،
كما لو اختلفوا - أنفسهم - في حكم معين في عصرهم، ثم اتفقوا
عليه في عصرهم، فهو اتفاق عقيب اختلاف، فيقطع الاتفاق
الاختلاف، فيكون إجماعا.(2/921)
المذهب الثاني: أنه لا يكون إجماعاً، أي: أن اتفاق التابعين
على أحد قولي الصحابة لا يعتبر إجماعاً، ولا تحرم مخالفته، بل
يجوز الأخذ بما اتفق عليه التابعون، ويجوز الأخذ بالقول الآخر
للصحابة.
وهو مذهب بعض الشافعية كإمام الحرمين، والغزالي،
والآمدي، والصيرفي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه أوجب الرد إلى اللَّه تعالى عند التنازع.
فلو جوزنا انعقاد الإجماع الثاني: للزم الرد إلى الإجماع، وهو
خلاف مقتضى الآية.
جوابه:
إن وجوب الرد إلى اللَّه تعالى مشروط بوجود التنازع، فإذا حصل
الإجماع زال وجوب الرد إلى اللَّه لزوال شرطه وهو: التنازع، ثم
إن الرد إلى الإجماع هو رد إلى اللَّه تعالى؛ لأن المجمعين اتفقوا
على هذا الحكم أو ذاك استناداً إلى كتاب اللَّه أو سُنَّة رسوله، أو
المفهوم منهما.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
وجه الدلالة: هذا الحديث دلَّ على أن كل واحد من الفريقين
حجة، فلو أخذنا بأحد القولين دون الآخر لزم الترجيح من غير
مرجح.(2/922)
جوابه:
إن الخطاب الوارد في الحديث موجه إلى العوام الذين في
عصرهم، ولا خلاف في جواز تقليدهم إياهم، وإنما النزاع في أن
قول بعضهم هل يكون مانعاً من انعقاد الإجماع بعدهم، بخلاف ما
قالوه؛ وما ذكرتموه في دليلكم لا يدل على ذلك.
الدليل الثالث: أن اختلاف الصحابة على القولين هو إجماع على
جواز الأخذ بأي قول كان، فلو انعقد الإجماع على أحد القولين
فإنه يلزم من ذلك رفع الإجماع الأول.
جوابه:
لا نسلم أن اختلافهم على قولين هو إجماع على جواز الأخذ بأي
قول كان؛ لأن كلًّا من الفريقين لا يجوز الأخذ إلا بقولهم فقط،
دون قول الفريق الآخر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي له أثره وهو واضح، فلو اتفق التابعون أو
المتأخرون على أحد قولي الصحابة أو المتقدمين، فإنه على المذهب
الأول يكون إجماعا يأثم من خالفه، أما على المذهب الثاني فلا
يكون إجماعا، فلا يأثم من خالفه؛ حيث يعتبر ترجيح لأحد
القولين فقط.
***
المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز اتفاق علماء العصر على حكم معين بعد
اختلافهم في ذلك الحكم.(2/923)
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأنه واقع، والوقوع
دليل الجواز:
فقد أجمعت الأُمَّة على خلافة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - بعد
الخلاف فيها.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز اتفاق علماء العصر على حكم بعد
اختلافهم فيه.
وهو مذهب أبي بكر الصيرفي وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن اختلاف الأُمَّة في الحكم إجماع منهم على جواز الأخذ بأي
قول كان إذا أدَّى إليه اجتهاد مجتهد، فلو جاز الإجماع بعده امتنع
الأخذ بغير ما أجمعوا عليه فيلزم منه: رفع ما أجمعوا عليه أولاً،
وهو باطل.
جوابه:
إن الإجماع الأول كان مشروطا بعدم الاتفاق على واحد، فلما
اتفقوا زال شرط الإجماع الأول، فزال الإجماع الأول بزوال
شرطه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف كما هو واضح معنوي؛ حيث إنه لو اتفق العلماء بعد
اختلافهم، فإنه يكون إجماعا تحرم مخالفته هذا بناء على المذهب
الأول، أما على المذهب الثاني فإنه لا يكون إجماعاً، ولا ينطبق
عليه شروط الإجماع، فتجوز مخالفته.(2/924)
المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز
لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ أو تقول: إذا اختلف مجتهدو
أهل عصر في حكم مسألة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم
أحداث قول ثالث؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن القول الثالث إن لزم منه رفع ما اتفقا عليه،
فلا يجوز.
وإن لم يلزم منه ذلك، فإنه يجوز إحداثه ويُعمل به.
مثال الأول: " الجد مع الأخ في الإرث "
اختلف في ذلك على قولين: " قيل المال للجد "، و " قيل المال للجد والأخ يتقاسمانه "
فالقول بحرمان الجد قول ثالث خارق للإجماع فلا يجوز القول به.
مثال الثاني: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة - وهي: الجذام،
والجنون، والبرص، والرتق، والعنَّة - اختلف في ذلك على قولين:
" قيل: يفسخ بجميعها "، و "قيل: لا يفسخ بشيء منها "،
فالقول الثالث وهو: إنه يفسخ بالبعض دون البعض لا يرفع ما اتفق
الفريقان عليه؛ لأنه يوافق في كل صورة قولاً، فيجوز ذلك.
وهذا مذهب الإمام فخر الدين الرازي، والآمدي، وابن
الحاجب، والبيضاوي، وروي عن الإمام الشافعي، وهو اختيار
القرافي، وتاج الدين ابن السبكي.
وهو الحق عندي؛ لأن القول الثالث المحدث إذا كان رافعا لما
اتفق عليه الأولون يكون إحداثه مخالفا للإجماع؛ لأن اختلاف
الأولين يتضمن الإجماع على أن ما سواهما باطل، فمخالفة ذلك لا
تجوز، ولذلك منعنا من إحداثه.(2/925)
أما إذا لم يكن ذلك القول الثالث المحدث رافعا لما اتفق عليه
الأولون، فلا يكون إحداثه مخالفا للإجماع، فلا مانع منه،
ويجوز؛ لأن المسألة تكون اجتهادية؛ فالمحذور وهو مخالفة الإجماع
لم يقع.
المذهب الثاني: أن إحداث قول ثالث لا يجوز مطلقا.
وهو مذهب كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن اختلافهم على القولين اتفاق منهم على عدم
القول الثالث، فلم يجز إحداثه، وإلا لزم مخالفة الإجماع.
جوابه:
إن القول الثالث المحدث إن لم يرفع القولين، فلا يلزم منه
مخالفة الإجماع، وإذا لم يخالف ما اتفق عليه، فلا مانع منه،
كما قلنا فيما سبق.
الدليل الثاني: لو جاز إحداث القول الثالث: للزم تخطئة
الفريقين القائلين للقولين، وهم كل الأُمَّة، فيلزم من ذلك تخطئة
كل الأُمَّة، وهو غير جائز.
جوابه:
إن الممتنع تخطئة كل الأُمَّة فيما اتفقوا عليه على قول واحد، أما
ما اختلفوا فيه فغير ممتنع، ونحن لما فصَّلنا في مذهبنا لم نخرج عن
القولين السابقين، لذلك لا يعتبر القول الثالث المحدث تخطئة مطلقا.
المذهب الثالث: أن إحداث قول ثالث يجوز مطلقا.
وهو مذهب بعض الظاهريهّ، وبعض الشيعة.(2/926)
دليل هذا المذهب:
أن اختلاف الأولين في الحكم دليل على أن المسألة اجتهادية،
والمسألة الاجتهادية لا يمنع النظر فيها، حيث لم يوجد فيها إجماع
من السابقين، والقول الثالث حدث عن اجتهاد فيجوز.
جوابه:
إن الذي منعنا من ذلك هو: قول يلزم منه إبطال ما اتفقوا عليه
من القولين كما في مسألة: " الجد والأخ "، وما اتفقوا عليه ليس
من صور الخلاف، فلا يجوز فيه الاجتهاد، فتسويغ المختلفين
للاجتهاد في المسألة مقيد بأن لا يخرج الاجتهاد عن دائرة القولين
المتفق عليهما؛ لأن ما خرج عنهما باطل.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وهو ظاهر من الأمثلة السابقة: فمن أحدث
قولاً ثالثاً، فإنه على المذهب الأول يجوز الأخذ به بشرط: أن لا
يلزم منه رفع القولين، فإن لزم منه رفع القولين، فلا يجوز الأخذ
به والعمل به.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا يجوز أخذ القول الثالث والعمل
به مطلقاً، سواء رفع القولين أم لا.
أما على المذهب الثالث: فإنه يجوز أخذ القول الثالث والعمل به
مطلقا، سواء كان رافعا للقولين أم لا.
* * *(2/927)
المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا
تأويلاً ولم يصرحوا بشيء، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل
أو تأويل آخر؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر
بشرط: أن لا يلزم من هذا الدليل أو التأويل القدح فيما أجمعوا
عليه.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: القياس على الاستدلال على مسألة لم يسبق أن
استدل عليها، بيانه: أنه كما أنه يجوز الاستدلال على مسألة لم
يسبق أن استدل عليها أو أُولت، كذلك هنا يجوز إحداث دليل أو
تأويل آخر، والجامع: أنه لا يلزم من هذا الاستدلال قدح في
إجماع قد سبق.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إنه ما زال علماء كل عصر
يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته، ولم
ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعاً.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر
مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) .(2/928)
وجه الدلالة: أن لفظ " المعروف " عرف بـ " أل " المستغرفة للجنس،
أي: يأمرون بكل معروف، ولو كان الدليل أو التأويل الثاني معروفا
لأمروا به، وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفا، فكان منكراً.
جوابه:
إن الآية مشتركة؛ حيث إن قوله: (وتنهون عن المنكر) يقتضي
كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق، ولو كان
الدليل أو التأويل الثاني منكراً لنهوا عنه، ولم ينهوا عنه، فلا يكون
منكراً.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تجتمع أمتي على الخطأ ".
وجه الدلالة: أن علماء الأُمَّة إذا ذهبوا عن الدليل والتأويل
الثاني، فلا يكون ذهابهم عنه خطأ، ولو كان دليلاً أو تأويلاً
صحيحا لكان الذهاب خطأ، وهو محال.
جوابه:
إن ذهاب علماء الأُمَّة عن الدليل أو التأويل الثاني مع صحته، إنما
يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم الأول.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لأن اتفاق علماء الأُمَّة على الحكم يُسمى
إجماعا عند أصحاب المذهبين، لكن أصحاب المذهب الأول استندوا
على دليل واحد، أما أصحاب المذهب الثاني فقد جعلوا الإجماع
هذا مستنداً إلى دليلين، أو تأويلين.(2/929)
المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين، فهل
لمن بعدهم التفريق بينهما؟
اختلفت في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: التفصيل.
إن كان علماء العصر قد نصوا على عدم الفرق بين المسألتين فهنا لا
تجوز مخالفتهم، لأنهم أجمعوا على عدم الفرق، فالقائل بالفرق
مخالف لذلك الإجماع، وهو حرام.
أما إن كان علماء العصر لم ينصوا على عدم الفرق، فلا يخلو
من حالتين:
الأولى: إن علمنا اتحاد المسألتين في الجامع كتوريث العمة
والخالة؛ حيث إن العلماء اتفقوا على أنه لا فرق بينهما في التوريث
وعدمه بجامع كونهما من ذوي الأرحام: ففي هذه الحالة لا يجوز
الفصل والتفريق بينهما؛ لأنه يلزم من التفريق بينهما رفع مجمع
عليه.
الثانية: إن لم نعلم اتحاد المسألتين في الجامع، فإنه يجوز الفصل
بينهما؛ لأنه لايلزم من ذلك رفع شيء مجمع عليه.
ولو لم يجز - لمن بعدهم الفصل بين المسألتين في هذه الحالة -
لوجب على من وافق مجتهدأ في حكم الدليل: أن يوافقه في جميع
الأحكام، وهو باطل بالاتفاق؛ حيث إن من وافق الإمام أحمد،
أو الشافعي - مثلاً - في مسألة لا تجب عليه موافقته في جميع
المسائل.
وهذا المذهب هو اختيار كثير من العلماء منهم: أبو الوليد(2/930)
الباجي، والباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، والإمام فخر الدين
الرازي، وأبو الحسين البصري، وأبو الخطاب، وكثير من الحنابلة.
وهذا هو الحق عندي؛ لما سبق من الدليل والتعليل.
المذهب الثاني: لا يجوز التفريق بينهما مطلقاً.
وهو مذهب القاضي عبد الجبار، وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الأوَّلين اتفقوا على اتحادهما في الحكم، فلو قلنا بجواز
التفريق بينهما: لزم مخالفة الإجماع، وهذا باطل.
جوابه:
إن عنيتم بقولكم: " اتحادهما ": أن العلماء نصُّوا على ذلك
الاتحاد، فنحن معكم في أنه لا تجوز المخالفة في تلك الحالة.
وإن عنيتم: أن فتواهم وافق في المسألتين من غير تعرض لشيء
آخر: فلا نسلم أن لا تجوز مخالفتهم، وهو محل النزاع.
المذهب الثالث: أنه يجوز التفريق بينهما مطلقا.
وهو مذهب أبي الطيب الطبري وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الإمام الثوري وهو سفيان بن سعيد بن مسروق، قال:
الجماع ناسيا يفطر، والأكل ناسياً لا يفطر، مع أن علماء الأُمَّة
الذين قبله لم يفصلوا بينهما؛ لأنه قد جمعتهما طريقة واحدة.
جوابه:
إن هذا موافق لما قلناه - فيما سبق - في مذهبنا الأول، وهو(2/931)
التفصيل، لأن الأُمَّة - هنا - لم ينصوا على عدم الفرق بين المسألتين
ولم تتحد المسألتان بجامع معين، فجاز للثوري الفصل بينهما.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ لأنه بناء على المذهب الثاني يعتبر عدم
التفريق بين المسألتين إجماعاً لا تجوز مخالفته، فلا يجوز التفريق
بينهما.
أما على المذهب الثالث: فإن عدم التفريق بين المسألتين لا يعتبر
إجماعاً وعليه فيجوز التفريق، ويقبل الاجتهاد كغيره من المسائل
الاجتهادية.
أما على المذهب الأول: ففيه التفصيل الذي قلناه.
المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق
علماء الأمة على عدم العلم به؟
فيه تفصيل:
أولاً: إن كان عمل علماء الأمَّة موافق لمقتضى ذلك الخبر أو
الدليل، ففيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، وهو مذهب بعض العلماء.
وهو الصحيح " لأن علماء الأُمَّة غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر
لهم، ولم يبلغهم، فاتفاقهم واشتراكهم في عدم العلم لا يكون
خطأ، لأن عدم العلم ليس من فعلهم، وذلك كعدم حكمهم في
واقعة لم يحكموا فيها بشيء، فجاز لغيرهم أن يسعى في طلب ذلك
الدليل أو الخبر ليعلم.(2/932)
المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك، وهو لبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن علماء الأُمَّة لو اشتركوا في عدم العلم به: لكان ذلك سبيلاً
لهم، ولوجب على غيرهم اتباعه وعدم تحصيل العلم به؛ لقوله
تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) .
جوابه:
إن عدم العلم لا يكون سبيلاً للمؤمنين؛ لأن السبيل: الذي
يختاره الإنسان من قول أو فعل، وعدم علمهم لم يختاروه، فلا
يكون سبيلاً لهم.
بيان نوع الخلاف:
يفهم من الخلاف هنا أنه لفظي؛ لأن العمل لا يختلف سواء علم
بالدليل أو الخبر، أو لم يعلم بهما.
ثانياً: أما إن كان عمل علماء الأُمَّة على خلاف الخبر أو الدليل،
فهذا محال بالاتفاق؛ لأنه يلزم منه إجماع الأُمَّة على الخطأ، - وهذا
مخالف للأدلة النقلية السابقة الذكر.
المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً وسكت
الباقون، أو أعلن بعض المجتهدين قولاً وسكت بقية أهل العصر
من المجتهدين سكوتا لا يستدل منه على رضا ولا على سخط،
فهل هذا يعتبر إجماعاً أو لا؟ " الإجماع السكوتي ":
لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يعتبر إجماعا وحُجَّة.(2/933)
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لو اشترط لانعقاد الإجماع أن ينص كل واحد
منهم على رأيه بصراحة لأدى ذلك إلى عدم انعقاد الإجماع أبداً؛
لأنه يتعذر اجتماع أهل كل عصر على قول يسمع منهم، والمتعذر
معفو عنه؛ ل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ،
والمعتاد في كل عصر أن يتولى كبار العلماء إبداء الرأي، ويُسلِّم
الباقون لهم، فثبت بذلك: أن سكوت الباقين دليل على أنهم
موافقون على قول من أعلن رأيه في المسألة، فكان إجماعاً وحُجَّة.
الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إن المجتهدين من التابعين إذا
حدثت حادثة بينهم، ولم يجدوا حكماً لها في نص، ووجدوا قولا
فيها لصحابي، وعلموا أن هذا القول قد انتشر، وسكت بقية
الصحابة عن الإنكار، فإن التابعين لا يجوزون العدول عن ذلك
القول، بل يعملون به؛ بناء على أنه قول قد أجمع عليه.
الدليل الثالث: قياس المسائل الاجتهادية على المسائل الاعتقادية،
بيان ذلك:
أنه قد ثبت أن العلماء قد أجمعوا على أن السكوت معتبر في
المسائل الاعتقادية، أي: سكوت الساكت في العقيدة يدل على
رضاه؛ لأنه لا يحل السكوت فيها على باطل، فيقاس عليها المسائل
الاجتهادية، والجامع: أن الحق واحد، فلا يحل له السكوت في
الأمور الاجتهادية إذا كان عنده بخلاف ما أعلن؛ لأن الساكت - عن
الحق شيطان أخرس؛ لأن الحكم لو كان عنده بخلافه: لكان
سكوته تركاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بخلاف ما
شهد اللَّه به لهذه الأمَّة من أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،(2/934)
فلو تصور منهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأدَّى ذلك إلى
الخلف في كلامه سبحانه وتعالى، وهو محال، فوجب أن نحمل
سكوت الساكت على أنه موافق لما أعلنه ذلك المجتهد، وهو الذي
تدل عليه عدالته.
المذهب الثاني: أن ذلك ليس بإجماع ولا حُجَّة.
وهو مذهب داود الظاهري، وابنه محمد، وابن حزم،
والمرتضى، وينسب إلى القاضي الباقلاني وعزاه للشافعي، وممن
نسبه إلى الإمام الشافعي أيضاً كثير من الشافعية كالآمدي، وفخر
الدين الرازي، وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي،
واختاره الغزالي في " المستصفى "، والرازي في " المحصول "،
والبيضاوي في " المنهاج "، وغيرهم.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن مذهب المجتهد يعلم بقوله الصريح الذي لا
يتطرق إليه أي احتمال، أما سكوت الساكت فإنه يحتمل أنه سكت
لكونه راضيا بالحكم الذي أعلنه ذلك المجتهد.
ويحتمل أنه سكت، لأنه لم يجتهد في المسألة الحادثة، بل تركها.
ويحتمل أنه اجتهد فيها، ولكنه سكت؛ لأنه لم يتوصل إلى
حكم معين فيها.
ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم معين مخالف لرأي
المجتهد المعلن، ولكنه لم يظهره، تقية ومخافة.
ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد
المعلن، ولكنه سكت لعارض طرأ عليه لم يظهره لنا.(2/935)
ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد
المعلن، ولكنه سكت، لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب.
ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد
المعلن، ولكنه سكت، لأنه يرى أن قول ذلك المجتهد جائزاً، وإن
لم يكن هو موافقاً عليه، بل كان يعتقد خطأه.
وإذا كان السكوت يحتمل هذه الاحتمالات، فلا يدل السكوت
على الرضا لا قطعاً، ولا ظاهراً، وهو معنى قول الإمام الشافعي
- رحمه اللَّه -: " لا ينسب لساكت قول "، وإذا كان الأمر كذلك
فلا يكون سوتهم مع انتشار قول المجتهد المعلن له إجماعاً ولا حُجَّة.
جوابه:
إنه إذا سكت المجتهد بعد أن يعلن المجتهد الآخر رأيه مدة يستطيع
من خلالها التفكر في المسألة، فإن سكوته يدل على رضاه بذلك
الرأي المعلن، فيكون إجماعاً وحُجَّة.
أما الاحتمالات التي ذكرتموها فلا نسلمها، وإليك بيان ذلك:
أما الاحتمال الأول - وهو أنه سكت لعدم اجتهاده في المسألة -
فلا يقبل ولا يجوز؛ لأمرين:
أولهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة خلاف عادة العلماء
عند نزول الحوادث.
ثانيهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة يؤدي إلى خلو العصر
من حُجَّة اللَّه - تعالى -، لأنا إذا جوزنا أن يكون المجتهد المعلن
لرأيه قد أخطأ، والمجتهد الساكت لم يجتهد فقد خلا العصر من
حُجَّة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يرد عليّ ".(2/936)
أما الاحتمال الثاني - وهو: أنه اجتهد، ولكن لم يتوصل فيها
إلى حكم -.
فهذا بعيد؛ لأمرين هما:
الأمر الأول: أنه يبعد عدم وصول المجتهد إلى حكم معين في
تلك الحادثة مع توفر الدواعي للاجتهاد، وظهور الدلائل.
الأمر الثاني: أن احتمال عدم وصول المجتهد إلى حكم معين
يؤدي إلى خلو العصر عن القائم بحُجَة اللَّه تعالى؛ لأنا إذا فرضنا
أن يكون المجتهد المعلن لمذهبه قد أخطأ فيه، والجتهد الساكت لم
يصلِ إلى حكم معين فيها، فإنه يخلو العصر عن قائم لله تعالى
بحجته.
أما الاحتمال الثالث - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم
يظهره تقية - فهو بعيد؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه عرف من عادة المجتهدين الذين يفعلون مثل ذلك
أن يظهر قوله ورأيه عند ثقاته وخاصته، ثم بعد مدة قصيرة ينتشر
القول ويعرف.
الأمر الثاني: أنه إذا سكت حتى ينقرض العصر، فإما أن يموت
من يتقيه، أو يموت هو قبل من يتقيه.
فإن مات من يتقيه قبل الساكت، فيجب - حينئذ - على الساكت
أن يظهر قوله ورأيه، كما قال ابن عباس - حين توفي عمر -: إن
المال لا يعول "، فقيل له: لِمَ لم تقل ذلك في زمن عمر؛ فقال:
"هبته ".
وإن مات الساكت قبل من يتقيه فينعقد الإجماع.(2/937)
أما الاحتمال الرابع - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم
يظهره لعارض - فهو بعيد - أيضاً -؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن هذا خلاف الظاهر من عادة العلماء وأهل الحق.
الأمر الثاني: أن سكوت المجتهد من أجل عارض غير معروف:
يؤدي إلى خلو العصر عن قائم لله تعالى بحجته؛ لأن هذا المجتهد
إذا سكت، وذاك المجتهد المعلن لرأيه قد أخطأ في رأيه، فإنه يخلو
العصر من حُجَّة.
أما الاحتمال الخامس - وهو: أنه سكت؛ لاعتقاده أن كل
مجتهد مصيب -.
والاحتمال السادس - وهو: أنه سكت؛ لأنه لا يرى الإنكار في
المجتهدات - فهما بعيدان - أيضا -؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن من عادة من يعتقد أن كل مجتهد مصيب يأخذ
بمذهب، ويخالف غيره فيه، ويناظر غيره، ويبين أن مذهبه هو
الصحيح بخلاف مذهب غيره.
الأمر الثاني: أن هذا لم يقع ولم يوجد في عصر الصحابة، ولم
ينقل إلينا أن واحداً من الصحابة سكت عن الإنكار لهذين الفرضين،
حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - ومن سار على نهجهم من
العلماء الذين سلكوا طريق النصح، وتركوا الغش كانوا ينكر
بعضهم على بعض، ويتناظرون، ويتجادلون لتحقيق الحق، وإبطال
الباطل كمناظرتهم في مسألة " الجد والإخوة " حتى أن ابن عباس
- رضي اللَّه عنه - قال: " ألا يتقي اللَّه زيد يجعل ابن الابن ابنا،
ولا يجعل أب الأب أبا "، وقال معاذ لعمر - حين عزم على جلد
الحامل -: " إن جعل اللَّه لك على ظهرها سبيلاً، فما جعل الله(2/938)
لك على ما في بطنها سبيلاً "، ومناقشاتهم في مسألة: " العول "،
و" التحريم "، و " دية الجنين "، وغيرها لا تخفى على أحد، فكل
هذا يدل دلالة واضحة على أن المجتهد لا يسكت عن شيء هو يعلم
خلافه، بل. يبين رأيه فيها دون إلزام.
فإذا كانت تلك الاحتمالات للسكوت بعيدة: فإن احتمال: أنه
سكت لموافقته ورضاه للقول المعلن هو الأقرب للصواب، فيكون
ذلك إجماعا، وإذا كان إجماعاً فهو حُجَّة.
الدليل الثاني: أنه لما قال ذو اليدين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه؟
فنظر رسول اللَّه إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عن الجميع - وقال:
" أحقٌّ ما يقوله ذو اليدين؟ ".
وجه الدلالة: أن السكوت لو كان دليلاً على الموافقة لاكتفى به
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولما طلب من أبي بكر وعمر بيان ذلك بالنطق من غير حاجة، فدل ذلك على أن السكوت لا يدل على رضا الساكت، فلا يكون إجماعاً ولا حُجَّة.
جوابه:
إن أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة إنما سكتوا اكتفاء منهم
بكلام ذي اليدين؛ نظراً لكونهم مثله في عدم علمهم أيهما الذي
وقع أهو قصر الصلاة، أو النسيان؛، فلما نفى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: " كل ذلك لم يكن "، وطلب منهما الجواب: كان لهم الكلام.
المذهب الثالث: أنه حُجَّة، وليس بإجماع.
وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، وصححه الصيرفي، واختاره
الآمدي، وهو أحد القولين عن الإمام الشافعي.
-(2/939)
دليل هذا المذهب:
أن سكوت الباقين يدل دلالة ظاهرة على الموافقة فيكون قول ذلك
المجتهد المعلن مع سكوت الباقي من المجتهدين عن الإنكار - مع
قدرتهم على ذلك - حُجَّة يجب العمل به كخبر الواحد والقياس.
وإنما لم نقل إنه إجماع، لأن سكوت الباقي من المجتهدين يحتمل
تلك الاحتمالات الستة السابقة الذكر فأثرت على وصوله إلى درجة
الإجماع.
جوابه:
إن هناك قاعدة وهي: " أن كل احتمال لا يُعضد بدليل صحيح
فلا يُعتبر "، والاحتمالات الستة السابقة الذكر قد بينا بُعْدَها، وعدم
صحتها، فثبت من إبطالها: أن سكوتهم يدل على رضاهم بالقول
الذي أعلنه ذلك المجتهد - لا سيَّما وأنه لا مانع من إعلان
مخالفتهم - وإذا كان الأمر كذلك فيكون ذلك إجماعاً وحُجَّة.
تنبيه: هناك مذهب رابع وهو: التفصيل بين الفتوى والحكم:
فإن كان السكوت إثر فتوى مجتهد - فقط -: فهو إجماع؛ لعدم
سلطته، وإن كان السكوت إثر حكم حاكم فليس بإجماع.
وهناك مذهب خامس وهو: عكس الرابع.
وهناك مذهب سادس، وهو: التفصيل بين ما يفوت استدراكه،
وبين ما لا يفوت: فإن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو
استباحة فرج: كان سكوت الساكتين إجماعا، وإن وقع في غير
ذلك: كان سكوتهم حُجَّة فقط.(2/940)
الجواب عن ذلك:
إن هذا التفريق لا دليل عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به "
وذلك لما قلناه فيما سبق.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في كثير من الفروع الفقهية،
حيث إنه لو أعلن مجتهد رأيه في مسألة معينة، ثم سكت بقية
المجتهدين - بدون عذر - ومضى وقت يمكنهم فيه النظر في المسألة،
فإن هذا يدل على أنهم موافقون على ذلك الرأي المعلن، فيكون
إجماعاً تحرم مخالفته، ولا يجوز الاجتهاد في تلك المسألة بعد
ذلك، حيث إن ذلك الرأي يكون ملزماً للجميع، هذا بناء على
المذهب الأول.
أما على المذهب الثاني، فتجوز مخالفة ذلك الرأي المعلن؛ لأنه
اجتهاد فرد أو جماعة لم يجمع عليه، ويجوز الاجتهاد في تلك
المسألة، لأنه رأي غير ملزم لأحد من المجتهدين.
أما على المذهب الثالث فهو حُجَّة يُقدَّم على غيره من الأدلة إذا
عارضه، ولكنه غير ملزم، فإن وجد دليل أقوى منه: قدم عليه؛
قياساً على الاحتجاج بخبر الواحد والقياس.
المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في
مسألة، فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب
القائل بالأقل؛ وهي " الأخذ بأقل ما قيل ":
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:(2/941)
المذهب الأول: أنه لا يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب
القائل بالأقل، أي: الأخذ بأقل ما قيل ليس متمسكا بالإجماع.
مثل اختلاف العلماء في دية الكتابي على ثلاثة أقوال هي:
1 - " أن ديته مثل دية المسلم ".
2 - أن ديته نصف دية المسلم.
3 - أن ديته ثلث دية المسلم، وهو مذهب الإمام الشافعي.
فظن بعض الفقهاء أن الإمام الشافعي قال ذلك متمسكا في ذلك
بإجماع الأقوال الثلاثة عليه.
وهذا ليس بصحيح، أي: لا يصح أن يتمسك في إثبات أقل ما
قيل بالإجماع.
هذا ما ذهب إليه الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن أقل ما قيل -
وهو: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم - قد اشتمل على أمرين:
أولهما: إثبات الثلث، وثانيهما: نفي الزيادة.
أما الأول - وهو إثبات الثلث - فهو مجمع عليه.
وأما الثاني - وهو نفي الزيادة - فهو مختلف فيه؛ حيث إن
أصحاب القولين: الأول والثاني قد زادوا دية الكتابي على الثلث،
وأصحاب القول الثالث لم يزيدوا عن الثلث، فهنا وقع الخلاف،
وبناء على هذا لا يكون الآخذ بأقل ما قيل قد تمسك بالإجماع، وإنما
متمسك بدليل آخر غير الإجماع، قال بعض العلماء: إنه
الاستصحاب والبراءة الأصلية.
المذهب الثاني: أنه يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب
القائل بالأقل، أي: أن الآخذ بأقل ما قيل متمسك بالإجماع.(2/942)
وهو اختيار بعض الفقهاء.
دليل ذلك:
إن دية الكتابي إما مثل دية المسلم، أو نصفه، أو ثلثه بالإجماع،
والكامل والنصف مشتمل على الئلث، فالقول بالثلث ثابت بالإجماع.
جوابه:
أنا معكم أن الثلث مجمع عليه، ولكن نفي الزيادة على الثلث لم
يكن مجمعا عليه، فالمجموع - من إثبات الثلث، ونفي الزيادة -
لم يكن مجمعا عليه فلا تصح دعوى الإجماع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، حيث إن التمسك بأقل ما قيل قد انبنى عليه
خلاف في بعض الفروع الفقهية ومنها دية الكتابي، جيث إن الإمام
الشافعي لما قال: إن دية الكتابي: ثلث دية المسلم قد تمسك بالأخذ
بأقل ما قيل، وهو المجمع عليه بين الأقوال الثلاثة السابقة الذكر في
دية الكتابي.
وكذلك فعل في دية المجوسي.(2/943)
المطلب السابع في الإجماعات الخاصة
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: اتفاق الخلفاء الأربعة هل هو حُجَّة؟
المسألة الثانية: إجماع أبي بكر وعمر هل هو حُجَّة؟
المسألة الثالثة: إجماع أهل المدينة هل هو حُجَّة؟
المسألة الرابعة: إجماع أهل البيت والعترة هل هو حُجَّة؟(2/945)
المسألة الأولى: اتفاق الخلفاء الأربعة هل هو إجماع وحُجَّة؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن اتفاق الخلفاء الأربعة - وهم: أبو بكر،
وعمر، وعثمان، وعلي - لا يعتبر إجماعا ولا حُجَّة.
وهو مذهب كثير من العلماء، ونسب إلى الجمهور، وهو الحق؛ لأن الخلفاء الأربعة بعض الأُمَّة، والأدلة التي ذكرناها من الكتاب
والسُّنَّة قد دلَّت على أن العصمة عن الخطأ قد ثبتت للأُمَّة كلها، لا
بعضها، فلا تتناول تلك الأدلة الخلفاء الأربعة؛ لأنهم بعض الأُمَّة
وبعض المؤمنين، وبناء على ذلك يكون اتفاق الخلفاء الأربعة ليس
بإجماع يُحتج به على من خالفهم.
المذهب الثاني: أن اتفاق الخلفاء الأربعة يعتبر إجماعا يحتج به
على من خالفهم.
وهو مذهب أبي خازم من الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ".
وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب اتباع سُنَّتهم، كما أوجب اتباع سُنَّته، ومعروف أن المخالف لسُنَّته عليه السلام لا يعتد بقوله، فكذلك المخالف لسُنَّتهم لا يعتد بقوله، وبناء على ذلك:
يكون قولهم إجماعاً لا تجوز مخالفته.
ولذلك ردَّ القاضي أبو خازم مذهب زيد بن ثابت وهو: عدم(2/947)
توريث ذوي الأرحام، وقال: إن ذوي الأرحام أَوْلى من بيت المال
- وذلك في عهد الخليفة المعتضد بالله المتوفى عام 289 هـ - فلما
قيل: إن هذه المسألة اختلف فيها الصحابة قال: لا أعد خلاف زيد
خلافا على الخلفاء الأربعة.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن الحديث عام في كل الخلفاء الراشدين، ولا
دلالة فيه على الحصر في الخلفاء الأربعة.
الجواب الثاني: على فرض أنه يدل على الحصر في الخلفاء
الأربعة، فإنه معارض بحديث آخر وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وليس العمل بأحد الخبرين أوْلى من الآخر.
الجواب الثالث: أن هذا الحديث المستدل به لا يدل بصراحة على
أن اتفاق الخلفاء الأربعة إجماع وحُجَّة؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد:
أن إجماع الخلفاء حُجَّة إذا لم يظهر خلاف ما قالوه في بقية
الصحابة، وهذا لا يخالف فيه أحد؛ لأنه إجماع كل الصحابة.
ويحتمل أن يكون المراد به: الفتيا، وخصهم بالذكر لكونهم أعلم
من غيرهم في وقتهم، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به
الاستدلال.
ثم إن الإمامة والخلافة لا تأثير لها في الإجماع، وإنما التأثير
للاجتهاد والعلم، وغير الخلفاء في الاجتهاد مثلهم ولا فرق.(2/948)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، حيث إنه إذا وجد حكم قد اتفق عليه الخلفاء
الأربعة فقط، فإنه لا يكون إجماعا بناء على المذهب الأول،
وبالتالي تجوز مخالفته، وتكون المسألة قابلة لاجتهاد المجتهدين.
أما على المذهب الثاني فإنه يكون إجماعا، فتحرم مخالفته من
قِبَل الصحابة ومن جاء بعدهم، لذلك لم يأخذ القاضي أبو خازم
برأي زيد في عدم توريث ذوي الأرحام؛ لأنه خالف رأي الخلفاء
الأربعة.
***
المسألة الثانية: إجماع أبي بكر وعمر هل هو حُجَّة؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن إجماعهما لا يعتبر حُجَّة.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما قلناه سابقا وهو: أن
النصوص من الكتاب والسُّنَّة تدل على حجية قول جميع الأُمَّة،
وهؤلاء بعض الأُمَّة وبعض المؤمنين، فلا ينعقد الإجماع بهم.
المذهب الثاني: أن إجماعهما يعتبر حُجَّة.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر ".
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:(2/949)
الجواب الأول: أن الحديث لا يدل إلا على أن أبا بكر وعمر قد
توفر فيهما أهلية الاجتهاد مما يوجب اتباع المقلدين لهم، ولا يدل
على أن إجماعهما حُجَّة.
الجواب الثاني: أنه معارض بحديث آخر وهو: " أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وليس العمل بأحدهما أوْلى من
العمل بالآخر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وهو مماثل لما قلناه في المسألة السابقة، حيث إنه
لو وجد أن أبا بكر وعمر قد اتفقا على حكم معين، لنإنه تجوز
مخالفته عند أصحات المذهب الأول؛ وتكون المسألة عندهم اجتهادية.
أما عند أصحاب المذهب الثاني، فإن اتفاقهما يكون إجماعا
وحُجة لا تجوز مخالفته من قِبَل الصحابة ومن جاء بعدهم.
***
المسألة الثالثة: إجماع أهل المدينة هل هو حُجَّة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن إجماعهم وحدهم لا يكون حُجَّة على من
خالفهم.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما ذكرنا في المسألتين
السابقتين وهو: أن أهل المدينة بعض الأُمَّة والأدلة التي ذكرناها من
الكتاب والسُّنَّة قد دلَّت على أن العصمة عن الخطأ قد ثبتت لجميع
الأُمَّة، لا لبعضها، فلا تتناول تلك الإدلة أهل المدينة؛ لأنهم بعض
الأُمَّة وبعض المؤمنين، وعليه: فلا يكون اتفاق أهل المدينة حُجَّة.(2/950)
المذهب الثاني: أن إجماع أهل المدينة حُجَّة.
وهو مذهب الإمام مالك وجل أصحابه.
دليل هذا المذهب:
أن المدينة المنورة هي معدن العلم، ودار الهجرة، ومهبط الوحي،
ومستقر الإسلام، ومجمع الصحابة وأولادهم، ويوصف أهلها بأنهم
شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل، وكانوا أعرف بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم، فيستحيل - والأمر كذلك - اتفاق أهلها على خلاف الحق، أي: يجب أن لا يخرج الحق عن قول أهلها.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأجوبة:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن أهل المدينة أعلم من
غيرهم "؛ لأن كثيراً ممن خرج من المدينة وسكن غيرها كان أعلم ممن
بقي فيها، أو مثلهم كعليّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن
عباس -، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة، وأبي موسى الأشعري،
وعمرو بن العاص، وغيرهم مما بلغ ثلاثمائة ونيف انتقلوا إلى
الكوفة، والبصرة، والشام، والطائف، فكيف يعتبر إجماعا من
أهل المدينة إذا خالف هؤلاء الذين خرجوا وهم أكثر علماء الصحابة،
فكان لا ينعقد الإجماع بدون هؤلاء لما كانوا من سكان المدينة،
فكيف ينعقد الإجماع بدونهم لما خرجوا منها، فالحُجة لا تختلف
بالمكان والزمان كقول اللَّه تعالى، وكقول رسوله.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن الحق يستحيل أن يخرج
عنهم؛ لأن هذا القول تحكم لا دليل عليه؛ حيث إنه لا يستحيل(2/951)
أن يسمع رجل حديثاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسافر ويترك المدينة، قبل أن يعلم أحد من أهل المدينة بهذا الحديث، فهنا أمكن خروج الحق عنهم.
الجواب الثالث: أن اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها لا
يدل على أن إجماع أهلها حُجَّة على غيرهم؛ لأن مكة أفضل منها
ومع فضلها لم يقل أحد بأن إجماع أهلها حُجَّة على مخالفيهم.
وسبب ذلك: أن البقاع لا أثر لها في انعقاد الإجماع، وإنما
الاعتبار في بلوغ هذا الشخص أو ذاك درجة الاجتهاد في أي زمان
وأي مكان.
تنبيه: اختلفت عبارات العلماء في ترجمة هذه المسألة، فمنهم
من ترجمها بما ذكرنا، ومنهم من ترجمها بقوله: " عمل أهل
المدينة"، ومنهم من عبَّر عنها بقوله: " قول أهل المدينة "،
واختلف في مراد الإمام مالك، وبعضهم دافع عن الإمام مالك، وبعضهم
أقر هذا القول له، وقد تكلمت عن بعض هذه الأمور في كتابي
"إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، وبعضها موسع في كتب
كثيرة، وتحقيق ذلك ليس هذا مكانه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني إذا وجدوا أهل
المدينة قد اتفقوا على شيء، فإنهم يجعلون ذلك حُجَّة، ويعملون
به ويتركون ما عداه ممن خالفه، فبنى الإمام مالك على ذلك فروعا
منها: قوله في الحامل إذا رأت الدم فإنها تترك الصلاة، وذلك لأن
الحامل تحيض، وحجته في ذلك إجماع أهل المدينة. وهذا مخالف(2/952)
لرأي الحنفية والحنابلة، وذلك لأن الحامل عندهم لا تحيض، فإذا
رأت الحامل دماً، فإنه دم استحاضة، لا يجوز ترك الصلاة لأجله.
ومنها: أن رأي الإمام مالك أن البكر يزوجها أبوها من غير
استئمار، واحتج بما كان عليه العمل في المدينة، وعلى ذلك الإمام
الشافعي وأحمد، ولكن دليلهما ليس عمل أهل المدينة كما هو عند
الإمام مالك، أما أبو حنيفة وأكثر الحنفية، فإنهم يذهبون إلى
وجوب الاستئمار، وأنه شرط في صحة النكاح وهو الذي تميل إليه
النفس.
***
المسألة الرابعة: إجماع أهل البيت والعترة هل هو حُجَّة؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن إجماعهم ليس بحُجَّة.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما ذكرناه في المسائل
الثلاث السابقة من أن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع من الكتاب والسُّنَّة
لا تدل إلا على حجية قول جميع الأُمَّة، وهؤلاء بعض الأُمَّة وبعض
المؤمنين فلا ينعقد الإجماع بهم.
المذهب الثاني: أن إجماعهم حُجَّة.
وهو ما ذهب إليه الشيعة الإمامية والزيدية، ويقصدون بأهل البيت
والعترة: عليّ بن أبي طالب وولديه: الحسن والحسين، وزوجته
فاطمة - رضي اللَّه عن الجميع -.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(2/953)
وجه الدلالة: أن الخطأ رجس، والرجس منفي عنهم، فيجب
أن يكون أهل البيت مطهرين عنه، وإذا كان أهل البيت مطهرين عن
الخطأ فيكون إجماعهم حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن المراد: الخطأ الاجتهادي؛ لأن الرجس
لغة: القذر والعقاب والغضب، والخطأ الاجتهادي ليس منها.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن الآية خاصة بهؤلاء الأربعة - وهم:
عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين - حيث إنه يحتمل احتمالاً
قوياً أن المراد بأهل البيت هم زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما يدل على ذلك سياق الآية، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ".
وجه الدلالة: أن القرآن معصوم، وكذلك العترة: أهل البيت.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يعمل به
عند الشيعة.
الجواب الثاني: وعلى فرض جواز العمل به، فإن المراد منه: ما
إن تمسكتم بإفاء حقوقهما، وحق القرآن الإيمان به والعمل بمقتضاه،
وحق العترة تعظيمهم وصلتهم.(2/954)
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، وهو واضح كما سبق أن قلنا في المسائل
الثلاث السابقة؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني قد بنوا على إجماع
أهل البيت فروعاً كثيرة، فإذا وجدوا اتفاق أهل البيت على حكم
شرعي، فإنه يكون حُجَّة، ولا تجوز مخالفته بأي حال.
أما عندنا - وأصحاب المذهب الأول - فإنه لا يعتبر إجماعا ولا
حُجَّة لذلك تجوز مخالفته، وتكون المسألة اجتهادية.(2/955)
المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المتفق علها إجمالاًَ - وهو: القياس
وهو: إثبات مثل حكم الأصل للفرع لاشتراكهما في علَّة الحكم
عند المثبت كقياس النبيذ على الخمر، وقياس الأرز والذرة على البر
في تحريم الربا، وسيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس؛ لأن
مرتبته بعد الكتاب والسُّنَّة ودلالة ألفاظهما على الأحكام، لذلك
قدمت عليه الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام
الشرعية.
ولكني أشرت إليه هنا؛ لأنه من الأدلة المتفق عليها إجمالاً.
هذا آخر المجلد الثاني من كتاب: " المهذب في علم أصول الفقه المقارن "
لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
حفظه الله، ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثالث إن شاء الله
وأوله " الأدلة المختلف فيها " وهو الفصل الثاني من الباب الثالث(2/956)
الجزء الثالث
الفصل الثاني في الأدلة المختلف فيها
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: في الدليل الأول وهو: الاستصحاب.
المبحث الثاني: في الدليل الثاني وهو: شرع من قبلنا.
المبحث الثالث: في الدليل الثالث وهو: قول الصحابي.
المبحث الر ابع: في الدليل الرابع وهو: الاستحسان.
المبحث الخامس: في الدليل الخامس وهو: المصلحة المرسلة.
المبحث السادس: في الدليل السادس وهو: سد الذرائع.
المبحث السابع: في الدليل السابع وهو: العرف.
المبحث الثامن: في الدليل الثامن وهو: الاستقراء.(3/957)
المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها
- الاستصحاب -
تعريفه:
الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة، وهي الملازمة، وكل
شيء لازم شيئاً فقد استصحبه.
والاستصحاب اصطلاحاً هو: عبارة عن الحكم بثبوت أمر في
الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول؛ لفقدان ما يصلح
للتغيير.
أو تقول - بعبارة أخرى -: إنه استدامة إثبات ما كان ثابتا، أو
نفي ما كان منفياً حتى يقوم دليل على تغيير الحالة، أي: بقاء ما
كان على ما كان نفياً وإثباتاً حتى يثبت دليل يغير الحالة.
***
أنواعه:
الاستصحاب يتنوع إلى خمسة أنواع هي كما يلي:
النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية.
وهو: استصحاب العدم الأصلي المعلوم، وذلك كبراءة الذمة من
التكاليف حتى يقوم الدليل على التكليف بأمر من الأمور، فإذا لم
يقم دليل: بقى ما كان على ما كان، وهو أن كل شيء مباح(3/959)