بسم الله الرحمن الرحيم
وشائج الصلة المتميزة بين مذهبي الإمامين أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما
أ . د / محمد محروس المدرس الأعظمي
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
كلية معارف الوحي – قسم الفقه والأصول
الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، خاطب نبيَّه الكريم بقوله : إقرأ وربُّك الأكرم .
وأصلي وأسلم على النبيِّ العربيِّ الطاهر الزكيِّ ، وعلى آله .. وهم من أمته كلُّ تقيِّ ، وعلى صحابته من كلُّ سيِّد كميِّ ، الذين قاسوا قياس الطرد والعكس ، وأوصلوا الحقوق لأربابها من غير نقصٍ ولا وكس ، وعلى التابعين وتابعيهم من كلِّ عالمٍ تقيٍّ أبيّ ، وعلى علماء أمته ذوي القدر العليِّ ، والفخر الجليِّ ، والنور البهيِّ .. أخصُّ منهم :
الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، جوزي عن دين المصطفى خيراً وكوفي ، إمام أهل الرأي والقياس ، وهو في الأرأيتيين ذو سطوةٍ وباس ، مذهب السلاطين وسلطان المذاهب ، فمذهبه – مع مذاهب أهل الحق – باقٍ والكلُّ ذاهب .
ثم إمام دار الهجرة ، ومن كان لنصرة السنَّة غرَّة وطرَّة ، الإمام المهاب الحييِِّ ، المدني الأصبحيِّ ، أعني به الإمام مالك ، الذي عبَّد الدروب و[ وطأ ] و [ أوضَحَ المسالك ] ، فمن تمسك بمنهجه فهو لناصية الحق مالك .
ثم الإمام القرشيّ الهاشميّ المطلبيّ ، وأعني به محمد بن إدريس ، وهو في العلم همامٌ رئيس ، ومن تلقى [ رسالته ] فقد حاز كلَّ عزيزٍ نفيس ، فمذهبه بين وليدين .. قديمُ وجديد والفضل لـ [ الأم ] ، علَّم العلماء كيف تغيِّرُ الأعرافُ الحكم .
ثم إمام أهل السنَّة ، قامع البِدعة وبطل المحنة ، الإمام الأثريّ الأمثل ، أعني به الإمام أحمد بن حنبل ، أعزَّ الله به أهل السنَّة وخذل المعتدين المعتزلة ، فما أبقى لهم بين ذوي الهيئات منزلة ، حتى تلك التي [ بين المنزلتين ] ، بما افتروا على نبيِّ الأمة وعلمائها من كذبٍ ومين .
وبعد ~~(1/1)
فإذا كان الاجتهاد لغةً :
هو : بذل المجهود ، واستفراغ الوِسع في فعلٍ من الأفعال الشاقة ..
أو هو : افتعالٌ ، من الجهد – بفتح الجيم وضمها - ، وهو الطاقة والمشقة(1).
وهو في الاصطلاح : استنفاد الطاقة للوصول إلى الحكم من مصدره الشرعي(2).
أو هو : استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل الظن بحكم شرعيٍ(3).
أو هو : بذل الفقيه أقصى وسعه في تحصيل حكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط(4).
أو هو : بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال(5).
__________
(1) التعريفات للسيّد الشريف – 23 ، غاية الوصول شرح لب الأصول / للشيخ أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي / طبعة البابي الحلبي – ص 147 .
(2) تأريخ الفقه الإسلامي / لأستاذنا العلاَّمة المرحوم الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري - مذكرات على الآلة الطابعة ألقاها على طلبة دبلوم الشريعة في قسم الدراسات العليا في كلية حقوق القاهرة سنة 1977 م – ص100 .
(3) التعريفات – المرجع السابق ، غاية الوصول / المرجع السابق – نفس الموضع .
(4) مذكرات في أصول وتاريخ الفقه الإسلامي / للمرحوم حسين علي الأعظمي عميد كلية الحقوق العراقية الأسبق – خلاصة المحاضرات الملقاة على طلبة السنة الرابعة في كلية الحقوق العراقية / مطبعة الأهالي سنة 1939 إلى سنة 1940 – ص271 .
(5) التعريفات للسيِّد الشريف – الموضع السابق .(1/2)
فإن جواز وقوع الاجتهاد للنبيِّ عليه الصلاة والسلام أمرٌ تدل عليه الوقائع ، بالرغم من اختلاف أهل العلم في ذلك على أقوال ، إلاَّ أن ذلك الاجتهاد قد وقع منه عليه الصلاة والسلام فعلاً ... وما أسارى بدر(1)ٍ ، ومعاتبة الوحيِّ له في إذنه لقومٍ بالتخلف عن غزوة تبوك(2)، ومعاتبة الله له في الأعمى(3)، ونهيه عن الاستغفار لعمه أبي طالب(4)..الخ ، كل ذلك يدل على وقوع الاجتهاد منه عليه الصلاة والسلام ، ولا تسعف الأدلة المساقة من المنكرين على صحة قولهم(5)،
__________
(1) في قوله تعالى : { ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، لولا كتابٌ من الله سبق لمسَّكم فيما أخذتم عذابٌ عظيم } – الأنفال / 67 .
(2) في قوله تعالى : { عفا الله عنك لمَ أذِنت لهم حتى يتبيَّن لك اللذين صدقوا وتعلم الكاذبين } – التوبة / 43 .
(3) في قوله تعالى : { عبس وتولَّى ، إن جاءه الأعمى ، وما يُدريك لعله يَزَّكى ، أو يَذَّكَّر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدَّى ، وما عليك ألاَّ يزَّكَّى ، وأما من جاءك يسعى ، وهو يخشى ، فأنت عنه تلهَّى } – عبس / 1 إلى 10 .
(4) 9 في قوله تعالى : { ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأوَّاهٌ حليم ] – المدثر / 113 و 114 .
(5) الأعظمي / المرجع السابق – ص 280 إلى 284 ..(1/3)
ويقول ابن قيِّم الجوزية : [ وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيِّد المرسلين وإمام المتقين ، عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين ، ... ، فكانت فتاواه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ، ومشتملة على فصل الخطاب ... ](1).
بل كان للصحابة الكرام في حياته الشريفة اجتهادات أيضاً ، بل أجازت نصوص الشرع الحكيم ذلك لهما ، كالذي بين أيدينا من نصوصٍ معروفةٍ ، منها :
قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن والخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتَّبعتم الشيطان إلاَّ قليلا }(2).
قوله تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين }(3)، و { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين }(4)، و { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئٍ قدير }(5)، و{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين }(6).
ومجمل ما تدل عليه الآيات هو وجوب النظر – أي الفكري – وإلحاق النظير بالنظير ، وهذا من أنواع الاجتهاد .
وقوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يُخربون بُيُتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار }(7).
أي : أن يصيبكم ما أصابهم إن فعلتم فعلهم ، فقيسوا هذا بذاك ، والقياس من الاجتهاد .
{
__________
(1) أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين لإبن قيِّم الجوزية – 1 / 11 [ بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ] ، 4 / 266 إلى نهاية الجزء .
(2) النساء / 83 .
(3) الأنعام / 11 .
(4) النمل / 69 .
(5) العنكبوت / 20 .
(6) الروم / 42 .
(7) الحشر / 2 .(1/4)
وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً .. قال له : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ . قال : أقضي بكتاب الله . قال : فإن لم تجده ؟. قال : أقضي بسنة رسول الله .
قال : فإن لم تجده في سنة رسول الله ؟ . قال : أجتهد برأيي ولا آلو . قال : فضرب بيده على صدري .. وقال :
الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله }(1).
قوله عليه الصلاة والسلام : { إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فبه أجران ، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ }(2).
وقد أقر الصحابة الاجتهاد ، فهذا عمر بن الخطاب حين بعث شريحاً على قضاء الكوفة ، قال له :
[ انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسألنَّ عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتَّبع فيه السنة ، وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك ](3).
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى – كتاب آداب القاضي .
(2) البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، مسلم – كتاب الأقضية ، أبو داود – كتاب الأقضية ، ابن ماجة – كتاب الأحكام ، سنن الترمذي – كتاب الأحكام ، سنن النسائي – كتاب آداب القضاء ، البيهقي – كتاب آداب القاضي ، الدارقطني – كتاب الأقضية وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ، ومسند أحمد – مسند عمرو بن العاص وكذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، صحيح ابن حبان – كتاب القضاء ، مسند أبو يعلى الموصلي – كتاب الأقضية وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
(3) سنن البيهقي الكبرى – كتاب آداب القاضي .(1/5)
ويوصي قاضيه أبا موسى الأشعري ، فيقول : [ أما بعد ، فإن القضاء فريضةٌ محكمة ، وسنةٌ متَّبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍ لا نفاذ له ، ... ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس فيه قرآنٌ ولا سنَّة ، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبِّها إلى الله ، وأشبهها بالحق ... ](1).
وقد عرف من الصحابة بالاجتهاد كثيرون ، منهم : الخلفاء الأربعة ، والعبادلة .. عبد الله بن عباس .. وعبد الله بن عمر .. وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وعائشة ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، عبد الرحمن بن عوف ، أبو سعيد الخدري ، وأبو موسى الأشعري .. على أن الذين اشتهروا بالفتيا قد ناف عددهم عن [ 130 ] مائة وثلاثين صحابياً ، وهم بين ك مقلٌ في الفتيا ، ومتوسط ، ومكثرٌ منها .
وكان من سنة الشيخين .. أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ، أنه إذا نزلت النازلة لم يظهر لهما فيها شئ من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يجمعا لها العالمِين من صحابة المصطفى ، فإن وجدت سنةٌ أخذا بها ، وإن لم توجد اجتهد الجميع من ذوي المقدرة فيها ، فإن اتفقوا فذلك إجماعٌ واجب الإتباع ، وإلاَّ يعمل كلٌّ برأيه .. ما لم يأمر إمام المسلمين بالعمل برأيٍّ من الآراء بحسب صلاحيته السلطوية وليست الاجتهادية ، حتى جاز نقض الاختيار منه أو ممن يأتي بعده(2).
__________
(1) أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين / لإبن القيم – 1 / 85 وما بعدها بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد [ سنة الطبع 1987 م ] .
(2) محاضرات أستاذنا المرحوم الشيخ السنهوري / المرجع السابق ص 105 .(1/6)
وأخرج البغويُّ عن ميمون بن مهران ، قال : [ كان أبو بكرٍ إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم سنةً قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين ... فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء ؟ ، فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله قضاءً ، فإن أعياه أن يجد فيه سنةً عن رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإن أجمع رأيهم على شئٍ قضى به ... وكان عمر يفعل ذلك ... ](1).
وكان الصحابة يرجع بعضهم إلى بعضٍ ليقف كلٌ منهم على ما عند الآخر من سنةٍ لم تصله ، أو معنىً استغلق عليه ، أو فهمٍ يُطمئن إليه .
فكان : عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت .. يرجع بعضهم إلى بعضٍ .
وكان : عليِّ وأبيِّ وأبي موسى .. يرجع بعضهم إلى بعضٍ(2).
__________
(1) راجع : أعلام الموقعين – 1 / 62 .
(2) أعلام الموقعين – 1 / 15 .(1/7)
وقد كان للإجتهادات التي قامت الحاجة لها عند الصحابة بالغة الأهمية ، إذ التفتوا إلى علل الأحكام ومناطها ، وغيَّروا فيها عند تغيِّر المناط ، بل استثنوا بعض الوقائع غير ملحقين إيَّاها بنظائرها ، لما رأوه من المصلحة وحفظ الحقوق الذين ألزما بذلك ، فحينما يجتهد سيِّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بتضمين الصناع مع أن يدهم يد أمانة فذلك يعدُّ من الأمور بالغة الأهمية في هذا الاتِّجاه(1)،
__________
(1) الصناع هم : أصحاب المهن الذين يصنعون للناس أشياءَ بإدخال الصنعة على المواد التي يسلمها إليهم أصحاب المواد ، ولما كان تسليم الأموال إليهم بموافقة أصحابها ، فالقاعدة المطَّردة في الباب .. أن يدهم هي يد أمانة ، أي : لا يسألون عن تلف المواد إلاَّ في حالتي : التعدي ، والتقصير .. ويطالب صاحب المال بإثبات أيٍّ منهما ليحق له المطالبة بالضمان [ التعويض ] ، فدعا هذا الصناع إلى التفريط بأموال الناس مع نجاتهم من الضمان لصعوبة إثبات التعدي أو التقصير . لذلك اجتهد سيُّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ووافقه الصحابة الكرام على : جعل يد الصناع يد ضمان يُلزمون بها بدفع التعويض على افتراض التعدي أو التقصير ، ويدفع عنه المساءلة ودفع الضمان [ التعويض ] إثباته .. عدم التعدي ، وعدم التقصير .
وهذا فلب للمعادلة باجتهاد آل إلى إجماع ، وفيه النظر إلى مصلحة حفظ حقوق الناس وأموالهم . [ راجع : الوجيز في أصول الفقه لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان – 234 / الطبعة السادسة – مؤسسة الرسالة 1997 ] .(1/8)
وكذلك امتناع عمر رضي الله عنه عن دفع سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن ظهر أمر الإسلام واشتَّد عوده ، وعدم قطع السارق في عام المجاعة بسبب حاجة السراق مع وجود الأموال عند الأغنياء ، كل ذلك من بوارق وبوادر الاجتهاد الواسع بعد عصر النبوة ، فإذا كان الوحي عنصر أمان لهم في عهد نزوله ، فلم يبقَ لهم الآن غير اتِّخاذ سبيل الثقة المقرونة بالعلم مع بذل الوسع للوصول إلى المراد ... وما ذلك إلاَّ الاجتهاد بعينه .
لقد ترك الصحابة ثروةً فقهية تعدُّ وافرة الثراء – على قلَّتها النسبية – بسبب غياب الرسول عليه الصلاة والسلام عنهم ، وتجدد الحاجات التي أخذت تترى .. من : وجوب نصب خليفةٍ لرسول الله يخلفه في منصبه عدا أمر الوحيِّ ، ولمن يكون الاختيار ، ومن يحق أن يقع عليه الاختيار ، وحسم مسألة دعوى النص ، أو سابقية الأنصار ، ومن مطالبة بعض قرابة الرسول بميراثه ، ومن ردَّةٍ ، ومنعٍ للزكاة ، وادِّعاءٍ للنبوة ، ثم بدءٍ للفتوحات العظيمة ، وكثرة الفيء والغنائم ومسألة تقسيمهما مع حسم مصير سهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، ووقوع الكفار أسرى بيد المسلمين ، ومواجهة مسألة الأرضين المفتوحة التي فاقت حدَّ التصور ... الخ .
لقد حسموا كلَّ هذه الأمور بـ : تعقلٍ ، ورصانةٍ ، ومشاورةٍ ، والتماس شئٍ عن رسول الله لم يصل لبعضهم دون البعض الآخر ، والاجتهاد في فهم النص ، والاجتهاد فيما لا نص فيه ، فوضعوا الأسس التي سيراعيها المجتهدون اللاحقون ممن حصَّلوا ثقة الأمة .. ثم انحصر بهم التقليد ، ونالوا مرتبة المرجعية .
×××××××××××××××(1/9)
لقد كانت كلُّ مدرسة فقهية من مدارس فقهاء الأمصار ، ترجع إلى صحابيٍّ أو مجموعةٍ من الصحابة - لأسباب قد تكون خارجةً عن موضع بحثنا الآن - ، فكان علم أهل العراق [ مدرسة الإمام أبي حنيفة ] مأخوذاً عن أصحاب عبد الله ابن مسعود من التابعين عن عبد الله ، وكان علم أهل المدينة [ مدرسة الإمام مالك ] مأخوذاً عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر من التابعين .. عنهما .
لقد كانت بواكير ظهور المذاهب الفقهية ، ظهور نزعتان فقهيتان عند التابعين ، فتبلورت في عهدهم خصائص : ما سمي بمدرسة الرأي ، وما سميَّ بمدرسة أهل الحديث ، والأمر فيه من التجوِّز والتسامح الشئ الكثير ، فلم تترك نزعة أهل الرأي الحديث – وهذا أمرٌ لا يستقيم لمسلم - ، ولم تترك مدرسة أهل الحديث الأخذ بالرأي – وهذا أمرٌ لا يستقيم لمجتهد - .
نعم .. كان هناك نهجٌ لم يرضَ دون النص – ومنه الحديث – بديلاً ، وعزفوا عن الرأي عزوفاً تاماً ، فما كتب لهذه المدارس البقاء .
على أن من جمع بينهما نستطيع جعلهم فريقين : فريق توسع في الرأي لقلة ما وصله من مرفوع الحديث حتى أُخذ ذلك عليه ... كمدرسة الكوفة ، وفريقٌ اقتصد لوفرة ما عنده من السنة ... كمدرسة المدينة .
فإذا كانت المدرستان كلتاهما ، تأخذان – بعد الكتاب والسنة والإجماع – بالقياس ، فقد كانوا فيه بين متوسع وبين مقتصدٍ ، وقد يتفقان في أمورٍ أخرى ، كالأخذ بالمصالح المرسلة ، والاستصحاب وغيرهما .
لقد أضحت مدرسة الكوفة المبتدئة بـ [ عبد الله بن مسعود ] متسلسلة حتى انتهت إلى الإمام أبي حنيفة ، وأضحت مدرسة الحجاز المبتدئة بـ [ عبد الله بن عمر ] متسلسلةً حتى انتهت إلى الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة(1).
×××××××××××××××××
__________
(1) محاضرات في تأريخ الفقه لشيخنا المرحوم محمد أحمد فرج السنهوري – من ص 113 إلى 116 [ محاضرات بالآلة الطابعة ] .(1/10)
ولما كانت الوقائع الجديدة لا تنتهي ، ونصوص الشارع الحكيم – كتاباً وسنةً - تنتهي بألفاظها غير متناهيةٍ بمعانيها حتى قالوا : [ المحدود لا يحيط بالممدود ] و [ ما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى ] ، فلذلك فقد قامت الحاجة لاستمرار الاجتهاد الذي بدأ من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، بل الحاجة إليه أصبحت أشدُّ وأكثر ، لكثرة الفتوحات واتِّساع البلاد ، وتشابك المصالح ، وورود كثيرٍ من المعاملات الجديدة ، والحالات المستجدة .. لهذا نشط الاجتهاد بعد عصر التابعين على يديَّ أئمة المدرستين : الكوفية والحجازية .
ولكون الإمامين أبي حنيفة والإمام مالك قد اختط كلٌّ منهما خطاً في الاجتهاد ، وفق أسسٍ ارتضاها أحدهما بعد البحث والتقصي ، فكان اختلاف النهج الاجتهادي مع وضوحه ، سببين كافيين لعدِّ كلاً منهما منهجاً مستقلاً ، مما لم يحظً به مجتهدوا الصحابة الكرام ، لسببين :
الأول / عدم استيعاب اجتهاداتهم لأبواب الفقه كافة .
الثاني / ولعدم التصريح بالأسس الاجتهادية .
فكان توفر الأمرين لمدرستي : الكوفة والحجاز ، سببين كافيين لعدِّهما مذاهب مستقلة .
ولما كانت مدرسة الإمام الأوزاعي المعاصرة ، والتي نشأت في بيروت من بلاد الشام ، أكثر من الفريقين وقوفاً عند ظواهر النص ، والتهيب من الاجتهاد والرأي ، فقد أدى بها الحال إلى الإندراس ، ولم يبقَ لها إلاَّ ما بقي في بطون كتب الخلاف ، أو بعض التفاسير .
وإذا كانت مدرسة الكوفة لم تتهيب في الإفتاء بما لم يقع ، حتى سموا بـ [ الأرأيتيين ] ، فقد حافظ الإمام مالك على منهج الصحابة في النهيِّ عن السؤال عما لم يقع ، ولكن من جاء بعد إمام المذهب تجاوزوا هذا – بسبب الحاجة – فلم يبتعدوا عن الافتراض عند الحاجة ، فتقاربت المدرستان من هذه الناحية أيضاً(1).
__________
(1) تأريخ الفقه / المرجع السابق – 116 .(1/11)
والحق أنه لا غنى عن الافتراض في الاستعداد لما يحمله المستقبل من مفاجآت ، فلولا الافتراض لما استطعنا : وضع الخطط التنموية المستقبلية ، ولا الخطط الحربية لاحتمالات ما يقوم به الأعداء ، ولما استطعنا عمل موازنات الدول المالية لمستقبل العام المالي .. الخ ، فحقيقة نهي الإمام مالك رضي الله عنه هو لقطع الطريق على المتنطعين والمتفيقهين ، الذين يأتون بالغريب طمعاً في التعجيز ، أو لإظهار المهارة من غير داع .. فالتحقيق :
لو انتفى ما تقدم .
وقامت الضرورة .
لكان الافتراض واجباً بهذين الشرطين .. وهذا ما اتفق عليه متأخروا المذهبين .
××××××××××××
لقد قامت بين الإمامين : أبي حنيفة ، والإمام مالك صلة العلماء ، فإذ يحجَّ الإمام أبو حنيفة فلم يفته زيارة الإمام مالك في المدينة ، وهذا مما دعى إلى تغيير كثيرٍ مما علق في ذهن الإمام مالك عن أئمة مدرسة الكوفة .. وخاصَّةً أبا حنيفة نفسه ، فلما قيل للإمام مالك .. هل رأيت أبي حنيفة قال – كما روى الإمام الشافعي - : [ نعم ، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته ](1).
وقال ابن المبارك : [ دخل أبو حنيفة على مالك فرفعه ، ثم قال بعد خروجه : أتدرون من هذا ؟ ، قالوا : لا . قال : هذا أبو حنيفة النعمان ، لو قال .. هذه الاسطوانة من ذهب لخرجت كما قال ! ، لقد وفق له الفقه حتى ما عليه فيه كثير مؤنة ](2).
__________
(1) النافع الكبير في مقدمة شرح الجامع الكبير للعلاَّمة الحجة المحدث الفقيه أبو الحسنات محمد عبد الحيِّ اللكنوي الفرنكي محلي الأنصاري [ ت سنة 1304 هـ ] / ص 17 من الطبعة الحجرية المطبوعة في المطبع المصطفائي بلكنهؤ سنة 1291 هـ
(2) نقلاً عن : [ أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي – 1 / 173 – بتحقيق أيمن صالح شعبان – بيروت 1999 ] .(1/12)
ونقل الكوثري عن القاضي عياض هذا الخبر : [ ... وها هو ذا الإمام مالك ، لما قال له الليث بن سعد : أراك تعرِّق ؟ ، أجابه قائلاً : وعرَّقت مع أبي حنيفة ! وإنه لفقيه يا مصري ](1).
وقد روى الإمام أبو حنيفة عن الإمام مالك أحاديث ، كما في شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي – كما نقل الكوثري عنه - ، كما ذكر رواية محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة للموطأ عنه .
ونقل الباجي عن بعضهم أقوالاً للإمام مالك في أبي حنيفة ، لكنه سارع إلى نفيها ، فقال : [ وعندي أن هذه الرواية غير صحيحة عن مالك ، لأن مالكاً رضي الله عنه على ما يعرف من : عقله ، وعلمه ، وفضله ، ودينه ، وإمساكه عن القول في الناس إلاَّ بما صح عنده وثبت ، لم يكن ليطلق على أحد من المسلمين ما لم يتحققه ، ومن أصحاب أبي حنيفة عبد الله بن المبارك ، وقد اشتُهر إكرام مالك له ، وتفضيله إياه ، وقد عُلم أن مالكاً ذكر أبا حنيفة بالعلم بالمسائل ، وأخذ عنه محمد بن الحسن الموطأ ، ... - ثم قال الباجي – وقد شُهر تناهي أبي حنيفة في العبادة ، وزهده في الدنيا ، وقد امتحن ، وضُرب بالسياط على أن يلي القضاء فامتنع ، وما كان مالك ليتكلم في مثله إلاَّ بما يليق بفضله ، ولا نعلم أن مالكاً تكلم في أحدٍ من أهل الرأي ، وإنما تكلم في قومٍ من أصحاب الحديث من جهة النقل ... . ](2).
××××××××××××××
__________
(1) تأنيب الخطيب على ما ساقه في أبي حنيفة من الأكاذيب للإمام محمد زاهد بن الحسن الكوثري الإسلامبولي ثم المصري [ ت في مصر سنة 1371 هـ الموافق 1952 م ] – 12 [ طبعة دار الكتاب العربي / بيروت – 1981 ] .
(2) نقلاً عن الكوثري / المرجع السابق - 13 .(1/13)
لقد كانت رحلة أهل المشرق مثل خراسان وما وراء النهر ، إلى جهة الغرب للحج ولطلب العلم ، فكانت أول الحواضر العلمية التي يمرون عليها هي : الكوفة ، فيأخذون من أئمتها ما شاء الله لهم ذلك ، حتى إذا أتموا سيرهم إلى الحجاز ، رأوا الإمام مالك في مدينة رسول الله ، لهذا كان هناك تلقٍ مشترك من هؤلاء عن هذين الإمامين ، لكن انحيازهم لأبي حنيفة في الفقه – رغم تلقيهم عن مالك – له أسباب لسنا في موضع استيفاءها ، لعل أبرزها :
1.أوليَّة التلقي . 2. ونسب أبي حنيفة الممتد إلى بلاد فارس .. الخ .
حتى إذا جاؤوا إلى المدينة كفاهم رواية الحديث عن أهلها ، وأولهم الإمام مالك(1).
×××××××××××××××××××××××××
__________
(1) أفغانستان لكامل المهندس [ معاصر ] – 9 ، مشايخ بلخ من الحنفية وما انفردوا به من المسائل الفقهية – لكاتب البحث .(1/14)
لقد غيَّر الإمام مالك موقفه من مدرسة الكوفة وأتباعها فيما رُمُوا به من تهمة الإرجاء(1)، فإرجاء [ جهم بن صفوان ](2)الذي يقول فيه : [ لا يضر مع الإيمان معصية ، ولا مع الكفر طاعة ] ، حين استبان نوع إرجاء تلك المدرسة ، وهو إرجاء السنة ، والذي يستند إلى قوله تعالى : { وآخرون مُرْجَوْن لأمرِ الله إمَّا يعذِّبهم أو يتوب عليهم والله عليم حكيم }(3).
__________
(1) إن النقل المشوه أوقع كثيراً من أئمة العلم في مهاوي الإنكار الشديد ، وحين يستبين الأمر لهم فإنهم يرجعون إلى الحق ، وهذا دلالة علمهم وتأكيد إمامتهم في الناس ، فحين أنكر الإمام الأوزاعي على أبي حنيفة ، ومصرحاً بإنكاره لإبن المبارك – التابعي المشهور - ، فقد قام ابن المبارك بعمل ذكيٍّ ، فجاء بمسائل عويصة من مسائل أبي حنيفة وأجوبتها - من غير تصريحٍ بقائلها - ، فسأله : لمن هذه المسائل ؟ ، قال ابن المبارك : هي لشيخٍ في العراق اسمه النعمان بن ثابت ، فقال الأوزاعي : هذا نبيل من المشايخ ! ، اذهب واستكثر منه ! ، فقال له : هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه ! ، ولما اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة في مكة ، كشف له أبو حنيفة تلك المسائل بأكثر مما عرفه منها ابن المبارك ، فلما افترقا ، قال الأوزاعي لابن المبارك : غبطت الرجل بكثرة علمه ، ووفور عقله ، واستغفر الله لقد كنت في غلطٍ ظاهر ، إلزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه . [ نقلاً عن : أوجز المسالك إلى موطأ مالك للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي – 1 / 174 تحقيق أيمن صالح ، ط1 – 1999 ] .
(2) جهم بن صفوان : متكلم ظهر بترمذ ، وقتله آخر خلفاء بني أمية ، وهو من الجبرية الخالصة [ راجع : الملل والنحل الشهرستاني – 1 / 190 ] ، وكان يقول أن الإنسان مجبر على أفعاله ، وأنه لا استطاعة له [ راجع : الفِصل في الملل والنِحل لمحمد بن حزم الظاهري الأندلسي – 3 / 22 ] .
(3) التوبة / 106 .(1/15)
فحين أخرج الإمام مالك من مجلسه [ إبراهيم بن يوسف البلخي ت سنة 241 هـ ] بسبب ما أخبر به بعض البلخيين في مجلسه ، من أنه ممن يقولون بالإرجاء ، لكنه يسمح بعدئذٍ للبلخيين بالأخذ عنه ، وحضور مجلسه ، مع أنهم كلهم على مذهب أبي حنيفة ، لما استبان له من معنى إرجائهم الذي لا غبار عليه(1).
ولقد صحب الإمام مالك وأخذ عن أجلة أهل بلخ الذين كان ميلهم لمدرسة الكوفة ، وأصبح مذهب أبي حنيفة مذهباً مرضياً للتالين منهم بعد ظهور مكانته وشيوع فضله ، ومن هؤلاء :
1. أبو عباد سعيد بن أبي سعيد المقبري [ ت سنة 100 هـ ] ، من التابعين .
__________
(1) الفضائل – 214 ، الجواهر المضيَّة – 1 / 51 ، الفوائد والتعليقات لعبد الحيِّ اللكنوي – 11 .
أما الإرجاء الذي كثر فيه اختلاف الناس فهو أنواع فصل القول فيها الشهرستاني في [ الملل والنحل – 1 / 125 ] ، والبغدادي في [ الفَرِق بين الفِرَق – 190 ] ، والإمام محمد عبد الحيِّ اللكنوي في [ الرفع والتكميل – 149 ] ، والعلاَّمة محمد زاهد الكوثري – ت سنة 1371 هـ الموافق 1952 م – في [ تأنيب الخطيب – 44 ] .
ولقد أوضح الإمام أبو حنيفة نفسه مذهبه في الإرجاء في [ العالم والمتعلم – 23 ] ، وفي [ رسالته إلى عثمان البتِّيِّ – 37 ] .
ومن كل ما تقدم من المصادر والمراجع يتبين لنا نوع الإرجاء الذي يقولون به ، وهو غير المذموم الذي له أنواع ، أحدها ما سبق ذكره ، ومن أنواعه قولهم : أن الذنوب لا تخرج أهلها من الإيمان .. [ النوازل لأبي الليث السمرقندي – باب فضل أهل الفقه ]، وراجع : [ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري – 1 / 202 ] .(1/16)
قال فيه الإمام مالك : [ أحب صحبة ثلاثةٍ من خراسان : سعيد المقبري ، والمتوكل بن حمران ، وأبو معاذ ](1).
2. المتوكل بن حمران [ ت سنة 142 هـ ] ، تولى قضاء بلخ لمدة [ 52 ] سنة .
وهو أحد الثلاثة الذين أحب الإمام مالك صحبتهم من أهل خراسان .
3.أبو معاذ خالد [ وقيل .. حارث ] بن سليمان البلخي [ ت سنة 199 هـ ] ، صحب أبا حنيفة ، وشارك أبا مطيع وأبا يوسف القاضي في الدرس ، وعدَّه أبو حنيفة بين الذين يصلحون للفتيا من تلامذته ، وكتب عنه سفيان الثوري أربعين حديثاً .
وهو أحد الثلاثة الذين أحب الإمام مالك صحبتهم من أهل خراسان .
×××××××××××××××××××××××
ولقد أخذ عن الإمام مالك الحديث والرواية كبار تلامذة أبي حنيفة المقربين عنده ، منهم :
__________
(1) فضائل بلخ / المرجع السابق – 143 ، ومخطوطة النوازل / المرجع السابق – باب التواريخ ، الجواهر المضيَّة في تراجم الحنفية لعبد القادر بن أبي الوفاء القرشي المصري الحنفي [ ت سنة 775 هـ ] – 1 / 229 .
ومما يستوقف النظر ما ذكره مقدم شرح شاه وليُّ الله الدهلوي للموطأ في كتابه [ المسوَّى على الموطا ] في الصفحة 41 ، حيث ذكر [ المقبري ] على أنه : [ أبو سعيد المقبري ] وأسماه [ كيسان ] ووفاته نفس وفاة سعيد بن أبي سعيد وهي سنة 100 هـ ! ، وجعله أحد الرواة عن الإمام مالك ، وكذلك جعل من رواته [ سعيد بن أبي سعيد ] وجعله من ثقاة أهل المدينة ووفاته سنة 123 هـ ، وأقول / في نفسي شئ من هذين الإسمين ، فقد يكون تداخل الأمر عند الإمام الدهلوي – وجل من لا يسهو - ، على أن أهل خراسان أعرف بعلمائهم ، ونقلنا عن [ أبو الليث السمرقندي ] في مخطوطة النوازل ما أثبتناه في المتن . [ مقدمة المسوى على الموطا المسماة : تسهيل دراية الموطأ لعبد الوهاب الدهلوي – ص41 / دار الكتب العلمية – بيروت 1983 م ، وضمنها ترجمة الفوائد المبسوطة في مقدمة الشرح الفارسي للموطأ لصاحب المسوى ، والمسمى - المصفى - ] .(1/17)
1. أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي [ ت سنة 190 أو 199 هـ ] ، من أقدم أصحاب أبي حنيفة من الخراسانيين ، وروى عنه كتاب [ الفقه الأكبر ] .
أثنى عليه [ الإمام مالك بن أنس ] رضي الله عنه(1).
2.ولعل أبرز أصحاب أبي حنيفة الذين أخذوا عن الإمام مالك ، هو [ محمد بن الحسن الشيباني ت سنة 189 هـ ] راوي مذهب أبي حنيفة ومدون مذهبه . وقد أخذ محمد بن الحسن الحديث عن : مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ومالك بن دينار ، ومسعر بن كدام ، وربيعة الرأي ، والقاضي أبي يوسف .
وروى عنه : محمد بن إدريس الشافعيِّ صاحب المذهب ... وغيره(2).
__________
(1) فضائل بلخ [ باللغة الفارسية ] ، أصل تأليفه بالعربية لأبي بكر عبد الله بن عمر بن محمد الواعظ البلخي [ ت سنة 610 هـ ] والنسخة العربية مفقودة ، وترجمه إلى الفارسية عبد الله بن محمد بن حسين الحسيني البلخي [ ت سنة 676 هـ ] / طبع إيران سنة 1971 م . والورقة 21 من مخطوطة أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار لمحمود بن سليمان الشهير بالكفوي [ ت سنة 990 هـ ] / نسخة مخطوطة بمكتبة أيا صوفيا باستانبول برقم 3401 . ومخطوطة النوازل – باب التواريخ – لأبي الليث نصر بن إبراهيم السمرقندي البلخي [ ت سنة 375 هـ ] / نسخه المخطوطة : نسختان في مكتبة عاطف أفندي برقم 1181 و 1170 ، ونسخة مكتبة فاتح برقم 2414 ، وآخر مخطوط الأجناس لأبي العباس أحمد بن محمد الناطفي الحنفي [ ت سنة 446 هـ ] / نسخة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم 4636 .
(2) النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير لمحمد عبد الحيِّ اللكنوي [ وهو مقدمة شرحه للجامع الصغير ] – 14 .(1/18)
وقد روى محمد بن الحسن موسوعة الإمام مالك المعروفة بـ [ الموطأ ] ، ولعل روايته من الروايات الموثَّقة لهذا السِفر الحديثي والفقهي ، ثم قام بشرحه شرحاً متداولاً إلى يومنا هذا(1)، وقال مقدِّم كتاب المسوَّى شرح الموطا لشاه وليُّ الله الدهلوي معرباً ما ورد في الفوائد المبسوطة في مقدمة الشرح الفارسي للمؤلف نفسه : [ وأما شهرة الموطأ فقد رواه عن مؤلفه ... ومحمد بن الحسن بلا واسطة .. ](2).
وقال محقق كتاب [ أوضح المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي ] حين ذكره لرواة الموطأ : [ محمد بن الحسن بن فرقد وقيل ابن الحسن بن عبيد الله بن مروان الشيباني مولاهم أبو عبد الله الكوفي ... وأخذ عن مالك الموطأ وغيره من الحديث لفظاً وعرضاً ، ... سمعت الشافعي يقول : كان محمد بن الحسن يقول : سمعت من مالك سبعمائة حديث ونيِّف إلى الثمانمائة لفظاً. وكان أقام عنده ثلاث سنين أو شبيهاً بثلاث سنين ، وكان إذا وعد الناس أن يحدِّثهم عن مالك امتلأ الموضع الذي هو فيه وكثر الناس عليه ، وإذا حدَّث عن غير مالك لم يأته إلاَّ النفر اليسير .. ](3).
__________
(1) نسخة الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني في دار الكتب المصرية برقم [ 21020 ب ] ، وقد طبع الموطأ بالرواية أعلاه مؤخراً .
(2) تعريب مقدم المسوى على الموطا لمقدمة المصفى عن الفارسية وكلاهما للدهلوي – ص24 .
(3) مقدمة محقق كتاب أوجز المسالك إلى موطأ مالك – 27 / دار الكتب العلمية – بيروت سنة 1999 م ، بتحقيق أيمن صالح شعبان.(1/19)
ومحمد بن الحسن وإن كان قد خالف أستاذه الإمام مالك في بعض المسائل الفقهية متابعاً أُستاذه أبي حنيفة ، أو بسبب فهمه لما وصله من حديث ، فهو يناقش بمنتهى الأدب العلمي والاحترام لشيخه الذي تلقى عنه وهو الإمام مالك ، وإذا كان للمسلم حرية اختيار المنهج الذي يرتضيه في بحثه الفقهي ، فقد أدرك الإمام مالك ذلك ، فلم يُنكر على محمد بن الحسن تلقيه عنه وتحوله إلى مذهب أهل العراق ، بل أن محمد قد خالف أستاذه أبا حنيفة في كثيرٍ من المسائل ، وهذا أمرٌ لا يخفى على المتتبع .
ولم يكن مثل هذا مستنكراً ، فهذا الإمام الشافعي درس على محمد بن الحسن لكنه خالفه ، ودرس على الإمام مالك لكنه خالفه ، بل ألف كتاباً في الرد على الإمام مالك فيما اختلف فيه معه من مسائل(1).
وقد خالف أحمد بن حنبل أستاذه الإمام الشافعيَّ في كثيرٍ من المسائل ، بل استقل عنه بمذهب خاص ، ولم يعدُّ ذلك قادحاً له .
3. أبو سعيد خلف بن أيوب العامري البلخي [ ت سنة 205 هـ وقيل 215 هـ وقيل 220 هـ ]، وكان يحفظ اثنين وأربعين ألف من الأحاديث ، وكان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يقدمه ، وحين تغيب خلف عن مجلس أبي يوسف يوماً امتنع عن الإملاء ، حتى لا يحرم خلف منه وقد حرم من في المجلس وكانوا خمسين ألفاً ! ، وصحب محمداً بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة ، وصحب الإمام زفراً بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة ، وكانت وفاته ببلخ من بلاد خراسان .
روى عن الإمام مالك رضي الله عنه(2).
__________
(1) النافع الكبير – 14 .
(2) النوازل لأبي الليث [ مخطوط ] – باب التواريخ ، أعلام الأخيار للكفوي [ مخطوط ] – الورقة 24 ، الإرشاد إلى علماء البلاد لأبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني [ ت سنة 446 هـ ] – 1 / الورقة 24 و الورقة 188 ، [ والكتاب من مقتنيات مكتبة أيا صوفيا باستنبول برقم .. 2951 و 203 و ] .(1/20)
4. أبو رجاء قتيبة بن سعيد البغلاني البلخي الثقفي [ ت سنة 240 هـ ] . كان على مذهب الإمام أبي حنيفة ، وأورد له في النوازل آراءً وتفردات . رحل إلى : العراق ، ومصر ، والشام ، وروى الحديث عن كبار المحدثين ، وكان من المكثرين بالرواية . وروى عنه كثيرٌ من أصحاب المسانيد ، وروى عنه : الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، ومسلم بن الحجاج ... وغيرهم .
وسمع من الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه(1).
5.أبو الحارث الليث بن خالد البغدادي ويقال له البلخي [ ت سنة 240 هـ ] .
ثقةٌ ، معروف ، ضابط ، حاذق ، من جلة أصحاب الكسائي إمام القراءات . قدم بغداد وحدَّث بها ، وروى عنه من أهلها عبد الله بن أحمد بن حنبل .
روى عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه(2).
6.أبو حفص عمر بن هارون بن يزيد بن جابر الثقفي البلخي [ ت سنة 196 هـ ] .
مفتٍ مصيب ، وروى الحديث عن الكبار، وأقل ما عنده خمسون ألف حديث ، وأثنى عليه عبد الله بن أحمد بن حنبل(3). وقد عرف بالقراءات ، وكان عالماً بها ، وكان القراء يقرؤون عليه(4).
روى عن الإمام مالك رضي الله عنه(5).
7.عمر بن الزيات البلخي .. روى عن الإمام مالك 37 .
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط - 324 [ بتحقيق د. أكرم ضياء العمري / طبع الأوقاف في العراق ] .
(2) تأريخ بغداد لأبي بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي [ ت سنة 463 هـ ] – 13 / 15 ، وغاية النهاية – 2 / 43 .
(3) فضائل بلخ – 156 إلى 218 .
(4) تأريخ بغداد – 11 / 187 ، خليفة بن خياط – 324 ، الفضائل – 160 ، غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير شمس الدين محمد بن محمد الجزري [ ت سنة 823 هـ ] – 1 / 598 [ مطبعة السعادة / مصر / 1351 هـ = 1932 م ] .
(5) الإرشاد – الأوراق .. 23 و 92 و 188 و 190 ، ترتيب المدارك – 1 و 2 / 260 و 265 و 271 و 521 .(1/21)
علي بن يونس البلخي .. أحد زهاد بلخ ، وروى عن الإمام مالك(1).
8.علي بن مهران البلخي . روى عن الإمام مالك 37 .
9.أبو اسحق إبراهيم بن يوسف الباهلي البلخي [ ت سنة 239 هـ وقيل 241 هـ ] .
كان فقيهاً ، عالماً ، مهيباً ، متمكناً من المناظرة ، وكان وأخوه عصام بن يوسف فقيهي أهل بلخ وشيخيها ، صحب أبا يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة ، وزفراً بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة أيضاً .
روى الحديث عن كثيرين ، ولم يروِ عن الإمام مالك إلاَّ حديثاً واحداً ! ، وسبب ذلك : أنه لما دخل على الإمام مالك كان في المجلس [ قتيبة بن سعيد البغلاني – تقدمت ترجمته - ] ، فقال للإمام مالك : أن هذا يرى الإرجاء !! ، فأخرجه الإمام بإخراجه ، فنزل بغداد ، ولهذا لم يروِ عنه إلا ذلك الحديث اليتيم ! .
قلت / وفي هذه الرواية فوائد جمة ، أهمها :
أ . أن الإمام مالك لم يكن ليداهن في الحق ، فلم يكن ليقبل تلميذاً يعتقد خلاف معتقده .
ب. لم يكن ليهم الإمام أن يسعى لتكثير عدد الطلاب ، ولا لمبلغ تأثيرهم في بلادهم .
ج. ولم يحاول أن يتخذ التلميذ موقفاً يخرج عن المألوف ، بل امتثل .. وخرج .
د. لم يمنعه ما حصل له من الإمام أن يفخر برواية الحديث اليتيم عنه ، فالتلميذ يهمه علو الإسناد ، وشهرة الأستاذ.
هـ. تبدو لنا منزلة الإمام مالك في دار الهجرة ، فلم يخرج المتَرْجَم من المجلس فقط ، بل خرج من مدينة الرسول إلى بغداد .
ويقيناً فإن ما فعله الإمام مالك كان قبل أن يعرف حقيقة الإرجاء الذي كان ينسب إليه أتباع الإمام أبي حنيفة – وقد تقدمت أنواعه ، وما يقول به الأحناف من أنواعه - .
__________
(1) راجع : الهامش [ 37 ] ، والجواهر المضية – 1 / 382 ، ومناقب الإمام أبي حنيفة لمحمد بن محمد بن شهاب المعروف بإبن البزاز الكردري [ ت سنة 827 هـ ] – 2 / 242 [ دائرة المعارف النظامية / 1321 هـ / دكن / الهند ] .(1/22)
10. حماد ابن الإمام أبي حنيفة ، ذكر ذلك الحافظ أبو عبد الله بن مخلد العطار [ ت سنة 331 هـ ] في جزئه الذي سماه [ ما رواه الأكابر عن مالك ](1).
×××××××××××××××
ومما عرف عن البلخيين أنهم من أتباع مذهب أبي حنيفة في الفروع ، لكننا نجد بلخياً حنفياً يؤلف في [ رواة مذهب الإمام مالك ] ، وهو : [ أبو الحسن بن أبي عمر البلخي ](2).
××××××××××××××××
ولقد مدح كثيرٌ من الأحناف موطأ مالك ، وإليك بعض ما قالوه فيه :
1. منهم : الحافظ مغلطاي الحنفي ،الذي قال : [ أول من صنف الصحيح مالك ](3).
2. وقال الدهلوي صاحب المسوى شرح الموطا في فوائده المبسوطة في مقدمة
شرحه الفارسي المسمى [ المصفى ] - وقد عرب ونقل مقدِّم المسوى ما ورد في تلك الفوائد - : [ أما قبول المسلمين للموطأ : فالمالكية عملهم عليه . وهو أصل مذهب الشافعي ومادة اجتهاده الموطأ وإنما تعقبه في بعض المواضع ، وخالفه في ترجيح الروايات .
وهو رأس المال لفقه الإمام محمد – يعني ابن الحسن الشيباني – في المبسوط وغيره هو الموطأ ، وإلاَّ فالآثار التي يرويها عن الإمام أبي حنيفة لا تكفي جميع مسائل الفقه ، وكثيراً ما يقول محمد في موطئه : وبه أقول ، وبه كان يقول أبو حنيفة ](4).
3. ويقول أيضاً : [ .. أخرج مالك بهذه الأسانيد قريباً من خمسمائة حديث ، وتلك الأحاديث أصح الأحاديث وأقواها في مشارق الأرض ومغاربها .. ](5).
__________
(1) نقلاً عن الكوثري في التأنيب [ مرجع سابق ] – 31 .
(2) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك للقاضي عياض [ ت سنة 544 هـ ] – 45 [ طبعة دار الحياة / بيروت / 1967 م ] .
(3) تعريب مقدم المسوى لمقدمة المصفى عن الفارسية وكلاهما للدهلوي – ص23 .
(4) المرجع السابق – 25 .
(5) تعريب مقدِّم المسوى شرح الموطا لمقدمة المصفى عن الفارسية وكلاهما للدهلوي – ص 34 .(1/23)
4. ويقول أيضاً : [ .. فألهمت الإشارة إلى كتاب – الموطأ – تأليف الإمام الهمام حجة الإسلام مالك بن أنس ، وعظم ذلك الخاطر رويداً فرويداً ، وتيقنت أنه لا يوجد الآن كتاب ما في الفقه أقوى من موطأ مالك ، لأن الكتب تتفاضل فيما بينها ، أما من جهة : فضل المصنف ، أو من جهة التزام الصحة ، أو من جهة شهرة أحاديثها ، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين ، أو من جهة الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة ونحوها .
وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن .(1/24)
أما : فضل المصنف فلا يخفى أنه لا يوجد اليوم كتاب من مؤلفات إمام من تبع التابعين غير الموطأ . ولا يوجد كتاب اتفق أهل الحديث على جلالة قدر مصنفه مثل الموطأ ، لأن أمثال مالك في زمن تبع التابعين قليلون ، ولم يبق لأحد منهم تأليفٌ ما ، كذلك لا يوجد كتابٌ من تأليف أئمة الفقه المتبوعين غير الموطأ . ... ، إن المدينة المنورة كانت في عهد الإمام مالك ومن قبله ، مرجع الفضلاء ، ومحط رحال العلماء ، ولهذا كان ينبغ فيها زماناً بعد زمان المفتون الكبار الذين كانوا قبلة العالم في العلم ، فورثهم جميعاً الإمام مالك واضطلع بهذا الأمر الجليل ، وأخذ عنهم العلم تداولاً ، كما يأخذ أحدنا من الآخر شيئاً ملموساً لا مجال للشك فيه أخذاً وعطاءً ، وأدرج في كتابه ما حفظ عنهم ، وصار كتابه مرجعاً لطوائف العلماء من المحدثين والفقهاء ، فمذهب الشافعي في الحقيقة تفصيل لكتاب الموطأ ، ورأس المال لفقه الإمام محمد في المبسوط هو ذاك العلم عن مالك ، وبالاختصار الأئمة المجتهدون الذين عمَّ علمهم الآفاق كلها ، هم أربعة : الإمام أبو حنيفة ، والإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، وما كان منهم في زمن تبع التابعين إلاَّ الإمام أبو حنيفة والإمام مالك ، فالأول منهما لم يتسلسل عنه رواية الحديث بطريق الثقاة .. ، وأما الإمام مالك فقد اتفق أهل النقل قاطبة على أن الحديث بروايته ، كان في الذروة العليا من الصحة . والإمامان المتأخران – الشافعي وأحمد – فهما من تلامذته والمستفيدين من علمه .
أما التزام الصحة فقال ... ... [ ونقل نقولاً كثيرة عن العلماء في مدح الموطأ ، ونحن ملتزمون بنقل قوله لا نقل نقله ] .
وأما شهرة الموطأ : فقد رواه عن مؤلفه الإمام مالك جمٌ غفير من كل طائفة [ ثم أوردهم ] .
وأما قبول المسلمين للموطأ : - تقدم نقل النص بطوله قبل قليل – .(1/25)
وأما من جهة الترتيب والاستيعاب : فلا يخفى أن في عصر الصحابة والتابعين ما كانوا يدونون العلم بالكتابة ، إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، وأمر فقهاء عصره بتدوين سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، فشرع ... ، وكان مالك جمع أولاً عشرة آلاف حديث ، ثم صار ينظر فيها كل يوم وينقص منها إلى أن بقي هذا العدد .. ](1).
5. وقد امتدح الكاندهلوي صاحب [ أوجز المسالك ] الإمام مالك بما لا أجد مزيداً منه عند غيره – وإن كان محباً - ، وإليك نموذجاً من الذي قاله بحقه – وهو طويل - : [ ومناقبه رضي الله عنه كثيرةٌ جداً لا يحتمل هذا المختصر استيعابها ، بل ولا تحتملها الأسفار الكبار ، وإنما أذكر نبذة منها راجياً البركة بذكر فضائله .
فهو رضي الله عنه وأرضاه .. صدر الصدور ، وبدر البدور ، أكمل العلماء ، وأعقل الفضلاء ، قد ورث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونشر في أمته الفروع والأصول ، وما أفتى حتى شهد له سبعون إماماً أنه أهل لذلك .. ثم نقل كثيراً من أقوال أهل العلم بحقه رضي الله عنه ](2).
××××××××××××××××××××××××××
ولعل الذي ذكرناه يفسر لنا كثيراً أقوال المتأخرين من الحنفية ، وبناءهم الترجيح الفقهي بسبب ورود قولٍ لمالك في المسألة ، أو موافقة قولهم له ، بل ميلهم لقوله .. حسبما نورده في الآتي :
? ما قالوه في مسألة المسبوق الذي يدرك الإمام في الركوع ، أيشتغل بالثناء أم بتسبيحات الركوع ؟(3).
__________
(1) تعريب مقدِّم المسوى لمقدمة المصفى عن الفارسية وكلاهما للدهلوي – ص 17 إلى ص27 .
(2) أوجز المسالك / المرجع السابق – 1 / 101 ] .
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين بن أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي [ ت سنة 587 هـ ] – 1 / 365 [ مطبعة العاصمة / القاهرة / بدون تأريخ / بتحقيق أحمد مختار عثمان ] .(1/26)
فقد ذهب الأغلب من فقهاء الحنفية المتأخرين إلى : أنه يشتغل بالتسبيحات فذلك أولى ، وقال أبو الليث السمرقندي(1)معللاً : [ .. لأن من الناس من لا يرى الثناء ، وهو قول الإمام مالك .. ](2).
مسألة المعتدة الممتدة الطهر ، فهم في خلافٍ في استبراء رحمها .
فمذهب أبي حنيفة : عدم التوقيت ، ويدعها حتى يعلم أنها ليست بحامل(3).
ومذهب تلميذه محمد بن الحسن الشيباني : تقديرها بعدة الوفاة ، وهي أربعة أشهرٍ وعشرة أيام ، وفي رواية عنه .. أنها تقدر بشهرين وخمسة أيام(4).
وذهب أبو مطيع البلخي(5)إلى : أن عدَّتها تسعة أشهرٍ ، لأنه المعتاد في مدة الحمل .
وقالوا : حقيقة ما ذهب إليه أبو مطيع البلخي هو قولٌ للإمام مالك رضي الله عنه ، واختلفوا في جواز الأخذ بمذهب الغير على أقوال ، لكن فريقاً كبيراً منهم .. قال : [ يجوز العمل بمذهب الغير إذا أفتى به مالكيٌّ ](6).
? وفي مسألة ادِّعاء الأجنبي على المتوفى ديناً ، فأقر بعض الورثة وكذبه البعض ، فما يستحق من دينه ؟
__________
(1) هو : نصر بن محمد السمرقندي الحنفي [ ت سنة 373 هـ أو 376 هـ ] ، فقيه مشهور ، ومحدث ، ومفسر ، له مؤلفات جليلة أهمها : تفسيره ، وكتاب النوازل الذي جمع فيه فتاوى المتأخرين من الحنفية بعد عصر إمامهم وتلامذته . [ راجع : مخطوطة النوازل – باب التأويلات ، الجواهر المضية في تراجم الحنفية – 2 / 196 ، التحبير في المعجم الكبير لأبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني [ ت سنة 562 هـ ] / بتحقيق منيرة سالم / بغداد .
(2) مخطوطة النوازل لأبي الليث السمرقندي – كتاب الصلاة .
(3) رد المحتار على الدر المختار لمحمد أمين بن عابدين الشامي [ ت سنة 1252 هـ ] – 3 / 507 إلى 508 .
(4) رد المحتار – الموضع السابق ، الفتاوى البزازية – 1 / 444 .
(5) تقدمت ترجمته .
(6) المراجع السابقة ، والمختار للفتوى لأبي الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي [ ت سنة 683 هـ ] – 2 / 13 .(1/27)
ففي ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة : أن الدائن يأخذ كلَّ الدين من نصيب من صدَّقه ، وإلى الحد الذي يستغرق حصته ، وإن لم تكفِ لا يتعداها ، بسبب أن الدين مقدم على الميراث(1)
وقال أبو الليث السمرقندي : [ القياس هو ما قاله أصحابنا ، ولكن الاستحسان عندي أن يأخذ من المقر ما يخصُّه من الدين ، فهذا أبعد من الضرر ... ] .
وهذا القول هو : قول الإمام مالك رحمه الله ، وأخذت به مجلة الأحكام العدلية(2)، وهي التي كانت بمثابة القانون المدني في عهود الدولة العثمانية المتأخرة .
? وفي مسألة النصرانيين المرتدين ، اللذين إذا أخذا تابا ، وإذا تركا عادا إلى الردة ، هل تقبل منهما بعدئذٍ توبة ؟
فالمعروف في المذهب : أن المرتد إذا استمهل يحبس ثلاثاً ، وتكشف شبهته ويعرض عليه الإسلام كلَّ يوم ، إلا إذا تاب فتقبل توبته من ساعته ، وكذا لو ارتد ثانياً وثالثاً ، ولكن يضرب في الثانية ، ويحبس في الثالثة حتى تظهر عليه التوبة ، فإذا عاد فكذلك(3).
ولأبي الحسن الكرخي رأيٌ يقرب مما تقدم مع اختلافٍ بسيط .
لكن ذهب أبو عبد الله البلخي إلى ما ذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - وهو مذهب مالك أيضاً ومذهب أحمد والحسن البصري - ، ورأي ابن عمر ومالك ، هو : أنهما يقتلان ولا تقبل لهما توبة(4).
وقال ابن عابدين : الظاهر أن البلخي اختار قول ابن عمر(5).
قلت : بل اختياره هو لقول مالك الذي يرجع لقول ابن عمر ، وللأسباب التي تقدم ذكرها .
__________
(1) مخطوطة النوازل – باب الإقرار ، رد المحتار على الدر المختار – 5 / 602 ، الفتاوى البزازية – 2 / 415 .
(2) المادة / 1642 .
(3) رد المحتار والدر المختار – 4 / 225 .
(4) رد المحتار على الدر المختار لإبن عابدين – 4 / 240 إلى 241 ، الفتاوى الخانية – 3 / 481 .
(5) المرجعين السابقين .(1/28)
? ويقول خاتمة المتأخرين ، وقدوة العلماء المحققين ، الإمام العلاَّمة الفقيه المحدِّث الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري الإسلامبولي ثم المصري من أكابر علماء الحنفية في أزمنتنا [ ت سنة 1371 هـ الموافق سنة 1952 م ] : [ ومن الدليل على أنهم كانوا كأسرةٍ واحدة في خدمة الشرع – يعني أئمة المذاهب - ، أن عالم دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحيِّ رضي الله عنه ، كان يُطالع كتب فقيه الملة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ، ويدارسه العلم ] ، إلى أن جمع عنده من مسائل أبي حنيفة نحو ستين ألف مسألة ، كما تجد مصداق ذلك فيما أسنده أبو العباس بن أبي العوام السعدي فيما زاد على كتاب جده : فضائل أبي حنيفة وأصحابه ، وفيما ساقه أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري في : أخبار أبي حنيفة وأصحابه ، وفيما نقله الموفق الخُوارزمي في : مناقب أبي حنيفة ، ومسعود بن شيبة في كتاب : التعليم ، وغيرهم من ثقاة أهل العلم في كتبهم لإ وقد توسعت في ذلك في : أقوم المسالك ن مع : إحقاق الحق .
وكان أبو حنيفة يطَّلع أيضاً على مسائل مالك ، كما في تقدمة : الجرح والتعديل لإبن أبي حاتم – وقال في الحاشية عن هذا الكتاب أنه مخطوط في : مكتبة مراد ملا في الاستانة ، ودار الكتب المصرية - ](1).
×××××××××××××××××××××
ومما تقدم نفهم قول بعض كبار الفقهاء من متأخري الحنفية ، بأنه : [ إذا لم يوجد في مذهب الإمام – يقصد أبا حنيفة – قولٌ في مسألة ، يُرجع إلى مذهب مالك ، لأنه أقرب المذاهب إليه ](2).
__________
(1) تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب – 6 إلى 7 [ طبعة دار الكتب / لبنان – 1981 م .
(2) القول هو للفقيه أبي الليث السمرقندي ، راجع : رد المحتار على الدر المختار – 1 / 411 ناقلاً عن كتاب [ تأسيس النظر ] لأبي الليث ، والذي ما زال مخطوطاً .
تم تحميل هذا الكتاب من موقع الدكتور محمد محروس المدرس
www.almoodares.net
info@almoodares.net(1/29)