والاعتراض عليه من وجوه أحدها أن نقول
إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما(5/7)
للأخر فقولك بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لعين ذلك فيكون ذلك تكريرا من غير فائدة وإن كان شيئا آخر فلا بد من بيانه وأيضا فبتقدير أن يكون المراد منه شيئا آخر لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع وإذا تمت الماهية بهذا القدر وكان ذلك المعلوم الزائد خارجا فلا يجوز ذكره وثانيها أن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو باطل فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعا على القياس للزم الدور وثالثها أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد تثبت الصفة أيضا بالقياس كقولنا الله عالم فيكون له علم قياسا على الشاهد ولا نزاع في أنه قياس(5/8)
لأن القياس أعم من القياس الشرعي والقياس العقلي وإذا كان كذلك فنقول إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم أو لا تكون فان كان الأول كان قوله بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما
عنه تكررا لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارا وإن كان الثاني كان التعريف ناقصا لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت المحكم أو عدمه ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة أو عدمها فهذا التعريف أما زائد أو ناقص ورابعها أن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكما وتارة يكون صفة وتارة يكون نفيا للحكم وتارة يكون نفيا للصفة فذاك إشارة إلى ذكر أقسام الجامع والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع من حيث أنه جامع لاأقسام قال الجامع بدليل أمرين(5/9)
الأول أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع بعينه وإن كان لا بد لها من قسم ما وما ينفك عن الماهية لا يكون معتبرا في تحقق الماهية والثاني أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما فكذا الحكم ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق والمخير والمعين وغيرها فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس ذكر أقسامه لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من الأقسام
وخامسها أن كلمة أو للإبهام وماهية كل شئ معينة والإبهام ينافي التعيين فإن قلت كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين قلت فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور وهو كونه جامعا من حيث إنه جامع فيكون ذكر هذه الزوائد لغوا(5/10)
وسادسها هو أن القياس الفاسد قياس وهو خارج عن هذا التعريف أما الأول فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية فيكون قياسا وأما الثاني فلأن قوله بأمر جامع دليل على أن هذا القائل يعتبر في حد القياس حصول الجامع ومتى حصل الجامع كان القياس صحيحا فيكون القياس الفاسد خارجا عنه وإنه غير جائز بل يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد وإن لم يحصل في نفس الأمر التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وهو قريب وأظهر منه أن يقال إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم عند المثبت فلنفسر عن الألفاظ المستعملة في هذا التعريف أما الإثبات فالمراد منه القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه
وقد يطلق لفظ الإثبات ويراد به الخبر باللسان لدلالته على الحكم الذهنى(5/11)
وأما المثل فتصوره بديهي لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في كونه باردا ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلاف إلا بالاكتساب لكان الخالى عن ذلك الاكتساب خاليا عن ذلك التصور فكان خاليا عن هذا التصديق ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقف على ذلك التصور علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن الاكتساب وأما الحكم فقد مر في أول الكتاب تعريفه وأما المعلوم فلسنا نعنى به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الاعتقاد والظن لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور وأما العلة فسيأتي تفسيرها إنشاء الله تعالى وقولنا عند المثبت ذكرناه ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد(5/12)
فإن قيل هذا التعريف ينتقض بقياس العكس وقياس التلازم والمقدمتين والنتيجة أما قياس العكس فكقولنا لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لما كان شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تكن شرطا له بالنذر فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطا لصحة الاعتكاف والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا
له فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل نقيضه وأما قياس التلازم فكقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان وأما المقدمتان فكقولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث فإن قلت لا أسمي هاتين الصورتين قياسا لأن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في التلازم وفي المقدمتين والنتيجة(5/14)
قلت بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين لأن الحكم في كل واحدة من المقدمتين معلوم والحكم في النتيجة مجهول فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساوية للحكم في المقدمتين في صفة المعلومية والجواب أما الشئ الذي سميتموه بقياس العكس فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم وإثبات لإحدى مقدمتى التلازم بالقياس فإنا نقول لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لما صار شرطا له بالنذر لكنه يصير شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بالقياس وهو أن ما لا يكون شرطا للشئ في نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في الصلاة وهذا قياس الطرد لا قياس العكس وأما الصورتان الباقيتان فلا نسلم أنه قياس لما بينا
قوله معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور قلنا لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى كل دليل قياسا لأن المتسك من بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في(5/15)
المعلومية ولو صح ذلك لأمتنع في أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص لا بالقياس فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس بحيث تتناول كل هذه الصور نقل القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية المسألة الثانية في الأصل والفرع إذا قسنا الذرة على البر في تحريم بيعه بجنه بن متفضلا فأصل القياس إما أن يكون هو البر أو الحكم الثابت فيه أو علة ذلك الحكم أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم فالفقهاء جعلوا الأصل اسما لمحل الحكم المنصوص عليه والمتكلون جعلوه اسما للنص الدال على ذلك الحكم أما قول الفقهاء فضعيف لأن أصل الشئ ما تفرع عنه غيره(5/16)
والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر لأن البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو حرمة الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع حكم الربا في الذرة عليه
فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلا على البر بل على الحكم الحاصل في البر فالبر إذن لا يكون أصلا للحكم المطلوب وأما زيادة قول المتكلمين فضعيف أيضا من هذا الوجه لأنا لو قدرنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة أو بالدليل العقلى لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة خاصة لم يكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعا قياسيا وإن أمكن تفريعا نصيا وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلا للقياس بل أصلا لحكم محل الوفاق ولما فسد هذان القولان بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم الثابت في محل الوفاق أو علة ذلك الحكم ولابد فيه من تفصيل فنقول الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف وبيانه أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة وقد نعلم(5/17)
ذلك الحكم ولا نطلب علته أصلا فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علة الحكم في محل الوفاق لاجرم كانت العلة فرعا على الحكم في محل الوفاق والحكم أصلا فيه وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياسا ولا ينعكس فلا جرم كانت العلة أصلا في محل
الخلاف والحكم فرعا فيه وإذا عرفت ذلك فنقول إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجها أيضا لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل وثبت أن النص أصل لذلك الحكم فكان النص أصلا لأصل الحكم المطلوب وأصل الأصل أصل فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين وأيضا فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محلة فيكون محل الحكم أصلا للأصل فتجوز تسميته بالأصل أيضا على ما هو قول الفقهاء وهاهنا دقيقة وهي أن تسمية العلة في محل النزاع أصلا أولى من تسمية محل الوفاق بذلك لأن العلة مؤثرة في الحكم والمحل غير مؤثر(5/18)
في الحكم فجعل علة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم أصلا له لأن التعليق الأول أقوى من الثاني وأما الفرع فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته لأن محل الخلاف غير متفرع على الأصل بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه وهاهنا دقيقة وهى إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف لأن محل الوفاق أصل للحكم الحاصل فيه والحكم الحاصل فيه أصل للقياس فكان محل الوفاق أصل أصل القياس وأما هاهنا فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه وذلك الحكم فرع للقياس فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس وإطلاق اسم الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل
الفرع واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم وهو أن الأصل محل الوفاق والفرع محل الخلاف لئلا نفتقر إلى تغيير مصطلحهم المسألة الثالثة إذا اعتقدنا كون الحكم في محل الوفاق معللا بوصف ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع حصل لا محالة اعتقاد(5/19)
أن الحكم في محل النزاع مثل الحكم في محل الوفاق فإن كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ولا نزاع بين العقلاء في صحته أما إذا كانتا ظنيتين أو كانت إحداهما فقط ظنية فالنتيجة تكون ظنية لا محالة وهذا إما أن يكون في الأمور الدنيوية أو في الأحكام الشرعية فإن كان في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على أنه حجة وأما في الشرعيات فهو محل الخلاف والمراد من قولنا القياس حجة أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو مكلف بالعمل به في نفسه ومكلف بأن يفتى به غيره واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه تنقيح المناط وتارة باستخراج الجامع وهاهنا لا بد من بيان أن الحكم في الأصل معلل بكذا ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع والغزالي يسمى الأول تخريج المناط والثاني تحقيق المناط(5/20)
القسم الأول في إثبات أن القياس حجة اختلف الناس في القياس الشرعي فقلت طائفة العقل يقتضى جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان(5/21)
منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع أحدها أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا وأبو الحسين والبصرى من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك وثانيها أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية وثالثها القاشاني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين(5/22)
إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه والثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف أما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وأما القسم الثاني وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضى المنع من التعبد به فهم فريقان أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهذا قول النظام وثانيها الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع وهؤلاء فرق ثلاث إحداها الذين قالوا يمتنع أن يكون القياس طريقا إلى العلم والظن(5/23)
وثانيتها
الذين سلموا أنه يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز متابعة الظن لأنه قد يخطئ وقد يصيب وثالثها الذين سلموا أنه يجوز متابعة الظن في الجملة ولكن حيث يتعذر النص كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات لأنه لا نهاية لتلك الصور فكان التنصيص على حكم كل واحد منها متعذرا أما في غير هذه الأحكام فإنه يمكن التنصيص عليها فكان الاكتفاء بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز وهذه طريقة داود وأتباعه من أهل الظاهر فهذا تفصيل المذاهب(5/24)
والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين أن القياس حجة في الشرع لنا الكتاب والسنه والإجماع والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وجه الاستدلال به أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المرور يقال عبرت عليه وعبرت النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها كأنها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت
الأمر(5/26)
فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه أحدها أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلى إنه معتبر وثانيها أن المتفكر في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار وثالثها قوله تعالى إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة والمراد به الاتعاظ ورابعها يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ لا في(5/27)
المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلناه فعليكم الترجيح ثم الترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع منه وقد وجد هاهنا ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا لا يليق بالشرع
وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي وبيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلول فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلى القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس الشرعي فكل واحد من هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما(5/28)
به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك وجهة الامتياز فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي لا بلفظه ولا بمعناه فإن قلت القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود واحد منها والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود ثم ليس تعيين أحد أنواعه أولى من تعيين الباقي لأن نسبة القدر المشترك بين أنواع مخصوصة إلى كل واحد منها على السوية فإما أن لا يجب شئ منها وهو باطل لأن تجويز الإخلال بجميع أنواع الماهية يلزم تجويز الإخلال بتلك الماهية فيلزم أن لا يكون مسمى الاعتبار مأمورا به وهو باطل أو يجب جميع أنواع الاعتبار المأمور به في الآية فيكون القياس الشرعي مندرجا فيه
قلت لا نسلم أنه ليس بعض الأنواع أولى من بعض لأن الاعتبار المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر ومعلوم أنه غير جائز بل لا بد من الاعتراف بأن الاعتبار المأمور به يفيد نوعا غير القياس الشرعي وهو الاتعاظ مثلا إلا أنا نقول إنه يفيد الاتعاظ فقط وأنتم تقولون يفيد الاتعاظ والقياس الشرعي فظهر بهذا أن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ ومسمى الاعتبار حاصل في الاتعاظ ففي إيجاب الاتعاظ حصل إيجاب(5/29)
مسمى الاعتبار فلا حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر أحدها إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب وثانيها قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وثالثها الأقيسة العقلية ورابعها الأقيسة في أمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب وخامسها أن نشبه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص
وسادسها الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتى بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر وثبت أنا أتينا به في صور كثيرة فلا تبقى فيه دلالة البتة على الأمر بالقياس الشرعي(5/30)
سلمنا أن اللفظ يقتضى العموم لكن حمله عليه هاهنا يفضي إلى التناقض لأن التسوية بين الفرع والأصل في الحكم نوع من الاعتبار والتسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أنه في الأصل كذلك ولأنه نوع أخر من الاعتبار والأمر بأحد الاعتبارين مناف للأمر بالآخر فإجراء اللفظ على ظاهره يقتضى الأمر بالمتنافيين معا وهو محال ثم ليس إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى من العكس وعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا سلمنا بأن حمله على العموم لا يفضى إلى التناقض لكنه عام دخله التخصيص فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول من وجوه(5/31)
أحدهما أن الرجل لا يكون مأمورا بالاعتبار عند تعادل الأمارات وفي الأشياء التي ما نصب الله تعالى عليها دليلا كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء السماوات والأرض وفي الأشياء التي عرف حكمها بالاعتبار مرة فالمكلف بعد ذلك لا يكون مأمورا بأعتبار آخر وثانيها لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فليس للوكيل أن يعتق سالما لسواده وثالثها أن عند قيام النص في المسألة لا يكون الرجل مأمورا بالعمل بالقياس ورابعها الأقيسة المتعارضة لا يتناولها الأمر فثبت أن هذا العام مخصوص ومثل هذا العام ليس بحجة على ما سبق بيانه في باب العموم سلمنا أنه حجة لكن حجة قطعية أو ظنية(5/32)
الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أنكم إنما بينتم كون الاعتبار اسما للمجاوزة بتلك الاشتقاقات ولا شك أن التوسل بالاشتقاقات هذه إلى تعيين المسمى دليل ظنى ومسألة القياس مسألة يقينية وبناء اليقيني على الدليل المبنى على المقدمة الظنية لا يجوز
سلنا أنه يفيد اليقين لكنه أمر والأمر لا يفيد التكرار فلا يتناول كل الأوقات سلمنا أنه يتناول كل الأوقات ولكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين في عصر الرسول ص والجواب قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين الأول أنه يقال فلان اعتبر فأتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الإنسان ما لم يستدل بشئ آخر على حال نفسه لا يكون متعظا إذا ثبت هذا فنقول لو جعلناه حقيقة في المجاوزة لكان(5/33)
حقيقة في الاتعاظ وغيره على سبيل التواطئ أما لو جعلناه حقيقة في الاتعاظ كان استعماله في غيره إما بالاشتراك أو بالمجاز وهما على خلاف الأصل وعلى هذا التقرير لا يضرنا قولهم إن لفظ الاعتبار مستعمل في الاتعاظ فأما قوله لا يقال لمن يستعمل القياس إنه معتبرا قلنا لا نسلم فإنه يصح أن يقال إن فلانا يعتبر الأشياء القعلية بغيرها بلى من أتى بقياس واحد لا يقال إنه معتبرا على الإطلاق كما أنه
لا يقال له إنه قائس على الإطلاق لأن لفظ المعتبر والقائس على الإطلاق لا يستعمل إلا في المكثر منه قوله المكثر من حمل الفروع على الأصول إذا لم يتفكر في أمر آخرته لا يقال له إنه معتبر قلنا لما كان الغرض الأعظم من الاعتبار هو العمل للآخرة فإذا لم يأت بما هو المقصود الأصلى قيل أنه غير معتبر على سبيل المجاز كما يقال لمن لا يتدبر في الآيات إنه أعمى وأصم وأما قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة قلنا معنى المجاوزة حاصل فيه لأن النظر في خلقها يفيد العلم بوجود صانعها(5/34)
قوله سلمناه أنه حقيقة في المجاوزة ولكن لكن وجد ما يمنع من حمله عليها قلنا لا نسلم قوله لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا قلنا لا نزاع في أنه لو نص على هذه الصورة كان ركيكا لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين لكن لم قلت إنه لو أمر بمطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته كان ركيكا مثاله لو سأله عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا أما لو أجاب بما يتناول تلك المسألة وغيرها كان حسنا
قوله الأمر بالاعتبار لا يقتضى إلا إدخال فرد من أفراد هذه الماهية في الوجود قلنا بل يقتضى العموم لدليلين الأول أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضى أن علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضى أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا فيلزم أن يكون(5/35)
كل اعتبار مأمورا به الثاني أنه يحسن أن يقال اعتبر إلا الاعتبار الفلانى وقد بينا في باب العموم أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ فعلمنا أن كل الاعتبارات داخلة تحت هذا اللفظ قوله لو حملناه على العموم لا يفضي إلى التناقض قلنا هب أنه كذلك لكنا نقول لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وذلك لوجهين الأول أن الاعتبار المذكور هاهنا لابد وأن يكون معناه لائقا بما قبل هذه الآية وما بعدها وإلا جاءت الركاكة والذي يليق به هو التشبيه في الحكم لا المنع منه وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا هذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير ومعلوم أن ذلك باطل وإذا بطل حمل الآية عليه وجب حملها على
التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ(5/36)
الثاني هو أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الاعتبار هو التشبيه في الحكم لا المنع منه ولذلك فإن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب صدر منه ثم قال للأخر اعتبر به فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم لا الأمر بالمنع منه قوله إنه عام مخصوص قلنا هذا مسلم لكنا بينا في باب العموم ان العام المخصوص حجة قوله بعض مقدمات هذه الدلالة ظنية قلنا هذا السؤال عام في كل السمعيات فلا يكون له تعلق بخاصية هذه المسألة قوله الأمر لا يفيد التكرار قلنا إنه لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة قوله هو خطاب مع أولئك الذين كانوا في عصر الرسول ص فلم قلتم إنه يتناولنا قلنا للإجماع على عدم الفرق(5/37)
المسلك الثاني التمسك بخبر معاذ وهو مشهور روى أنه ص أنفذ معاذا
وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهما إلى اليمن فقال عليه الصلاة والسلام لهما بما تقضيان فقالا إذا لم نجد الحكم في السنة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به فقال علية الصلاة والسلام أصبتما(5/38)
وقال عليه الصلاة والسلام لأبن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما فأجتهد برأيك فإن قيل لا نسلم صحة الحديث وبيانه من وجهين الأول أنه مشتمل على الخطأ فوجب أن لا يكون صحيحا بيان الأول من وجوه أحدها أن فيه قوله فإن لم تجد في كتاب الله وهو يناقض قوله تعالى ما(5/39)
فرطنا في الكتاب من شئ وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وثانيها أن في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صوبه على قوله أجتهد رأيي وهو خطأ لأن الاجتهاد في زمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز على ما سيأتي دليله إن شاء الله تعالى وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما به يقضى والقضاء هو الإلزام
فيكون السؤال واقعا عن الشئ الذي يجب الحكم به والسنة لا تصلح جوابا عن ذلك لأنها تذكر في مقابلة الفرض هذا سنة وليس بفرض ورابعها أن الحديث يقتضى أنه سأله عما به يقضي بعد أن نصبه للقضاء وذلك لا يجوز لأن جواز نصه للقضاء مشروطا بصلاحيته للقضاء وهذه الصلاحية إنما تثبت لو ثبت كونه عالما بالشئ الذي يجب أن يقضى به والشئ الذي لا يجب أن يقضى به(5/40)
وخامسها أن مقتضى الحديث أنه لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم وجدان الكتاب والسنة وهو باطل لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز الوجه الثاني في بيان ضعف الحديث روى أن معاذا لما قال أجتهد رأيي قال له الرسول ص اكتب إلي أكتب إليك وليس لأحد أن يقول إنا نصحح الروايتين لأنهما نقلا في واقعة واحدة فإنه لا يمكن الجمع بينهما سلمنا سلامة المتن عن هذه المطاعن لكن لا نزاع بين المحدثين في كونه مرسلا والمرسل ليس بحجة على ما تقدم بيانه سلمنا أنه ليس بمرسل ولكنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد وإنه(5/41)
أصل عظيم في الشرع والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه وما يكون كذلك وجب بلوغه في الاشتهار إلى حد التواتر فلما لم يكن كذلك علمنا أنه ليس بحجة
والحاصل أنه مرسل فوجب أن لا يكون حجة عند الشافعي رضي الله عنه وأنه خبر وارد فيما تعم به البلوى فوجب أن لا يكون حجة عند أبي حنيفة سلامته عن هذا الأمر لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في المسائل القطعية فإن قلت الدليل على صحته أن مثبتى القياس كانوا أبدا متمسكين به في إثبات القياس والنفاة كانوا مشتغلين بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله قلت قد تقدم بيان ضعف هذا الوجه سلمنا صحته فلم يدل على كون القياس حجة أما قوله أجتهد رأيي قلنا الاجتهاد عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فنحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية فإن قلت إنما قال أجتهد رأيي بعد أن كان لا يجده في الكتاب(5/42)
والسنة وما دلت النصوص الخفية عليه لا يجوز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة قلنا لا نسلم أن قوله فإن لم تجده يقتضى العموم بيانه أنه يصح أن يستفهم فيقال أتعني بقولك فإن لم تجد عدم الوجدان في صرائحه فقط أم فيه وفي جميع وجوه دلالته سلمنا أنه بظاهرة للعموم لكن هاهنا لا يمكن حمله على العموم لأن العمل بالقياس مفهوم عندكم من الكتاب والسنة فكيف
يصح حمل قوله فإن لم تجد على العموم سلمنا أنه يمكن حمله على العموم لكن قوله أجتهد رأيي يكفى في العمل بمقتضاه نوع واحد من الاجتهاد فنحمله على التمسك بالبراءة الأصلية أو على التمسك بما ثبت في العقل من أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر سلمنا أنه لا يجوز حمله عليه فلم قلتم إنه لما لم يجز حمله على النص الخفي وعلى دليل العقل وجب حمله على القياس الشرعي وما الدليل على الحصر فإن هاهنا طرقا أخرى سوى القياس كالتمسك بالمصالح المرسلة والتمسك بطريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته أو أقل مفهوماته أو قول الشارع احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب(5/43)
وبالجملة فلابد من دليل على الحصر سلمنا أنه يتناول القياس الشرعي ولكن يكفي في العمل بمقتضاه إثبات نوع واحد من أنواع القياس الشرعي ونحن نقول به فإن مذهب النظام أن الشرع إذا نص على علة الحكم وجب القياس ورد الأمر بالقياس أو لم يرد ويجب أيضا قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف سلمنا أنه يدل على جواز العمل بالقياس الشرعي لكن في زمان حياة الرسول ص أو بعده على الإطلاق الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة وذلك إنما
يمكن في زمان حياة الرسول ص لعدم استقرار الشرع فأما بعد نزول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإن هذا متعذر لأن الدين إنما يكون كاملا أن لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه وذلك إنما يكون بالتنصص سنة على كليات الأحكام وإذا كان جميع الأحكام موجودا في الكتاب والسنة وكان العمل بالقياس مشروطا بعدم الوجدان فيهما لم يجز العمل بالقياس بعد زمان الرسول ص(5/44)
والجواب قوله هذا الحديث مناف لكتاب الله تعالى قلنا لا نسلم وأما قوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ قلنا هذه الأدلة تدل على اشتمال الكتاب على كل الأمور إبتداء أو بواسطة الأول باطل لخلو ظاهر كتاب الله تعالى عن دقائق الهندسة والحساب وتفاريع الحيض والوصايا والثاني لا يضرنا لأن كتاب الله تعالى لما دل على وجوب قبول قول الرسول ص وقول الرسول دل على أن القياس حجة والقياس دل على هذه الأحكام كان كتاب الله تعالى دالا على هذه الأحكام
قوله الحديث يدل على جواز الاجتهاد في زمان الرسول ص قلنا وأي محذور يلزم منه فإن الواقعة التي لا يمكن تأخير الحكم فيها إلى مدة يذهب الرجل من اليمن إلى المدينة ويرجع عنها لا يكون تحصيل النص فيها ممكنا فوجب جواز الرجوع إلى القياس(5/45)
قوله ذكر السنة جوابا عما به يقضى غير جائز قلنا لا نسلم لأن السنة عبارة عن الطريقة كيف كانت قوله لا يجوز نصبه للقضاء إلا بعد العلم بأنه يعرف التمييز بين ما يجوز به القضاء وبين ما لا يجوز قلنا المراد بقوله لما بعث معاذا إلى اليمن لما عزم على أن يبعثه قوله الحديث يمنع من تخصيص الكتاب والسنة بالقياس قلنا كثير من الناس ذهب إليه قوله نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال اكتب إلي أكتب إليك قلنا روايتنا مشهورة وروايتكم غريبة لم يذكرها أحد من المحدثين فلا يحصل التعارض وأيضا فكيف يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام اكتب إلي أكتب إليك وقد يعرض من الحكم مالا يجوز تأخيره وأيضا يمكن الجمع بينهما وإن وردا في واقعة واحدة وهو أن يقال الحادثة إن احتملت التأخير وجب عرضها
وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد قوله إنه مرسل(5/46)
قلنا هب أنه كذلك لكنه مرسل تلقته الأمة بالقبول ومثله حجة عندنا قوله وارد فيما تعم به البلوى فوجب بلوغه إلى حد التواتر قلنا وروده فيما تعم به البلوى لا يوجب كونه متواترا بدليل المعجزات المنقولة عن النبي ص قوله إنه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك لكن لا نثبت به القطع بكون القياس حجة بل ظن كونه حجة قوله نحمله على طلب النص الخفى قلنا قوله فإن لم تجد يقتضى نفي النص جليا كان أو خفيا(5/47)
قوله لا نسلم أن قوله فإن لم تجد للعموم قلنا الدليل الدال على أنه للعموم جواز الاستثناء قوله لما دل الكتاب والسنة على العمل بالقياس كان دليلا على الحكم الثابت بالقياس قلنا هب أنه كذلك ولكن الحكم الذي هو مدلول القياس لا يكون حاصلا فيهما وهذا القدر يكفى في جواز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة وقول معاذ أحكم بكتاب الله أراد به ما دل عليه الكتاب بنفسه لا بواسطة إذ لو أراد به كل ما دل عليه الكتاب سواء كان ابتداء أو بواسطة لكان القول بأنه إذا لم يوجد في الكتاب حكمت بما في السنة خطأ
قوله نحمله على البراءة الأصلية قلنا البراءة الأصلية معلومة لكل احد فلا حاجة في معرفتها إلى الاجتهاد فلا يجوز حمل قوله أجتهد عليه قوله نحمله على القياس الذي نص الشرع على علته أو على ما يكون مثل قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف قلنا الشرع إنما سكت عند قوله أجتهد لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حملناه على ما ذكرتموه من القياس لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة(5/48)
قوله ما الدليل على الحصر قلنا أجمعت الأمة على الحصر فوجب القطع به المسلك الثالث روى أن عمر رضي الله عنه سأل النبي ص عن قبلة الصائم فقال أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه وجه الاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام استعمل القياس وذلك يوجب كون القياس حجة إنما قلنا إنه استعمل القياس لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بأن القبلة(5/49)
من دون الإنزال لا تفسد الصوم كما أن المضمضة من دون الأزدراد عمرو لا تفسد الصوم وإيراد هذا الكلام يدل على أن الجامع بينهما ما يفهمه كل
عاقل عند سماع هذا الكلام من أنه لم يحصل عند المقدمتين ما هو الثمرة المطلوبة فوجب أن لا يكون حكم المقدمة كحكم الثمرة المطلوبة وإنما قلنا إنه عليه الصلاة والسلام لما استعمل القياس وجب أن يكون حجة لوجهين الأول أن التأسي به واجب الثاني أن قوله ص أرأيت خرج مخرج التقرير فلولا أنه عليه الصلاة والسلام قد مهد عند عمر رضي الله عنه التعبد بالقياس لما قرر ذلك عليه ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب جاز أن يقول لمن سأله عنه أليس قد قال الله تعالى كذا وكذا إذا كان الكتاب عنده وعند من يخاطبه حجة ولا يجوز أن يقول ذلك إذا كان هو ومن يخاطبه لا يعتقدان كونه حجة ولا يقول الإنسان في حكم حكم به لأجل القياس أليس أن القياس(5/50)
يقتضيه مع أنه ومن خاطبه لا يعتقدان كون القياس حجة فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز بناء المسألة العلمية عليه سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه عليه الصلاة والسلام نبه هاهنا على العلة ومثل هذا القياس عندنا حجة سلمنا دلالة الحديث على أن القبلة تجرى مجرى المضمضة لكن ليس فيه أن النص أوجب ذلك أو القياس وإذا احتملا لم يجز القطع على
أحدهما بغير دليل والجواب قوله هذا خبر واحد قلنا سبق الجواب عنه قوله نبه على العلة قلنا إنه عليه الصلاة والسلام ما نص على العلة ولكنه لم يفعل إلا أنه ذكر أصل القياس بلى العلة متبادرة إلى الإفهام والتنصيص على(5/51)
أصل القياس لا يكون تنصيصا على العلة قوله إنه ليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أجرى القبلة مجرى المضمضة لأجل نص أو لأجل قياس قلنا بينا أن المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت هو أن كل واحد منهما لم يحصل الثمرة المطلوبة بذلك الفعل ولو أن بعض العامة فضلا عن أهل العلم استفتى فقيها في صائم قبل ولم ينزل فقال له الفقيه أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته لاكتفى المستفتى بذلك في أن القبلة لا تفسد صومه ولعلم أنه أجرى أحدهما مجرى الآخر من الوجه الذي ذكرناه فبطل أن يقال إن هذا الكلام لا يدل على الوجه الجامع بينهما وأنه لا يمتنع أن يكون بعض الظواهر اقتضى الجمع المسلك الرابع التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين قضيته أكان يجزي فقالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء(5/52)
ووجه الاستدلال به كما في قبلة الصائم من غير تفاوت المسلك الخامس الإجماع وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين وتحريره أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة وكل ما كان مجمعا عليه بين الصحابة فهو حق فالعمل بالقياس حق(5/53)
أما المقدمة الثانية فقد مر تقريرها في باب الإجماع وأما المقدمة الأول فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك ومتى كان كذلك كان الإجماع حاصلا فهذه مقدمات ثلاث المقدمة الأولى في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به والدليل عليه وجوه أربعة الوجه الأول ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعرى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك وهذا صريح في المقصود(5/54)
الوجه الثاني أنهم صرحوا بالتشبيه لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
أنكر على زيد قوله الجد لا يحجب الأخوة فقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبا لأن ابن عباس رضي الله عنهما(5/55)
لا يذهب عليه مع تقدمه في اللغة أن الجد لا يسمى أبا حقيقة ألا ترى أنه ينفي عنه هذا الاسم فيقال إنه ليس أبا للميت ولكنه جده فلم يبق إلا أن مراده أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة كما أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجبهم وعن على وزيد أنهما شبهاهما قبل بغصني شجرة وجدولى يحيى نهر فعرفا بذلك قربهما من الميت ثم شركا بينهما في الميراث الوجه الثالث أنهم اختلفوا في كثير من المسائل وقالوا فيها أقوالا ولا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس واعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل إلا أن أظهرها أربع إحداها مسألة الحرام فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال فنقل عن على وزيد وابن(5/56)
عمر رضي الله عنهم أنه في حكم التطليقات الثلاث وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة إما بائنة أو رجعية على اختلاف بينهم وعن أبي بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم أنه يمين تلزم فيه الكفارة
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار وعن مسروق رحمه الله أنه ليس بشئ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى فصار كما لوا قال هذا الطعام على حرام والمرتضى روى هذا القول عن علي رضي الله عنه وثانيتها أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة فبعضهم ورث الجد مع الإخوة وبعضهم أنكر ذلك والأولون اختلفوا فمنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة(5/57)
خيرا له من الثلث فأجراه مجرى الأم ولم ينقص حقه عن حقها لأن له مع الولادة تعصيبا ومنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرا له من السدس وأجراه مجرى الجدة في أن لا ينقص من حقها السدس وثالثتها اختلافهم في مسألة المشتركة وهى زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم حكم عمر رضي الله عنه فيها بالنصف للزوج وبالسدس للأم وبالثلث للإخوة من الأم ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئا فقالوا هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث ورابعتها اختلافهم في الخلع هل يهدم من الطلاق شيئا أو يبقى عدد الطلاق على ما كان
ففي إحدى الروايتين عن عثمان رضى الله عنه أنه طلاق والرواية(5/58)
الأخرى أنه ليس بطلاق وهو محكى عن ابن عباس وإذا عرفت هذه المسائل فنقول إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه لا عن طريق أو عن طريق والأول باطل لأن الذهاب إلى الحكم لا عن طريق باطل فلو اتفقوا عليه كانوا متفقين على الباطل وإنه غير جائز وأما إن ذهبوا إليها عن طريق فذلك الطريق إما أن يكون هو العقل أو السمع والأول باطل لأن حكم العقل في المسألة شئ واحد وهو البراءة الأصلية وهذه أقاويل مختلفة أكثرها يخالف حكم العقل وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون ذلك الدليل نصا أو غيره أما النص فسواء كان قولا أو فعلا وسواء كان جليا أو خفيا فالقول به باطل لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لنص لأظهروه ولو أظهروه لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون ولما لم يكن كذلك علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص(5/59)
وإنما قلنا إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لأجل نص لأظهروه لأنا نعلم بالضرورة أنه كان من عاداتهم إعظام نصوص الرسول ص
واستعظام مخالفتها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم كقوله عليه الصلاة والسلام نعم الإدام الخل وكان من عادتهم أيضا التفحص عن نصوص الرسول عليه الصلاة والسلام والحث على نقلها إليهم ليتمسكوا الرحمن بها إن كانت موافقة لمذاهبهم أو ليرجعوا عن مذاهبهم إن كانت مخالفة لها وليس يجوز فيمن هذه عادته أن يحكم في قضية بحكم لنص ثم يسكت عن ذكر ذلك النص وذلك معلوم بالضرورة وبهذا الطريق ثبتت المقدمة الثانية وهى قولنا لو أظهر النص لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون وأما أن ذلك لم ينقل فلأنا بعد البحث التام والطلب الشديد والمخالطة للفقهاء والمحدثين ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها وذلك يدل على عدمها(5/60)
فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص وإذا بطل ذلك ثبت أنه لأجل القياس الوجه الرابع نقل عن الصحابة القول بالرأى والرأى هو القياس وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأى لأنه روى عن أبي بكر أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي وفي الجنين لما سمع الحديث لولا هذا لقضينا فيه برأينا وقول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك رشيد وإن تتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأى كان
وعن على رضى الله عنه اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد على أن لا تباع وقد رأيت الآن بيعهن وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وإنما قلنا إن الرأى عبارة عن القياس لأنه يقال للإنسان أقلت هذا برأيك أم بالنص فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر وذلك يدل على(5/61)
أن الرأى لا يتناول الاستدلال بالنص سواء كان جليا أو خفيا فثبت بهذه الوجوه الأربعة إن بعض الصحابة ذهب إلى القول بالقياس والعمل به وأما المقدمة الثانية وهى أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام والجد ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا أنه لم يوجد وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى وأما المقدمة الثالثة وهى أنه لما قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحته فالدليل عليه أن سكوتهم إما أن يقال أنه كان عن الخوف أو عن الرضا والأول باطل لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق لا سيما فيما لا(5/62)
يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلا وذلك يمنع من حمل السكوت على الخوف وأيضا فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك فثبت أن سكوتهم كان عن الرضا وذلك يوجب كون القياس حجة وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ وإنه غير جائز هذا تحرير الأدلة فإن قيل لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس والوجوه الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين وذلك لا يفيد القطع بالصحة لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب كيف والأحاديث التي يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة إلا أن روايتها في الأصل لما انتهت إلى الواحد والإثنين لا جرم لم نقطع به فكذا هاهنا فإن قلت الأمة في هذه الروايات على قولين منهم من قبلها واعترف بدلالتها على القياس ومنهم من اشتغل بتأويلها وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها قلت قد مر غير مرة أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى القول بالقياس والعمل به(5/63)
وأما الوجه الأول
وهو قول عمر رضي الله عنه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك قلنا التمسك إما أن يكون بقوله اعرف الأشباه والنظائر أو بقوله قس الأمور برأيك أما الأول فلا حجة فيه لأن الله تعالى لما نص على حكم كل جنس ونوع وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر لئلا يخرج منه ما هو من جنسه ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه وقد يشتبه الشئ بالشئ فلا بد من التأمل الكثير ليعرف أنه من جنسه أو من غير جنسه وأما الثاني وهو قوله قس الأمور برأيك فلا يدل أيضا على الغرض لأن القياس في أصل اللغة عبارة عبارة عن التسوية فقوله قس الأمور برأيك معناه اعرض الأشيا على فكرتك وتأملك وكان لأن التفكير في الشئ لا معنى له إلا استحضار علوم أو ظنون ليتوصل بها إلى تحصيل علوم أو ظنون فالمتفكر روى كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول وبين المقدمات المعلومة ليصير المجهول معلوما وهذا التأويل متعين لأن الرأى هو الروية فقوله قس الأمور برأيك معناه سو الأشياء برويتك ولم وتسوية الأشياء بالروية ليست إلا ما ذكرنا فيرجع حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهى والتمني بل بالاستدلال(5/64)
والنظر وذلك ليس من القياس الشرعي في شئ سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل لكن يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم وأن يكون المراد منه التسوية في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا
بالنص فلم قلت إن الاحتمال الأول أولى من الثاني وأما الوجه الثاني وهو تشبيه ابن عباس قلنا لم قلت إن المراد أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية ولم لا يجوز أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى النافلة بالابن مجازا واكتفى بهذا الاسم المجازي في اندراج النافلة تحت عموم قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وكذلك سمى الجد أبا مجازا حتى يكفى هذا في اندراجه تحت عموم قوله تعالى وورثه أبواه والذي يؤكد هذا الاحتمال أن ابن عباس نسب زيدا إلى مفارقة التقوى(5/65)
وتارك القياس لا يكون كذلك بل تارك النص يكون كذلك وإنما يكون زيد تاركا للنص لو كان الأمر على ما قلنا وأما الوجه الثالث فالكلام عليه أنه ألا يجوز أن يقال إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك(5/66)
المسائل كان لتمسكه بنص ظنه دليلا على قوله سواء أصاب في ذلك الظن أو أخطأ فيه قوله لو كان كذلك لأظهروا ذلك النص ولاشتهر ولنقل ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا عدمه قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة قوله علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول عليه الصلاة والسلام ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم لأجل نص ثم أنه لا يذكره
قلنا لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضى إظهار النص الذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول بيانه أن شدة التعظيم إنما تقتضى إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره وهم ما احتاجوا إليه لأن الحاجة إما أن تكون عند المناظرة أو مع المستفتى والأول باطل لأنهم لم يجتمعوا في محفل لأجل المناظرة في تلك المسائل وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات وأما المستفتى فلا فائدة من ذكر الدليل معه سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضى إظهار النص ولكن بشرط أن يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به ولم يوجد هذا الشرط هناك لأنه إذا روى ذلك النص كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع وخبر الواحد ليس بحجة فلا فائدة إذا في إظهار هذا النص(5/67)
سلمنا أنه يجب إظهاره ولكن إذا كان النص جليا أو مطلقا سواء كان جليا أو خفيا الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه إن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه إذا كان ذلك الدليل ظاهرا قويا أما إذا كان خفيا فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره وبالجملة فأنتم المستدلون فعليكم إقامة الدلالة على أن يجب إظهاره سواء كان قويا أو ضعيفا
سلمنا ما ذكرتموه لكن نعارضه فنقول لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل القياس لوجب عليهم إظهاره ولكن لم يقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه فإن قلت الفرق أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه والنص يجب اتباعه فيه قلت القياس إذا كان ظاهرا جليا فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه ولولا ذلك لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص لأظهروها بين فلم قلت إنهم لو(5/68)
أظهروها لاشتهر فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع أن لا تتوفر الدواعي على نقلها فأن قلت لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم مع أنه لا فائدة فيها فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة مع ما فيها من الفوائد كان أولى قلت إنا لم نقل إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها حتى يكون ما ذكرتموه لازما علينا بل قلنا أنه لا يجب نقلها ولا يمتنع أيضا سلمنا أنه من الوقائع العظيمة لكن لم قلت إنه يجب نقله والدليل عليه أن معجزات الرسول ص على جلالة قدرها وأمر الإقامة في الأفراد والتثنية على نهاية ظهورها لم ينقله إلا الواحد والإثنان وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن لا ينقله ذلك الواحد أيضا سلمنا أنها لو اشتهرت لنقلت لكن لا نسلم أنها ما نقلت قوله لو نقلت لعرفناها أهل قلنا إما أن تدعى أن كل ما نقل عن الرسول ص
وجميع أصحابه فلا بد وأن تعلمه أنت أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك من يعلمه أما الأول فلا يقول به إنسان سليم العقل وأما الثاني فمسلم ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم تلك النصوص فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه لا حال غيره سلمنا أنه لو نقل لعرفه كل واحد منا لكن لا نسلم أنا لا نعرفه فلنتكلم(5/69)
في مسألة الحرام فنقول أما من ذهب إلى كونه يمينا فيحتمل أنه إنما ذهب إليه استدلالا بقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وانه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه مارية القبطية فأنزل الله تعالى هذه الآية وسماه يمينا ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به تمسك بقوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل لكم والنهي يدل على الفساد أو بالبراءة الأصلية ومن ذهب إلى أنه للطلقات حديث الثلاث زعم أنه قد يجعل كناية عن الطلقات الثلاث فوجب تنزيله على أعظم أحواله وهو الطلقات الثلاث(5/70)
ثم أدخله تحت قوله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة نزله على أقل أحواله ومن جعله ظهارا جعله كناية عنه والكنايات في اللغة ليست عبارة عن القياس الشرعي
سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص فلم قلتم إنه لا بد وأن يكون للقياس فما الدليل على نفى الواسطة ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط منها تنزيل اللفظ على أقل المفهومات أو على الأكثر ومنها استصحاب الحال ومنها المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول ومنها الاستقراء والفرق بينه وبين القياس أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته والقياس عبارة عن إثباته في جزئي لأجل ثبوته في جزئي آخر ومنها إنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة ومستند ذلك الوهم إلى أن قول بعض الأنبياء حجة فيكون قول هذا العالم حجة بيان الأول قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على(5/71)
نفسه أضاف التحريم إليه بيان الثاني قوله عليه الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فهذه الشبهة تقتضى أن يكون مجرد قول العالم حجة فلعل هذه الشبهة خطرت ببالهم ومنها الإجماع فإن قلت حصول الإجماع في محل الخلاف محال قلت المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص
والقياس في الجملة فهذا هو الكلام على الوجه الثالث وأما الوجه الرابع وهو أن الصحابة قالت بالرأى والرأى هو القياس فنقول لا نسلم أن الرأى هو القياس والدليل عليه وجوه(5/72)
الأول أنه يقال رأى يرى رؤية ورأيا فدل هذا على انه مرادف للرؤية فإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة في القياس دفعا للاشتراك وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس وجب أن لا يكون في عرف الشرع له لأن النقل خلاف الأصل الثاني لو كان الرأى اسما للقياس لكان اللفظ المشتق منه دليلا على(5/73)
القياس وكان يجب أن يكون قولنا فلان يرى كذا معناه أنه يقيس ومعلوم أن ذلك باطل لأن من يذهب إلى الرؤية والصفات وخلق الأعمال يجوز أن يحكى عن نفسه أنى أرى القول بهذه الأشياء وعمن يشاركه في المذهب إنه يرى القول بها الثالث أنكم رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الرأى ليس اسما للقياس وأما الذي تمسكتم به من أنه يقال أقلت هذا عن رأيك أو عن
النص قلنا أقصى ما في الباب أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأى غير النص لكن من أين يدل على إنه لما كان غير النص وجب أن يكون قياسا بيانه أن النص هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية فما لا يكون كذلك لا يكون نصا فلا يلزم من كون الرأى خارجا عن النص أن لا يكون ذلك الاستدلال لفظيا لاحتمال إنه لما كان خفيا لا جرم لا يسمى بالنص(5/74)
سلمنا أن مسمى الرأى ليس هو النص فلم قلتم إنه هو القياس وما الدليل على هذا الحصر فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير المقدمة الأولى سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس أو عمل به فلم قلت إن أحدا منهم ما أنكره قوله لو أنكروه لاشتهر ولنقل ولوصل إلينا قلنا الكلام على هذه المقدمات قد مر والذي نقوله الآن أنا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا فإنه نقل عنهم تارة إنكار الرأى وأخرى إنكار القياس وأخرى ذم من أثبت الحكم لا بالكتاب والسنة روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء
السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا(5/75)
وعنه رضى الله عنه إياكم والمكايلة قيل وما المكايلة قال المقايسة وعن شريح قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ من قبله قاض اقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله ص فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن تقضي وعن على لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره(5/76)
وروى عنه من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه وهذا أيضا يروى عن عمر رضي الله عنه وعن ابن عباس يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم وقال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرمه الله تعالى وحرمتم كثيرا مما حلل الله(5/77)
وقال إن الله تعالى قال لنبيه ص فاحكم بينهم بما أنزل الله ولم يقل بما رأيت وقال لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ص
ولكن قيل له وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وعن ابن عمر رضي الله عنه السنة ما سنة رسول الله ص لا تجعلوا الرأى سنة للمسلمين وعن مسروق لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول أول من قاس إبليس وقال الشعبي لرجل لعلك من القياسيين وقال إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأى والقياس فإن قلت هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين(5/78)
دللنا على ذهابهم إلى القول به فلا بد من التوفيق وذلك بأن نصرف الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه وذلك حق لأن العمل بالقياس لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة قلت هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس هم الذين دللتم على أنهم كانوا عاملين به إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة وانتم ما نقلتم عنهم التصريح بالقول بل رويتم عنهم أمورا ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على إن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما ذكرتموه فكان قولنا راجحا سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه
ممكن فهاهنا توفيق آخر وهو أن يقال إن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا له ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر أيضا منكرا وعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهم مادحا للقياس وذاما له من غير تناقض مع أنه لا يحصل الإجماع سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدا منهم ما أظهر الإنكار فلم قلتم يحصل الإجماع(5/79)
وبيانه أن السكوت قد يكون للخوف والتقية قوله القول بالقياس ليس سببا لنفع دنيوى فكيف يحصل الخوف من إنكار الحق فيه قلنا لا نسلم عدم الخوف هناك قال النظام في هذا المقام الصحابة ما اجمعوا على القياس بل القائل به قوم معدودون وهم عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبى وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وأبو موسى وأناس قليل من أصاغر الصحابة والباقون ما كانوا عاملين به ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان وعلى وهؤلاء لهم سلطان ومعهم الرغبة والرهبة شاع ذلك في الدهماء وانقادت لهم العوام فجاز للباقين السكوت على التقية لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول(5/80)
قال والذي يدل عليه أنه
قال في الفتيا عبد الله بن عباس والعباس أكبر منه ولم يقل في الفتيا شيئا من غير عجز ولا عى ولا غيبة عن شئ شهده أبنه وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير والزبير أعظم منه ولم يقل فيه شيئا وكان أبو عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة(5/81)
مع أن أبا عبيدة أعظم منه فإنه قال عليه الصلاة والسلام أبو عبيدة أمين هذه الأمة وكيف يقال كان الخوف زائلا وابن عباس قال هبته وكان الله مهيبا وأيضا فإن الرجل العظيم إذا أختار مذهبا فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب عليه فإنه يشق عليه غاية المشقة ويصير ذلك سببا للعداوة الشديدة قوله لو كان الخوف مانعا من المخافة لما خالف بعضهم بعضا في مسألة الجد والحرام قلنا القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فكان النزاع فيه أصعب من النزاع في فروع الفقه ولذلك نرى في المختلفين في مسألة القياس يضلل بعضهم بعضا والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة ولكن أجمع المسلمون على أنهم ما كانوا معصومين فكيف يمكننا القطع باحترازهم عند عن كل ما لا ينبغي غاية ما في الباب حسن الظن بهم ولكن ذلك يكفى في القطعيات سلمنا زوال الخوف ولكن لعلهم سكتوا لأنه ما ظهر لهم كون القياس
حقا ولا باطلا فكان فرضهم السكوت(5/82)
أو أنهم عرفوا كونه خطأ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر فلا يجب الإنكار على العامل به ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار الإنكار سلمنا أنهم بأسرهم رضوا لكن حصل الرضا دفعة واحدة أولا دفعة واحدة الأول مما لا يعرفه إلا الله تعالى لأنهم ما جلسوا في محفل واحد قاطعين بصحته دفعة واحدة والثاني لا يفيد الإجماع لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيا بقلبه صار الآخر متوقفا فيه أو منكرا عليه بالقلب وذلك يمنع من انعقاد الإجماع فإن قلت هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع قلت لا نسلم فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة وكان يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحد ويقطعوا بالحكم فيكون ذلك الإجماع خاليا عن هذا الاحتمال أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد فإذا سئل بعضهم فأفتى به ثم أنه سئل إنسان آخر في بلد آخر فلعل المفتى الأول رجع عن فتواه حينما أفتى به المفتى الثاني وحينئذ لا يتم الإجماع(5/83)
وهذا سؤال أهل الظاهر ولهذا قالوا لا حجة إلا في إجماع الصحابة
سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على النوع الفلانى من القياس أو على كل أنواعه ولم يلزم من انعقاد الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع فإذن لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا النوع وأن يكون غيره وإذا كان كذلك صار كل أنواعه مشكوكا فيه فلا يجوز العمل بشئ منه فإن قلت الأمة على قولين منهم من أثبت القياس ومنهم من نفاه وكل من أثبته فقد أثبت النوع الفلانى مثلا فلو أثبتنا قياسا غير هذا النوع كان خرقا للإجماع قلت لا نسلم أن كل من أثبت نوعا من القياس أثبت نوعا معينا منه لأن القياس إما أن يكون مناسبا أو لا يكون وكل واحد من القسمين مختلف فيه أما المناسب فرده قوم قالوا لأن مبناه على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والأغراض وأنه غير جائز(5/84)
وأما غير المناسب فقد ردة الأكثرون فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القايسين سلمنا إنعقاد إجماع القائسين على نوع واحد ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وما إذا نص الله تعالى على العلة فإن هذا القياس عندنا حجة
سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان الصحابة فلم يجوز في زماننا والفرق أن الصحابة لما شاهدوا الرسول ص والوحى فربما عرفوا بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم الخاص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة فلا جرم جاز منهم التعبد به وأما غير الصحابة فإنهم لما لم يشاهدوا الوحى والرسول والقرائن لم يكن حالهم كحال الصحابة فإن قلت كل من جوز العمل بالقياس للصحابة جوزه لغيرهم قلت كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة على كثرتها أحد يقول بهذا الفرق مع وضوحه غايته أنا لا نعرف أحدا قاله لكن عدم العلم بالشئ لا يقتضى العلم بعدمه(5/85)
والجواب أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة الجد والحرام والمشركة والإيلاء والخلع وتقدير الحد بشرب الخمر وقياس العهد على العقد وقول الصحابة على بالتشبيه والرأى وما نقل من الأحاديث في القياس كخبر معاذ وابن مسعود وخبر الخثعمية والسؤال عن قبلة الصائم وأمر عمر أبا موسى بالقياس وقول ابن عباس بالتشبيه قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر فإن من خالط أهل الأخبار وطالع كتبهم قطع بصحة شئ من هذه الأخبار فإنها بأسرها يمتنع أن تكون كذبا وأى واحد منها صح صح القول بالقياس
وهذا الذي قاله الأصحاب جيد إلا أن الخصم لو كابر وقال لا أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك فأيش يلزم قوله المسألة علمية قطعية فلا يجوز إثباتها بدليل ظني قلنا لا نسلم أنها قطعية بل هي عندنا ظنية لأن هذه المسألة عملية والظن قائم مقام العلم في وجوب العلم ألا ترى أنه لا فرق بين(5/86)
أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر الذي يجب التحرز منه وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الخيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه فكذا هاهنا لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع في أنا مأمورون بالقياس وبين أن يخبر نا به من يظن صدقه في وجوب العمل بالقياس وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية قوله على الوجه الأول لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر اعرف الأشباه والنظائر الأمر بمعرفة ماهية كل جنس لئلا يدخل تحت النص المذكور في ذلك الجنس ما ليس منه ولا يخرج عنه ما هو منه قلنا مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال وهو قول عمر رضي الله عنه الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة نبيه ثم اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى فمن تأمل هذا الكلام عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي وهو الجواب أيضا عن قوله لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه
الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص قوله على الوجه الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه لم لا يسمى الجد أبا مجازا حتى يدخل تحت قوله وورثه أبواه كما سمى النافلة ابنا حتى دخل تحت قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم(5/87)
قلنا لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد لأجل امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني وبتقدير التساوي في الحسن لكن القطع به في أحد الموضعين لا يوجب القطع به في الموضع الثاني وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم المجازى ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي فيكون ذلك تصريحا بالقياس الشرعي قوله لو كان المراد هو الحكم الشرعي لما نسبه إلى مفارقة التقوى قلنا لعل هذا القياس كان جليا عند ابن عباس وكان من مذهبه أن الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى وأيضا فذلك محمول على المبالغة قوله على الوجه الثالث لم قلت إن مبالغتهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوجب إظهار النص قلنا استقراء العرف يشهد به فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمع يوافقونه على تعظيم شخص معين ووجد ذلك الإنسان حجة من قول ذلك الإنسان العظيم فإنه لابد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به(5/88)
قوله إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره قلنا والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقا لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت بالنص فلا بد أن يعلم أن مخالفه إنما خالفه إما لا لطريق أو لطريق مرجوح بالنسبة إلى طريقه أو مساوله أو راجح عليه وعلى التقديرين الأولين كان مخالفه مخالفا للنص وعلى التقدير الثالث يكون فرض كل واحد منها التوقف فتكون الفتوى بأحدهما محظورا وعلى التقدير الرابع يكون مخالفا للنص فإذن من أثبت مذهبه بالنص فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه أو في نفسه كونه مخالفا للنص لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي شدة احترازهم عنها ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول ص توجب عليهم أن يذكروا نصوصه على الإطلاق وبهذا ظهر الجواب عن قوله أنه لا يجب ذكر النصوص الخفية لأن الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل قوله لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس لوجب عليهم أن يذكروه قلنا الفرق من وجوه(5/89)
أحدها أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف القياس فلم يلزم من ترك أقل الانكارين لأنه ترك أعظمها
وثانيها أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية فلا يجب التنبيه عليها وهي غير مستقلة بمعرفة النصوص وذلك يقتضى وجوب التنبيه عليها فإن قلت لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية لما حسنت المناظرات قلت ليس كل ما لا يجب لا يحسن وثالثها أن النصوص يجب اتباعها فيجب نقلها والأقيسة لا يجب اتباعها فلا يجب نقلها لأن عندنا كل مجتهد مصيب ورابعها أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال وأما الأمارات فقد يتعذر التعبير عنها وإن كانت مفيدة للظن مثل الأمارات في قيم المتلفات وأروش الجنايات ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير القيمة بالقدر المعين(5/90)
فإن قلت أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات قلت المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه أخبرنا المتقدم سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة لكن يجب ذكرها صريحا أو تنبيها الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول التي ذكروها بيانه
أنهم اتفقوا على أنه حكم قوله أنت على حرام أما أن يكون حكمه حكم الطلاق أو الظهار أو اليمين وعلة ذلك ظاهرة وهى أن قوله أنت على حرام لفظ موضوع للتحريم فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة كهذه المسائل ثم أن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره فمنهم رجح الاحتياط فجعله طلاقا ثلاثا ومنهم من رجح بالمتيقن فجعله طلقة واحدة ومنهم من جعله ظهارا لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق وكناياته ثم جعل كفارته كفارة الظهار أخذا بالاحتياط لأنها أغلظ من كفارة اليمين ومنهم من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات فيوجبها أخذا بالأقل(5/91)
فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم قوله لم قلت لو أظهروا تلك النصوص لوجب اشتهارها قلنا لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها فكانت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة وما كان كذلك فإن الدواعى تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها فهذا إن لم يفد القطع فلا أقل من الظن قوله تدعى أن تلك النصوص لو نقلت لعرفتها أنت أو لعرفه أحد ممن في هذا الزمان قلنا ندعى قسما ثالثا وهو أن يكون مشهورا في الكتب بحيث يجده كل من حاول طلبه
قوله من ذهب إلى أنه يمين تمسك بقوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم قلنا أن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك لا يدل على أنه إذا حرم فماذا حكمه ثم إن دل فإنما يدل على مذهب مسروق وأما قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فنقول ليس في(5/92)
الآية إلا أنه عليه الصلاة والسلام حرم ما أحل الله له فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية بل هذا أولى لأن اليمين القسم بالله ولا شبهة في أن قوله أنت على حرام ليس قسما بالله فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة وأيضا فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لماريه يا أنت على حرام لكان ذلك نصا في الباب وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول آخر لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه قوله من حمله على الطلقات الثلاث جعله ككنايات الطلاق قلنا لاشك أن قوله أنت على حرام ليس من صرائح الطلاق وما أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق فإذن لابد وأن يقال إن حكم هذا الكلام مثل حكم الصرائح والكنايات وهذا التشبيه نفس القياس بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه المشابهة يندرج تحت قوله إذا طلقتم النساء وقوله الطلاق
مرتان قوله من حمله على الطلقة الواحدة فإنما حمله عليها أخذا بالمتيقن قلنا هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته(5/93)
وحينئذ فلا بد فيه من القياس قوله من حمله على الظهار فقد أجراه مجرى الظهار قلنا إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم فهذا هو القياس وإن أردتم غيره فبينوه قوله إن مسروقا تمسك بالبراءة الأصلية قلنا لا نسلم بل قاسه على قصتة من ثريد فإنه حكى عنه أنه قال لا فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد وأيضا فإن مسروقا كان من التابعين فإما أن يقال إنه عاصر الصحابة حين اختلفوا في هذه المسألة أو ما عاصرهم في ذلك الوقت فإن كان الأول كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية بسبب القياس لما بينا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم لأجل النص وذلك يقتضى عمل بعض الصحابة بالقياس ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك وإن كان الثاني كان إجماعهم حجة عليه(5/94)
قوله هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب لأجل النص فلم قلت ذهبوا إليها للقياس
قلنا لأن كل من قال الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية ولا إلى النصوص الجلية أو الخفية قال إنهم عملوا فيها بالقياس هذا تمام الكلام في الوجه الثالث قوله على الوجه الرابع إن الرأى في أصل اللغة ليس للقياس قلنا هذا مسلم لكنا ندعى أنه في عرف الشرع اختص بالقياس وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الدليل قام عليه فإنكم رويتم عنهم كلاما كثيرا في ذم الرأى وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم القياس فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأى بالقياس وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى قوله إنهم صرحوا بالإنكار قلنا نعم ولكن التوفيق ما ذكروا قوله روايات الإنكار صريحة وروايات الاعتراف غير صريحة قلنا هب إنها غير صريحة لفظا لكنها صريحة بحسب الدلالة المذكورة فلم قلت إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح قوله لعل المنكر انقلب مفردة وبالعكس قلنا لو وقع ذلك لاشتهر لأنه من الأمور العجيبة فحيث لم يشتهر(5/95)
دل على أنه لم يقع قوله لعلهم سكتوا خوفا قلنا استقراء حال الصحابة يفيد ظنا غالبا بشدة انقيادهم للحق
وأما قدح النظام فيهم فقد سبق الجواب عنه في باب الأخبار قوله يجوز أن يكون سكوتهم لعدم علمهم بكونه حقا أو باطلا قلت هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر ولكن الظاهر أن بعد انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقا أو باطلا قوله لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار قلنا لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك أو يكون الكل في درجة واحدة وكيفما كان فأجماعهم لو على ترك الإنكار إجماع على الخطأ قوله حصل الرضا دفعة أولا دفعة قلنا الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان قوله لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا قلنا الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة قوله لم قلت إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا قلنا لا نعرف أحدا قال بالفرق فيكون الإجماع حاصلا ظاهرا فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة(5/96)
وإنما استقصينا القول فيها جوابا وسؤالا لأنا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير من مسائل هذا العلم وقد ذكرناها أيضا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فأردنا أن نعرف مقدار قوتها وقد ظهر أنها لو أفادت شيئا ما أفادت إلا ظنا ضعيفا وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور من أنه يفيد إجماعا قاطعا المسلك السادس تقرير الإجماع على وجه آخر فنقول
نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لا لطريق فيكون ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز أو لطريق وهو إما أن يكون عقليا أو سمعيا لا يجوز أن يكون عقليا لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة الأصلية ويستحيل أن يكون قول واحد من المختلفين قولا بالبراءة الأصلية فثبت أنه كان سمعيا وهو إما أن يكون قياسيا أو نصا أو غيرهما أما القياس فهو المطلوب وأما النص فغير جائز لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها(5/97)
ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقا للعقاب العظيم بسبب تلك المخالفة وأما الذي ليس بنص ولا قياس فباطل لأن كل من قال من الأمة إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشئ من النصوص الجلية أو الخفية ولا بالبراءة الأصلية قال إنهم تمسكوا بالقياس فلو قلنا إنهم قالوا بتلك الأقاويل بشئ غير هذين القسمين كان ذلك قولا غير قولى كل الأمة وهو باطل فهذه الدلالة وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي
قبله إلا أن كثيرا من تلك الأسئلة ساقط عنها المسلك السابع وهو المعقول أن القياس يفيد ظن الضرر فوجب جواز العمل به(5/98)
بيان الوصف أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلم أو ظن حصول ذلك الوصف في الفرع وجب أن يحصل له الظن بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب فتولد من ذلك الظن وهذا العلم ترك العمل به سبب للعقاب فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر بيان التأثير أن العاقل يعلم ببديهة عقله أنه لا يمكنه الخروج عن(5/99)
النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما بل يجب لا محالة ترجيح أحدهما على الآخر ونعلم بالضرورة أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوه عن المضرة على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة أولى من العكس ولا معنى لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر فإن قيل دليلكم مبني على إمكان ما يدل على أن الحكم في الأصل معلل بعلة ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع ثم على إنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول ذلك الحكم فيه
وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى سلمنا حصول هذا الظن فلم قلتم إن العمل به واجب قوله لأن ترجيح الخالى عن الضرر على المشتمل عليه متعين في بديهة العقل(5/100)
قلنا هذا منقوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد الواحد إذا غلب على ظنه صدقه وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين إذا غلب على ظنه صدقهما وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي ألبتة وبما إذا ادعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة وبما إذا غلب على ظن الدهرى واليهودى أو النصراني والكافر قبح هذه الأعمال الشرعية فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصور ولا يجوز العمل بها فإن قلت المظنة إنما تفيد الظن إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها فلا يبقى الظن قلت فعلى هذا التقدير القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر إذا لم يوجد دليل يدل على فساد القياس فيصير نفى ما يدل على فساد القياس جزءا من المقتضى لظن الضرر فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفى القياس حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر وبعد المجاوزة عن النقض نقول متى يجب الاحتراز عن الضرر(5/101)
المظنون إذا أمكن تحصيل العلم به أم إذا لم يمكن الأول ممنوع فإن الشئ الذي أمكن تحصيل العلم به فالاكتفاء بالظن مع جواز كونه خطأ اقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحا مع إمكان الاحتراز عنه وهو غير جائز بالاتفاق والثاني مسلم ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية إذا بينتم أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها ألبتة وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله ص ما يدل على احكام تلك الوقائع ولم يوجد في الزمان إمام معصوم يعرفنا تلك الأحكام فان بتقدير وجود أحد هذه الأمور كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنا سلمنا إنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها لكن لما قلت إنه لم يوجد ما يقتضى ظنا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس فان بتقدير إمكان ذلك كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على تحصيل الأقوى وأنه غير جائز ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على صحة القياس فمعنا ما يدل على(5/102)
فساده وهو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وأله وسلم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ولا تقف ما ليس لك به علم والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون
لا بالمعلوم وأيضا قال الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى وأيضا قال الله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ما فرطنا في الكتاب من شئ فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على الأحكام الشرعية بأسرها فإذن كل ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون حقا وعند ذلك نقول ما دل عليه القياس إن دل عليه الكتاب فهو ثابت بالكتاب لا بالقياس(5/103)
وإن لم يدل عليه الكتاب كان باطلا وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وجه الاستدلال به أن في القياس الشرعي لا بد وأن يكون تعليل الحكم في الأصل وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيا ولو وجب العمل بالقياس لصدق على ذلك الظن أنه أغنى من الحق شيئا وذلك يناقض عموم النفى فإن قلت يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى والشهادات وأمارات القبلة قلت تخصيص العام في بعض الصور لا يخرجه عن كونه حجة وأما السنة فخبران الأول
قوله عليه الصلاة والسلام تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا الثاني قوله عليه الصلاة والسلام تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة(5/104)
أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام فإن قلت خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلى الذي ذكرناه قلت الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون فيجب الاحتراز عنه ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا ورد في المنع من القياس أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر وذلك يوجب الاحتراز عنه وأما إجماع الصحابة فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس على ما تقدم بيانه ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس فإن قلت هذا معارض بأنه نقل عنهم أنهم اختلفوا في مسائل مع إنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس قلت ما ذكرناه أولى لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح وأما إجماع العترة فلأنا كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة(5/105)
أصحاب النقل أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك رحمهما الله القول بالقياس فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل
البيت كالصادق يكون والباقر إنكار القياس وقد تقدم في باب الإجماع أن إجماع العترة حجة وأما المعقول فمن وجوه الأول لو جاز العمل بالقياس لما كان الاختلاف منهيا عنه لكنه منهي عنه فالعمل بالقياس غير جائز بيان الملازمة أن العمل بالقياس يقتضى اتباع الأمارات وذلك يقتضى وقوع الاختلاف لا محالة ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه بيان أنه لا تجوز المخالفة قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الثاني أن الرجل لو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه لم يعتق سائر عبيده السود فضلا عما إذا لم يأمر بالقياس فإذا قال الله تعالى حرمت الربا في البر فكيف يجوز القياس عليه فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلا(5/106)
أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع ومنهم من منعه في كل الشرائع
أما الأول فهو قول النظام واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع بيان الأول بصور إحداهما أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الكل في الحقيقة قال الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر وفضل الكعبة على سائر البقاع وثانيتها جعل التراب طهورا مع أنه ليس بغسال مع بل يزيد في تشويه الخلقة وثالثتها فرض الغسل من المنى والرجيع أنتن منه ورابعتها نهانا عن إرسال السبع على مثله وأقوى منه ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة وخامستها نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعا وترك ما كان ركعتين(5/107)
وسادستها أسقط الصوم والصلاة على الحائض ثم أوجب عليها قضاء الصوم مع أن الصلاة أعظم قدرا من الصوم
وسابعتها جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن والمائة من الجوارى الحسان لا يحصن وثامنتها حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء مع أنها لا تفتن الرجال الشبان ألبتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع لأنها تفتن الشيخ وتاسعتها قطع سارق القليل وعفى عن غاصب الكثير وعاشرتها جلد بالقذف بالزنا ولم يجلد بالقذف بالكفر وحادية عشرها قبل في الكفر والقتل شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة وهو دونهما وثانية عشرها جلد قاذف الحر الفاجر وعفا عن قاذف العبد العفيف وثالثة عشرها أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة وفرق في العدة بين(5/108)
الموت والطلاق مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما ورابعة عشرها جعل استبراء الأمة بحيضة والحرة المطلقة بثلاث حيض وخامس عشرها يخرج الريح من موضع الغائط وفرض تطهير موضع آخر مع أن غسل
ذلك المكان أولى إذا ثبت هذا فنقول إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا في الحكمة والمصلحة وجب استواؤهما في الحكم لكن هذه المقدمة لو كانت حقة لامتنع التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات في تلك الصور فلما لم يمتنع ذلك علمنا فساد تلك المقدمة وإذا فسدت تلك المقدمة بطل القول بالقياس وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع فقد عرفت أنهم ثلاث فرق الفرقة الأولى الذين أنكروا كون القياس طريقا إلى الظن وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه أحدها أن البراءة الأصلية معلومة والحكم الثابت بالقياس إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية أو لا على وفقها فإن كان على وفقها لم يكن في القياس فائدة(5/109)
وان كان على خلافها كان ذلك القياس معارضا للبراءة الأصلية لكن البراءة الأصلية دليل قاطع والقياس دليل ظنى والظنى إذا عارض اليقينى كان الظنى باطلا فيلزم كون القياس باطلا وثانيها أن القياس لا يتم في شئ من المسائل إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان إذ لو لم يثبت ذلك فهب أن الشارع أمر بالقياس ولكن كيف يعرف أنه بقى ذلك التكليف
وإذا نص على حكم الأصل فكيف يعرف أن ذلك الحكم باق في هذا الزمان فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل إذا ثبت ذلك فنقول الحكم المثبت بالقياس إما أن يكون نفيا أو إثباتا فإن كان نفيا فلا حاجة فيه إلى القياس لأنا علمنا أن هذا الحكم كان معدوما في الأزل والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فيحصل لنا ظن ذلك العدم فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثا فإن قلت ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر قلت نعم ولكن بشرط ان لا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول وأما إذا افتقر إلية كان التمسك بالدليل الثاني تطويلا محضا من غير فائدة وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتا فنقول قد بينا أن قولنا إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان يقتضي ظن عدم ذلك الحكم(5/110)
في الحال فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل وبين القياس الذي هو الفرع ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع فوجب القطع هاهنا بسقوط القياس وثالثها أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الفلانى وذلك الظن محال لما سيأتي في الباب الثاني أن تعليل الحكم الشرعي محال الفرقة الثانية الذين سلموا أن القياس يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز التكليف بإتباع
الظن قالوا لأن الظن قد يخطئ وقد يصيب فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ وذلك غير جائز الفرقة الثالثة الذين قالوا يجوز التكليف بإتباع الظن لكنه غير جائز هاهنا قالوا لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما وذلك غير جائز إنما قلنا إنه اقتصار على أدون البابين لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس(5/111)
وإنما قلنا إنه مع القدرة على أعلاهما لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية واحترزنا بهذا عن الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية لأن هذه الأشياء تختلف بأختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص على مالا نهاية له وهو محال وإنما قلنا إن الاقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما غير جائز لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه حسن من المكلف أن يحمل اليقين على صعوبة البيان لا على تقصير نفسه فالإتيان بكمال البيان إزاحة لعذر المكلف فيكون كاللطف سعيد وترك المفسدة في الوجوب والجواب أما النقوض فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي لما قام على عدم الالتفات إلى تلك المظان لم يبق الظن
قوله فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزء من المقتضى قلنا ليس كل ما وجدده يمنع من عمل المقتضى كان عدمه جزء من المقتضي فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى للنزول لاستحالة كون العدم من العلة الوجودية قوله جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن من تحصيل العلم(5/112)
قلنا لا نسلم فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس بأشتمال بكر أحد الطرفين على المفسدة والآخر على المصلحة فإلى أن يستقصى في طلب العلم لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على الآخر لامتناع ترك النقيضين وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح المرجوح فتعين ترجيح الراجح وهو الجواب أيضا عن الإمام المعصوم وأما المعارضات فنقول أما التمسك بالآيات فالجواب عنها أن الدلالة لما دلت على وجوب العمل بهذا الظن صار كأن الله تعالى قال مهما ظننت أن هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علة الحكم فاعلم قطعا أنك مكلف بذلك الحكم وحينئذ يكون الحكم معلوما لا مظنونا ألبتة وأما الأحاديث فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس وطريق التوفيق أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه والنهي إلى نوع آخر وأما إجماع الصحابة فقد سبق الجواب عنه
وأما إجماع العترة فممنوع وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية فانهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس قوله العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف(5/113)
قلنا وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هاهنا قوله لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يعتق عليه كل عبيده السود قلنا إنه لو صرح بعد ذلك فقال قيسوا عليه سائر عبيدي لم يعتق عليه سائر عبيده ولو نص الله تعالى على حكم ثم قال قيسوا عليه فلا نزاع في جواز القياس فظهر الفرق بين الصورتين والسبب فيه أن حقوق العباد مبنية على الشح والضنة لكثرة حاجاتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم وصوار فهم وأما شبه النظام فجوابها أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في ظن نزول المطر منه(5/114)
قوله البراءة الأصلية معلومة والقياس دليل ظنى والظن لا يعارض اليقين قلنا ينتقض ذلك بجواز العمل بالفتوى والشهادة وتقويم المقومين وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية
قوله القياس إما أن يرد على وفق حكم الأصل أو على خلافه قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الظن قد يخطئ وقد يصيب قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين مع القدرة على أعلاهما قلنا إنه كذلك فلم لا يجوز فإن قالوا لأنه لطف واللطف واجب(5/116)
قلنا الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على الاستقصاء المسألة الثانية قال النظام النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس وهو قول أبي الحسين البصري وجماعة من الفقهاء ومنهم من أنكره وهو المختار وقال أبو عبد الله البصري أن كانت العلة علة في الفعل لم يكن التنصيص عليها تعبدا بالقياس وأن كانت علة في الترك كان التنصيص عليها تعبدا بالقياس لنا أن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار وأن تكون العلة هي إسكار الخمر بحيث يكون قيد كونه مضافا إلى الخمر معتبرا في العلة وإذا احتمل الأمرين لم يجز القياس إلا عند أمر
مستأنف بالقياس فإن قيل لا نسلم أن قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون جزء من العلة فإنا لو جوزنا ذلك للزمنا تجويز مثله في العقليات حتى نقول هذه الحركة إنما اقتضت المتحركية لقيامها بهذا المحل فالحركة القائمة لا بهذا المحل لا تكون علة للمتحركية(5/117)
قد سلمنا إمكان كونه معتبرا في الجملة لكن العرف يدل على سقوط هذا القيد عن درجة الاعتبار لأن الأب إذا قال لأبنه لا تأكل هذه الحشيشة لأنا سم يقتضى منعه من أكل حشيشة تكون سما وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن سلمنا أنه غير ساقط في العرف إلا أن الأغلب على الظن سقوطه لأن علة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ولا مفسدة في كون الإسكار قائما بهذا المحل أو بذاك بل منشأ المفسدة كونه مسكرا فقط فإذا غلب على ظننا ذلك وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون سلمنا أن هذا القيد غير ظاهر لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة أما لو قال علة حرمة الخمر إنما هي الإسكار لا يبقى ذلك الاحتمال سلمنا أن دليلكم يمنع من القياس لكن هاهنا ما يدل على جوازه فإن قول الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى الإسكار وذلك يدل على أن العلة هي الإسكار فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد
وأما من فرق بين الفعل والترك فقد قال إن من ترك أكل رمانة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة أما من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة والجواب قوله هذا الاحتمال قائم في الحركة(5/118)
قلنا إن عنيت بالحركة معنى يقتضى المتحركية فهذا المعنى يمتنع فرضه بدون المتحركية وإن عنيت بالحركة شيئا آخر بحيث يبقى فيه هذا الاحتمال فهناك نسلم أنه لابد في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل قوله العرف يقتضى إلغاء هذا القيد قلنا ذاك إنما عرف بالقرينة وهي أن شفقته تمنع من تناول كل ما يقتضى ضررا فلم قلت أن هذا المعنى حاصل في العلة المنصوصة قوله الغالب على الظن إلغاء هذا القيد قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن إنما يلحق الفرع بالأصل لأنه لما غلب على ظننا كونه في معناه ثم الدليل دل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون فحينئذ يجب علينا أن نحكم في الفرع بمثل حكم الأصل ولكن هذا هو الدليل الذي دل على كون القياس حجة فالتنصيص على علة الحكم لا يقتضى ثبات مثله في الفرع إلا مع الدليل الدال على وجوب العمل بالقياس قوله لو صرح بأن العلة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال قلنا في هذه الصورة نسلم أنه أينما حصل الإسكار حصلت
الحرمة لكن ذلك ليس بقياس لأن العلم بأن الإسكار من حيث هو إسكار(5/119)
يقتضى الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل محالة ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخرا عن العلم بالبعض فلم يكن جعل البعض فرعا والآخر أصلا أولى من العكس فلا يكون هذا قياسا بل إنما يكون قياسا لو قال حرمت الخمر لكونها مسكرة فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلا للحكم به في النبيذ ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور قوله إن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى نفس الأسكار قلنا لا نسلم فلعل قيد كون الاسكار فيه معتبر في العلية على ما حققناه قوله من ترك أكل رمانة لحموضتها يجب عليه أن يترك الكل قلنا لا نسلم لاحتمال أن يكون الداعي له إلى الترك لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة وإنها غير حاصلة في سائر الرمانات وفي سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك قوله من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة(5/120)
قلنا ذاك لأنه ما أكلها لمجرد حموضتها بل لأجل حموضتها مع
قيام الاشتهاء الصادق لها وخلو المعدة عن الرمان وعلمه بعدم تضرره بها وهذه القيود بأسرها لم توجد في أكل الرمانة الثانية المسألة الثالثة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرا جليا وقد لا يكون كذلك فالأول كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ومن الناس من قال المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوى إلى المنع من أنواع الأذى لنا وجهان الأول أن المنع من التأفيف لو دل عليه لدل عليه إما بحسب الموضوع اللغوى أو بحسب الموضوع العرفي والأول باطل بالضرورة لأن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب والثاني أيضا باطل لأن النقل العرفي خلاف الأصل وأيضا فلو ثبت أن النقل في العرف لما حسن من الملك إذا استولى على عدوه أن ينهى الجلاد عن صفعه والاستخفاف به وإن كان يأمره بقتله وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه علمنا أن تحريم الضرب مستفاد من القياس(5/121)
واحتج المخالف بأمور أحدها
لو كان مستفادا من القياس لوجب فيمن لا يقول بصحة القياس أن لا يعلم ذلك وثانيها أنه يلزم أن لا يعلم العاقل حرمة ضربهما لو منعه الله عن القياس الشرعي وثالثها أجمعنا على أن قوله فلان لا يملك حبة يفيد في العرف أنه لا شئ له ألبتة وكذا قولهم لا يملك نقيرا ولا قطميرا يفيد أنه ليس له شئ ألبتة وإن كان النقير في أصل اللغة عبارة عن النقرة التي على ظهر النواة والقطمير عبارة عما في شق النواة وكذلك قولهم فلان مؤتمن على قنطار فإنه يفيد في العرف كونه أمينا على الإطلاق وإنما حكمنا في هذه الألفاظ بالنقل العرفى لتسارع الفهم إلى هذه المعاني العرفية فوجب أن تكون حرمة التأفيف موضوعة في العرف للمنع من الإيذاء لتسارع الفهم إليه والجواب عن الأول أن القياس قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا أما الأول فكمن علم علة الحكم في الأصل ثم علم حصول مثل تلك العلة في الفرع فإنه لابد وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع(5/122)
أما الثاني فكما إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلاهما مظنونة والقياس في هذه المسألة من النوع الأول فلا جرم لا يمكن أن يكون القادح في صحة القياس الظنى قادحا في صحة هذا القياس
وهذا هو الجواب بعينه عن الثاني أما الثالث فقوله ليس لفلان حبة يفيد نفى الأكثر من الحبة لأن الأكثر من الحبة يوجد فيه الحبة أما ما نقص من الحبة فلا يتعرض له كلامه وأما النقير والقطمير فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة ولا ضرورة في مسألتنا وأما قوله فلان مؤتمن على قنطار فأنما يفيد كونه مؤتمنا على ما دون القنطار لأن ما دون القنطار داخل في القنطار فأما ما فوقه فلا يدخل فيه المسألة الرابعة ثبوت الحكم في الأصل إما أن يكون يقينيا أو لا يكون فإن كان يقينيا استحال أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة أما إذا لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع إما أن يكون أقوى من ثبوته في الأصل أو مساويا له أو دونه(5/123)
مثال الأول قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإن تحريم الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف الذي هو الأصل ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء الراكد فأنا نقيس عليه ما إذا بال في الكوز ثم صبه في الماء الراكد ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع وهذا هو الذي يسمى بالقياس في معنى الأصل ومثال الثالث جميع الأقيسة التي يتمسك الفقهاء بها في مباحثهم وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون ولما كانت مراتب
الظنون محصورة فكذا القول في مراتب هذا التفاوت(5/124)
القسم الثاني في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل قد عرفت أن حاصل القياس يرجع إلى أصلين أحدهما أن الحكم في محل النص معلل بالوصف الفلاني وثانيهما أن ذلك الوصف حاصل في الفرع والأصل الأول أعظمهما وأولاهما بالبحث والتدقيق والكلام في هذا القسم مرتب على مقدمة وأربعة أبواب(5/125)
أما المقدمة ففي تفسير العلة في هذا الموضع قال نفاة القياس إما أن يكون المراد من العلة ما يكون مؤثرا في الحكم أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته أو ما يكون معرفا له أو معنى رابعا والثلاثة الأولة باطلة والرابع لابد من افادة تصوره لننظر فيه هل يصح أم لا أما الأول وهو الموجب فهو باطل من وجوه أحدها
أن حكم الله تعالى على قول أهل السنة مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم والقديم يمتنع تعليله فضلا على أن يعلل بعلة محدثة وأما على قول من يقول الأحكام أمور عارضة للأفعال معللة بوقوع(5/127)
تلك الأفعال على جهات مخصوصة فهو قول المعتزلة في الحسن والقبح العقليين وقد أبطلتموه وثانيها أن الواجب هو الذي يستحق العقاب على تركه واستحقاق العقاب وصف ثبوتي لأنه مناقض لعدم الاستحقاق وتركه هو أن لا يفعله وهو عدمى ولو كان ذلك الاستحقاق معللا بهذا الترك لكان الوجود معللا بالعدم وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر لا ينفك عن فعل الشئ أو فعل ضده فإذا ترك الواجب فقد فعل ضده واستحقاق العقاب معلل بفعل ضده قلت هذا لا يستقيم على رأى أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما لأنه يجوز عندهما خلو القادر من الأخذ والترك وأيضا ففعل الضد لو لم يستلزم الإخلال بواجب لم يستلزم استحقاق الذم والعقاب ولو فرضنا وقوع الإخلال بالواجب من غير فعل الضد لاستلزم استحقاق الذم والعقاب فعلمنا أن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن لا يفعل الواجب لا فعل ضده وثالثها أن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة في الحكم لما اجتمع على الحكم
الواحد علل مستقلة لكن قد يحصل هذا الإجماع فالعلة غير مؤثرة(5/128)
بيان الملازمة أن الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول وما كان واجب الحصول لذاته استحال وقوعه لأن الواجب لذاته لا يكون واجبا لغيره فإذا اجتمعت عليه علل مستقلة كان لكونه مع هذا منقطعا عن الآخر وبالعكس فيلزم استغناؤه عن الكل حال احتياجه إلى الكل وهو محال بيان استثناء نقيض التالي ما إذا زنا وأرتد أو لمس ومس معا فإن الحكم هاهنا واحد لامتناع اجتماع المثلين وبتقدير جوازه فإنه لا يكون استناد أحد الحكمين إلى أحد العلتين أولى من استناده إلى العلة الأخرى ومن استناد الحكم الأخر إليها فيعود إلى كون كل واحد من الحكمين معللا بكل واحدة من العلتين وهو محال ورابعها أن كون القتل العمد العدوان قبيحا وموجبا لأستحقاق كل الذم والقصاص لو كان معللا بكونه قتلا عمدا عدوانا والعدوانية صفة عدمية لأن معناها انها غير مستحقة لزم أن يكون العدم جزء من علة الأمر الوجودي وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لصدور الأثر عن المؤثر قلت لأن عليه العلة ما كانت حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثم حدثت عند حصوله فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر وهو الشرط فلو جعلنا الشرط عدما لزم جعل العدم علة لتلك العلية وهو محال ومن الفقهاء مقال هذه الإشكالات إنما تتوجه على من يجعل هذه(5/129)
الأوصاف عللا مؤثرة لذواتها في هذه الأحكام ونحن لا نقول بذلك بل كونها عللا لهذه الأحكام أمر ثبت بالشرع فهي لا توجب الأحكام لذواتها بل لأن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام وهذا هو الذي عول عليه الغزالى في شفاء الغليل فيقال له إن أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم أن الشرع قال مهما رأيتم إنسانا يزني فاعلموا أني أوجبت رجمه فهذا صحيح ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا لذلك الحكم وهو غير ما نحن الآن فيه وإن أردت به أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم فهو باطل من وجهين الأول أنه معترف بأن الحكم ليس إلا خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين وذلك هو كلامه القديم فكيف يعقل كون الصفة المحدثة موجبة للشئ القديم سواء كانت الموجبية بالذات أو بالجعل الثاني أن الشارع إذا جعل الزنا علة فحال ذلك الجعل إن لم يصدر عنه أمر ألبتة لم يكن جاعلا ألبتة(5/130)
وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما الحكم أو ما يؤثر في الحكم أو لا الحكم ولا ما يؤثر في الحكم فإن كان الصادر هو الحكم كان المؤثر في الحكم هو الشارع لا الوصف وقد فرض أن المؤثر هو الوصف هذا خلف
وإن كان الصادر ما يؤثر في الحكم كان تأثير الشارع في إخراج ذلك المؤثر من العدم إلى الوجود ثم إنه بعد وجوده يؤثر في الحكم لذاته فتكون موجبيتة لذاته لا بالشرع وإن كان الصادر لا الحكم ولا ما يؤثر فيه ألبتة لم يحصل الحكم حينئذ وإذا لم يحصل الحكم لم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا لذلك الحكم وقد فرض كذلك هذا خلف التفسير الثاني الداعى وهو بالحقيقة أيضا موجب لأن القادر لما صح منه فعل الشئ وفعل ضده لم تترجح فاعليته للشئ على فاعليته لضده إلا إذا علم أن له فيه مصلحة فذلك العلم هو الذي لأجله صار القادر فاعلا لهذا الضد بدلا من كونه فاعلا لذلك الضد لكن العلم موجب لتلك الفاعلية ومؤثر فيها فمن قال أكلت للشبع كان معناه ذلك إذا عرفت هذا فنقول هذا في حق الله تعالى محال لوجهين(5/131)
الأول أن كل من فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال وإنما قلنا إن فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض لأنه إما أن يكون حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده على السواء وإما أن يكون أحدهما أولى به في اعتقاده فإن كان الأول استحال أن يكون غرضا والعلم به ضروري بعد الاستقراء والاختبار
وإن كان الثاني كان حصول تلك الأولوية معلقا بفعل ذلك الغرض وكل ما كان معلقا على غيره لم يكن واجبا لذاته فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته فهو ممكن العدم لذاته فلا يكون كمال الله تعالى صفة واجبة له بل ممكنة الزوال عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فإن قلت حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه تعالى على السواء ولكن بالنسبة إلى غيره لا على السواء فلا جرم أن الله تعالى يفعل لا لغرض يعود إليه بل الغرض يعود إلى عبده(5/132)
قلت كونه تعالى فاعلا للفعل الذي هو أولى بالعبد وكونه غير فاعل له إما أن يتساويا بالنسبة إليه تعالى من جميع الوجوه أو لا يتساويا فإن كان الأول استحال أن يكون ذلك داعيا لله تعالى إلى الفعل وأيضا فكيف يعقل هذا مع أن المعتزلى يقول لو لم يفعل لاستحق الذم ولما كان مستحقا للمدح ولصار سفيها غير مستحق للآلهية وأن كان أحدهما أولى عاد الإشكال الثاني أن البديهة شاهدة بأن الغرض والحكمة ليس إلا جلب المنفعة أو دفع المضرة والم عبارة عن اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون وسيلة إليه والوسيلة إلى اللذة مطلوبة بالعرض والمطلوب بالذات هو اللذة وكذا الوسيلة إلى الألم مهروب عنها بالغرض والمهروب عنه بالذات ليس إلا الألم فيرجع حاصل الغرض والحكمة إلى تحصيل اللذة
ورفع الألم ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداء من غير شئ من الوسائط ولا ألم إلا والله تعالى قادر على دفعه ابتداءا من غير شئ من الوسائط وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون فاعليته لشئ لأجل(5/133)
تحصيل اللذة أو دفع الألم لأن الشئ إنما يكون معللا بشئ آخر إذا كان يلزم من عدم ما فرض علة وعدم كل ما يقوم مقامها أن لا تكون العلية حاصلة ألبتة وبهذا الطريق علمنا أن نعيق الغراب وصرير الباب ليس علة لوجود السماء والأرض ولا بالعكس وإذا ثبت هذا فنقول لما لم تكن فاعلية الله تعالى لتحصيل اللذات ودفع الآلام متوقفا ألبتة على وجود هذه الوسائط ولم تكن أيضا فاعليته للوسائط متوقفة على فاعليته لتلك اللذات والآلام استحال تعليل أحدهما بالآخر وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بينا أن الداعى علة لعلية الفاعلية التفسير الثالث للعلة المعرف فنقول إنه أيضا باطل لأنا إذا قلنا الحكم في الأصل معلل بالعلة الفلانية استحال أن يكون مرادنا من العلة المعرف وإلالكان معنى الكلام أن الحكم في الأصل إنما عرف ثبوته بواسطة الوصف الفلاني وذلك باطل لأن علية الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلا بعد معرفة ذلك الحكم فكيف يكون الوصف معرفا(5/134)
والجواب أما المعتزلة فإنهم يفسرون العلة الشرعية تارة بالموجب وتارة بالداعى فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات التي سبقت والكلام في ذلك طويل وأما أصحابنا فإنهم يفسرونه بالمعرف وأما قوله الحكم معرف بالنص فلا يمكن كون الوصف معرفا له قلنا ذلك الحكم الثابت في محل الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع من الحكم ثم بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كون ذلك الوصف معرفا لفرد أخر من أفراد ذلك النوع من الحكم وعلى ذلك التقدير لا يكون تعريفا للمعرف ثم إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك الحكم لما أن الدليل لا ينفك عن المدلول(5/135)
الباب الأول في الطرق الدالة على عِلِّيَّةِ الوصف في الأصل وهي عشرة النص والإيماء والإجماع والمناسبة والتأثير والشبه والدوران
والسبر والتقسيم والطرد وتنقيح المناط وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة(5/137)
الفصل الأول في النص ونعنى بالنص ما تكون دلالته على العلية ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة أما القاطع فما يكون صريحا في المؤثرية وهو قولنا لعله كذا أو لسبب كذا أو لموجب كذا أو لأجل كذا كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل وأما الذي لا يكون قاطعا فألفاظ ثلاثة اللام وإن والباء أما اللام فكقولنا ثبت لكذا كقوله منه وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون فإن قلت اللام ليست صريحة في العلية ويدل عليه وجوه الأول أنها تدخل على العلة فيقال ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت(5/139)
اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكرارا الثاني أنه تعالى قال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضا الثالث قول الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب وليست اللام هاهنا للغرض الرابع يقال أصلى لله تعالى ولا يجوز أن تكون ذات الله تعالى غرضا قلت أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور(5/140)
وثانيها أن كقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين عليكم إنه دم عرق وثالثها الباء كقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله واعلم أن أصل الباء للإلصاق وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك فحسن إستعمال الباء فيه مجازا(5/141)
الفصل الثاني في الإيماء وهو على خمسة أنواع الأول
تعليق الحكم على العلة بحرف الفاء وهو على وجهين الأول أن تدخل الفاء على حرف العلة ويكون الحكم متقدما كقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصت به ناقته لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا(5/143)
الثاني أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك أيضا على وجهين أحدهما أن تكون الفاء دخلت في كلام الشارع مثل قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وثانيها أن تدخل على رواية الراوى كقول الراوى سها رسول الله ص فسجد وزنا ماعز فرجم(5/144)
فرعان الأول الحكم المرتب على الوصف مشعر بكون الوصف علة سواء كان ذلك الوصف مناسبا لذلك الحكم أو لم يكن مناسبا لذلك الحكم وقال قوم لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبا
لنا وجهان الأول أن الرجل إذا قال أكرموا الجهال واستخفوا بالعلماء يستقبح هذا الكلام في العرف فلا يخلو إما أن يكون الاستتباح جاء لأنه فهم منه أنه حكم يكون الجاهل مستحقا للإكرام بجهله ويكون العالم مستحقا للاستخفاف بعلمه أو لأنه فهم منه أنه جعل الجاهل مستحقا للإكرام والعالم مستحقا للاستخفاف والثاني باطل لأن الجاهل قد يستحق الإكرام بجهة أخرى نحو نسبه أو(5/145)
شجاعته أو سوابق حقوقه والعالم قد يستحق الاستخفاف لفسقه أو لسبب آخر وإذا بطل هذا القسم ثبت الأول وذلك يدل على أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد كون الوصف علة الحكم سواء تحققت المناسبة أو لم تتحقق فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إن الاستقباح إنما جاء لأن الجهل مانع من الإكرام والعلم مانع من الاستخفاف فلما أمر بإكرام الجاهل فقد أثبت الحكم مع قيام المانع وأيضا فهب أن الحكم في هذا المثال كذلك فلم قلت إنه في سائر الصور يجب أن يكون كذلك قلت الجواب عن الأول أنا قد بينا أنه قد يثبت استحقاق الإكرام مع الجهل فوجب أن
لا يكون الجهل مانعا منه لئلا يلزم مخالفة الأصل وعن الثاني أنه لما ثبت ما ذكرناه في بعض الصور وجب ثبوته في كل الصور وإلا وقع الاشتراك في هذا النوع من التركيب والاشتراك على خلاف الأصل(5/146)
الوجه الثاني في المسألة أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا علة إلا هذا الوصف أما الأول فلأنه لو ثبت الحكم بدون العلة والداعى كان عبثا وهو على الله تعالى محال وأما الثاني فلأن غير هذا الوصف كان معدوما والعلم بأنه كان معدوما يوجب ظن بقائه على ذلك على ما سيأتى تقرير هذا الأصل وإذا بقي على العدم امتنع أن يكون علة فثبت أن غيره يمتنع أن يكون علة فوجب أن تكون العلة ذلك الوصف الفرع الثاني قد ذكرنا أن دخول الفاء يقع على ثلاثة أوجه ولا شك أن قول الشارع أبلغ في إفادة العلية من قول الراوى لأنه يجوز أن يتطرق إلى كلام الراوى من الخلل ما لا يجوز تطرقه إلى كلام الشارع وأما القسمان الباقيان فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على الحكم أقوى في الأشعار بالعلية من القسم الثاني لأن أشعار العلة بالمعلول أقوى من أشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل والعكس غير
واجب فيها النوع الثاني أن يشرع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه فيعلم أنها علة(5/147)
الحكم فإذا قال القائل يا رسول الله أفطرت فيقول عليك الكفارة فيعلم أن الكفارة وجبت لأجل الإفطار وإنما قلنا إن ذلك مشعر بالعلية لأن قوله عليك الكفارة كلام يصلح أن يكون جوابا عن ذلك سؤال والكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقب السؤال يفيد الظن بأنه إنما ذكره جوابا عن السؤال وإذا ذكره جوابا عن السؤال كان السؤال كالمعاد في الجواب فيصير التقدير أفطرت فأعتق وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول فإن قلت لا نزاع في أن هذا الكلام صالح لأن يكون جوابا عن ذلك السؤال لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام إذا ذكر عقيب السؤال حصل ظن أنه ذكر ليكون جوابا عن ذلك السؤال فإنه ربما ذكره جوابا عن سؤال آخر أو لغرض آخر أو زجرا له عن هذا السؤال كما أن العبد إذا قال لسيده دخل فلان دارك فيقول له السيد اشتغل بشأنك فمالك وهذا الفضول ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم من أنه لو لم يكن هذا الكلام جوابا عن ذلك السؤال لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه لا يجوز لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون اعراض الرسول ص(5/148)
عن ذكر الجواب تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة سلمنا أن ما يقوله الرسول ص جوابا عن السؤال مشعر بالتعليل فلم قلتم إن الذي يزعم الراوى أنه جواب عن السؤال مشعر به لاحتمال أنه اشتبه الأمر على الراوى فظن ما لم يكون جوابا جوابا قلت الجواب عن الأول أن الأكثر على أن الكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقيب السؤال فإنما يذكر جوابا عنه والصورة التي ذكرتموها نادرة والنادر مرجوح وعن الثاني أن العلم يكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابا عنه أو ليس جوابا عنه أمر ظاهر يعرف بالضرورة عند مشاهدة المتكلم ولا يفتقر فيه إلى نظر دقيق النوع الثالث أن يذكر الشارع في الحكم وصفا لو لم يكن موجبا لذلك الحكم لم يكن في ذكره فائدة وهذا يقع على أقسام أربعة أحدها أن يدفع السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف كما(5/149)
روى أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له إنك تدخل على فلان وعنده هرة فقال عليه الصلاة والسلام إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فلو لم يكن لكونها
من الطوافين أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة وثانيها أن يذكر وصفا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره إبتداء فيعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثر في الحكم كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال تمرة طيبة وماء طهور(5/150)
وثالثها أن يقرر النبي ص على وصف الشئ المسئول عنه كقوله ص أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع لم يكن للتقرير عليه فائدة وهذا أيضا يدل على العلية من حيث الجواب بالفاء ورابعها أن يقرر الرسول ص على حكم ما يشبه المسئول عنه وينبه على وجه الشبه فيعلم أن وجه الشبه هو العلة في ذلك الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن قبلة الصائم(5/151)
أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فنبه بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة والقبلة لأنه لم يحصل ما هو الأثر المطلوب منهما النوع الرابع أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فيعلم أنه لو لم تكن تلك الصفة علة لم يكن لذكرها فائدة
وهو ضربان أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب كقوله عليه الصلاة والسلام القاتل لا يرث فإنه قد تقدم بيان إرث الورثة فلما قال القاتل لا يرث وفرق بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز كونه مؤثرا في نفي الإرث علمنا أنه العلة في نفي الإرث وثانيها أن يكون حكمهما مذكورا على الخطاب وهو على خمسة أوجوه أحدها أن تقع التفرقة بلفظ يجرى مجرى الشرط كقوله عليه الصلاة(5/152)
والسلام فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد بعد نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا فدل على أن اختلاف الجنسين علة في جواز البيع وثانيها أن تقع التفرقة في الغاية كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وثالثها أن تقع بالاستثناء كقوله تعالى إلا أن يعفون ورابعها أن تقع بلفظ يجرى مجرى الاستدراك كقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فدل على أن
التعقيد مؤثر في المؤاخذة وخامسها أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الأخرى وتكون تلك الصفة مما يجوز أن يؤثر كقوله ص للراجل سهم(5/153)
وللفارس سهمان وأعلم أن الاعتماد على هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولا بد في ذكر ذلك الوصف من فائدة فإذا جعلنا الوصف سببا للتفرقة حصلت الفائدة النوع الخامس النهى عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه علينا فيعلم أن العلة في ذلك النهي كونه مانعا من ذلك الواجب كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عن البيع لكونه مانعا من السعى لكان ذكره في هذا الموضع غير جائز وذلك يدل على أنه إنما نهانا عنه لأنه يمنع من الواجب وكتحريم التأفيف فإن العلة فيه كونه مانعا من الإعظام الواجب فهذه جملة أقسام الإيماءات مسألة الظاهر من هذه الأقسام وإن دل على العلية لكن قد يترك هذا الظاهر(5/154)
عند قيام الدليل عليه مثاله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي وهو غضبان ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب ولكن لما علمنا
أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء وأن الجوع المبرح والألم المبرح يمنع علمنا أن علة المنع لست هي الغضب بل تشويش الفكر قوله من يقول الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشا خطأ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودا وعدما وانقطع عن الغضب وجودا وعدما وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلا لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما ملازمة وحينئذ تعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة بل العلة إنما هو التشويش فقط إلا أنه يجوز إطلاق لفظ الغضب لإرادة التشويش إطلاقا لاسم السبب على المسبب ويجب أن يعلم أن الذي به يصرف اللفظ عن ظاهرة لابد وأن يكون أقوى وجهات القوة ستأتي في باب الترجيح إن شاء الله تعالى(5/155)
الفصل الثالث في بيان علية الوصف بالمناسبة وهو مرتب على فنين الأول في المقدمات وفيه مسائل المسألة الأولى في تعريف المناسبة
الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين الأول أنه الذي يفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد(5/157)
إبقاؤه فإزالته مضرة وإبقاؤه دفع المضرة ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقا إليه والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقا إليه واللذة قيل في حدها إنها إدراك الملائم والألم إدراك المنافي والصواب عندي إنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه الثاني أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة أي الجمع بينهما في سلك واحد متلائم وهذه الجبة تناسب هذه العمامة أي الجمع بينهم متلائم والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح(5/158)
والتعريف الثاني قول من يأباه
المسألة الثانية في تقسم المناسب وذلك من أوجه التقسيم الأول المناسب إما أن يكون حقيقيا أو إقناعيا أما الحقيقي فنقول كون المناسب مناسبا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام لأن رعاية تلك المصلحة أما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو لا في محل الضرورة ولا في محل الحاجة أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من(5/159)
المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل أما النفس فهي محفوظة بشرع القصاص وقد نبه الله تعالى عليه بقوله ولكم في القصاص حياة وأما المال فهو محفوظ بشرع الضمانات والحدود وأما النسب فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضى إلى انقطاع التعهد عن الأولاد وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب وهو مجلبة الفساد والتقاتل
وأما الدين فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة والمقاتلة مع أهل الحرب وقد نبه الله تعالى عليه بقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأما العقل فهو محفوظ بتحريم المسكر وقد نبه الله تعالى عليه بقوله أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية وأما التي في محل الحاجة فتمكين الولى من تزويج الصغيرة فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما حاصلة وهي تقييد الكفؤ الذي لو فات فربما فات لا إلى بدل وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري(5/160)
مجرى التحسينات وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهذا على قسمين منه ما يقع لا على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والرقيق نازل القدر والجمع بينهما غير متلائم ومنه ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وهو مثل الكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله وذلك غير معقول وأما الذي يكون مناسبا لمصلحة تتعلق بالآخرة فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فإن منفعتها في سعادة الآخرة
فرع أن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين رحمه الله في أمثله هذه الأقسام(5/161)
ونحن نكتفى بواحد منها قال رحمه الله قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري ومما نعلم قطعا أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل فإنا كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج فكذلك نعلم أنه لو ترك في المثقل لوقع الهرج ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل دفعا للقصاص عن نفسه إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد بل كان المثقل أسهل من المحدد وعند هذا قال رحمه الله لا يجوز في كل شرع تراعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقل قال رحمه الله فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب لكنه لا يظهر كونه منه أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة
بالغير وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد وأما المناسب الإقناعى: فهو الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبا لكنه إذا بحث عنه حق البحث يظهر أنه غير مناسب مثاله تعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرجين عليه(5/162)
ووجه المناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في الحقيقة ليس كذلك لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه ولا مناسبة ألبتة بين المنع من استصحابه في الصلاة وبين المنع من بيعه التقسيم الثاني الوصف المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما أما القسم الأول فهو على أقسام أربعة لأنه إما أن يكون نوعه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه أو يكون جنسه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه مثال تأثير النوع في النوع أنه إذا ثبت أن حقيقة(5/163)
السكر اقتضت حقيقة التحريم كان النبيذ ملحقا بالخمر لأنه لا تفاوت بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحالين
مثال تأثير النوع في الجنس أن الإخوة من الأب والأم نوع واحد يقتضى التقدم في الميراث فيقاس عليه التقدم في النكاح والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية الإرث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين مثال تأثير الجنس في النوع إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالمشقة فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشئ مقامه قياسا على إفامة غير الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة ثم أعلم أن للجنسية مراتب فأعم أوصاف الأحكام كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها(5/164)
والعبادة تنقسم إلى الصلاة وغيرها والصلاة تنقسم إلى فرض ونقل فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة
وكذا في جانب الوصف أعم أوصافه كونه وصفا تناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغير المناسبة وأخص منه المناسب وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون لا محالة مقدما على ما يكون اعم منه وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلا(5/165)
وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه أو اعتبره فذلك يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفا مصلحيا وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار وهذا القسم هو المسمى بالمصالح المرسلة واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مع كثرة مراتب العموم والخصوص قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة المذكورة في التقسيم الأول ويحصل هناك أقسام كثيرة جدا وتقع فيما بينها المعارضات والترجيحات ولا يمكن ضبط القول فيها لكثرتها والله تعالى هو العالم بحقائقها التقسيم الثالث الوصف بأعتبار الملاءمة ووقوع الحكم على وفق أحكام أخر وشهادة الأصل على أربعة أقسام
الأول ملائم شهد له أصل معين وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم وأثر جنسه في جنسه وهذا متفق على قبوله بين القايسين وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص فخصوص كونه قتلا معتبر في(5/166)
خصوص كونه قصاصا وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة وثانيها مناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع مثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص وثالثها مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار يعنى أنه اعتبر جنسه في جنسه لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه وهذا هو المصالح المرسلة ورابعها مناسب شهد له أصل معين ولكنه غير ملائم أي شهد نوعه لنوعه لكن لم يشهد جنسه لجنسه كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول المسكر صيانة للعقل وقد يشهد لهذا المعنى الخمر بأعتباره أحمد لكن لم تشهد له سائر الأصول وهذا هو المسمى بالمناسب الغريب(5/167)
المسألة الثالثة
في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة والدليل عليه أن كون الوصف مناسبا إنما يكون لكونه مشتملا على جلب منفعة أو دفع مضرة وذلك لا يبطل بالمعارضة أما الأول فظاهر وأما الثاني فيدل عليه وجوه الأول أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين أو إحداهما أرجح من الأخرى فإن كان الأول لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس فإما أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى وهو محال لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى لزم أن تكونا موجودتين حال(5/168)
كونهما معدومتين وذلك محال وأما إن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فهاهنا لا يلزم التفاسد أيضا لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة لكنا بينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر الثاني أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة فإما أن
ينتفى شئ من الراجح لأجل المرجوح أو لا ينتفي والأول باطل وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة وذلك باطل بالبديهة(5/169)
والثاني أيضا باطل لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكو مساويا لتلك المصلحة فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر وهو محال أو لا يندفع واحد منهما بالآخر وهو المطلوب وأيضا فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيا وبقاء ما فرض زائلا لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة الثالث وهو أن تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة نظرا إلى الجهات المختلفة مثل الصلاة في الدار المغصوبة فأنها من حيث أنها صلاة سبب الثواب ومن حيث أنها غصب سبب العقاب والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة وعند ذلك نقول المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى
فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم وقد فرضنا ترتبهيا بعد عليها هذا خلف(5/170)
وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده وقد فرضنا حصولهما معا وهذا خلف واعلم أن هذا الوجه مبنى على قول الفقهاء الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه معصية من وجه الرابع العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به مصلحة في حقى لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة إجتماع وجهى المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام والله أعلم(5/171)
الفصل الثاني من هذا الفصل في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية فنقول المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجب اعمل به بيان الأول من وجهين الأول أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد وهذه مصلحة فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة فهذه مقدمات ثلاث لا بد من
إثباتها بالدليل أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه أحدها أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح والقسم الثاني باطل وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وهذا محال فثبت القسم الأول وذلك المرجح إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العبد(5/172)
والأول باطل بإجماع المسلمين فتعين الثاني وهو أنه تعالى إنها شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته أو ما لا يكون مصلحته ولا مفسدته والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء فتعين الأول فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد وثانيها أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين والحكم لا يفعل إلا لمصلحة فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا والعبث على الله تعالى محال للنص والإجماع والمعقول أما النص فقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ربنا ما خلقت هذا باطلا ما خلقناهما إلا بالحق
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث وأما المعقول فهو أن العبث سفه والسفه صفة نقص والنقص على الله تعالى محال(5/173)
فثبت أنه لا بد من مصلحة وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا فلابد من عودها إلى العبد فثبت أنه تعال شرع الأحكام لمصالح العباد وثالثها أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفا مكرما لقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم ومن كرم أحدا ثم سعي في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائما لأفعال العقلاء مستحسنا فيما بينهم فإذن ظن كون المكلف مكرما يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له ورابعها أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والحكيم إذا أمر عبده بشئ فلا بد وأن يزيح عذره وعلته ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه ليصير فارغ البال فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به والاجتناب عما نهاه عنه فكونه مكلفا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له وخامسها النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب
الشرع قال الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال(5/174)
خلق لكم ما في الأرض جميعا وقال وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال عز وجل وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وسادسها أنه وصف نفسه بكونه رؤوفا رحيما بعباده وقال ورحمتي وسعت كل شئ فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة فهذه الوجوه الستة دالة على انه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد(5/175)
ثم أختلف الناس بعد ذلك أما المعتزلة فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه وقالوا إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث بل يجب أن يكون فعله مشتملا على جهه مصلحة وغرض وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى ولأجل هذه الحكمة ولو سمعوا لفظ الغرض لكفروا قائله مع
أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض وأيضا فإنهم يقولون إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة أما المقدمة الثانية وهى أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من المصلحة فظاهر لأنا إنما نحكم بعلية الوصف إذا بينا كونه كذلك أما المقدمة الثالثة وهى أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة وعلمنا أن هذا المعنى مصلحة حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك الحكم هو هذه المصلحة فقد استدلوا عليه من وجهين الأول وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم إما هذه المصلحة أو غيرها لا جائز أن يكون غيرها لأن ذلك الغير أما أن يقال إنه(5/176)
كان مقتضيا لذلك الحكم في الأزل أو ما كان مقتضيا له في الأزل والأول باطل وإلا لكان الحكم ثابتا في الأزل لكن التكليف بدون المكلف محال فتعين الثاني وهو أنه ما كان مقتضيا لهذا الحكم في الأزل وذلك يفيد ظن استمرار هذا السلب لما سنبين إن شاء الله تعالى أن العلم بوقوع أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدا وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم ونحن ما ادعينا إلا الظن الثاني
أن الظن بكون الحاكم حكيما مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من الحكمة يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك الحكم لتلك الجهة واذا كان الأمر كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب مثله بيان المقام الأول أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة أنه لا يفعل فعلا إلا لحكمة فإذا رأيناه يدفع مالا إلى فقير وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه ولم تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه غلب على ظننا أنه إنما دفع المال إليه لفقره(5/177)
نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه لكنه تجويز مرجوح لا يقدح في ذلك الظن الغالب أما إذا ظهر وجهان من المناسبة مثل أن كان ذلك الفقير فقيها فهاهنا إن تساوى الوجهان في القوة لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف أو لذلك أو لهما جميعا فثبت أن العلم يكون الفاعل حكيما مع العلم بحصول جهة معينة في الحكم ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضى ظن أن ذلك الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة بيان المقام الثاني أن في الشاهد دار ذلك الظن مع حصول ذينك العلمين وجودا وعدما والدوران دليل العلية ظاهرا فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل حكيما مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة ومع الغفلة عن
سائر الجهات علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم إنما أتى بذلك الفعل لتلك الحكمة والعلة أينما حصلت حصل الحكم فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه وجب أن يحصل ظن أنه تعالى إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية(5/178)
الوجه الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض ومع هذا فندعى الذي أن المناسبة تفيد ظن العلية وبيانه أن مذهب المسلمين أن دوران الأفلاك وطلوع الكواكب وغروبها وبقائها على أشكالها وأنوارها غير واجب ولكن الله تعالى لما أجرى عادته بإبقائها على حالة واحدة لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدا وبعد غد على هذه الصفات وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب وحصول الشبع عقيب الأكل والرى عقيب الشرب والأحتراق لأن عند مماسة النار غير واجب لكن العادة لما اطردت بذلك لا جرم حصل ظن يقارب اليقين بأستمرارها على مناهجها والحاصل أن تكرير الشئ مرارا كثيرة يقتضى ظن أنه متى حصل لا يحصل إلا على ذلك الوجه إذا ثبت هذا فنقول إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع
وإذا كان كذلك كان العلم بحصول هذا مقتضيا ظن حصول الآخر وبالعكس من غير أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر وداعيا إليه فثبت أن المناسبة دليل العلية مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض(5/179)
أما المقدمة الثانية من أصل الدليل وهي أن المناسبة لما أفادت ظن العلية وجب أن يكون ذلك القياس حجة فالاعتماد علي فيه على ما ذكرنا أن العمل بالظن واجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل فإن قيل لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد قوله تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين لا بد وأن يكون لمرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدا إلى الله تعالى فلا بد وأن يكون عائدا إلى العبد قلنا إما أن تدعى أن التخصيص لا بد له من مخصص أو لا تدعى ذلك وعلى التقديرين لا يمكنك القول بتعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص فلأن أفعال العباد إما أن تكون واقعة بالله تعالى أو العبد فإن كان الأول كأن الله تعالى فاعلا للكفر والمعصية ومع القول بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد وإن كانت واقعة بالعبد فالعبد الفاعل للمعصية مثلا إما أن يكون متمكنا من تركها أو لا يكون(5/180)
فإن لم يكن متمكنا من تركها وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى كأن الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية ويمتنع عقلا انفكاكه عنها ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد وإن كان العبد متمكنا من تركها فنقول لما كان كونه فاعلا للمعصية وتاركا لها أمرين ممكنين لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح لأنا نتكلم الآن تفريعا على تسليم هذه المقدمة فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم الأول وان كان من فعل الله تعالى فإما أن يجب الترجيح عند حصول ذلك المرجح من الله تعالى أولا يجب فإن وجب عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح وإن لم يجب كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنا أن يكون وأن لا يكون فيفتقر إلى مرجح أخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهى إلى الوجوب فيعود الإشكال فإن قلت عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع لكنه لا ينتهى إلى حد الوجوب قلت حصول الترجيح ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية إن كانا(5/181)
ممكنين فلنفرض وقوعهما فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح واللاترجيح حتى على السواء فأختصاص تعالى أحد زماني حصول تلك الأولوية
بالوقوع دون الزمان الثاني يكون ترجيحا للممكن المساوى من غير مرجح وهو محال لأنا نتكلم الآن تفريعا على هذه المقدمة فثبت أن القول بأفتقار فإن التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح وأما أن القول بأن التخصص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح فذلك ظاهر فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه فهو دلالة قاطعة ابتداء في المسألة وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها لأنها أدلة ظنية وما ذكرناه برهان قاطع ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه الأول أنه خالق أفعال العباد وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح إنما قلنا إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه أحدها أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل أفعاله واللازم باطل فالملزوم مثله(5/182)
بيان الملازمة أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة مع جواز وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص
إذ لو عقل الاختصاص لا لمخصص لعقل اختصاص حدوث العالم بوقت معين وقدر معين مع جواز وقوعه لاعلى هذا الوجه لا لمخصص وذلك يقتضي القدح في دليل إثبات الصانع فثبت أنه لابد لفعل العبد من مخصص والتخصيص مسبوق بالعلم فإن التخصيص عبارة عن القصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه مشروط بالشعور بذلك الوجه فالغافل ع الشئ استحال منه القصد إلى إيقاعه فثبت أنه لوه كان موجودا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيل أفعاله وإنما قلنا إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله لأن النائم فاعل مع انه لا يخطر بباله شئ من تلك التفاصيل بل اليقظان يفعل أفعالا كثيرة مع انه لا يخطر بباله كيفية تلك الأفعال فإن من فعل حركة بطيئة فذلك البطؤ إما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات أو عن كيفية قائمة بالحركة فإن كان الأول فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر بباله ذلك وإن كان الثاني كان قد فعل حركة وفعل فيها عرضا آخر(5/183)
ثم ذلك البطؤ له درجات مختلفة فهو قد فعل عرضا مخصوصا في عرض آخر مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء مع أنه لم يخطر بباله شئ من ذلك فعلمان أنه قد يفعل ما لم يخطر بباله فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه الثاني
أن موجد العبد مقدور لله تعالى فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى إنما قلنا إن مقدور العبد لله تعالى لأنه في نفسه ممكن والإمكان مصحح للمقدورية وإنما قلنا إنه لما كان مقدورا لله تعالى وجب وقوعه بقدرة الله تعالى لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد الإيجاد فحينئذ يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد وذلك محال لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع وكل ما كان واجب الوقوع في نفسه استحال استناده إلى غيره وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيلزم انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معا وهو محال(5/184)
والثالث إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حالما أراد الله تعالى تسكينه فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد وقدرة الله تعالى أيضا مستقلة به لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر فإما أن يمتنعا وهو محال لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر فالمانع حاصل حال تحقق الامتناع فيلزم وجودهما عند عدمهما وهو محال أو يقعان جميعا فيلزم حصول الضدين وهو محال فإن قلت قدرة الله تعالى أقوى فكانت أولى بالتأثير قلت إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخر لا تؤثر فيها قدرة العبد أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد فيستحيل التفاوت لأن
ذلك المقدور شئ واحد لا يقبل التفاوت وإذا لم يكن هو في نفسه قابلا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه الرابع لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات لقدر على الكل لأن المصحح للمقدورية ليس إلا الأمكان وهو قضية واحدة فيلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في المقدورية لكنه غير قادر على كل الممكنات لأنه لا يقدر على خلق السماوات والأرض فوجب أن لا يقدر على الإيجاد ألبتة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن العبد غير موجد لأفعاله بل موجدها هو الله عز وجل(5/185)
وإذا كان كذلك فكل ما حصل من الكفر والمعاصي فهو من فعل الله تعالى ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي ومع هذا القول لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد فإن قلت هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد ولكن المكلف مخير في اختيار الكفر والأيمان والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشئ على وفق اختيار المكلف فإن اختار المكلف الكفر خلق فيه الكفر وإن اختار الأيمان خلق فيه الأيمان فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف قلت حصوله اختيار الكفر بدلا عن اختيار الأيمان إن كان من المكلف لا من الله تعالى لم يكن الله تعالى فاعلا لكل أفعال العباد وإن كان من الله تعالى فقد بطل الاختيار وتوجه الإشكال الدليل الثاني على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح أن القادر على الكفر إن لم يقدر على الأيمان لزم الجبر وذلك يقدح في
رعاية المصالح وإن قدر عليهما فلابد وأن ينتهى إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر فيكون الجبر لازما وذلك يقدح في رعاية المصالح وتقرير هذا الوجه قد تقدم الدليل الثالث أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق وذلك يمنع من القول برعاية المصالح(5/186)
بيان الأول من وجوه الأول أنه كلف بالأيمان من علم أنه لا يؤمن فصدور الأيمان منه يستلزم انقلاب العلم جهلا وهذا الانقلاب محال والمفضى إلى المحال محال فكان هذا التكليف تكليفا بالمحال وثانيها أنه إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر والأول محال لأن الاستواء ما دام يكون حاصلا امتنع الرجحان فالأمر بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين والثاني محال لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوح ممتنع الوقوع فحال الرجحان إن كان مأمورا بترجيح المرجوح كان مأمورا بالجمع بين الضدين وإن كان مأمورا بترجيح الراجح كان مأمورا بإيقاع الواقع وكل ذلك تكليف بما لا يطاق وثالثها
القدرة إذا حصلت في العبد فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان أو في الزمان الثاني والأول محال لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان فلو أمر الله تعالى(5/187)
العبد بإيقاعه في ذلك الزمان كان هذا أمرا بإيجاد الموجود وأنه محال والثاني أيضا محال لأنه في الزمان الأول لما لم يكن متمكنا من الفعل ألبتة كان أمره بالفعل أمرا لمن لا يقدر فان قلت إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال حتى يلزم ما قلته بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني قلت هل لقولك يوقعه مفهوم زائد على الفعل أم لا فإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولك إنه أمره في الحال بإيقاع الفعل في الزمان الثاني معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه لا بد وأن يكون في الزمان بحيث يصدر عنه الفعل ففي هذا الزمان لم يحصل إلا الإعلام فأما الإلزام فلا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود الأمر إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه وإن كان لقولك يوقعه مفهوم زائد على مفهوم الفعل فذلك الزائد هل حصل في الزمان الأول أو ما حصل فإن حصل في الزمان الأول وقد أمر في الزمان الأول به فحينئذ يلزم كونه مأمورا بالشئ حال حصوله وإن لم يحصل في الزمان الأول بل في الزمان الثاني عاد ما(5/188)
ذكرنا من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام لا إلزام والإلزام لا
يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود ما ذكرنا من إنه أمر بالفعل حال وقوعه ورابعها أن الله تعالى قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه فإذن كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف ما لا يطاق وخامسها ما بينا أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله فيه داعية تلجئه إلى فعله إلجاءا عمر ضروريا فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر فإذا كلف بالإيمان كان ذلك تكليف ما لا يطاق وسادسها أن الله تعالى أمر بمعرفته وذلك تكليف ما لا يطاق لأن الأمر إما أن يتوجه إلى العبد حال كونه عارفا بالله تعالى أولا في هذه الحالة فإن كان الأول كان العارف مأمورا بتحصيل المعرفة فيكون ذلك أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان الثاني فحال كونه غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأمر الله تعالى فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله(5/189)
تعالى لما توجه عليه الأمر كان كذلك تكليفا بما لا يطاق وسابعها أنا أمرنا بالترك والأمر بالترك أمر بما لا قدرة كناعليه لأنا إذا تركنا الفعل
فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدوما كما كان والعدم المستمر لا قدرة لنا عليه وبيانه من وجهين الأول أن العدم نفى محض والقدرة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض وثانيهما أن العدم لما كان مستمرا لا يمكن التأثير فيه لأن التأثير في الباقي محال فإن قلت الترك عندي أمر وجودى وهو فعل الضد قلت الإلزام هاهنا قائم لأنا الواحد منا قد يؤمر بترك الشئ الذي لا يعرف للى النبي ضدا فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده لكنا قد أمرنا بفعل شئ لا نعرف ماهيته فيكون ذلك أيضا قولا بتكليف مالا يطاق فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف مالا يطاق ولا شك أن ذلك يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه في مصالح العباد(5/190)
الدليل الرابع أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه دون ما قبله وما بعده يستحيل أن يكون معللا بغرض لأن قبل حدوث العالم لا وقت ولا زمان بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف ويستحيل أن يحصل في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح ووقت أخر يكون منشأ المفاسد الدليل الخامس
أن تقدير السماوات والكواكب المعينة وتقدير البحار والأرضين بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق فإنا نعلم أنه لو ازداد في خلق الفلك الأعظم مقدار جزءا لا يتجزأ فإنه لا يتغير بذلك ألبتة شئ من مصالح المكلفين ولا من مفاسدهم الدليل السادس أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى آخر عمره في المحنة وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبدا الآبدين ودهر الداهرين وأنه تعالى كان عالما من الأزل إلى الأبد أنه إذا خلقه وكلفه بالإيمان فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء(5/191)
فكيف يقال إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف الدليل السابع أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب حتى أن بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يضجر ببعض ولقد كان تعالى قادرا على أن يخلقنا في الجنة إبتداء ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة فإن قلت إنه تعالى إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة ول يكون لطفا لمكلف آخر قلت أما العوض فلو أعطاه ابتداء كان أولى وأما اللطف فأى عاقل يرضى أن يقال إنما حسن إيلام هذا الحيوان ليكون لطفا بذلك الحيوان الدليل الثامن دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون
شئ من أفعاله وأحكامه معللا بالمصالح فظهر بهذه الوجوه انه ليس الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق وإذا كان كذلك لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق فإنا إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح ثم رأيناه حكم بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة أما إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح(5/192)
ثم رأيناه حكم بحكم فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة ألبتة هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجا إلى رعاية المصلحة أما الإله سبحانه وتعالى لما كان منزها عن المصالح والمفاسد بالكلية ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح سلمنا أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح وأن هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه فلم قلت إن هذا القدر يقتضى ظن كون ذلك الفعل معللا بهذه المصلحة أما الوجه الأول فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن واما الوجه الثاني فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن والكلام في هذين الموضعين سيأتي إن شاء الله تعالى ثم نقول على الوجه الثاني خاصة لم قلت لما حصل الظن في المثال المذكور وجب حصوله في حق الله تعالى قوله الدوران يفيد الظن
قلنا لكن بشرط أن لا يظهر وصف آخر في الأصل وهاهنا قد وجد بيانه من وجهين الأول أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب(5/193)
المصالح ودفع المفاسد وذلك في حق الله تعالى مفقود الثاني أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة بل دفع الحاجة المخصوصة فمن عرف عادة الملك وأنه يراعي عادة هذا النوع أو ذاك لا جرم يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى أو ذاك وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح وأنواعها فمختلفة ولذلك قد يكون الشئ قبيحا في عقولنا وان كان حسنا عند الله تعالى وقد يكون بالعكس ولهذا المعنى انقطع الآن بقبح جميع الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام وبحسن شريعتنا وإن كان التفاوت غير معلوم لنا الآن وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين الصورتين سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بأمور أحدها أن أفعال الله تعالى وأحكامه لو كانت لدفع حاجة العبد لكانت الحاجات بأسرها مدفوعة واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها حاجات ومتباينة بخصوصياتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فما به يمتاز(5/194)
كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة وإذا كان كذلك كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلية وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل أنواعه فإذا كان ذلك المسمى علة لشرع ما يصلح أن يكون دافعا له لزم من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة ولما لم يكن كذلك علمنا أن التعليل بالحاجة غير جائز وثانيها إن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة وصارت قبيحة في هذا الزمان فلابد وأن يكون ذلك لأ حصل شرط في ذلك الزمان لم يحصل الآن أو وجد الآن مانع ما كان موجودا في ذلك الزمان لكن توقف المقتضي على وجود الشرط أو تخلف حكمه لأجل المانع خلاف الأصل وثالثها أن الحكم إما أن يكون معللا بنفس الحكمة أو بالوصف المشتمل على الحكمة والأول باطل لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها(5/195)
والثاني باطل لأن الوصف إنما يكون علة للحكم لاشتماله على تلك الحكمة فيعود
الأمر إلى كون الحكمة علة لعليه الوصف فيعود المحذور المذكور والجواب قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها فهي لو صحت لقدحت وإن في التكليف والكلام في القياس نفيا وإثباتا فرع على القول بالتكليف فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما ذكرتموه وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بيبن الشاهد والغائب فذلك إنما يقدح في قول من يقول يجب عقلا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما من يقول إن ذلك غير واجب ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه تفضلا وإحسانا فذلك الفرق لا يقدح في قوله وأما المعارضات الثلاث الأخيرة فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة بالدواعي والأغراض مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها(5/196)
الفصل الرابع في المؤثر وهو أن يكون الوصف مؤثرا في جنس الحكم في الأصول دون وصف آخر فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم ولا في عينه وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة لأنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحجر
وكقولهم إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح فإن قلت لم قلت لما أثرت الإخوة من الأب والأم في التقديم(5/199)
في الإرث أثرت في التقديم في النكاح قلت ذكروا أنه يتبين ذلك بالمناسبة وبأن يقال لا فارق بين الأصل والفرع إلا كذا وهو ملغى وعند هذا يظهر أن هذه الطريقة لا تمشى إلا بعد الرجوع إلى طريق المناسبة وطريق السبر(5/200)
الفصل الخامس في الشبه والنظر في ماهيته ثم في إثباته أما الماهية فقد ذكروا في تعريفها وجهين الأول ما قاله القاضي أبو بكر رحمه الله وهو أنه قال إن الوصف إما أن يكون مناسبا للحكم بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه بذاته فالأول هو الوصف المناسب والثاني هو الشبه(5/201)
والثالث هو الطرد الثاني الوصف الذي لا يناسب الحكم إما أن يكون قد عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم وإما أن لا يكون كذلك فالأول هو الشبه لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره واعلم أن الشافعى رضى الله عنه سمى هذا القياس قياس غلبة الأشباه وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين فإذا كانت مشابهته لإحدى الصورتين أقوى من مشابهته للأخرى ألحق لا محالة بالأقوى فأما الذي يقع بين الاشتباه فالمحكى كما عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يعتبر الشبه في الحكم كمشابهة هو العبد المقتول للحر ولسائر المملوكات(5/202)
وعن ابن علية أنه كان يعتبر الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية في الصلاة إلى الجلسة الأولى في عدم الوجوب والحق أنه متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم أو مستلزم لما هو علة له صح القياس سواء كان ذلك في الصورة أو في الأحكام
النظر الثاني في أنه حجة قال القاضي أبو بكر ليس بحجة لنا أنه يفيد ظن العلية فوجب العمل به بيان الأول أنه لما ظن كونه مستلزما للعلية كان الاشتراك فيه يفيد ظن الاشتراك في العلة وعلى التفسير الثاني أنه لما ثبت أن الحكم لابد له من علة وأن العلة إما هذا الوصف وإما غيره ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم ولم يوجد هذا المعنى في سائر الأوصاف فلا شك أن ميل القلب إلى إسناد الحكم إلى هذا الوصف أقوى من ميله إلى إسناده إلى غير ذلك(5/203)
الوصف وإذا ثبت أنه يفيد الظن وجب أن يكون حجة لما بينا أن العمل بالظن واجب واحتج القاضي بوجهين الأول الوصف الذي سميتموه شبها إن كان مناسبا فهو معتبر بالاتفاق وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق الثاني أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم
أنهم تمسكوا بالشبه والجواب عن الأول لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا كان مردودا بالاتفاق بل ما لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو عندنا غير مردود وهذا أول المسألة(5/204)
وعن الثاني أنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى فاعتبروا أو على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن والله اعلم(5/205)
الفصل السادس في الدوران ومعناه أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف وينتفى عند انتفائه وذلك يقع في وجهين الأول أن يقع ذلك في صورة واحدة فأن العصير لما لم يكن مسكرا في أول الأمر لم يكن حراما فلما حدث وصف الإسكار فيه حدثت الحرمة فلما صار خلا وزالت المسكرية زالت الحرمة أيضا الثاني أن يوجد ذلك في صورتين وعندنا أنه يفيد ظن العلية
وقال قوم من المعتزلة إنه يفيد يقين العلية وقال آخرون إنه لا يفيد يقين العلية ولاظنها(5/207)
لنا وجهان الأول أن هذا الحكم لا بد له من علة والعلة إما هذا الوصف أو غيره والأول هو المطلوب والثاني لا يخلو إما أن يكون ذلك الغير كان موجودا قبل حدوث هذا الحكم أو ما كان موجودا قبله فإن كان موجودا قبله وما كان هذا الحكم موجودا لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا فالأصل في الشئ بقاؤه على ما كان فيحصل ظن أنه بقي كما كان غير علة وإذا حصل ظن أن غيره ليس بعلة حصل ظن كون هذا الوصف علة لا محالة فإن قلت ذلك الحكم كما دار مع حدوث ذلك الوصف وجودا وعدما فكذلك دار مع تعين ذلك الوصف ومع حدوث حصول ذلك الوصف في ذلك المحل فيجب أن يكون تعينه وحدوثه في ذلك المحل معتبرا في العلية وذلك يمنع من التعدية(5/208)
قلت تعين الشئ معناه أنه ليس غيره وهذا أمر عدمي إذ لو كان وجوديا لكان ذلك الوجود مساويا لسائر التعينات القائمة بسائر الذوات في كونه تعينا ويمتاز عنها بخصوصيته فيلزم أن يكون للتعيين تعين آخر
إلى غير نهاية وهو محال وأما حصول الوصف في ذلك المحل فيستحيل أن يكون أمرا وجوديا وإلا لكان ذلك وصفا لذلك الوصف فكونه وصفا للوصف زائد عليه فيلزم التسلسل وإذا ثبت أن التعين أمر عدمي والحصول في المحل المعين أمر عدمي استحال كونه علة ولا جزء علة أما أنه لا يكون علة فلأنا قولنا في الشئ المعين إنه علة نقيض لقولنا إنه ليس بعلة وقولنا إنه ليس بعلة يصح وصف المعدوم به في الجملة ووصف المعدوم لا يكون موجودا فقولنا ليس بعلة أمر عدمي وقولنا علة مناقض له ومناقض العدم ثبوت فمفهوم قولنا علة أمر ثبوتى فلو وصفنا العدم به لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وذلك محال وأما أنه لا يجوز أن يكون جزء علة فلأنا لو فرضنا حصول سائر الأجزاء بدون هذا الجزء الواحد فأما إن تحصل العلية أو لا تحصل فإن(5/209)
حصلت العلية كان سائر الأجزاء دون هذا الجزء تمام العلة فلا يكون هذا الجزء جزء العلة وإن لم تحصل العلية عند عدم هذا الجزء وحصلت عند حصوله كانت العلية إنما حدثت لأجل هذا الجزء فجزء العلة علة تامة لعلية العلة وقد عرفت أن العدم لا يكون علة فوجب أن لا يكون العدم جزءا من العلة وهو المطلوب الوجه الثاني أن الدوران يفيد ظن العلية
وهو أن بعض الدورانات يفيد ظن العلية فوجب أن يكون كل دوران كذلك مفيدا لهذا الظن بيان الأول أن من دعى بأسم فغضب ثم تكرر الغصب مع تكرر الدعاء بذلك الاسم حصل هناك ظن أنه إنما غضب لأنه دعى بذلك الاسم وذلك الظن إنما حصل من ذلك الدوران لأن الناس إذا قيل لهم لم اعتقدتم ذلك قالوا لأجل أنا رأينا الغضب مع الدعاء بذلك الاسم مرة بعد أخرى فيعللون وسلم الظن بالدوران بيان الثاني قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية(5/210)
ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد اشتراكها في إفادة الظن واحتج المنكرون بأمرين الأول أن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية فوجب أن لا يفيد شئ منها ظن العلية بيان الأول من وجوه أحدها أن العلة والمعلول قد يكونان متلازمين نفيا وإثباتا والدوران مشترك بين الجانبين والعلة غير مشتركة بين الجانبين لأن المعلول لا يكون علة لعلته وثانيها أن الفصل لابد أن يكون مساويا للنوع والنوع إذا أوجب حكما
فالدوران كما حصل مع العلة التي هي النوع حصل مع الفصل الذي هو جزء العلة مع أن جزء العلة ليس بعلة وثالثها أن العلة قد يكون اقتضاؤها للمعلول موقوفا على شرط فالدوران حاصل(5/211)
مع شرط العلة مع أنه ليس بعلة ورابعها أن العلة قد يكون لها معلولان إما معا عند من يجوز ذلك أو على الترتيب فالدوران حاصل في علة العلة ومعلول العلة مع أنه لا علية هناك ألبتة وخامسها أن الجوهر والعرض متلازمان نفيا وإثباتا وذات الله تعالى وصفاته كذلك وكل واحدة من صفاته مع سائر الصفات كذلك ولا علية هناك وسادسها أن المضافين متلازمان معا نفيا وإثباتا كالأبوة والبنوة والمولى والعبد ويمتنع كون أحدهما على للآخر لأن العلة متقدمة على المعلول والمضافان معا ولا شئ من المع متقدم وسابعها أن المكان والمتمكن والحركة والزمان لا ينفك واحد منها عن الآخر مع عدم العلية وثامنها أن الجهات الست لا ينفك بعضها عن بعض مع عدم العلية(5/212)
وتاسعها أن علم الله تعالى دائر مع كل معلوم وجودا وعدما فإنه لو كان المعلوم جوهرا لعلمه جوهرا ولو لم يكن المعلوم جوهرا فإن الله تعالى لا يعلمه جوهرا فالعلم دائر مع المعلوم وجودا وعدما مع أنه يستحيل أن يكون أحدهما علة للآخر أما أنه لا يكون العلم علة للمعلوم فلأن شرط كونه علما أن يتعلق بالشئ على ما هو به فما لم يكن المعلوم في نفسه واقعا على ذلك الوجه استحال تعلق العلم به على ذلك الوجه إذن تعلق العلم به على ذلك الوجه مشروط بوقوعه على ذلك الوجه فلو كان وقوعه على ذلك الوجه متوقفا على تعلق العلم به لزم الدور واما أنه يستحيل أن يكون المعلوم علة للعلم فلأن علم الله تعالى صفة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك يستحيل أن يكون معلول علة فثبت أنه وجد الدوران هاهنا بدون العلية ثم أن علم الله تعالى متعلق بما لا نهاية له من المعلومات فهاهنا دورانات عنه لا نهاية لها بدون العلية وعاشرها أن الأعراض عند أهل السنة لا تبقى فهذه الألوان والأشكال تحدث حالا بعد حال فحين فنى ذلك اللون وذلك الشكل عن ذلك الجسم فنيت الألوان والأشكال وسائر الأعراض عن جميع الأجسام وحين حدث فيه لون(5/213)
وشكل حدث فيه سائر الأعراض في جميع الأجسام فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وحادى عشرها أن الفلك إذا تحرك تحرك بجميع أجزاءه فحركة كل واحدة من أجزاءه إنما حدثت عند حركة جميع أجزاءه وحين كانت تلك الحركة معدومة عن ذلك الجزء كانت حركات سائر الأجزاء معدومة فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وثاني عشرها أن جميع الحيوانات تتنفس ولا شك أن كل واحد منها إما أن يتنفس مع كون الآخر متنفسا أو عقيبه بلحظة قليلة فقد وجدت هذه الدورانات بدون العلية وثالث عشرها أن الحكم كما دار مع الوصف وجودا وعدما فقد دار أيضا مع تعين الوصف وخصوص المحل وخصوص وقوعه الزمان المعين والمكان المعين وشئ من ذلك لا يصلح للعلية لما ذكرتم أنها أمور عدمية والعدم غير صالح للعلية ورابع عشرها أن الحد دائر مع المحدود وجودا وعدما والرائحة الفائحة في الخمر دائرة مع الحرمة وجودا وعدما مع أنه لا علية هناك(5/214)
وأعلم أن لو أردنا استقصاء القول في الدورانات المنفكة عن العلية لطال الكلام ولكن فيما ذكرنا كفاية
وإنما قلنا إن بعض الدورانات لما انفكت عن العلية وجب أن لا يحصل ظن العلية في شئ منها لأنه إذا حصل دوران ما منفكا عن العلية فلو قدرنا أن دورانا آخر يستلزم العلية لكان كونه مستلزما للعلية إما أن يتوقف على انضمام شئ آخر إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المستلزم للعلية هو المجموع الحاصل من الدوران ومن ذلك الشئ لا الدوران وحده وكلامنا الآن في الدوران وحده وإن لم يتوقف مع أن مسمى الدوران حاصل في الموضعين جميعا لزم ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال هذا تمام تقرير هذا الدليل الوجه الثاني وهو الذي عول عليه المتقدمون في القدح قالوا الاطراد وحده ليس طريقا إلى علية الوصف بالاتفاق وأما الانعكاس فأنه غير معتبر في العلل الشرعية وإذا كان كل واحد منهما لا يدل على العلية كان مجموعهما أيضا كذلك(5/215)
والجواب عن الأول أن ذلك إنما يقدح في قول من يقول الدوران وحده يوجب ظن العلية ونحن لا نقول به بل ندعى أن الدوران يفيد ظن العلية بشرط أن لا يقوم عليه دليل يقدح في كونه علة وإذا لخصنا الدعوى على هذا الوجه سقط ما ذكرتموه من الاستدلال وعن الثاني لم قلت إن كل واحد منهما لما لم يفد ظن العلية وجب في المجموع
أن يكون كذلك فإنا نعلم أن حال المجموع قد يكون مخالفا حال كل واحد من أجزائه(5/216)
الفصل السابع في السبر والتقسيم التقسيم إما أن يكون منحصرا بين النفى والإثبات أو لا يكون فالأول هو أن يقال الحكم إما أن يكون معللا أو لا يكون معللا فإن كان معللا فإما أن يكون معللا بالوصف الفلانى أو بغيره وبطل أن لا يكون معللا أو يكون معللا بغير ذلك الوصف فتعين أن يكون معللا بذلك الوصف وهذا الطريق عليه التعويل في معرفة العلل العقلية وقد يوجد ذلك في الشرعيات كما يقال أجمعت الأمة على أن حرمة الربا في البر معللة وأجمعوا على أن العلة إما المال أو القوت أو الكيل أو الطعم وبطل التعليل بالثلاثة الأولة فتعين الرابع(5/217)
وكما يقال أجمعت الأمة على أن ولاية الإجبار معللة إما بالصغر وإما بالبكارة والأول باطل وإلا لثبتت الولاية في الثيب الصغيرة لكنها لا تثبت لقوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها فتعين التعليل بالبكارة
وأما التقسيم المنتشر فكما إذا لم ندع الإجماع بل نقتصر على أن نقول حرمة الربا في البر إما أن تكون معللة بالطعم أو الكيل أو القوت أو المال والكل باطل إلا الطعم فيتعين التعليل به فإن قيل لا نسلم أن حرمة الربا معللة فإن الأحكام منها مالا يعلل بدليل أن علية العلة غير معللة وإلا لزم التسلسل وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يقال هذا من جملة مالا يعلل سلمنا كونه معللا فما الدليل على الحصر فإن قلت لو وجد وصف آخر لعرفه الفقيه البحاث قلت لعله عرفه لكنه ستره وأيضا فعدم الوجدان لا يد على عدم الوجود سلمنا الحصر لكن لا نسلم فساد الأقسام سلمنا فساد المفردات لكن لم لا يجوز أن يقال مجموع وصفين أو(5/218)
ثلاثة منها علة واحدة سلمنا فساد سائر الأقسام مفردا ومركبا لكن لم لا يجوز أن ينقسم هذا القسم الثاني إلى قسميه فتكون العلة أحد قسميه فقط والجواب لا نزاع في أن التقسيم المنتشر لا يفيد اليقين لكنا ندعى أنه يفيد الظن أما قوله لم لا يجوز أن لا يكون هذا الحكم معللا قلت لما سبق في باب المناسبة أن الدلائل العقلية والسمعية دلت على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح فكان هذا الاحتمال
مرجوحا قوله ما الدليل على الحصر قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن المناظر تلو الناظر فلو أجتهد الناظر وبحث عن الأوصاف ولم يطلع إلا على القدر المذكور ووقف على فساد كلها إلا على الواحد فلا شك أن حكم قلبه بربط ذلك الحكم بذلك الوصف أقوى من ربطه بغير ذلك الوصف وإذا حصل الظن وجب العمل به وإذا ثبت ذلك في حق(5/219)
المجتهد وجب أن يكون الأمر كذلك في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا إظهار مأخذ الحكم الثاني لو سلمنا أنه لا بد من الدليل على الحصر فنقول لا شك أن جميع الأوصاف كانت معدومة وكانت بحيث يصدق عليها أنها لا توجب هذا الحكم والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فهذا القدر يفيد ظن عدم سائر الأوصاف فيحصل ظن الحصر ومطلوبنا هاهنا هذا القدر قوله لا نسلم فساد سائر الأقسام قلنا يمكن إفسادها بجميع المفسدات من النقض وعدم التأثير وأنواع الأيماءات إن بلى لا يمكن إفسادها هاهنا بعدم المناسبة لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما تدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته ولو بين ذلك لاستغنى عن طريقة السبر قوله لم لا يجوز أن يكون المجموع هو العلة
قلنا لأنعقاد الإجماع على ثبوت الحكم حيث لم يوجد المجموع قوله لم لا يجوز أن تكون العلة طعما مخصوصا قلنا لأن كل من اعتبر الطعم لم يعتبر طعما مخصوصا فكان القول به خرقا للإجماع(5/220)
الفصل الثامن في الطرد والمراد منه الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع فهذا هو المراد من الاطراد والجريان وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا ومنهم من بالغ فقال مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية احتجوا على التفسير الأول بوجهين الأول أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور(5/221)
الثاني أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير غلب على ظننا كون
القاضي في دار الأمير وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة احتج المخالف بأمرين أحدهما أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع فإذا أثبتم حصول الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة وبينتم عليته بكونه مطردا لزم الدور وهو باطل وثانيهما أن الحد مع الحدود والجوهر مع العرض وذات الله تعالى مع صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية الجواب عن الأول إنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية حتى يلزم الدو ر بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية وحينئذ لا يلزم الدور(5/222)
وعن الثاني أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا كما أن الغيم الرطب دليل المطر ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا وأيضا المناسبة والدوران والتأثير والأيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ولم
يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا فكذا هاهنا وأما التفسير الثاني وهو أضعف التفسيرين فقد احتجوا عليه بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة وعلمنا حصول هذا الوصف وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف فإن علمنا بأنه لا بد للحكم من علة مع علمنا بوجود هذا الوصف يقتضيان اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف اذا لو لم يقتض ذلك لكان ذلك إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شئ أو لأجل أنه يسنده إلى شئ أخر والأول محال لأن اعتقاد أنه لابد من علة متناقض لعدم الاسناد والثاني محال لأن اسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط(5/223)
بشعور الذهن بغير ذلك الوصف وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور بغير ذلك الوصف محال فثبت بهذا أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية بلى عند الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما يقتضى ذلك الظن ونفى المعارض ليس على المستدل حجة المنكرين من وجهين الأول أن تجويزه يفتح باب الهذيان كقولهم في إزالة النجاسة مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن
وقال بعضهم في مسألة اللمس طويل مشقوق فلا تنتقض الطهارة بلمسة إلا كالبوق الثاني أن تعين الوصف المعين للعلة مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول في الدين لمجرد التشهى فيكون باطلا لقوله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات والجواب عن الأول أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة لأنا نقول مجرد المقارنة يفيد ظن العلية ولكن بشرط أن لا يخطر بالبال وصف آخر هو(5/224)
أولى بالرعاية منه ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل لأن نفى المعارض ليس من وظيفته وفي هذين المثالين إنما يبطل ذلك لأن العلم الضروري حاصل بوجود وصف آخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة علمنا أن هذا الوصف أولى بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه فإن قلت فهل يكفى في القدح في مثل هذا التعليل خطور وصف آخر بالبال قلنا لا لأن ذلك الوصف الآخر إما أن يكون متعديا إلى الفرع أو لا يكون فإن كان متعديا إلى الفرع فلم يضرنا لأن غرضنا من العلة المعرف وقيام معرف آخر لهذا الحكم لا يمنع من كون ما ذكرته معرفا له وإن لم يكن متعديا إلى الفرع كان التعليل بالوصف الذي ذكرته أولى
لأنا أمرنا بالقياس في قوله تعالى فاعتبروا والأمر بالقياس أمر بما(5/225)
هو من ضروراته ومن ضرورات القياس تعليل حكم الأصل بعلة متعدية فكان التعليل بما ذكرناه أولى من التعليل بما ذكره الخصم اللهم إلا أن يذكر الخصم وصفا آخر ويعديه إلى فرع غير الفرع الذي وقع الخلاف فيه فهناك يجب على المعلل الأشتغال بالترجيح وعن الثاني أنا بينا أن مجرد المقارنة دليل العلية ظاهرا فلم يكن القول به مجرد التشهي(5/226)
الفصل التاسع في تنقيح المناط قال الغزالي رحمه الله إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون باستخراج الجامع(5/229)
وقد يكون بإلغاء الفارق وهو أن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا وذلك لا تأثير له في الحكم ألبتة فيلزم اشتراك الفرع والأصل في ذلك الحكم وهذا هو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس واعلم أن هذا لا يمكن ايراده على وجهين الأول أن يقال هذا الحكم لابد له من مؤثر وذلك المؤثر إما القدر المشترك
بين الأصل والفرع أو القدر الذي أمتاز به الأصل عن الفرع والثاني باطل لأن الفارق ملغى فثبت أن المشترك هو العلة فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحكم فهذا طريق جيد إلا أنه استخراج العلة بطريق السبر لأنا قلنا حكم الأصل لابد له من علة وهى إما جهة الاشتراك أو جهة الامتياز والثاني باطل فتعين الأول(5/230)
وجهة الاشتراك حاصلة في الفرع فعلة الحكم حاصلة في الفرع فيلزم تحقق الحكم في الفرع فهذا هو طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت أصلا وثانيهما أن يقال هذا الحكم لابد له من محل ولا يمكن أن يكون ما به الامتياز جزءا من محل هذا الحكم فالمحل هو القدر المشترك فإذا كان ذلك المحل حاصلا في الفرع وجب ثبوت الحكم فيه مثل أن يقال ما به امتاز الإفطار بالأكل عن الإفطار بالوقاع ملغى فمحل الحكم هو المفطر فأينما حصل المفطر وجب حصول الحكم وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر فإنه إذا صدق أن هذا الرجل طويل صدق أن الرجل طويل لأن الرجل جزء من هذا الرجل ومتى حصل المركب حصل المفرد ثم لم يلزم من صدق قولنا الرجل طويل قولنا كل رجل طويل فكذا ها هنا(5/231)
الفصل العاشر في الطرق الفاسدة وهو طريقان الأول قال بعضهم الدليل على أن هذا الوصف علة عجز الخصم افساده وهو ضعيف لأنه ليس جعل العجر عن الإفساد دليلا على الصحة أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلا على الفساد بل هذا أولى لأنا لو أثبتنا كل مالا نعرف دليلا على فساده لزمنا إثبات مالا نهاية له وهو باطل أما لو لم نثبت كل مالا نعرف دليلا على صحته لزمنا أن لا نثبت مالا نهاية له وهو حق الثاني قال بعضهم هذا الذي ذكرته عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فوجب دخوله تحت قوله تعالى فاعتبروا(5/233)
وربما قيل هذا تسوية بين الأصل والفرع فيكون فيكون مأمورا به لقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل وهذا ضعيف أيضا لأن أقصى ما في الباب عموم اللفظ في هاتين الآيتين وتخصيص العموم بالإجماع جائز وأجمع السلف على أنه لا بد من دلالة ما على تعين الوصف للعلية وللمخالف أن ينكر هذا الإجماع(5/234)
الباب الثاني في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة وهي خمسة النقض وعدم التأثير والقلب والقول بالموجب والفرق(5/235)
الفصل الأول في النقض وفيه مسائل المسألة الأولى وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة وزعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته وزعم آخرون أن علية الوصف وإن ثبتت بالمناسبة أو الدوران لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع لم يقدح في عليته أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية ومنهم من قال لا يقدح أيضا(5/237)
لنا وجوه الأول
أن اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر فإن اعتبر لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض وهذا يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة بل بعضها وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل كان الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضا فإن قيل لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض قوله هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام العلة بل جزءا منها قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة في الحكم تقريره العلة إما أن تفسر بالداعي أو المؤثر أو المعرف أما المؤثر فإما أن يكون قادرا أو موجبا أما القادر فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض لأمور(5/238)
الأول أن الفعل في الأزل محال لأن الفعل ماله أول والأزل مالا أول له والجمع بينهما محال فإذن تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفى الأزل فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية فهو إذن
شرط صحة التأثير وثانيها أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضى الصعود إلى فوق بشرط أن لا يجره قادر أخر إلى أسفل فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي وثالثها أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم البياض فيه والعدم لا يكوم جزءا من المؤثر الحقيقي أما الموجب فهو أن الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع وسلامة الحاسة توجب الإدراك بشرط عدم الحجاب وأما الداعي فمن أعطى إنسانا لفقره فجاء أخر فقال لا أعطيه لأنه يهودى فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء(5/239)
الأول لأنه حين أعطى الفقير الأول لم تكن اليهودية خاطرة بباله فضلا عن عدمها ومالا يكون خاطرا بالبال لم يكن جزءا من الداعي فعلمنا أن عدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى أما المعرف فالعام المخصوص دليل على الحكم وعدم المخصص ليس جزءا من المعرف وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض وإن كان معتبرا لكنه ليس جزءا من العلة سلمنا كونه جزءا ولكن يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى بحث لفظي لا فائدة فيه لأن من جوز تخصيص العلة ومن لم يجوزه اتفقوا
على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم وأنتم أيضا سلمتم أن المعلل لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العدمى هل يسمى جزء العلة أم لا(5/240)
ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه والجواب قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض لم يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة بل جزءها قوله لو كان كذلك لزم جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود قلنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي امتنع جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود فحينئذ لا نقول إن عدم المعارض جزء العلة بل نقول إنه يدل على أنه حدث أمر وجودى انضم إلى ما كان موجودا قبل وحينئذ صار ذلك المجموع علة تامة فلم يلزم من قولنا العلة التامة إنما وجدت حال عدم المعارض أن يجعل عدم المعارض جزءا من العلة وإن فسرنا العلة بالمعرف لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من العلة بهذا التفسير كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز على الصدق قوله لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف لوجب على المتمسك بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات(5/241)
قلنا لا شك إنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصصات فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء فذلك يتعلق بأوضاع أهل الجدل والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز قوله إنه يصير الخلاف لفظيا قلنا لا نسلم فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة بل كاشفا عن حدوث جزء العلة ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك وإن فسرناها بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضا لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد العدمي الحجة الثانية في المسألة أنه لا بد وأن بين كون المقتضى مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد الضدين انتقاء الضد الأول فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد الأول لطريان اللاحق وإلا وقع الدور فلما كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضى عن أن يكون مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق المانع بالفعل وإلا وقع الدرو(5/242)
فيه فإذن المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته وقد
إنعقد الإجماع على إن ما يكون كذلك فإنه لا يصلح للعلية الحجة الثالثة الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضى القطع بكونه علة لذلك الحكم لكن وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضى القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم ثم أن الوصف الحاصل في الفرع كما أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص فليس إلحاقه بأحدهما أولى ما إلحاقه بالآخر ولما تعارضا لم يجز إلحاقه بواحد منهما فلم يجز الحكم عليه بالعلية قال المجوزون الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة فعند ذلك إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة وعثرنا صلى في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعا وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك المانع عملا بذلك الأصل أجاب المانعون بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضي فحيث لم يترتب الحكم عليه وجب الحكم بأنه ليس بعلة عملا بهذا الأصل فصار هذا الأصل(5/243)
معارضا للأصل الذي ذكرتموه وإذا تعارضا وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولا وهو عدم العلية قال المجوزون الترجيح معنا من وجهين الأول
أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه ولو اعتقدنا أنه مؤثر عملنا بما ذكرتم من الدليل من بعض الوجوه لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور ولا شك أن ترك العمل بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه الثاني هو أن الوصف الذي ندعى كونه مانعا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم والانتفاء حاصل معه فيغلب على الظن أن المؤثر في ذلك الانتفاء هو ذلك المانع وإذا ثبت استناد ذلك الإنتفاء إلى المانع امتنع استناده إلى عدم المقتضى إذا ثبت هذا فنقول معكم أصل واحد وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة ومعنا أصلان أحدهما أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل(5/244)
علة لثبوت الحكم فيه الثاني أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة لانتفاء الحكم فيها ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد أجاب المانعون عن الأول بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل عندنا المناسبة
مع الاقتران والاطراد دليل العلية فإن حذفتم وقال الاطراد عن درجة الاعتبار فهو أول المسألة وعن الثاني أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا أجاب المثبتون عن هذا من وجهين الأول أن العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم بهذا التفسير الثاني أن المانع علة لنفى الحكم لا لانتفائه والنفى عبارة عن منعه من الدخول في الوجود بعد كونه بعرضية الدخول(5/245)
أجاب المانعون عن الأول بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضى تعذر تعليله أيضا بالمانع لجواز أن يدل على المدلول الواحد دليلان أحدهما وجودى والآخر عدمى وعن الثاني أن تأثير المانع ليس في إعدام شئ لأن ذلك يستدعى سابقة الوجود وهاهنا الحكم لم يوجد ألبتة فيمتنع إعدامه فعلم أن المستند إلى المانع ليس إلا ذلك العدم السابق
احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه أحدها أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها كدلالة العام على جميع الأفراد وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة فكذا تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة وثانيها أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل إما أن يتوقف على اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر أو لا يتوقف والأول محال لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس(5/246)
فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر فيلزم الدور وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر فحينئذ لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم في هذا المحل انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر وثالثها العقلاء اجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض الصور لقيام دليل أقوى من الأول فيه مع أنه يجوز التمسك بالأول عند عدم المعارض فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد وإذا اتفق لبعض الناس أن قال له ظالم إن لبست هذا الثوب قتلتك فإنه يترك العمل بمقتضى الدليل الأول في هذه الصورة وإن كان يعمل بمقتضاه في غيرها من الصور وإذا ثبت حسن ذلك في العادة وجب حسنه في الشرع لقوله عليه
الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ورابعها أن العلة الشرعية أمارة فوجودها في بعض الصور دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة لأنه ليس من شرط كون الشئ أمارة على الحكم أن يستلزمه دائما فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر ثم عدم المطر في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة(5/247)
وخامسها أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضى ظن ثبوت الحكم فوجب العمل به بيان الأول أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء غلب على ظننا حرمة قتله وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية فضلا عن عدمها فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف يفيد ظن حرمة القتل وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضى لهذا الظن وإذا كان كذلك فأينما حصلت الإنسانية حصل ظن حرمة القتل وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به لأن العمل بالظن واجب وسادسها إن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن القياس وعن ابن عباس مثله ولم ينقل عن أحد أنه أنكر ذلك عليهما وذلك يفيد انعقاد الإجماع وسابعها
أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم(5/248)
وفي صورة التخصيص المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم فلو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضى كنا قد تركنا العمل بذينك الأصلين لكنا عملنا بأصل واحد وهو أن الأصل أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى أما لو أضفنافي صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع كنا عملنا بذينك الأصلين وخالفنا أصلا واحدا وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين أولى من العكس فإحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على عدم المقتضى والجواب عن الأول أن نقول ما الجامع ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا على الحكم أما العلة فإن دلالتها موقوفة على عدم المخصص وذلك العدم لا يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات أما أولا فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودى(5/249)
والذين جوزوه قالوا إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا فلا جرم وجب
ذكره في أول الأمر ليعرف أنه هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم أم لا وعن الثاني أنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي كان شرط كونه علة للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال لأن العلة إنما توجب الحكم لماهيتها ومقتضى الماهية أمر واحد فإن كانت تلك الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع وجب كونها كذلك في كل المواضع وإلا فلا وعن الثالث إنه لا نزاع فيما قالوه لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وبين صورة التخصيص قيد على العلة وهم ما أقاموا الدلالة على فساد ذلك وعن الرابع أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم فإن من رأى الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر في بعض الأوقات ثم رآه مرة أخرى فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في(5/250)
المرة الأولى وذلك لا يقدح في قولنا وعن الخامس أنه مسلم لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة وعن السادس
هب أنهم قالوا ذلك لكنهم لم يقولوا التمسك بذلك القياس جائز أم لا وعن السابع ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا المسألة الثانية في كيفية دفع النقض هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين أحدها المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض والثاني المنع من عدم الحكم أما القسم الأول ففيه أبحاث أحدها المستدل إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض لم يمكن(5/251)
المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها لأنه انتقال إلى مسألة أخرى بلى لو قال المعترض ما دللت به على وجود المعنى في الفرع يقتضى وجوده في صورة النقض فهذا لو صح لكان نقضا على دليل وجود العلة في الفرع لا على كون ذلك الوصف علة للحكم فيكون انتقالا من السؤال الذي بدأ به إلى غيره وثانيها أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض إنما يمكن لو وجد قيد
في العلة يدفع النقض وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد أو معنيان فإن كان معناه واحدا فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا أو لا يكون مثال الظاهر قولنا طهارة عن حدث فتفتقر إلى النية كالتيمم فنقضه بإزالة النجاسة غير وارد لأنا نقول عن حدث وإزالة النجاسة لا تكون عن حدث مثال الخفي قولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه كالبيع ولا ينتقض بالكتابة لأنها ليست معاوضة لكنها عقد إرفاق أما إذا كان اللفظ له معنيان فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ أو بالاشتراك مثال التواطؤ قولنا عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن قيل ينتقض بالحج فإنه يتكرر على زيد وعمرو قلنا التكرار مقول على التكرار في الزمان وعلى التكرار في الأشخاص والأظهر هو الأول وهو مرادنا هاهنا(5/252)
مثال الاشتراك قولنا جمع الطلاق في القرء الواحد لا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن قيل ينتقض بما لو طلقها في الحيض قلنا أردنا بالقرء الطهر وثالثها أنه هل يجوز دفع النقض بقيد طردي أما الطاردون فقد جوزوه وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه
والحق أن لا يجوز لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا ولأنه لو جاز تقيده بالقيد الطردي لجاز تقييده بنعيق الغراب وصرير الباب وبالشخص أنه والوقت ولا نزاع في فساده القسم الثاني في منع عدم الحكم وفيه أبحاث أحدها أن انتفاء الحكم إن كان مذهبا للمعلل والمعترض معا كان متوجها وإن كان مذهبا للمعلل فقط كان متوجها أيضا لأن المعلل إذا لم يف بمقتضى علته في الإطراد فلأن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا للمعترض فقط لم يتوجه لأن خلاف المعترض في(5/253)
تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معا وثانيها ان المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا وهو معلوم وقد يكون خفيا وهو على وجهين الأول كقولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه فإن قيل ينتقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا في الإجارة بل تقدير المعقود عليه الثاني
كقولنا عقد معاوضة فلا ينفسخ بالموت كالبيع فإن قيل ينتقض بالنكاح قلنا هناك لا ينتقض بالموت لكن انتهى العقد وثالثها أن الحكم إما أن يكون مجملا أو مفصلا وكل واحد منهما إما في طرف الثبوت أو في طرف الانتفاء فهذه الأقسام أربعة(5/254)
الأول الإثبات المجمل والمراد أنا ندعي بثبوته ولو في صورة ما فهذا لا ينتقض بالنفي المفصل وهو النفي عن صورة معينة لأن الثبوت المجمل يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة الثاني النفي المجمل ومعناه أنه لا يثبت ألبتة ولا في صورة واحدة فهذا ينتقض بالثبوت المفصل لأن ادعاء النفي عن كل الصور يناقضه في صورة معينة الثالث الإثبات المفصل لا يناقضه النفي المفصل لأن الثبوت في صورة معينة لا يناقضه النفي في صورة أخرى لكن يناقضه النفي المجمل لأن الثبوت في صورة واحدة يناقضه النفي المجمل الرابع
النفي المفصل لا يناقضه الإثبات المفصل لما تقدم ولا الإثبات المجمل لأنه في قوة الإثبات المفصل بل يناقضه الإثبات العام ورابعها أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقيا لكنه يكون ثابتا تقديرا هل يكون ذلك دافعا للنقض مثاله إذا قال ملك الأم علة لرق الولد(5/255)
قيل ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية فإنه ينعقد ولده حرا فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا ولكنه موجودا تقديرا بدليل أن الغرم يجب على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع وإلا لما وجبت قيمة الولد المسألة الثانية وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة الفرع الأول إذا تخلف الحكم عن العلة لا لمانع فهل يقدح ذلك في صحة العلة أم لا قال قوم لا يقدح لأنا لم ندع في مثل هذه العلة كونها مستلزمة للحكم قطعا بل ادعينا كونها مستلزمة للحكم ظاهرا فتخلف الحكم عنها في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا فوجب أن لا يكون مفسدا للعلة والحق أنه مفسد للعلة لأن ذات العلة إما أن تكون مستلزمة للحكم أو لا تكون
فان كانت مستلزمة له وجب كونها كذلك أبدا ولو كانت كذلك أبدا(5/256)
لما زال هذا الحكم إلا لمزيل وذلك المزيل هو المانع فحيث زالت تلك المستلزمية لا لمزيل علمنا أن تلك الذات غير موصوفة بتلك المستلزمية فوجب أن لا يكون علة الفرع الثاني المتمسك بالعلة المخصوصة هل يجب عليه في ابتداء الدليل ذكر نفي المانع أم لا أما الذين قالوا لا يجب ذكره في الابتداء قالوا لأن المستدل مطالب بذكر ما يكون موجبا للحكم ومؤثرا فيه والموجب لذلك الحكم هو ذلك الوصف وأما نفي المانع فليس له دخل في التأثير وإذا كان كذلك لم يجب ذكره في الابتداء والذين قالوا يجب احتجوا بأن المستدل مطالب بذكر ما يكون معرفا للحكم والمعرف للحكم ليس تلك الأمارة فقط بل تلك الأمارة مع عدم المخصص وإذا كان كذلك وجب ذكرهما معا فمقتضى هذا الدليل بيان نفي كل الموانع ابتداءا إلا أن إيجاب ذلك يفضي إلى العسر والمشقة(5/257)
أما إيجاب نفي الموانع المتفق عليها فلا يفضي إلى ذلك فوجب أن يجب ذكره المسألة الرابعة
في أن النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء هل يقدح في العلة أم لا قال قوم إنه لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدم على جناية لا يؤاخذ بضمانها ثم هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة وأما المظنونة فكالتعليل وهو بالطعم فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازما على جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل كالقوت والكيل والمال والطعم وإنما قلنا إن الوارد مورد الاستثناء لا يقدح في العلة لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأمور الأربعة ومسألة العرايا ورادة عليها أربعتها صلى الله عليه وسلم فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة(5/258)
وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ فقد اختلفوا فيه والأولى الاحتراز منه المسألة الخامسة الكسر نقض يرد على المعنى دون اللفظ كما إذا قال في وجوب صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم وأن المؤثر هو وجوب القضاء فينقضه بصوم الحائض فإنه يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه
وأعلم أن المعترض ما لم يبين إلغاء القيد الذي به وقع الاحتراز عن النقض لا يمكنه إيراد النقض على الباقي فيكون ذلك في الحقيقة قدحا في تمام العلة لعدم التأثير في جزءها بالنقض(5/259)
الفصل الثاني في عدم التأثير وهو عبارة عما إذا كان الحكم يبقى بدون ما فرض علة له وأما العكس فهو أن يحصل مثل هذا الحكم في صورة أخرى لعلة تخالف العلة الأولى وإذا عرق هذا فنقول الدليل على أن عدم التأثير يقدح في كون الوصف علة هوأن الحكم لما بقى بعد عدمه وكان موجودا قبل وجوده علمنا استغناءه عنه والمستغني عن الشئ لا يكون معللا به واعلم أن هذا حق إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلا لجواز أن كون الحادث معرفا لوجود ما كان موجودا قبله ويبقى موجودا بعده كالعالم مع البارى تعالى وإما أن العكس غير واجب في العلل فهو قولنا وقول المعتزلة وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوا في العلل الشرعية(5/261)
والدليل على عدم وجوبه في العلل العقلية أن المختلفين يشتركان في كون كل واحد منهما مخالفا للأخر وتلك المخالفة من لوازم
ماهيتهما واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على قولنا والذي يدل على جواز ذلك في العلل الشرعية أنا سنقيم الدلالة على جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات وذلك يوجب القطع بأن العكس غير معتبر(5/262)
الفصل الثالث في القلب وفيه مسائل المسألة الأولى في حقيقته وحقيقتة أن يعلق على العلة المذكورة في قياس نقيض الحكم المذكور فيه ويرد إلى ذلك الأصل بعينه وإنما شرطنا إتحاد الأصل لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان ذلك الأصل الآخر إما أن يكون حاصلا في الأصل الأول أو لا يكون فإن كان الأول كان رده إليه أولى لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر وإن كان الثاني كان أصل القياس الآخر نقضا على تلك العلة لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم ذلك الحكم المسألة الثانية منهم من أنكر إمكانه لوجهين(5/263)
الأول أن الحكم الذي علقه القالب على العلة لابد وأن يكون مخالفا للحكم الذي علقه القائس عليها وإلا لما كان إلا تكريرا في اللفظ ثم إن ذينك الحكمين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا يمكن فإن كان الأول لم يقدح ذلك في العلة لأنه لا امتناع في أن يكون للعلة الواحدة حكمان غير متنافيين والثاني محال لأنا بينا أن الأصل الذي يرد إليه القالب والقائس لابد وأن يكون واحدا والصورة الواحدة يستحيل أن يحصل فيها حكمان متنافيان الثاني أن العلة المستنبطة لابد وأن تكون مناسبة للحكم والوصف الواحد يستحيل أن يكون مناسبا لحكمين متنافيين والجواب عن الأول أن هاهنا احتمالا آخر وهو أن لا يكون الحكمان متنافيين فلا جرم يصح حصولهما في الأصل لكن دل دليل منفصل على امتناع اجتماعهما في الفرع فإذا بين القالب أن الوصف الحاصل في الفرع(5/264)
ليس بأن يقتضى أحد الحكمين أولى من الآخر كان الأصل شاهدا لهما بالاعتبار لما بينا أنه لا منافاة بينهما في الأصل ويقتضى امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنه ليس حصول أحدهما أولى من الآخر وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع وهذا الكلام كما أنه جواب عن شبهة المنكر فهو دليل إبتداءا
على إمكان القلب وعن الثاني أن المناسبة قد لا تكون حقيقية بل إقناعية فبالقلب ينكشف أنها ما كانت حقيقية المسألة الثالثة القلب معارضة إلا في أمرين أحدهما إنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن الثاني إنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه هو أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات وأما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في(5/265)
تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القالب مناقضا للحكم لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب المسألة الرابعة القالب إما أن يذكر القلب لإثبات مذهبه أو لإبطال مذهب خصمه والأول مثل أن يقول الحنفي في أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بدون الصوم قربة كالوقوف بعرفة فيقول
القالب لبث مخصوص فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل ويتنافيان في الفرع وأما الثاني فإما أن يدل القالب على فساد مذهبه صريحا أو ضمنا وهو أن يدل على فساد لازم من لوازم مذهب الخصم مثال الأول قول الحنفي في المسح ركن من أركان الوضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما يقع عليه الاسم كالوجه فيقول القالب فوجب أن لا يتقدر الفرض فيه بالربع كالوجه وهذان الحكمان لا يتناقضان في ذاتيهما لأنهما حصلا في الوجه ولكن يتنافيان في الفرع بواسطة اتفاق الإمامين(5/266)
مثال الثاني قولهم في بيع الغائب عقد معاوضة فيعقد مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقول القالب فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع وهذان الحكمان غير متنافيين في الأصل لأنه اجتمع في النكاح الصحة وعدم الخيار لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع وقال بعضهم هذا النوع من القلب غير مقبول لأن دلالة الوصف على ثبوت الحكم لا بواسطة أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة وأعلم أنه يقع في هذا النوع شئ يسمى قلب التسوية مثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فيقول القالب فوجب أن يستوى حكم إيقاعه وإقراره
كالمختار وبعضهم قدح فيه بأن قال الحاصل اعتبارهما معا في الثبوت في الأصل وفي الفرع عند القالب عدم وقوعهما معا فكيف تتحقق التسوية(5/267)
جوابه أن عدم الاختلاف بين الحكمين حاصل في الفرع والأصل لكن في الفرع في جانب العدم وفي الأصل في جانب الثبوت وذلك لا يقدح في الاستواء في الأصل(5/268)
الفصل الرابع في القول بالموجب وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف وهو يقع في جانب النفي على وجه وفي جانب الإثبات على وجه أخر أما في جانب النفي فإذا كان المطلوب نفى الحكم واللازم من دليل المعلل كون شئ معين غير موجب لذلك الحكم كما لو قال الشافعى في المثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فيقول السائل إن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص فلم لا يمتنع وجوب القصاص بسبب آخر ثم أن المستدل لو بين بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم(5/269)
تسليم محل النزاع كان منقطعا أيضا لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل بل ذكر أحد أجزاء الدليل وأما جانب الثبوت فكما لو كان المطلوب إثبات الحكم في الفرع واللازم من دليل المعلل ثبوته في صورة ما من الجنس كما لو قال في وجوب الزكاة في الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فيجب فيه الزكاة قياسا على الإبل فقال أقول بموجبه إنه تجب فيه زكاة التجارة والخلاف واتقع إذا في زكاة العين ومقتضى دليلك وجوب أصل الزكاة(5/270)
الفصل الخامس في الفرق والكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم الواحد بعلتين هل يجوز أم لا وفيه مسألتان المسألة الأولى يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم لنا أن الردة والقتل والزنا كل واحد منها لو انفرد كان مستقلا باقتضاء حل القتل ثم إنه يصح اجتماعها فعند اجتماعها يكون حل الدم حاصلا بها جميعا فإن قيل لا نسلم أن هناك حكما واحدا بل أحكاما كثيرة فإن حل(5/271)
القتل بسبب الردة غير حله بسبب القتل والدليل عليه وجهان الأول
أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب القتل والزنا ثم إذا عفا ولى الدم زالت الإباحة الحاصلة بسبب القتل وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب الزنا الثاني أن القتل المستحق بسبب القتل يجوز العفو عنه لولى الدم والقتل المستحق بسبب الردة لا يتمكن الولى من إسقاطه وذلك يدل على تغاير الحكمين سلمنا أن الحكم واحد ولكن لا نسلم أنه يمكن حصول هذه الأسباب الثلاثة دفعة واحدة ولم لا يجوز أن يقال لابد وأن يحصل منها واحد قبل حصول البواقي وحينئذ يكون الحكم محالا على السابق سلمنا إمكان حصولها دفعة واحدة لكن لم لا يجوز ان يقال إنها بأسرها مشتركة في وصف واحد والعلة هو ذلك المشترك فتكون علة الحكم شيئا واحدا سلمنا أنه ليس هناك قدر مشترك لكن لم لا يجوز أن يقال شرط كون كل واحد منها علة مستقلة انتفاء الغير فإذا وجد الغير زال شرط الاستقلال بالعلية فحينئذ لا يكون كل واحد منها علة تامة عند الاجتماع بل يصير كل(5/272)
واحد منها عند الاجتماع جزء العلة والمجموع هو العلة التامة سلمنا أن ما ذكرته يدل على تعليل الحكم الواحد بعلتين لكن
معنا ما يمنع منه وهو وجوه ثلاثة الأول أن جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين يفضى إلى نقض العلة وذلك باطل على ما مر فما أفضى إليه مثله بيان الملازمة أنه إذا كان للحكم الواحد علل كثيرة فإذا وجد منها واحدة حتى حصل الحكم ثم وجدت العلة الثانية بعد ذلك فهذه الثانية إما أن توجب حكما يماثل الحكم الأول أو يخالفه أو لا توجب حكما أصلا والأول يقتضى اجتماع المثلين وهو محال والثاني والثالث يوجب النقض لأنه وجدت تلك العلة من غير ذلك الحكم الثاني أن العلة الشرعية مؤثرة بجعل الشرع إياها مؤثرة في ذلك الحكم فإذا اجتمع على المعلول الواحد علتان فإما أن تكون كل واحدة من العلتين مؤثرة في بعض ذلك الحكم أو في كله والأول محال أما أولا فلأن الحكم الواحد لا يتبعض وأما ثانيا فلأن ذلك إخراج لكل واحدة من العلتين عن أن تكون موجبة للحكم(5/273)
وأما ثالثا فلأن على هذا التقدير معلول كل واحدة منهما غير معلول الأخرى
وأما الثاني فباطل أيضا لأن الحكم لما وقع بإحدى العلتين استحال وقوعه بالأخرى لاستحالة إيقاع الواقع الثالث أن العلة لابد وأن تكون مناسبة للحكم فلو كانت علة لحكمين لكانت مناسبة لشيئين مختلفين فيلزم كون الشئ الواحد مساويا لمختلفين والمساوى لمختلفين مختلف فالشئ الواحد يكون مخالفا لنفسه وهو محال والجواب قوله لا نسلم وحدة الحكم قلنا الدليل عليه أن إبطال حياة لشخص الواحد أمر واحد وهذا الأمر الواحد إما أن يكون ممنوعا عنه من قبل الشرع بوجه ما أو لا يكون ممنوعا عنه بوجه ما والأول هو الحرمة والثاني هو الحل فإذا كانت الحياة واحدة كانت إزالتها أيضا واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدة فإن قلت الفعل الواحد يجوز أن يكون حراما من وجه حلالا من وجه وإذا(5/274)
كان كذلك جاز أن يتعدد الحل لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث إنه مرتد ومن حيث إنه زان ومن حيث إنه قاتل قلت القول بأن الفعل الواحد حرام من وجه حلال من وجه غير معقول لأن الحل أن يقول الشارع مكنتك من هذا الفعل ولاتبعة فقال عليك في فعله أصلا وهذا المعنى إنما يتحقق إذا لم يكن فيه وجه يقتضى المنع
أصلا بلى ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وحركة وعرضا لا يقتضى الحرمة إذا ثبت ذلك فنقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري قوله الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقى الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحل معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة فإن قلت إذا كان الحل باقيا سواء وجدت الردة أو زالت كان ذلك الحل غنيا في نفسه عن الردة والغنى عن الشئ لا يكون معللا به قلت لما كانت العلة عندى عبارة عن المعرف زال عنى الإشكال قوله ولى الدم مستقل بإسقاط أحد الحكمين قلنا لا نسلم بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال ذلك السبب زال انتساب ذلك الحكم إلى ذلك السبب فأما أن يزول الحكم نفسه فهذا ممنوع(5/275)
قوله لا نسلم جواز اجتماع هذه العلل قلنا هذا مكابرة لأنه لا منافاة بين ذوات هذه الأمور فيصح اجتماعها ونحن نبني الكلام على تقدير وقوع ذلك الجائز قوله العلة هي القدر المشترك بين كل هذه الأمور قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض مانع من الوطء وكذا العدة والإحرام والقول بأن العلة هي القدر المشترك مخالف لهذا الإجماع
وأما ثانيا فلأن الحيض وصف حقيقي والعدة أمر شرعي والأمر الحقيقي لا يشارك الأمر الشرعي إلا في عموم أنه أمر فلو كان هذا القدر هو العلة للمنع من الوطء لا تنتقض بالطم والرم قوله شرط كون كل واحد منها علة مستقلة عدم الآخر قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض يمنع من الوطء شرعا وذلك يقتضى أن تكون علة سواء وجد هذا القيد العدمي أم لا أما المعارضة الأولى فجوابها أن الحكم الحاصل بالعلة السابقة إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلم قلت إنه يمتنع وأما الثانية في مبنية على أن ما لا يكون مؤثرا في الحكم لذاته يجعله(5/276)
الشارع مؤثرا فيه وقد تقدم إبطال هذه القاعدة وأما الثالثة فلا نسلم أن المناسبة شرط العلية ولو سلمناها فلم لا يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة ثم إن العلة تناسبهما بحسب ذلك الوجه الواحد وأعلم أنه يمكن فرض الكلام في صورة يسقط عنها كثير من الأسئلة وهى ما إذا جمعت لبن زوجة أخيك وأختك وجعلته في حلق المرتضعة دفعة واحدة فإنها تحرم عليك لأنك خالها وعمها ولا تتوجه في هذه الصورة أكثر تلك الأسئلة المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والدليل عليه وجهان
الأول أن الإنسان إذا أعطى فقيرا فقيها احتمل أن يكون الداعي له إلى الإعطاء(5/277)
كونه فقيرا فقط أو كونه فقيها فقط أو مجموعهما أو لا لواحد منهما فهذه الاحتمالات الأربعة متنافية لأن قولنا الداعي له إلى الإعطاء هو الفقر لا غير ينافي أن يكون غير الفقر داعيا أو جزءا من الداعي وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوى أمتنع الحصول ظن حصول كل واحد منها على التعيين فلا يجوز الحكم بكونه علة وإن ترجح بعضها فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء المناسبة والاقتران لأن ذلك مشترك بين الأربعة وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح الثاني أن الصحابة أجمعوا على قبول الفرق لأن عمر لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة قال إنك مؤدب ولا أرى عليك شيئا فقال على(5/278)
إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة وجه الاستدلال به إن عبد الرحمن شبهه بالتأديب المباح وأن عليا فرق بينه وبين سائر التأديبات بأن التأديب الذي يكون من جنس التعزيزات لا تجوز فيه المبالغة المنتهية إلى حد الإتلاف وذلك يدل على إجماعهم على قبول الفرق وهو يقدح في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والله أعلم(5/279)
الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وقبل الخوض في تلك الأشياء نذكر تقسيمات العلة التقسيم الأول كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفس ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو عرفيا أو لغويا والعقلى إما أن يكون صفة حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب من هذه الأقسام وهى الصفة الحقيقية مع الإضافية أو مع السلبية(5/281)
مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط مطعوم فيكون ربويا مثال الإضافية قولنا مكيل فيكون ربويا مثال السلبية قولنا في طلاق المكره لم يرض به فلا يقع مثال الحقيقية مع الإضافية قولنا بيع صدر من الأهل في المحل
مثال الحقيقية مع السلبية قولنا قتل بغير حق مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا قولنا قتل عمد عدوان مثال الوصف الشرعي قولنا في المشاع يجوز بيعه فتجوز هبته مثال العرفي قولنا في بيع الغائب أنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف مثال الاسم قولنا في النبيذ أنه مسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب وأعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل إن كان بعلة قاصرة وجب أن يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره وأن لا يحصل الحكم في ذلك المشارك فتصير القاصرة متعدية(5/282)
وإن كان بعلة متعدية وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره وإلا لم توجد تلك العلة في غيره فتصير العلة المتعدية قاصرة التقسيم الثاني العلة وا لحكم إما أن يكونا ثبوتيين أو عدميين وهذان القسمان لا نزاع في صحتهما وإما أن يكون الحكم ثبوتيا والعلة عدمية وفيه نزاع وإما أن يكون الحكم عدميا والعلة ثبوتية وهذا يسميه الفقهاء تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل من شرطه وجود المقتضي التقسيم الثالث العلة إما أن تكون فعلا للمكلف كالقتل الموجب للقصاص أو لا تكون كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا
التقسيم الرابع الوصف المجعول علة أما ان يكون لازما للموصوف ككون البر مطعوما(5/283)
أو لا يكون فحينئذ يكون متجددا وذلك المتجدد إما أن يكون ضروريا بحسب العادة وهو مثل انقلاب العصير خمرا والخمر خلا أو لا يكون وهو إما أن يكون متعلقا بأختيار أهل العرف ككون البر مكيلا أو بأختيار الشخص الواحد كالردة والقتل التقسيم الخامس العلة إما أن تكون ذات أوصاف كقولنا قتل عمد عدوان أو لا تكون كقولنا التفاح مطعوم فيكون ربويا التقسيم السادس العلة قد تكون وجه المصلحة ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء وكون الخمر موقعة للبغضاء وقد تكون أمارة المصلحة كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في فساد البيع مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع الجهالة من تعذر التسليم ألا ترى أن جواز البيع ثابت حيث لا تمنع الجهالة من صحة التسليم كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة تسليمها وإن كان مجهول القدر(5/284)
التقسيم السابع
الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة ككون الخمر مسكرا أو مطربا وذلك إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين ككون الجماع في نهار رمضان مفسدا للصوم وقد لا يكون كذلك وأمثلته ظاهرة المسألة الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية فإن كان الأول صح التعليل بمحل الحكم سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا فإن قلت لو كان محل الحكم علة للحكم لكان الشئ الواحد فاعلا وقابلا معا وهو محال لوجهين الأول أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كون فاعلا ولذلك صح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر فهذان المفهومان إما أن يكونا داخلين في ذلك الشئ أو خارجين عنه أو أحدهما داخلا والآخر خارجا فإن كان الأول كان ذلك الشئ مركبا في نفسه والجزء الذي هو ملحوق(5/285)
الفاعلية غير الجزء الذي هو ملحوق القابلية فلا يكون الشئ الواحد قابلا
وفاعلا وإن كان الثاني كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين لها وكل لاحق معلول فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق لآخر ويكون الكلام في هذين المفهومين كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وإن كان أحدهما داخلا في الماهية والآخر خارجا عنها لزم كون الماهية مركبة لأن كل ماله جزء فهو مركب ولزم أن يكون إما الفاعلية أو القابلية جزءا من الماهية وذلك محال لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها والنسبة بين الشئ وبين غيره خارجة عن الماهية والخارج عن الشئ لا يكون داخلا فيه فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية الثاني وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ونسبة المؤثر إلى الأثر نسبة الوجوب فلو كان الشئ الواحد بالنسبة إلى الشئ الواحد مؤثرا وقابلا لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا وهو محال(5/286)
قلت قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة وأما إن كانت العلة متعدية لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم لأن العلة المتعدية هى التي توجد في غير مورد النص وخصوصية مورد النص يستحيل حصولها في غيره لأن الشئ لا يكون نفس غيره المسألة الثانية الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا جاز التعليل به
أما الذي لا يكون كذلك مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة وهى التي يسميها الفقهاء بالحكمة فقد اختلفوا في جواز التعليل به والأقرب جوازه لنا أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكمة المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد لا محالة من ذنيك الظنين ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب على ما تقدم فإن قيل لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل بتلك الحكمة ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى أنه(5/287)
يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى لكن النزاع في أن ذينك الظنين هل هما ممكنا الحصول أم لا وأنتم ما دللتم على جوازه ونحن نبين امتناعه من وجوه الأول أن الحكم إما يعلل بالحاجة المطلقة أو يعلل بالحاجة المخصوصة والأول باطل وإلا لكان كل حاجة معتبرة والثاني أيضا باطل لأن الحاجة أمر باطن فلا يمكن الوقوف على مقاديرها وامتياز كل واحدة من مرابتها التي لا نهاية لها عن المرتبة
الأخرى وإذا تعذر تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين الثاني لو صح تعليل الحكم بالحكمة لما صح تعليله بالوصف وتعليله بالوصف جائز فتعليله بالحكمة غير جائز بيان الملازمة أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد لإنعقاد الإجماع على أن الشرائع مصالح إما وجوبا كما هو قول المعتزلة أو تفضلا كما هو قولنا(5/288)
وإذا كان كذلك فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة أما الوصف فليس بمؤثر ألبتة وإنما جعل مؤثرا لاشتماله على الحكمة التي هي المؤثرة إذا ثبت هذا فنقول لو أمكن إستناد الحكم إلى الحكمة لما جاز استناده إلى الوصف لأن كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف لأن القادح في الأصل قادح في الفرع وقد يوجد ما يقدح في الوصف ولا يكون قادحا في الحكمة لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل فاستناد الحكم إلى الوصف مع إمكان استناده إلى الحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة إليه وإنه لا يجوز ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز لتعذر التعليل بالحكمة الثالث لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلب الحكمة والطلب لها غير
واجب فالتعليل بها غير جائز بيان الملازمة أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص ولا يمكنه القياس إلا عند وجدان العلة ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فإذن طلب العلة واجب وإذا كانت الحكمة علة كان طلبها واجبا بيان أن طلب الحكمة غير واجب أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات والحاجات أمور باطنة(5/289)
لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة فوجب أن لا تكون هذه المعرفة واجبة لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج الرابع أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف لا بالحكم لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية كالبيع والنكاح والهبة عارية عن المصالح لاستندت أي الأحكام إليها ولو فرضنا حصول المصالح دون هذه الأوصاف لم تثبت بها الأحكام الملائمة لها وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم الخامس الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة لقوله تعالى إن بعض الظن إثم وقوله إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في الأوصاف الجلية لظهورها والحاجة ليست كذلك فتبقى على الأصل السادس
أن الحكمة تابعة للحكم لأن الزجر تابع لحصول القصاص وعلة الشئ يستحيل تأخيرها عن الشئ فالحكمة لا تكون علة للحكم والجواب قوله ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل معلل بالحكمة(5/290)
قلنا لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة والمعنى بذلك أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة على كونه علة فلا يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة أو اشتماله على مصلحة معينة والأول باطل وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة كيف كانت علة لذلك الحكم ولما بطل القسم الأول تعين الثاني فنقول إما أن يمكن الاطلاع على المصلحة المخصوصة أو لا يمكن فإن امتنع الاطلاع على المصلحة المخصوصة امتنع الاستدلال بكون الوصف مشتملا عليها على كونه علة لأن العلم بإشتمال الوصف عليها موقوف على العلم بها وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال علمنا أن الإطلاع على خصوصيتها ممكن وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله المصالح أمور باطنة فلا يمكن الاطلاع عليها قوله لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف قلنا التعليل بالحكمة وإن كان راجحا على التعليل بالوصف من
الوجه الذي ذكرت فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر وهو سهولة الاطلاع على الوصف وعسر الاطلاع على الحكمة فلما(5/291)
كان كل واحد منهما راجحا من وجه مرجوحا من وجه آخر حصل الاستواء قوله لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها قلنا نحن وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم لكنا اتفقنا على أن كون الوصف علة للحكم معلل بالحكمة فان لم يقتض ذلك وجوب طلب الحكمة فقد بطل قولك وإن اقتضى وجوب طلبها فقد بطل قولك أيضا قوله الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف لا بالحكمة قلنا لا نسلم بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة مثل التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر وكذا الفرق بين العمل اليسير والكثير قوله النافي للقياس قائم ترك العمل به في الوصف لظهوره قلنا الحكمة علة لعلية الوصف فأولى أن تكون علة للحكم قوله الحكمة ثمرة الحكم قلنا في الوجود الخارجي لا في الذهن ولهذا قيل أول الفكر آخر العمل نكتة أخرى في المسألة الحكمة علة لعلية العلة فأولى أن تكون علة للحكم(5/292)
بيانه أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم إلا لاشتماله على جلب نفع أو دفع مضرة فكونه علة معللة بهذه الحكمة فإن لم يكن العلم بتلك الحكمة المخصوصة استحال التوصل به الجعل الوصف علة وإن أمكن ذلك وهو مؤثر في الحكم والوصف ليس بمؤثر كان لإسناد الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر(5/293)
المسألة الثالثة المعللون بالحكمة لما قيل لهم أن الحكمة مجهولة القدر فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع دون حاجته في مقطع زمان الجوع ولما كان الغالب فيها التفاوت لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في الفرع فلم يصج القياس فمن الناس من أجاب عنه بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة وفي الفرع قدر معين وكل مقدارين فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين وذلك القدر المشترك يناسب التعليل به لكونها مصلحة مطلوبة الوجود فإذا قيل لهم إنه ينتقض بالحاجة الفلانية فإنها غير معتبرة قالوا نحن إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك حاصل في صورة النقض واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل والحاصل في الفرع اشتراك إلا
في مسمى كونه مصلحة والتعليل بهذا المسمى غير ممكن وإلا حصل(5/294)
النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم وأما الاشتراك بين القدرين في أمر آخر وراء عموم كونه مصلحة فغير معلوم ولا مظنون وإذا كان وجوده غير ظاهر لم يكن التعليل به ظاهرا المسألة الرابعة يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء لنا أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات والدوران يفيد ظن العلية والعمل بالظن واجب احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه أحدها أن العلية مناقضة للاعلية المحمولة على العدم فاللا علية عدمية والعلية ثبوتية فلو حملناها على العدم المحض كان النفى المحض(5/295)
موصوفا بالصفة الوجودية ولو جوزنا ذلك لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته وحصوله في الحيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا وهو سفسطة وثانيها أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداعي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك ولا تعين ذلك
حاصلا لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض ولأنه لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يقال المؤثر في العالم عدم صرف ليست أقول ذات معدومة على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شئ لأن ذلك عندهم ثابت بل الإلزام أن نجعل النفي المحض الذي لا يكون ذاتا ولا عينا ولا أمرا من الأمور مؤثرا في العالم وذلك مما يسد باب إثبات الصانع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وثالثها أن العدم إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن له اختصاص بذات دون ذات وبوقت دون وقت فلا يجوز جعله علة لحكم معين في وقت معين وفي شخص معين وإن كان له انتساب بوجه ما كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه نقيضا للانتساب فيلزم وصف العدم بالوجود وهو محال(5/296)
ورابعها أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة وذلك يدل على أن الوصف العدمى لا يصلح للعلية وخامسها قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والعدم نفي محض فلا يكون من سعيه فوجب أن لا يترتب عليه حكم فإن كل حكم يثبت فإنه يحصل للإنسان بسببه إما جلب منفعة أو دفع مضرة فثبت أن الوصف العدمى لا يمكن أن يكون علة
فإن قلت الامتناع عن الفعل عدم مع أنه قد يكون مأمورا به ويكون منشأ للمصالح ودفع المفاسد قلت الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان فيترتب عليه عدم ذلك الشئ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا والجواب عن الأول ما ذكرتموه من الدلالة على أن العلية صفة ثبوتية معارض بدليل آخر وهو أنها لو كانت ثبوتية لكانت من عوارض ذات العلة فكانت مفتقرة إلى تلك الذات وكانت ممكنة وكانت مفتقرة إلى العلة فكانت علية العلة(5/297)
لتلك العلة زائدة عليها ولزم التسلسل وعن الثاني نسلم أنه لابد وأن تكون العلة متميزة عما ليس بعلة لكن لا نسلم أن التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه وعدم ما ليس بضد ليس كذلك وأيضا عدم اللازم يقتضى عدم الملزوم وعدم ما ليس بلازم لا يقتضي ذلك فقد حصل الامتياز في العدمات وعن الثالث أن العلة عدم مخصوص قوله فالخصوصية صفة قائمة بالنفى المحض قلنا لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا لكانت في نفسها أمرا مخصوصا فلزم التسلسل
وعن الرابع لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف العدمية(5/298)
سلمنا ذلك لكن إسقاط ذلك التكليف لتعذره فإن العدمات غير متناهية وعن الخامس أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع فدل على أن العدم قد يكون متعينا قوله الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم قلنا لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم لكان الممتنع عن الفعل فاعلا وذلك محال المسألة الخامسة للمانعين من التعليل بالعدم أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية محتجين بأنها عدم والعدم لا يكون علة وإنما قلنا إنها عدم لأن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا وإذا لم يكن المسمى وجوديا امتنع أن يكون شئ من الإضافات المخصوصة أمرا وجوديا وإنما قلنا أن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا لأنه لو كان هذا المسمى وجوديا لكان أينما حصل هذا المسمى كان وجوديا فإذا فرضنا في إضافة ما كونها أمرا وجوديا كانت لا محالة صفة لمحل(5/299)
فكان حلولها في ذلك المحل إضافة بينها وبين ذلك المحل فكان مسمى الإضافة حاصلا في حلول تلك الإضافة في ذلك المحل وإذا كان ذلك المسمى أمر وجوديا كانت إضافة الإضافة أمرا وجوديا زائدا على الإضافة إلى غير نهاية فثبت أن مسمى الإضافة يمتنع أن يكون وجوديا وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون شئ من الإضافات المخصوصة وجوديا لأن الإضافة المخصوصة ماهية مركبة من الإضافة ومن الخصوصية فلو كانت أمرا وجوديا لكان الوجود إما قيد الإضافة أو قيد الخصوصية والأول باطل لما تقدم والثاني أيضا باطل لأن خصوصية الإضافة صفة للإضافة فلو كانت الخصوصية أمرا ثبوتيا لزم حلول الوجود في النفى المحض وهو محال فثبت أن سائر الإضافات يمتنع أن يكون موجودا فهو معدوم والتعليل بالعدم غير جائز على ما تقدم(5/300)
والجواب لا نسلم أن الإضافات أمور عدمية والتسلسل مدفوع لاحتمال أن تكون الإضافة إلى محلها لذاتها وأن سلمنا أنها عدمية في الحقيقة لكنها ثبوتية في المعتقدات فيحسن جعلها علة للأحكام الشرعية وإن سلمنا كونه عدمية مطلقا ولكن لا نسلم أن الأمور الذهنية لا تصلح للعلية والله أعلم
المسألة السادسة تعليل الحكم الشرعي جائز خلافا لبعضهم لنا أن الدوران يفيد ظن العلية فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية واحتج المانعون بأن قالوا الدوران لا يفيد ظن العلية فيما له صلاحية العلة ولا نسلم أن(5/301)
الحكم الشرعي يصلح أن يكون علة للحكم الشرعي وبيانه بأمور أحدها أن الحكم الشرعي الذي فرض علة يحتمل كونه متقدما على الحكم الذي جعل معلولا ويحتمل كونه متأخرا ويحتمل كونه مقارنا وعلى تقدير التقدم لم يصلح للعلية وإلا لزم تخلف الحكم عن علته وعلى تقدير التأخر لم يصلح للعلية لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن تكون العلة هو وأن تكون غيره فإذن هو على التقديرات الثلاثة لا يكون علة وعلى تقدير واحد يكون علة ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر فوجب الحكم بأنه ليس بعلة وثانيها
أن تفسير العلة إما بالمعرف أو الداعي أو المؤثر فإن فسرناها بالمعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر لأن المعرف لحكم الأصل هو النص لا غيره(5/302)
وأما الثاني والثالث فباطلان لأن من يقول بالمؤثر والداعي يقول المؤثر والداعي جهات المفاسد والمصالح فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر أو داع خرق للإجماع وهو باطل وثالثها أن شرط العلة التقدم على المعلول وتقدم أحد الحكمين على الآخر غير معلول فإذن شرط العلية مجهول فلا يجوز الحكم بالعلية ورابعها أن الشرع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة فليس لأحدهما مزية على الآخر في الوجود والافتقار والمعلومية فليس جعل أحدهما على للأخر أولى من العكس فإما أن نحكم بكون كل واحدة منهما على للآخر وهو محال أو لا يكون واحد منهما على للآخر وهو المطلوب والجواب عن الأول لا نسلم أن بتقدير التأخر لا يصلح للعلية لأن المراد من العلة المعرف والمتأخر يجوز كونه معرفا للمتقدم وعن الثاني أنا نفسر العلة المعرف قوله الحكم محل النص معرف بالنص لا بغيره قلنا سبق الجواب عنه في مقدمة الباب الثاني
وعن الثالث لا نسلم أن التقدم شرط العلية على ما بيناه(5/303)
وعن الرابع نقول قوله ليس جعله علة للآخر بأولى من العكس قلنا لا نسلم فإنه ربما لا تتأتى المناسبة من الجانب الآخر وإن سلمنا ذلك فنقول إنه يجوز كون كل واحد منهما على لصاحبه بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه فرع إذا جوزنا تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فهل يجوز تعليل الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي ومثاله أن نعلل إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم الطلاق ويحل النكاح فيكون حيا كاليد والحق انه جائز لأن المراد من هذه العلة المعرف ولا يمتنع أن يجعل الحكم الشرعي معرفا للأمر الحقيقي المسألة السابعة يجوز التعليل بالأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة والكمال والنقصان ولكن بشرطين(5/304)
أحدهما أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره
والثاني أن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول ص وحينئذ لا يجوز التعليل به المسألة الثامنة يجوز التعليل بالوصف المركب عند الأكثرين وقال قوم لا يجوز لنا أن المناسبة مع الاقتران والدوران تفيد ظن العلية فيجب العمل به احتج المنكرون بأمور ثلاثة أحدها أن جواز التركيب في العلة يوجب تطرق النقض إلى العلة العقلية واللازم محال فالملزوم مثله بيان الملازمة أن كل ماهية مركبة فان عدم كل واحد من أجزائها علة لعدم علية تلك الماهية لأن كون الماهية علة صفة من صفات الماهية وتحقق الصفة يتوقف على تحقق الموصوف(5/305)
وإذا كانت كذلك كان عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة تامة لعدم علية تلك الماهية فإذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر لم يكن عدم هذا الجزء الثاني علة لعدم علية تلك الماهية لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول فلا يحصل مرة
أخرى بعدم الجزء الثاني فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية فقد وجد النقض في العلة العقلية لأن كون عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية أمر حقيقي سواء كانت علية الشئ عقلية أو وضعية فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يكون في الوجود ماهية مركبة لأن عدم كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك الماهية ويعود المحال قلت ليست الماهية أمرا وراء مجموع تلك الأجزاء فلم يكن عدم أحد تلك الأجزاء علة لعدم شئ آخر وأما علية الماهية فهى حكم زائد على ذات الماهية وعدمها معلل بعدم كل واحد من أجزاء الماهية فظهر الفرق وثانيها أن كون الشئ علة لغيره صفة لذلك الشئ سواء حصلت له تلك الصفة بذاته أو بالجعل(5/306)
فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا فإما أن يقال حصلت تلك الصفة بتمامها لكل واحد من تلك الأجزاء وهو محال أما أولا فلأنه يلزم الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وأما ثانيا فلأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء علة تامة لأنه لا معنى لكون الشئ علة إلا حصول العلية فيه وإما أن يقال حصل في كل واحد من أجزاء العلة جزء من تلك العلية وهذا أيضا محال لأنه يقتضي انقسام الصفة العقلية حتى يكون للعلية نصف
وثلث وربع وهو محال وثالثها أن كل واحد من تلك الأجزاء لم يكن علة فعند انضمامها إما أن يكون قد حدث أمر لم يكن أو ما كان كذلك فإن حدث أمر فالمقتضي لحدوث ذلك الأمر أما كل واحد من تلك الأجزاء أو مجموعها فإن كان الأول كان كل واحد من الأجزاء مستقلا بأقتضاء به العلية فوجب كون كل واحد منها علة تامة وذلك محال وإن كان الثاني كان الكلام في اقتضاء ذلك المجموع لذلك الأمر(5/307)
الحادث كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلية فيلزم أن يكون بواسطة حدوث شئ اخر ولزم التسلسل وهو محال وإن قلنا إنه لم يحدث أمر لم يكن حاصلا فتلك الأجزاء حالة الاجتماع كهى حالة الانفراد ولكنها حالة الانفراد ما كانت علة فكذا عند الاجتماع والجواب عن الأول أن النقض إنما يلزم لو جعلنا عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية وهو بناء على كون العدم علة وهو ممنوع وعن الثاني أن العلية ليست صفة ثبوتية وإلا لزم التسلسل على ما قررناه وإذا لم تكن صفة ثبوتية امتنع القول بأنها إما أن تحل كل واحد من الأجزاء بتمامها أو تنقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية
وعن الثالث أنه منقوض بكل واحد من العشرة فإنه ليس بعشرة وعند اجتماعها يكون المجموع عشرة فكذا هاهنا فرعان الأول نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله عن بعضهم أنه قال لا(5/308)
يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة الثاني في الفرق بين جزء العلة ومحلها وشرط ذات العلة وشرط عليتها وقبل الخوض فيه لا بد من حد الشرط وذكروا فيه وجهين الأول أنه الذي يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يكون جزءا من العلة والثاني أنه الذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم إذا عرفت ذلك فمن الناس من أنكر هذا الفرق ومنهم المثبتون للطرد والمنكرون لتخصيص العلة واحتجوا عليه بأن العلة الشرعية ما يكون معرفا للحكم وهو إنما يكون معرفا للحكم عند اجتماع كل القيود من الشرط والإضافة إلى(5/309)
الأهل والمحل فيكون كل واحد من هذه القيود جزءا من المعرف للحكم فيكون جزءا من العلة
بلى لا ننكر لأن بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض فإن القتل له ذات وحقيقة ثم له صفة وهي إضافته إلى القاتل وإلى المقتول وذات القتل أقوى في الوجود من هذه الإضافات لاحتياجها إليه في الوجود وقد يكون بعض تلك القيود مناسبا دون البعض أو يكون بعضها أقوى في المناسبة من بعض ولكن مع تسليم هذا المقام فالمعتبر في تعريف الحكم هو المجموع وحينئذ لا يبقى بين جزء العلة وبين شرطها فرق وفائدة هذا البحث أنه إذا صدر بعض تلك الأجزاء عن إنسان وصدر الثاني عن إنسان آخر فإن كانت تلك الأجزاء متساوية في القوة والمناسبة اشتراكا وإلا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى وهذه الفائدة حاصلة سواء سميناها جزء العلة أو شرطها ومن الناس من سلم الفرق وزعم أن العلة إنما تعرف عليتها بالنص أو بالاستنباط فإن كان الأول فالقدر الذي دل النص على كونه مناطا للحكم هو العلة وسائر القيود التي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة نجعلها شرائط وإن كان الثاني فالذي يكون مناسبا هو العلة والذي يكون معتبرا في(5/310)
تحقق المناسبة ولا يكون كافيا فيها هو جزء العلة والذي لا يكون مناسبا ولا جزءا منه فهو الشرط هذا إذا عرفنا علية الوصف بالمناسبة أما إذا عرفناها بسائر الطرق لم يتجه هذا الفرق
المسألة التاسعة اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم مثل تعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمرا فإنا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامرا للعقل فذلك(5/311)
يكون تعليلا بالوصف لا بالاسم المسألة العاشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يجوز التعليل بالعلة القاصرة وهو قول أكثر المتكلمين وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز ووافقونا في العلة المنصوصة لنا أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها(5/312)
فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف على ذلك فقد صحت العلة في نفسها سواء كانت متعدية أو لم تكن فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن صحتها في نفسها لا تتوقف على صحة تعديتها بل على صحة وجودها في غير الأصل وحينئذ ينقطع الدور سلمنا ذلك ولكن وجد هاهنا ما يدل على فساد العلة القاصرة وهو من وجوه الأول أن العلة القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه كان عبثا وهو على
الحكيم غير جائز وإنما قلنا إنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هاهنا لأنه لا يمكن في القاصرة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل لأن ذلك معلوم في النص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل لأن ذلك إنما يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل فإذا لم يوجد امتنع حصول تلك الفائدة(5/313)
وإنما قلنا إن مالا فائدة فيه عبث وإن العبث غير جائز فذلك للإجماع الثاني الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة لأنه اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في العلة المعتدية لأن فيها فائدة وهى التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير محل النص وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة فوجب بقاؤها على الأصل الثالث العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شئ والعلة القاصرة لا تكشف عن شئ من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال صحة كونها علة موقوفة على صحة وجودها في غير ذلك المحل(5/314)
قلنا لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة حلول الشئ الواحد في محلين بل يكون مثله وإذا كان كذلك فنقول كل ما يحصل له من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل آخر لأن حكم الشئ حكم مثله فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور فبتقدير تحقق ذلك وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور وأما المعارضة الآولى وهى أنه لا فائدة فيها قلنا لا نسلم قوله الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم قلنا نسلم أن معرفة الحكم فائدة لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هى فما الدلالة على هذا الحصر ثم إنا نبين فائدتين أخريين الأولى أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد(5/315)
الثانية أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشئ لأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على علته صرنا عالمين أو ظانين بما كنا غافلين عنه وذلك محبوب القلوب ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة
سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم لكن في جانب الثبوت أو في جانب العدم الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم بيانه أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة امتنعنا من القياس عليه فلا يثبت الحكم في الفرع فإن قلت يكفى في الامتناع من القياس أن لا نجد علة متعدية فإما التعليل بالعلة القاصرة فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس قلت يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة لبقى ذلك الوصف المتعدى خاليا من المعارض فكان يجب التعليل به وحينئذ كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر صار معارضا لذلك الوصف المتعدى(5/316)
وحينئذ لا يثبت القياس ويمتنع الحكم سلمنا أنه لا فائدة فيها فلم قلتم إنها تكون باطلة فإنه لا يمتنع كونها علة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به حين يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه سلمنا إن مالا فائدة فيه لا يجوز إثباته ولكن لا يجوز ذلك قبل أن يعلم أنه لا فائدة فيه أو بعد أن يعلم ذلك
وهاهنا المستنبط للعلة حال طلبه لها لا يعلم أن تلك العلة متعدية أو قاصرة فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب وبعد وقوفه على العلة القاصرة لا يمكن منعه عن معرفتها لأن ذلك خارج عن وسعه سلمنا كل ما ذكروه ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة القاصرة فإن كل ما ذكروه حاصل فيها مع جوازها قوله الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة قلنا لا نسلم والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات القياس وأيضا قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إثبات الحكم فالعلة القاصرة وسيلة إلى نفى الحكم فوجب كون القاصرة صحيحة لأنها على وفق النافي والمتعدية على خلافها قوله هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة(5/317)
قلنا لا نسلم بل تكشف عن المنع من استعمال القياس سلمناه لكنه يكشف عن حكمة الحكم سلمناه لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة فرع اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص أو بعلة النص فقالت الحنفية لا يمكن ثبوته بالعلة لأن الحكم معلوم والعلة مظنونة والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم وأصحابنا جوزوه
والخلاف فيه لفظى لأنا نعنى بالعلة هاهنا أمرا مناسبا يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله وذلك مما لا يمكن إنكاره المسألة الحادية عشرة الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافا لبعض الفقهاء(5/318)
العصريين مثاله قولهم الملك معنى مقدر شرعي في المحل أثره إطلاق التصرفات وربما قالوا الملك الحادث يستدعى سببا حادثا وذلك هو قوله بعت واشتريت وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية وكل واحد من تلك الحرف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر فإذن ليس لهاتين الكلمتين وجود حقيقي لكن لهما وجودا تقديريا وهو أن الشارع قدر بقاء تلك الحروف إلى حين حدوث الملك ضرورة أنه لا بد من وجود السبب حال حصول المسبب وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر فيقولون إن من عليه الدين يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته واعلم أن هذا الكلام من جنس الخرافات لأن الوجوب إما أن يكون مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع على ما هو مذهبنا أو يكون الفعل في نفسه بحيث يكون للإحلال به مدخل في استحقاق الذم على ما هو قول المعتزلة(5/319)
فإن كان الأول لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث يكون علة له لأن ذلك التعلق قديم أزلى فكيف يكون معللا بالمحدث وإن كان الثاني فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة فلا
حاجة فيه إلى بقاء الحروف وأيضا فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع والحروف لو وجدت مجتمعة لخرجت عن أن تكون كلاما فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي حصل منها قوله بعت واشتريت لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام وأما تقدير المال في الذمة فهو ساقط جدا بل لا معنى له إلا أن الشرع مكنه إما في الحال أو في الاستقبال من أن يطالبه بذلك القدر من المال فهذا معقول شرعا وعرفا فأما التقدير في الذمة فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع إليها المسألة الثانية عشر هاهنا أبحاث الأول العلة قد يكون لها حكم واحد وهو ظاهر وقد يكون حكمها أكثر من واحد وتلك الأحكام إما أن تكون متماثلة أو مختلفة غير متضادة أو مختلفة متضادة فالأول إما أن يكون في ذات واحدة أو في ذاتين(5/320)
والأول محال لامتناع اجتماع المثلين والثاني جائز وهو كالقتل الذي حصل بفعل زيد وعمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما وأما الثاني وهو أن توجب أحكاما مختلفة غير متضادة فهو جائز
كتحريم الإحرام ومس المصحف والصوم والصلاة بالحيض وأما الثالث وهو أن توجب العلة أحكاما متضادة فلا يخلو إما ان يتوقف إيجابها لها على شرط أو لا يتوقف فإن كان الأول فالشرطان إما أن لا يجوز اجتماعهما أو يجوز فإن لم يجز جاز أن تكون العلة موجبة لحكمين متضادين عند حصول شرطين لا يجتمعان وإن كان يجوز اجتماعهما فهو محال لأنهما إذا اجتمعا لم تكن العلة باقتضاء أحدهما أولى من اقتضاء الآخر فوجب أن تقتضيهما جميعا وهو محال أو لا تقتضى واحدا منهما وحينئذ تخرج العلة عن أن تكون علة وبهذا البيان يظهر أيضا أنه لا يجوز أن يتوقف اقتضاء العلة معلوليها هذا المتضادين على شرط(5/321)
الثاني من شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم وإلا لم يكن اقتضاء حصول الحكم لشئ أولى من اقتضائه لغيره الثالث أن اقتضاءها معلولها قد يكون موقوفا على شرط مثل الزنا فإنه لا يوجب الرجم إلا بشرط الإحصان وقد لا يكون وهو ظاهر الرابع
العلة قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة في منع الحل وقد تكون علة في الابتداء والانتهاء كالرضاع في إبطال النكاح وقد تكون العلة قوية على الدفع لا على الرفع مثل العدة والردة فإنهما يدفعان النكاح ويرفعانه وقد تكون قوية عليهما معا المسألة الثالثة عشر قد يستدل بذات العلة على الحكم وقد يستدل بعلية العلة على الحكم فالأول مثل أن يقال قتل عمد عدوان فيكون موجبا للقصاص(5/322)
والثاني أن يقال القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص وقد وجد فيجب القصاص فالأول صحيح والثاني باطل لأنه لا فرق بين ماهية القتل وبين كونه سببا للقصاص فإنه قد يفهم كونه قتلا مع الذهول عن السببية وقد تفهم السببية مع الذهول عن كونه قتلا والسببية أمر إضافي والأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على ثبوت كل واحد من المضافين فدعوى كون القتل سببا لوجوب القصاص يتوقف على ثبوت القتل وثبوت وجوب القصاص لأن قولنا هذا سبب لذلك يستدعى تحقق هذا وتحقق ذاك حتى يحكم على هذا بأنه سبب لذاك وإذا كانت دعوى السببية متوقفة على ثبوت الحكم أولا فلو
استفدنا ثبوت الحكم من ذكر السببية لزم الدور وإنه محال فعلمنا أنه لا يمكن الاستدلال بعلية الوصف وسببيته على ثبوت الحكم المسألة الرابعة عشر تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى لا يتوقف على بيان ثبوت(5/323)
المقتضى لذلك الحكم وهذه المسألة من تفاريع جواز تخصيص العلة فإنا إذا أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضي والمانع أما إذا جوزناه جاء هذا البحث والحق أنه غير معتبر لدليلين الأول أن الوصف الوجودى إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه وجودا وعدما حصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك العدم والظن حجة والثاني أن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشئ لا يتقوى بضده بل يضعف به وإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه فلأن يجوز ذلك حال قوته وهو حال عدم المقتضى كان أولى واحتج المخالفو بأمور أحدها أنا إذا عللنا انتفاء الحكم بالمانع فالمعلل إما عدم مستمر أو عدم متجدد والأول باطل لأن العدم المستمر كان حاصلا قبل حصول هذا المانع بل قبل الشرع والحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد(5/324)
والثاني تسليم المقصود لأن عدم الحكم لا يحصل فيه التجدد إلا إذا امتنع من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود وذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي وثانيها أن انتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر عند العقل من انتفائه لحصول المانع وإذا كان كذلك فإما أن يكون ظن تحقق انتفاء المقتضى مثل ظن تحقيق وجود المانع أو أقوى منه أو أضعف منه فان كان الأول امتنع تعليل عدم الحكم بوجود المانع لأن عدم المقتضى ووجود المانع لما استويا في الظن واختص عدم المقتضى بمزية وهى أن ظن اسناد عدم الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى وجود المانع كان ظن تعليل عدم الحكم بعدم المقتضي أقوى من تعليله بوجود المانع والأقوى راجح فيلزم أن لا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع وأما إن كان ظن عدم المقتضى أظهر فالتقدير المذكور أظهر وأما إن كان ظن عدم المقتضى مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع فظن العدم إنما يكون مرجوحا لو كان ظن الوجود راجحا وذلك يدل على أن التعليل بالمانع يتوقف على رجحان وجود المقتضى وهو المطلوب(5/325)
وثالثها أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان المقتضى عرفا فيتوقف عليه شرعا
أما الأول فلأن من قال الطير إنما لا يطير لأن القفص يمنعه فهذا التعليل موقوف على العلم بكون الطير حيا قادرا فإن بتقدير موت الطير يمتنع تعليل عدم الطيران بالقفص وكذا من علل عدم حضور زيد في السوق بحضور غريم له هناك لابد أن يبين أنه كان قادرا على الحضور وإلا لما صح ذلك التعليل عرفا وأما الثاني فلقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ورابعها أن عدم المقتضى مستلزم لعدم الحكم فلو حصل عدم المقتضى لامتنع إسناد ذلك العدم إلى وجود المانع لأن تحصيل الحاصل محال فثبت أنه لا بد من بيان وجود المقتضي والجواب عن الأول أن العلة الشرعية معرفة والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف(5/326)
قوله إنما يصير الحكم شرعيا إذا كان بحيث لو سكت الشرع لما ثبت قلنا نحن لا نعنى بكون هذا الانتفاء شرعيا إلا أنه لم يعرف إلا من قبل الشرع وذلك حاصل بدون ما قلتموه وعن الثاني أن مجرد النظر إلى وجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها وعن الثالث
أنا لا نسلم أن ظن اسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقف على العلم بوجود المقتضى عرفا ألا ترى أنا إذا علمنا وجود سبع في الطريق فهذا القدر يكفى في حصول ظن أنه لا يحضر وإن كان لا يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه بل نجعل ذلك القدر دليلا لنا ابتداءا فنقول مجرد النظر إلى المانع يفيد ظن عدم الحكم الحكم عرفا فليفده شرعا للحديث وعن الرابع أن ترادف الدلائل والمعرفات رسول على الشئ الواحد لا نسلم أنه خلاف الأصل(5/327)
فرع لو سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى لكن لا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضى بل يكفي أن يقال إما أن لا يكون المقتضى موجودا في الفرع وحينئذ يلزم عدم الحكم في الفرع أو قد حصل المقتضى في الفرع لكنه إنما ثبت فيه تحصيلا لمصلحته ودفعا لحاجته وهذا المعنى قائم في الأصل فيلزم ثبوت المقتضى في الأصل وإذا ثبت ذلك فقد صح جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع المسألة الخامسة عشر قال بعضهم وجود الوصف الذي يجعل علة في الأصل لابد وأن(5/328)
يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض بل الحق أن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة وقد يكون معلوما بالبرهان اليقينى وقد يكون معلوما بالأمارة الظنية وهذا آخر الكلام في العلة(5/329)
القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب(5/331)
الباب الأول في مباحث الحكم وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات ومنه نوع يسمونه إلحاق الغائب بالشاهد قالوا ولابد من جامع عقلى والجامع أربعة العلة والحد والشرط والدليل أما الجمع بالعلة فكقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم وجب أن يكون كذلك غائبا وأما الجمع بالحد فكقول القائل حد العالم شاهدا من له
العلم فيجب طرد الحد غائبا وأما الجمع بالشرط فكقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا فكذلك غائبا وأما الجمع بالدليل فكقولنا التخصيص والأحكام يدلان على(5/333)
العلم والإرادة شاهدا فكذلك غائبا واعلم إنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه وجب علينا أن نتكلم فيه فنقول اعتماد القياس على مقدمتين إحداهما أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا وثانيتهما أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الآخرى فهاتان المقدمتان إن حصل العلم بهما حصل العلم بثبوت الحكم في الفرع وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع وإنما قلنا إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين حصول العلم بالنتيجة وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم ثم ثبت ذلك المعنى في صورة أخرى فنقول كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك الحكم في تلك الصورة إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك الصورة أو كونه غير حاصل في هذه الصورة وأما أن لا يعتبر فيها ذلك فإن كان الأول لم يكن ذلك المعنى اتمام العلة لأن مرادنا من تمام العلة كل ما لابد منه في المؤثرية فإذا كان لا بد من قيد كون المعنى هناك أو قيد كونه ليس هناك فذاك المعنى ليس وحده تمام العلة على التفسير الذي ذكرناه
وإن كان الثاني فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم وفي الفرع غير مستلزم للحكم مع أنه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين(5/334)
لا بحسب زوال شئ عنه ولا بحسب انضمام شئ إليه فيلزم حينئذ ترجح أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت بهذا البرهان الباهر أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول العلم بثبوت الحكم في الفرع وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في العقليات كان القياس حجة فيها فإن قلت حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة على حصول المعلول وليس هو بقياس قلت بل هذا هو القياس فإنا إذا رأينا الحكم حاصلا في صورة معية ثم قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم هو الوصف الفلانى ثم قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية لزم القطع بحصول الحكم في الصورة الثانية بل تحصيل اليقين بهاتين المقدمتين أمر صعب وذلك لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل فالمثلان ولا لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف(5/335)
وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلية وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا
الاحتمال لا يحصل القطع وأعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة أحدها التقسيم الذي لا يكون منحصرا فإذا قيل لهم لم لا يجوز وجود قسم آخر قالوا اجتهدنا في طلبه فما وجدناه وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في الطلب يدل على عدم الوجود كالمبصر لم إذا طلب شيئا في الدار ونظر إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجد قطع بالعدم وهذا ضعيف إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب والقياس على نظر العين قياس من غير جامع وبتقدير ذكر الجامع فهو إثبات القياس بالقياس وهو باطل وثانيها الدوران الخارجى وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن فضلا عن اليقين وثالثها الدوران الذهنى كقولهم متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال عرفنا(5/336)
قبحه وإن لم نعرف شيئا آخر ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال في الذهن فهذا الدوران الذهنى يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح هو نفس كونه أمرا بالتكليف فنقول كلامكم يشتمل على أمرين أحدهما
أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال العلم بقبحه لزم أن يكون كونه أمرا بالمحال علة لقبحه والثاني أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته العلم بكونه قبيحا وجب أن لا يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا وأنتم منازعون في هذين المقامين فلا بد من الدلالة عليهما فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين المقامين شيئا على أن الأول منقوض بجميع الإضافات فإنا متى علمنا كون هذا الشخص أبا علمنا كون هذا الشخص الآخر أبنا وكذا بالعكس مع أنه يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك أبنا لهذا لأن المضافين معا والعلة قبل المعلول والمع لا يكون قبل وأما الثاني فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته فإنه لا يحصل(5/337)
العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة فكيف يمكننا أن نقطع بأنا عرفنا كل صفاته فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه جوزنا في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم بكونه قبيحا ومع هذا التجويز لا تتم هذه المقدمة سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا فلم يدل هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدمتين مأخوذ من الفلاسفة فإنهم زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول
فعلى هذا كل ما كان علة للقبح يلزم من العلم به العلم بالقبح وزعموا أن العلم اليقينى بوجود المعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال علمنا أن علة القبح ذلك ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية دلائلهم على هاتين المقدمتين وبينا ضعفهما وسقوطهما فلا نعيدهما هاهنا وبالله التوفيق(5/338)
المسألة الثانية الحق جواز القياس في اللغات وهو قول ابن سريج منا ونقل ابن جنى في الخصائص أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني وأبي علي الفارسي وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه لنا وجوه الأول أنا رأينا أن عصر العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة فإذا حصلت تلك الشدة سميت خمرا فإذا زالت الشدة مرة أخرى زال الاسم والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ فيحصل ظن أن علة هذا الاسم حاصلة في النبيذ ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام حصل ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ فإن قيل الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية وهاهنا لم
يوجد الاحتمال لأنه ليس من بين شمن الألفاظ وشئ من المعاني مناسبة أصلا فأستحال ابن أن يكون شئ من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته(5/339)
بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا لم يكن الدوران ها هنا مفيدا لظن العلية سلمنا أنه حصل ظن العلية ولكن إنما يلزم من حصول العلة في الفرع حصول ذلك الحكم إذا اثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن الشارع جعلها علة ألا آخر أنه لو قال اعتقت غانما لسواده فإذا كان له عبد آخر أسود لم يعتق عليه لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب أن يتفرع عليه الحكم أينما وجد فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى والجواب عن الأول إنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم إذا فسرنا العلة بالداعي أو المؤثر أما إذا فسرنا بالمعرف فلا يمتنع كما أن الله تعالى جعل الدلوك علة لوجوب الصلاة لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا أو داعيا بل بمعنى أن الله تعالى جعله معرفا فكذا هاهنا وعن الثاني أنا بينا أن اللغات توقيفية الثاني وهو الذي أعتمد عليه المازني وأبو علي الفارس رحمهما الله أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع وكل مفعول نصب وكذلك القول(5/340)
في جميع وجوه الإعراب وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به ولم يثبت ذلك إلا قياسا لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به واستمروا على ذلك علم أنه ارتفع الفاعل لكونه فاعلا وانتصب المفعول لكونه مفعولا فإن قلت كيف يصح ذلك وقد وجد المفعول غير منتصب وكذا الفاعل قد لا يرتفع لعارض قلت تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول بتخصيص العلة ومن لا يقول به يجعل هذا القيد العدمي جزءا من العلة الثالث وهو أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله إنما ارتفع لكونه شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه ولم تزل فرق النحاة من الكوفيتين قوله والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا فوجب أن يشبهه في الإعراب وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة الرابع أن نتمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا فإنه يتناول كل الأقيسة واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فأمتنع جعل(5/341)
المعنى علة للاسم بخلاف الأحكام الشرعية فان المعاني قد تناسبها لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق واحتج المخالف بأمور أحدها
قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دلت الآية على أنها بأسرها توقيفية فيمتنع في شئ منها أن يثبت بالقياس وثانيها أن أهل اللغة لو صرحوا وقالوا قيسوا لم يجز القياس كما اذا قال اعتقت غانما لسواده ثم قال قيسوا فإنه لا يجوز القياس فإذا لم يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك كان أولى وثالثها أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل وتعليل الأسماء غير جائز لأنه لا مناسبة بين شئ من الأسماء وبين شئ من المسميات وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس البتة ورابعها أن وضع اللغات ينافي جواز القياس فإنهم سموا الفرس الأسود(5/342)
أدهم ولم يسموا الحمار بن الأسود به وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض به وسموا صوت الفرس صهيلا صوت الحمار نهيقا له صوت الكلب نباحا وأيضا القارورة إنما سميت بهذا الاسم لأجل الاستقرار ثم أن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار مع أنها لا تسمى بذلك والخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل ثم المخامرة حاصلة في الأفيون وغيره ولا يسمى خمرا
والجواب عن الأول أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا فيجوز أن يكون علم البعض توقيفا والبعض تنبيها بالقياس ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات القبلة قد تدر ك حسا وقد تدرك اجتهادا وعن الثاني أنا ندعى أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس ألا ترى أن جميع كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة فإنه لا نزاع إنه لا يمكن تفسير القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر(5/343)
وعن الثالث ما قد بينا أنا نفسر العلة بالمعرف لا بالداعي ولا المناسب وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه وعن الرابع أن أقصى ما في الباب أنهم ذكروا صورا لا يجرى فيها القياس وذلك لا يقدح في العمل بالقياس كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرا في الشرع لا يجرى فيها القياس لم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع(5/344)
المسألة الثالثة المشهور إنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب
والدليل عليه أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد فإما أن نقول إن كون الزنا موجبا للحد لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط وأما أن لا نقول ذلك فإن كان الأول كان الموجب للحد هو ذلك المشترك وحينئذ يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل والقياس في الأسباب ينافي بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فإن ثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع وأما إن قيل كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترط بينه وبين اللواط استحال قياس اللواط عليه لأنه لا بد في القياس من الجامع فإن قلت الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم بل تأثيره(5/345)
في علية الوصفين وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين قلت هذا باطل لأن ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الوساطة المسألة الرابعة الحكم الذي طلب إثباته بالقياس أما النفى الأصلي أو الحكم الثبوتى ذلك المعلوم أو المظنون فلنتكلم في هذه الثلاثة فنقول اختلفوا في أن النفى الأصلي هل يمكن التوصل إليه بالقياس أو لا
بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة لا قياس العلة أما قياس الدلالة فهو أن يستدل بعدم اثار الشئ وعدم خواصه على عدمه(5/346)
وأما تعذر قياس العلة فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع فلا يجوز تعليه بوصف يوجد بعد ذلك ولقائل أن يقول علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف وتأخر الدليل عن المدلول جائز واعلم إن هذا الكلام يختص ب العدم فأما الإعدام فإنه حكم شرعي يجرى فيه القياس وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه هل يجوز استعمال القياس فيه وعندي أن هذا الخلاف لا ينبغى أن يقع في الجواز الشرعي فإنه لو أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم ثم تحصيل اليقين بأن تلك العلة حاصلة في هذه الصورة لحصل العلم اليقينى بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل بل البحث ينبغى أن يقع في أنه هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية أم لا وأما الذي طريقه الظن فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه(5/347)
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس أم لا
فقال الجبائى والكرخي لا يجوز وبنى الكرخي عليه إنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس واعلم أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين الأول أن يقال الصلاة بإيماء الحاجب لو كانت مشروعة لوجب على النبي ص أن يبينها بيانا شافيا وينقله أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلوما لنا قطعا فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل والثاني أن يقال لا ندعي أنها لو كانت مشروعة لحصل العلم بها يقينا ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه أما الأول فهو باطل بالوتر فإنه واجب عندهم مع أنه لم يعلم وجوبه قطعا فإن قلت إذا جوزت في ذلك أن لا يبلغ مبلغ التواتر فلعله عليه الصلاة والسلام أوجب صوم شوال ولم ينقل ذلك بالتواتر قلت المعتمد في نفيه الإجماع وأما الثاني فتحكم محض لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن فلم لا يكتفى بالقياس ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى فاعتبروا أو بما أنه(5/348)
يفيد ظن الضرر فيكون العمل به واجبا المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز إثبات التقديرات
والكفارات والحدود والرخص بالقياس وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله أنه لا يجوز وحاصل الخلاف أنه هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا يجوز استعمال القياس فيها أو ليس كذلك بل يجب البحث عن كل مسألة أنه هل يجرى القياس فيها أم لا لنا التمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا وبإطلاق قول معاذ أجتهد مع أن الرسول ص صوبه في إطلاقه وبأنه(5/349)
يجب العمل بالضرر المظنون فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجد أن العلة في هذه المسائل فذلك إنما يظهر بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل فإن وجدنا العلة فيها صح القياس وإلا فلا ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل بل كل مسألة لا نجد العلة فيها تعذر علينا القياس واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعهدوها إلى الاستحسان فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان مع أنه على خلاف العقل فلأن يعمل بما وافق العقل كان أولى وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عمدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم(5/350)
فإن قلت ليس هذا بقياس وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة قلت أنكم لما لم تبينوا أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا وأن العلة إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع أو الذي به الامتياز وباطل أن لا يكون معللا وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز فوجب التعليل بما به الاشتراك ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول الحكم فيه وهذا نفس القياس واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم وأما المقدرات فقد قاسوا فيها حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في الدلو والبئر وأما الرخص فقد قاسوا فيها وبالغوا فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت أو معتادة وانتهوا فيها إلى نفي إيجاب استعمال الأحجار وقالوا أيضا العاصي بسفره يترخص فأثبتوا الرخصة بالقياس مع(5/351)
أن القياس ينفيها لأن الرخصة إعانة والمعصية لا تناسب الإعانة احتج الخصم بقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات والقياس لا يفيد القطع فتحصل الشبهة وأما المقدرات فهي كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات(5/352)
وقالوا العقول لا تهتدى إليها
وأما الرخص فقالوا أنها منح من الله تعالى فلا يعدل بها عن مواضعها وأما الكفارات فإنها على خلاف الأصل لكونها منفية بالنص النافي للضرر والجواب عنه أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه ثم نقول هذه الأدلة خضت بخبر الواحد فانه يجوز إثبات هذه الأشياء بخبر الواحد مع أنه لا يفيد العلم وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها قائم في القياس الخاص فوجب تخصيصها بالقياس المسألة السابعة قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله ما طريقة العادة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره وأقل النفاس وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس لأن أسبابها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق المسألة الثامنة الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس كقرآن النبي(5/353)
- صلى الله عليه وسلم - وإفراده ودخوله مكة صلحا أو عنوة فإن مثل هذه الأمور تطلب لتعرف لا ليعمل بها فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن المسألة التاسعة القياس إذا ورد بخلاف النص فالنص إما أن يكون متواترا أو آحادا فإن كان متواترا فالقياس أن نسخه كان مردودا
وإن خصصه فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص وإن كان آحادا فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس وقد شرحنا الحال فيه في باب الخبر المسألة العاشرة يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع فإنه يمكن أن ينص الله تعالى على أحكام الأفعال على الجملة ويدخل تفصيلها فيها كما إذا نص على حرمة الربا في كل مطعوم فيدخل فيه كل مطعوم وأما التعبد بالقياس في الكل فمحال لأن القياس لا يصح إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل لكن أحكام الأصول شرعية لأن العقل لا يدل إلا على البراءة الأصلية فما عداها لا يثبت إلا بالشرع فلو كانت تلك الأحكام(5/354)
مثبتة بالقياس لزم الدور وهو محال(5/355)
الباب الثاني في شرائط الأصل أعلم أن الحكم في المقيس عليه إما أن يكون علة وفق قياس الأصول أو على خلاف قياس الأصول فلنذكر حكم كل واحد من هذين القسمين ثم نذكر ما ظن أنه شرط في هذا الباب مع أنه ليس بشرط(5/357)
القسم الأول في شرائط الأصل إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول
وهي ستة الأول ثبوت حكم الأصل لأن القياس عبارة عن تشبيه الفرع بالأصل في الحكم وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل الثاني أن يكون الطريق إلى معرفة ذلك الحكم سمعيا وهو ظاهر على مذهبنا أن جميع الأحكام لا تعرف إلا بالسمع أما على مذهب من يثبت هذه الأحكام عقلا فقد احتجوا عليه بأنه لو كان ذلك الطريق عقليا لكانت معرفة ثبوت الحكم في الفرع عقلية فكان القياس عقليا لا سمعيا وهذا ضعيف لأن ثبوت الحكم في الفرع يتوقف على ثبوت الحكم في الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللا بالوصف الفلانى وعلى حصول ذلك الوصف في الفرع فبتقدير أن تكون معرفة الأول عقلية يحتمل أن تكون المعرفتان الباقيتان سمعيتين(5/359)
محمد وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بمقدمات سمعية والمبنى على السمع سمعي فيكون ثبوت الحكم في الفرع سمعيا الثالث أن لا يكون طريق ثبوت الحكم في الأصل هو القياس لأن العلة التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد إما أن تكون هي التي بها يلحق الفرع بالأصل القريب أو غيرها فإن كان الأول أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد فيكون دخول الأصل
القريب لغوا وإن كان الثاني لزم تعليل حكم الأصل القريب بعلتين وهو محال أما أولا فلإنا إلى بينا أن تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين محال وأما ثانيا فلأنه لا يمكننا إثبات الحكم في الأصل القريب إلا بأن يتوصل إليه بالعلة الموجودة في الأصل البعيد ومتى توصلنا إلى ثبوته بتلك العلة امتنع تعليله بالعلة الموجودة في الفرع لأن تلك العلة إنما عرفت بعد أن عرف تعليل الحكم بعلة أخرى ومتى عرف ذلك كانت العلة الثانية عديمة الأثر فيكون التعليل بها ممتنعا(5/360)
الرابع أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل دالا بعينه على حكم الفرع وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس الخامس لابد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع إليه لا يصلح إلا بهذه الواسطة السادس قالوا يجب أن لا يكون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع وهو كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة والحق أن يقال لو لم يوجد على حكم الفرع دليل إلا ذلك القياس لم يجز تقدم الفرع على الأصل لأن قبل هذا الأصل لزم أن يقال كان هذا الحكم حاصلا من غير دليل وهو تكليف مالا يطاق
أو ما كان حاصلا ألبتة فيكون ذلك كالنسخ وأما إن وجد قبل ذلك دليل أخر سوى القياس يدل على ذلك الحكم فجائز فإن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز(5/361)
القسم الثاني إذا كان الحكم في المقيس عليه على خلاف قياس الأصول فقال قوم من الشافعية والحنفية يجوز القياس عليه مطلقا وقال الكرخي لا يجوز إلا لإحدى خلال ثلاث إحداها أن يكون قد نص على علة ذلك الحكم لأن النص كالتصريح بوجوب القياس عليه وثانيها أن تجمع الأمة على تعليله وإن اختلفوا في تعليله فلا يجوز القياس عليه وثالثها أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخرى والحق أن يقال ما ورد بخلاف قياس الأصول إما أن يكون دليلا مقطوعا به أو غير مقطوع به فإن كان مقطوعا به كان أصلا بنفسه لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهد بين القياسين(5/363)
يؤكده أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه لأن العموم أقوى من القياس على العموم احتج الخصم بأن الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه وما عداه باق على قياس الأصول والجواب أنه إذا أخرح ما ورد فيه ودلت أمارة على عليته اقتضى إخراج ما شاركه في تلك العلة ثم ليس بأن لا يخرج لشبهه بالأصول أولى من أن يخرج لشبهه بالمنصوص عليه أما إذا كان غير مقطوع به فإما أن تكون علة حكمة منصوصة أو لا تكون منصوصة فإن لم تكن منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه لأن القياس على ما طريق حكمة معلوم أولى من القياس على ما طريق حكمة غير معلوم(5/364)
وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوى القياسان لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم وإن كانت علة حكمه غير معلومة
وهذا القياس طريق حكمه مظنون وعلته معلومة فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة(5/365)
القسم الثالث فيما جعل شرطاً في هذا الباب مع أنه ليس بشرط وهو ثلاثة الأول زعم عثمان البتى أنه لا يقاس على الأصل حتى تقوم الدلالة على جواز القياس عليه وهو باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن عموم قوله تعالى فاعتبروا ينفى هذا الشرط وثانيها أنا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علمنا أو ظننا(5/367)
حصوله في الفرع حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل والعمل بالظن واجب وثالثها أن الصحابة حين استعملوا القياس في مسألة الحرام والجد وغيرها لم يعتبروا هذا الشرط الثاني زعم بشر المريسى أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه
معللا أو ثبوت النص على عين تلك العلة وعندنا أن هذا الشرط غير معتبر والدليل عليه الوجوه الثلاثة المذكورة الثالث قال قوم الأصل المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه حتى قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم لا يقاس عليه(5/368)
والحق جوازه للوجوه الثلاثة واحتجوا بأن تخصيص ذلك العدد بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وأيضا جواز القياس عليه يبطل ذلك الحصر والجواب يبطل ذلك بجواز القياس على الأشياء الستة في تحريم ربا الفضل وهذا أيضا دليل في أول المسألة(5/369)
الباب الثالث في الفرع وشرطه أن يوجد فيه مثل علة الحكم في الأصل من غير تفاوت ألبتة لا في الماهية ولا في الزيادة ولا في النقصان لأن القياس عبارة عن تعدية الحكم من محل إلى محل والتعدية لا تحصل إلا إذا كان الحكم المثبت في الفرع مثل المثبت في الاصل
فإن قلت هذا يقتضى أن لا يكون قياس العكس حجة قلت قد بينا في أول كتاب القياس أن قياس العكس عبارة عن التمسك بنظم التلازم ابتداءا ثم إنا نثبت مقدمته الشرطية بقياس الطرد وأما الأمور التي اعتبرها قوم في الفرع مع أنها ليست معتبرة فهي ثلاثة الأول قال بعضهم يجب أن يكون حصول العلة في الفرع معلوما لا مظنونا وهذا باطل للنص والحكم والمعقول أما النص فهو أن عموم قوله تعالى فاعتبروا يقتضى حذف هذا الشرط(5/371)
وأما الحكم فهو أن الزنا والسرقة إذا ظهرا عند القاضي قضى بوجوب الحد لأن الطريق إليه شهادة الشهود وهى لا تفيد العلم وأما المعقول فهو أنه إذا حصل ظن كون الحكم معللا بذلك الوصف ثم حصل ظن ثبوت ذلك الوصف في الفرع حصل ظن أن الحكم في الفرع مثل الحكم في الأصل والعمل بالظن واجب مطلقا على ما بيناه الثاني قال أبو هاشم الحكم في الفرع يجب أن يكون معا ثبت جملة حتى يدل القياس على تفصيله ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد وإلا لما استعملت الصحابة القياس في توريثه مع الإخوة وهذا باطل لأن أدلة القياس تحذف هذا القيد
الثالث أن لا يكون الفرع منصوصا عليه وهو على قسمين لأن الحكم الذي دل النص عليه إما أن يكون مطابقا للحكم الذي دل عليه القياس أو مخالفا فإن كان الأول جاز استعمال القياس فيه عند الأكثرين لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز ومنعه بعضهم استدلالا بأن معاذا إنما عدل إلى الاجتهاد بعد فقدان النص فدل على أنه لا يجوز استعماله عند وجوده وأيضا فالدليل ينفي جواز العمل بالقياس لكونه اتباعا للظن وإن الظن لا(5/372)
يغني من الحق شيئا ترك العمل به فيما إذا لم يوجد النص للضرورة فيبقى حال وجود النص على مقتضى الأصل والجواب عن الأول أن قصة معاذ دالة على أن التمسك بالقياس عند فقدان النص جائز فأما عند وجود النص فليس فيه دليل لا على جواز ولا على بطلانه وعن الثاني ما تقدم مرارا من أن العمل بالقياس ليس على خلاف الدليل(5/373)
خاتمة لهذا الباب هاهنا نوع آخر من القياس يستعمله أهل الزمان وهو أن يقال لو ثبت الحكم في الفرع لثبت في الأصل لأن بتقدير ثبوته في الفرع وجب
أن يكون ثبوته لأجل المعنى الفلانى لمناسبته واقتران الحكم به وذلك المعنى حاصل في الأصل فيلزم ثبوت الحكم فيه فثبت أن الحكم لو ثبت في الفرع لثبت في الأصل فلما لم يثبت في الأصل وجب أن لا يثبت في الفرع ويمكن أن يذكر ذلك على وجه آخر أسد تلخيصا وهو أن يقال ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور فوجب أن لا يثبت نماقلنا إنه يفضي إلى محذور لأنه لو ثبت الحكم في الفرع لكان إما أن يكون معللا بهذا الوصف الذي يشترك الفرع والأصل فيه أو لا يكون معللا به فإن كان الأول لزم النقص لأنه غير ثابت في الأصل(5/375)
وإن كان الثاني لزم النقض لأن المناسبة والاقتران دليل العلية فحصولها بدون العلية يوجب النقض وهذا آخر كلامنا في القياس وبالله التوفيق(5/376)
الكلام في التعادل والترجيح وهو مرتب على أربعة أقسام(5/377)
القسم الأول في التعادل وفيه مسألتان(5/379)
المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين فمنع منه الكرخى مطلقا وجوزه الباقون ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه فعند القاضى أبي بكر منا وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة حكه التخيير وعند بعض الفقهاء حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل والمختار أن نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متناقضين والفعل واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا وواجبا وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة أما القسم الأول فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع أما أنه جائز في الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفى والإثبات وتستوى عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر(5/380)
وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا فإما أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو يعمل بإحداهما دون الثانية والأول محال لأنه يقتضي كون الشئ الواحد في الوقت الواحد من
الشخص الواحد محظورا مباحا وهو محال والثاني أيضا محال لأنهما لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن العمل بهما ألبتة كان وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى وأما الثالث وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين أو لا على التعيين والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي وإنه غير جائز والثاني أيضا باطل لأنا إذا اخيرناه كان بين الفعل والترك فقد أبحنا له الفعل فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة فوجب أن يكون باطلا(5/381)
فإن قيل لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين إما لأنها أحوط أو لأنها أخذ بالأصل سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير قوله القول بالتخيير إباحة الفعل فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة قلنا لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة بيانه أنه يجوز أن يقول الله تعالى أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة وبأمارة أبو الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل
وإن أخذت بأمارة الحرمة فقد حرمت الفعل عليك فهذا لا يكون إذنا في الفعل والترك مطلقا بل إباحة في حال وحظرا في حال أخرى ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز تركهما بشرط أن يقصد الترخص وأيضا من استحق أربعة دراهم على غيره فقال تصدقت عليك(5/382)
بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة عن الدين واجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن الواجب فكذا في مسألتنا إذا سمع قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له الجمع إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب إذا قلنا بالتخيير لم(5/383)
يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول لكل الصور سلمنا فساد القول بالتخيير فلم لا يجوز التساقط
قوله لأنه عبث قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها وأيضا فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع لكن لا نزاع في وقوع التعادل بحسب أذهاننا فإذا اجاز أن لا يكون التعادل الذهنى عبثا فلم لا يجوز أن لا يكون التعادل الخارجى عبثا أيضا ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان أحدهما بالحل والآخر بالحرمة واستويا في ظن المستفتى ولم يوجد الرجحان فإنهما بالنسبة إلى العامي كالأمارة والجواب قوله لم لا يجوز العمل بإحداهما لأنه أحوط أو لأنه أصل قلنا إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين فوجوده ينافي التعادل وإن لم يجز فقد بطل كلامك(5/384)
قوله لم قلت إن التخيير إباحة قلت لأن المحظور هو الذي منع من فعله والمباح هو الذي لم يمنع من فعله فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر فلا يبقى الحظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك قوله ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة قلنا هذا باطل من وجهين
الوجه الأول هو أن أمارة الإباحة وأمارة الحظر إما أن تقوما على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد أو ليس كذلك بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد وتقوم إمارة الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر فإن كان الثاني كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شئ واحد وحظره وعلى التقدير الذي قالوا قامت أمارة الإباحة على شئ وأمارة الحظر على شئ آخر فإنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه فمعناه أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة فالأمارتان(5/385)
أو إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين لا على شئ واحد وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين في شئ واحد لا في شيئين وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وهو أن أمارة الحظر وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل كان ذلك إباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها الوجه الثاني في الجواب أن نقول ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين
إن عنيتم بهذا الأخذ اعتقاد رجحانها فهذا باطل لأنها إذا لم تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا وأيضا فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد الرجحان وإن عنيتم بهذا الأخذ العزم على الإتيان بمقتضاها فذاك العزم إما أن يكون عزما جزما بحيث يتصل بالفعل لا محالة أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع فيمتنع ورود(5/386)
الإباحة والحظر لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع إيقاع ما يجب وقوعه وإن كان الثاني وهو أن يكون العزم عزما فاترا فهاهنا يجوز له الرجوع لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك فلو أراد الرجوع عن هذا العزم وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك فعلمنا أن ما قالوه فاسد قوله هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتى) الوجوب والحظر قلنا لا قائل بالفرق وأيضا فالإباحة منافية للوجوب والحظر فعند تعادل أمارتى الوجوب والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا قوله لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية
قلنا لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم كان خاليا عن المقصود الأصلي منه ولا معنى للعبث إلا ذلك وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر لم يكن واضعه عابثا بل غايته أنا لقصورنا أو تقصيرنا ما انتفعنا به أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر كان الواضع عابثا(5/387)
وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين والحكم واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير والدليل على جوازه وقوعه في صور إحداها قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات وخمس أربعينات فإن أخرج الحقاق فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات اللبون فقد عمل بقوله عليه الصلاة والسلام في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين اولى من الآخر فيتخير وثانيها من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء لأنه كيف فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وثالثها
أن الولى إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسمه(5/388)
عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات الآخر فهاهنا هو مخير بين أن يسقى هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ولا سبيل إلا التخيير ورابعها أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك يقتضى اجياب عبد إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر واحتج الخصم على فساد التخيير بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا والجواب أما أمارة وجوب الفعل فتقتضى وجوبه قطعا وأما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين فرع هذا التعادل إن وقع للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير وإن وقع للمفتى كان حكمه أن يخير المستفتى في العمل بأيهما شاء(5/389)
كما يلزمه ذلك في أمر نفسه
وإن وقع للحاكم وجب عليه التعيين لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أوفق له وليس كذلك حال المفتى فإن قلت فهل للحاكم أن يقضى في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى قلت لا يمتنع ذلك عقلا كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة أن يصلى مرة إلى جهة ومرة إلى جهة أخرى إلا أنه منع منه دليل شرعي وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكرة رضي الله عنه لا تقضين في شئ واحد بحكمين مختلفين فأما ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في المسألة الحمارية بحكمين وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارت بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة(5/390)
تلك الأمارة وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة المسألة الثانية إذا نقل عن المجتهد قولان فإما أن يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد أو في موضعين فإن وجد القولان في موضعين بأن يقول في كتاب بتحريم شئ وفي كتاب آخر بتحليله فإما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم فإن علم التاريخ فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان ولا يحكم عليه بالرجوع إلى
أحدهما بعينه وإن وجد القولان في الموضع الواحد بأن يقول في المسألة قولان فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما فيكون ذلك قولا له لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده وإن لم يقل ذلك فهاهنا من الناس من قال إنه يقتضي التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك وأيضا فبتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد وهو التخيير لا قولان بل الحق أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة ولم يظهر له وجه رجحان والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد فضلا عن القولين(5/391)
أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها فنقول إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين قول له في الأخرى وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي رضي الله عنه فهي على وجوه أحدها أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا وفي كتبه الجديدة شيئا آخر والناس نقلوهما عليه دفعة واحدة وجعلوهما قولين له فالمتأخر كالناسخ
للمتقدم وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين أما في العلم فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب والبحث والتدبر وأما في الدين فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شئ أظهره فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله وترويج مذهبه بل كان منتهى مطلبه إرشاد الخلق إلى سبيل الحق(5/392)
وثانيها أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد ونص على الترجيح كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين وبهذا أقول وهذا أولى وبالحق أشبه وأيضا فقد يفرع على أحدهما ويترك التفريع على الآخر فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عنده وأيضا فربما نبه في آخر كلامه على الترجيح لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره وقد يمل فلا ينتبه لموضع الترجيح وثالثها أن يقول في هذه المسألة قولان ولا ينبه على الترجيح ألبتة فهاهنا احتمالان أحدهما أنه قال في هذه المسألة قولان ولم يقل لي فيها قولان فيمكن
أن يكونا قولين لبعض الناس وإنما ذكرها لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما ولأنه لو لم يذكرهما فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته إلا أنه لا يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث خارق للإجماع فإذا نقله عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع ثم جاء الناقل فجعلهما قولين للشافعى(5/393)
فهذا لا يكون عيبا على الشافعى بل على الناقل فإن الشافعى لم يقل لي فيها قولان بل قال فيها قولان فإذا جزم الراوى بكونهما قولين للشافعى كان العيب على الناقل وثانيهما لعل مراد الشافعى بقوله فيها قولان أن في المسألة احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان فأما ذانك القولان فيكونان قويين بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق فلا جرم أفردهما بالذكر دون سائر الوجوه وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وللسكين أبي التي لم تقطع إنها قاطعة والمراد منه الصلاحية لا الوقوع فكذلك ها هنا ثم أنه لم يرجح أحدهما على الآخر لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الاسفراييني أنه قال لم يصح عن الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه إلا في سبع عشرة مسألة
أقول وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم والدين أما العلم فلأن كل من كان أغوص نظرا وأدق فكرا وأكثر إحاطة(5/394)
بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر أما المصر على الوجه الواحد طول عمره في المباحث الظنية بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع وقلة الفطنة وكلال القريحة وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات وأما الدين فمن وجهين الأول أنه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بالترويج (والمداهنة بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين كيف وقد نقل عن عمر رضي الله عنه اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله فكيف جعلوه عيبا هاهنا والثاني وهو أنه رضي الله عنه لم يقل ابتداءا إنى لا اعرف هذه المسألة بل وجد المسألة واقعة بين أصلين فذكر وجه وقوعها بينهما وكيفية اشتباهها بهما ثم طا لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك بعثا(5/395)
له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح
وهذا هو اللائق بالدين المتين والعقل الرصين والعلم الكامل بل من أنصف واعترف بالحق علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله على حال سائر المجتهدين في العلم والدين(5/396)
القسم الثاني في مقدمات الترجيح وفيه مسائل المسألة الأولى الترجيح تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طريقين لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق المسألة الثانية الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو التوقف(5/397)
لنا وجوه الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على قول من روى انما الماء من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة أنه من أصبح جنبا فلا صوم له
وقوى علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول(5/398)
واحتج المنكر بأمرين الأول أن الترجيح لو اعتبر من الأمارات لاعتبر في البينات في الحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هاهنا الثاني أن إيماء قوله تعالى فاعتبروا وقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني
أن ما ذكرته دليل ظنى وما ذكرناه قطعى والظنى لا يعارض القطعى المسألة الثالثة الترجيح لا يجرى في الأدلة اليقينية لوجهين الأول أن شرط الدليل اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازما عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو بوسائط شأن كل واحد منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة(5/399)
أحدها العلم الضرورى بحقيقة المقدمات إما ابتداءا أو استنادا وثانيها العلم الضرورى بصحة تركيبها وثالثها العلم الضرورى بلزوم النتيجة عنها ورابعها العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضرورى لزوما ضروريا فهو ضرورى فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة وإذا استحال ثبوتها امتنع التعارض الثاني أن الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقينى لا يقبل التقوية لأنه إن
قارنه احتمال النقيض ولو على ابعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية المسألة الرابعة أشتهر في الألسنة أن العقليات لا يجرى الترجيح فيها وهذا فيه تفصيل فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات(5/400)
ما بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه المسألة الخامسة مذهب الشافعي رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة وقال بعضهم لا يحصل ومن صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة لنا وجهان الأول أن الأمارات متى كانت أكثر كان الظن أقوى ومتى كان الظن أقوى تعين العمل به بيان الأول من وجوه أحدها أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى وثانيها أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن فإذا اجتمعوا استحال أن لا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد وإلا فقد اجتمع
على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال فإذن لا بد من الزيادة(5/401)
وثالثها أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد ورابعها أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره وخامسها أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا فإذا وجد دليل أخر يساوى أحدهما فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما وكل واحد منهما مساو لذلك الآخر والأعظم من المساوى أعظم وسادسها إجتماع الصحابة على أن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقوا الواحد فإن الصديق لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى حتى شهد له أبو سعيد الخدرى فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى وجب أن يتعين العمل به(5/402)
وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل وجواز الترجيح بقوة الدليل
إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة بلى إذا كان الترجيح بالقوة حصلت الزيادة مع المزيد عليه ولا فرق إلا أن في الترجيح بالقوة وجدت الزيادة مع المزيد عليه وفي الترجيح بالكثرة حصلت الزيادة في محل والمزيد عليه في محل آخر والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك الوجه الثاني في المسألة أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل فإذا وجد في أحد الجانبين دليلان وفي الجانب الآخر دليل واحد كانت مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد فاشترك الجانبان في قدر من المحذور واختص أحدهما بقدر زائد لم يوجد في الطرف الآخر ولو لم يحصل الترجيح لكان ذلك التزاما لذلك القدر الزائد من المحذور من غير معارض وأنه غير جائز واحتج الخصم بالخبر والقياس أما الخبر فقوله عليه الصلاة السلام نحن نحكم بالظاهر فهذا بإيماءه لا يدل على أن المعتبر أصل الظهور وأن الزيادة عليه ملغاة ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل والقوى حال اجتماعها تكون أقوى منها حال تفرقها بخلاف الترجيح بكثرة الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه(5/403)
في محل آخر فلا يحصل كمال القوة أما القياس فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في
الشهادة والفتوى فكذا هاهنا وأيضا أجمعنا على أن الخبر الواحد لو عارضه ألف قياس فإنه يكون راجحا على الكل وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة والجواب عن الأول أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة فوجب أن يترك العمل به في الترجيح بالكثرة لأن المعتبر قوة الظن وهى حاصلة في الموضعين أما قوله إن في الترجيح بالقوة تحصل الزيادة مع المزيد في محل واحد وللإجتماع أثر قلت نحن نعلم أنه وإن كان محل الزيادة مغايرا الأصل لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة حصل ظن ما فإذا أخبرنا ثان صار ذلك الظن أقوى وإذا أخبرنا ثالث صار ذلك الظن أقوى ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين حتى ينتهي إلى العلم(5/404)
فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن وأما فصل الشهادة فعند مالك رحمه الله يحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة لما فيه من توهم الكذب والخطأ وتنفيذ قول شخص على شخص مثله إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضى إلى تطويل الخصومات لئلا يعود على موضوعه بالنقض فلو أجرينا فيه الترجيح
بكثرة العدد لزم تطويل الخصومة فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين على السوية كان لأحدهما أن يستمهل القاضي ليأتى بعدد آخر من الشهود فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة كان للاخر أن يفعل ذلك ويفضى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة ألبتة فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة دفعا لهذا المحذور وأما الترجيح بكثرة المفتين فقد جوزه بعض العلماء(5/405)
وأما قوله الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة قلنا إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا فالخبر الواحد يقدم عليها وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير إلا إذا عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى والجميع بين كلها محال لما عرفت إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وإذا علمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد لم تحصل هناك كثرة الأدلة أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة فلا نسلم أنه لا يحصل الترجيح المسألة السادسة إذا تعارض الدليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه دون أولى من العمل بأحدهما دون الثاني لأن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية فإذا عملنا بكل واحدة منهما بوجه دون وجه فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية ولا
شك أن الأول أولى فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما من كل وجه دون الثاني(5/406)
إذا ظهر ذلك فنقول العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع أحدها الاشتراك والتوزيع إن كان قبل التعارض يقبل ذلك وثانيها أن يقتضى كل واحد منهما حكما ما فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام وثالثها العامان إذا تعارضا يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور كقوله عليه الصلاة والسلام ألا أخبركم بخير الشهداء قيل بلى يا رسول الله قال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيعمل بالأول من حقوق الله والثاني في حقوق العباد(5/407)
المسألة السابعة اذا تعارض دليلان فإما أن يكونا عامين أو خاضيبن على أو أحدهما عاما والآخر خاصا أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه
وعلى التقديرات الأربعة فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا وعلى التقديرات كلها فإما أن يكون المتقدم معلوما والمتأخر معلوما أو لا يكون واحد منهما معلوما فلنذكر أحكام هذه الأقسام القسم الأول أن يكون عامين فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا النوع الأول أن يكونا معلومين فإما أن يكون التاريخ معلوما أو لا يكون فإن كان معلوما فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ(5/408)
أو لا يكون فإن قبله جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا متواترا فإن قلت فما قول الشافعى هاهنا مع أن مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر ولا بالعكس قلت هذا التقسيم لا يفيد إلا أنه لو وقع لكان المتأخر ناسخا للمتقدم والشافعى يقول لم يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا التقسيم وبين قول
الشافعى منافاة وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر فإما إذا علم أنهما تقارنا فإن أمكن التخيير فيهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن المعلوم لا يقبل الترجيح ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا نحو كون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضى طرح المعلوم بالكلية وإنه غير جائز(5/409)
وإما اذا لم يعلم التاريخ فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخا للآخر النوع الثاني أن يكونا مظنونين فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخا وإن نقلت المقارنة أو لم يعلم شئ من ذلك وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى وإن تساويا كان التعبد فيهما التخيير النوع الثالث أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر أو لا ينقل ذلك فإن نقل وكان المعلوم هو المتأخر كان ناسخا للمتقدم
وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ المعلوم وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر وجب العمل بالمعلوم لأنه إن كان هو المتأخر كان ناسخا وإن كان هو المتقدم لم ينسخه المظنون وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه لكونه معلوما القسم الثاني من الأقسام الأربعة أن يكونا خاصين والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه كما في قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين مع قوله إلا ما(5/410)
ملكت أيمانكم وكما في قوله عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في صلاة القضاء والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فهذان العمومان إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه أو لا يعلم فإن علم وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال العام ينسخ الخاص المتقدم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح(5/411)
فأما من يقول أن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فاللائق بمذهبه أن لا يقول في شئ من هذا لأقسام بالنسخ بل يذهب إلى الترجيح لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وإما اذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فإن كانا معلومين لم يجز ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه أحدهما من كونه حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأن الحكم بذلك طريقة الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالحكم التخيير وأما إذا كانا مظنونين جاز ترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة الإسناد وبما تضمنه الحكم وإذا لم يترجح فالحكم التخيير وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم على المظنون لكونه معلوما فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم حتى حصل التعارض فإن الحكم ما قدمناه القسم الرابع إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا معلومين أو مظنونين وكان الخاص متأخرا كان ناسخا للعام المتقدم(5/412)
وإن كان العام متأخرا كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية وعندنا أنه يبنى العام على الخاص وإن وردا معا خص العام بالخاص إجماعا وإن جهل التاريخ فعندنا يبنى العام على الخاص وعند الحنفية يتوقف فيه وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون إلا إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا ووردا معا وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في باب العموم(5/413)
القسم الثالث في تراجيح الأخبار ترجيح الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده أو بوقت وروده أو بلفظه أو بحكمه أو بأمر خارج عن ذلك القول في التراجيح الحاصلة في الإسناد واعلم أن الترجيح إما أن يقع بكثرة الرواة أو بأحوالهم أما الواقع بكثرة الرواة فمن وجهين أحدهما أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك وقد تقدم بيانه
الثاني أن يكون أحدهما أعلى إسنادا فإنه مهما كانت الرواة أقل كان(5/414)
احتمال الكذب والغلط أقل ومهما كان ذلك أقل كان احتمال الصحة أظهر وإذا كان أظهر وجب العمل به فعلو الإسناد راجح من هذا الوجه لكنه مرجوح من وجه آخر وهو كونه نادرا وأما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة فهى إما العلم أو الورع أو الذكاء أو الشهرة أو زمان الرواية أو كيفية الرواية أما التراجيح الحاصلة بالعلم فهى على وجوه أحدها أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه وقال قوم هذا الترجيح إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما المروى باللفظ فلا والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فإن حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فحينئذ يطلع على الأمر الذي يزول به الإشكال أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فينقل(5/415)
القدر الذي سمعه وربما يكون ذلك القدر وحده سببا للضلال وثانيها
إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت رواية الأفقه راجحة لأن الوثوق بإحتراز الله الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف منه وثالثها إذا كان أحدهما عالما بالعربية كانت روايته راجحة على من لا يكون كذلك لأن الواقف على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل مالا يقدر عليه غير العالم به ويمكن أن يقال بل هو مرجوح لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ اعتمادا على خاطره والجاهل باللسان يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ورابعها رواية الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها والوجه ما تقدم في الأفقه وخامسها أن يكون أحدهما صاحب الواقعة فيما يروى فيكون خبره راجحا ولهذا أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين بحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك ورجحناه قال على رواية غيرها عن النبي ص الماء من الماء لأن عائشة كانت أشد علما بذلك ورجح الشافعي رواية أبي رافع على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة(5/416)
لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة وسادسها
رواية من مجالسته للعلماء أكثر أرجح وسابعها رواية من مجالسته للمحدثين أكثر أرجح وثامنها أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى وذلك إذا روى ما يقل اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد وقت السحر والآخر يروى أنه شاهده وقت الظهر بالبصرة فطريق هذا أظهر والاشتباه على الأول أكثر(5/417)
أما التراجيح الحاصلة بالورع فهى على وجوه أحدها رواية من ظهرت عدالته بالاختبار راجحة على رواية مستور الحال عند من يقبلها وثانيها رواية من عرفت عدالته بالاختبار أولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية إذ ليس الخبر كالمعاينة وثالثها رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع قليل ورابعها رواية من عرفت عدالته بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس واطلاعا عليها أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك وخامسها
رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأروع أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية العالم الورع وسادسها رواية من عرفت عدالته بتزكية المعدل مع ذكر أسباب العدالة أولى من رواية من زكاة المعدل بدون ذكر أسباب العلة العدالة(5/418)
وسابعها المزكى إذا زكى الراوى فإن عمل بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه وروى خبره وثامنها رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة أولى من رواية العدل المبتدع سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل أو لم تكن أما التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء فهي على وجوه أحدها رواية الأكثر تيقظا والأقل نسيانا راجحة على رواية من لا يكون كذلك وثانيها إذا كان أحدهما أشد ضبطا لكنه أكثر نسيانا والآخر يكون أضعف ضبطا لكنه أقل نسيانا ولم تكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث تمنع من قبول خبره على ما بينا في باب الأخبار فالأقرب التعارض وثالثها أن يكون أحدهما أقوى حفظا لألفاظ الرسول ص من غيره فإن الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول عليه الصلاة
والسلام ورابعها أن يجزم أحدهما ويقول الآخر كذا قال فيما أظن وخامسها أن يكون الرواى قد اختلط عقله في بعض الأوقات ثم لا يعرف أنه(5/419)
روى هذا الخبر حال سلامة العقل أو حال اختلاطه وسادسها إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث والآخر عول على المكتوب فالأول أولى لأنه أبعد عن الشبهة وفيه احتمال أما التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوى فأمور أحدها أن يكون من كبار الصحابة لأن دينه لما منعه عن الكذب فكذا منصبه العالى يمنعه عنه ولذلك كان علي رضي الله عنه يحلف الرواة وكان يقبل رواية الصديق من غير التحليف وثانيها صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد وثالثها رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهول النسب ورابعها أن يكون في رواة أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم(5/420)
ضعفاء ويصعب التمييز فيرجح عليه الخبر الذي لا يكون كذلك أما التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية فأمور أحدها إذا كان قد اتفق لأحدهما رواية الحديث في زمان الصبا وغير زمان الصبا فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو الا في زمان البلوغ وثانيها إذا كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين ولم يرو إلا في حالة البلوغ فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل ولم يرو إلا في الكبر وثالثها من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة إلى من لم يوجد ذلك فيه أما التراجيح العائدة إلى كيفية الرواية فأمور أحدها أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على الراوى أو مرفوع إلى الرسول ص فالمتفق على كونه مرفوعا أولى وثانيها أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا والآخر اجتهادا بأن يروى أنه وقع ذلك في مجلس الرسول ص فلم ينكر عليه فالأول أولى لأنه أقل احتمالا(5/421)
وثالثها أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم ولم يذكره الآخر فيكون
الأول راجحا لأنه يدل على أنه كان له من الاهتام عن بمعرفة ذلك الحكم ما لم يكن للآخر ورابعها أن يروى أحدهما الخبر بلفظه والآخر بمعناه أو يحتمل أن يكون قد رواه بمعناه فالأول أولى وخامسها أن يروى أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول فيترجح على ما لا يكون كذلك وسادسها إذا أنكر راوى الأصل فقد ذكرنا فيه تفصيلا وكيف كان فهو مرجوح بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك وسابعها لو قبلنا المرسل فإذا أرسل أحدهما وأسند الآخر فعندنا المسند أولى وقال عيسى بن أبان المرسل أولى وقال القاضي عبد الجبار يستويان لنا أنه إذا أرسل فعدالته معلومة لرجل واحد وهو الذي يروى عنه وإذا(5/422)
أسند صارت عدالته معلومة للكل لأنه يكون كل واحد متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته ولا شك أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد خفي حال الرجل على إنسان واحد ولكن يبعد أن يخفي حاله على
الكل فثبت أن المسند أولى احتج المخالفون بأمرين الأول أن الثقة لا يقول قال الرسول ذلك فيحكم عليه بالتحليل والتحريم ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك بخلاف ما إذا أسند الحديث وذكر الواسطة فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة فلم يزد على حكاية أن فلانا زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك فكان الأول أقوى الثاني روى أن الحسن قال إذا حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله ص بحديث تركتهم وقلت قال رسول الله ص فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق والجواب عن الأول أن قول الراوي قال رسول الله ص لا يمكن(5/423)
إجراؤه على ظاهره لأنه يقتضى الجزم بصحة خبر الواحد وهو جهل وغير جائز فوجب حمله على أن المراد منه أني أظن أن رسول الله ص قال وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى من الإرسال لأن في الإسناد يحصل ظن العدالة للكل وفي الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا للواحد وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني فرعان الأول
لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح لو قال الراوي قال رسول الله ص أما إذا لم يقل ذلك بل قال عن النبي ص فالأظهر أنه لا يترجح لأنه في معنى قوله روى عن الرسول الثاني رجح قوم بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة وفيه احتمال القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر وهي ثمانية الأول أن تكون إحدى الآيتين أو الخبر مدنيا والآخر مكيا فالمدني مقدم لأن الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة والمدني لا محالة مقدم عليه(5/424)
أما المكيات المتأخرة عن المدنيات فقليلة والقليل ملحق بالكثير فيحصل الرجحان الثاني الخبر الذي يظهر وروده بعد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلو شأنه راجح على الخبر الذي لا يدل على ذلك لأن علو شأنه كان في آخر أمره ص فالخبر الوارد في هذا الوقت حصل فيه ما يقتضى تأخره عن الأول والأولى أن يفصل فيقال إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم الأول على الثاني
أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه الثالث أن يكون راوى أحد الخبرين متأخر الإسلام ويعلم أن سماعه كان بعد إسلامه وراوى الخبر الثاني متقدم الإسلام فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا والأولى أن يفصل فيقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر وأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر أو علمنا أن أكثر رويات المتقدم متقدم على رواية المتأخر فهاهنا نحكم بالرجحان لأن النادر يحلق يلحق بالغالب(5/425)
الرابع أن يحصل إسلام الراويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه ولا يعلم ذلك في سماع الآخر فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا الخامس أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق والآخر يكون خاليا من التاريخ فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا مثاله ما روي أنه عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي توفي فيه خرج فصلى بالناس قاعدا والناس قيام فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم بالقاعد وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا صلى الإمام قاعدا
فصلوا قعودا أجمعين وهذا يقتضي عدم جواز ذلك فرجحنا الأول لأنه(5/426)
كان في آخر أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وأما الثاني فيحتمل انه كان قبل المرض السادس أن يكون أحدهما مؤقتا بموقت متقدم والآخر يكون خاليا عن الوقت فيقدم الخالى لأنه أشبه بالمتأخر السابع أن تكون حادثة كان الرسول ص يغلظ بها زجرا لهم عن العادات القديمة ثم خفف فيها نوع تخفيف فيرجح التخفيف على التغليظ لأنه أظهر تأخرا وهذا ضعيف لاحتمال أن يقال بل يرجح التغليظ على التخفيف لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وذلك متأخر الثامن عمومان متعارضان أحدهما واردا ابتداءا والآخر على سبب فالأول أولى لأن من الناس من قال الوارد على السبب يختص به ولا يعم لكن ذلك وإن لم يجب فلا أقل من أن يفيد الترجيح(5/427)
وأعلم أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة وهى لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ وهي من وجوه
الأول أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال وفيه ركاكة والآخر فصيح فمن الناس من رد الأول لأنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له ومنهم من قبله وحمله على أن الراوى رواه بلفظ نفسه وكيف ما كان فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه وثانيها قال بعضهم يقدم الأفصح على الفصيح وهو ضعيف لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك وثالثها أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فيقدم الخاص على العام وقد تقدم دليله في باب العموم(5/428)
ورابعها أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا فتقدم الحقيقة لأن دلالتها أظهر وهذا ضعيف لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة فإنك لو قلت فلان بحر فهو أقوى دلالة على قولك فلان سخى وخامسها أن يكونا حقيقتين إلا أن أحدهما أظهر في المعنى إما لكثرة ناقليه أو لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره ويجرى هاهنا كل ما ذكرناه في
ترجيح الخبر نظرا إلى حال الراوى وسادسها أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه ووضع الآخر مختلفا فيه وسابعها أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه وثامنها الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي أو العرفي أولى مما يدل عليه بالوضع اللغوي وهاهنا تفصيل فإن اللفظ الذي صار شرعيا حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي فأما الذي لم يثبت ذلك فيه مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي(5/429)
على حكم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوى عرف شرعي فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا اللغوى لأن هذا اللغوى إذا لم ينقله الشرع فهو لغوى عرفي شرعي وأما الثاني فهو شرعي وليس بلغوى ولا عرفي والنقل على خلاف الأصل فكان اللغوى أولى وتاسعها إذا تعارض مجازان فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة أولى وأيضا إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين من والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد كان هذا راجحا على الأول لأنه أقل
مخالفة للأصل وعاشرها أن يكون أحدهما دخله التخصيص والآخر لم يدخله التخصيص فالذي لم يدخله التخصيص يقدم على الأول لأن الذي دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز وحادى عشرها أن يدل أحدهما على المراد من وجهين والآخر من وجه واحد يقدم الأول لأن الظن الحاصل منه أقوى(5/430)
وثاني عشرها أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته والآخر ليس كذلك فالأول أقوى ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى وثالث عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع اعتباره بمحل آخر والآخر ليس كذلك يقدم الأول في المشبه والمشبه به جميعا لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة مثاله قول الحنفية في قوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر كالخمر تخلل فتحل رجحناه في المشبه على قوله عليه الصلاة والسلام لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وفي المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله أرقها(5/431)
ورابع عشرها أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى كقوله عليه الصلاة والسلام فنكاحها باطل باطل باطل وخامس عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع ذكر المقتضي لضده كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها يقدم على ما ليس كذلك لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده ولأن تقديمه يقتضى النسخ مرة وتقديم ضده يقتضى النسخ مرتين فيكون الأول أولى وسادس عشرها يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد فإنه على ما لا يكون كذلك كقوله عليه الصلاة والسلام من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وكذا القول لو كان التهديد في أحدهما أكثر(5/432)
وسابع عشرها أن يكون أحد الدليلين يقتضى الحكم بواسطة والآخر يقتضيه بغير واسطة فالثاني يرجح على الأول كما إذا كانت المسألة ذات صورتين فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة وأقام الدليل عليه فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع فيقول المعلل دليلي راجح على دليلك لأن دليلى بغير واسطة ودليلك بواسطة فيكون الترجيح معى لأن كثرة الوسائط الظنية تقتضي كثرة الاحتمالات فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه وثامن عشرها
المنطوق مقدم على المفهوم إذا جعلنا المفهوم حجة لأن المنطوق أقوى دلالة على الحكم من المفهوم القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم وهي من وجوه خمسة الأول إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل والثاني يكون ناقلا فالحق أنه يجب ترجيح المقرر وقال الجمهور من الأصوليين أنه يجب ترجيح الناقل(5/433)
لنا أن حمل الحديث على ما لا يستفاد الا من الشرع أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته فلو جعلنا المبقي مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل فلو قلنا إن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره عن الناقل أولى من الحكم بتقدمه عليه وأحتج الجمهور على قولهم بوجهين الأول أن اعتبار الناقل أولى لأنه يستفاد منه ما لا يعلم إلا منه وأما المبقى فإن حكمه معلوم بالعقل فكان الناقل أولى الثاني أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ لأنه يقتضى إزالة حكم العقل فقط وفي القول يكون المقرر متأخرا تكثير النسخ لأن الناقل
أزال حكم العقل ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى والجواب عن الأول ما ذكرناه في الدليل وهو أنا لو جعلنا المبقى متأخرا لكنا قد استفدنا منه مالا يستقبل العقل به ولو جعلناه متقدما لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن العقل من معرفته(5/434)
وعن الثاني أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم الأصل ليس بنسخ لأن دلالة العقل مقيدة بشرط عدم دليل السمع فإذا وجد فلا يبقى دليل العقل فلا يكون دليل السمع مزيلا لحكم العقل بل مبينا لانتهائه فلا يكون ذلك خلاف الأصل وأيضا فما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنا لو جعلنا المبقى مقدما لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين دليل العقل ودليل الخبر فيكون هذا أشد مخالفة لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف وهو غير جائز وأما على الوجه الذي قلناه فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا فرع فان قيل أفتجعلون العمل بالناقل على ما ذكره الجمهور أو بالمقرر على ما ذكرتموه في باب الترجيح قلنا قال القاضي عبد الجبار أنه ليس من باب الترجيح واستدل عليه بوجهين الأول أنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ والعمل بالناسخ ليس من باب
الترجيح الثاني أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه لأن(5/435)
هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بموجب الخبر الآخر لدلالة العقل لا لأجل الخبر ويمكن أن يجاب عن الأول بأنا لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخر وناسخ وإنما نقول الظاهر ذلك مع جواز خلافه فهو إذن داخل في باب الأولى وهذا ترجيح وعن الثاني أنه لو كان الخبر الناقل لعلمنا بموجب الخبر الآخر لأجله ألا ترى أنا نجعله حكما شرعيا ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به ولولا أنه بعد ورود الخبر صار شرعيا وإلا لما كان كذلك الثاني قال القاضي عبد الجبار الخبران إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فإنهما سواء وضرب لذلك أمثلة ثلاثة أحدها أن يقتضى العقل حظر الفعل ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه(5/436)
وثانيها
أن يقتضى العقل وجوب الفعل ثم ورد خبران في حظره وإباحته وثالثها أن يقتضى العقل إباحة الفعل ثم ورد خبران في وجوبه وحظره واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شئ من الأحكام بالقضاء والنفى بالإثبات بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع وحينئذ لا يكون لأحدهما مزية على الآخر وأما على مذهب المعتزلة فلا يتم ذلك لأنه لا بد في كل نفى وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا بيانه أن الإباحة تشارك الوجوب في جواز الفعل وتخالفه في جواز الترك وتشارك الحظر في جواز الترك وتخالفه في جواز الفعل فهى تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر إذا ثبت هذا فنقول إذا اقتضى العقل الحظر فقد اقتضى جواز الترك أيضا لأن ما صدق عليه أنه محظور فقد صدق عليه أنه يجوز تركه فإذا جاء خبر الإباحة والوجوب فالإباحة إنما تنافي الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضى جواز الترك لا من حيث إنها تقتضى جواز الفعل لكن جواز الفعل هاهنا كما عرفت حكم عقلى فثبت أنه لا بد هاهنا في(5/437)
النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه فليعمل فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثاني وهو ما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فالكلام فيه كما في المثال الأول
وأما المثال الثالث وهو ما إذا اقتضى العقل والإباحة ثم في جاء خبرأن في الحضر والوجوب فنقول لما ثبت أن الإباحة تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر وإذا كانت الإباحة مقتضى العقل لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه وناقلا من وجه آخر وكذا القول في الحظر فهاهنا أيضا لابد في النفى والإثبات المتواردين بن على أمر واحد أن يكون أحدهما عقليا وإذا ثبت أنه لا بد في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى فرع إذا كان مقتضى العقل الحظر ثم ورد خبران في الإباحة والوجوب والإباحة تشارك الحظر من وجه وتخالفه من وجه آخر فخبر الإباحة يقتضى بقاء حكم العقل من وجه والنقل من وجه وأما الوجوب فإنه يخالف الحظر في القيدين معا فيكون الوجوب مقتضيا للنقل من وجهين فمن رجح الخبر الناقل على المبقى رجح خبر الوجوب ومن رجح(5/438)
المبقى على الناقل فبالعكس وكذا القول فيما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فأما إذا اقتضى العقل الإباحة وجاء خبران في الحظر والوجوب فكل واحد منهما يشارك الإباحة من وجه ويخالفها من وجه آخر فإذن كل
واحد منهما ناقل من وجه ومبق هذه من وجه آخر فيحصل التساوى ولا يحصل الترجيح الثالث إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان إنهما يستويان وقال الكرخى وطائفة من الفقهاء خبر الحظر راجح احتجوا على الترجيح للحظر بالخبر والحكم والمعنى أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ضعيف ومنقطع وقال عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك وجواز هذا(5/439)
الفعل يريبه لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا فما يريبه جواز فعله فيجب تركه وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وأما الحكم فإنه من طلق أحد نسائه ونسيها حرم عليه وطء جميع نسائه وكذلك لو أعتق إحدى إمائه وأما المعنى فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح وترك المباح أولى فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن قلت ولا يمتنع أيضا أن يكون مباحا فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا قلت إنه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما
الفعل والثاني اعتقاد إباحه وليس كذلك إذا امتنع من المباح لاعتقاد حظره لأنه محظور واحد والغرض هو الترجيح بضرب من القوة الرابع المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما عند الكرخى وقال قوم يسوى بينهما وجه الأول أن ملك النكاح واليمين مشروع على خلاف الأصل فيكون زوالهما على وفق الأصل والخبر المتأيد بموافقة الأصل راجح على الواقع على خلاف الأصل(5/440)
الخامس النافي للحد مقدم على المثبت له عند بعض الفقهاء وأنكره المتكلمون وجه الأول من وجوه أحدها أن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل والنافي له على وفق الأصل فيكون النافي له راجحا وثانيها أن ورود الخبر في نفى الحد إن لم يوجب الجزم بذلك النفى فلا أقل من أن يفيد شبهة فيه إذا حصلت الشبهة سقطت الحدود لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات وثالثها إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل الشرع فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة ولم يتقدم له ثبوت
أولى القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة(5/441)
وهي من وجوه أحدها الترجيح بكثرة الأدلة وقد سبق القول فيه وثانيها أن يقول بعض أئمة الصحابة أو يعمل بخلافه والخبر لا يجوز خفاؤه عليه وهذا عند البعض يحمل على نسخه أو أنه لا أصل له إذا لولاه لما خالف وعند الشافعى رضي الله عنه لا يحمل على ذلك لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك كان راجحا عليه وثالثها إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم قال عيسى بن أبان يجب ترجيحه لأن الأكثر يوفقون للصواب مالا يوفق له الأقل وقال آخرون لا يحصل الترجيح لأنه لا يجب تقليدهم ورابعها أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا إما لاختلاف المجتهدين في قبوله أو لأن كونه مما تعم به البلوى إن لم يوجب القدح فيه فلا أقل من إفادته المرجوحية
واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض فينبغى إذا استوى الخبران في كمية وجوه الترجيح أن تعتبر الكيفية فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية وجب العمل به(5/442)
وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية وأقل كيفية والجانب الآخر على العكس منه وجب على المجتهد أن يقابل ما في أحد الجانبين بما في الجانب الآخر ويعتبر حال قوة الظن والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقة الاجتهاد(5/443)
القسم الرابع في تراجيح سنة الأقيسة وهي إما أن تكون بحسب ماهية العلة أو بحسب ما يدل على وجودها أو بحسب ما يدل على عليتها أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في الأصل أو بحسب محل ذلك الحكم أو بحسب محالها أو بحسب أمور منفصلة عن ذلك النوع الأول في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية العلة فنقول إنا بينا أن الحكم الشرعي إما أن يكون معللا بالوصف الحقيقي أو بالحكمة أو بالحاجة أو بالوصف العدمي أو بالوصف الإضافي أو بالوصف التقديرى أو بالحكم الشرعي وعلى كل التقديرات فالعلة إما أن تكون مفردة أو مركبة من قيدين أو أكثر واعتمد بعضهم في التراجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين أحدهما أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية فهو راجح على ما لا يكون كذلك لأن
العقل أصل النقل والفرع كلما كان أشبه بالأصل كان أقوى(5/444)
وثانيها أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وكل ما كان الخلاف فيه أقل فهو راجح على ما يكون الخلاف فيه أكثر والسبب فيه أن وقوع الخلاف فيه يدل على حصول الشك والشبهة وهذان المأخذان ضعيفان جدا إلا في شئ واحد وهو أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وذلك لأن المقدمة إذا كانت مجمعا عليها كانت يقينية والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيا وبعضه ظنيا أقوى من الذي يكون كل مقدماته ظنيا لأن الاحتمال في الأول أقل مما في الثاني ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى التفصيل وفيه مباحث أحدها أن التعليل بالوصف الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام لأن جواز التعليل بالوصف الحقيقي مجمع عليه بين القائسين والتعليل بسائر الأقسام مختلف فيه فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللا بالوصف الحقيى أقوى مما لا يكون كذلك وثانيها التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وبالوصف الإضافي(5/445)
وبالحكم الشرعي وبالوصف التقديري
أما أنه أولى من العدم فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع الحكم إلا إذا حصل العلم بإشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة فيكون الداعى إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم وإذا كانت العلة هى المصلحة لا العدم كان التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالعدم فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالوصف قلت كان الواجب ذلك إلا أن الوصف أدخل في الضبط من الحاجة فلهذا المعنى ترجح الوصف على المصلحة والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا أضيف إلى الوجود فهو في نفسه غير مضبوط فالعدم ليس بمؤثر في الحقيقة وليس بضابط في نفسه فظهر الفرق وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وقد ثبت أن الإضافات ليست أمورا وجودية لزم أن يكون التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافات وأما أنه أولى من الحكم بالشرع والوصف التقديرى فلأن التعليل بالحاجة تعليل بنفس المؤثر وهذا يمنع من التعليل بغيره ترك العمل به في(5/446)
الوصف الحقيقي بالإجماع ولأنه اشتبه بالعلل العقلية فيبقى في هذه الصورة على الأصل وثالثتها التعليل بالعدم أولى أم بالحكم الشرعي يحتمل أن يقال العدم أولى لأنه أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل
أن يقال بل بالحكم الشرعي أولى لأنه أشبه بالوجود ورابعها التعليل بالعدم أولى أم بالصفات التقديرية والأشبه هو الأول لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود فكل ما في المعدوم من المحذورات فهو حاصل في المقدر مع مزيد محذور آخر وهو أنه كونه معدوما أعطى حكم الموجود فكان المعدوم أولى وخامسها تعليل الحكم الوجودى بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى والحكم الوجودى بالوصف العدمي لأن كون العلة والمعلول عدميين يستدعى تقدير كونهما وجوديين لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان ثبوتيان فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودا(5/447)
وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين الباقيين للمشابهة وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى أم تعليل الوجود بالعدم ففيه نظر وسادسها التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر لأن الأول على وفق الأصل والثاني على خلاف الأصل وسابعها التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل بالعلة المركبة لأن الاحتمال في المفردة أقل مما في المركب لأن المفرد لو وجد لوجد بتمامه ولو عدم
لعدم بتمامه وأما المركب فليس كذلك لأن المركب من قيدين فقط يحتمل في جانب الوجود احتمالات ثلاثة وهي أن يوجد الجزء بدلا عن ذاك وذاك بدلا عن هذا ويوجد المجموع وكذا القول في جانب العدم المركب من قيود ثلاثة يوجد فيه احتمالات سبعة في طرف الوجود وسبعة في طرف العدم ومعلوم أن ما كان الاحتمال فيه أقل كان أولى فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة(5/448)
النوع الثاني القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات إما أن يكون بديهيا أو حسيا أو استدلاليا والاستدلال إما أن يفيد العلم أو الظن وعلى التقديرين فذلك الدليل إما أن يكون عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما فلنتكلم في هذه الأقسام فنقول أما إذا كان الطريق مفيدا لليقين سواء كان بديهيا أو حسيا أو استدلاليا يقينيا وسواء كان عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما وسواء كثرت المقدمات أو قلت فإنه لا يقبل الترجيح وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح فلما تقدم
فإن قلت الضرورى أولى من النظرى لأن الضرورى لا يقبل الشك والشبهة والنظرى يقبل ذلك قلت النظرى واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه وكما أن النظرى يزول عند زوال أحد الأمور التي لا بد منها في حصول(5/449)
جميع مقدماته المنتجة له فكذلك الضرورى يزول عند زوال أحد التصورات التي لا بد منها فإذن لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين بل الفرق هو أن النظرى يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضرورى فلا جرم كان زوال النظرى أكثر من زوال الضرورى فأما وجوب الوجود وامتناع العدم عند حصول كل ما لا بد منه فلا فرق بين الضرورى والنظرى فيه ألبتة أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل كان القياس أقوى لأن المقدمات متى كانت أقل كان احتمال الخطأ أقل ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان ظن الصواب أقوى واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف فإذا فرضنا دليلا كانت مقدماته قليلة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا ضعيفا ودليلا آخر ظنيا معارضا للأول مقدماته كثيرة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا قويا فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر بسبب قوة الكيفية وقد تكون قوة الكيفية
في أحد الجانبين أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر حتى أن الدليل الظنى الذي يكون مركبا من مائة مقدمة قد يفيد ظنا(5/450)
أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين فإذن لا بد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه إذا عرفت هذا فنقول الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أما القياس فالكلام فيه كما في الأول ولا يتسلسل بل ينتهي إلى النص أو الإجماع أما النص فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب وأما الإجماع فإن كانا قطعيين لم يقبل الترجيح وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح لأن الإجماع المعلوم مقدم على المظنون أما إذا كانا مظنونين فهذا يقع على وجهين أحدهما الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن قول البعض وسكوت الباقين وثانيهما الإجماع المنقول بطريق الآحاد فهذان القسمان في محل الترجيح وأما الذي يقال إن أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه فإن أريد(5/451)
به عدم الاختلاف في أحدهما ووقوعه في الآخر فذلك ليس من باب الترجيح لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي وإن عني به قله الاختلاف في أحدهما وكثرته في الآخر فلا نسلم أن هذا القدر يوجب الترجيح ولنختم هذا الفصل بشئ وهو أنه إذا تعارض قياسان وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلوما وفي الآخر مظنونا كان الأول راجحا لما بينا أن القياس الذي بعض مقدماته معلوم راجح على ما كان كل مقدماته مظنونا النوع الثالث القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلى أو العقلى أما الدليل النقلى فإما أن يكون نصا أو إيماءا أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهى قوله لعله كذا أو لسبب كذا كذا أو لأجل كذا فهذا مقدم على جميع الطرق النقلية وأما الذي يحتمل غير العلية ولكنه ظاهر جدا فألفاظ ثلاثة وهي اللام وإن والباء وحرف اللام مقدم على إن والباء لأن اللام(5/452)
ظاهر جدا في التعليل وأما لفظ أن فقد يكون للتأكيد ولفظ الباء قد يكون للإلصاق كقولك كتبت بالقلم وقد يفيد كونه محكوما به كقوله
عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر أما حيث تأتي لا للآلة ولا لأن تكون محكوما به كان مرادفا للأم فإنه لا فرق بين أن يقال قتلته لجنايته وقتلته بجنايته وأما الباء وإن أيهما المقدم ففيه احتمال وأما الإيماءات ففيها أبحاث أحدها أنا بينا أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على كونه مناسبا ولكن الوصف الذي يكون مناسبا راجح على مالا يكون كذلك وثانيهما أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة الظنية لما عرفت أن الدليل الذي بعض مقدماته يقيني والبعض ظني راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا وأما إذا ثبتت علية الوصفين بإيماء خبر الواحد فوجوه الترجيح فيه ما ذكرناه في باب الخبر الواحد وثالثها أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجح على ما ظهرت(5/453)
عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهذا فيه نظر وذلك لأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليتها إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما مر ذلك في باب الإيماءات
وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كان الأصل لا محالة أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات ورابعها أنا قد ذكرنا أن أقسام الإيماءات خمسة وكل واحد من تلك الأقسام يندرج تحته أقسام كثيرة واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في تفاصيل كل واحد من أقسام تلك الأقسام مع ما يشاركه في جنسه ومع ما هو خارج من جنسه لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من الجنس الآخر ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع القوي لكنا تركنا هذا لطولها وكثرتها أما الطرق العقلية فقد ذكرنا منها ستة وهي المناسب والمؤثر والشبه والدوران والطرد والسبر فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس(5/454)
أما تفاصيل هذه الأجناس ففيها أبحاث أحدها أن المناسبة أقوى من الدوران وقال قوم الدوران أقوى وعبروا عن ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك لنا إن الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته فالمناسبة علة لعلية العلة وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه لأن الدوران في الحقيقة
ليس من لوازم العلية لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت العلية منفكة هناك عن الدوران وقد ينفك الدوران عن العلية كما في الصور التي عددناها في باب الدوران وإذا كان كذلك كان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالدوران عليها احتج المخالف بوجهين الأول إن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أقوى الثاني أنهم أجمعوا على صحة المطرد المنعكس ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة(5/455)
والجواب عن الأول لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية وقد بيناه في كتبنا العقلية سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى وعن الثاني أن ذلك يقتضي ترجيح المناسب المطرد المنعكس على المناسب الذي لا يكون مطردا منعكسا ولا نزاع فيه أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن المناسبة على المناسب المنفك عن الدوران فلأنه إذا وجد الدوران بدون المناسبة فقد لا تحصل العلة كرائحة الخمر مع حرمتها وثانيها
أن المناسبة أقوى من التأثير لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع هذا الحكم وفي جنسه وكون الشي مؤثرا في شئ لا يوجب كونه مؤثرا فيما يشاركه في جنسه أما كونه مناسبا فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرا في الحكم فكان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها وثالثها أن السبر إما أن يكون قاطعا في مقدماته أو(5/456)
مظنونا في مقدماته أو قاطعا في بعض مقدماته ومظنونا في البعض فإن كان قاطعا في كل مقدماته كان العمل به متعينا وليس هذا بترجيح أما إذا كان مظنونا في كل مقدماته مثل أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل ودليل آخر ظني على أن العلة إما هذا الوصف أو ذاك ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك الوصف فيحصل هاهنا ظن أن العلة ليست إلا هذا الوصف فهاهنا العمل بالمناسبة أولى من العمل بهذا السبر وذلك لأن الدليل الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لا بد منها في السبر إما النص أو الإيماء أو الطرق العقلية فإن كان هو النص صارت تلك المقدمات يقينية وقد فرضناها ظنية هذا خلف وإن كان إيماءا فقد عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة وأما الطرق العقلية فالمناسبة أولى من غيرها لأن المناسبة مستقلة بإنتاج العلية والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدمات كثيرة والمثبت لتلك المقدمات إما المناسبة أو غيرها
فإن كان الأول كانت المناسبة أولى من السبر لأن في إثبات الحكم بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج وفي السبر لابد من ثلاث مقدمات والكثرة دليل المرجوحية وإن كان الثاني كانت المناسبة أولى لأن المناسبة علة لعلية العلة وغير المناسبة ليس كذلك فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى(5/457)
وأما إن كان السبر مظنونا في بعض المقدمات مقطوعا في البعض عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة ورابعها أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد وذلك واضح لا حاجة به إلى الدليل فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة العقلية بحسب الجنس ولنتكلم الآن في أنواع كل واحد منها وفيه سائل المسألة الأولى ترجيح بعض المناسبات على بعض إما أن يكون بأمور عائدة إلى ماهياتها أو بأمور خارجة عنها أما القسم الأول فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبا إما أن يكون لأجل مصلحة دنيوية أو دينية والمصلحة الدنيوية إما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو في محل الزينة والتتمة وظاهر أن المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة
ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب فلا بد من بيان كيفية ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض(5/458)
ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع الحكم وقد يناسب جنسه نوع الحكم وقد يناسب نوعه جنس الحكم وقد يناسب جنسه جنس الحكم ولا شك في تقدم الأول على الثلاثة الأخيرة والثاني والثالث وأما الثاني والثالث فهما كالمتعارضين ولا شك في تقدمهما على الرابع ثم الجنس قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا والمناسبة المتولدة من الجنس القريب تقدم على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد ثم المناسبة في كل قسم من هذه الأقسام قد تكون جلية وقد تكون خفية أما الجلي فهو الذي يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم كقوله عليه الصلاة السلام لا يقضى القاضي وهو غضبان فإنه يلتفت الذهن عند سماع هذا الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم لكونه مانعا من استيفاء الفكر وأما الخفي فهو الذي لا يكون كذلك ولا شك في تقدم الجلي على الخفي وأما القسم الثاني وهو ترجيح بعض المناسبات على بعض بأمور خارجة عنها فذلك على وجوه(5/459)
أحدها أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق أعني الإيماء والدوران والسبر راجحة على ما لا يكون كذلك ويرجع حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة وثانيها المناسبة الخالية عن المعارض راجحة على ما لا يكون كذلك فإن المناسبة وإن كانت لا تبطل بالمعارضة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى مالا تكون معارضة وثالثها الذي يناسب الحكم من وجهين راجح على مالا يناسب إلا من وجه واحد وعلته ظاهرة وأيضا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح مسألة الدوران الحاصل في صورة واحدة راجح على الحاصل في صورتين لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتماله في الدوران الحاصل في صورتين ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان الظن أقوى بيان الأول أن العصير لما لم يكن مسكرا في الزمان الأول فلم يكن محرما ثم صار مسكرا بعد ذلك فصار محرما ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى زالت الحرمة فهاهنا نقطع بأن شيئا من الصفات الباقية في الأحوال(5/460)
الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم
وأما الدوران في صورتين فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي كونه ذهب موجب للزكا لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه والثياب لما لم تكن ذهبا لم تجب الزكاة فيها فهاهنا لا يمكن القدح في علية الصفات الباقية بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولى فثبت أن احتمال المعارض في الصورة الأولى أقل فكان الظن فيها أقوى مسألة قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبها في الحكم الشرعي وقد يكون شبها في الصفة واختلفوا في الراجح والأظهر أن الشبه في الصفة أولى لأنها أشبه بالعلل العقلية النوع الرابع في التراجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم فنقول هذا الطريق لا شك أنه يكون دالا ثم ذلك الطريق إما أن يكون في القياسين المتعارضين قطعيا أو ظنيا أو يكون في أحدها قطعيا وفي الآخر ظنيا فإن كان قطعيا فيهما معا استحال الترجيح في ذلك لما عرفت وإن كانا ظنيين فالدليل الدال عليهما إما أن يكون لفظا أو إجماعا أو قياسا فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس(5/461)
أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين إحداها قالوا القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع أقوى من الذي
ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية لأن الدلائل اللفظية تقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا مشكل لأنا حيث أثبتنا الإجماع إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية والفرع كيف يكون أقوى حالا من الأصل المسألة الثانية قد تقدم في كتاب القياس أن الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتا بالقياس وإن كان قد جوزه قوم والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالنص راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس لأن ذلك القياس لا يتفرع على قياس آخر إلى غير نهاية بل لا بد من الانتهاء إلى أصل ثبت حكمه بالنص وإذا كان كذلك فالنص أصل القياس والأصل راجح على الفرع البحث الثاني في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الثلاثة فنقول أما الدلائل اللفظية فإما أن تكون متواترة أو آحادا فإن كانت متواترة لم يمكن ترجيح بعضها على بعض إلا بما يرجع إلى المتن وإن كانت آحادا أمكن ترجيح بعضها على بعض بما في المتن وبما(5/462)
في الإسناد وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما تقدم فلا فائدة في الإعادة وبالجملة فكلما كان ثبوت الحكم في الأصل أقوى كان القياس أرجح فإن كان ثبوت الحكم في أحد القياسين مقطوعا وفي الآخر كان الأول
أولى لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع والبعض مظنون راجح على ما كل مقدماته مظنون وأيضا فإذا ثبت الحكم في أحد الأصلين بإيماء خبر متواتر فهو راجح على ما ثبت بإيماء خبر واحد ولكن بشرط التعادل في الإيماءين ولو ثبت الحكم في الأصل بخبر الواحد فالذي هو مدلول حقيقة اللفظ راجح على ما هو مدلول مجازه النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم وهي على وجوه أحدها القياس الذي يوجب حكما شرعيا راجح على ما يوجب حكما عقليا لأن القياس دليل شرعي فيجب أن يكون حكمه شرعيا إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي لزم النسخ مرتين(5/463)
ولو قدرنا تقديم العقل لزم النسخ مرة فإن قلت كيف يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية قلت يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا عنه الشرع أما إذا كان أحد الحكمين نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فقيل إنهما يتساويان لكنا ذكرنا في باب ترجيح الأخبار أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليا وثانيها
الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظر فذلك الحظر إما أن يكون شرعيا أو عقليا فإن كان شرعيا فهو راجح على الإباحة لأنه شرعى ولأن الأخذ بالحظر أحوط وإن كان عقليا فكونه حظرا جهة الرجحان وكونه عقليا جهة المرجوحية فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر ولا بد في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليا على ما تقدم وثالثها أن يكون حكم إحدى العلتين العتق وحكم الأخرى الرق فالمثبتة للعتق أولى لأن للعتق مزيد قوة ولأنه على وفق الأصل ورابعها إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد وحكم الأخرى إثباته فالمسقطة أولى لأن ثبوته على خلاف الأصل فإن قلت المثبت للعقوبات يثبت حكما شرعيا والدارئ يثبت حكما عقليا فالمثبت للحكم الشرعي أولى الجواب أن الشرع إذا ورد بالسقوط صار السقوط حكما شرعيا ولذلك لا يجوز(5/464)
نسخه إلا بما يسخ الحكم الشرعي وخامسها الترجيح بكون أحد حكمي العلة أزيد من حكم الآخر بأن يكون حكم أحدهما الندب وحكم الآخر الإباحة فالمثبت للندب أولى لأن في الندب معنى الإباحة وزيادة فكانت أولى إذا كانت الزيادة شرعية وسادسها
العلة إذا كان حكمها الطلاق كانت راجحة لما ثبت من قوة الطلاق وسابعها القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول أولى من القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول وعلته كون الأول متفقا عليه والثاني مختلفا فيه ولأن الأول خال عن المعارض والثاني مع المعارض فيكون الأول أولى وثامنها القياس على أصل أجمع على تعليل حكمه أولى مما لا يكون كذلك وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية وهي كون الحكم في الأصل معللا فيكون ذلك القياس راجحا على مالا يكون شئ من مقدماته يقينيا وتاسعها الترجيح بشهادة الأصول للحكم وقد يراد بها دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك الحكم وهذه وإن كانت صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم فلا يجوز(5/465)
الترجيح بها وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها وعاشرها يقع الترجيح بقول الصحابي لأنه أعرف بمقاصد الرسول ص وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض وحادى عشرها
أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور كتخصيص عموم أو ترك العمل بظاهر أو ترجيح مجاز على حقيقة وفرق بين هذا الترجيح وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته وأصول أخر تشهد ببطلانه فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه ومن هذا الباب أن يكون الحكم لازما للعلة في كل الصور فإن من يجوز تخصيص العلة يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة النوع السادس في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة وهو إما الأصل أو الفرع أو مجموعها أما الأصل فبأن تشهد للعلة الواحد أصول كثيرة وذلك لأن شهادة(5/466)
الأصل دليل على كون تلك العلة معتبرة وكل شهادة دليل مستقل فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة الدلائل وأما الفرع ففيه صور إحداها أن العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين خلافا لبعض الشافعية لنا أن المتعدية أكثر فائدة ولأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها فالأخذ
بالمتفق عليه أولى فكانت المتعدية أولى احتج المخالف بأن التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوى الأصل والجواب لكنه يدل على قوته وثانيها إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى قال بعضهم هو أولى وقال آخرون لا يحصل به الرجحان حجة الأولين أنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى فإن قلت إنما يكون إذا كثرت فوائدها الشرعية وكثرة فروعها ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي قلت كثرة وجود الفروع ليس بأمر شرعي لكن الفروع لما كثرت لزم(5/467)
من جعل هذا الوصف علة كثرة الأحكام فكان أولى احتج الآخرون بوجوه الأول لو كان اعم العلتين أولى من اخصهما لكان العمل بأعم الخطابين أولى من اخصهما الثاني التعدية فرع صحة العلة في الأصل فلو توقفت صحتها على التعدية لزم الدور الثالث كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس
ذلك بأمر شرعي بخلاف كثرة الأصول والجواب عن الأول إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع(5/468)
وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال
إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع(5/469)
وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما وهذا آخر الكلام في التراجيح(5/469)
طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الرسالة ولا يحق لأية جهة ان تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد.
الطبعة الثانية 1412 هـ.
1992 م(6/2)
المحصول في علم اصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء السادس مؤسسة الرسالة(6/3)
الكلام في الاجتهاد والنظر في ماهية الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه
وحكم الاجتهاد(6/5)
الركن الأول في الاجتهاد وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسسعه قبل في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول(6/6)
الركن الثاني في المجتهد وفيه مسائل مسألة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز أن يكون في أحكام الرسول ص ما صدر عن الإجتهاد وهو قول أبي يوسف رحمه الله وقال أبو علي وأبو هاشم أنه لم يكن متعبدا به وقال بعضهم كان له أن يجتهد في الحروب وأما في أحكام الدين فلا وتوقف أكثر المحققين في ذلك
أم المثبتون فقد احتجوا بأمور أحدها عموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وما يجب ويجوز فيها وذلك أن لم يرجح دخوله في هذا الأمر على دخول غيره فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا تحت الآية(6/7)
فكان مأمورا بالقياس فكان فاعلا له وإلا قدح في عصمته وثانيها أنه إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه العقول على ما قررناه في كتاب القياس وهذا يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس وثالثها أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا لقوله عليه الصلاة والسلام أفضل العبادات أحمزها أي أشقها ولو لم يعمل الرسول عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يعمل الرسول ص إلا بالاجتهاد لأن ذلك أفضل وأيضا فإنما يجب اتصافه بهذا المنصب لو لم يجد منصبا اعلى منه لكنه وجده لأنه يستدرك الأحكام وحيا وهذا المنصب أعلى من
الاجتهاد(6/8)
قلت الجواب عن الأول أن ذلك غير ممكن لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالنص على أحكام الأصول وإذا كان كذلك تعذر العمل في كل الشرع بالاجتهاد وعن الثاني أن الوحي وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم ولا يظهر فيه أثر دقه الخاطر وجودة القريحة وإذا كان هذا نوعا مفردا من الفصيلة لم يجز خلو الرسول عنه بالكلية ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء وهذا يوجب أن تثبت له درجة الاجتهاد ليرثوه عنه إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداءا لم يكونوا وارثين عنه فإن قلت أراد به في إثبات أركان الشرع قلت إنه تقييد من غير دليل وخامسها أن بعض السنن مضافة إلى الرسول ص ولو كان الكل بالوحي لم يبق لتلك الإضافة مزيد فائدة(6/9)
كما أن الشافعي رضي الله عنه إذا أثبت حكما بالنص الظاهر الجلى الذى لا يفتقر فيه البتة إلى اجتهاد لا يقال أن ذلك مذهب الشافعي فلا يقال مذهب الشافعي رضي الله عنه وجوب الصلوات الخمس
وأما الذي يثبته بضرب من اجتهاد فإنه يضاف إليه فكذا هاهنا وأما الذي يدل على أنه كان مجتهدا في أمر الحروب أنه اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر بعدما وكان راجعهم في تلك الحال وذلك لا يمكن إلا مع الاجتهاد واحتج المانعون بأمور أحدها قوله تعالى وما ينطق عن الهوى وثانيها إن بعض الصحابة راجعه في منزل نزله وقال إن كان هذا بوحي الله تعالى فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة فدل هذا على جواز(6/10)
مراجعته في اجتهاده ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع فيلزم ان لا يكون فيها ما هو باجتهاده وثالثها أن الاجتهاد لا يفيد إلا الظن وأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على تلقيه من الوحي والقادر على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يغمض عينيه ويجتهد فيها ورابعها أن مخالفه عليه الصلاة والسلام في الحكم يكفر لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم والمخالف في هذه المسائل الشرعية لا يكفر لأن الرجل إذا أجتهد وأخطأ فيها فله أجر واحد والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره
وخامسها لو جاز له العمل بالاجتهاد لما توقف في شئ من الأحكام الشرعية على الوحي لأن حكم الوحي في الكل كان معلوما له وطرق الاجتهاد كانت مظنونة له فعند وقوع الواقعة التي ما أنزل عليه فيها وحي كان مأمورا بالاجتهاد فكان ينبغي أن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه توقف كما في(6/11)
مسألة الظهار واللعان وسادسها لو جاز له الاجتهاد لجاز لجبريل عليه السلام وحينئذ لا يعرف أن هذا الشرع الذي جاء به إلى محمد ص من نص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل عليه السلام والجواب عن الأول أن الله تعالى متى قال له مهما ظننت كذا فاعلم أن حكمي كذا فها هنا العمل بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وعن الثاني إنه يدل على جواز مراجعته في الآراء والحروب والأحكام خارجة عن ذلك(6/12)
وعن الثالث أنا إنما نجوز الاجتهاد فيما لم يوجد فيه نص من الله تعالى ولم يكن متمكنا من معرفة الحكم بالنص وعن الرابع
أنه لا يمتنع أن يقال الحكم وإن كان مظنونا أولا إلا أنه عليه الصلاة والسلام لما أفتى به وجب القطع به كما قلنا في الإجماع الصادر عن الاجتهاد وعن الخامس أن العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النص فلعله عليه الصلاة السلام كان يصبر مقدار ما يعرف به أن الله تعالى لا ينزل فيه وحيا وعن السادس أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع(6/13)
مسألة إذا جوزنا له ص الاجتهاد فالحق عندنا إنه لا يجوز أن يخطئ وقال قوم يجوز بشرط أن لا يقر عليه(6/15)
لنا أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ واحتج المخالف بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم فهذا يدل على أنه أخطأ فيما أذن لهم وقال تعالى في أسارى بدر لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما
أخذتم فيه عذاب عظيم فقال عليه الصلاة والسلام لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء(6/16)
ولأنه تعالى قال قل إنما أنا بشر مثلكم فلما جاز الخطأ على من غيره جاز أيضا عليه ولأن النبي ص قال إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من النار فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يقل هذا ولأنه يجوز أن يغلط في أفعاله فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين والجواب عن هذه الوجوه مذكور في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء فلا فائدة في الإعادة(6/17)
مسألة اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد رسول الله ص فأما في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام فالخوض فيه قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه ثم نقول المجتهد إما أن يكون بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكون غائبا عنه أما إن كان بحضرته فيجوز تعبده بالاجتهاد عقلا لأنه لا يمتنع أن
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام له لقد أوحي إلي بأنك مأمور بأن تجتهد أو مأمورا بأن تعمل على وفق ظنك ومنهم من أحاله عقلا واحتج عليه بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وجوابه أن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وأما وقوع التعبد به فمنعه أبو علي وأبو هاشم وأجازه قوم بشرط الإذن وتوقف فيه الأكثرون(6/18)
احتج المانعون بوجهين الأول أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره كما اجتهدوا بعده لنقل كما نقل اجتهادهم بعده الثاني أن الصحابة كانت تفزع في الحوادث إلى الرسول ص ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لما فزعوا إليه واحتج القائلون بالوقوع بأمور الأول أنه عليه الصلاة والسلام حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة
الثاني أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهنى لما أمرهما أن يحكما بين خصمين إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن(6/19)
أخطأتما فلكما حسنة واحدة الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالمشاورة لقوله تعالى وشاورهم في الأمر ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم والجواب عن الأول لعله قل اجتهادهم في حضرة الرسول ص فلم ينقل لقلته وأيضا فقد نقل اجتهاد سعد بن معاذ وعمرو بن العاص وعن الثاني لعلهم فزعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولعلهم تركوه لصعوبته وسهولة وجدان النص وعن الثالث وهو خبر سعد وعمرو أنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل وعن الرابع أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع(6/20)
وأما الغائب عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام فلا شك في جواز
أن يتعبده الله تعالى بالاجتهاد لا سيما عند تعذر الرجوع وضيق الوقت وأما وقوع التعبد به فقال به الأكثرون والاعتماد فيه على خبر معاذ مسألة في شرائط المجتهد أعلم أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وهذه المكنة مشروطة بأمور أحدها أن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه لأنه لو لم يكن كذلك لم يفهم منه شيئا ولما كان اللفظ قد يفيد معناه لغة وعرفا وشرعا وجب أن يعرف اللغة والألفاظ العرفية والشرعية وثانيها أن يعرف من حال المخاطب أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد أو ما يقتضيه مع قرينة إن وجدت معه قرينة لأنه لولا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يكون عنى به غير ظاهره مع أنه لم يبينه قالت المعتزلة وذلك إنما يعرف بحكمة المتكلم أو بعصمته والحكم بحكمة الله تعالى مبني على العلم بأنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بغناه عنه وأما أصحابنا فإنهم قالوا الشئ وإن كان جائز الوقوع قطعا لكنه قد(6/21)
نقطع بأنه لا يقع فإنا نجوز انقلاب ماء جيحون دما وانقلاب الجدارن ذهبا وتولد الإنسان لا من الأبوين دفعة واحدة ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع فكذا ها
هنا نحن وإن جوزنا من الله تعالى كل شئ لكنه تعالى خلق فينا علما بديهيا بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلا ظواهرها فلذلك أمنا من وقوع التلبيس وثالثها أن يعرف مجرد اللفظ إن كان مجردا وقرينته إن كان مع قرينة لأنا لو لم نعرف ذلك لجوزنا في المجرد أن تكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره ثم القرينة قد تكون عقلية وقد تكون سمعية أما القرينة العقلية فإنها تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز وأما السمعية فهي الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان وهو المسمى بالتخصيص أو في الأزمان وهو النسخ والذي يقتضي تعميم الخاص وهو القياس وحينئذ يجب أن يكون عارفا بشرائط القياس ليميز ما يجوز عما لا يجوز ثم هذه الأدلة السمعية غائبة عنا فلا بد من نقلها والنقل إما تواتر أو آحاد فلا بد وأن يكون عارفا بشرائط كل واحد منهما ثم عند الإحاطة بأنواع الأدلة لابد وأن يكون عارفا بالجهات المعتبرة في التراجيح(6/22)
فإن قال قائل فصلوا العلوم التي يحتاج المجتهد إليها قلنا قال الغزالي رحمه الله مدارك الأحكام أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل فلا بد من العلم بهذه الأربعة ولا بد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان واثنان مؤخران فهذه ثمانية لا بد من شرحها
أما كتاب الله تعالى فلا بد من معرفته وفيه تحقيقان يحيى أحدهما أنه لا يشترط معرفة جميعه بل ما يتعلق منه بالأحكام وهو خمسمائة آية والثاني أنه لا يشترط حفظها بل أن يكون عالما بمواقعها حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها عند الحاجة وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بها الأحكام وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب وفيها التحقيقان الرحمن المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ وأحكام الآخرة والثاني أنه لا يلزمه حفظها بل أن يكون عنده أصل مصحح مشتمل على(6/23)
الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالما بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع وطريق ذلك أن لا يفتي إلا بشئ يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين أو يغلب على ظنه أنه واقعة متولدة في هذا العصر ولم يكن لأهل الإجماع فيها خوض وأما العقل فيعرف البراءة الأصلية ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها إلا إذا ورد ما يصرفنا عنه وهو نص أو إجماع أو قياس على شرائط الصحة
فهذه هي العلوم الأربعة وأما العلمان المقدمان فأحدهما علم شرائط الحد والبرهان على الإطلاق وثانيهما معرفة النحو واللغة والتصريف لأن شرعنا عربي فلا يمكن التوسل إليه إلا بفهم كلام العرب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا بد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة الكتاب والسنة وأما العلمان المتمان وكان فأحدهما يتعلق بالكتاب وهو علم الناسخ والمنسوخ والآخر بالسنة وهو علم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال(6/24)
واعلم أن البحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول المدة وكثرة الوسائط أمر كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم كالبخاري ومسلم وأمثالهما وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه وأما سائر العلوم فغير مهمة في ذلك أما الكلام فغير معتبر لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا فيه
واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لا بد منها في الاجتهاد كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم وضبط القدر الذي لا بد منه على التعيين كالأمر المتعذر مسألة الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن بل في مسألة دون مسألة خلافا لبعضهم(6/25)
لنا أن الأغلب من الحادثة في الفرائض أن يكون أصلها في الفرائض دون المناسك والإجارات فمن عرف ما ورد من الآيات والسنن والإجماع والقياس في باب الفرائض وجب أن يتمكن من الاجتهاد وغاية ما في الباب أن يقال لعله شذ منه شئ ولكن النادر لا عبرة به كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء(6/26)
الركن الثالث المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا ب الشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع وقال أبو الحسين البصري رحمه الله المسألة الاجتهادية هي التي
اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور(6/27)
الركن الرابع حكم الاجتهاد وفيه مسائل مسألة ذهب الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبرى إلى أن كل مجتهد في الأصول مصيب وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد فإن فساد ذلك معلوم بالضرورة وإنما المراد نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف واتفق سائر العلماء على فساد هذا القول(6/29)
حجة الجمهور أمور الأول أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم الثاني أنا نعلم بالضرورة أنه عليه الصلاة والسلام أمر اليهود والنصارى بالإيمان به وذمهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم وكان يكشف عمن بلغ منهم ويقتله ونعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر مقلدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه
الثالث التمسك بقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقوله تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وعلى الجملة ذم المكذبين لرسول الله ص من الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة أجاب الخصم عن الأول بأنا لا نسلم بأنه تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها وكيف لا نقول ذلك ونرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمان وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا نظرنا في أدلة المختلفين في هذه المسائل وأنصفنا لم نجد واحدا منهم مكابرا قائلا بما يقطع العقل بفساده(6/30)
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي كونهم مأمورين بالعلم ولم لا يجوز أن يقال إنهم أمروا بالظن الغالب سواء كان مطابقا أو غير مطابق وعلى هذا التقدير يكون الآتي به معذورا ثم الذي يدل على أن التكليف لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان الأول أن اليقين التام المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية تركيبا معلوم الصحة بالبديهة إن أمكن فهو عزيز نادر الوجود لا يفي به إلا الفرد بعد الفرد فلا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لكل الخلق لأنه عليه الصلاة والسلام قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وأي حرج فوق أن يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في
خمسمائة سنة الثاني أنا كما نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا متبحرين في دقائق الهندسة والهيئة والأرثماطيقى روى نعلم بالضرورة أنهم ما كانوا عالمين(6/31)
بهذه الأدلة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة مع أنه عليه الصلاة والسلام حكم بصحة إيمانهم فدل ذلك على أن التكليف ما وقع بالعلم سلمنا أنهم كلفوا بالعلم في هذه الأصول فلم قلت إن المخطئ فيه معاقب ودعوى الإجماع فيه غير جائزة لأنها دعوى الإجماع في محل الخلاف وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلهم لجهلهم بالحق أو لإصرارهم على ترك التعلم وطلب المعرفة الأول ممنوع والثاني مسلم فلعله عليه الصلاة والسلام لما بالغ في إرشادهم إلى الحق ثم إنهم لم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب وأصروا على ترك الطلب قتلهم وأما من بالغ في الطلب والبحث ولكن عجز عن الوصول فلم قلت إنه عليه الصلاة والسلام قتل مثل هذا الإنسان سلمنا أنه قتله لكن لم قلت أنه لا بد وأن يكون معاقبا وعن الثالث
أنه ذم الكافر والكفر في أصل اللغة هو الستر ومعنى الستر لا يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل ثم أنكره أو في حق المقلد(6/32)
المصر الذي يعرف من نفسه أنه لا يعرف الدليل على صحة الشئ ثم إنه يقول به فأما العاجز المتوقف الذي بالغ في الطلب فلم يصل فهذا لا يكون ساترا لشئ ظهر عنده فلا يكون كافرا ثم احتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى رحيم كريم واستقراء أحكام الشرع يدل على أن الغالب على الشرع هو التخفيف والمسامحة حتى إنه لو احتاج إلى أدنى تعب في نفسه أو في ماله في طلب الماء سقط عنه فرض الوضوء وأبيح له التيمم فهذا الكريم الرحيم كيف يليق بكرمه ورحمته وعظم فضله أن يعاقب من أفنى طول عمره في الفكر والبحث والطلب هذا حاصل كلامهم إلا أن الجمهور ادعوا انعقاد الإجماع على مذهبهم قبل حدوث هذا الخلاف مسألة اختلفوا في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية(6/33)
وضبط المذاهب فيه على سبيل التقسيم أن يقال المسألة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين أو لا يكون فإن لم يكن لله تعالى فيها حكم فهذا قول من قال كل مجتهد
مصيب وهم جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ثم لا يخلو إما أن يقال إنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلا إنه وجد ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلا به وأما أن لا يقال بذلك أيضا والأول هو القول بالأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين والثاني قول الخلص من المصوبين أما إن قلنا إن في الواقعة حكما معينا عند الله فذلك الحكم إما أن لا يكون عليه إمارة ولا دلالة أو عليه إمارة وليس عليه دلالة أو عليه دلالة أما القول الأول وهو أنه حصل الحكم ولكن من غير أمارة ولا دلالة فهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كل واقعة ظاهر وإحاطة ونحن ما كلفنا بالإحاطة وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق(6/34)
فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ثم غاب عنه أجر واحد وذلك الأجر على ما تحمل من الكد في الطلب لا على نفس الخيبة وأما القول الثاني وهو أن عليه دليلا ظنيا فها هنا أيضا قولان أحدهما أن المجتهد لم يكلف بإصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان المخطئ معذورا ومأجورا وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة
رضي الله عنهما وثانيهما أنه مأمور بطلبه أولا فإن أخطأ وغلب على ظنه شئ آخر فهناك يتعين التكليف ويصير مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه ويسقط عنه الإثم تحقيقا وأما القول الثالث وهو أن عليه دليلا قاطعا فهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه لكنهم اختلفوا في موضعين أحدهما أن المخطئ هل يستحق الإثم والعقاب أم لا فذهب بشر المريسي(6/35)
من المعتزلة إلى أنه يستحق الإثم والباقون اتفقوا على أنه لا يستحق الثاني أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه قال الأصم ينقض وقال الباقون لا ينقض فهذا تفصيل المذاهب والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا وأن عليه دليلا ظاهرا لا قاطعا وأن المخطئ فيه معذور وقضاء القاضي فيه لا ينقض فلنتكلم أولا في بيان أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا(6/36)
لنا وجوه الأول أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على الثبوت والمجتهد الثاني اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم فنقول أحد هذين الاعتقادين خطأ والخطأ منهي عنه بيان الأول أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون فان كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابا أما اعتقاد رجحان الجانب الآخر يكون غير مطابق للمعتقد فيكون خطأ وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل واحد من الاعتقادين غير مطابق للمعتقد وعلى كل التقديرات لا يكون الإعتقادان ولم مطابقين بل أحدهما يكون مطابقا للمعتقد فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد وهذه إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز وإن أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا بما كلفوا به قلنا الدليل عليه أن الاعتقاد الذي لا يكون مطابقا للمعتقد جهل والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به فثبت أيضا أن الكل ليسوا بمصيبين بين بمعنى الإتيان بالمأمور به فإن قيل لا نسلم أن أحد الاعتقادين خطأ(6/37)
قوله لأن أحدهما اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح وذلك خطأ
قلنا اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح في نفسه أو أنه راجح في ظنه الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن المجتهد لا يعتقد كون أمارته راجحة على أمارة صاحبه في نفس الأمر ولكنه يعتقد كونها راجحة في ظنه والرجحان في ظنه حاصل فكان الاعتقاد مطابقا للمعتقد غايته أنه لم يوجد الرجحان الخارجي لكن عدم الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني فثبت أن كل واحد من الاعتقادين يمكن أن يكون صوابا سلمنا أن كل واحد منهما اعتقد الرجحان في نفس الأمر ولكنه لم يجزم بذلك الرجحان بل جوز خلافه فلم قلت إن الاعتقاد إذا وجد معه هذا التجويز كان منهيا عنه وخرج عليه الجهل فإنه اعتقاد مخالف للمعتقد مع الجزم والجواب قوله اعتقد كونه راجحا في ظنه أو في نفس الأمر قلنا الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج أو أمرا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشئ كون وجوده مساويا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا(6/38)
على اعتقاد عدمه فعلمنا أنه لا بد عند حصول هذا الظن من اعتقاد كونه راجحا في نفسه إما لأن الظن نفس هذا الاعتقاد أو لأنه لا ينفك عنه
وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل قوله هذا الاعتقاد وإن كان غير مطابق لكنه غير جازم قلنا بل هو جازم لأن اعتقاد كون الشئ أولى بالوجود غير اعتقاد كونه موجودا واعتقاد كونه أولى بالوجود حاصل مع الجزم فإن المجتهد يقطع بأن أمارته نظرا إلى هذه الجهة أولى بالاعتبار بلى إنه غير جازم بالحكم لكن الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم بالوقوع كما أنا نقطع بأن الأولى بالغيم الرطب في زمان الخريف أن يكون ممطرا مع أنه قد لا يوجد المطر وعدم المطر لا يقدح في تلك الأولوية بل تلك الأولوية مقطوع بها فكذا ها هنا فثبت أنه حصل لأحد المجتهدين اعتقاد جازم غير مطابق فيكون خطأ وجهلا ومنهيا عنه الطريقة الثانية المجتهد إما أن يكون مكلفا في الحكم بناءا على طريق أو لا بناء على طريق والثاني باطل لأن القول في الدين بمجرد التشهي باطل بإجماع المسلمين فإذن لا بد من طريق فذلك الطريق إما أن يكون خاليا عن المعارض أو لم يكن خاليا عنه فإن كان الأول وهو كونه خاليا عن المعارض تعين ذلك الحكم بإجماع الأمة فيكون تاركه مخطئا(6/39)
وإن كان له معارض فإما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر أو لا يكون فإن كان أحدهما راجحا على الآخر وجب العمل بالراجح لأن الأمة
مجمعة على إنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى فيكون مخالفه مخطئا وإن لم يكن احدهما راجحا فحكم تعارض الأمارتين أما التخيير أو التساقط والرجوع إلى غيرهما وعلى كلا القولين فحكمه معين فمخالفه يكون مخطئا فثبت أن المصيب واحد على كل التقديرات فإن قيل لم لا يجوز أن يكون مكلفا بالحكم لا على طريق قوله الحكم في الدين بمجرد التشهي غير جائز قلنا غير جائز في موضع وجد فيه الدليل أو في موضع لم يوجد فيه الدليل الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل وإلا كان ذلك تكليفا بما لا يطاق وفي هذه المسائل الاجتهادية لا دليل لأنه لو وجد لكان تارك العمل به تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار على ما مر تقديره في مسألة أن الأمر للوجوب ولما اجمعوا على أنه لا يستحق النار علمنا أنه لا دليل وإذا لم يوجد الدليل جاز العمل بمجرد الحدس والتوهم كما(6/40)
اشتبهت عليه أمارات القبلة فإنه يجوز له العمل بمجرد الحدس والتوهم سلمنا أنه أمر بالحكم بناء على طريق لكن لم لا يجوز أن يحصل في مقابلته طريق آخر فيكون أحدهما راجحا على الآخر
قوله أجمعوا على وجوب العمل بالراجح قلنا العمل بالراجح واجب على من علم ذلك الرجحان أو على من لم يعلم الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن الأمارة الراجحة يجب العمل بها على من اطلع عليها أما من لم يطلع عليها فجاز أن يكلفه العمل بالأضعف فإنه غير مستبعد في العقل أن تكون مصلحة أحد المجتهدين في العمل بأقوى الأمارات ومصلحة الآخر في العمل بأضعفها أهل ومتى كان ذلك فإن الله تعالى يخطر على قلب من مصلحته العمل بأقواها وجوه الترجيح ويشغل الآخر عنها فيظن أنها أقوى الأمارات لأن مصلحته العمل على أضعف الأمارات والظن بكونها أقوى الأمارات مع كونها في نفسها أضعف الأمارات لا يقبح ألا ترى أنه لا يقبح الظن بكون زيد في الدار وإن لم يكن فيها وإذا ثبت أن هذا الذي قلنا جائز عقلا فما الدليل على أنه غير واقع(6/41)
والجواب قوله إنما يجب العمل به عند وجود الدليل وها هنا لا دليل قلنا الدليل على وجود الدليل الظاهر إجماع الأمة على وجود الترجيح بأمور حقيقية لا خيالية ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل أعني القدر المشترك بين الدليل اليقيني والدليل الظاهري قوله يجوز العمل بالأضعف إذا لم يعرف الأقوى
قلنا مقدار رجحان القوي على الضعيف أما أن يكون الاطلاع عليه ممكنا أو لا يكون فإن لم يكن ذلك لم يكن ذلك القدر معتبرا في حق المكلف وإلا كان تكليفا بما لا يطاق فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حق المكلف مساويا لا راجحا وإن أمكن الاطلاع عليه فإما أن يجب على المكلف تحصيل العلم بتلك الأمارة إلى أقصى الإمكان أو لا يجب فإن كان الأول كان من لم يصل في معرفتها إلى أقصى الإمكان تاركا للواجب فيكون مخطئا وإن كان الثاني فهو محال لأنه إما أن يكون هناك حد ما متى لم يصل إليه لم يكن معذورا وإذا وصل إليه لم يكلف بالزيادة عليه وإما أن لا يكون الأمر كذلك فان كان الأول وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين مخطئا ومن وصل إليه يكون مصيبا(6/42)
وهذا خلاف الإجماع لأنه لم يدع أحد من الأمة حدا معينا في الاجتهاد بحيث أن المجتهد متى لم يصل إليه كان مخطئا وغير معذور ومتى وصل إليه كان مصيبا وأما الثاني وهو أن لا يكون هناك حد معين فحينئذ لا تكون التخطئة عند بعض المراتب أولى منها عند بعض فإما أن لا يخطئ أصلا فيكون العمل بالظن كيف كان ولو مع ألف تقصير مصيبا وهذا باطل في الإجماع
أو لا يكون مخطئا إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة وهو المطلوب الطريقة الثالثة المجتهد يستدل بشئ على شئ والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب واستحضار العلم بالشئ متوقف على وجود ذلك الشئ فالاستدلال متوقف على وجود الدليل ووجود ما يدل على الشئ متوقف على وجود ذلك الشئ والاستدلال على الشئ يتوقف على وجود المدلول لأن دلالته عليه نسبة بينه وبين المدلول والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحد منهما فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب والظن متأخر عن الاستدلال لأنه نتيجته وأثره فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن كان المتقدم على الشئ بمراتب نفس المتأخر عن الشئ بمراتب وهو محال الطريقة الرابعة المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلا بد من ثبوت حكم قبل وجود الطلب وإذا كان كذلك كان مخالف ذلك الحكم مخطئا(6/43)
فان قلت لا نسلم أن المجتهد يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب غلبة الظن ومثاله من كان على ساحل البحر فقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك العطب حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله تعالى عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم قلت المجتهد أما أن يطلب الظن كيف كان أو ظنا صادرا عن النظر في أمارة تقتضيه
الأول باطل بإجماع الأمة فثبت أنه يطلب ظنا صادرا عن النظر في الأمارة والنظر في الأمارة متوقف على وجود الأمارة ووجود الأمارة متوقف على وجود المطلوب فثبت أن طلب الظن متوقف على وجود المدلول بمراتب فلو كان وجود المدلول متوقفا على حصول الظن لزم الدور وهذا غير ما قررناه في الطريقة الثانية واحتج القائلون بأنه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمور أحدها لو كان في الواقعة لله حكم لكان إما أن يكون عليه دليل وأعني بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين أو لا يكون(6/44)
والقسمان باطلان فبطل القول بثبوت الحكم أما الملازمة فظاهرة وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون عليه دليل لأنه لو كان عليه دليل لكان المكلف متمكنا من تحصيل العلم أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكما بغير ما أنزل الله تعالى فيلزم تكفيره لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وتفسيقه لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والقطع بأنه من أهل النار لأنه يكون تاركا لما أمر الله به وتارك المأمور به عاص والعاصي من أهل النار لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ولما أجمعت الأمة على فساد هذه اللوازم علمنا أنه ليس على الحكم دليل فإن قلت هذه العمومات مخصوصة لأن أدلة هذه الأحكام غامضة فيكون التكليف باتباعها حرجا وذلك منفي بقوله تعالى وما جعل عليكم في
الدين من حرج قلت غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل العقلية مع كثرة مقدماتها وكثرة الشبه فيها وكون الخطأ فيها كفرا وضلالا فكذا ها هنا وإنما قلنا إنه لا يجوز أن لا يكون عليه دليل لأنه لو كان كذلك(6/45)
لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم من فسادهما القطع بأنه لا حكم في الواقعة ألبتة وثانيها أن الأمة مجمعة على أن المجتهد مأمور بأن يعمل على وفق ظنه ولا معنى لحكم الله إلا ما أمر به وإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه فإذا عمل به كان مصيبا لأنه يقطع بأنه عمل بما أمره الله به فوجب أن يكون كل مجتهد مصيبا وثالثها لو وجد الحكم لوجد عليه دليل قاطع لكن لم يوجد عليه دليل قاطع فوجب أن لا يوجد الحكم ألبتة بيان الملازمة هو أن بتقدير وجود الحكم إما أن يوجد عليه دليل أو لا يوجد عليه دليل فإن لم يوجد عليه دليل ألبتة كان التكليف بذلك الحكم تكليف ما لا يطاق وأن وجد عليه دليل فذلك الدليل إما أن يكون مستلزما لذلك المذكور
قطعا أو ظاهرا أو لا قطعا ولا ظاهرا والقسمان الأخيران باطلان(6/46)
أما أنه لا يجوز أن لا يستلزمه قطعا فالأمر فيه ظاهر لأن الذي يكون كذلك استحال أن يتوصل به إلى ثبوت المدلول وأما أنه لا يجوز لا أن يستلزمه ظاهرا فلأن هذا الدليل إما أن يمكن وجوده بدون المدلول أو لا يمكن فإن لم يمكن كان مستلزما له قطعا لا ظاهرا وإن أمكن وجود الدليل بدون ذلك المدلول في بعض الصور فلو استلزمه في صورة أخرى فلا يخلو إما أن تتوقف صيرورته مستلزما على انضمام قيد إليه أو لا تتوقف فإن توقف على انضمام قيد إليه كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع لا ذلك الذي فرضناه أولا دليلا وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فذلك الشئ تارة ينفك عن المدلول وأخرى يستلزمه من غير انضمام قيد إليه لا بالنفي ولا بالإثبات فيلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وذلك محال وإذا ثبت أن المستلزم هو ذلك المجموع فذلك المجموع إن أمكن انفكاكه عن المدلول استحال أن يستلزم المدلول إلا بقيد آخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى شئ يمتنع انفكاكه عن المدلول فحينئذ يكون دليلا قطعيا لا ظاهرا فإن قلت الدليل الظاهر هو الذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود أو كونه غير منته إلى الوجوب وهذا المعنى ملازم له أبدا
قلت الأولوية التي لا تنتهي إلى حد الوجوب ممتنعة لأن مع تلك الأولوية إن امتنع العدم فذلك هو الوجوب وإن لم يمتنع فتلك الأولوية يمكن حصولها مع الوجود تارة ومع العدم أخرى ورجحان أحدهما على الآخر إن توقف على انضمام قيد زائد لم يكن الحاصل أولا كافيا في الرجحان وإن لم يتوقف لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فثبت(6/47)
بهذا البرهان القاطع أن الذي لا يستلزم الشئ قطعا استحال أن يستلزمه بوجه من الوجوه لا ظنا ولا ظاهرا فثبت أنه لو وجد في الواقعة حكم معين لوجد عليه دليل قاطع ولما إنعقد الإجماع على أنه ليس كذلك علمنا أنه ليس في الواقعة حكم ألبتة ورابعها لو حصل في الواقعة حكم معين لكان ما عداه باطلا ولو كان كذلك لزم أمور أربعة(6/48)
أحدها يلزم أن لا يجوز لأحد من الصحابة أن يولي بعضهم بعضا مع علمهم بكونهم مخالفين لهم في مذاهبهم لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل وإنه غير جائز لكنه قد وقع ذلك روي أن أبا بكر رضي الله عنه ولى زيدا مع أنه كان يخالفه في الجد وولى علي رضي الله عنه شريحا مع أنه كان يخالفه في كثير من
الأحكام وثانيها يلزم أن لا يمكنه من الفتوى وقد كانوا يفعلون ذلك وثالثها كان يجب أن ينقضوا أحكام مخالفيهم وأن ينقض الواحد منهم حكم نفسه الذي رجع عنه لأن كثيرا منهم قضى بقضايا مختلفة لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه نقض حكم غيره ولا حكم نفسه عند رجوعه عنه ورابعها أنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ في ذلك يكون كبيرا لأنه لا فرق بين أن يمكن غيره بفتواه بالباطل من القتل وأخذ المال وبين أن يقتل ويأخذ المال ويصرفه إلى غير المستحق ابتداء في كونه كبيرا ويجب تفسيق فاعله والبراءة عنه ولما لم يوجد شئ من هذه اللوازم الأربعة علمنا(6/49)
أنه لا حكم في الواقعة أصلا فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال ذلك الخطأ كان من باب الصغائر فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية ولا المنع من الفتوى ولا البراءة ولا التفسيق سلمنا أنه كبيرة فلم لا يجوز أن يقال هذه الأمور إنما تلزم لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به أما إذا كثرت وجوه الشبه وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات صار ذلك سببا للعذر وسقوط اللوم سلمنا صحة دليلكم لكنه معارض بوجوه
الأول ما روى عن الصحابة من التصريح روي عن الصديق الأكبر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمنى واستغفر الله وعن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له بعض الحاضرين هذا والله هو الحق وحكم بحكم آخر فقال له الرجل هو والله الحق فقال له عمر إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا وقال أيضا لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنه(6/50)
وقال علي لعمر في قصة المجهضة إن قاربوك فقد غشوك وإن اجتهدوا فقد أخطأوا وقال ابن مسعود في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان ونقل أن جماعة الصحابة خطأوا ابن عباس في إنكار العول وقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت الثاني أن الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير وكانوا مخطئين لمخالفتهم قوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم يلزم من ذلك الخطأ إظهار البراءة والتفسيق فكذا ها هنا
الثالث اختلفوا في أن مانع الزكاة هل يقاتل وقضى عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم وكان ذلك على(6/51)
خلاف النص ولم يلزم تفسيق عمر فكذا ها هنا وأما قوله في الوجه الرابع إنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ فيها كبير قلنا لا نسلم فإنه لما لم يمتنع أن تكون الأقوال المختلفة صوابا على مذهبكم فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا وقوله لا فرق بين القتل والغصب ابتداء وبين التمكين منهما بالفتوى الباطلة قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون تمسكه في ذلك بما يشبه الدليل سببا لسقوط العقاب والتفسيق قلت أما الجواب عن الأول فالذي يدل على أنه لو كان خطأ لكان من الكبائر لا من الصغائر أن تارك العمل به تارك للعمل المأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار وعن الثاني أن غموض الأدلة وكثرة الشبه فيها ها هنا أقل مما في العقليات مع أن المخطئ فيها كافر أو فاسق وعن الثالث أن نقول ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول
عن هؤلاء الذين نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة فلا بد من التوفيق وقد تعذر(6/52)
صرفه إلى كون الخطأ صغيرا لما بينا فساده فإذن لا طريق في التوفيق إلا صرف ما نقلناه إلى قسم وما نقلتموه إلى قسم آخر وذلك لآنا لا ندعي التصويب في كل المسائل الشرعية حتى يضرنا ما ذكرتموه أما أنتم فتدعون الخطأ في كل الاختلافات فيضركم حديث ما ذكرناه فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نص قاطع أو على ما إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال وقوله إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان معناه إن استقصيت في وجوه النظر والاستدلال فمن الله وإن قصرت فمني ومن الشيطان وأما المعارضة الثانية فجوابها أن الأنصار ما سمعوا ذلك الحديث فلا جرم لم يستحقوا التفسيق والبراءة بخلاف هذه المسائل فإن كل واحد من المجتهدين عرف حجة صاحبه وأطلع عليها فلو كان مخطئا لكان مصرا على الخطأ بعد اطلاعه عليه فأين أحد البابين من الباب الآخر وهذا هو الجواب أيضا عن اختلافهم في مانعي الزكاة وقصة المجهضة قوله على الوجه الرابع لما جاز أن تكون المذاهب المختلفة في الدماء والفروج خفية فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا لا كبيرا(6/53)
قلنا قد ذكرنا الدليل على أن الخطأ في هذا الباب لا بد وأن يكون
كبيرا ولأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قال من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فهذا وأمثاله من الأحاديث التي لا حد لها يدل على أنه لو كان المفتي في هذه الوقائع مخطئا لكان خطؤه كبيرة لا صغيرة وخامسها لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون الخطأ فيه مغفورا وقد حصل ذلك فهو ليس بمخطئ بيان الملازمة أنه لو حصل القطع بكون الخطأ مغفورا لكان في ذلك الوقت إما أن يجوز المخطئ كونه مخلا بنظر يلزمه فعله أو لا يجوز ذلك(6/54)
فإن لم يجوز ذلك كان كالساهي عن النظر الزائد فلم يكن مكلفا بفعله وإذا لم يكن مكلفا بفعله لم يستحق العقاب بتركه فلا يكون مخطئا وقد فرض مخطئا هذا خلف وإن جوز كونه مخلا بنظر زائد لم يخل إما أن يعلم في تلك الحالة أنه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد أو لا يعلم ذلك فإن علم ذلك لم يصح لأن المجتهد لا يعلم المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له ما بعدها لأنه إن اقتصر على أول المراتب لم يغفر له ما بعدها وما من مرتبة ينتهي إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها ولا تتميز بعض تلك المراتب من بعض ولأنه لو عرف تلك المرتبة لكان مغري بالمعصية لأنه علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مثابا عليه
فثبت أنه لا يعرف تلك المرتبة وإذا لم يعرفها جوز أن لا يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر وجوز أيضا في كل مخطئ من المجتهدين أنهم ما انتهوا إلى المرتبة التي يغفر لهم ما بعدها وفي ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم فثبت أنه لو كان مخطئا لما حصل القطع بكونه مغفورا له لكنه حصل القطع بذلك لأنهم اتفقوا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا أن ذلك مغفور لهم فعلمنا أن المجتهد ليس بمخطئ وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم خير الناس في تقليد أعيان الصحابة وكان الصحابة مختلفين في المسائل فلو كان بعضهم مخطئا في الحكم أو في الاجتهاد لكان قد حثهم على(6/55)
الخطأ والمصير إليه وأنه لا يجوز وسابعها قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ لما رتب الاجتهاد على السنة والسنة على الكتاب أصبت حكم بتصويبه مطلقا ولم يفصل بين حالة وحالة فعلمنا أن المجتهد مصيب على الإطلاق والجواب عن الأول أن على الحكم دليلا ظاهرا لا قطعيا قوله لزم كفر تاركه وفسقه بالآيات قلنا عندنا أن المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه أن يطلب ذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل الظاهر
فإذا اجتهد وأخطأ ولم يصل إلى ذلك الحكم وغلب على ظنه شئ آخر تغير التكليف في حقه وصار مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه وعلى هذا التقدير يكون حاكما بما أنزل الله تعالى لا بغير ما أنزل الله فيسقط ما ذكروه من الاستدلال وهذا هو الجواب أيضا عن الحجة الثانية لأنا نسلم أن المجتهد بعد أن اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا فإنه يكلف بأن يعمل بمقتضى ذلك الظن وحكم الله تعالى في هذه الحالة في حقه ليس إلا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إنه قبل الخوض في الاجتهاد كان مأمورا(6/56)
بذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل لكنه بعد الاجتهاد ووقوع الخطأ تغير التكليف وما ذكروه لا ينفي هذا الإحتمال وأيضا فهذه الدلالة منقوضة بما إذا كان النص موجودا في المسألة والمجتهد طلبه ولم يجده ثم غلب على ظنه بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم فإن كان تكليفه في هذه الحالة أن يعمل بمقتضى ذلك القياس مع انعقاد الإجماع على كونه مخطئا في هذه الصورة فما جعلوه جوابا لهم عن هذه الصورة فهو جوابنا عما قالوه واعلم أن من المصوبة من منع التخطئة في هذه الصورة والمعتمد ما قدمناه وهو الجواب عن الوجه الثالث الذي ذكروه وعن الوجه الرابع لأنه إنما يجب البراءة والتفسيق لو كان عاملا بغير حكم الله تعالى لكنه بعد الخطأ مكلف بأن يعمل بمقتضى ظنه فيكون عاملا بحكم الله تعالى فلا يلزم
شئ مما ذكروه وعن الخامس أن المرتبة التي عندها يحكم بكونه مغفورا هي أن يأتي بما يقدر عليه من غير تقصير(6/57)
وعن السادس أنه معارض بقوله عليه الصلاة والسلام من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وأيضا فهو خبر واحد وما ذكرناه دلائل قاطعة فلا يحصل التعارض وهو الجواب عن الوجه السابع واعلم أنا نريد أن نتكلم في فروع القول بالتصويب مسألة الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين منهم من قال ب الأشبه على التفسير الذي لخصناه ومنهم من لم يقل به وهو الحق لنا أن ذلك الأشبه إما أن يكون هو العمل بأقوى الأمارات أو غيره فإن كان الأول فأقوى الأمارات إما أن يكون موجودا أو لا يكون فإن كان موجودا كان الأمر به واردا لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات فحينئذ يكون الحكم بذلك الأشبه واردا وقد فرضناه غير وارد هذا خلف(6/58)
وإن كان أقوى الأمارات غير موجود لم يكن الأشبه أيضا موجودا لأنا فرضنا أن الأشبه هو نفس أقوى الأمارات وأما إن كان الأشبه شيئا غير العمل بأقوى الأمارات فإما أن تكون مفسدة للمكلف أو مصلحة له أو لا مفسدة ولا مصلحة والأول باطل لأنه ليس في الأمة أحد يقول إنه يجب أن يكون في كل واقعة حكم لو نص الله تعالى على الحكم لنص عليه مع أنه يكون مفسدة وأما الثاني وهو أن يكون مصلحة فإما أن تجب على الله تعالى رعاية المصالح أو لا تجب فان وجبت وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة وإن لم تجب عليه رعاية المصلحة جاز منه تعالى أن ينص على غير ذلك الحكم وذلك يبطل القول بأنه لو نص على الحاكم لما نص إلا عليه وأما الثالث وهو أن يكون ذلك الأشبه لا مصلحة ولا مفسدة فهذا إنما يمكن لو قلنا إنه لا تجب عليه رعاية المصالح وكل من قال بهذا القول قال إنه لا يتعين عليه تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن يحكم كيف شاء وذلك يمنع من القول بتعين الأشبه واحتج القائلون بالأشبه بالنص والمعقول(6/59)
أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد صرح بالتخطئة وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم(6/60)
واقع لأنا قد دللنا على أنه لا حكم فلا بد وأن يكون لأجل كونه مخالفا لحكم مقدر وهو الأشبه وأما المعقول فهو أن المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب ولما لم يكن المطلوب معينا وقوعا وجب أن يكون معينا تقديرا والجواب أن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات فهو حق وهو قولنا وإن كان غيره مع أن الله تعالى لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا أماره فكيف يكون مخطئا بالعدول عنه وكيف ينقص ثوابه إذا لم يظفر بما لم يكلف بإصابته ولا سبيل له إلى إصابته وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه المعقول مسألة القائلون بأن المصيب واحد احتجوا بأن القول بتصويب الكل يفضي إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها وهذا كما إذا نكح رجل امرأة وكانا مجتهدين ثم قال أنت بائن ثم راجعها(6/62)
والزوج شافعي يرى الرجعة والمرأة حنفية ترى الكنايات بوائن فها هنا الزوج متمكن شرعا من مطالبتها بالوطء والمرأة مأمورة بالامتناع وهذه منازعة لا يمكن قطعها قال المصوبون هذا الإشكال وارد عليكم أيضا فإن أهل التحقيق منكم ساعدوا على أنه يجب على المجتهد العمل بموجب ظنه إذا لم يعرف كونه مخطئا فهذا الإلزام أيضا وارد عليكم
ولما كان هذا الإشكال واردا على المذهبين وجب أن نذكر تقسيما في بيان الحوادث النازلة بالمكلفين ليظهر إنه لا نزاع فيها فنقول الحادثة إما أن تنزل بمجتهد أو بمقلد فإن نزلت بمجتهد فإما أن تختص به أو تتعلق بغيره فإن اختصت به عمل بما يؤديه إليه اجتهاده فإن استوت عنده الأمارات تخير بينها أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان وإن تعلقت بغيره فإن كان يجري فيه الصلح نحو التنازع في مال اصطلحا فيه أو رجعا إلى حاكم يفصل بينهما أن وجد فإن لم يوجد رضيا من يحكم بينهما ومتى حكم لم يكن لهما الرجوع عنه وإن لم يجر الصلح فيه كما ذكرنا في مسألة الكنايات فإنهما يرجعان إلى من يفصل بينهما سواء كان صاحب الحادثة مجتهدا وحاكما أو لم يكن فإن الحاكم لا يجوز له أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من يقضي بينهما(6/63)
وإن كان مقلدا فإن كانت الحادثة تخصه عمل على ما اتفق عليه من الفتوى وإن اختلفوا عمل بفتوى الأعلم الأورع فإن استويا تخير بينهما وإن كانت تتعلق بغيره عمل كما بيناه في حق المجتهدين مسألة في نقض الاجتهاد المجتهد إذا تغير اجتهاده ففيه بحثان الأول
أن المجتهد كيف يعمل والثاني أن العامى الذي عمل بفتواه كيف يعمل أما الأول فنقول المجتهد إذا أفضى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده فإما أن يكون قد قضى القاضي بصحة ذلك النكاح قبل تغير اجتهاده أو ما قضى بذلك فإن كان الأول بقى النكاح صحيحا لأن قضاء القاضي لما اتصل به فقد تأكد فلا يؤثر فيه تغير الاجتهاد وإن كان الثاني لزم تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده وأما الثاني وهو ما إذا أمسك العامي زوجته بفتوى المفتي بأن الخلع فسخ فإذا تغير اجتهاد المفتي فالصحيح أنه يجب عليه تسريحها كما إذا(6/64)
تغير اجتهاد متبوعه عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى بخلاف قضاء القاضي فإنه متى اتصل بالحكم المجتهد فيه استقر واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا قاطعا فان خالفه نقضناه(6/65)
الكلام في المفتي والمستفتي والنظر فيه يتعلق بالمفتي والمستفتي
وما فيه الاستفتاء(6/67)
القسم الأول في المفتي
وفيه مسائل مسألة إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون فإن كان ذاكرا له فهو مجتهد وتجوز له الفتوى وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيا ثم الأحسن به أن يعرف من استفتاه أولا أنه رجح عن ذلك القول لأن ذلك المستفتي إنما يعول على قوله فإذا ترك هو قوله بقي عمل المستفتي به بعد ذلك عملا من غير موجب روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تحريم أم المرأة مشروط بالدخول بالمرأة فلقي أصحاب رسول الله ص وذاكرهم فكرهوا أن يتزوجها فرجع ابن مسعود إلى من كان أفتاه قال(6/69)
سألت أصحابي فكرهوا وأما إن لم يستأنف الاجتهاد لم تجز له الفتوى ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولا كان طريقا قويا حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق جاز له
الفتوى به لأن العمل بالظن واجب مسألة اختلفوا في أن غير المجتهد هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير(6/70)
فنقول لا يخلوا إما أن يحكى عن ميت أو عن حي فإحكي لأنه عن ميت لم يجز الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا وينعقد مع موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت فلم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها قلت لفائدتين إحداهما استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها على بعض والأخرى معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ولقائل أن يقول اذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى وحينئذ يتولد للعامي من هذين الظنين ظن أن حكم الله تعالى ما روى له هذا الراوى الحي عن ذلك المجتهد الميت والعمل بالظن واجب
فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك وأيضا فقد إنعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع(6/71)
من الفتوى لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد فإما أن يكون سمعه مشافهة أو يرجع فيه إلى كتاب أو حكاية حال فإن كان سمعه منه مشافهة جاز أن يعمل به وجاز أن يعمل الغير أيضا بقوله ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن المفتين ورجع علي رضي الله عنه إلى حكاية المقداد عن رسول الله ص في شأن المذي وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله فحكم ذلك حكم السماع وإن رجع إلى كتاب فإن كان كتابا موثوقا به جرى مجرى المكتوب من جواب المفتي في أنه يجوز العمل به وإلا فلا لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتب(6/72)
القسم الثاني في المستفتي مسألة يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد وقال الجبائى يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد
لنا وجهان الأول إجماع الأمة قبل حدوث المخالف لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم(6/73)
الثاني أن العامي إذا نزلت به حادثة من الفروع فإما أن لا يكون مأمورا فيها بشئ وهو باطل بالاجماع لأنا نلزمه إلى قول العلماء والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال وإما أن يكون مأمورا فيها بشئ وذلك إما بالاستدلال أو بالتقليد والاستدلال باطل لأنه إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية أو التمسك بالأدلة السمعية والأول باطل بالإجماع والثاني أيضا باطل لأنه لو لزمه أن يستدل لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل عقله أو حين حدثت المحادثة والأول باطل لوجهين أحدهما أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم ولم يطلب رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله وثانيهما أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا وذلك سبب
لفساد العالم والثاني أيضا باطل لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة المجتهدين عند نزول الحادثة وذلك غير مقدور له ولقائل أن يقول على هذا الوجه القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا يقولون بالإجماع ولا بخبر الواحد ولا بالقياس ولا يجوزون التمسك بالظواهر المحتملة(6/74)
وإذا كان كذلك سها الأمر عليهم فإنهم قالوا قد تقرر في عقل كل عاقل أن الأصل في اللذات الإباحة وفي المضار الحرمة فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل العقلي قلنا به وإن لم يوجد ذلك وجب البقاء على حكم العقل وإذا ثبت هذا فالعامي إذا وقعت له واقعة فإما أن يكون فيه شئ من الذكاء أو لا يكون بل يكون في غاية البلادة فإن كان فيه شئ من الذكاء عرف حكم العقل فيه وان كان في غاية البلادة نبهه المفتي على حكم العقل وليس لأحد أن يقول الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول ولا يمنعه ذلك عن المعاش فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش ثم إذا عرف العامي حكم العقل وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل بحكم العقل قاطع المتن قاطع الدلالة نبهه المفتي عليه ولا حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش
وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص وجب عليه العمل بحكم العقل فثبت أن المنع من التقليد إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس وخبر الواحد أما من لا يقول بذلك فلا صعوبة عليه ألبتة وأيضا فهذه الدلالة لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد(6/75)
الكثير ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه وأيضا الأشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش أجابوا بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة لا على طريق التفصيل ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هين يحصل بأدنى سبب بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد واعلم أن هذا الفرق إنما يتلخص إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة ومباحث التفصيل وعندي أن هذا الفرق باطل وذلك لأن الدليل إذا كان مركبا مثلا من مقدمات عشر فالمستدل إن كان عالما بها بأسرها وجب حصول العلم النظري له لا محالة وأن امتنعت الزيادة عليه لأن تلك المقدمات العشر إذا كانت مستقلة بالانتاج أخبرنا فلو انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن يكون لها أثر ألبتة وأما إن لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها
ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل بل مقبولة على سبيل التقليد فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدا لا يقينا فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة مثاله أنهم يقولون صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث(6/76)
من البرق والرعد والحر والبرد على وجود الصانع فنقول هذا لا يكفي لأنا نقول هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلا مختارا أما المقدمة الأولى فمعلومة للعوام وأما الثانية فغير معلومة لهم لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرا لمؤثر موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارا من غير دليل عليه كان مقلدا في هذه المقدمة وإذا كان مقلدا فيها لم يكن محققا في النتيجة وأيضا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على يد مدعي النبوة فلو قطع عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدا لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى بل خاصية لنفس الرسول أو خاصية لدواء أو فعلا من أفعال الجن وبتقدير أن يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه غرض وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئا سوى التصديق فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون دالا على
صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدا في اعتقاد هذه المقدمة فلم يكن محققا في النتيجة فظهر بهذا فساد ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب التفصيل وحينئذ لا يبقى إلا أحد أمرين إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين(6/77)
على تفصيلها وتدقيقها شئ سهل هين وذلك مكابرة وإما أن يقال يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع التقليد وحينئذ لا يبقى بينهما فرق ألبتة واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع بأمور أحدها قوله تعالى وإن تقولوا على الله مالا تعلمون وثانيها أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه ورابعها القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع(6/78)
من التقليد وما يفضي ثبوته إلى عدمه كان باطلا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له أمر بالإجتهاد مطلقا وسادسها أن العامي إذا قلد لم يأمن من جهل المفتي وفسقه فيكون فاعلا للمفسدة وسابعها لو جاز التقليد في فروع الشرع لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق المفتي وهذا المعنى قائم في أصول الدين فوجب الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضا والجواب عن الأول أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به كما في أحوال الدنيا وقيم المتلفات وأروش الجنايات وبخبر الواحد والقياس إن سلموا جواز العمل بهما(6/79)
وعن السادس والسابع أن نذكر الفرق الذي تقدم وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد وغير مسائل الاجتهاد أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد فيعود المحذور المذكور واحتج المخالف
بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد فالحق فيها واحد فلو قلدنا فيها لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن كل قول فيها حق والجواب أنا لا نأمن أيضا في مسائل الاجتهاد أن لا يجتهد المفتى أو يقصر في اجتهاده أو يفتيه بخلاف اجتهاده فإن قلتم إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي قلنا وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه وإن كان غير مصيب مسألة في شرائط الاستفتاء(6/80)
اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد الخلق ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات ثم هاهنا بحث وهو أن أهل الاجتهاد إذا أفتوه فإن اتفقوا على فتوى لزم المصير إليها وإن اختلفوا فقال قوم وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأن ذلك طريق قوة ظنه يجري مجرى قوة ظن المجتهد وقال آخرون لا يجب عليه هذا الاجتهاد لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء
ثم بعد الاجتهاد إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقا أو ظن الرجحان مطلقا أو ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فإن حصل ظن الاستواء مطلقا فها هنا طريقان أحدهما أن يقال هذا لا يجوز وقوعه كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة والآخر أن يقال يسقط عنه التكليف لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء(6/81)
وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل به أما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فها هنا صور إحداها أن يستويا في الدين ويتفاضلا في العلم فمنهم من خيره ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب لمزيته ولهذا يقدم في إمامة الصلاة وثانيتها أن يتساويا في العلم ويتفاضلا في الدين فها هنا وجب الأخذ بقول الأدين وثالثها أن يكون أحدهما أرجح في علمه فقيل يؤخذ بقول الأدين والأقرب ترجيح قول الأعلم لأن الحكم مستفاد من علمه لا من ديانته
فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين الأمرين قلت من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه دواءا برأيه كان متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا(6/82)
فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر ب الأخبار وبإذعان المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي مسالة الرجل الذي تنزل به الواقعة فإما أن يكون عاميا صرفا أو عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد أو عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان عاميا صرفا حل له الاستفتاء وان كان عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فها هنا أجمعوا على إنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بظن غيره أما إذا لم يجتهد فها هنا قد اختلفوا فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد العالم ألبتة وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثورى رحمهم الله
بجوازه مطلقا ومن الناس من فصل وذكر فيه وجوها أحدها أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة ولا يجوز تقليد غيرهم وهو القول القديم للشافعي رضى الله عنه(6/83)
وثانيها أنه يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وثالثها أنه له التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به ورابعها أنه يجوز له التقليد فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت وهو قول ابن سريج لنا وجهان الأول أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ولم يأت به فيكون تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيستحق النار ترك العمل به في حق العامي لعجزه عن الاجتهاد فيبقى معمولا به في حق المجتهد(6/84)
الثاني أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته فوجب فوجب أن يحرم عليه
التقليد كما في الأصول والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه فإن قلت المعتبر في الأصول اليقين وأنه لا يحصل بالتقليد بخلاف الفروع فإن البغية فيها الظن ويمكن حصوله بالتقليد ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع دون الأصول وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز خلافه وإن كان متمكنا من معرفة الحكم فإنه لا معنى للتقليد إلا وجوب العمل عليه من غير حجة وينتقض أيضا بمن دنا من رسول الله ص فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن رسول الله ص قلت أما الجواب عن الأول فهو أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين لأنه قادر والدليل حاضر فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى حاصل في مسألتنا لأن المكلف قادر والدليل المعين للظن الأقوى حاصل فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف وعن الثاني أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضى به القاضي لا يمكنه(6/85)
نسخه بالاجتهاد فلم يكن العمل به تقليدا بل عملا بذلك الدليل وعن الثالث
أنه لا نسلم بجواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول ص عند القدرة واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال وثانيها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة وثالثها قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين أوجب الحذر بانذار من تفقه في الدين مطلقا فوجب على العالم قبوله كما وجب على العامي ذلك ورابعها إجماع الصحابة روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان أبايعك(6/86)
على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين فقال نعم وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا فإن قلت إن عليا خالف فيه قلت إنه لم ينكر جوازه لكنه لم يقبله ونحن لا نقول بوجوبه حتى يضرنا ذلك وخامسها
أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد فجاز لمن لم يكن عالما به تقليد من علمه كالعامي والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي وسادسها أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر بل عن عامي وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله ودينه فها هنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة فلأن يجوز العمل به كان أولى وسابعها أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لا ستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعا للضرر المظنون(6/87)
والجواب عن الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال وإنه غير واجب بالاتفاق وأيضا فقوله إن كنتم لا تعلمون يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره لأنه بعد اجتهاده ليس بعالم بل هو ظان وبالإجماع لا يجوز ذلك وأيضا فإنه أمر بالسؤال وليس فيه تعيين ما عنه السؤال فنحن نحمله على السؤال عن وجه الدليل وعن الثاني أن الأصول دلت على وجوب الطاعة لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شئ فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية
والأحكام والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع أنها لو تناولته لوجب ذلك التقليد وبالإجماع التقليد غير واجب وعن الثالث أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذار لا عند كل إنذار ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته وعن الرابع أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل والإنصاف والانقياد للحق والبعد عن الدنيا وعن الخامس أن الفرق هو أن العامي قاصر فجاز له العمل بالتقليد والعالم ليس بقاصر(6/88)
وعن السادس أن المفتي ربما بنى اجتهاده على خبر واحد فإذا تمسك به المجتهد ابتداءا كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره وعن السابع أن مجرد الظن واجب العمل به لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن(6/89)
القسم الثالث فيما فيه الاستفتاء
مسألة لا يجوز التقليد في أصول الدين لا للمجتهد ولا للعوام وقال كثير من الفقهاء بجوازه لنا أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول ص فوجب أن يجب علينا وإنما قلنا أنه كان واجبا على الرسول ص لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وإنما قلنا إنه لما كان واجبا على الرسول ص وجب أيضا على أمته لقوله تعالى واتبعوه(6/91)
فان قيل لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالما بالله تعالى فحالما يا لا يكون عالما بالله استحال أن يكون عالما بأمر الله تعالى وحالما يمتنع كونه عالما بأمر الله تعالى يمتنع كونه مأمورا من قبله وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وان كان عالما بالله تعالى استحال أمره به لأن تحصيل الحاصل محال سلمنا أن الرسول ص كان مأمورا بذلك فلم قلت إنه يلزم من كون الرسول مأمورا كون الأمة مأمورين به وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور أحدها أن الأعرابى الجلف العامي كان يحضر ويتلفظ بكلمتي الشهادة
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم بصحة إيمانه وما ذاك إلا التقليد وثانيها أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ممارسة شديدة وإنهم لم يمارسوا شيئا من هذا العلم فيمتنع اطلاعهم عليه وإذا كان كذلك تعين التقليد وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة هل علمت حدوث الأجسام وأنه تعالى مختار لا موجب فدل هذا على(6/92)
أن خطور هذه المسائل بالبال غير معتبر في الإيمان لا تقليدا ولا علما ومنهم من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى فقال اجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق فإذن لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل ومتى صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فيقال لهم هذا معارض بالتقليد في الشرعيات فإنه لا يجوز له تقليد المفتي إلا إذا كان المفتي قد أفتى بناءا على دليل شرعى فإن قلت الظن فيه كاف فإن أخطأ كان ذلك الخطأ محطوطا عنه قلت فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول واعلم أن في هذه المسألة ابحاثا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه وهو أن يقال دل القرآن على ذم التقليد لكن ثبت جواز التقليد في الشرعيات فوجب صرف الذم إلى التقليد في الأصول وإذ قد وفقنا الله تعالى بفضله حتى تكلمنا في جميع ابواب أصول(6/93)
الفقه فلنتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه هل هو من أدلة الشرع أو ليس كذلك(6/94)
الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع وفيه مسائل(6/95)
المسألة الأولى في حكم الأفعال اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع وأجبنا عن شبه المخالفين ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع بأدلة الشرع فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع أما الأصل الأول فالدليل عليه وجوه المسلك الأول التمسك بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع فإن قيل لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع والدليل عليه قوله تعالى وإن أسأتم فلها لله ما في السماوات والأرض ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع ولأن النحاة قالوا اللام للتمليك وهو غير ما قلتموه(6/97)
سلمنا ذلك ولكنه يفيد مسمى الانتفاع أو يفيد كل الانتفاعات الأول مسلم ويكفي في العمل بها حصول فرد واحد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى والثاني ممنوع فما الدليل سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات لكن بالخلق لأن اللام داخلة على الخلق فلم قلت إن المخلوق كذلك سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق لكن لكل واحد في حال واحد لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط سلمنا أنه يفيد العموم لكن كلمة في للظرفية فيدل على إباحة كل ما في داخل الأرض وهو الركاز والمعادن فلم قلتم إن ما على الأرض كذلك سلمنا إباحة كل ما على الأرض لكن في ابتداء الخلق لأن قوله خلق لكم يشعر بأنه حالما خلقتها إنما خلقها لنا فلم قلتم إنه بقي في الدوام كذلك(6/98)
فإن قلت الأصل في الثابت البقاء قلت هذا فيما يحتمل البقاء لكن كونه مباحا صفة والصفة لا تبقى سلمنا الإباحة حدوثا وبقاءا لو لكن لمن كان موجودا وقت ورود هذا الخطاب لأن قوله تعالى خلق لكم خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين سلمنا إنه يدل على اختصاصها بنا لكن قوله تعالى لله ما في
السماوات وما في الأرض ينافي ذلك والجواب الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال عليه الصلاة والسلام النظرة الأولى لك والثانية عليك وقال عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه غرمه(6/99)
ويقال هذا الكلام لك وهذا عليك غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص فنقول لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع أمكن جعله مجازا في مسمى الاختصاص لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص النافع والجزء لازم للكل واللفظ الدال على الشئ يصح جعله مجازا عن لازمه أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع لازما لأن الخاص لا يكون لازما للعام وإذا لم يوجد اللزوم لم يجز جعله مجازا عنه وأما قول النحاة اللام للتمليك فلم يريدوا أنها حقيقة للملك وإلا لبطل بقوله الجل للفرس بل مرادهم الاختصاص النافع وهو عين ما قلناه(6/100)
قوله يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى
قلنا لا يمكن حمل الآية على هذا النفع لأن هذا النفع حاصل لكل مكلف من نفسه فإن يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع وإذا حصل له هذا النفع من نفسه كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره ممتنعا لأن تحصيل الحاصل محال قوله اللام داخلة على الخلق فلم قلت المخلوق كذلك قلنا الخلق هو المخلوق لقوله تعالى هذا خلق الله أى مخلوق الله وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق لكن لا نفع للمكلف في صفة الله تعالى فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق قوله مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد قلنا لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع بل هذا يجرى مجري تمليك الدار الواحدة لشخصين فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد منهما لا بجزء معين من الدار بل بجميع أجزاء الدار فكذا ها هنا قوله كلمة في لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض قلنا لا نسلم بدليل قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قوله هب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء فلم قلت إنه يدوم قلنا لأن الأصل فيما يثبت بقاؤه(6/101)
قوله هذا الاختصاص صفة فلا تقبل الدوام قلنا لكن حكم الله تعالى صفة فهي واجبه الدوام قوله هب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب فلم قلت إنه يثبت في حقنا
قلنا لأن الله تعالى لما حكم بذلك في حقهم وقد حكم به الرسول أيضا في حقهم فوجب أن يكون قد حكم به أيضا في حقنا لقوله عليه الصلاة والسلام حكمي في الواحد حكمي في الجماعة قوله هذا معارض بقوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض قلنا التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد وهو محال لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع وذلك في حق الله تعالى محال فإذن لا تعارض بل ذلك الاختصاص ليست إلا بجهة الخلق والإيجاد المسلك الثاني قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق أنكر الله تعالى على من حرم زينة الله فوجب أن لا تثبت حرمة(6/102)
زينة الله وإذا لم تثبت حرمة زينة الله امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من أفراد زينة الله لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى وذلك على خلاف الأصل وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة المسلك الثالث أن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها
المسلك الرابع القياس وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع ظاهرا فوجب أن لا يمنع كالاستضاءة ب ضوء سراج الغير والاستظلال بظل جداره إنما قلنا إنه لا ضرر فيه على المالك لأن المالك هو الله تعالى والضرر عليه محال وأما ملك العباد فقد كان معدوما والأصل بقاء ذلك العدم ترك العمل به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعا فيبقى في غيره على الأصل فإن قيل فهذا يقتضي القول بإباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضى سقوط التكاليف بأسرها ولا شك في فساده(6/103)
وأيضا فالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز لأن المالك لو منع من الاستضاءة والاستظلال قبح ذلك منه والله تعالى لو منعه من الانتفاع لم يقبح والجواب عن الأول أنا احترزنا عنه بقولنا ولا ضرر على المنتفع ظاهرا وها هنا في فعل ما نهى الله عنه ترك ما أمر به ضرر أما على قول المعتزلة فلأنه لولا اشتمال الفعل والترك على جهة لأجلها حصل النهي وإلا لما جاز ورود النهي وأما عندنا فلأن الله تعالى لما توعدنا بالعقاب عليه كان مشتملا على الضرر فلم يكن واردا علينا
وعن الثاني أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويا للأصل من كل الوجوه بل يكفي حصول المساواة فيه من الوجه المقصود المسلك الخامس وهو أن الله تعالى خلق الأعيان إما لا لحكمة أو لحكمة والأول باطل لقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ولأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث والعبث لا يليق بالحكيم(6/104)
وأما إن كان خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما عود النفع إليه أو إلينا والأول محال لاستحالة الانتفاع عليه فتعين أنه تعالى إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون وهذا يقتضي أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما يمنع لأنه بحيث يلزمه رجوع ضرر إلى محتاج فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات علمنا أنه تعالى إنما منعنا منها لعلمه باستلزامها للمضار إما في الحال أو في المآل ولكن ذلك على خلاف الأصل فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء والقضاة وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال أما الأصل الثاني وهو أن الأصل في المضار الحرمة فهذا يستدعي بحثين
أحدهما البحث عن ماهية الضرر والثاني إقامة الدليل على حرمته أما الأول فقد قالوا الضرر ألم القلب لأن الضرب يسمى ضررا وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارا والشتم والاستخفاف يسمى ضررا ولا بد من جعل اللفظ اسما لمعنى مشترك بين هذه الصور دفعا(6/105)
للاشتراك وألم القلب معنى مشترك فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه فان قيل أتعني بألم القلب الغم والحزن أم شيئا آخر الأول باطل لأن من خرق ثوب إنسان أو خرب داره وكان المالك غافلا عن هذه الحالة يقال أضربه مع أنه لم يوجد الغم والحزن وإن عنيت به شيئا آخر فبينه نزلنا عن الاستفسار فلم قلت الضرر ألم القلب قوله لا بد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال قلنا هذا مسلم لكن لم قلت إنه لا مشترك إلا ألم القلب بل ها هنا مشترك آخر وهو تفويت النفع فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى أن النفع مقابل الضرر والنفع تحصيل المنفعة فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة فيما ذكرتموه دفعا للاشتراك سلنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب لكنه معارض بوجهين الأول أن من خرب دار إنسان وكان المالك غافلا عنه يقال أضربه مع أنه
لم يوجد هناك ألم القلب لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به الثاني قوله تعالى قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة لأنهم يعاقبون بذلك(6/106)
فثبت أن الضرر ليس ألم القلب والجواب أن القلب إذا ناله غم وحزن انعصر دم القلب في الباطن وانعصار دم القلب في الباطن إنما يكون لانعصار يكون القلب في نفسه وانعصار العضو مؤلم له لأن أي عضو عصرته فإنه يحصل منه ألم فالمراد من ألم القلب تلك الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار مع فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم وإن كان مقارنا له وغير منفك عنه وأما من خرق ثوب إنسان فإنما يقال أضربه على معنى أنه أوجد ما لو عرفه لحصل الضرر لا محالة وهو في الحقيقة اطلاق اسم المسبب على السبب مجازا قوله لم قلت لا مشترك سواه قلنا لأن المشترك الآخر كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم قوله تفويت النفع أيضا مشترك قلنا لا يجوز جعله مسمى الضرر لأن البيع والهبة حصل فيهما تفويت النفع لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع مع أن ذلك لا يسمى
ضررا قوله الضرر في مقابلة النفع قلنا هب أنه كذلك لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة أو ما يكون(6/107)
وسيلة إليها والضرر عبارة عن تحصيل الألم أو ما يكون وسيلة إليه وأما الآية فنقول لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا ولا في الآخرة بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها فزال السؤال المقام الثاني في اقامة الدلالة على حرمة الضرر والمعتمد فيه قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا إضرار في الإسلام والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضا وجوابا مشهور في الخلافيات(6/108)
المسألة الثانية في استصحاب الحال المختار عندنا أنه حجة وهو قول المزني وأبي بكر الصيرفي من فقهائنا خلافا للجمهور من الحنفية والمتكلمين لنا أن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في في الاستقبال والعمل بالظن واجب ولا معنى لكونه حجة إلا ذلك إنما قلنا إن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال لأن الباقي مستغن عن المؤثر والحادث مفتقر إليه والمستغني عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه
إن قلنا أن الباقي مستغن عن المؤثر لأنا لو فرضنا له مؤثرا فذلك المؤثر إما أن يقال إنه صدر عنه أثر أو ما صدر عنه أثر والثاني محال لأن فرض المؤثر بدون الأثر متناقض وأما الأول فأثره إما أن يكون شيئا ما كان موجودا أو كان موجودا فإن قلنا أنه ما كان موجودا كان الأثر حادثا لا باقيا وإن قلنا إنه كان موجودا كان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي مستغن عن المؤثر(6/109)
وإنما قلنا إن الحادث مفتقر إليه لأن إجماع المسلمين بل إجماع جمهور العقلاء منعقد عليه والاستقصاء فيه مذكور في كتابنا المسمى ب الخلق والبعث وإنما قلنا إن المستغنى عن المؤثر راجح بالنسبة إلى المفتقر إليه لوجهين الأول وهو أن المستغنى عن المؤثر لا بد أن يكون الوجود به أولى إذ لو كان الوجود مساويا للعدم لاستحال الرجحان إلا بمنفصل وكان يلزم افتقاره إلى المؤثر لكنا فرضناه مستغنيا عنه هذا خلف فإذن وجود الباقي راجح على عدمه وأما الحادث فليس أحد طرفيه راجحا على الآخر إذ لو كان راجحا لاستحال افتقاره إلى المرجح وإلا لكان ذلك المرجح مرجحا لما هو في نفسه مترجح فكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي أولى بالوجود وأن الحادث ليس أولى بالوجود ولا
معنى لظن وجوده إلا اعتقاد أن وجوده أولى فثبت أن الباقي راجح الوجود بالنسبة إلى الحادث(6/110)
الثاني وهو أن الباقي لا يعدم إلا عند وجود المانع والمتقر سعيد إلى المؤثر كما يعدم عند وجود المانع فقد يعدم أيضا عند عدم المقتضي وما لا يعدم إلا بطريق واحد يكون أولى بالوجود مما يعدم بطريقين ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى بالوجود وإنما قلنا إن العمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر ولأنه لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح وإنه غير جائز في بديهة العقل ولأن العمل بالقياس وخبر الواحد والشهادة والفتوى وسائر الظنون المعتبرة إنما وجب ترجيحا للأقوى على الأضعف وهذا المعنى قائم ها هنا فيلزم ثبوت الحكم ها هنا أيضا وهو وجوب العمل به فإن قيل لا نسلم أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال قوله لأن الباقي مستغن عن المؤثر قلنا ما المعنى بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر إن عنيتم به أن كونه باقيا مستغن عن المؤثر فهذا ممنوع(6/111)
وأيضا فهو مناقض لقولكم الحادث مفتقر إلى المؤثر لأن كونه باقيا لم يكن حاصلا حال حدوثه ثم حصل بعد أن لم يكن فيكون حادثا وأنتم قد اعترفتم أن الحادث لا بد له من مؤثر وإن عنيتم بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر شيئا آخر فبينوه لننظر فيه نزلنا عن الاستفسار فلم لا يجوز أن يقال الباقي له مؤثر ولذلك المؤثر أثر قوله ذلك الأثر إما أن يكون شيئا ما كان حاصلا أو كان حاصلا قلنا لم لا يجوز أن يقال ما كان حاصلا وذلك لأنه لا معنى لبقائه إلا حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلا في زمان آخر قبله لكن حصوله في هذا الزمان ما كان حاصلا قبل حصول هذا الزمان فإذن كونه باقيا أمر حادث فأثر المبقي هو ذلك الأثر فإن قلت فعلى هذا التقدير يكون أثر المبقي أمرا حادثا فلا يكون مبقيا بل محدثا قلت مرادنا من قولنا الباقي يفتقر إلى المبقى أن حصوله في الزمان الثاني لا بد فيه من شئ آخر وقد ثبت أنه لا يكون باقيا ما لم يحصل في الزمان الثاني وحصوله في الزمان الثاني مفتقر إلى مؤثر فإذن يمتنع أن يصدق عليه كونه باقيا إلا لمؤثر فيعد ذلك البحث عن الواقع بذلك المؤثر وكونه أمرا مستمرا أو جديدا بحثا عن شئ خارج عن المقصود(6/112)
سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يقال أثره شئ كان حاصلا قوله تحصيل الحاصل محال قلنا إن عنيت بتحصيل الحاصل أن يجعل عين الشئ الذي كان موجودا في الزمان الأول حادثا في الزمان الثاني فلا نزاع في أن ذلك محال لكن لم قلت إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك وإن عنيت به أن الوجود الذي صدق عليه في الزمان الأول أنه أنما ترجح لهذا المؤثر صدق عليه في الزمان الثاني أيضا أنه ترجح لهذا المؤثر فلم قلت إن ذلك محال سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على استغناء الشئ حال بقائه عن المؤثر لكن ها هنا ما يعارضه وذلك لأن هذا الباقي كان بقاؤه ممكنا وكل ممكن فله مؤثر فالباقي حال بقائه له مؤثر وإنما قلنا أنه ممكن لأنه في زمان حدوثه ممكن وإلا لم يفتقر إلى المؤثر وإمكانه من لوازم ماهيته وما كان من لوازم الماهية فهو واجب الحصول في جميع زمان تحقق الماهية فكان الإمكان حاصلا في زمان البقاء وإنما قلنا إن الممكن مفتقر إلى المؤثر لأن الممكن قد استوى طرفاه وما كان كذلك افتقر إلى المرجح فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الإمكان إنما يحوج إلى المقتضى بشرط الحدوث وهذا الشرط فائت في زمان البقاء فلا يتحقق الافتقار قلت لا يجوز جعل الحدوث مؤثرا في تحقق الاحتياج لأن الحدوث(6/113)
عبارة عن مسبوقية وجود الشئ بالعدم ومسبوقية بكر الوجود بالعدم صفة ونعت
له وصفة الشئ متوقفة على الشئ فالحدوث متوقف على الوجود المتأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن احتياج المؤثر إليه المتأخر عن علة احتياجه إليه فلو كان الحدوث مؤثرا في ذلك الاحتياج إما بأن يكون علة أو جزء علة أو شرط علة لزم الدور وهو محال سلمنا استغناء الباقي عن المؤثر وافتقار الحادث إليه فلم قلت إن المستغني راجح عن المفتقر قوله في الوجه الأول أن الباقي أولى بالوجود والحادث ليس أولى ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى قلنا إن عنيت بهذه الأولوية أن العدم عليه ممتنع فهذا باطل لأن هذا الباقي يقبل العدم وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه فإن قلت المراد منها درجة متوسطة بين الاستواء الذي هو مسمى الإمكان والتعيين المانع من النقيض الذي هو مسمى الضرر قلت هذا محال لأن مع ذلك القدر من الأولوية إن امتنع النقيض فهو الضرروة وقد فرضنا أنه ليس كذلك وإن لم يمتنع فمع ذلك القدر من الأولوية يصح عليه الوجود تارة والعدم أخرى فحصول أحدهما بدلا عن الآخر إن توقف على انضمام قيد إليه لم يكن الحاصل قبله كافيا في تحقق الأولوية وإن لم يتوقف كانت نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود والعدم على السوية فترجيح أحدهما على الآخر لا لمرجح زائد يكون(6/114)
ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وأما الوجه الثاني فغاية ما في الباب أنه يمكن تحقق عدم الحادث بطريقتين ولا يمكن تحقق عدم الباقي إلا بطريق واحد فلم قلت أن هذا القدر يقتضي أن يكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي رجحان الباقي على الحادث من ذلك الوجه لكنه يقتضي عدم الرجحان من وجه آخر بيانه أن الباقي لا يصدق عليه كونه باقيا إلا إذا حصل في الزمان الثاني فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث فإذا لم يكن وجود الحادث راجحا فالمتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لم يكن هو أيضا راجح الوجود فيلزم أن لا يكون الباقي راجح الوجود سلمنا أن الباقي راجح الوجود ولكن ما لم يتحقق كونه باقيا لا يتحقق كونه راجح الوجود وهو إنما يصدق عليه كونه باقيا إذا حصل في الزمان الثاني فالحاصل أنا ما لم نعرف وجوده في الزمان الثاني لا نعرف كونه راجح الوجود وأنتم جعلتم رجحان وجوده دليلا على وجوده في الزمان الثاني فيكون دورا سلمنا أن الباقي راجح في الوجود الخارجي على الحادث فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الظن لا بد لهذا من دليل سلمنا حصول هذا الظن وأن العمل به واجب ولكنه معارض بدليل آخر يمنع من التمسك بالاستصحاب وهو أن من سوى بين الوقتين في(6/115)
الحكم فإما أن يقال إنما سوى بينهما لاشتراكهما فيما يقتضى ذلك
الحكم أو ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فهو قياس وإن كان الثاني كان ذلك تسوية بين الوقتين في الحكم من غير دليل وإنه باطل بالإجماع والجواب قوله ما المراد من قولكم الباقي مستغن عن المؤثر قلنا لا شك في أن الباقي هو الذي حصل في زمان بعد أن كان بعينه حاصلا في زمان آخر قبله وهذا يقتضى أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات الحاصلة في ذلك الزمان الآخر إذا ثبت هذا فنقول هذه الذات التي صدق عليها أنها حصلت بعينها في الزمانين إما أن يقال حصل فيها في الزمان الثاني أمر لم يكن حاصلا في الزمان الأول أو لم يحصل فإن كان الأول كان الأمر المتجدد مغايرا للذات الباقية فيكون الباقي في الحقيقة هو الذات لا هذه الكيفية المتجددة فنحن ندعي أن ذلك الشئ الذي هو الباقي يستحيل إسناده إلى المؤثر حال بقائه وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد تلك الكيفية المتجددة قادحا في قولنا الباقي غير مستند إلى المؤثر لأن أحدهما غير الآخر وإن قلنا إنه لم يحدث في الزمان الثاني أمر متجدد بل الحاصل في(6/116)
الزمان الثاني ليس إلا الذات التي كانت حاصلة في الزمان الأول فعلى هذا
التقدير بطل قولهم إن كونه باقيا كيفية حادثة وأنها مفتقرة إلى المؤثر فثبت أن على التقديرين السؤال ساقط قوله حصوله في الزمان الثاني كيفية زائدة على الذات وهي مفتقرة إلى المؤثر قلنا هذا باطل وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في دليلنا أما أنه باطل فلأن حصوله في الزمان الثاني لو كان كيفية زائدة على الذات لكان حصول ذلك الزائد في ذلك الزمان كيفية أخرى فلزم التسلسل وهو محال ولأن العدم قد يصدق عليه أنه باق فلو كان تحققه في الزمان الثاني كيفية ثبوتية لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وإنه محال وأما أن بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل فذلك لأن حصوله في الزمان الثاني لما كان أمرا حادثا كان إسناده إلى المؤثر إسنادا للحادث إلى المؤثر لا إسنادا للباقي وكلامنا ليس إلا في الباقي قوله ما الذي تعني بتحصيل الحاصل قلنا نعني به أن الشئ الذي حكم العقل عليه بأنه كان حاصلا قبل ذلك يحكم عليه بأن حصوله الآن لأجل هذا الشئ وهذا محال بالبديهة لأنه لما كان حاصلا قبل ذلك فلو أعطاه الآن(6/117)
هذا المؤثر حصولا لكان قد حصل نفس ما كان حاصلا وأنه محال قوله الباقي حال بقائه ممكن والممكن مفتقر قلنا لا نسلم أن الممكن إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثا
قوله الحدوث متأخر قلنا لا نريد به أن كونه حادثا شرط للافتقار بل نريد به أن كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثا بشرط افتقار الأثر إلى المؤثر وكونه بهذه الصفة أمر متقدم قوله ما المراد من الأولوية قلنا درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض قوله هذا محال لأنه يقتضي ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا لمرجح قلنا لا نسلم أن ذلك ممتنع مطلقا بل ذلك إنما يمتنع بشرط الحدوث قوله على الوجه الثاني لم قلت إنه لما أمكن حصول عدم الحادث بطريقين وعدم الباقي لا يحصل إلا بطريق كان وجود الحادث مرجوحا قلنا لأن عدم حصول الحادث أكثر من عدم الباقي لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث وأما عدم الباقي بعد حدوثه فمشروط بوجوده فإذا كان الوجود متناهيا كان العدم بعد الوجود متناهيا وإذا كان عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده والكثرة موجبة للظن ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشئ ولا(6/118)
معنى للظن إلا ذلك واعلم أنه يمكن الاستدلال بهذه النكتة ابتداءا قوله كونه باقيا يتوقف على حدوث حصوله في الزمان الثاني فكونه
باقيا يتوقف على الحدوث الذي ليس براجح والموقوف على ما لا يكون راجحا ليس براجح قلنا هذا إنما يلزم لو كان حصوله في الزمان الثاني كيفية وجودية وقد دللنا على أن ذلك محال لأنه يوجب التسلسل ثم إن سلمنا صحة ذلك لكنا نقول لما ثبت أن الحدوث مرجوح فالذات إذا كانت حادثة فهناك أمران حادثان أحدهما الذات والآخر حصول الذات في ذلك الزمان وأما إذا كانت الذات باقية والحادث أمر واحد وهو حصوله في ذلك الزمان أما الذات فهي ليست ب حادثة في نفسها فإذن الحادث مرجوح من وجهين والباقي من وجه واحد فوجب أن يكون الباقي راجحا على الحادث من هذا الوجه قوله ما لم يعرف كونه باقيا لا يثبت رجحانه قلنا لا حاجة إلى ذلك بل نقول هذا الذي وجد لا يمتنع عقلا أن يوجد في الزمان الثاني وأن يعدم لكن احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الذي ذكرناه فالعلم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال فإذن العلم بالأولوية مستفاد من العلم بوجوده في الحال(6/119)
وعلى هذا التقدير يسقط الدور قوله هب أن الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الذهن قلنا لأن الاعتبار الذهنى مطابق للاعتبار الخارجي وإلا كان جهلا
قوله التسوية بين الزمانين إن لم تكن بالقياس كان ذلك تسوية بين الزمانين من غير دليل قلنا القياس دليل واحد من أدلة الشرع وليس يلزم من عدم دليل معين عدم الدليل بالكلية بل نحن سوينا بين الزمانين في الحكم بناءا على ما ذكرنا من أن العلم بثبوته في في الحال يقتضى ظن ثبوته على ذلك الوجه في الزمان الثاني والعمل بالظن واجب واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لا بد منه في الدين والشرع والعرف أما في الدين فلأنه لا يتم الدين إلا بالاعتراف بالنبوة ولا سبيل إليه إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا فعل خارق للعادة ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا عند تقرر العادة ولا معنى للعادة إلا أن العلم بوقوعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب وأما في الشرع فلأنا إذا عرفنا أن الشرع تعبدنا بالإجماع أو بالقياس(6/120)
أو بحكم من الأحكام فلا يمكننا العمل به إلا إذا علمنا أو ظننا عدم طريان الناسخ فإن علمنا ذلك بلفظ آخر افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم النسخ أيضا فإن كان ذلك بلفظ آخر أيضا تسلسل إلى غير النهاية وهو محال فلا بد أن ينتهي آخر الأمر إلى التمسك ب الاستصحاب وهو أن علمنا بثبوته في الحال يقتضى ظن وجوده في الزمان الثاني وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنا متى يتقنا
قد حصول شئ وشككنا في حدوث المزيل أخذنا بالمتيقن وهذا عين الاستصحاب لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث وأما العرف فلأن من خرج من داره وترك أولاده فيها على حالة مخصوصة كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة التي تركتهم عليها راجحا على اعتقاده لتغير تلك الحالة ومن غاب عن بلده فإنه يكتب إلى أحبابه وأصدقائه عادة في الأمور التي كانت موجودة حال حضوره وما ذاك إلا ل أن اعتقاده في بقاء تلك الأمور راجح على اعتقاده في تغيرها بل لو تأملنا لقطعنا بأن أكثر مصالح العالم ومعاملات الخلق مبني على القول بالاستصحاب فرع من قال النافي لا دليل عليه إن أراد أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل فهذا حق كما بيناه(6/121)
وإن أراد به غيره فهو باطل لأن العلم بالنفي أو الظن به لا يحصل إلا لمؤثر(6/122)
المسألة الثالثة في الاستحسان المحكي عن الحنفية القول بالاستحسان(6/123)
ومخالفوهم أنكروا ذلك عليهم لظنهم أنها يعنون به الحكم من غير دليل والذي حصله المتأخرون في تحديده وجهان(6/124)
الأول قال الكرخي الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص وعن المنسوخ إلى الناسخ استحسانا الثاني قال أبو الحسين الاستحسان ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول قال ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص لأن العموم لفظ شامل ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانا لأن الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن كان طارئا فهو استحسان فإن قلت فقد قال محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه تركنا الاستحسان للقياس كما لو قرأ آية ال سجدة في آخر السورة فالقياس يقتضي أن يجتزئ بالركوع والاستحسان أن لا يجتزئ به بل يسجد لها ثم إنه قال بالقياس(6/125)
فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس فكيف تركه وإن لم يكن أقوى منه فقد بطل حدكم
قلت ذلك المتروك إنما يسمى استحسانا لأنه وإن كان الاستحسان وحده أقوى من القياس وحده لكن اتصل بالقياس شئ آخر صار ذلك المجموع أقوى من الاستحسان كما في المسألة التي ذكرتموها فإن الله تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى وخر راكعا وأناب فهذا تقرير هذا الحد الذي ذكره أبو الحسين رحمه الله واعلم أن هذا يقتضي أن تكون الشريعة كلها استحسانا لأن مقتضى العقل هو البراءة الأصلية وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهو نص أو إجماع أو قياس وهذا الأقوى في حكم الطارئ الأول فيلزم أن يكون الكل استحسانا وهم لا يقولون به لأنهم يقولون تركنا القياس للاستحسان وهذا يقتضي أن يكون القياس مغايرا للاستحسان فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول إذا عرفت هذا فنقول اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان وهذا الخلاف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى لا يجوز أن يكون(6/126)
في اللفظ لأنه قد ورد في القرآن والسنة وألفاظ سائر المجتهدين هذه اللفظة أما القرآن فقوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وقوله فيتبعون أحسنه وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنا
وأما ألفاظ سائر المجتهدين فلأن الشافعي رضي الله عنه قال في باب المتعة أستحسن أن تكون ثلاثين درهما وفي باب الشفعة أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام وقال في المكاتب أستحسن أن يترك عليه شئ فثبت بهذا أن الخلاف ليس في اللفظ وإنما الخلاف في المعنى وهو أن القياس إذا كان قائما في صورة الاستحسان في سائر الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان(6/127)
وبقي معمولا به في غير تلك الصورة فهذا هو القول بتخصيص العلة وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل وقد تقدمت هذه المسألة فظهر أن القول بالاستحسان باطل(6/128)
المسألة الرابعة الحق أن قول الصحابى ليس بحجة وقال قوم إنه حجة مطلقا ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها أحدها أنه حجة إن خالف القياس وثانيها أن قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة فقط وثالثها أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة لنا النص والإجماع والقياس أما النص فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد
وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من(6/129)
آحاد الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما ولا كل واحد منهما على صاحبه فيما فيه اختلفا وأما القياس فهو أنه متمكن من إدراك الحكم بطريقة فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في الأصول واحتج المخالف بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد كان منهم وذلك يقتضي أن يكون قوله حجة وثانيها إن لم يجز اتباع كل واحد منهم فيجب اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للخبر والإجماع أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وأما الإجماع فقد ولى عبد الرحمن عثمان الخلافة بشرط الاقتداء(6/130)
بسيرة الشيخين فقبل ولم ينكر ذلك على عثمان وكان ذلك بمحضر من أكابر الصحابة فكان إجماعا وثالثها إن لم يجب اتباع أبي بكر وعمر وحدهما وجب اتباع الخلفاء
الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله عليكم للإيجاب وهو عام ورابعها أن الصحابي إذا قال ما يخالف القياس فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر والجواب عن الأول أن قوله عليه الصلاة والسلام بأيهم اقتديتم اهتديتم خطاب مشافهة فلعل ذلك كان خطابا للعوام وعن الثاني أن السنة هي الطريقة وهي عبارة عن الأمر الذي يواظب الإنسان عليه فلا تتناول ما يقوله الإنسان مرة واحدة وعن الثالث أنا نقول بموجبه فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد وأيضا فلو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع(6/131)
وعن الإجماع أن قول عثمان معارض بقول علي رضي الله عنهما وعن الرابع أن الصحابي لعله قال بما يخالف القياس لنص ظنه دليلا مع أنه في الحقيقة ما كان دليلا نعم لو تعارض قياسان والصحابي مع أحدهما فيجوز الترجيح بقول الصحابي فأما جعله حجة فلا
فرعان الأول اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في تقليد الصحابي فقال في القديم يجوز تقليده إذا قال قولا وانتشر ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر وقال في الجديد لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر وهو الحق المختار لأن الدلائل المذكورة مطردة في الكل(6/132)
فإن قلت كيف لا نفرق بينهم وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسوله ص عليهم حيث قال الله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقال السابقون الأولون من المهاجرين إلى قوله رضي الله عنهم وقال عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني قلت هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد فيهم ولا يوجب تقليدهم بدليل أنه ورد أمثالها في حق آحاد الصحابة مع إجماع الصحابة على جواز مخالفتهم قال عليه الصلاة والسلام لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقال والله ما سلكت(6/133)
فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك
وقال في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد وقال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما على شئ ما خالفتكما وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء الثاني في تفاريع القول القديم للشافعي رضى الله عنه وهي سبعة(6/134)
أحدها قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب اختلاف الحديث روي عن على أنه صلى في ليلة ست ركعات وفي كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله توقيفا وثانيها قال في موضع قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة قال الغزالي رحمه الله وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر والعجب من الغزالي أنه تمسك بمثل هذا الإجماع على أن خبر الواحد حجة والقياس حجة وثالثها نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة الأربعة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى وكل ذلك للأحاديث المذكورة
ورابعها نص في موضع آخر أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن التقصير وخامسها إن اختلف الحكم والفتوى عن الصحابة فقد اختلف قول الشافعي رضي(6/135)
الله عنه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم عن الحكم محمول على الطاعة وسادسها هل يجوز ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي والحق أنه في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك اغلب على ظنه وسابعها إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد معنييه منهم من جعله ترجيحا وقال القاضي أبو بكر إذا لم يقل علمت ذلك من قصد رسول الله ص بقرينة شاهدتها لم يكن ذلك ترجيحا(6/136)
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ص
أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوعه مويس بن عمران وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه وهو المختار وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين أما المانعون ففقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه وأخرى بما يدل على عدم وقوعه أما الوجه الأول فتقريره أن من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار(6/137)
مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف والأول باطل لوجهين أحدهما أن على هذا التقدير يسقط التكليف لأن المكلف متى قال إن اخترته فافعله وإن لم تختره فلا تفعله فهذا محض إباحة وثانيهما أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الإنفكاك عنه بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث فإنه يمكنه الانفكاك عنها أجمع وأما الثاني فهو باطل من وجوه أربعة أولها أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة أو
في الحادثة والحادثتين وفي والأول محال لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي اكتب مصحفا فإنك لا تخط بيمينك إلا ما يطابق ترتيب القرآن وللجاهل أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق ولولا ما ذكرناه لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله وبطلت دلالة أخبار الغيب على النبوة وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز ذلك في القليل دون الكثير فهو(6/138)
باطل لأن كل من جوزه في القليل جوزه في الكثير ومن منع منه في الكثير منع منه في القليل فالقول بالفرق خرق للإجماع وثانيها وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل إذا علم أو ظن كونه حسنا فلا بد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل فإذا لم تتقدم هذه الأمارة المميزة كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح تكليفا بما لا يطاق فإن قلت إنما يميز بين الحسن والقبيح بأن يقال له قد علمنا بأنك لا تختار شيئا إلا وهو حسن قلت فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له وهو إذا فعله زال التكليف عنه فالحاصل أن التمييز بين الحسن والقبيح لا بد وأن يكون متقدما على الاختيار وإلا وقع التكليف بما لا يطاق وإذا قال الله تعالى إنك لا تحكم إلا بالصواب فها هنا التمييز بين
الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل والشئ الذي يجب أن يكون متقدما ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرا وثالثها لو جاز أن يقول له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لجاز أن يكلفه(6/139)
تصديق النبي وتكذيب المتنبي من غير دليل ألبتة بل يكله فيه إلى رأيه ولجاز ذلك في الإخبار فيقول أخبر فإنك لا تخبر إلا عن حق ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه وكل ذلك باطل بالإجماع ورابعها لو جاز ذلك في حق العالم لجاز في حق العامي وبالإجماع لا يجوز أما الذي يدل على عدم الوقوع فأمران الأول لو كلن الرسول ص مأمورا بأن يحكم على وفق أرادته من غير دليل لما كان منهيا عن اتباع هواه لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه لكنه كان منهيا عن اتباع الهوى لقوله تعالى ولا تتبع الهوى وما ينطق عن الهوى فإن قلت لما قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب كان ذلك نصا من الله تعالى على كل ما يميل قلبه إليه فلا يكون ذلك اتباعا للهوى قلت فعلى هذا التقدير صار اتباع الهوى في حقه غير ممكن ولو كان
كذلك فلم نهي عنه الثاني لو قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لما قيل له لم فعلت(6/140)
كذا لكن قد قيل له عفا الله عنك لم أذنت لهم فلم يثبت ذلك في حقه وأما مويس فإنه تعلق بأمور بعضها يدل على الواقع وبعضها يدل على الجواز فقط أما الدال على الوقوع فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله ص أو على وقوعه من غيره أما الأول فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجه أحدها أن منادي النبي عليه الصلاة والسلام نادى يوم فتح مكة أن اقتلوا مقيس بن حبابة وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة(6/141)
لقوله من تعلق بأستار الكعبة فهو آمن(6/142)
ثم عفى عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كأن الله تعالى أمر بقتله لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحي آخر ولم يوجد وحي آخر لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك الوقت شئ من ذلك وثانيها
أنه قال يوم الفتح إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فقال إلا الإذخر فهذا الحكم ما كان بالوحي لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام نادى مناديه لا هجرة بعد الفتح حتى استفاض ذلك فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع ابن مسعود بالعباس بن عبد المطلب شفيعا ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال عليه الصلاة والسلام أشفع(6/143)
عمي ولا هجرة بعد الفتح ورابعها أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته قتيلة بنت النضر فأنشدته أمحمد ولأنت ضنؤ كل نجيبة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه الصلاة والسلام أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته(6/144)
ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وخامسها قوله عفوت لكم عن الخيل والرقيق(6/145)
وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أيها الناس كتب عليكم الحج فقال الأقرع بن حابس أكل عام يا رسول الله يقول ذلك ورسول الله ص ساكت فلما أعاد ذلك قال والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم وسابعها أن ابن عباس رضي الله قال أخر رسول الله ص العشاء ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين(6/146)
وثامنها روى جابر عن رسول الله ص أنه قال إن عشت إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة وهذا الكلام يدل على أنه له وتاسعها قال جابر لما قيل لرسول الله ص إن ماعزا رجم فقال هلا تركتموه حتى أنظر في أمره فلو لم يكن حكم الرجم إليه لما قال ذلك(6/147)
وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها
وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله ص فقوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وأما الذي يدل على الجواز فقط فأمور أحدها أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب فدل على أن ذلك جائز وثانيها أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنا من الخروج عن(6/148)
العهدة فإذا قال الله تعالى له احكم فإنك لا تنفك عن الصواب علم أن كل ما يصدر عنه صواب فكان متمكنا من الخروج من العهدة فوجب القطع بجوازه وثالثها إذا استوى عند المستفتى مفتيان وأحدهما يفتى بالحظر والآخر بالإباحة فهو متمكن شرعا من الأخذ ب قول أيهما أراد ولا فرق في العقل بين أن يقال افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب وبين أن يقال خذ بقول أيهما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب والجواب عن أدلة المانعين أن نقول أما الوجه الذي تمسكوا به أولا في امتناع ذلك عقلا فهو مبني على أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح ونحن لا نقول بهذا
الأصل فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه أما قوله أولا من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف قلنا اخترنا القسم الأول قوله هذا يكون إسقاطا للتكليف(6/149)
قلنا لا نسلم وذلك لأنه قال الرسول إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل وإن اخترت الترك فاحكم على الأمة بالترك فهذا لا يكون إسقاطا للتكليف بل يكون مكلفا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره قوله الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما قلنا لكن الحكم على الخلق بالفعل والحكم عليهم بالترك قد ينفك عنهما فلم لا يجوز ورود التكليف به ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتي إذ أفتاه مفتيان أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فكل ما يقولونه هناك فهو قولنا ها هنا سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني قوله إما أن يكون مأمورا بذلك في الأفعال الكثيرة أو القليلة قلنا لم لا يجوز في الكثيرة قوله الاتفاقي لا يكون أكثريا قلنا لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله عقلا وشرعا وعرفا فلما جاز ذلك في الأفعال القليلة جاز في الأفعال الكثيرة أيضا فان لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز فلا أقل من أن لا يحصل معه القطع
البديهي بالامتناع وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول إن كان الحال فيها كما هنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل وإلا فيمتنع القياس على أنا قد بينا في هذا الكتاب أن القياس لا يفيد اليقين ألبتة(6/150)
سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يعلم الله تعالى أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة مصلحة للمكلفين ويعلم أنهم خلقوا على وجه لا يشتهون إلا الطعام الحلو فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحة طول عمره لم يكن جهله بكون الفعل مصلحة مانعا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته سلمنا تعذر ذلك في الكثير فلم لا يجوز في القليل والإجماع الذي ذكروه ممنوع أما قوله ثانيا التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على الفعل قلنا لا نسلم وبيانه بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول سلمنا ذلك ولكنه حاصل ها هنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن
يفعل قبيحا أو مفسدة يستحق به الذم فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له على ذلك أمارة قبل أن يفعل وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس الفعل(6/151)
وعلى الوجهين جميعا هو آمن من القبيح ومتخلص من الذم وليس يلزم ما قالوا من أن الأمارة إذا لم تتقدم على الفعل كان مقدما على ما لا يأمن كونه قبيحا لأنه قبل أن يفعل لما قيل له إنك لا تختار إلا الصواب فهو آمن من الإقدام على القبيح وأما الوجه الثالث والرابع فجوابه أن الله تعالى لما نص في تلك الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب فلم قلت لا يجوز ورود الأمر بمتابعة إرادته وليس إذا لم يلزم مويس لم يجز لغيره التزامه وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع فالجواب عنهما أن قوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام إنك لا تحكم إلا بالصواب لعله ورد في زمان متأخر وما ذكروه ورد في زمان متقدم فلا يتناقضان وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع فضعيفة لاحتمال أن يقال ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطا مثل أن يقال لو استثنى أحد شيئا فاستثن له ذلك وكذا القول في سائر الصور سلمنا أنه ما كان بالوحي فلعله كان بالاجتهاد وبهذا التقدير لا يصح قول الخصم
وأما قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قلنا يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالاجتهاد(6/152)
ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزا في شرعهم وأما الوجه الأول من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز فجوابه إنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله تعالى لكنا لا نقول به وأما الوجهان الباقيان فمبنيان على تشبيه صورة بصورة وقد عرفت أن هذا لا يفيد اليقين فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين فظهر أن الحق ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه من التوقف(6/153)
المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي فمنهم من قال بمساواتها لدية المسلم ومنهم من قال هى نصف دية المسلم ومنهم من قال هى الثلث منها فهو رضي الله عنه أخذ بالأقل واعلم أن هذه القاعدة مفرغة على أصلين الإجماع والبراءة الأصلية(6/154)
أما الإجماع فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسام أحدها يوجب في اليهودي مثل دية المسلم وثانيها يوجب النصف وثالثها يوجب الثلث ورابعها لا يوجب شيئا لم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبا لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة وذلك ليس بحجة أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع كان القول بوجوب الثلث قولا لكل الأمة لأن من أوجب كل دية المسلم فقد أوجب الثلث ومن أوجب نصفها فقد أوجب الثلث أيضا ومن أوجب الثلث فقد قال بذلك فيكون إيجاب الثلث قولا قال به كل الأمة فيكون حجة(6/155)
وأما البراءة الأصلية فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل به في الثلث لدلالة الإجماع على وجوبه فيبقى الباقي كما كان ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شئ من الدلائل السمعية فإنه إن ورد شئ من ذلك كان الحكم لأجله لا لأجل الرجوع لأقل ما قيل ولهذا السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقال قائلون أربعون وقال قائلون ثلاثة(6/156)
فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بأقل ما قيل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب فقال بعضهم سبعة وقال آخرون ثلاثة
فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بالأقل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل لأنه قد ثبت في الذمة شئ واختلفت الأمة في الكمية فقال قوم هو كل الدية وقال اخرون بل نصفها وقال آخرون بل ثلثها فإذا لم تحصل مع واحد من هذه الأقوال دلالة سمعية تساقطت ولا تحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم فوجب القول به ليحصل الخروج عن العهدة بيقين والجواب إنه لما كان الأصل براءة الذمة امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل(6/157)
سمعي فإذا لم يوجد دليل سمعى سوى الإجماع والإجماع لم يثبت إلا في أقل المقادير لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل فإن قلت هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل فإذا كان هذا الاحتمال قائما لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين إلا بأكثر ما قيل قلت لما لا يوجد سوى الإجماع والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل فيه كان الزائد على ذلك الأقل لو ثبت لثبت من غير دليل وذلك غير جائز لأنه يصير ذلك تكليف مالا يطاق وأيضا فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية إذا لم نجد دليلا سمعيا يصرفنا عنها فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة علمنا أن الله
تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية وحينئذ يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل المقادير(6/158)
المسألة السابعة قال قوم يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر في الإسلام وقوله بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل وأما القياس فهو أنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير وربما قالوا الأخذ بالأخف أخذ بالأقل فوجب العمل به واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ(6/159)
الإباحة وفي الآلام الحرمة وقد تقدم الكلام فيه فأما قوله الأخذ بالأخف أخذ بالأقل قلنا هذا ضعيف لأنا إنما نوجب الأخذ بأقل ما قيل إذا كان ذلك جزءا من الأصل كما ذكرناه في المثال فإن الثلث جزء من النصف ومن الكل والموجب للكل والنصف موجب للثلث فيصير وجوب الثلث بهذا
الطريق مجمعا عليه أما إذا كان الأخف ليس جزءا من ماهية الأصل لم يصر الثلث مجمعا عليه فلا يجب الأخذ به وقال قوم يجب الأخذ بأثقل القولين لقوله عليه الصلاة والسلام الحق ثقيل قوي والباطل خفيف وبي وهذه الدلالة ضعيفة لأنه لا يلزم من قولنا كل حق ثقيل أن يكون كل ثقيل حق ولا من قولنا الباطل خفيف أن يكون كل خفيف باطلا وها هنا طريقة أخرى يسمونها طريقة الاحتياط وهى إما الأخذ بأكثر ما قيل أو بأثقل ما قيل ولما تقدم الكلام فيها فلا فائدة في الإعادة(6/160)
المسألة الثامنة الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته مثاله قول أصحابنا في الوتر أنه ليس بواجب لأنه يؤدي على الراحلة ولا شئ من الواجب يؤدى على الراحلة أما المقدمة الأولى فثابتة بالإجماع وأما الثانية فنثبتها بالاستقراء وهو أنا لما رأينا القضاء وسائر أصناف الواجبات لا تؤدى على الراحلة حكمنا على كل واجب بأنه لا يؤدى على الراحلة وهذا النوع لا يفيد اليقين لأنه يحتمل أن يكون الوتر واجبا بخلاف سائر الواجبات في هذا الحكم ولا يمتنع عقلا أن يكون بعض أنواع الجنس مخالفا لحكم النوع الآخر من ذلك الجنس وهل يفيد الظن أم لا الأظهر أن هذا القدر لا يفيد إلا بدليل منفصل ثم بتقدير حصول
الظن وجب الحكم بكونه حجة لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر(6/161)
المسألة التاسعة في المصالح المرسلة أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام أحدها ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدم شرحه وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته(6/162)
واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي القسم الثالث ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين فنقول قد ذكرنا في كتاب القياس إن المناسبة إما أن تكون في محل الضرورة أو الحاجة أو التتمة فقال الغزالي رحمه الله أما الواقع في محل الحاجة أو التتمة
فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وأما الواقع في رتبة الضرورة فلا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد ومثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما لم يذنب وهذا لا عهد به في الشرع(6/163)
ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد قال وإنما اعتبرنا هذه المصلحة لاشتمالها على ثلاثة أوصاف وهى أنها ضرورية قطعية كلية واحترزنا بقولنا ضرورية عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة أو التتمة وبقولنا قطعية عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا إذا لم نقصد الترس فإن ها هنا لا يجوز القصد إلى الترس وكذلك قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز لأنا لا نقطع بأنه يصير ذلك سببا للنجاة وبقولنا كلية عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل
المسلمين وكذا إذا كان جماعة في سفينة ولو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم فها هنا لا يجوز لأن ذلك ليس أمرا كليا فهذا محصل ما قاله الغزالي رحمه الله(6/164)
ومذهب مالك رحمه الله أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز واحتج عليه بأن قال كل حكم يفرض فإما أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة أو مفسدة خالية عن المصلحة أو يكون خاليا عن المصلحة والمفسدة بالكلية أو يكون مشتملا عليهما معا وهذا على ثلاثة أقسام لأنهما إما أن يكونا متعادلين وإما أن تكون المصلحة راجحة وإما أن تكون المفسدة راجحة فهذه أقسام ستة أحدها أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة وهذا لابد وأن يكون مشروعا لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح وثانيهما أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضا لابد وأن يكون مشروعا لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير وثالثها أن يستوى الأمران فهذا يكون عبثا فوجب أن لا يشرع ورابعها أن يخلو عن الأمرين وهذا أيضا يكون عبثا فوجب أن لا يكون مشروعا
وخامسها أن يكون مفسدة خالصة ولا شك أنها لا تكون مشروعة وسادسها أن يكون ما فيه من المفسدة راجحا على ما فيه من المصلحة وهو(6/165)
أيضا غير مشروع لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء وهى المقصود من وضع الشرائع والكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك تارة بحسب التصريح وأخرى بحسب الأحكام المشروعة على وفق هذا الذي ذكرناه غاية ما في الباب أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب لكن لا بد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة أو المفسدة أو غالب المصلحة أو المفسدة فظهر أنه لا توجد مناسبة إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار إما بحسب جنسه القريب أو بحسب جنسه البعيد إذا ثبت هذا وجب القطع بكونه حجة للمعقول والمنقول أما المعقول فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة معتبرة قطعا عند الشرع ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على مفسدته تولد من هاتين المقدمتين ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعا والعمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة السلام أقضي بالظاهر ولما ذكرنا أن ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول وهذا يقتضى القطع
بكونه حجة وأما المنقول فالنص والإجماع أما النص فقوله تعالى فاعتبروا أمر بالمجاوزة والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعا مجاوزة فوجب دخوله تحت النص(6/166)
وأما الإجماع فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة علم قطعا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة والشرائط المعتبرة في العلة والأصل والفرع ما كانوا يلتفتون إليها بل كانوا يراعون المصالح لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة(6/167)
المسألة العاشرة الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم طريقة عول عليها بعض الفقهاء وتحريره أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل والدليل إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فوجب أن لا يثبت الحكم إنما قلنا أن الحكم الشرعي لابد له من دليل لأن الله تعالى لو أمرنا بشئ ولا يضع عليه دليلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإنه غير جائز وإنما قلنا إن الدليل إما نص أو إجماع أو قياس لثلاثة أوجه أحدها قصة معاذ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والقياس
زدنا فيه الإجماع بدليل منفصل فيبقى الباقي على الأصل وثانيها أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل وقد بينا أن الأصل في كل أصل تحقق بقاؤه على ما كان فهذا الدليل يقتضي أن لا يوجد شئ من أدلة الأحكام ترك العمل به في النص والإجماع والقياس فوجب أن يبقى فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل(6/168)
وثالثها أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة لكان ذلك من الأمور العظام لأن ما يجب الرجوع اليه في الشرع نفيا وإثباتا في الوقائع الحاضرة والمستقبلة لا شك أنه من الأمور العظام فلو كان ذلك موجودا لوجب اشتهاره ولو كان كذلك لعرفناه بعد البحث والطلب فلما لم نجد شيئا آخر سوى هذه الثلاثة علمنا الانحصار وإنما قلنا أنه لم يوجد واحد من هذه الثلاثة لما سنبينه أما النص فلوجهين أحدهما أنا اجتهدنا في الطلب فما وجدنا وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم وثانيهما أنه لو وجد في المسألة نص لعرفه المجتهدون ظاهرا ولو عرفوه لما حكموا على خلافه ظاهرا فحيث حكموا على خلافه علمنا عدمه
أما الإجماع فهو منفي لأن المسألة خلافية ولا إجماع مع الخلاف وأما القياس فمنفي لوجهين أحدهما أن القياس لا بد فيه من أصل والأصل هو الصورة الفلانية والفارق الفلاني موجود ومع الفارق لا يمكن القياس أقصى ما في الباب أن يقال لم لا يجوز القياس على صورة أخرى(6/169)
فنقول لأنا بعد الطلب لم نجد شيئا يمكن القياس عليه إلا هذه الصورة وهذا القدر عذر في حق المجتهد فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر على ما بيناه وثانيهما أن سائر الأصول كانت معدومة فوجب بقاؤها على العدم تمسكا بالاستصحاب فهذا تمام تقرير هذه الدلالة واعلم أن كل مقدمة لا يمكن تمشية الدليل إلا بها فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج فلا كان التمسك بها في أول الأمر أولى ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين إحداهما أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود وثانيهما أن الأمر الفلاني كان معدوما فيحصل الآن ظن بقائه على العدم
وهاتان المقدمتان لو صحتا لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب فإنه يقال في أول المسألة الحكم الشرعي لا بد له من دليل ولم يوجد الدليل لأني اجتهدت في الطلب وما وجدته وذلك يدل على عدم الوجود أو يقال ولم يوجد الدليل لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل(6/170)
والأصل في كل معدوم بقاؤه على عدمه وإذا ثبت هذا فقد حصل ظن عدم الدليل فيتولد منه القطع بأنه لو وجد الحكم لوجد الدليل مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم والعمل بالظن واجب فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدمات وأشد تلخيصا فكان ايرادها على هذا الوجه أولى فإن قيل قوله الدليل إما نص أو إجماع أو قياس قلنا هذا لا يتم على قولك لأنك ذكرت هذه العبارة دليلا في المسألة الشرعية وإنها ليست بنص ولا إجماع ولا قياس وعند هذا يلزم أحد محذورين وهو أنه إما أن لا يكون هذا الكلام دليلا في المسألة حتى يتم الحصر أو يبطل الحصر حتى يتم هذا دليلا في المسألة فإن قلت الكلام عليه من وجهين أحدهما أني أقول دليل الحكم الشرعي إما نص أو إجماع أو قياس ومدلول دليلي انتفاء الصحة فإن هذا الانتفاء كان حاصلا قبل الشرع فالإخبار عنه يكون إخبارا عن أمر لا تتوقف معرفته على الشرع فلا يكون شرعيا
وثانيهما أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شئ من هذه الأشياء وجب نفي الحكم فيكون الدليل في الحقيقة هو الإجماع(6/171)
قلت أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ثبت انتفاء الصحة لزم ثبوت البطلان ضرورة تعذر القول بالوقف فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة فيكون دليلا على حكم شرعي فيعود المحذور المذكور وعن الثاني أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداءا بل دل على أنه مهما عدم النص والإجماع والقياس لزم عدم الحكم فيكون الإجماع دليلا على أن عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه الثلاثة فيعود الكلام المتقدم السؤال الثاني أنك جعلت عدم دليل الثبوت دليل العدم فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت أم لا فإن لم يقل به فقد ناقض لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة دليل العدم إلى العدم فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت لزم من عدم دليل العدم عدم العدم وأن لم يلزم ها هنا لم يلزم هناك أيضا إذ لا فرق بينهما في العقل وإن اعترف بذلك لزم المحذور من وجهين
أحدهما أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم وعدم العدم وجود فعدم دليل العدم دليل على الوجود فقد حصل سوى النص والإجماع والقياس دليل آخر على الوجود فيبطل حصرهم والثاني وهو أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود(6/172)
إلا ببيان عدم عدم دليل العدم وعدم العدم وجود فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم لكنك لو ذكرت دليل العدم لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة السؤال الثالث أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان فهذا الطريق إن صح وجب الاكتفاء به في نفي القياس لأنه حاصل فيه وإن لم يصح لم يجز التعويل عليه في هذا المقام فإن قلت إنما تعرضت لنفي قياس معين لأن المخالف يعتقده قياسا ودليلا وليس في النصوص ما يعتقده دليلا قلت المخالف كما يعتقد في قياس كونه حجة له فكذلك قد يعتقد في بعض النصوص كونه حجة له فكان يلزم التعرض للأمرين السؤال الرابع لم قلت إنه لما وجد الفرق بين الصورتين تعذر القياس وذلك لأن الفرق إنما يكون قادحا لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأما إذا كان جائزا احتمل كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الذي
تعدى إلى الفرع وبالوصف الذي لم يتعد إليه معا فلا يكون ذلك قادحا في القياس(6/173)
السؤال الخامس أن هذا النظم لا ينفك عن القلب فإن المستدل إذا قال مثلا في بيع الغائب لا نص ولا إجماع ولا قياس في صحته فوجب أن لا تثبت صحته فيقال وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على المشتري أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع حكم شرعي فلا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يوجد ذلك فوجب أن لا يثبت الجواب هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل إذا وجد دليل يوجب العدول عنه وذلك الدليل لا يكون إلا نصا أو إجماعا أو قياسا وعلى هذا يسقط السؤال وذلك لأنا نقول مثلا في مسألة بيع الغائب لا شك أن قبل جريان هذا البيع كان المبيع ملكا للبائع والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود نص أو إجماع أو قياس يدل على خلافه ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل وإذا كان كذلك وجب الحكم ببقائه على ما كان وحاصل الكلام أنى إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم عن مقتضى الأصل والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير الحكم بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان فلم يكن ادعاء الحصر
في تلك الصورة قادحا في صحة هذه الدلالة وإذا عرفت هذا فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل أن يقال(6/174)
حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة والدلالة المغيرة إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم توجد الدلالة المغيرة فوجب بقاؤه على ما كان فإن قلت التمسك باستصحاب الأصل كاف فأي حاجة إلى هذا التطويل قلت المناظر تلو المجتهد ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك باستصحاب حكم الأصل إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة فإذا لم يجد في الواقعة شيئا منها حل له فيما بينه وبين الله تعالى أن يحكم بمقتضى الاستصحاب فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة فلا يجوز له التمسك بالاستصحاب أصلا فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك وجب أن يكون في حق المناظر كذلك لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود وبيانه من وجوه أحدها أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم لزمنا عدم ما لا نهاية له وذلك غير ممتنع
أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود لزمنا إثبات ما لا نهاية له وهو محال(6/175)
وثانيها أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان على أنه ليس بنبي ولا نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسول على كونه رسولا وثالثها أنه لا يقال أن فلانا ما نهاني عن التصرف في ماله فأكون مأذونا في التصرف ويقال إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله فأكون ممنوعا ورابعها أن دليل كل شئ على حسب ما يليق به فدليل العدم العدم ودليل الوجود الوجود سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر لكن ذلك يقتضي أن يتعارضا ويتساقطا منه وحينئذ يبقى مقتضى الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان وأما السؤال الثالث فليس سؤالا علميا بل هو شئ يتعلق بالوضع والاصطلاح فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية وأما السؤال الرابع فجوابه أنا بينا في هذا الكتاب أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وأن سؤال الفرق سؤال قادح وأما السؤال الخامس فساقط لأنا لم نقل إنه يلزم من عدم النص والإجماع والقياس بقاء ما كان على ما كان إلا بعد أن بينا أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل(6/176)
في الشئ أن لا يبقى على ما كان ولما كان ذلك باطلا كانت معارضته باطلة(6/177)
المسألة الحادية عشرة في تقرير وجوه من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل الفقهية أعلم أن الحكم الملتزم إثباته إما أن يكون عدميا أو وجوديا فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات إحداها أن يقال هذا الحكم كان معدوما وذلك يقتضى ظن بقائه على العدم والعمل بالظن واجب إنما قلنا إنه كان معدوما لأن المحكوم عليه كان معدوما في الأزل فوجب أن لا يكون الحكم ثابتا في الأزل لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه عبث وسفه وهو غير جائز على الله تعالى فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثا قلت لا نسلم لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولا له إن لم تفعل هذا الفعل في هذه الساعة عاقبتك ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققا في الأزل وأما بيان إنه لما كان معدوما حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمان(6/178)
فلما بيناه في مسألة الاستصحاب
وثانيتها أنه لو ثبت الحكم لثبت بدلالة أو أمارة والأول باطل لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية دلالة قاطعة والثاني أيضا باطل لأن اتباع الأمارة اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقول على الله بما لا نعلم وهو غير جائز لقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وثالتها لو ثبت الحكم لثبت إما لمصلحة أو لا لمصلحة والثاني عبث والعبث غير جائز على الحكيم والأول لا يخلو إما أن تكون المصلحة عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول محال لامتناع النفع والضرر عليه تعالى والثاني أيضا محال لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمفسدة لا معنى لها إلا الألم أو ما يكون وسيلة إليه ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداءا فيكون توسط شرع الحكم عبثا وكذا القول في المفسدة فهذا الدليل ينفي شرع الحكم ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل(6/179)
ورابعتها أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف
مناسب فوجب أن تفارقها في هذا الحكم بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك الوصف الفلاني وأنه مناسب لذلك ويبين ذلك الحكم بطريقه وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم وذلك لأن هاتين الصورتين لو اشتركتا في الحكم لكان إما أن يكون الحكم الثابت في الصورتين معللا بوصف مشترك بين الصورتين أو لا يكون كذلك فإن كان الأول لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص الأصل به وأنه غير جائز وإن كان الثاني لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين وهذا غير جائز لأن إسناد أحد ذينك الحكمين إلى علته إن كان لذاته أو للوازم ذاته لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضا إلى تلك الماهية لا إلى ماهية أخرى وإن لم يكن لذاته ولا للوازم ذاته كان الحكم في نفسه غنيا عن تلك العلة والغنى عن الشئ لا يكون مستندا إليه فوجب في ذلك الحكم أن لا يكون مستندا إلى تلك العلة وقد فرضناه مستندا إليها هذا خلف وخامسها أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة لثبت في الصورة الفلانية لأن بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف وتحصيل مصلحته(6/180)
وهذا المعنى قائم هناك فيلزم ثبوت الحكم هناك فلما لم يوجد هناك وجب أن لا يوجد هاهنا
وسادسها أن هذا الحكم كان منتفيا من الأزل إلى الأبد فكان منتفيا في أوقات مقدرة غير متناهية فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات لأن الأوقات الغير متناهية أكثر من الأوقات المتناهية والكثرة مظنة الظن فوجب أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير متناهية وذلك يوجب النفي وسابعها شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر والضرر منفي بالنص وإنما قلنا إنه يفضي إلى الضرر لأنه إن فعل خلافه استحق العقاب وإن لم يفعل بقي في صورة تارك المراد فثبت كونه ضررا فوجب أن لا يكون مشروعا لقوله ص لا ضرر ولا ضرار وثامنها لو ثبت هذا الحكم لثبت بدليل وإلا كان ذلك تكليف مالا يطاق وأنه غير جائز لكنه لا دليل لأن ذلك الدليل أما أن أن يكون هو الله تعالى أو غيره(6/181)
والأول باطل وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم وإلا لزم النقيض وهو خلاف الدليل لكن قدم الحكم عبث ولا جائز أن يكون غير الله تعالى لأن ذلك الغير إن كان قديما عاد الكلام وان كان محدثا فقد كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم وأيضا فلأن شرط كونه دليلا أن توجد ذاته وأن يوجد له وصف كونه دليلا
فإذن كونه دليلا مشروط بحدوث هذين الأمرين ويكفي في أن لا يكون دليلا عدم أحدهما والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمر واحد فإذن كونه دليلا مرجوح في الظن فوجب أن لا يكون دليلا وأما إن كان الحكم وجوديا فالطرق الكلية فيه وجوه أحدها أن المجتهد الفلاني قال به فوجب أن يكون حقا لقوله ص ظن المؤمن لا يخطئ ترك العمل بهذا في ظن العوام لأن(6/182)
ظنونهم لا تستند إلى وجه صحيح فيبقى معمولا به في حق ظن المجتهد فإن قلت فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي قلت قول المثبت أولى لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل وقد ذكرنا في باب التراجيح أن الناقل أولى وأيضا فالنافي يحتمل أنه إنما نفى لأنه وجد له ظن النفي ويحتمل أنه إنما نفى لأنه لم يوجد له ظن الثبوت وعدم وجود الظن لا يكون ظنا بخلاف المثبت فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود ظن الثبوت فإنه لو لم يوجد له هذا الظن لكان مكلفا بالبقاء على حكم العقل وإذا كان كذلك ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي وثانيها أن نقول ثبت الحكم في الصورة الفلانية فيجب ثبوته هاهنا وبيانه بالآية والخبر والأثر والمعقول أما الآية فمن وجهين
أحدهما قوله تعالى فاعتبروا دلت الآية على الأمر بالمجاوزة(6/183)
والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق على ثبوته في محل الخلاف مجاوزة فكان داخلا تحت الأمر وثانيهما قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية فالله تعالى أمر بالتسوية وهذا تسوية فيكون داخلا تحت الأمر وأما الخبر فهو أنه عليه الصلاة والسلام شبه القبلة بالمضمضة في حكم شرعي فوجب علينا أيضا تشبيه الحكم بالحكم لقوله تعالى فاتبعوه وهذا الذي عملناه تشبيه صورة بصورة فكان داخلا تحت الأمر وأما الأثر فهو أن أبا بكر رضي الله عنه شبه العهد بالعقد وأن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى بالقياس في قوله قس الأمور برأيك وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك وجب علينا مثله لقوله عليه الصلاة والسلام(6/184)
اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ووأما: المقول فهو أن نعين محل الوفاق فنقول الحكم هناك إنما ثبت لحاجته ومصلحته وذلك المعنى قائم هاهنا فورود الشرع بالحكم هناك يكون ورودا به هاهنا وثالثها
أجمعنا على أن حكما ما في علم الله تعالى ثبت ولا شك أن ذلك الحكم إنما ثبت لمصلحة وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصلحة فلا بد وأن يشتركا في قدر مشترك فيعلل بالقدر المشترك وذلك يقتضي ثبوت الحكم ورابعها أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف ودفع حاجته فوجب أن يكون مشروعا لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية لكان ذلك الخروج لمعارض والأصل عدم المعارض وخامسها أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم والآخر قال بعدمه فالثبوت أولى لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران أحدهما ناقل عن حكم العقل والآخر مبق له فإن الناقل أولى فكذا هاهنا فإن قلت فالنفى بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلا أيضا قلت لكن على هذا التقدير يتوالى نسخان وبالتقدير الأول لا(6/185)
يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم
يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم(6/186)
ثم أما بعد فهذا آخر ما وقفني الله تعالى الى كتابته والتعليق به على هذا الكتاب الاصولي الذي يعتبر بحق من افضل الكتب الاصولية الجامعة التي ظهرت وعرفت على الإطلاق من نواح عدة يفهمها ويجهلها من يجهلها ولا داعي العصمة فيها حققت ولا البعد التام عن الخطا فيما كتبت فذلك لا يتحقق إلا لمن عصمهم الله من رسله وانبيائه ولكني اقول اني لم آل جهدا ولم ادخر وسعا في تحقيق ما قمت به معتقدا أنه قد وقع في جملته واكثر تفاصيله على وجه حسن مرضي مقبول عند الله ثم كرام الخلق إن شاء الله فالحمد لله الذي الهم بابتدائه واعان على انهائه فهو سبحانه صاحب الفضل الاكبر الذي لا ينكر بل يشكر وصلى الله على سيدنا محمد بن عبد الله اشرف المرسلين وافضل المجتهدين وعلى اله واصحابه واتباعه واحبائه وكل من اسهم في خدمة العلم والدين وتقديم ما ينفع المسلمين الى يوم الدين.
المفتقر الى رحمته تعالى طه جابر العلواني(6/187)