رسالة
في
وجوب الجمع بين الأدلة
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد:(1/1)
فإن المسلم يجب عليه وجوب عين أن يعظم النص في قلبه, وأن يعرف له قدره وأن ينزله منزلته, وأن يحفظه من عبث العابثين وانتحال المبطلين وكيد المعتدين, وأن يفديه بروحه وماله وأن يجعل له في قلبه هيبة واحتراماً فلا يقربنه برد, أو تحريف أو زيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل أو إلغاء, بل يجعله الأصل الذي يجب إتباعه والميزان الذي يزن به كل الأقوال والأعمال, فإن تعظيم الدليل من تعظيم الله جل وعلا فالأدلة حق كلها وخير كلها وصدق كلها وعدل كلها وبر كلها في منطوقها ومفهومها ولوازمها والواجب فيها الاعتماد والانقياد والإتباع و القبول والإعمال لا الإهمال, وعلى ذلك مضى عصر القرون المفضلة, وإن من المسائل الكبار التي يتحقق بها تعظيم الدليل هو ما نحن بصدده من وجوب الجمع بين الأدلة, فإن هناك أدلة ظاهرها التعارض وهي في حقيقتها ليست كذلك فيحاول البعض أن يؤلف بينها فلا يستطيع فيتجرأ على القول بالنسخ الذي مفاده إطراح شيء من النصوص وإلغاء العمل به وهذا لا يجوز لأن المتقرر عند جميع أهل العلم:- أن إعمال الكلام أولى من إهماله, فإذا كان هذا في كلام المخلوقين فيما بينهم فكيف بكلام الله جل وعلا أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالذي نعتقده وندين الله تعالى به هو أنه لا يجوز إهمال شيء من النصوص مادام إعماله ممكناً والواجب علينا أن نستفرغ الجهد والطاقة في التأليف بالجمع بين الأدلة التي في ظاهرها شيء من التعارض ومشاركة في بيان هذه المسألة كتبت هذه الرسالة وسميتها بـ (رسالة في وجوب الجمع بين الأدلة)وقد كنت شرحتها في كتابي (تحرير القواعد ومجمع الفرائد)ولكن لم أستوف هناك الكلام عليها, وهاأنذا أعيدها مبسوطة أكثر وبفروع أكثر, فالله أسأل أن يتمها بمنه وكرمه وأن ينزل فيها البركة تلو البركة وأن ينفع بها النفع العام والخاص وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ويجعلها مرجعاً في هذا الباب وأن يلهمني رشدي ويوفقني للحق(1/2)
والصواب وأن يعيذني من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن, إنه ولي ذلك والقادر عليه فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون.
الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن
أقول:- اعلم رحمنا الله وإياك ووفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح أنه لايمكن أبداً أن يتعارض نصان صحيحان, لايمكن هذا أبداً سواءً أكانا قطعيين أو ظنيين أو كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً, كل ذلك لايمكن أن يقع بينهما تعارض البتة لا من قريب ولا من بعيد فالأدلة الصحيحة متآلفة متفقة ليست متنافرة مفترقة فالواجب علينا جميعاً أن نعتقد أن نصوص الشريعة مؤتلفة لا مختلفة, ومتفقة لا مفترقة ليس بينها اضطراب ولا تعارض أو تضارب أو إشكال لأنها من عند عزيز حميد حكيم مجيد لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, ولأنها محكمة كلها كما قال تعالى((كِتابٌ أُحكِمت آياته)) (1) .
__________
(1) سورة هود آية {1 }(1/3)
والإحكام العام هو الإتقان فوصفها بالإحكام دليل على أنها لا اختلاف بينها ولا تناقض ولا اضطراب فهذا هو الذي يجب اعتقاده, ولذلك فإنك تجد أن غالب من يدعي وجود التعارض بين الأدلة إنما هم المبتدعة الذين يريدون أن يزعزعوا الثقة في النصوص لأنها تكشف زيف باطلهم وتهدم صرح بدعتهم وتهتك عرش تأصيلهم ولا نعرف حرفاً واحداً عن أحدٍ من أهل السنة فيما نعلم في إقرار هذا التعارض, بل كلهم متفقون جميعاً أن الأدلة مؤتلفة متفقة لا مختلفة مفترقة, وهذا بالنظر إلى ذات الأدلة ولكن قد يثور في ذهن بعض الناظرين في الأدلة شيء من الإشكال أو شيء من التعارض بين بعض الأدلة, وهذا إنما هو في ذهن المجتهد فقط, أي في الناظر لا في المنظور فيه, لأن الناس يتفاوتون في الفهم والإدراك والعلم, فالتعارض هنا نسبي لا حقيقي, وعارض لا ذاتي بدليل أنه يزول بالتعلم والسؤال وقد يكون مشكلاً عليك ما ليس بمشكلٍ عند غيرك وعسيراً عليك ما هو يسيرٌ على غيرك فالمتهم في هذا الإشكال إنما هو ذهنك وعقلك وفهمك وقصور علمك, وأما الأدلة فإنها محفوظة من ذلك - حاشاها وكلا- أن توصف بشيء من الاختلاف أو الاضطراب أو التناقض, لأنها من مشكاة واحدة, فإذا وجدت ما يوهم أنه متعارض فاتْهم عقلك وإياك ثم إياك أن تتهم الدليل, وبهذا يتبين لنا أمران لابد من الانتباه لهما وهما:-
الأول:- أنه لا يتعارض نص صحيح مع نص صحيح.
الثاني:- أنه إن حصل ذلك فالمتهم الناظر لا المنظور فيه.
فصل(1/4)
فإذا وجدت ما يوهم التعارض فلك في إزالة ذلك عدة طرق, وهي بالترتيب أي إنه لا يجوز لك أن تنتقل من الأولى إلى الثانية إلا إذا عجزت العجز الحقيقي عن كشف التعارض بها, فهذه الطرق كالأصل وبدله, فكما أنه لا يجوز الانتقال إلى البدل إلا إذا تعذر العمل بأصله فكذلك هنا لا يجوز الانتقال إلى الطريقة الثانية إلا إذا تعذرت الطريقة الأولى, ولا يجوز الانتقال إلى الطريقة الثالثة إلا إذا تعذرت الطريقة الثانية وهكذا.(1/5)
وقاعدتنا التي نحن بصدد شرحها هي في الطريقة الأولى, وهي طريقة الجمع بين هذين النصين الذي ظاهرهما التعارض, فإذا كان الجمع بينهما ممكناً فإنه لا يجوز لك القول بغيره, بل لا يجوز اعتماد غيره, بل من اعتمد غيره مع إمكان القول به فإنه مخطئ آثم مستحق للعقوبة التعزيرية التي تردعه وأمثاله من الوقوع في هذا الفعل القبيح مرة أخرى فالجمع بين الأدلة هو الواجب والمتعين عند إمكانية القول به, وذلك إما أن يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً فيجمع بينهما بحمل العام على الخاص وإما أن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد بشرطه, وإما أن يكون أحدهما مجملاً والآخر مبيناً فيحمل المجمل على المبين, وإما أن يكون أحدهما مشتبهاً والآخر محكماً فيحمل المتشابه على المحكم وإما أن يكون اللفظ أصلاً يحتمل المعنيين كلاهما فيحمل اللفظ على المعنيين جميعاً, وإما أن يكون هذا التعبد الذي وردت فيه النصوص المختلفة يجوز التعبد لله به على كل هذه الوجوه فيجمع بين النصوص الواردة فيه بأن يقال:-العبادة الواردة على وجوه متنوعة تُفعل على جميع وجوهها في أوقات مختلفة وإما أن يجمع بينهما بالتفريق بين الأحوال أو الأشخاص,وكل ذلك ستراه مفصلاً في محله إن شاء الله تعالى, والمقصود هنا أن الجمع هو المتعين عند وجود ما يوهم التعارض, فمتى ما أمكن الجمع فإنه يجب القول به ولا يجوز اعتماد غيره, فإن أعياك الجمع بينهما إعياءً حقيقياً فانتقل إلى الطريقة الثانية وهي النسخ, فتنظر المتقدم منهما من المتأخر وتجعل المتأخر ناسخاً للمتقدم ويُعرف المتقدم من المتأخر بأشياء ذكرها أهل الأصول ليس هذا موضع ذكرها لأننا لن نقول به إن شاء الله تعالى إلا في مواضع يسيرة بحول الله وقوته, وقدمنا الجمع على النسخ لأن الجمع فيه إعمال للدليلين جميعاً في وقت واحد, وأما النسخ فإنه وإن كان إعمالاً لكل الدليلين لكن في وقتين مختلفين, فالدليل(1/6)
المنسوخ يُعمل به قبل النسخ والدليل الناسخ يُعمل به بعد النسخ, ولا شك أن العمل بكلا الدليلين في وقتٍ واحد أولى من العمل بأحدهما في وقت وإبطاله في وقتٍ آخر, فإن أعياك النسخ إعياءً حقيقياً فانتقل بعده إلى الطريقة الثالثة وهي طريقة الترجيح بين الدليلين, فينظر في إسنادهما ومتنهما ويقارن بينهما ويوزنا بميزان هذه المرجحات المذكورة في كتب الأصول وهي مرجحات إما بالنظر إلى إسناد كل منهما وإما بالنظر لمتن كل منهما فإذا ترجح أحد الدليلين فإنه يجب العمل به وأما الدليل المرجوح فإنه يلغى إلغاءً تاماً أي يكون وجوده كعدمه فلا يلتفت إليه أبداً وبه تعلم أن الترجيح طريقة أقوى من النسخ لأن الترجيح فيه إبطال لأحد الدليلين إبطالاً تاماً وأما النسخ فإن فيه إبطالاً للحكم المنسوخ بعد النسخ فقط وأما قبل النسخ فقد كان دليلاً صحيحاً مقبولاً معتمداً يُعمل به ويُتعبد لله جل وعلا بمقتضاه, ولذلك فإن النسخ مقدمٌ على الترجيح.
وسبب التقديم هو أن في النسخ إعمالاً للدليلين لكن في وقتين مختلفين, والأحق في التقديم هو ماتحقق فيه إعمال الدليلين جميعاً فإن أعياك الترجيح إعياءً حقيقياً فانتقل بعده إلى التوقف, وعدم البت في هذا الأمر وقول(لاأعلم) حتى يتبين لك الأمر في وقتٍ آخر فإذاً هي أربع حالات:-
الأولى:- الجمع. الثالثة:- الترجيح.
الثانية:- النسخ. الرابعة:- التوقف.
ونحن في هذه الرسالة نتكلم عن الحالة الأولى وهي وجوب التوفيق بين الأدلة التي ظاهرها التعارض فالواجب الأول علينا تجاهها هو الجمع, فالقاعدة المتقررة بالاتفاق بين أهل العلم هو أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن, والذي يدل على ذلك عدة أمور:-(1/7)
فمن الأدلة:- أي على وجوب إعمال جميع النصوص وعدم إبطال شيء منها الإجماع, وقد تقرر في الأصول أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها والعمل بها والمصير إليها وتحرم مخالفتها, وقد ذُكر الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم رحم الله الجميع رحمة واسعة, وهذا الدليل كافٍ في هذه المسألة, فقد اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن ما أمكن إعماله من الأدلة فإنه يحرم إهماله وإبطاله, وأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وأنه لا يجوز مع إمكانية الجمع أن يقال بالنسخ أو الترجيح, وكل ذلك متفقٌ عليه بين أهل العلم ولله الحمد والمنة.
ومن الأدلة أيضاً:- إجماع أهل العلم أيضاً على أن إعمال الكلام أولى من إهماله, وهذا في كلام عامة الناس, فإذا كان إعمال كلامهم ممكناً فإنه لا يجوز التسلط عليه بالإلغاء لأن من حقهم أن يُعمل كلامهم فإذا كان ذلك هو حق كلام عامة الناس فكيف بكلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - , لاشك أن تحقيق القاعدة فيه من باب أولى, بل من باب أوجب, فإذا كان إعمال هذا الحديث ممكناً فهو الواجب فلا يجوز نسخه ولا إبطاله ولا التعدي عليه وبخسه حقه الواجب له وكل ذلك باتفاق أهل العلم.(1/8)
ومن الأدلة أيضاً:- لقد تقرر بالاتفاق أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, ومن ذلك أن ما كان ثابتاً فالأصل بقاؤه ثابتاً حتى يرد الناقل ولا يجوز الانتقال عن هذا الأصل إلا بدليل, فيجب اعتقاد ثبوت ما هو ثابت, فهذا النص ورد في الوحي كتاباً أو سنةً فالأصل ثبوته, وما كان ثابتاً في السابق فالأصل أنه ثابت الآن لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان فلا يجوز إلغاؤه أو ادعاء أنه منسوخ أو إبطال شيء من دلالته بتخصيص لا دليل عليه, أو تقييد لا دليل عليه أو اشتراط لا دليل عليه، فما كان ظاهرها التعارض فالأصل وجوب إعمالها لأنها ثابتة والأصل بقاء ثبوتها ومن ادعى أن منها ما هو منسوخ ومنه ما هو ناسخ فإنه مطالب بالدليل المثبت لهذه الدعوى لأنها خلاف الأصل وقد تقرر أن الأصل أن الدليل يُطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه, وهذه القاعدة أي قاعدة وجوب الجمع بين الأدلة فيها بقاء على هذا الأصل فهي أي هذه القاعدة متمشية تماماً مع ما يجب اعتماده والبقاء عليه وهو الأصل والله أعلم.(1/9)
ومن الأدلة أيضاً:- أن المتقرر شرعاً بالاتفاق أن الأدلة الشرعية يجب صيانتها وحمايتها والذب عنها وتعظيمها, وإنزالها منزلتها, وكل فعلٍ ينافي ذلك المتقرر شرعاً فإنه لاغٍ يجب رده والوقوف في وجهه وقاعدة الجمع بين الأدلة فيها صيانة للأدلة وحماية لها من الإلغاء والإبطال بنسخٍ أو ترجيح لأن مفادها وجوب العمل بكل الأدلة وتحريم إبطال شيء منها, فهي تحقق المقصود الشرعي من وجوب المحافظة على هذه الأدلة ولزوم تعظيمها وصيانتها, فمن ادعى نسخ شيء منها وهو يمكن العمل به فإنه ما قدّر الأدلة حق قدرها, ومن ألغى منها قيداً وهمّشه ولم يعتبره فإنه ما قدّر الأدلة حق قدرها ومن قدّم عليها آراء الرجال وأقوال المذاهب المخالفة لها فإنه ما قدّر الأدلة حق قدرها فالجمع بين الأدلة مأمور به شرعاً لأنه وسيلة لتحقيق مقصود من مقاصد الشريعة وهو حفظ الأدلة وصيانتها وحمايتها والذب عنها وتعظيمها وقد تقرر في القواعد أن الوسائل لها أحكام المقاصد وتقرر أيضاً أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فحفظ الأدلة وصيانتها لا يتم إلا بالقول بوجوب الجمع بين ما ظاهره التعارض فيكون ذلك واجباً والله أعلم.(1/10)
ومن الأدلة أيضاً:ـ إنه من المعلوم المتقرر شرعاً أن من مقاصد الإسلام العامة حفظ الشريعة وحفظ الشريعة يكون بحفظ مصادرها, وهي الكتاب والسنة, وحفظها يقضي على أهل الإسلام أن يسدوا جميع الأبواب وذلك أن أعداء إلا سلام يبحثون عن الأدلة التي في ظاهرها شيء من التعارض فيبثونها بين عوام المسلمين وأنصاف المثقفين ليزعزعوا الثقة في قلوبهم تجاه الكتاب والسنة ويقولون لهم:- هذا كتابكم الذي تزعمون أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب, انظروا ما فيه من الاختلاف فإنه يخبر بشيء في مكان ويأمر بشيء في مكان وينهى عنه في مكان آخر، وكل ذلك ليخلعوا الثقة أو على الأقل يكدروا صفوها في القلوب ومن حرص الكفرة على مثل هذا الأمر فإنهم قد سخروا له جنوداً يدرّسون العلوم الإسلامية وخصوصاً الكتاب والسنة ليثيروا مثل هذا الأمر على أهل الإسلام, فكان من الواجب على كل مسلم أن يقف في وجوههم ويدافع عن مصادر هذه الشريعة بما آتاه الله من قوة وهذه القاعدة أي قاعدة وجوب الجمع بين الأدلة تسد علينا هذا الباب وتبين زيف ما يدعيه هؤلاء الكفرة في الكتاب والسنة فهي تحقق قسطاً كبيراً من هذا المقصود الأعظم الذي هو حفظ مصادر الشريعة, وحيث كانت تحقق ذلك فيكون مأموراً بها أمر إيجاب لأن حفظ مصادر الشريعة واجب ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولأنها وسيلة لأمر واجب وما كان وسيلة لأمرٍ واجب فهو واجب, ولا يعرف بركة هذه القاعدة على وجه التفصيل إلا من غاص في فروعها وتفيأ ظلال شجرتها الزكية والله أعلم.(1/11)
ومن الأدلة أيضاً:- أنه قد تقرر عند أهل الإسلام أن الأدلة الشرعية حق وصدق وخير كلها في منطوقها ومفهومها ولوازمها, وعند وجود ما يوهم التعارض بينها فإنه لابد من كشفه بالطرق الشرعية والقواعد المرعية وذلك حتى لا يتطرق لذهن المسلم ولو مجرد تطرق أن بينها شيئاً من الاختلاف أو التناقض, فصار الجمع بين الأدلة من واجبات الشريعة لأنه يسد باباً عظيماً من أبواب الفتنة وقد تقرر في القواعد بالإجماع وجوب سد الذرائع فأي ذريعة تفضي إلى الفساد فالواجب سدها وبقاء هذا الإشكال بين الأدلة التي ظاهرها التعارض يفضي إلى الظنون الفاسدة والشكوك الكاسدة في الأدلة فسداً لذلك الباب فلا بد من الجمع بين هذه الأدلة.
وبه تعلم أن قاعدة وجوب الجمع بين الأدلة يتحقق بها سد ذريعة فساد كبير وشر مستطير, وسد الذرائع أصلٌ ثابت الأركان بأدلة السنة والقرآن, وقد تقرر في القواعد أن مالا يتم درء المفسدة إلا به فهو واجب لأن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, وهذه القاعدة أعني قاعدة وجوب الجمع بين الأدلة فيه تحقيق لمصالح كبيرة وفيه تعطيل لمفاسد كثيرة, فانظر كيف اتفاق القواعد وتداخل بعضها في بعض والله الموفق والهادي.(1/12)
ومن الأدلة أيضاً:- أنه من المتقرر في أذهان العلماء أن كل دليل من أدلة الكتاب والسنة فإنه يتضمن حِكَمَاً وأحكاماً ومصالح كثيرة, وأن هذه الحِكَم يجب اعتمادها وهذه الأحكام يجب العمل بها وهذه المصالح يجب مراعاتها, فإذا تعارض دليلان في الظاهر, فلو أننا أبطلنا شيئاً منها لكان في ذلك إبطال لحِكَمِه وأحكامه ومصالحه وهذا لا يجوز لكن بالقول بقاعدتنا فإنه تنتظم المصالح والحِكَم والأحكام كلها ويتداخل بعضها في بعض ولا يكون بينها أي إشكال ولا أي اختلاف أو اضطراب أو تناقض, فالحِكَم والأحكام والمصالح لا يجوز إلغاؤها وإبطال شيء منها مادام اعتماده ممكناً ولا يتحقق ذلك إلا بقاعدة وجوب الجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، والعاقل هو الذي يسعى إلى تحصيل مصالح الأدلة وحِكَمها وأحكامها كلها لأنه يعلم أن كل دليل له مصالحه وحِكَمه وأحكامه وهو لا يريد أن يفوّت منها شيئاً لا على نفسه ولا على غيره فيسعى جاهداً في التوفيق بين الأدلة لتبقى كل مصالحها وكل أحكامها وكل حِكَمها سليمة من الإلغاء أو الإسقاط, فقاعدة وجوب الجمع بين الأدلة فيها حفظ المصالح والحِكَم والأحكام وهذا مطلب يجد ذاته من مطالب الشريعة وكل ما كان وسيلة إلى المطلوب الشرعي فهو مطلوب شرعاً والله أعلم.(1/13)
ومن الأدلة أيضاً:- أن إهدار شيء من أدلة الشريعة فيه إهدار لجانب من جوانب التعبد, وهذا لا يجوز فكما أنه لا يجوز التعبد لله بما لا دليل عليه فكذلك لا يجوز إسقاط التعبد الذي ثبت به الدليل فكلاهما ممنوعان, فإسقاط ما هو ثابت لا يجوز, وإثبات ما هو ساقط لا يجوز فإذا تعارض دليلان في الظاهر وكل منهما يحمل جانباً من جوانب التعبد فإن الواجب حينئذٍ هو الجمع فلابد- من باب الوجوب- أن نبذل قصارى جهدنا في الجمع بينهما ما أمكن ذلك وبكل ما آتانا الله من قوة, وذلك للمحافظة على جوانب التعبد كلها ومن المعلوم أن جوانب التعبد يجب العمل بها كلها ولا يتحقق ذلك إلا بقاعدة الجمع بين الأدلة فصار العمل بها من جملة واجبات الشريعة لأنها تحقق مطلباً من مطالب الشارع والله أعلم.(1/14)
فبان بذلك أن قاعدة الجمع بين الأدلة فيها حفظ الأدلة والذب عنها, وصيانتها, وتعظيمها, وبها تتحقق مصالح كثيرة من إزالة ما قد يعرض في الذهن على بعض الأدلة, وفيها حفظ ما يتعلق بالدليل من الحِكَم والأحكام والمصالح, وفيها سد لباب القدح في الدليل, وفيها حفظ لجانب التعبدات, وبها يتحقق إعمال كلام الشارع وصيانته من الإلغاء أو الإسقاط, وفيها سد الأبواب على الملاحدة الذين يثيرون الشُبه على أهل الإسلام, وفيها إرغام للشيطان وإيغاض له, وهي تعد وسيلة من جملة وسائل حفظ مقاصد الشريعة, وتتجلى فيها عظمة هذه الشريعة وأنها حق وصدق كلها لا يعتريها الباطل والاختلاف والاضطراب من بين يديها ولا من خلفها وهي في حقيقتها من قواعد الفرقان التي يفرق المسلم بها بين الحق والباطل والمقبول والمردود, وفيها تحقيقٌ لحفظ الدين الذي هو من جملة الضروريات الخمس فإن الدين لا يُحفظ إلا بحفظ أدلته وحفظ أدلته إنما يكون في إعمالها وهو ما تحققه هذه القاعدة الكبيرة العظيمة المباركة, وبطرقها وشرحها يبرز جانب مهم من جوانب هذه الشريعة الغراء وهو جانب الجمع بين الأدلة فلابد من إحياء هذا العلم ونفض الغبار عنه فإن المؤلفات فيه قليلة جداً بالنسبة لغيرها من فنون الشريعة فلابد مع هذه الأهمية أن يُطرق هذا العلم دائماً وأن ينبري للتأليف فيه أهل العلم الراسخين في علمهم وديانتهم فإن المصالح المترتبة عليه عظيمة والفوائد والعوائد من طرقه وتكثير التأليف فيه كثيرة وكلنا من أولنا إلى آخرنا خدام لهذا الدين يجب علينا أن نخدمه بما نستطيعه فنعوذ بالله من الكسل والتخاذل والعجز والتواني والتواكل وأن يكون أمرنا فرطاً, والله المستعان على هذه النفس الأمارة بالسوء والله أعلى وأعلم.
فصل(1/15)
فهذا شرح القاعدة من باب التنظير والاستدلال وبقي شرحها من باب التفريع والتطبيق والفروع عليها كثيرة ولكن أنشدك الله أن لا تستطل التفريع الآتي فإن كل فرع منها هو بمثابة حلٍ لإشكال قد ثار عند بعض الناس وسوف أطرق بحول الله وقوته وتوفيقه وحسن منته على عُبيده العاجز الضعيف الفقير, ما أستطيع عليه من الفروع وهي عندي كثيره تفوق الخمسين فرعاً فدونك هذه الفروع محررة ميسرة نغزو بها إبليس وجنوده من الإنس والشياطين ونصيح بها في وجوههم ونُدخل الغيظ عل قلوبهم ونهدم صروحهم ونزلزل عروشهم ونأتي إلى ما خططوا ودبروا فنجعله هباءً منثوراً, ونأتي إلى بنيانهم من القواعد فننسفه فيخر السقف عليهم من فوقهم وعند الله تجتمع الخصوم, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق:-
الفرع الأول
لقد ورد عندنا آيات تفيد وقوع السؤال يوم القيامة وآيات تفيد عدم السؤال, قال تعالى: { وقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } (1) وقال تعالى: { فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أ جْمَعِينَ { 92 } عَمًّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (2) وقال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (3) } فهذه الآيات ونحوها تفيد وقوع السؤال ولكن قال تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَجَآنٌّ } (4) وقال تعالى: { وَلاَيُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } (5) فهذه الآيات ونحوها تفيد عدم وقوع السؤال فكيف مرة يثبت السؤال ومرة ينفيه؟ أوليس هذا من الاختلاف؟
__________
(1) سورة الصافات آية (24)
(2) سورة الحجر آية (92, 93)
(3) سورة الأعراف آية (6)
(4) سورة الرحمن آية (39)
(5) سورة القصص آية (78)(1/16)
قلنا:- ولا طرفة عين, بل هي آيات مؤتلفة لا مختلفة ومتفقة لا مفترقة ليس بينها أي إشكال ولا أي اختلاف أو اضطراب وبيان ذلك أن يقال:- إن ما ثار في الذهن من الإشكال يزول بالتفريق بين أحوال اليوم وبالتفريق بين أصناف الكفار وبالتفريق بين نوعي السؤال, ودونك التفصيل فأقول:- أما بالتفريق بأحوال اليوم فإن يوم القيامة يوم طويل جداً مقدار خمسون ألف سنة كما قال تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } (1) والكفار لا تستوي حالهم فيه, بل يتنقلون فيه من مرحلة إلى مرحلة, ففي بعضه يسألون وفي بعضه لا يسألون, فحالهم ليست فيه واحدة بل مختلفة, فالآيات التي أثبتت السؤال إنما هي في بعض أجزاء ذلك اليوم والآيات التي فيها نفي السؤال إنما فيها نفي السؤال في بعض أجزاء ذلك اليوم, أي أن الكفار لا يسألون في كل ذلك اليوم, ولا يترك سؤالهم في كل ذلك اليوم ولكن يسألون في بعضه ويترك سؤالهم في بعضه, فهذا بالنسبة للتفريق في أحوال ذلك اليوم.
__________
(1) سورة المعارج آية (6)(1/17)
وأما بالنسبة للتفريق بين أصناف الكفار فإن من بلغ في الإجرام والكفر حده ومنتهاه فإن هؤلاء لا يسألون كأبليس وفرعون وهامان وقارون وأبي لهب ونحو هؤلاء من عتاة المجرمين من الذين بلغوا في الكفر والإجرام حده ومنتهاه فإنه لا يسأل وأما باقي أصناف الكفرة وعصاة الموحدين فإنهم يسألون ويدل على ذلك أن الآيات التي فيها نفي السؤال ذكرت المجرمين, كما في قوله تعالى في سياق قصة قارون { وَلاَيُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } وقال تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَجَآنٌّ { 39 } فَبِأَيِّ آَلآَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { 40 } يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ } (1) فهذا يدل على أن عتاة الكفرة وأهل الإجرام الذين بلغوا في الكفر والإجرام حده ومنتهاه هم الذين لايُسألون فالآيات النافية للسؤال إنما هي في حق المجرمين وعتاة الكفرة من الشياطين والإنس, وأما الآيات المثبتة للسؤال فهي في بقية أصناف الكفرة, وهذا بالنسبة للتفريق بين أصناف الكفار أي بعض الكفاريسألون وبعضهم لايسألون وأما بالنسبة للتفريق بين نوعي السؤال, فإن السؤال المنفي في الآيات إنما هو سؤال الاستعتاب أي أن الكفار يوم القيامة لايسألون سؤال من يستعتبهم كما قال تعالى: { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } (2) وقال تعالى: { وَلاَهُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } (3) وأما السؤال المثبت فإنه سؤال التوبيخ والتقريع الذي به يزداد عذابهم وبه يتحقق كمال خسارتهم, فالسؤال أنواع متعددة, فأما سؤال الاستعتاب فهو منفي عنهم وأما سؤال التوبيخ والتقريع فهو ثابت في حقهم وعلى هذا فلا يكون بين الآيات أي نوع إشكال كعادتها, جعلنا الله من أتباعها, فسواء أجبت بالأول أو أجبت بالثاني أو أجبت بالثالث فالكل صحيح,
__________
(1) سورة الرحمن آية (39, 40, 41)
(2) سورة فصلت آية (24)
(3) سورة الجاثية آية (35)(1/18)
وقلنا ذلك لأن المتقرر هو أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم.
...
الفرع الثاني
لقد وصف الله تعالى عصى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بصفتين مختلفتين فوصفها بالذكورية في قوله: { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌّ } (1) ووصفها بالأنوثة في قوله: { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌّ تَسْعَى } (2) فكيف مرة يصفها بأنها ثعبان ذكر ومرة يصفها بأنها انقلبت إلى حية أنثى؟ أليس هذا من الاختلاف أن يوصف الشيء الواحد بصفتين متناقضتين وهو شيء واحد؟
__________
(1) سورة الشعراء آية (32)
(2) سورة طه آية (20)(1/19)
الجواب:- لا, بل هما آيتان متفقتان كل الاتفاق ومؤتلفتان غاية الائتلاف بل بعضها يصدق بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً وبيان ذلك أن يقال:- إن العرب في تعبيرهم عن الشيء الواحد إما أن يعبروا عنه بجنسه وإما أن يعبروا عنه بنوعه, والتعبير عن الشيء الواحد بجنسه تارة وبنوعه تارة أخرى ليس من الاختلاف أبداً ولا طرفة عين والقرآن نزل باللغة العربية وليس المراد بألفاظها فقط بل وأساليبها أيضاً, فلو أنك اشتريت تمراً فقيل لك ماذا اشتريت؟ فقلت اشتريت تمراً فهذا نسميه تعبير بجنس المشترى, فلو سُئلت مرة أخرى ماذا اشتريت؟فقلت اشتريت عجوة, فهذا تعبير بنوع المشتري ذلك لأن التمر جنس يدخل تحته أنواع كثيرة فهل تعبيرك الأول يتنافر مع تعبيرك الثاني؟ الجواب:لا لأنك عبرت عن الذي اشتريت بتعبيرين:- تعبير عنه بجنسه وتعبير عنه بنوعه والتعبير عن الشيء الواحد بجنسه تارة وبنوعه تارة ليس من الاختلاف في شيء, وهكذا هنا, فإن الله تعالى عبر عن العصى بالجنس تارة وبالنوع تارة أخرى, فلما قال جلّ وعلا: { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌّ تَسْعَى } عبر عنها بالجنس لأن الحية اسم جنس يدخل تحته الذكر والأنثى, أي إنها انقلبت إلى جنس الحيات فلما أردنا أن نعرف نوع هذه الحية قال: { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌّ } والثعبان هو ذَكَر الحيات الكبير, فتعبيره عنها بالثعبان لا يتنافى أبداً مع تعبيره عنها بأنها حية لأن المتقرر عند العرب إن التعبير عن الشيء بجنسه تارة وبنوعه أخرى ليس من الاختلاف ولا من التناقض في شيء وبهذا الجواب فلا يكون أي إشكال ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة والله أعلى وأعلم.
الفرع الثالث(1/20)
لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) قالوا:- ولا أنت يا رسول الله, قال:(( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) فهنا الإخبار أن العمل لا يدخل الجنة بينما نجد في آيات كثيرة إن الله تعالى إذا ذكر نعيم الجنة يقول بعدها: { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون } (1) وكقوله تعالى: { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (2) وكقوله: { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (3) فكيف مرة ينفي تأثير العمل لدخول الجنة ومرة يثبته؟ أي كيف يقول:(( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) ومرة يقول:- إنما نلتم هذا النعيم بما كنتم تعملون؟ أليس هذا من الاختلاف؟
__________
(1) سورة السجدة آية ( 17)
(2) سورة النحل آية (32)
(3) سورة الطور آية (19)(1/21)
والجواب:- بالطبع لا, وإنما يثور هذا الإشكال في ذهن من لم يعرف استعمالات حرف الباء في لغة العرب وقد ذكرت لك سابقاً إن القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين, كما أنه عربي في ألفاظه فكذلك هو عربي في أساليبه واستعمالاته ووجه الجمع أن يقال:- إن الباء لها في اللغة عدة استعمالات, فتأتي ويراد بها العوض, أي الباء العوضية, أي أن هذا الشيء عوض لهذا الشيء كقولك:- بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم, فالباء في قولك(بعشرة) هي باء العوض, أي إن هذه العشرة الدراهم هي عوض لهذا الثوب, وتأتي ويراد بها السببية كقوله تعالى: { ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } (1) فالباء في قوله (بما) في الموضعين يراد بها السبب, أي بسبب ذلك أصابكم ما أصابكم, إذا علمت هذا فاعلم إن الباء في قوله:(( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) إنما هي باء العوض, أي إن الجنة أغلى وأعلى من أن تكون عوضاً لعمل عامل حتى لو كان ذلك العامل أحد الأنبياء لأن الجنة غالية لا ينالها الثمن, فالجنة أبداً لا تكون عوضاً لعمل أحدٍ كائناً من كان, وأما الباء في قوله تعالى: { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون } ونحوه فإنها باء السبب, أي بسبب عملكم ونحن نعتقد الاعتقاد الراسخ أن من أسباب دخول الجنة الأعمال الصالحة, وبناءً عليه فأقول:- العمل الصالح سبب لدخول الجنة ولكنه ليس بعوضٍ تنال به الجنة, فهو سبب لاعوض, فالنصوص المخبرة بأنه لايدخل أحد الجنة بعمله هي في باب المعاوضة والنصوص التي تخبر بأن الجنة إنما نالها أهلها بأعمالهم إنما هي في باب السببية، والبابان مختلفان وبهذا فلا يكون بين النصوص إشكال ولا اختلاف, فلا يجوز الاعتداء عليها بظن فاسد أو رأي كاسد حاقد لأن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن والله أعلم.
الفرع الرابع
__________
(1) سورة غافر آية (75)(1/22)
لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ))" رواه مسلم من حديث جابر" فهذا الحديث يفيد أن الشيطان أيس أن يعبده أحد في جزيرة العرب ولكننا نجد أحاديث فيها إثبات عبادته ففي الحديث(( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)) وهو طاغية دوس الذي كانت تعبده في الجاهلية, وفي الحديث الآخر:(( لا تقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعزى)) وفي الحديث الآخر:(( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تُعبد فئام من أمتي الأوثان)) وقد علمنا في التاريخ قبل دعوة الشيخ محمد رحمه الله ماكان عليه أهل هذه الجزيرة من الوثنية وعبادة غير الله تعالى, فكيف نجمع بين ذلك وبين الحديث السابق المفيد بيأس الشيطان من يعبد مرة أخرى في جزيرة العرب؟
والجواب:- الأمر سهل ويسير ولا إشكال فيه البتة ولله الحمد والمنة وبيانه أن يقال:- في الجمع بين هذه الأحاديث وجهان:-
الأول:- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر بيأس الشيطان لم يقصد أن ذلك عاماً في كل الأوقات إلى أن تقوم الساعة وإنما هو حكاية حال وقد تقرر في الأصول أن حكايات الأحوال لا تفيد العموم, فإن الشيطان لما رأى دخول الناس في دين الله أفواجاً داخله اليأس من أهل هذه الجزيرة من أن يعودوا لعبادته مرة أخرى وذلك لانتشار الإسلام وقوة أهله وصلابة دينهم ووجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم ونحو ذلك من الأسباب التي أوجبت له ذلك اليأس لكن لا يلزم من حكاية هذا اليأس أن يستمر معه في كل وقتٍ وفي كل حين إلى أن تقوم الساعة وإنما هو أصابه في وقت لوجود بعض الأسباب لكن متى مازالت هذه الأسباب وحلت أضدادها فلا يبعد أن يتحول اليأس أملاً, والمقصود أن حكاية اليأس هي من حكايات الأحوال وحكايات الأحوال لا تقتضي العموم.(1/23)
الثاني:- أن الحديث إنما أثبت وجود اليأس فقط ولم يتعرض لوقوع عبادته أصلاً, فهو قال:((أيس)) ولم يقل((لن يعبد)) ومن المعلوم أن اليأس لايستلزم عدم عبادته, فلا نخلط بين الأمرين, ولأن الشيطان قد أخذ العهد على إغوائنا ماستطاع وبكل ماأوتي من قوة, ولا تظن أنه سيخلد إلى هذا اليأس ويرفع راية الهزيمة, بل سيضاعف الجهد ويجند الجنود ويغير الطرق حتى يتحقق له مقصوده فإنه ليس اليأس مانعاً من المحاولة بدليل أننا قد يصيبنا اليأس من شيء ومع ذلك فلا نزال نحاول في تحقيقه حتى يتحقق, فالحديث إنما فيه الإخبار باليأس ولم يتعرض لوقوع عبادته أو عدم وقوعها ومجيء الأحاديث الأخرى دليل ظاهر على أنه مع يأسه لم يقطع المحاولة بل حاول في إعادة عبادته فنجح في كثير من بقاع هذه الجزيرة, وبهذين الوجهين يُعرف وجه الجواب إن شاء الله تعالى فليس بينهما أي تعارض ولا اختلاف أبداً, فالكل يخبر بشيءٍ واقع أو سيقع والله المستعان وهو أعلى وأعلم.
الفرع الخامس
لقد ثبتت أحاديث تنفي العدوى وأحاديث تثبتها, فمن الأحاديث التي تنفيها حديث أبي هريرة قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(( لاعدوى ولا طيرة ولاهامة ولا صفر)) ومن الأحاديث المثبتة لها حديث (( لايورد ممرض على مصح )) وحديث(( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) وحديث(( إذا وقع- أي الطاعون- في بلدٍ فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه )) ونحو ذلك فكيف مرة ينفي العدوى ومرة يثبتها؟ أليس هذا من الاختلاف؟(1/24)
والجواب:- لا والله ليس هذا من الاختلاف ولا من التناقض في شيء فإننا نقر الإقرار الجازم أن الأدلة حق وصدق كلها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وأن كل ماأوهم وجود الاختلاف بينها فإنما هو من عند أنفسنا لا من الأدلة - حاشاوكلا- وما ذكرناه في هذا الفرع من ذلك الباب الذي يظهر منه التعارض ولكنه في ذاته متفق ليس بمفترق ومؤتلف ليس بمختلف وبيان ذلك أن يقال:- إن العدوى عندنا قسمان:- العدوى الابتدائية والعدوى الانتقالية والحديث في قوله(لاعدوى) إنما ينفي العدوى الابتدائية وهي التي يعتقدها أهل الجاهلية ومعناها انتقال العدوى بذاتها بدون قدر الله تعالى, وهذا هو الذي انعقدت عليه قلوبهم وتشرَّبته نفوسهم فجاء هذا الحديث ينفي تأثير هذه الأشياء بذاتها فقال:( لاعدوى) أي أن العدوى التي تعتقدون أنها تنتقل بذاتها لاحقيقة لها وإنما هو شيء فرضته عقولكم ولبَّست به عليكم شياطينكم وإلا ففي الحقيقة أنه(لاعدوى) وذلك لأنه لايجوز أن نعتقد أن ثمة مصرفاً أو متصرفاً في الكون إلا الله تعالى فهو وحده الذي يصرف الأمور ويقدر الأقدار الجارية بالليل والنهار وهو وحده الذي بيده النفع والضر وهو وحده الذي بيده أزمة الأموروبيده الملك والسلطان, وهو وحده القاهر فوق عباده يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء ويتزعه ممن يشاء ويمرض من يشاء ويصح من يشاء ويغني من يشاء ويفقر من يشاء ويحيي من يشاء ويميت من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير لاراد لقضائه ولامعقب لحكمه ولاغالب لأمره, فالعدوى خلق من خلقه لاتصرف لها بذاتها البتة ولاتأثير لها إلا بمشيئة الله جل وعلا, وقد كان من جملة العقائد التي نشأ عليها الكفار أن العدوى لها تأثير بذاتها وتصرف بذاتها فجاء الحديث نافياً هذا الاعتقاد الفاسد كما نفاه في شأن الهامة والصفر والغول, فالعدوى المنفية إنما هي العدوى التي كان يعتقدها أهل الجاهلية وهي العدوى الابتدائية, وأما(1/25)
الأحاديث الأخرى فإنها في شأن العدوى الانتقالية ونحن نعتقد أن العدوى تنتقل من المريض إلى الصحيح ولكن انتقالها ليس ذاتياً بل هو خاضع لمشيئة الله تعالى فمخالطة الصحيح للمريض من أسباب انتقال العدوى لكن لاتؤثر هذه المخالطة بانتقال العدوى إلا إذا شاء الله تعالى ذلك وقدَّره, وإلا فلا تأثير لها بذاتها البتة, ولذلك قال:(( لا يورد ممرض على مصح )) وذلك من باب قطع الأسباب المفضية إلى ذهاب الصحة وحلول الأمراض وكذلك قوله:(( فر من المجذوم فرارك من الأسد)) فتجرب هو من هذا الباب أيضاً, وخلاصة المسألة أن العدوى المنفية إنما هي العدوى الابتدائية و العدوى المثبتة إنما هي العدوى الانتقالية الخاضعة لمشيئة الله تعالى, ويبين هذا أن بعض الصحابة لما سمع قوله - صلى الله عليه وسلم - (لاعدوى) قال :- إننا نرى النقبة تقع بمشفر البعير لذلك الإبل فقال عليه الصلاة والسلام:(( فمن أعدى الأول)) فالصحابي هنا ظن أن العدوى التي نفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي العدوى الانتقالية, فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لايريد هذا وإنما يريد العدوى ابتداءً فقال:(( فمن أعدى الأول )) وهذا واضح إن شاء الله تعالى وبهذا الجواب وبهذا التفريق يتحرر المقام ولا يبقى في الذهن أي وارد على هذه النصوص والله أعلى وأعلم.
الفرع السادس(1/26)
لقد ثبت في الصحيح من حديث جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر إلى مكة وطاف طواف الإفاضة وصلى الظهر بمكة "رواه مسلم" فهذا الحديث يثبت إثباتاً قطعياً لاشك فيه أن صلاة الظهر يوم النحر في حجة الوداع قد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أي في البيت بعدما انتهى من الطواف ولكننا نجد ابن عمر يثبت شيئاً آخر ففي الصحيحين عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر يوم النحر بمنى, فكيف ذلك, وهي صلاة واحدة؟ والجواب:- أن كلا الحديثين صادق وكل صحابي منهم أخبر بما رآه وهم الصادقون المأمونون الثقات الأثبات العدول الذين ماعرفت الدنيا مثلهم بل لا كان ولا يكون مثلهم, فنشهد بالله تعالى أن جابراً - رضي الله عنه - صادق لما قال:(صلى الظهر بمكة) ونشهد بالله أن ابن عمر- رضي الله عنهما- صادق لما قال:( صلى الظهر بمنى) وأن الجمع بينهما ممكن بلا تكلف وقد تقرر عندنا في القاعدة أن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن وبيان ذلك أن يقال:- إن الصلاة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة هي صلاة الفريضة فصلاة الظهر يوم النحر قد صلاها في المسجد الحرام وبعد صلاتها فرضاً رجع إلى منى ووجد الصحابة في منى لم يصلوا بعد, طلباً لفضيلة الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - , فصلى بهم الظهر معادة نافلة فنقل كل صحابي مارآه, فالظهر التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة كانت فريضة والظهر التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى كانت نافلة, وأنت خبيرٌ بأنه قد تقرر في الأدلة جواز إعادة الصلاة إذا تحقق سبب الإعادة ومن أسبابها إدارك جماعة أخرى لم تصلِ, فالسنة أن يصلي معهم, ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الجمع ولم يتجرأ أحد أن يتقدم بين يديه فلما علم الصحابة الذين كانوا بمنى أنه متوجه إليهم أخروا الصلاة حتى يصل إليهم ويصلي بهم إماماً ليدركوا(1/27)
فضيلة الصلاة خلفه, وأي فضلٍ هذا, إنه الفضل العظيم والشرف الكبير والمنة العظمى والمقصود أن صلاة الظهر في حديث جابر هي صلاة الظهر فريضة, وصلاة الظهر في حديث ابن عمر هي صلاة الظهر معادة, فالأولى فريضة والثانية نافلة فحيث كان الجمع ممكناً فلا نقول بغيره لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم.
الفرع السابع
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } (1) وقال تعالى: { فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى... الآية } (2) فهاتان الآيتان تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَسْمِعُ من في القبور ففيها نفي سماعهم, ولكن ثبت أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر في أصحاب القليب:(( ما أنت بأسمع لي منهم )) وكذلك قوله في الميت (( وإنه ليسمع قرع نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين وهذه النصوص تثبت سماعهم, فكيف الجمع بين هذه النصوص التي تنفي سماعهم والتي تثبت سماعهم؟
وأقول الجواب:- إن الأصل المتقرر عندنا والذي لاينخرم أبداً بل هو ثابت الأركان بأدلة السنة والقرآن أنه لايمكن أبداً أن يتعارض نصان صحيحان مطلقاً وأقسم بالله على ذلك, بل وأباهل عليه أيضاً فإن هذا مما ليس فيه عندي أدنى أدنى أدنى شك بل هو من جملة المسلمات التي ليست مجالاً للأخذ والرد, وما كتبت هذه الرسالة إلا لبيان ذلك الأصل, وقد تقرر عندنا أيضاً أن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن, وأنه لايجوز أن نبطل شيئاً من الأدلة الثابتة إذا كان يمكن أن نعمل بها, وما ذكرناه في هذا الفرع هو من ذلك فالجمع بين هذه النصوص المذكورة سهل جداً وبيان ذلك أن يقال:- إن السماع عندنا نوعان:-
الأول: سماع جارحة مجرد.
الثاني: سماع انتفاع يعقبه الاتباع والامتثال.
__________
(1) سورة فاطر آية (22)
(2) سورة الروم آية (52)(1/28)
فالمنفي عن أصحاب القبور هو السماع الثاني, والمثبت لهم هو الأول, وهذا الجامع بين هذه الأدلة, وإنما يحصل الاختلاف إذا كان السماع المنفي هو السماع المثبت, ولكن ليس كذلك, بل الأمر هو ما ذكرته لك من أن الإسماع المنفي هو سماع الفهم والقبول والانتفاع والاتباع, والمقصود من الآية:- أنك يامحمد كما تسمع الموتى في قبورهم فكذلك لاتسمع الموتى في قبورهم, وأما إسماعه - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب القليب, فهو سماع جارحة مجرد, وهذا قد أتت الأدلة بإثباته كما في الحديث المذكور(( وإنه ليسمع قرع نعال أصحابه )) وكذلك شُرع السلام على أهل القبور لمن زارهم أو مرَّ بهم, وما ذلك إلا أنهم يسمعون أحياناً, لكن هذا السماع مجرد عن الانتفاع, ولذلك فإن بعض الناس من أهل البدع تجده يقرأ القرآن في المقبرة محبة منه في أن ينتفع أهل القبور, وهذا قد خلط بين السماعين فإنه يظن أنهم يسمعونه سماع انتفاع, وهذا خطأ ظاهر, فضلاً عن كونه أمراً محدث وشر الأمور محدثاتها وبه تعلم أيضاً أن الراجح في قضية تلقين الميت المنع, وذلك لعدم الدليل الصحيح الصريح في هذه المسألة وإنما هي مرويات تقال ولا صحة لها وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وأيضاً نقول :- هذا الملقن ظن أن المقبور يسمعه سماع انتفاع, وهذا ظن خاطئ لأن سماع المثبت لأهل القبور أحياناً إنما هو سماع جارحة مجرد عن الانتفاع, وبه تعلم أيضاً أن من يدعون أصحاب القبور ويستغيثون بهم من دون الله تعالى قد وقعوا في عظائم الشرك المناقض للتوحيد بالأدلة المقررة في ذلك من الكتاب والسنة, ولكن هم ظنوا مع ذلك أن الأموات يسمعون دعائهم دعاء من يوصل النفع لغيره ومن عنده القدرة في إجابة دعاء من دعاه وهذا ضلال مبين وخسران في العمل, وبهذا التخريج والجمع لايكون بين الأدلة أي إشكال ولله الحمد والمنة, وبعض أهل العلم جمع جمعاً آخر وهو قوله:- إن الله تعالى(1/29)
قد رد على أصحاب القليب أرواحهم حتى سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويروى ذلك عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- وهذا ليس ببعيد لكن يحتاج له نقل ثابت لأن المسألة غيب والأول كأنه الأقرب وخلاصته أن يقال:- إن السماع المثبت لأصحاب القبور إنما هو سماع الجارحة المجرد, والسماع المنفي إنما هو سماع الانتفاع الذي يعقبه الإتباع والامتثال, والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع الثامن
قال الله تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ } (1) فالله هنا قد أنكر على المشركين نسبة السيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أن الحسنات والسيئات من عنده جلَّ وعلا وقال بعدها { مَّآأَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمآأَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } (2) ففي هذه الآية نسب الله تعالى السيئة لنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف مرة ينكر على من نسب السيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم هو ينسبها إليه؟ أليس هذا من الاختلاف؟
__________
(1) سورة النساء آية (78)
(2) سورة النساء آية (79)(1/30)
الجواب:- بالطبع لا, وإنما هذا شيء يثور في الذهن بسبب قلة الفهم وقصور العلم وإلا فأهل العلم رحمهم الله تعالى قد قالوا في هذه الآيات كلمتهم وبينوا أن الأمر لاإشكال فيه أبداً بل هو متفق ومؤتلف ولكن يجب على من خفي عنه شيء من معاني القرآن أن يمتثل قوله تعالى: { فَسْأَلُواْ أَهْلَ الذَّكْرِ إِن كُنتُمْ لاتَعْلَمُونَ } (1) أما أن يقدح أو يسيء الظن في النص مباشرة فإن هذا قلة أدب وذهاب حياء وويل ثم ويل لمن فعل ذلك أو جَرَّأَ على فعله وهذان النصان المذكوران متفقان مؤتلفان ليس بينهما أي نوع إشكال وبيان ذلك أن يقال:- إن المراد بالحسنات هنا مايصيب الناس من النعم والمطر والنصر في الحروب وإنبات الأرض ورزق الأولاد ونحو ذلك فكل ذلك يسمى (حسنات) والمراد بالسيئات هنا هي مايصيب الناس من القحط وجدب الأرض وموت الأنفس والهزيمة في الحروب والزلازل والبراكين والفيضانات والأمراض العامة كالطواعين ونحوها فهذه الأشياء تسمى (سيئات), إذا علمت هذا فاعلم أن الحسنات والسيئات بهذا الاعتبار لنا فيها نظران:-
__________
(1) سورة النحل آية (43)(1/31)
نظر من ناحية مقدرها وموجدها ونظر من ناحية أسبابها, فأما هي بالنظر الأول فكلها من الله تعالى فالحسنات والسيئات من الله تعالى تقديراً وإيجاداً, فقوله تعالى { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ } أي من عنده باعتبار الخلق والتكوين والإيجاد والتقدير والتصريف, وقولهم: { هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } أي وجودها من طرفك وإنما هي شؤم ووجودك بيننا, فنفى الله تعالى ذلك بقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ } وأما بالنظر الثاني أي بالنظر إلى الأسباب فإن السيئة تُنسب لكسب الإنسان كما قال تعالى: { وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } (1) وقوله تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (2) وقوله تعالى: { أَوَلَمَّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } (3) ونحو هذه الآيات, والمشركون في نسبة السيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قفوا أثر من قبلهم من اليهود الذين قالوا لموسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَأِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } (4) أي يقولون إنما أُصبنا بذلك بسبب وجودك ياموسى بيننا فبين الله تعالى أن هذه النسبة خطأ وأن المتصرف وحده والمقدر للأشياء كلها إنما هو الله وحده لاشريك له, وهذا واضح إن شاء الله تعالى والخلاصة أن يقال:- إن الحسنات والسيئات بالاعتبار المذكور- أي بمعناها الذي ذكرته لك - لها نسبتان, نسبة إيجاد وتقدير وتصريف فلا يجوز نسبتها إلا إلى الله تعالى,والثانية:- نسبة سببية فتنسب لنا وبعبارة أخرى
__________
(1) سورة الشورى آية (30)
(2) سورة الروم آية (41)
(3) سورة آل عمران آية (165)
(4) سورة الأعراف آية (131)(1/32)
أقول:- السيئات تنسب لله تقديراً وإيجاداً وتنسب للخلق تسبباً واكتساباً فلا بد من التفريق بين النسبتين حتى يزول ماقد يثور في الذهن من الإشكال وهذا الكلام منبثق من قاعدة :- الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن والله أعلى وأعلم.
الفرع التاسع
لقد قال الله ربنا جلَّ وعلا في محكم كتابه الكريم: { نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ } (1) وقال تعالى: { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } (2) ففي هذه الآيات نسبة النسيان له جلَّ وعلا بينما نجد في آياتٍ أخرى نفي النسيان عنه كما في قوله تعالى: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنسَى } (3) وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (4) فهذه الآيات تنفي النسيان عنه, فكيف مرة يثبت النسيان له ومرة ينفيه؟
والجواب:- نحن لانحيد أبداً ولا نزيغ عن أصلنا المتقرر أنه لايوجد بين الأدلة الصحيحة أي اختلاف أو تنافر أو اضطراب لأنها من عند الحكيم الحميد الذي هو أصدق من كل أحد قيلاً وأصدق من كل أحد حديثاً.
ونؤمن أيضاً إيماناً خالياً من الزلل أن الواجب هو الجمع بين الأدلة ماأمكن ذلك, وأنه لايجوز إبطال شيء من الأدلة إذا كان إعماله ممكناً, وهذه الآيات من ذلك وبيان ذلك أن يقال:- إن النسيان له في لغة العرب معنيان:-
__________
(1) سورة التوبة آية (67)
(2) سورة السجدة آية ( 14)
(3) سورة طه آية (52)
(4) سورة مريم آية (64)(1/33)
نسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء, ومعناه انقطاع التفكير وعزوب هذا الشيء عن القلب, وهذا نقص في الخلق وهو النسيان المنفي عن الله تعالى, لأن الواجب لله تعالى إنما هو الكمال المطلق وهذا النسيان نقص ننزه الله تعالى عنه, فالواحد منا قد يضع ما يخصه في مكان ثم ينساه, فالنسيان هنا هو الغفلة وهي نقص لا يليق به جلَّ وعلا لأن الله تعالى له الكمال المطلق الذي لاحدود له في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله جلَّ وعلا فله العلم المطلق, والإحاطة المطلقة الزمانية والمكانية وله السلطان المطلق, وله الحمد المطلق, فلا يمكن أبداً أن يعتريه جلَّ وعلا نسيان بهذا المعنى, وإنما هذا لنا ونحن نتصف به, فنحن الذين نغفل ونحن الذين نسهو ونحن الذين نذهل, لأننا ناقصون في ذواتنا وصفاتنا وأفعالنا, وأما هو جلَّ وعلا فإنه الكامل من كل وجه وصفاته لها الكمال المطلق من كل وجه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله جلَّ وعلا, فالنسيان المنفي في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } وفي قوله: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } هو النسيان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء, وأما النسيان المثبت فإنه النسيان الثاني:- والذي هو بمعنى الترك عن علم وعمد جزاء ومقابلة للمتروك أي من باب العقوبة, وهذا الترك يسمى في لغة العرب نسيان والقرآن نزل بلغة العرب لفظاً وأسلوباً, وهذا النسيان لاغفلة فيه ولا ذهول ولا نقص.(1/34)
وإنما هو ترك منه جلَّ وعلا لمن يستحقه عقوبةً ونكالاَ ولذلك لاتجده- أي النسيان- منسوباً إلى الله تعالى إلا من باب الجزاء والمقابلة, كقوله تعالى: { نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ } أي تركهم عن علم وعمد جزاء ومقابلة لهم على نسيانهم له, وكقوله تعالى: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } (1) أي وكذلك اليوم تترك عن علم وعمد جزاء وفاقاً لك عل فعلك وهو نسيان الآيات, والمراد بنسيانه في الآيات أيضاً هو تركهم لها عن علم وعمد استكباراً وعناداً وكراهية للحق واستبدالاً لها بغيرها, فكذلك قوله تعالى: { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } (2) أي فاليوم نترككم عن علم وعمد جزاءً ونكالاً وعقوبة لنسيانكم لقاء يومكم هذا ونسيناهم يراد به تركهم الإيمان به والعمل له والاستعداد له, وبهذا لايكون بين الأدلة أي إشكال كعادتها جعلني الله وإياك من أتباعها وأنصارها وإتماماً للفائدة أنبهك على أمرين:-
الأول:- إن قولنا:- نسيان الله تعالى معناه الترك عن علم وعمد ليس هذا من باب الكلام في الكيفيات وإنما هو من باب الكلام في معاني الصنعات وأنت خبير بأن القاعدة عند أهل السنة- رحمهم الله تعالى- تنص على أنهم يعلمون المعاني ويفوضون الكيفيات إلى الله تعالى, وبناءً عليه فنقول في النسيان كما نقوله في سائر الصفات, نعلم معناه في اللغة وهو الترك عن علم وعمد, ونذر كيفية هذا الترك الذي سيكون عليه إلى الله تعالى, لاندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولامتوهمين بأهوائنا فإن الكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى.
__________
(1) سورة طه آية (126)
(2) سورة الجاثية آية (34)(1/35)
الثاني:- أن النسيان على هذا التخريج يدخل تحت قاعدة الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار تثبيت لله تعالى حال كمالها وتنفى عنه حال نقصها, أي أن النسيان ليس من قبيل صفات الكمال حتى تُثبت لله على وجه الإطلاق ولا من قبيل النقص المطلق حتى تنفى عن الله على وجه الإطلاق بل هو من الصفات التي هي كمال من وجه ونقص من وجه فيُثبت لله تعالى حال كونه كمالاً ويُنفى عنه حال كونه نقصاً, وقد علمت أن النسيان يكون نقصاً إذا كان بمعنى الغفلة والذهول عن الشيء وهو النسيان المنفي في الآيات, ويكون كمالاً إذا كان بمعنى الترك عن علمٍ وعمدٍ جزاءً ومقابلة وهو النسيان المثبت لربنا جلَّ وعلا في الآيات, وبهذا لايكون بين هذه النصوص أي اختلاف وجمعنا بينها لأن المتقرر بالاتفاق أن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع العاشر(1/36)
إن قلت:- لقد ثبت في الصحيح أن المؤمنين يرون الله تعالى في عرصات يوم القيامة كما في قوله بعد مجيء الله إليهم (( ماذا تنظرون؟ فيقولون ننظر ربنا, فيتجلى لهم يضحك, بعدما يقول لهم:أنا ربكم)) فهذا الحديث يُثبت أنهم قد رأوه وتثبت أحاديث أخرى بأنهم بعد رؤيته في الجنة لم يعطوا من النعيم واللذة شيئاً أعظم من رؤيته جلَّ وعلا أي كأنهم لم يروه من قبل, وقد ثبت في الحديث السابق أنهم قد رأوه في العرصات, فهي رؤيتان, في العرصات وفي الجنة لكن رؤيتهم له جلَّ وعلا في الجنة مشعرة بأنها رؤية لم تتقدمها رؤية فكيف الجمع بين ذلك وكل الأحاديث ثابتة, فأقول:- نحن مازلنا ولا نزال على اعتقادنا في الأدلة ثابتين لا تزعزعنا الشبهات ولا تلبس علينا الأبالسة فإن الأدلة كلها من مشكاة واحدة وماذكرتموه فيها, لااختلاف بينه ولاتناقض ولا إشكال, وبيان ذلك أن يقال:- إننا نعتقد الاعتقاد الجازم الذي لايخالطه شيء من الريب أن الله تعالى يُرى يوم القيامة رؤية عيان بالأبصار, على الصفة والكيفية التي يريدها الله جلَّ وعلا وأن هذه الرؤية ستكون يوم القيامة في العرصات وستكون في الجنة على الكيفية التي يريدها ربنا جلَّ وعلا, وكل ذلك مما لا نزاع فيه بين السلف الصالح, وسواءً تبين لنا الجمع أو لم يتبين, فالواجب علينا هو الإيمان بذلك ونذر الخوض في كيفيته ولا ندخل في ذلك بالعقول الضعيفة العاجزة القاصرة فإن الأمر غيب والواجب هو الإيمان بالغيب وأحاديث الرؤية من المتواترات التي هي قطعية الثبوت, إذا علمت هذا فاعلم أن الرؤية قسمان:- رؤية تعريف ورؤية تلذذ ونعيم, فهما رؤيتان وليست رؤية واحدة وبينهما عدة فروق:-(1/37)
الأول:- أن المقصود من الرؤية في العرصات التعريف فقط, فهي رؤية تعريفية لا رؤية تلذذ وحبور ونعيم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:(( فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون)) فدل هذا على أن الله تعالى يتعرف لعباده المؤمنين بهذه الرؤية فنالوا من هذه الرؤية ماأراده الله جلَّ وعلا وهو التعريف فقط, وأُخرت لهم الرؤية الثانية وهي رؤية التنعيم والتلذذ حتى يدخلوا الجنة, فتحقق بذلك من الرؤيتين ماأراده الرب سبحانه وتعالى, فالأولى تعريفية والثانية تلذذ وتنعم فمقصود الرؤيتين مختلف, فهذا هو الفرق الأول.
الثاني:- أن الرؤية في العرصات ليست خاصة بالمؤمنين فإن العلماء اختلفوا في ذلك على أقوال فقيل يراه المؤمنون فقط ، وقيل يراه المؤمنون والمنافقون وقيل يراه كل أهل الموقف ولكن يحتجب عن الكفار زيادة في عذابهم والتنكيل بهم, وهذا الأخير هو الأقرب إن شاء الله تعالى ومال إليه أبو العباس بن تيمية وغيره من المحققين, وأما الرؤية في الجنة فإنها رؤية خاصة بأهل الجنة فقط, لايشاركهم فيها أحد من الخلق ولا شك أن ما تحصله القلوب بالرؤية الخاصة يختلف كثيراً جداً عما تحصله بالرؤية العامة, فنالوا من الرؤية الخاصة في الجنة النعيم المقيم واللذة الكاملة ونالوا من الرؤية العامة التعريف والأمن والله أعلم.(1/38)
الثالث:- أن الله تعالى لم يرد بحكمته جلَّ وعلا أن يُعطي عباده المؤمنين برؤيته في العرصات النعيم المطلق واللذة المطلقة, وذلك لأنهم لايزالون في مواقف الحساب, بل أراد من هذه الرؤية أن يعطيهم مطلق النعيم فقط, فتحقق ذلك وأما الرؤية بعد دخول الجنة فإن المقصود فيها أن يُعطى أهل الجنة النعيم المطلق واللذة المطلقة فتحقق ذلك, وهناك فرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق, معروف عند أهل العلم فالرؤية في العرصات أُريد بها مطلق النعيم واللذة فقط, أي درجة من درجات النعيم واللذة, لا كلها, والرؤية في الجنة أُريد بها النعيم المطلق واللذة المطلقة التي لانعيم ولا لذة أعظم منها, نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن لا يحرمنا لذة النظر إلى وجهه والشوق إلى لقائه.
الرابع:- أن المؤمنين لما رأوه في العرصات إنما رأوه في موقف الخوف مما أمامهم ومايرونه من الأهوال العظيمة والشدائد الكبيرة التي تزعج القلوب وتفزع النفوس وتشيب لها مفارق الولدان, وأما رؤيتهم له جلَّ وعلا بعد دخول الجنة فإنها في دار الأمن المطلق الذي لاخوف فيه والنعيم الذي لابؤس يخالطه واللذة التي لاكدر يعتريها, والنفوس مقبلة كل الإقبال فلا أهوال تفزعها ولا هموم تشغلها وتصرفها فأين هذه من هذه؟ فإن الشيء إذا رأيته وقلبك قد امتلأ بالشواغل والصوارف, لاشك أنه يختلف إذا رأيته وقلبك فارغ من كل صارف وشاغل وهذا معلوم لكل أحد نعوذ بالله من موت القلوب وعمى البصيرة والله المستعان.
فتبين بهذا أن الفرق بين الرؤيتين ثابت بالشرع والعقل والفطرة فمن أراد التسوية بين الرؤيتين فهو من أبعد الناس عن الهدى وإنما أتي من جهله وغفلته نعوذ بالله من الهوى والجهل والغفلة وعلى ذلك فلا إشكال ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة وهو أعلى وأعلم.
الفرع الحادي عشر(1/39)
أقول:- لقد قال ربنا جلَّ وعلا في محكم كتابه الكريم :- { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِّيِنَ } (1) وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - (( وختم بي النَّبيون)) وقال عليه الصلاة والسلام (( وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) فهذه الأدلة تفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وأنه لانبي بعده ولكن ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام)) وقال عليه الصلاة والسلام:(( كيف بكم إذا كان فيكم ابن مريم وإمامكم منكم )) وعيسى عليه الصلاة والسلام نبي من الأنبياء, فكيف ينفى النبي بعده ثم يخبر بنبي بعده؟
__________
(1) سورة الأحزاب آية (40)(1/40)
والجواب:- الأمر سهل لاإشكال فيه ولا اختلاف, وأقول أولاً:- نحن نؤمن إيماناً جازماً ونصدق تصديقاً كاملاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والرسل وأن الله تعالى قد كمَّل به بناء الرسالة, وأنه لا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - ونؤمن أيضاً بأنه سوف ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان ونزوله من علامات الساعة الكبرى وهذا النزول لايتنافى مع قوله تعالى { وَخَاتَمَ النَّبِّيِنَ } لأن النبي المنفي هنا في هذه الآية إنما هو الذي يبعث برسالة جديدة وشريعة جديدة أو يوحى إليه بكتابٍ جديد, فهذا النبي بهذا الوصف قد انقطع بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي سيدعيه بعده ثلاثون كذابون كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( سيكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله ... الحديث)) فالنبوة بالمعنى السابق قد انقطعت, أما نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان فليس على هيئة أنه نبي جديد برسالة جديدة إذ لو كان كذلك لصار بين الأدلة خلاف ولكن نزوله عليه السلام في آخر الزمان يكون فيه تجديد لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - , ولذلك فهو يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقيم علم الجهاد ويثبت الأمة في زمنه ولا يقبل إلا الإسلام الذي هو شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ويقيم العدل في الأمة فهو إذاً مجدد, وليس بنبي جديد ولا رسول جديد, وهذا واضح إن شاء الله تعالى فإن قلت:- كيف تقول إن عيسى عليه السلام لم يبعث برسالة جديدة وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يضع الجزية, ومن المعلوم المتقرر أن الشريعة جاءت بقبول الجزية من أهل الكتاب, فلو كان مجدداً لطالب بها لا أنه يضعها, فلما وضعها علمنا أنه جاء بشرع جديد؟(1/41)
فأقول:- إن وضع الجزية في عهد عيسى عليه السلام أي في آخر الزمان هو من شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه نسخ لشريعته بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى ذلك وأقره ولم ينكره فهي شريعة إقرارية أي أنه لما أقرها دلَّ على أنه شرع إذ لو لم تكن شرعاً, لما أقر وضعها ولأمر الأمة بإنكار ذلك, ولقال لنا:- لا تتابعوه على وضعها, ولكن لم يحصل شيء من ذلك فدل ذلك على أنه حكاية راضٍ بذلك مقر له, وقد تقرر في الأصول أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة على الجواز وبذلك فلا يكون بين هذه النصوص أي إشكال أو اختلاف كالعادة المطَّردة فيها, والخلاصة أن يقال:- إن النبي المنفي هو النبي الذي يبعث بشريعة جديدة أو كتاب جديد, وأما نزول عيسى فإنه على هيئة مجدد من جملة مجددي هذه الأمة بدليل أنه لايتقدم إمام ذلك الزمان وإنما يصلي خلفه وقد قال عليه الصلاة والسلام عن ذلك:(( تكرمة لهذه الأمة )) فالحمد لله رب العالمين على هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة والله أعلم.(1/42)
فائدة:- أقول:- لقد أخبر الله تعالى أنه رفع عيسى إليه وهو حي كما قال تعالى: { بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً } (1) وقال تعالى { إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } (2) أي منيمك كما قاله طائفة كبيرة من السلف, فهو في السماء حي حياته الدنيوية وقد ثبت بالنص الصحيح الصريح في حديث المعراج المتفق على صحته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في السماء الثانية, كما في قوله:(( ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فقال لخازن السماء افتح قال:- من أنت قال:- جبريل قال:- ومن معك؟ قال:- محمد - صلى الله عليه وسلم - , قال:- قد بعث عليه؟ قال قد بعث إليه, ففتح لنا فإذا أنا بعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فقالا:- مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح )) الحديث وهذا اللقاء يفيد أن عيسى عليه السلام من جملة الصحابة, لأن الصحابي هو من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على الإيمان, وهذا الحد ينطبق تماماً على عيسى عليه السلام, ولذلك فقد عدَّه الإمام الذهبي من جملة الصحابة وهو من آخرهم موتاً, فإن قلت:- أولم يلتقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلة بآدم ويوسف وهارون وإدريس ويحيى بن زكريا وإبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام فهل هؤلاء أيضاً من الصحابة؟
__________
(1) سورة النساء آية ( 158)
(2) سورة آل عمران آية (55)(1/43)
فأقول:- لا ليسوا من الصحابة لأن لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم كان بعد موتهم الميتة التي كتبها الله عليهم, واللقاء من بعد الموت لاأثرله في الصحبة, وأما عيسى بن مريم عليه السلام فإنه رُفع إلى السماء حياً وكان لقاؤه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حال كونه حياً الحياة الدنيوية أي أن الميتة التي كتبها الله عليه لم يمتها بعد, فهو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين, وبناءً عليه فيقال:- عيسى عليه الصلاة والسلام باعتبار نبوته المتقدمة ويقال أيضاً:- عيسى - رضي الله عنه - باعتبار صحبته المتأخرة, فصلى الله عليه وسلم ورضي عنه, فلله دَرُّ هذه الأمة ماأعظمها وأشرفها وأكرمها على ربها جلَّ وعلا فإنها فُتحت بخير الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - وختمت بخير المجددين عيسى بن مريم عليه السلام, وأي فضلٍ هذا, وأي شرفٍ هذا, فالحمد لله أن جعلنا من هذه الأمة وأسأله بأسمه الأعظم أن يزيدها شرفاً ورفعة والله أعلم.
فائدة:- إن قلت:- لقد اتفقنا على أن الرسل أفضل من الأنبياء وأن أولوا العزم أفضل الرسل, وأولو العزم هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل السلام وأزكى التسليم, فعيسى عليه السلام من جملة أولي العزم فكيف يكون في السماء الثانية ويوسف في السماء الثالثة مع أنه خير من يوسف عليهما الصلاة والسلام, وإدريس في السماء الرابعة وعيسى أفضل من إدريس عليهما الصلاة والسلام, وهارون في السماء الخامسة وعيسى أفضل من هارون عليهما الصلاة والسلام, ومن حق الفاضل أن يكون أعلى من المفضول فكيف يكون عيسى عليه السلام في السماء الثانية, ومن ذكر في السموات فوقه مع أنه أفضل منهم عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم؟(1/44)
فأقول:- بيان ذلك أن يقال:- إن التفاضل في المراتب الأخروية إنما هو بعد الموت وقد علمت- بارك الله فيك- أن عيسى عليه الصلاة والسلام حي في السماء الحياة الدنيوية فإنه رفع إليها حياً, كما قال تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } (1) فالتفاضل في المراتب إنما يكون لمن مات, وهو لم يمت إلى الآن, فقد أخر الله موته إلى آخر الزمان, وسينزل إلى الدنيا في آخرها فكان في السماء الثانية ليكون أسمح لنزوله, كما أن آدم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء والرسل ولكنه في السماء الدنيا وحكمة ذلك ليكون شاهداً على عمل بنيه وعلى هذا فلا إشكال ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة والله أعلى وأعلم.
الفرع الثاني عشر
أقول:- لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )) فهي باقية إلى قيام الساعة, ولكن قد قال عليه الصلاة والسلام:(( ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة )) فهذا الحديث يثبت أن الذين تقوم عليهم الساعة إنما هم شرار الناس, فكيف الجمع بين ذلك؟
__________
(1) سورة النساء آية (157)(1/45)
والجواب:- أن تعلم يا رعاك الله تعالى أنه لا اختلاف بين النصوص الصحيحة أبداً, وهذا مما لا نقاش فيه وهذه النصوص منها وبيان الأمر أن يقال:- إن المتقرر في القواعد هو أن خير مافسرت به السنة هو السنة وقد ورد تفسير الأمر المذكور في الحديث في قوله((حتى يأتي أمر الله)) وأن المراد منه ليس قيام الساعة الكبرى وإنما المراد به الريح التي تقبض بها أرواح المؤمنين فأمر الطائفة المنصورة ينتهي عند هبوب هذه الريح فهي ريح تهب أطيب من ريح المسك تدخل تحت أباط المؤمنين فتقبض أرواحهم ثم يبقى شرار الناس بعد هذه الريح فعليهم تقوم الساعة كما ثبت ذلك في الحديث بنحو هذا اللفظ وعليه فأقول:- إن الخطأ إنما هو في فهم المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( حتى يأتي أمر الله)) فإن من قام في ذهنه الإشكال إنما فهم أن المراد بهذا الأمر هو قيام الساعة وهذا ليس بصحيح بل الصواب أن المراد به هو هبوب هذه الريح, وهبوب هذه الريح يكون قبل قيام الساعة الكبرى بما شاء الله تعالى من الوقت, وإذا ذهبت هذه الريح فقد انتهى أمر هذه الطائفة المنصورة وأما أمر أشرار الناس فإنه يبقى بعد هبوب هذه الريح بما شاء الله تعالى من الوقت فعليهم تقوم الساعة الكبرى نسأله جلَّ وعلا بأسمه الأعظم أن يجعلنا من هذه الطائفة بحوله وقوته, فلا اختلاف ولا إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلى وأعلم.
الفرع الثالث عشر
أقول:- لاشك أن دليل الإجماع من الأدلة الشرعية التي يجب الأخذ بها واعتمادها والعمل بمقتضاها, وقد اتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية لايجوز, ولا نعلم أحداً من أهل السنة مخالفاً في ذلك.(1/46)
ولكن عندنا حديث أبي هريرة في الصحيح في محاجة آدم وموسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ,وأن موسى عليه السلام قال لآدم عليه السلام(( أُخرجنا من الجنة بخطيئتك فقال آدم:- أتلومني على أمرٍ قد كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عاماً )) فهنا آدم عليه السلام قد احتج بالقدر على أكله من الشجرة وهو معصية فكيف يجمع بين هذا الحديث وبين إجماع أهل السنة من أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية؟
والجواب:- الأمر سهل ولله الحمد والمنة وقبل أن أبدأ في الجواب أقول:- اعلم - رحمك الله تعالى - أن الاحتجاج بالقدر لا يخلو من ثلاث حالات:-
الأولى:- أن يحتج بالقدر على ما أنزل من مصائب فهذا جائز باتفاق أهل السنة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - :(( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل )) والحديث في الصحيح, وقد قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه (1) } قال السلف:- هو المؤمن تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم, فإذا نزلت المصيبة فالاحتجاج بالقدر هو المسلك الشرعي وهذا لا نقاش فيه.
الثاني:- أن يحتج بالقدر على فعل المعصية التي قد تاب الإنسان منها, وهذا جائز أيضاً.
الثالث:- أن يحتج بالقدر على فعل المعصية التي لا يزال يقارفها ويحتج بالقدر على فعلها ليسوغ لنفسه الاستمرار عليها وهذا هو المحرم باتفاق أهل السنة وهو المقصود بقول أهل السنة:- لا يجوز الاحتجاج بالقدر في المصائب أي الذنوب والمعاصي التي لا يزال يقارفها, فبالتفريق بين هذه الأحوال الثلاث يزول الإشكال فنقول:- إن أبانا آدم عليه السلام قد احتج بالقدر ولا شك, ولكن هل احتج بالقدر على معصية لا يزال يفارقها؟
__________
(1) سورة التغابن آية (11)(1/47)
الجواب:- بالطبع لا, فإنه قد تاب منها وتاب الله عليه وقد أنزل الله تعالى توبته في القرآن الكريم ولا أظن مسلماً يشك في ذلك, فهذا الحديث ليس فيه متمسك للمحتجين بالقدر على معاصيهم التي لا يزالون يفعلونها لأنه عليه السلام لم يقل ذلك إلا بعد أن تاب الله عليه فاحتجاجه بالقدر إذاَ لا يخلو من الحالتين الأوليين فقط وأما الثالثة فقد بطلت, فإما أن نقول:- إن احتجاجه بالقدر إما أن يكون على معصية قد تاب منها وقد قرر أهل السنة أن ذلك جائز, وليس هو من الاحتجاج المنهي عنه, وإما أن نقول أن احتجاجه في هذا الحديث ليس على أكله من الشجرة أصلاً وإنما احتج على ذلك لخروجه من الجنة ونحن نعلم أن الخروج من الجنة من أعظم المصائب فهو يحتج بالقدر على المصيبة الواقعة وقد قررنا أن ذلك جائز بالاتفاق, وكلا الجوابين صحيحين إلا أن الأصح منهما هو الثاني, وهو أنه احتج بالقدر على المصيبة النازلة, لأن موسى أعلم من أن يلوم أباه على معصية قد تاب الله عليه منها, وعلى كل حال فالذي أجمع أهل السنة- رحمهم الله تعالى- على منعه هو أن يحتج العاصي على فعل معصيته التي لايزال يقارفها ويقصد بهذا الاحتجاج أن يسوغ لنفسه الاستمرار عليها وبه تعلم أنه لا اختلاف بين الإجماع وهذا الحديث, فإن الأمة لاتجتمع على ضلالة أبداً ولا يمكن أبداً أن يقع إجماع مقتضاه مخالفة النص, ومن ادعى وجود إجماع مخالف لشيء من النصوص, فلا يخلو إما أن تكون المسألة ليست بإجماع أصلاً, وإما أن يكون النص ليس بصحيح أصلاً أو يكون من النصوص المنسوخة فانتبه لهذه المسألة فإنها مهمة جداً وبما أن الإجماع من أدلة الشريعة فإنه يندرج تحت القاعدة التي نحن بصدد تقررها وهي وجوب الجمع بين الأدلة, والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع الرابع عشر(1/48)
إن قلت:- كيف نجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم - :(( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر )) وقوله عليه الصلاة والسلام:(( قال الله تعالى:- يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) فهذه الأحاديث فيها النهي الأكيد والنهي الشديد عن سب الدهر والدهر هو مجموع الليالي و الأيام, فسابُ الدهر مؤذٍ لله تعالى, فكيف نجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم )) فهذا الحديث فيه سب للدنيا فكيف ينهى عن سب الدهر ثم يسب الدنيا؟
والجواب:- أن يقال:- لا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة والجمع بينهما من وجهين:-(1/49)
الأول:- أن هذا الحديث قد ضعَّفه بعض أهل العلم, فإذا ثبت ضعفه فلا كلام لنا فيه لأن الأحاديث الضعيفة لا تكون مصادمة للنصوص الصحيحة, ولكن قد صححه بعض أهل العلم وحينئذٍ فنذهب للجواب الثاني وهو أن يقال:- ليس هذا من سب الدهر في شيء وإنما هو خبر من الأخبار كما يخبرنا عن وجود الجنة ووجود النار والملائكة فيقول:- النار موجودة والجنة موجودة والكفر لا يحيه الله, فكان مما أخبرنا به أن هذه الدنيا ملعونة, فهو لم ينشئ سباً وإنما هو إخبار بالسب أي أنه لم يلعنها إنشاءً وإنما لعنها إخباراً وهذا ليس من سب الدهر في شيء وذلك كقوله تعالى عن لوط : { هَذَا يَوُمٌ عَصِيب } إنما هو خبر عن حقيقة هذا اليوم عنده, وكقولنا هذا يوم حار أو شديد الضيق, فهذا ليس من سب الدهر, وإنما هو مجرد خبر, والذي يكون من سب الدهر هو أن يقال:- لعن الله هذا الدهر, أو ما أقبح هذا الزمان أو قبح الله هذا الزمان, وما أشبه ذلك فالمنهي عنه هو إنشاء اللعن, لا الإخبار به, فالإنشاء شيء والإخبار شيء آخر فقوله:(( لا تسبوا الدهر )) أي لا تنشؤا سباً للدهر, وقوله :(( الدنيا ملعونة )) خبر عن حقيقة هذه الدنيا وأنها ملعونة, واللاعن هو الله الذي خلقها , فهو إخبار عن اللعن لا إنشاءً للعن جديد, فلا تخلط بين الخبر والإنشاء والله أعلى وأعلم.
الفرع الخامس عشر
إننا نجد الله تعالى قد أجاز التعدد في النكاح وذلك في قوله { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } (1) واشترط جواز ذلك بإمكان العدل فقال: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } (2)
__________
(1) ,2 سورة النساء آية (3)
(2)(1/50)
ثم نجده جلَّ وعلا في آية أخرى قطع دابر العدل في قوله تعالى: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِسَآءِ وَلَو حَرِصْتُم } وبهذا يكون قد حرم ما تقدم جوازه لأنه إذا تخلف الشرط تخلف المشروط فبما أن العدل غير مقدور عليه بنص الآية فيكون التعدد ممنوعاً إذاَ بنص الآية فلماذا يجيزه أصلاً مع علمه بعدم القدرة عليه؟(1/51)
والجواب:- أن الإشكال إنما يثور في ذهن من ظن أن العدل المقصود في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } هو بعينه العدل المنفي في قوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِسَآءِ وَلَو حَرِصْتُم (1) } وهذا خطأ وليس هو المراد بالآيتين وبيانه أن يقال:- إن العدل نوعان :- عدل واجب يأثم الإنسان إذا أخلَّ به, وعدل مندوب وهو العدل الذي لا يعاقب الله على تركه, فأما العدل الواجب بين النساء فهو العدل في الظاهر، في المبيت والسكن والنفقة والنظرة واللحظة والبسمة ونحو ذلك, فهذا كله من العدل الواجب, ويأثم الإنسان بتركه وهو العدل الذي يبحثه الفقهاء في باب القسم بين النساء وباب معاشرة الزوجين, فهذا العدل بهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } وهذا العدل داخل تحت قدرة الإنسان ووسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, وأما العدل الآخر فهو العدل الباطني من العدل في المحبة القلبية والميل إلى إحداهما فهذا مالا يستطيعه أحد, بل وكذلك العدل في الجماع لأنه مبني على الميل في الباطن, فالإنسان إذا أحب واحدة أكثر من الأخرى فلا شك أن جماعه لها سيكون أكثر فهذا العدل بهذا الاعتبار ليس من الواجبات المتحتمات لكنه من الأمور المرغب فيها, ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقسم بين نسائه في الظاهر ويقول:(( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )) والحديث فيه ضعف ولما سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه قال عائشة, وهذا العدل بهذا الاعتبار هو المنفي بقوله تعالى: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِسَآءِ وَلَو حَرِصْتُم } فالعدل المطلق من جميع الوجوه ظاهراً وباطناً بين النساء لا يستطيعه أحد لكن يبقى مطلق العدل ويجب منه العدل في الظاهر وهو الذي قد وردت الأدلة من السنة بالوعيد
__________
(1) سورة النساء آية (129)(1/52)
لتاركه كما يروى في الحديث (( من كان له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل )) وفيه ضعف وبناءً عليه فلا إشكال بين الآيتين ولله الحمد والمنة وخلاصة الأمر أن يقال:- العدل عدلان:- عدل واجب وعدل مستحب, فالعدل الواجب هو العدل في الظاهر وعليه قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } والعدل في الباطن هو العدل المستحب وهو المنفي بقوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِسَآءِ وَلَو حَرِصْتُم } وبعبارة أخرى أقول:- العدل المنفي هو العدل المطلق والعدل المثبت هو مطلق العدل والذي يجب منه العدل الظاهري فقط فإن أمور الباطن لا يملكها الإنسان لكن يجب على الإنسان أن لا يميل في الظاهر المشاهد بسبب ميله في الباطن, بل لابد أن يكبح جماح نفسه ويخفيه ولا يظهره حتى لاتقع المفسدة فأي اختلاف في هذا, فليس العدل المشترط في التعدد هو العدل المنفي بنص الآية, وبهذا فلا يكون بين الأدلة أي اختلاف كعادتها جعلنا الله وإياك من أتباعها, وجمعنا بين الآيتين لأن المتقرر عندنا أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله تعالى أعلى وأعلم .
الفرع السادس عشر
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(( وكسب الحجام خبيث )) ولكن ثبت عنه أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - (( احتجم وأعطى الحجام أجره )) وفي رواية (( أعطاه ديناراً )) فقد حكم عليه بأنه خبيث ومع ذلك فقد أعطاه ديناراً بعد حجامته فكيف نجمع بين حكمه هذا وإعطائه الحجام أجرته؟(1/53)
والجواب:- أن يقال:- لقد تقرر في الأصول أن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن ووجه الجمع هو أن تعلم أن الوصف بالخبث لا يستلزم التحريم, ولا النجاسة, فليس كل خبيث يكون حراماً أو نجساً, فالخبث شيء والتحريم والنجاسة شيء آخر, ويوضح ذلك الإشكال وصفه - صلى الله عليه وسلم - الثوم والبصل أنهما شجرتان خبيثتان ومع ذلك لم يقل أحد بتحريم أكلهما فيما نعلم فلا تلازم بين الخبث والتحريم ولا بين الخبث والنجاسة إذا علمت هذا فاعلم أن الوصف العام هو أن كسب الحجام خبيث بمعنى رديء وفيه دناءة أن يجعل رزقه هو التكسب بسحب الدم الفاسد فهذا لا شك أنه عمل لا ينبغي للأحرار أصحاب العزة والشرف فهذا الكسب من هذه المهنة لا يطيب للحر أكله ولذلك إذا أخطأ الحر واشتغل بذلك فينبغي له ألا ينفق على نفسه منه ولكن يعطيه البهائم والرقيق ولذلك لما سأله محيصة - رضي الله عنه - عن كسب الحجام نهاه عن ذلك فذكر له الحاجة فقال:- أعلفه ناضحك فالحر لا ينبغي له أن يحترف الحجامة ويجعلها مصدراً لقوته وكسبه, لأنه كسب خبيث رديء دنيء, ومهنة محتقرة ذميمة خسيسة لا تنبغي لأهل المقامات والشرف والحسب والنسب, أما نفس الكسب فإنه حلال في ذاته لكنه خبيث فالنبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى الحجام ديناراً لأن الكسب حلال, لكنه خبيث بالنسبة للحاجم وليس بالنسبة للمحجوم, أي هو خبيث بالنسبة للأخذ لابالنسبة للمعطي وبعبارة أخرى أقول:- إن الخبث نوعان:- خبث حسي وهو خبث النجاسة الحسية كنجاسة العذرة والبول ودم الحيض والدم المسفوح ونحوها مما ثبت في الشرع نجاستها, وخبث معنوي وهو الخبث باعتبار آخر كخبث الرائحة في الثوم والبصل, وخبث الدناءة في كسب الحجام والخبث المعنوي لا يستلزم النجاسة ولا التحريم وبهذا التخريج فلا يكون بين هذه النصوص أي إشكال ولكن أقول:- ينبغي أن يعلم أن الرجل إذا كان محتاجاً إلى هذا الكسب وليس له مايغنيه عنه إلا مسألة الناس فلا شك أنه خير من(1/54)
المسألة كما قال بعض السلف:- كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس, فقوله - صلى الله عليه وسلم - :((كسب الحجام خبيث)) دليل على حكم جعلها مهنة يتكسب منها وإعطاؤه الحجام ديناراً دليل على حله, إذاً فكسب الحجام حلال في ذاته ولكنه خبيث في وصفه, والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع السابع عشر
عندنا نصان يحتاجان إلى جمع وهما:- قوله تعالى { وَلايَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (1) وقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (2) فالله تعالى لا يعُذب أحداً بلا ذنب سابق, وهذا ماتقرر في قلوب المسلمين, ولكن ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(( الشمس والقمر ثوران مكوران في جهنم )) وهو في الصحيح, ولما سمع الحسن هذا الحديث من أبي سلمة قال:- ماذنبهما؟ فقال أبو سلمة:- إنما أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكت الحسن فكيف نجمع بين تعذيبهما ولم يصدر منهما أي ذنب وإنما هما خلق مسخر من آيات الله الكونية وبين المتقرر أن الله تعالى لايعذب أحداً بلا ذنب؟
والجواب:- أن يقال:- إن تكوير الشمس والقمر في جهنم يوم القيامة ليس هو من باب تعذيبهما حتى يرد في الذهن هذا الإشكال, بل إن الشمس والقمر يكوران في جهنم ليعذبا أهل النار لا أنهما يُعَذبا, وإنما هما في النار كسائر الملائكة والأحجار التي في النار, فإنها لاتعذب بذلك, بل هي وسيلة وآلة للعذاب أي لإيصال العذاب لأهل النار, وليعلم من كان يعبدهما أن عبادتهما كانت باطلة وأن من عبد غير الله تعالى وأحبه فإنه يعذب به يوم القيامة, وذكر بعضهم أن الشمس والقمر مخلوقتان من النار وأعيدتا فيها, وعلى كل فالجواب الأول كافٍ إن شاء الله تعالى فالله تعالى لايظلم أحداً لكمال عدله جلَّ وعلا والجمع هذا ليس فيه تكلف, بل هو الحق لأن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع الثامن عشر
__________
(1) سورة الكهف آية (49)
(2) سورة العنكبوت آية (40)(1/55)
لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع التوارث من الأنبياء بقوله عليه الصلاة والسلام:(( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) "متفق عليه" فهذا الحديث يبين أن النبي لا يورث فكيف نجمع بين هذا الحكم وبين قوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيمَانُ دَاودَ } وقوله تعالى عن زكريا: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ { 5 } يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياًّ } (1) فهذه الآيات تفيد وجود التوارث بين الأنبياء وذريتهم فكيف الحديث ينفي التوارث والآيات تثبته؟
والجواب:- أن يقال:- لقد تقرر عند أهل العلم أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, وقد قسموا- رحمهم الله تعالى- الوراثة إلى قسمين:-
الأول:- وراثة حسية أي وراثة المال.
الثاني:- وراثة معنوية.
فالأنبياء صلى الله عليهم وسلم إذا ماتوا وخلفوا مالاً فإنه لا يورث وإنما يكون صدقة ينفق على الفقراء والمساكين, فذرية الأنبياء لا يرثون المال الذي خلفه الأنبياء, وهذا هو مايفيده الحديث بدليل قوله في آخره (( ماتركناه صدقة )) فظاهر ذلك أن المراد بالوراثة إنما هي الوراثة المالية لأن الصدقة تكون به, فدل ذلك على أن المراد بقوله ( لا نورث) إنما هي الوراثة الحسية أي وراثة المال, وأما الوراثة المعنوية وهي وراثة النبوة والعلم والملك فإنها ثابتة للأنبياء فيموت النبي ويرثه أحد أبنائه وراثة معنوية فيكون نبياً مثل أبيه وهذا هو المراد بالآيات المذكورة فإن سليمان إنما ورث من أبيه داود النبوة والعلم والملك وليس المراد وراثة المال بدليل أن داود عليه الصلاة والسلام له ذرية كبيرة, ومع ذلك لم يخص بالوراثة إلا سليمان عليه السلام فقط.
__________
(1) سورة مريم آية (5, 6)(1/56)
فلو كان المراد بالوراثة هنا وراثة المال لوجب تسوية الذرية في هذه الوراثة على ما تقتضيه شرعية زمانهم فلما خصَّ سليمان عليه السلام بهذه الوراثة علمنا أن المراد بها الوراثة المعنوية أي وراثة الملك والعلم والنبوة وإن أردت زيادة إيضاح فاسمع إلى قوله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا... الآية } (1) ولا أظنك تفهم من الوراثة هنا وراثة المال وإنما المقصود منها وراثة العلم, ومع ذلك فقد سماها الله وراثة فدل ذلك على أن الوراثة تطلق على غير وراثة المال وهي المرادة بقولنا:- الوراثة المعنوية, والخلاصة أن يقال:- الوراثة نوعان, وراثة مال ووراثة نبوة وعلم فالمنفي هو وراثة المال والمثبت هو وراثة النبوة والعلم وقلنا ذلك لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع التاسع عشر
لقد ذكر الله تعالى في محكم كتابه المشرق والمغرب على ثلاثة أوجه , فذكره مفرداً وذلك في قوله تعالى :- { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } (2) وذكره بصيغة التثنية وذلك كما في قوله تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } (3) وذكره مجموعاً كما في قوله تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغِارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ } (4) فكيف الجمع بين ذلك, فالمشرق والمغرب شيء واحد فكيف يذكره مرة مفرداً ومرة مثنىً ومرة مجموعاً؟
__________
(1) سورة فاطر آية (32)
(2) سورة الشعراء آية (28)
(3) سورة الرحمن آية (17)
(4) سورة المعارج آية (40)(1/57)
والجواب:- أن يقال:- إن قوله تعالى { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إنما يراد به الجهة أي جنس المغرب والمشرق, والمغرب والمشرق ليس له إلا جهة واحدة لأن الجهات أربع شمال وجنوب وشرق وغرب فالشرق شرق واحد, والغرب مغرب واحد, فالمراد بقوله تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي جنس الجهة وكذلك يقال في قوله تعالى في سورة البقرة: { وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } (1) ومن المعلوم أن المشرق سمي مشرقاً لأن الشمس والقمر يشرقان منه أي يطلعان منه, وسمي المغرب مغرباً لأن الشمس والقمر يغربان فيه, ومن المعلوم أيضاً لدى أهل الفلك أن الشمس لها مشرقان, مشرق في الشتاء ومشرق في الصيف, ولها مغربان أيضاً مغرب في الشتاء ومغرب في الصيف, وهذا مما لانزاع فيه, فالشمس لها مشرقان ومغربان وهما المرادان بقوله تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } أي مشرقي الشمس ومغربيها، في الصيف والشتاء, فإن قلت:- ألست تقول قبل قليل إنه مغرب واحد ومشرق واحد فكيف تقول الآن مشرقين ومغربين؟
فأقول:- نعم هما مشرق ومغرب بالجنس ولكنهما مشرقان ومغربان بالنوع, لأن الجنس اسم عام يشمل أنواعاً, فلما عبر عنه بالجنس ذكره بالإفراد ولما عبر عنه بالنوع ذكره بالتثنية فهذا بالنسبة لقوله تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } وقوله تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } وأما قوله تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَ الْمَغِارِبِ } فإنه يراد به ثلاثة أشياء :-
أحدهما:- أن المراد بها مشارق النجوم مغاربها, إذ أن النجوم كثيرة وكل نجم منها له مشرق يشرق منه ومغرب يغرب فيه فهي مشارق ومغارب كثيرة فقال تعالى: { بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَ الْمَغِارِبِ } أي مشارق النجوم ومغاربها, وهذا المشهور عند كثير من السلف والمفسرين.
__________
(1) سورة البقرة آية (115)(1/58)
الثاني:- أن الشمس لها مشارق ومغارب على مدار السنة كما أفاده أهل الفلك والهيئة ولكن هذا قد لا يحسه الكثير لتقارب هذه المشارق والمغارب فمشرق الشتاء يدخل تحته أفراد كثيرة لأن الشمس لها في كل يوم من أيام الشتاء مشرق ومشرق الصيف يدخل تحته أفراد كثيرة أيضاً وكذلك يقال في مغاربها فإنها تختلف على مدار أيام العام, فهي إذاَ مشارق كثيرة ومغارب كثيرة فقال تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَ الْمَغِارِبِ } وقول أهل الفلك في هذا الشأن معتبر ولا شك لأنها من آيات الفلك ولا يعارض هذا شيئاً من النصوص المتقررة عندنا في الشريعة.
الثالث:- أننا قررنا سابقاً أن الشمس لها مشرقان ومغربان في الصيف والشتاء, وكذلك القمر أيضاً له مشرق في الشتاء ومشرق في الصيف، فهي إذاً أربع مشارق, وأربع مغارب, فهي جمع فقال تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغِارِبِ } فإن قلت :- وما الراجح من هذه التفاسير؟
فأقول:- لقد تقرر في الأصول أن اللفظ إذا فُسر بتفسيرين أو أكثر لاتنافي بينهما فإنه يحمل عليهما وبناءً عليه فاللفظ يحمل على ذلك كله إذ بعضها لا ينافي بعضاً وخلاصة الكلام أن يقال :- إن المشرق عبر عنه بثلاثة أشياء, فعبر عنه بالجنس فذكر مفرداً وعبر عنه بالنوع فذكر بالتثنية وذكر بالأفراد فذكر مجموعاً, ومن المعلوم المتقرر لدى كافة أهل العلم أن التعبير عن الشيء الواحد بجنسه تارة وبنوعه تارة وبأفراده تارة لا اختلاف فيه ولا يعد ذلك من التعارض وعلى هذا فلا إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلى وأعلم.
الفرع العشرون(1/59)
من المعلوم المتقرر في الشرائع والعقول والفطر, أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء كما قال تعالى في محكم كتابه:- { قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (1) ولكننا نجد قوله تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (2) فكيف الجمع بين ذلك؟
__________
(1) سورة الأعراف آية (28)
(2) سورة الإسراء آية (16)(1/60)
والجواب:- يسير سهل ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة ولا حول ولاقوة لي إلا بالله جلَّ وعلا وأذكرك دائماً وأبداً بأنه لا يمكن أن يتعارض دليلان صحيحان أبداً, وأذكرك أيضاً بأن الواجب هو الجمع بين الأدلة بالأوجه الشرعية إما بالقواعد الأصوليةأو التقسيمات اللغوية وغير ذلك, وبيان الجواب أن يقال:- اعلم- رحمك الله تعالى- أن الأمر نوعان:- أمر كوني قدري وأمر شرعي, والأمر الكوني كالإرادة الكونية, والأمر الشرعي كالإرادة الشرعية، ومن المعلوم عند أهل السنة أن الإرادة الكونية القدرية لا تستلزم المحبة أي قد يريد الله كوناً مالا يريده شرعاً أي أنه لا يحبه ولا يرضاه وكذلك يقال في الأمر الكوني, هو أيضاً لا يستلزم المحبة أي يأمر الله تعالى بأمر كوني قدري وهو لا يحبه شرعاً, فالأمر المنفي في قوله تعالى:- { قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } إنما هو الأمر الشرعي, فالله تعالى لايأمر بالفحشاء شرعاً, وذلك أن المشركين زعموا أن الله تعالى هو الذي أمرهم شرعاً بفعل هذه الفاحشة, فرد الله تعالى عليهم زعمهم هذا بأنهم جلَّ وعلا لا يأمر شرعاً بالفواحش ولا يرضاها ولا يحبها, بل هو جلَّ وعلا لا يأمر إلا بالقسط والخير ولذلك قال بعدها: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ } (1) فالأمر المنفي هنا إنما هو الأمر بالفحشاء شرعاً, لأن الأمر الشرعي يستلزم المحبة, فالله تعالى لا يأمر شرعاً إلا بما يحبه ويرضاه, وأما الأمر الكوني القدري فهذا واقع بتقدير الله تعالى لكنه لايستلزم المحبة والرضا, وهذا الأمر هو المراد بقوله تعالى { : أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } فالله تعالى إذا أراد أن يهلك قرية, فإنه يقدر كوناً فسق مترفيها حتى إذا حق عليها القول دمرها تدميراً ففسق
__________
(1) سورة الأعراف آية( 29)(1/61)
المترفين واقع بأمر الله وقدره الكوني لا بالأمر الشرعي, وهو مراد كوناً وليس مراداً شرعاً, وبهذا تتفق الآيتان ولا يكون بينهما أي إشكال أو اختلاف فإنها من كلام الله تعالى المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد, فالأمر المثبت في قوله تعالى { : أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } هو الأمر الكوني القدري وهو المرادف للإرادة الكونية القدرية, والأمر المنفي في قوله تعالى { لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } هو الأمر الشرعي وهو المرادف للإرادة الشرعية, هذا جواب وثمة جواب آخر قد نقله بعض السلف وهو أن قوله تعالى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي أمرناهم بالإيمان وطاعة الرسل وتصديق الكتب, ولم نوفقهم لذلك بل يُقَدَّر عليهم الفسق والتكذيب وكثرة الإفساد والفساد فيحق عليهم القول, وهو جواب مليح أيضاً, وحمل الآية عليهما لااضطراب فيه ولكن الجواب الأول كأنه الأقرب والله أعلم.
الفرع الحادي والعشرون
إن قيل:- أوليست العبادة هي ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب؟ وقد قررتم في كتب العقيدة أن النذر من جملة العبادات وأن صرفه لغير الله شرك, وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال:(( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل )) والحديث في الصحيح, وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من قال للتحريم ومنهم من قال للكراهة وعلى كل قول فالنذر إنما منهي عنه نهي تحريم وإما منهي عنه نهي كراهة, فكيف يدخل في حد العبادة وهو منهي عنه وقد ذكرتم أن العبادة هي ماأمر الله أمر إيجاب أو استحباب فما قولكم في هذا؟
فأقول:- هذا من الأسئلة الحسنة التي تحتاج إلى تحرير محل للنزاع فلا بد من الإطالة في هذا الفرع حتى يتضح الجواب ويتحرر القول فيه بحوله وقوته وحسن توفيقه ومحض منته جلَّ وعلا, فأستغفر الله وأتوب إليه ثم أتوب إلى الله وأستغفره وأتوب إلى الله وأستغفره فأقول وبالله التوفيق:-(1/62)
إن النذر فيه ثلاث نقاط وبالتفريق بينها يتحرر الجواب إن شاء الله تعالى:
النقطة الأولى:- نظر من ناحية إنشائه, والثانية:- نظر من ناحية من يعقد به, والثالثة:- نظر من ناحية الوفاء به، فأما من الناحية الأولى فإنه منهي عنه, أي أن النذر باعتبار أصل إنشائه لا يتعبد لله به, أي لا يظن العبد أنه إذا أنشأ النذر أنه يثاب على ذلك, بل هو آثم إن قلنا إنه حرام ومخالف للأَولى إن قلنا إنه مكروه وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر أي عن إنشائه وسبب النهي عدة أمور:-
أحدها:- خوف عدم الوفاء به لأن حقيقة النذرأن يُلزم الإنسان نفسه بشيء ليس بلازمٍ له شرعاً, فيخشى أن لا يقوم به, وتثقل نفسه عنه وهذا واقع محسوس فكم من الأشخاص عقد النذر ثم ثقل عليه فأكب يطرق أبواب العلماء يبحث عن مخرج من هذا النذر فالإنسان عليه أن يكتفي بالواجب بأصل الشرع ولا يكلف نفسه شيئاً آخر.(1/63)
ثانيها:- أن النفوس السامية والقلوب الواعية من صفاتها أن تبذل الخير طوعاً من محض المحبة لله تعالى, فلا تحتاج إلى إلزامٍ في بذل الخير وفعل المعروف, وأما النفوس البخيلة فإن بينها وبين فعل الخير مفاوز, فأصحاب هذه النفوس ليس عندهم الرغبة الذاتية في فعل الخير والمعروف إلا إلزاماً وكراهية فيحتاجون إلى أن يعقدوا النذر على هذه النفوس البخيلة التي قتلها الشح يستخرجوا منها الخير والمعروف ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:((وإنما يستخرج به من البخيل )) فالبخيل هو الذي لا تجود نفسه بالخير طواعية ورغبة في المعروف بل لابد لها من ملزم قوي يستخرج به الخير من هذه النفوس الشريرة, فحقيقة الناذر أنه لم يقم بهذه العبادة لكمال الرغبة الذاتية فيها وإنما سيقوم بها على مضض لأنه أوحبها على نفسه بالنذر, وهذا مخالف لمقصود العبادة فإن العبادة مبنية على أصلين على كمال الحب وكمال الذل لله جلَّ وعلا, ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر حثاً منه لبذل الطاعة بكل حب وبكمال ذل ووجود رغبة باطنية في القيام بها.
ثالثها:- أن إنشاء النذر فيه منافرة مع مقصد من مقاصد التشريع وهو رفع الحرج, ومن المعلوم أن مقاصد المكلفين لابد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع فالعبد يكلف نفسه بهذا النذر تكليفاً زائداً على الحد المشروع والله تعالى يريد بنا اليسر لا العسر والتخفيف لا الإثقال وشريعتنا شريعة سمحة سهلة لا آصار فيها ولا أغلال, فالناذر يقصد بهذا النذر شيئاً لا يريده الشارع لكنه لما عقده بالله وجب الوفاء به, تعظيماً لربنا جلَّ وعلا, فرحمة منه - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقة عليهم وتخفيفاً عليهم نهاهم عن النذر والنهي يستلزم عدم الرضى به فالناذر مخالف لما قصده الشارع من التخفيف والتيسير.(1/64)
رابعها:- أن العبد يجب عليه أن يستشعر بقلبه حين قيامه بشيء من مسائل التعبد أنه يقوم به لأنه عبد لله جلَّ وعلا فهو ينفذ ماأمره به سيده حباً وكرامة وطواعية وذلاً مع استشعار التقصير في حق القيام بها والنذر المعلق على شرط كقوله:- إن شفى الله مريض صمت كذا وكذا, أو يقول:- إن نجحت في هذه السنة صليت كذا وكذا, فيه بلية قلبية خطيرة قد لا يشعر بها الناذر وهي أن يقوم في قلبه أن الأمر من باب المعاوضة, أي إن فعلت لنا هذا الشيء وحققته لنا فعلنا هذا الشيء, وهذ مزلق خطير جداً, بل ولسان حاله يقول:- أنا لن أقوم بهذه العبادة المنذورة إلا إذا تحقق مرادي, فكأن الأمر من باب المكافأة وهذا وإن لم يقله العبد بلسان مقاله إلا أنه واضح من لسان حاله, بدليل أنه لن يوقع هذه العبادة إلا بتحقق الشرط, ولو قلت له:- إفعل النذر ولو لم يتحقق هذا الشرط, لقال لك:- أنا نذرت نذراً معلقاً, فإن تحقق الشرط فعلت ومفهوم كلامه أنه إن لم يتحقق الشرط فلن أفعل.
والله تعالى يحب أن يستشعر عبده أثناء العبادة أنه عبد ذليل خاضع لله جلَّ وعلا والنذر المعلق مفضٍ إلى هذه البلية القلبية فسداً للذريعة أي لذريعة قيامها في القلب منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إنشاء النذر.(1/65)
خامسها:- أن العبد يجب عليه أن يعتقد الاعتقاد الجازم ظاهراً وباطناً أنه لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر إلا الله تعالى, وقد جعل الله تعالى أسباباً يستجلب بها العبد الخير لنفسه أو لغيره وأسباباً يستدفع بها الشر عن نفسه أو عن غيره فلا يجوز للعبد أن يعتقد أن هناك سبباً شرعياً يجلب الخيرات ويدفع المضرات إلا بدليل والناذر قد يقوم بقلبه أن نذره هذا يجلب له خيراً أو يدفع عنه شراً, فيعتقد أنه سبب لذلك وهو في الحقيقة ليس سبباً لا شرعياً ولا قدرياً ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:(( إنه لا يأتي بخير)) أي لا يجلب مطلوباً ولا يدفع مكروهاً ولا يجوز للعبد أصلاً أن يعلق قلبه بغير الله تعالى في جلب الخيرات ودفع المضرات, والناذر قد انصرفت شعبة من قلبه إلى هذا النذر, أي أن قلبه تعلق بهذا النذر, فسداً لذريعة تعلق القلب بغير الله تعالى وسداً لذريعة اعتقاد العبد في النذر فلا يجوز اعتقاده فيه شرعاً, منع النبي - صلى الله عليه وسلم - النذر, فهذه الأوجه الخمسة تفيدك إفادة صريحة أن المنهي عنه إنما هو إنشاء النذر أي ابتداؤه, فالمستحب للإنسان أن يتعبد لله تعالى بترك ابتدء النذر, فالنهي الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عن الآبتداء, فهذا هو النقطة الأولى .(1/66)
النقطة الثانية:- نظر للنذر باعتبار المعقود به فاعلم أن المتقرر بالإجماع أنه لا يجوز أن يعقد النذر إلا له جلَّ وعلا, فلا يجوز النذر لأحد من المخلوقين ويستدل على ذلك بالأدلة الناهية عن الحلف بغيره جلَّ وعلا, فإن النذر نوع من الأيمان, بل هو أعظم منها, فإذا كان الحلف بغير الله ممنوعاً فالنذر لغيره ممنوع من باب أولى فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :-(( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) " رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه" وقال عليه الصلاة والسلام:((لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )) وقال عليه الصلاة والسلام:(( من حلف فقال واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله )) وعن بريدة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حلف بالأمانة فليس منا ))" رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وسنده حسن" وقد نقل غير واحدٍ من أهل العلم إجماع أهل العلم- رحمهم الله تعالى- أنه لا يحلف إلا بالله أو صفة من صفاته.
فإذا كان هذا شأن الحلف فكيف يكون شأن النذر؟
لا شك أنه أعظم فإن باب النذر أعظم من باب الأيمان.
وإن قلنا هو منها:- فهو أعلاها, ونقول أيضاً إن الله تعالى قد امتدح الموفين به في آيات وأحاديث ستأتي إن شاء الله تعالى والمدح لا يكون إلا على فعل عبادة فحيث تقرر أنه عبادة فلا يجوز حينئذٍ صرفه لغير الله تعالى.
فالنذر باعتبار المعقود به عبادة يثاب عليه الإنسان لا أقول:- يثاب على إنشائه وابتدائه, ولكن أقول:- يثاب على عقد النذر بالله تعالى, فهذا بالنسبة للنقطة الثانية.(1/67)
النقطة الثالثة:- نظر للنذر باعتبار الوفاء به بعد عقده فهذا مما لاإشكال فيه أنه محبوب لله تعالى قال تعالى:- { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطُيراً } (1) وقال تعالى: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْْتُمْ مِن نََّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ } (2) وهو نوع من أنواع العهد وقد قال تعالى { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } (3) وقال عليه الصلاة والسلام:(( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) وهو في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها فالنذر بهذا الاعتبار لاشك أنه عبادة وبهذا يتضح الجواب ويتحرر المقام, فأقول:- النذر ليس عبادة باعتبار إنشائه وابتدائه وأصل إيقاعه ولكنه عبادة باعتبار صرفه لله تعالى وعبادة باعتبار الوفاء به, فهو منهي عنه من جانب واحدٍ فقط , وهو جانب الابتداء ولكنه مأمور به من جانبين, مأمور به من جانب عقده فهو مأمور أن لا يعقده إلا لله تعالى, ومأمور به من جانب الوفاء به, فالعبد مأمور إذا عقد النذر بشيئين:-
أحدهما:- أن العبد لا يعقده إلا لله.
الثاني:- أن يوفي به بعد عقده, فبالتفريق بين هذه الأحوال لا يبقى أي إشكال بين كون النذر عبادة وبين كونه منهياً عنه لأننا نقول:- هو عبادة باعتبار صرفه لله تعالى وعبادة باعتبار الوفاء به, ولكنه منهي عنه باعتبار أصل إيقاعه وابتدائه والعبادة قد يكون مأموراً بها من جانب ومنهياً عنها من جانب, فليست جهة النهي وجهة الأمر واحدة حتى يلزم الاختلاف والتعارض, بل النهي في الحديث له جهته الخاصة والأمر له جهته الخاصة ومع اختلاف الجهتين فلا إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلى وأعلم.
الفرع الثاني والعشرون
__________
(1) سورة الإنسان آية (7)
(2) سورة البقرة آية (270)
(3) سورة البقرة آية (177)(1/68)
إن قلت:- كيف نجمع بين حديث أبي ذر لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجدٍ وضع في الأرض أولاً؟ قال:- ((المسجد الحرام)) قال ثم أي, قال:- (( المسجد الأقصى ))قال:- كم كان بينهما؟ قال:- (( أربعون عاماً )) ومن المعلوم أن المسجد الحرام بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام بنص القرآن, والمسجد الأقصى بناه داود وابنه سليمان وبينهما قرابة ألف سنة, فكيف ينص الحديث أن المدة إنما هي( أربعون عاماً ) فقط؟ فهذا الحديث يكذبه العقل فماذا تقولون؟(1/69)
والجواب:- أن يقال:- إن هذا الذي ثار في ذهنك إنما هو شيء وضعته أنت وإلا فالصواب المتقرر عند المؤرخين أن الذي بنى المسجد الأقصى هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام, وليس هما سليمان وداود عليهما السلام, وإنما الذي جدد بناءه هما سليمان وداود وبين بناء يعقوب للمسجد الأقصى وبناء جده للمسجد الحرام أربعون عاماً كما أخبر بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فالمؤسس الحقيقي للمسجد الأقصى هو يعقوب, والمجدد له هما داود وسليمان, فالظن الفاسد هو الذي أوجب هذا الاختلاف, فإن تنطع علينا متنطع وتشدق متشدق بعدم التسليم فقل له:- إن الحديث لم يقصد به السؤال عن البناء وإنما السؤال فيه عن الوضع ولو رجعت إلى نصه لوجدت فيه:- (( أي مسجد وضع في الأرض أول)) وليس السؤال عن أي مسجد بني في الأرض أول ومعلوم أن الله تعالى هو الذي يصطفي ويختار من بقاع الأرض مايشاء كما قال تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ (1) } فهو الذي وضع المسجد الحرام وهو الذي وضع المسجد الأقصى وهو الذي وضع مسجد المدينة فالسؤال من أبي ذر إنما هو عن مقدار مابين الوضعين لا أنه عن مقدار مابين البنائين, فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسجد الأقصى وضع بعد المسجد الحرام بأربعين سنة ولا يلزم من وضعه أن يبنى بعده مباشرة بل قد يوضع ولا يبنى إلا بعد سنين, وكلا الجوابين صحيح مليح لكن الأول كأنه الأوفق والله أعلم, وبه تعلم قاعدة أخرى, أنه لايمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح ولعل الله ييسر الأمور فأكتب فيها رسالة خاصة بحوله وقوته, والمقصود:- أن النقل لا يتعارض مع العقل وأن هذا الحديث متوافق مع العقل كل الموافقة, والله أعلى وأعلم .
الفرع الثالث والعشرون
__________
(1) سورة القصص آية (68)(1/70)
إن قلت:- كيف نجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم - :((لا يعذب بالنار إلا ربها )) وبين همه - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة بالنار كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفيه(( ثم انطلق معي رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون معنا الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ...الحديث )) فكيف الجمع بين ذلك؟
فأقول:- الجمع يسير وسهل ولله الحمد والمنة وهو أن يقال:- إن المنهي عنه هو الإحراق بالنار أي مباشرة الجسد بتحريقه, أي لا يجوز لك أن تحرق بدن غيرك بالنار, لأنه لا يعذب بالنار إلا ربها, أما همه - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق بيوت المتخلفين فإنه يثبت جواز التعزير بإتلاف الأموال فإن البيت مال, وهو هَمَّ بتحريق بيوتهم لا بتحريق ذواتهم, فإذا حرق بيوتهم فإنهم قد يحترقون معها فيكونون قد احترقوا تبعاً لا قصداً, وإما أن يفروا وهو الأغلب فيكون التحريق وقع على بيوتهم لا بتحريق الذوات, فالحديث الأول ينهى عن مباشرة تحريق الذوات بالنار والحديث الثاني يجيز إتلاف الأموال التي تعين صاحبها على المحرم بالنار تعزيراً فلا يكون بينهما أي إشكال بل الجمع بينهما ممكن وقد تقرر أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن.
الفرع الرابع والعشرون
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن أول ما يحاسب عنه المرء يوم القيامة من عمله الصلاة, وثبت عنه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - أن أول ما يقضي فيه بين الناس في الدماء, وكلاهما حديثان صحيحان وظاهرهما التعارض لأن الحديث الأول يفيد أن الصلاة أول شيء والحديث الثاني يفيد أن الدماء أول شيء فكيف الجمع؟
والجواب:- أن يقال:- لنا فيه جوابان صحيحان:-
أحدهما:- أن الحساب شيء والقضاء شيء آخر فالحساب هو عرض العمل ومطالعة صحيحه من سقيمه وأما القضاء في البدء في ثمرة الحساب السابق فالحساب سابق والقضاء لاحق, فأول شيء يقع عليه الحساب هو الصلاة, وأول شيء يقع فيه القضاء هو الدماء, وهذا واضح.(1/71)
والجواب الثاني:- هو أن الحقوق التي يحاسب عليها العبد يوم القيامة قسمان:- حقوق لله تعالى, وحقوق للآدميين, فأول شيء يبدأ فيه من حقوق الله تعالى هو الصلاة وأول شيء يبدأ فيه من حقوق الآدميين هو الدماء, فالحديثان حق وصدق والجمع بينهما ممكن بسهولة ولله الحمد والمنة, والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم .
الفرع الخامس والعشرون
لقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم { وَلا تُنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (1) وقال تعالى: { وَلا تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } (2) وقال تعالى: { الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَآ إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (3) فهذه الآيات تفيد حرمة نكاح المشركة فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُتُواْ الْكِتَابَ ... الآية } (4) فهذه الآية أجازت النكاح من النصرانية واليهودية حال كونها عفيفة لأن الإحصان هنا يراد بها العفة, فكيف يمنع من نكاح المشركات ثم يجيز نكاح الكتابية مع أنها مشركة وكافرة بنص القرآن في آيات كثيرة؟
__________
(1) سورة البقرة آية (221)
(2) سورة الممتحنة آية (10)
(3) سورة النور آية (3)
(4) سورة المائدة آية (5)(1/72)
والجواب:- لا إشكال في ذلك ولله الحمد و المنة وبه التوفيق والعصمة وبيانه أن يقال:- لقد تقرر في الأصول أن العام يبنى على الخاص, فقوله تعالى: { وَلا تُنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } عام في كل مشركة أياً كان دينها فيدخل فيه الوثنية والبوذية والسيخية والهندوسية والصائبة واليهودية والنصرانية وكل طوائف أهل الكفر والشرك على مختلف أديانهم وتنوع نحلهم, وكذلك قوله تعالى: { وَلا تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } أيضاً هو عام لأنه قد تقرر في الأصول أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على الجمع أفادته العموم, وتقرر في الأصول أيضاً أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص, ولكن قد ورد المخصص الصحيح الصريح في استثناء نساء أهل الكتاب العفيفات الحرائر اللاتي لايعرف عليهن ريبة, وذلك في قوله تعالى : { والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُتُواْ الْكِتَابَ } فيكون ذلك مخصصاً للعموم السابق للقاعدة المذكورة سابقاً, فيخرج نساء أهل الكتاب من التحريم المذكور بنص الآية فالآيات الأولى عامة والآيات الثانية خاصة والخاص مقدم على العام, ويبقى ما عداهن على أصل التحريم وعلى ذلك فلا إشكال بين هذه الآيات والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, وهو هنا ممكن بلا تكلف ولله الحمد والمنة وهو أعلى وأعلم.
الفرع السادس والعشرون(1/73)
لقد ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق إلى سوق عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا:- مالكم؟ فقالوا:- قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب, فقالوا:- ماحال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث, ائتوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ماهذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر فرجعوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا:- هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فذلك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } (1) وهذا الحديث نص في أن الشياطين لم تكن ترمى بالشهب قبل ذلك أي أن الشياطين استنكرت هذا الرمي مما دعاها أن تبحث في مشارق الأرض ومغاربها عن هذا الذي حال بينها وبين خبر السماء كيف نجمع بين هذا وبين حديث ابن عباس الآخرقال:- أخبرني رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار إنهم بينماهم جلوس ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ماكنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا )) فقالوا:- الله عزوجل ورسوله أعلم, كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات الليلة رجل عظيم, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( فإنها لا يرمى بها لموت أحدٍ ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا فيبلغ الخبر أهل هذه السماء, فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فيرمون به, فما جاؤوا به على وجه فهو حق ولكنهم يرقون فيه ويزيدون )) فهذا الحديث يثبت أن الشياطين كانت ترمى في
__________
(1) سورة الجن آية (1)(1/74)
الجاهلية وهذا الرمي كان الناس يعتقدون فيه اعتقاداً فاسداً فصوب عليه الصلاة والسلام هذا الاعتقاد الفاسد بأن هذا الرمي إنما سببه استراق الجن لخبر السماء فدل ذلك على أن الشياطين كانت ترمى قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - ,فكيف إذاً تستغرب الشياطين أنهم روموا بالشهب في الحديث الأول مما دعاهم لشدة استنكارهم أن يضربوا مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن سبب رميهم بالشهب, مع إنهم كانوا يُرمون بها قبل البعثة فالأمر ليس جديداً عليهم, فهذا الحديثان يظهر منهما التعارض لأن الحديث الأول ينفي الرمي قبل البعثة والحديث الثاني يثبته فما الجواب؟(1/75)
لا اختلاف بين الحديثين أبداً, بل هما متفقان لا يتفرقان ومؤتلفان لا يختلفان, وبيان ذلك أن يقال:- لقد اختلف أهل العلم في وجود الرمي قبل البعثة, فهل كان يرمى بالشهب قبل البعثة لم يرمِ بها إلا بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - على قولين:- فقيل أنه لم يكن يرمى بها في الفترة بين عيسى عليه السلام وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام, ففي هذه الفترة لم يكن يرمى بالشهب وقال بهذا القول بعض الصحابة كأبي بن كعب وغيره وهذا القول ضعيف لأنه مخالف لحديث ابن عباس الثاني, والقول الثاني:- أن الشياطين كانت ترمى قبل البعثة وهذا القول هو الراجح واختاره الإمام القرطبي وابن كثير بل هو قول الأكثر ويدل عليه حديث ابن عباس الثاني ولا داعي لإنكاره أو تأويله فكلا الحديثين يثبتان الرمي,فحديث ابن عباس الأول يثبت الرمي بعد البعثة وحديثه الثاني يثبته قبل البعثة, لكن الرمي في الفترتين يختلف, فإن الرمي بالشهب قبل البعثة كان موجوداً لكنه كان لا يمنع الشياطين من القعود في مقاعدهم عند السماء الدنيا لاستراق السمع وقد يمنعهم, ولم يكن يرمى بالشهب في جميع الأوقات, أما بعد البعثة فإنه قد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء مطلقاً ومنعوا من مقاعدهم المنع المطلق فلا سبيل للوصول إلى خبر السماء لأن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً, فالرمي بعد البعثة زاد زيادة كبيرة كثيرة, وهذه الزيادة جعلت الشياطين تستنكر ذلك فأخافهم وأفزعهم فخرجوا يضربون في الأرض يطلبون السبب الذي به حيل بينهم وبين خبر السماء والذي منعوا من أجله من القعود في مقاعدهم والذي بسببه زيد في حرس السماء وسلطت عليهم الشهب تسليطاً زائداً, بحيث لا تخطئهم أبداً, فبحثوا فوجدوا أنها بسبب بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فالأمر الذي استنكرته الشياطين ليس هو أصل الرمي بالشهب وإنما الذي استنكرته هو كثرة الرمي وحرمانهم الحرمان المطلق من خبر السماء وتسليط هذه القذائف الربانية(1/76)
عليهم وأما أصل الرمي فإنهم لم يستنكروه لأنه كان موجوداً قبل البعثة لكنه كان قليلاً فلم يكن كثيراً بالمقارنة بالرمي بعد البعثة, ويوضح هذا قوله تعالى: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيداً وَشُهُباً } (1) يفيد أن الذي استنكروه إنما هو امتلاء السماء بالحرس الشديد والشهب, وبهذا التخريج لا يبقى بين الدليلين أي اختلاف ولله الحمد والمنة, وخلاصته أن يقال:- لقد كانت الشياطين قبل المبعث ترمى بالشهب مطلق الرمي وكانوا يمنعون من خبر السماء مطلق المنع, وأما بعد البعثة فإنهم كانوا يرمون بالشهب الرمي المطلق وقد منعوا من خبر السماء المنع المطلق والله أعلم فإن قلت:- بقي عندنا إشكال, وهو أنه قد ورد في بعض روايات حديث ابن عباس الأول لفظة تفيد أن الشياطين لم تكن ترمى بالشهب قبل البعثة وهي قوله (( ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك )) فهذه الزيادة تنفي أصل الرمي وهي صريحة في ذلك والجواب أن نقول:- وهذه الرواية أيضاً لا إشكال فيها ويجاب عنها بأجوبة:-
الأول:- أن ابن عباس رضي الله عنهما قال ذلك لأنه لم يكن يرمى بالشهب قبل البعثة إلا قليلاً فنزل ابن عباس هذه القلة منزلة العدم, أي أن الرمي الأول مقارنة بالرمي الثاني كأنه لاشيء .
الثاني:- أنه يقصد - رضي الله عنه - أن الشهب لم يكن يرمى بها قبل البعثة مثل هذا الرمي, فالرمي بعد البعثة بهذه الطريقة لم يكن معروفاً من قبل, فابن عباس يقصد إن الرمي الثاني بهذه الصورة المخصوصة إنما كان بعد البعثة وأما قبلها فلم تكن النجوم يرمى بها بهذه الطريقة فالمنفي في كلامه في هذه الرواية إنما المماثلة في الصفة وكيفية الرمي لا أصل الرمي.
__________
(1) سورة الجن آية (8)(1/77)
الثالث:- أن هذا كلام ابن عباس رضي الله عنهما وإثبات الرمي قبل البعثة ثبت بكلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - , ومنا المعلوم أنه لايجوز التقدم بين يديه - صلى الله عليه وسلم - بقولٍ أو فعلٍ, فكلامه - صلى الله عليه وسلم - مقدم على كل كلام ولا يجوز أن يعارض كلامه كلامٍ آخر, ولكن هذا الجواب الثالث لاتقله إلا إذا لم يسلم الخصم بالجوابين الأوليين, وعلى هذا فلا يكون بين هذه الأدلة أي تنافر وهذا من بركة هذه القاعدة العظيمة أعني قاعدة الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله ربنا يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
الفرع السابع والعشرون
لقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - :(( إن الله تبارك وتعالى تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم )) متفق عليه من حديث أبي هريرة يفيد أن حديث النفس وخواطرها معفو عنه, وقد قال الله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } (1) فهذه الآية تفيد أن العبد محاسب على كل شيء حتى ما يخفيه في نفسه ولو لم يصاحبه كلام أو عمل, فكيف نجمع بين ذلك فإن ظاهره التعارض؟
والجواب أن يقال:- أبداً لا تظن أن بينهما أي نوع تعارض بل هما متفقان كل الاتفاق وبيان ذلك أن يقال:- اختلف السلف - رحمهم الله تعالى- في قوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَافِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } على خمسة أقوال:-
ويجمعها قولان:-
الأول:- أنها منسوخة وهذا هو المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وابن عمرو الحسن والشعبي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم, والناسخ لها قوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } (2) .
__________
(1) سورة البقرة آية ( 284)
(2) سورة البقرة آية ( 286)(1/78)
والقول الثاني:- قالوا:- إنها محكمة ثم اختلف هؤلاء إلى أقوال:- فمنهم من قال:- إنها محكمة عامة في كل شيء يكتمه الإنسان فإنه محاسب عليه ومنهم من قال بل هي خاصة بكتمان الشهادة وهو مروي عن ابن عباس أيضاً والصواب إن شاء الله تعالى أنها محكمة عامة في كل شيء وأنها مع القول بأنها محكمة لاتنافي بينها وبين الحديث وبيان ذلك يكون في مسائل:-(1/79)
( المسألة الأولى) أن النسخ عند السلف- رحمهم الله تعالى- يختلف عن النسخ عند المتأخرين فإن مفهومه عند السلف أعم فيدخل فيه التخصيص وإزالة بعض المفاهيم المغلوطة كأن تنزل آية والمراد بها شيء معين ثم يفهم بعض الصحابة منها العموم ثم تنزل آية أخرى تصلح هذا المفهوم فهذا الثاني يعد عند السلف نسخاً لأنه نسخ هذا الفهم الخاطئ في الآية الأولى, فالسلف الذين قالوا:- قالوا إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } لايقصدون بالنسخ مايفهمه المتأخرون وإنما يعنون أنها صححت بعض المفاهيم وبينت المراد وأزالت بعض الإشكالات وبيان ذلك:- أنه لما نزل قوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَافِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } فهم الصحابة أنهم قد كلفوا بما ليس في وسعهم فجاؤوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا:- أي رسول الله قد كلفنا من العمل ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة, وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم:- سمعنا وعصينا, قولوا:- سمعنا وأطعنا فنزل قوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } فبين الله - عز وجل - بهذه الآية أن الآية قبلها ليست من باب تكليف مالا يطاق بل هو تكليف بماهو داخل تحت الوسع والطاقة فلأن الآية الثانية أزالت ماقد ظن دلالة الآية الأولى عليه سماها بعض السلف نسخاً وهي في الحقيقة ليست نسخاً على مصطلح المتأخرين وإنما هي من قبيل بيان المجمل وتوضيح المراد منه فعلى ذلك فلايكون بين الآيتين تعارض بل قوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } مبين لما أجمل في قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَافِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } وهو الذي اختاره أبو العباس ابن تيمية والله أعلم .(1/80)
( المسألة الثانية ) أن العبد إذا حدثته نفسه بالشيء فلا يخلو من حالتين:- إما أن يبديه بقول أو فعل فإنه يكون من الأعمال الظاهرة التي يستحق عليه الذم والعقاب فقوله تعالى في الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَافِي أَنفُسِكُمْ } موافق كل الموافقة لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( مالم تعمل أو تتكلم )) ذلك لأنه إذا أظهر ما أضمره في صورة قولٍ أو فعلٍ فقد أبداه والله يحاسبه على ذلك بما تقتضيه حكمته جلَّ وعلا وإن أخفى العبد ذلك ولم يظهره لا بقولٍ ولا فعلٍ فلايخلو من حالتين:- إما أن يكون مما يستطيع دفعه وإما لا, فإن كان قادراً على دفعه بقطع التفكير فيه والاشتغال عنه بغيره لكنه رضي به واسترسل معه واستمرأه وانقاد له فلا يخلو من حالتين:- إما أن يكون هذا الأمر الذي أخفاه كفراً وإما معصية فإن كان كفراً كالشك في صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صحة القرآن أو وجود الله تعالى فهو كفر وإن لم يعمل أو يتكلم به, أو كان بغضاً لشيء مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا أيضاً كفر أكبر حتى وإن أخفاه لأنه يكون بذلك قد ترك الإيمان الذي لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا به وهو قادر على دفع ذلك عن قلبه لكنه لم يدفعه بل رضي به وانقاد له واسترسل معه, وأما إن كان هذا الأمر من أمور المعاصي غير الشرك فإنه يكون تحت المشيئة, إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عاقبه, ولعل هذا هو المراد { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مِن يَشَآءُ } (1) أي من أخفى أمراً من المعاصي سوى الشرك فإنه تحت المشيئة ذلك لأن الشرك والكفر مما لايغفره الله تعالى وأما إن كان هذا الوارد على القلب وسواساً من الشيطان والعبد يكرهه ويحاول دفعه ويجاهده فهذا لا يضر العبد شيئاً بل هو من صريح الإيمان كما هو مصرح به في بعض الأحاديث وهذه الوسوسة هي ما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان فإذا كرَّهه العبد ونفاه وجاهده كانت كراهته لذلك
__________
(1) سورة البقرة آية (284)(1/81)
هي صريح الإيمان, وقد خاف الصحابة من العقوبة على مثل ذلك وفهموا أنه هو المراد من قوله تعالى: { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } فجاء قوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } ليبين لهم أن هذه الوساوس لا تأثير لها لأنها لاتدخل تحت وسعكم بل هي شيء يلقيه الشيطان وما ليس بداخل في وسعكم فإنكم لا تحاسبون عليه وهذا الأمر الأخير هو المراد بالحديث المذكور(( إن الله تبارك وتعالى قد تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تعمل به أو تتكلم )) فالمراد بحديث النفس هذه الوساوس والخطرات التي من الشيطان إما في ذات الله تعالى أو صفاته أو وجوده أو غيرها من مسائل الغيب أو في الطلاق أو العتاق ونحوه فهذا لايضر الإنسان مالم يبده بقولٍ أو فعلٍ, ولذلك ورد في بعض الأحاديث أن بعض الصحابة قالوا:- ((إنا لنجد في أنفسنا ما يحب أحدنا أن يكون فحمة ولا يتكلم به)) وفي بعضها (( مايتعاظم أحدنا أن يتكلم به )) ومن المعلوم أن هؤلاء الصحابة لم يسألوا إلا لكراهيتهم لهذا الوارد من الوساوس والخطرات في أمور يود أحدهم أن يموت وأن يحترق حتى يكون فحمة ولا يتكلم بها, فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الأمر لا يضرهم شيئاً مالم يعملوا أو يتكلموا به بل هو مع كراهته ومجاهدته من صريح الإيمان, وأما الأمر الخفي الذي يكون في وسع الإنسان دفعه لكنه رضي به وسلم له واستمرأه فهذا له وضع آخر وحكم آخر وبهذا لا يكون بين الآية والحديث أي تعارض, وذلك لأن الخطرات ووساوس الصدر وحديث النفس معفو عنه لقوله تعالى:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } وبالحديث المذكور, فهي - أعني هذه الوساوس- والخطرات التي ورد الحديث بأنها معفو عنها غير داخلة في قوله تعالى: { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } كما قد ظنه الصحابة وصحح الله تعالى هذا الفهم الخاطئ بقوله :- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا }(1/82)
فلله در هذه الأدلة انظر كيف التآلف بينها والاتفاق فهي ركن شديد للعبد لابد له منه لاحرمنا الله بركتها وجعلنا وإياك من الذابين عنها والباذلين لأرواحهم دونها فإن قلت:- بقي عندنا إشكال وهو قوله تعالى: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (1) فهذه إرادة والإرادة أمر باطني خفي, فكيف يذيقه من عذاب أليم وهو لم يعمل ولم يتكلم وإنما أراد فقط, فهذه الإرادة من حديث النفس فكيف نجمع بين هذه الآية والحديث؟
فأقول:- الجواب على هذا هو أن يقال:- نحن قسمنا مايخفيه الإنسان إلى قسمين:-
الأول:- قسم هو من إملاء العبد لنفسه فهو يفكر فيه ويريده ويعزم عليه, ويعتقد أحياناً صحته, فهذا الأمر هو مما يخفيه العبد ولكنه مما يدخل تحت وسعه فهو محاسب عليه إن كفراً فهو كفر وإن كان معصية فهو تحت المشيئة.
الثاني:- قسم يخفيه الإنسان لكنه كاره له, ولا قدرة له على عدم وجوده في نفسه لأنه من تسلط الشيطان ووسوسته التي لا يسلم منها أحد فهو من حديث النفس ووسوسة الصدر التي تصيب البشر جميعهم إلا من عصمه الله, فهذا القسم لا يوآخذ الله عليه وهو من رحمة الله تعالى أعني عدم الموآخذة عليه, لأنه لا يدخل تحت الوسع فلو أن الله تعالى حاسبنا على ذلك الأمر لهلكنا إذ لا يسلم منه أحد إلا من شاء الله, إذا علمت هذا فاعلم أن قوله تعالى: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤيد لما قلناه فهو داخل تحت القسم الأول من أقسام ما يخفيه الإنسان والدليل على ذلك أمور:-
__________
(1) سورة الحج آية (25)(1/83)
الأول:- أنه قال:- { يُرِدْ } والإرادة ميل النفس للشيء قبوله فهو مريد لهذا الأمر, فإذاً هو ليس بكاره له, بل مريد له, وهذه الإرادة دليل على أنه يقدر على دفعه لكنه لم يدفعه, بل جلس يفكر في هذا الإلحاد والإحداث في البيت الحرام ويخطط بعقله لأنه مريد له وفرق بين المريد والكاره, وفرق بين مايقدر على دفعه وبين مالا يقدر على دفعه, ويبين ذلك الوجه الثاني.
الثاني:- وهو قوله:- { بِإِلْحَادِ } وقوله: { بِظُلْمٍ } وهي حال هذا الرجل في وقت إرادته هذه فهو أراد هذا الإلحاد حالة كونه ظالماً بهذه الإرادة وهذا الإلحاد, ولا يوصف بذلك إلا وهو قاصد ماأراده, ومحبذٌ له وعازم عليه قد رسخ هم فعله في قلبه رسوخاً سيعقبه الفعل ولا شك, فأين هذا من حديث النفس الذي يكرهه الإنسان ويحاول دفعه ويجاهده وهو غير مريد لحقيقة هذا الحديث, بل مبغض له كل البغض وقائم في مجاهدته بما أعطاه الله من قوة, ولا يقول أو يعمل به, فأين هذا من هذا؟ إن بينهما من الفرق كما بين السماء والأرض فالحديث بعيد عن الآية كل البعد فهو في موضع وهي في موضع آخر, فكيف تكون معارضة له, وبهذا تتفق الأحاديث وتتآلف ولا يكون بينها أي اختلاف بل هو الاتفاق والائتلاف, وخلاصته أن يقال:- إن الذي يثور في ذهنه التعارض بين قوله تعالى: { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } وبين قوله ((تجاوز لي عن أمتي ماحدثت به أنفسها )) إنما هو الذي يظن أن حديث المعفو عنه شرعاً داخل في مراد الله وهذا ليس بصحيح لبيان الله تعالى ذلك بقوله:- { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا } والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع الثامن والعشرون(1/84)
لقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم فهذا الحديث يفيد إفادة قطعية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على ميمونة حال كونه محرماً وهذا الإحرام لاشك أنه في عمرة الحديبية, كيف نجمع بين هذا الحديث وبين ما رواه مسلم في صحيحه عن ميمونة أنها أثبتت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي حلال, وكذلك في حديث أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهي حلال وكنت السفير بينهما " حديث صحيح" فحديث ابن عباس يثبت أن العقد على ميمونة رضي الله عنها كان في حال إحرامه - صلى الله عليه وسلم - , وحديث ميمونة نفسها وحديث أبي رافع تثبت أن العقد وقع حالة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - حلالاً أي غير محرم, فكيف بالله عليك تجمع بين ذلك؟(1/85)
والجواب على ذلك أن يقال:- لقد قررنا قاعدة وجوب الجمع بين الأدلة وذكرنا أن وجوب الجمع ليس وجوباً مطلقاً بل هو وجوب مقيد بالقدرة و الإمكان والاستطاعة, ولو رجعت إلى القاعدة لوجدت نفسها تقول الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والمقصود الأدلة الصحيحة في سندها والصريحة في متنها, لكن متى ما تعذر النسخ فإنه ينتقل إلى الترجيح كما قررناه سابقاً وفي الحقيقة أن هذه الأحاديث ظاهرها التعارض ولا شك والجمع بينهما متعذر لأن العين المعقود عليها واحدة وهي ميمونة رضي الله عنها والعاقد واحد وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالجمع بينهما متعذر, ولا يتصور أبداً أن يقع العقد مرتين في الإحرام والحل, فإن هذا لا يقوله من له أدني أثارة من علمٍ, وحيث تعذر الجمع بين الأدلة فنذهب إلى النسخ وكذلك أيضاً هذه المرتبة متعذرة لأن الأحاديث كلها متفقة في الزمان فالكل يتكلم عن العقد على ميمونة رضي الله عنها والكل يتكلم عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عقد عليها, فمخرجها واحد, فالنسخ أيضاً متعذر , لكن لم يبقى إلا الترجيح بين هذه الأدلة فالترجيح بين هذه الأدلة هو الذي يزيل الإشكال, وبعد النظر والترجيح بين هذه الأدلة وجدنا أن حديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس وذلك لوجوه:-
الأول:- أن صاحبة القصة أثبتت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حلالاً حال العقود عليها ولا شك ولا ريب أن صاحبة القصة أي التي وقعت عليها القصة أعلم بها من غيرها وهذا لا أظن أحداً ينازع فيه.
الثاني:- أن السفير بين ميمونة والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو أبو رافع وذلك لقوله(( وكنت السفير بينهما )) وقد أثبت أبو رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حلالاً يوم عقد على ميمونة رضي الله عنها, ولاشك ولاريب أن رواية من حضر القصة وشاهدها وعلم وقائعها عن يقين يكون أدرى بما جرى من غيره.(1/86)
الثالث:- أن ميمونة رضي الله عنها كانت شاهدة وأبو رافع - رضي الله عنه - كان شاهداً وأما ابن عباس فإنه لم يكن معهم يوم الحديبية, لأنه كان صغيراً بالمدينة, فالقصة قد نقلت له نقلاً, ولاشك ولا ريب أن رواية المشاهد والحاضر مقدمة على رواية الغائب الذي لم يشاهد ولم يحضر فإن تطرق هذا الخطأ في الأخبار المنقولة واقع كثير جداً.
الرابع:- أن حديث ميمونة وحديث أبي رافع جاريان على الأصل المتقرر في المحرم وهو المنع من النكاح كما قال عليه الصلاة والسلام:(( لاينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب))"رواه مسلم" وعليه فيكون حديث ابن عباس هذا من جملة الأحاديث الشاذة المردودة وأنت تعلم أن الشاذ قسم من أقسام الحديث الضعيف وبناءً عليه فإنه ينزل منزلة المعدوم فلا يؤخذ منه أي نوع من أنواع التشريع ولا أي حكم من أحكام الفقه أبداً لأنه شاذ فبالترجيح زال الإشكال, وإنما ضربت لك هذا المثال لتعلم أنه ليس كل شيء يحتمله الجمع وأن قاعدة وجوب الجمع مقيدة بالإمكان, وأنه ليس كل جمع يقبل والله أعلم.
الفرع التاسع والعشرون
أقول:- لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(( لا عدوى ولا طيرة )) ففي الحديث نفى الطيرة بـ(لا) النافية للجنس والمراد بالنفي تأثيرها على النحو الذي يعتقده أهل الجاهلية ويدخل في هذا النفي كل التشاؤم لأن قوله (طيرة) نكرة وقد وردت في سياق النفي, وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم, فيدخل في ذلك كل ما يسمى طيرة أو تشاؤم لكن يشكل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - ((الشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة )) وفي رواية أخرى (( إنما الشؤم في ثلاثة في الدابة والمرأة والدار )) ولمسلم (( إن كان الشؤم في شيء ففي الدابة والمسكن والمرآة )) فهذا الحديث بهذه الروايات يفيد وجود الشؤم في هذه الأشياء الثلاثة فكيف تنفى الطيرة في نص, وتثبت في نص آخر؟(1/87)
والجواب أن يقال:- إن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وهو هنا ممكن سهل لا إشكال فيه ولله الحمد والمنة وحيث وجب فلا يجوز القول بالنسخ ولا بالترجيح لأنهما لا يفزع إليهما إلا عند تعذر الجمع, لكنه هنا ممكن بلا تكلف وهو أن يقال:- لقد تقرر في الأصول أن العام يبنى على الخاص, فقوله - صلى الله عليه وسلم - (ولاطيرة) هذا لفظ عام, وقوله( الشؤم في ثلاثة ) هذا خاص, والخاص مقدم على العام, وهذا قول الإمام مالك وابن قتيبة واختاره الشوكاني - رحمهم الله تعالى- لكن مع القول بالتخصيص إلا أنه يجب عليك أن تفهم إن من نحى ذلك المسلك لا يظن به أنه يرخص في الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة على نحو ماكانت الجاهلية تفعله وتعتقده, بل المراد بهذا التخصيص أن العبد إذا كره شيئاً من ذلك بسبب ما يصيبه بعد مقاربة شيء من هذه الأعيان ثم ابتعد عنها وفارقها فإنه لا حرج عليه, فغاية قولنا بأنها مخصوصة أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشؤمة على من قاربها وسكنها ولذلك فإنه يشرع عند الزواج أو اشتراء دابة أو سكنى دار أن يسأل الله تعالى من خيرها ويستعيذ به من شرها, فمن سكن داراً فكثرت مصائبه فيها وابتعد عنها فلا حرج عليه لكن عليه أن يعتقد أن الله تعالى هو المقدر لهذه المصائب ومن اشترى دابة فكثرت خسارته عليها فباعها فلا حرج عليه وهكذا يقال في المرأة, لأن الله تعالى يقدر ما يشاء ومما قدره جلَّ وعلا أن يجعل بعض هذه الأعيان مشئومة يتضرر من يقاربها أو يسكنها ولذلك لما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - :- إنا كنا في دار كثير فيها عددنا وكثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقلَّ فيها عددنا وقلَّت فيها أموالنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ذروها ذميمة ))"رواه أبو داود بسندٍ حسن من حديث أنس - رضي الله عنه - " فالشؤم المثبت في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما يجده الإنسان في نفسه من الكراهة, فهذه الأشياء عند حصول(1/88)
الضرر منها أو فيها وعلامة ذلك أنه لا يكون إلا بعد تكرر الضرر منها, لكن يجب عليه حال الترك أن يعتقد أن الله تعالى هو الفعال لما يريد وأنه لا يجلب الخيرات إلا هو ولا يدفع المضرات إلا هو جلَّ وعلا وأن هذه الأشياء ليس لها بنفسها تأثير وإنما شؤمها ويمنها ما يقدره الله تعالى فيها من الخير والشر وعلى ذلك فلا يكون في الأدلة أي إشكال كعادتها ولله الحمد والمنة والخلاصة أن هذا الإشكال الذي قد ثار في الذهن أزالته قاعدة الخاص مقدم على العام والله أعلى وأعلم.
الفرع الثلاثون
لقد اختلفت الأحاديث في مسألة انتقاض الوضوء مِن مس الذكر, ففي حديث بسرة بنت صفوان قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من مس ذكره فليتوضأ ))" رواه الخمسة وسنده صحيح" وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء ))"حديث صحيح أيضاً" فهذان الحديثان يفيدان وجوب الوضوء مِن مس الذكر, ولكن حديث طلق ينفي ذلك, فعن طلق بن علي - رضي الله عنه - قال(( مسست ذكري )) أو قال (( الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء؟ فقال:- لا إنما هو بضعة منك ))"حديث صحيح" فكيف نجمع بين هذه النصوص؟
والجواب أن يقال:- لقد اختلفت مسالك أهل العلم في هذه الأحاديث فقائل بالجمع وقائل بالنسخ وقائل بالترجيح ولكن قد تقرر عندنا أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والجمع هنا ممكن بلا تكلف وبيانه من وجوه:-(1/89)
الأول:- أن المس المسئول عنه في حديث طلق يبعد جداًً بل لا يتصور أن يكون هو المس المصاحب للشهوة وإنما هو المس لعارضٍ وذلك لأن السائل صحابي وإنه ليبعد جداً أن يسأل عن مس بشهوة في الصلاة التي هي حال الذكر وحضور القلب وتعلق الفؤاد بالله تعالى والخضوع والخشوع له والإنطراح بين يديه واستحضار عظمته, فإن المس بشهوة في هذه الفريضة لو فعله الفاسق لتعاظمناها منه فكيف والسائل عن المس في الصلاة من جملة الصحابة الذين هم أعمق الأمة يقيناً وأكملهم إيماناً وأشدهم خشية وأعظمهم مراقبة لله تعالى, فإن قوله في الحديث(في الصلاة)أفادنا أن المس المسئول عنه ليس هو المس الذي تصاحبه الشهوة وإنما هو المس العارض ويوضح هذا:-
الوجه الثاني:- أن السؤال المذكور في حديث طلق بن علي لو كان هو الذي تصاحبه لما كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بهذه الصورة لأن الأمر يحتاج إلى تغليظ ولقال له:- كيف تثور شهوة أحدكم وهو منطرح بين يدي الله؟ كيف يعبث أحدكم بذكره وهو بين يدي ربه جلَّ وعلا؟ أين الحياء, أين المراقبة؟ أين الخوف من الله؟ أين الخضوع؟ أين الخشوع؟ ونحو هذه الكلمات التي مفادها الإنكار على من مس ذكره بشهوة أثناء الصلاة, لكنه لم يقل شيئاً من ذلك, بل قال(( لا إنما هو بضعة منك )) فأفادنا ذلك أن المس المسئول عنه في هذا الحديث إنما هو المس بلا شهوة بل هو مس عارض أي لسبب عارض ليس للشهوة, ويوضحه أيضاً:-(1/90)
الوجه الثالث:- وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إنما هو بضعة منك )) قرينه على أن المس المسئول عنه ليس لشهوة, ذلك لأن الذكر إذا لم ينتشر فإنه بضعة كسائر أجزاء الإنسان فمن مسه حالة كونه خامداً فكأنه مس أحد أصابعه أو إذنه أو طرفاً من أطرافه, لكن الذكر لايأخذ أحكامه أي لا تترتب عليه الأحكام الشرعية إلا حال انتشاره فبانتشاره يخرج منه المذي, وبانتشاره يخرج منه المني وبانتشاره يحصل به الإيلاج لكن مادام خامداً غير منتشر فإنه كسائر أبضاع الإنسان فكما أن مس الأصبع أو شيء من أطراف الإنسان لاينقض الوضوء فكذلك مس الذكر حالة كونه خامداً لا ينقض به الوضوء.
ومن المعلوم أن الانتشار له أسباب ومنها:- مسه بشهوة وهذه قرينة تفيد أن المس المسئول عنه في حديث طلق بن علي هو المس بلا شهوة.
وبناءً على هذه الأوجه, فأقول في هذه الأحاديث إن مس ذكره بلا شهوة فلا شيء عليه عملاً بحديث طلق بن علي, لأننا قررنا سابقاً أن المس المسئول عنه إنما هو المس العارض ليس هو المس المصاحب للشهوة, وأما مَن مس ذكره بشهوة فإنه يجب عليه الوضوء لحديث بسرة(( من مس ذكره فليتوضأ )) ولكن أيضاً أفادنا حديث أبي هريرة بشرط آخر زائد على المس, وهو أن يكون مساً بلا حائل, لأنه قال (( من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر )) وهذا قيد شرعي لابد من إعماله ولا يجوز إلغاؤه, فصار المس الذي هو من جملة نواقض الوضوء هو المس بشهوة وبلا حائل, وهذا القول هو الذي يعمل الأدلة كلها وكل حديث منها باقٍ على دلالته فاشترطنا الشهوة للجمع بين حديث طلق وحديث بسرة, أي أننا جعلنا المس في حديث طلق هو المس الذي لم تصاحبه شهوة والمس في حديث بسرة هو المس الذي تصاحبه الشهوة , واشترطنا عدم الستر عملاً بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - , وبه تتفق الأدلة وتتآلف ولا يكون بينها أي نوع من أنواع الاختلاف, والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم .
الفرع الحادي والثلاثون(1/91)
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال ((توضؤا مما مست النار )) فهذا يفيد وجوب الوضوء مما مست النار, وثبت عنه أيضاً أنه أكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ ومعلو أنها طبخت على النار وثبت عن جابر أنه قال (( كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار )) فكيف الجمع بين هذه الأحاديث ؟
والجواب أن يقال:- لقد اختلفت مسالك أهل العلم في هذه المسألة, ولكن نحن نبقى على القاعدة المذكورة من أنه يجب الجمع بين الأدلة ماأمكن, والجمع بين هذين النصوص سهل يسير وهو أن يقال:- لقد تقرر في الأصول أن الأمر يفيد الوجوب إلا لصارف, فالأمر في قوله(( توضؤا مما مست النار )) أمر والأصل فيه الوجوب لكن ماورد بعده من أحاديث تصلح أن تكون صارفة الأمر من الوجوب إلى الاستحباب, فعدم وضوئه من الشاة التي أكلها دليل على أن الأمر ليس على بابه وإنما هو للاستحباب والندب وبناءً عليه فأقول:- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن الوضوء مما مست النار مستحب لا واجب وهذا مسلك قد عملنا فيه بجميع الأدلة الواردة في هذا الباب ولم نترك شيئاً منها وهذا هو الواجب لأن المتقرر عندنا هو أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم.
الفرع الثاني والثلاثون
لقد أثبت الله تعالى الهداية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (1) ولكنه نفاها عنه في قوله: { إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } (2) فكيف مرة يثبت أنه يهدي, ومرة يثبت أنه لايهدي؟
__________
(1) سورة الشورى آية (52)
(2) سورة القصص آية (56)(1/92)
والجواب أن يقال:- لا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة والجواب سهل يسير ومثار الإشكال في ذهن البعض إنما هو لمَّا ظن أن الهداية المثبتة هي بعينها الهداية المنفية وهذا ظن خاطئ نشأ من الجهل بأقسام الهداية فقد قرر أهل العلم- رحمهم الله تعالى- أن الهداية قسمان:- هداية دلالة وإرشاد وهداية توفيق وإلهام والمراد بهداية الدلالة والإرشاد أي هداية الظاهر والمراد بهداية التوفيق والإلهام هداية الباطن فأما هداية الدلالة والإرشاد فإنها ثابتة للأنبياء والصديقين والصالحين وأهل الدعوة ونحو هؤلاء لأن معناه التوضيح والتبيين والإفتاء وإزالة اللبس والتعليم والتوجيه والإرشاد وبيان الحلال من الحرام ونحو ذلك وهذه الهداية بهذا الاعتبار هي المثبتة في قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وأما هداية التوفيق والإلهام فإنها حق محض لله تعالى لا يملكها أو يملك شيئاً ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا ولياً صالحاً, بل هي من خصائص الله تعالى, لأنها عمل قلبي باطني وأمور القلوب بيد علام الغيوب جلَّ وعلا, وهي الهداية المنفية بقوله تعالى :-
{ إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } وبهذا فلا يكون بين الآيتين أي نوع من أنواع الإشكال أو الغموض وهذا هو الواجب قوله لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع الثالث والثلاثون(1/93)
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وقال:(( وليغترفا جميعاً ))"رواه أبوداود والنسائي وإسناده صحيح" فهذا الحديث يفيد النهي عند اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة , فكيف نوفق بينه وبين حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها " رواه مسلم " ولأصحاب السنن اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفنة فجاء يغتسل منها فقالت:- إني كنت جنباً فقال: (( إن الماء لا يجنب ))" وصححه الترمذي وابن حبان" فكيف تقول في ذلك؟
والجواب:- أن المتقرر عندنا وجوب الجمع بين الأدلة ما أمكن ذلك, وأنه لايجوز القول بالنسخ ولا بالترجيح مادام الجمع ممكناً والجمع هنا ممكن ولله الحمد والمنة وبيانه أن يقال:- إن الأصل في النهي التحريم إلا لصارف كما تقرر في الأصول فالأصل في قوله (( ولا يغتسل الرجل بفضل المرأة )) أنه للتحريم لكن وجدنا لهذا النهي صارفاً وهو اغتساله - صلى الله عليه وسلم - بفضل ميمونة رضي الله عنها, فهذا يصلح أن يكون صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة التنزيهية وبناءً عليه فأقول:- القول الصحيح في هذه المسألة هو أن اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة جائز لكنه خلاف الأًولى مع وجود غيره, فإذا وجد الإنسان ماءً غير هذا الماء فإنه يكره تنزيهاً أن يستعمل فضل طهورها, لكن لو خالف واستعمله فطهارته صحيحة لا غبار عليها, فجعلنا قوله((ولا الرجل بفضل المرأة )) يفيد الكراهة وجعلنا اغتساله بفضل ميمونة يفيد الجواز, فيكون الجمع بين الحديثين أن نقول:- يجوز لحديث ابن عباس , ومع الكراهة لحديث النهي, وبهذا فلا يكون بين الأدلة أي نوع من أنواع الإشكال ولله الحمد والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع الرابع والثلاثون(1/94)
لقد ثبت في صحيح مسلم حديث أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يقطع صلاة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل آخره الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود )) وثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت(( كنت أضطجع أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطجاع الجنازة ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما )) فكيف نجمع بين الحديث الأول القاضي بأن المرأة تقطع الصلاة, وبين هذا الحديث؟
والجواب أن يقال:- قد اختلف مسالك أهل العلم في الجمع بينهما وأصحها إن شاء الله تعالى هو مااختاره ابن تيمية - رحمه الله تعالى- وهو التفريق بين المرور والمكث فالذي يحمل عليه حديث أبي ذر هو المرور والذي يحمل عليه حديث عائشة هو المكث, فالمرور يقطع ومجرد المكث بلا مرور لايقطع وقوله هذا هو الحق في هذه المسألة وهو الذي تتآلف به الأدلة, وعليه فلا تعارض ولله الحمد بين الحديثين, بل هما متآلفان متفقان كل التوافق, ويذكرني هذا بحديث أبي سعيد قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استطعتم )) فإنه يفيد أنه لا يقطع الصلاة شيء فكيف نجمع بينه وبين حديث أبي ذر السابق؟
والجواب أن يقال:- الجمع بينهما من وجهين:-
الأول:- أن حديث أبي سعيد أصلاً ضعيف لا تقوم به الحجة فقد ضعَّفه غير واحدٍ من أهل العلم, ومع ثبوت ضعفه فإنه لا يكون معارضاً للأحاديث الصحيحة.(1/95)
الثاني:- سلَّمنا أنه يحتج به فإنه عام لأن قوله( لايقطع ) نفي وقوله ( شيء) نكرة, فهو نكرة في سياق النفي وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم, فيدخل في ذلك كل مايسمى (شيء) ولكن ورود حديث أبي ذرٍ يقضي بأن هناك أشياء تقطع الصلاة وهي مرور المرأة والكلب الأسود والحمار, وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام وبناءً عليه فنقول:- لا يقطع الصلاة شيء إلا هذه الأشياء, فقط وبهذا يكون عملنا بالحديثين كلاهما وجمعنا بينهما والجمع بين الأدلة واجب ماأمكن, ومع إمكانية الجمع فلا يجوز القول بالنسخ أو الترجيح والله أعلم.
الفرع الخامس والثلاثون
لقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة تفيد أن الدباغ يطهر جلد الميتة كحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وحديث سودة (( ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً )) وحديث ميمونة قالت مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة يجرونها فقال(( لو أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به)) فقالوا:- إنها ميتة فقال(( إنما حرم أكلها )) وفي رواية (( يطهرها الماء والقرظ )) وغيرها فهذه الأحاديث تفيد جواز الانتفاع بالجلد بعد دبغه, ولكن ورد عندنا أيضاً حديث عبدالله بن عكيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصب)) فكيف الجمع بين ذلك؟
والجواب أن يقال:- الجمع بينهما من وجهين:-(1/96)
الأول:- أن حديث ابن عكيم ضعيف لا يحتج بمثله فقد ضعفه جملة كبيرة من أهل العلم ومع ثبوت ضعفه فإنه لا يثبت به شيء من أحكام الشريعة لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ولكن قد ثبت عن بعض أهل العلم أنه صححه فحينئذٍ ننتقل للجواب الثاني:- وهو أنه قال(بإهاب) وقد قرر أهل العربية أن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ, بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - (( ألا أخذتم إهابها... الحديث)) وقد نص عليه بعض أئمة اللغة واختاره أبوالعباس ابن تيمية, وأنت تعلم أن الجلد قبل الدبغ لايجوز استعماله, فلا يكون حديث ابن عكيم هذا مخالفاً بل متوافق كل الموافقة مع الأحاديث لأن الأحاديث الأخرى تفيد جواز استعمال الجلد بعد الدبغ لأنه بعد الدبغ يسمى شناً وقربة ونحو ذلك بدليل قول سودة:- ((ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً))"رواه البخاري" فالجلد قبل الدبغ لاينتفع به لحديث ابن عكيم والجلد بعد الدبغ ينتفع بها للأحاديث السابقة في أول الفرع وعلى هذا فلا يكون بين الأدلة أي نوع من أنواع الإشكال والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع السادس والثلاثون(1/97)
لقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(( إنما الماء من الماء)) وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم أن هذا الحديث كان معمولاً به في أول الإسلام ثم نسخ ولكن أقول والله أعلم أنه يمكن العمل به في شيء آخر غير الجماع لأن مسألة الجماع قد فصلت بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( وإن لم ينزل )) وبحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل )) لكن حديث أبي سعيد السابق نستطيع أن نعمل به في مسألة الاحتلام فيقال للمحتلم (( إنما الماء من الماء )) وبناءً عليه فمن ذكر احتلاماً ولم يرى ماءً فعليه الغسل ومن لم يذكر احتلاماً ورأى ماءً فليغتسل ويؤيده أيضاً حديث أم سليم (( نعم إذا رأت الماء )) فحديث(( إنما الماء من الماء )) كان يفيد حكمين:- الأول:- كان يفيد أن من جامع فأكسل عن الإنزال أنه لاغسل عليه ويفيد أيضاً أن من ذكر احتلاماً ولم يرى منياً أنه لاغسل عليه, ولكن جاء الناسخ للحكم الأول فقط كما في سنن أبي داود وغيرها أن أبي بن كعب قال: (( إن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد )) ولكن أنت خبير أن الحديث إذا كان يفيد أحكاماً ثم نسخ أحدها فإنه يبقى سائر الأحكام على ما هي عليه, فأقول:- إن المنسوخ إنما هو مسألة الجماع فإنه يجب الغسل بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل ولكن يبقى الاحتلام ومسألة المفاخذة ومجرد المضاجعة فقط من غير إيلاج فإنه يستدل عليها بحديث((إنما الماء من الماء)) فالحديث معمول به وإنما النسخ دخل إلى حكم واحدٍ فقط من أحكامه وتكون بذلك قد حفظناه من النسخ وهو الواجب لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, والله أعلم.
الفرع السابع والثلاثون(1/98)
زعم البعض أن قوله - صلى الله عليه وسلم - غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم إنه منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من توضأ يوم الجمعة )) فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وبحديث أبي هريرة عند مسلم (( من توضأ ثم أتي الجمعة ..الحديث )) وهذا الزعم ليس بصحيح بل الحديث على حاله لم ينسخ ولكن هذه الأدلة بينت أن المراد بقوله (واجب) إنه ليس الوجوب الذي يفهمه أهل الأصول وإنما المراد أنه حق متأكد كقول الرجل لآخر:- حقك واجب عليَّ أي متأكد, وبناءً عليه فغسل الجمعة حق متأكد على كل من راح إلى الجمعة لكنه ليس الوجوب الذي يأثم من خالفه بدليل هذه الأدلة الأخرى فدل ذلك على إن الوضوء كافٍ وبها نعمت, إلا أنه لاينبغي للعبد القادر الواجد للماء والسعة أن يخلَّ بذلك, ولاسيما إذا كان عليه ريح تؤذي المصلين, ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن غسل يوم الجمعة واجب على من فيه ريح تؤذي المصلين والمقصود:- أن حديث (( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )) ليس بمنسوخ بل هو محكم معمول به, لكنه من باب التأكد والندب المقارب للوجوب, ولذلك ورد في الحديث الصحيح (( حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيامٍ يوماً يغسل فيه رأسه وجسده )) فالراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن غسل يوم الجمعة سنة مؤكدة والأحاديث معمول بها.(1/99)
فحديث (( واجب على كل محتلم )) يدل على تأكده وحديث (( من توضأ يوم الجمعة )) فبها ونعمت وحديث (( من توضأ ثم أتي الجمعة )) يدل على الاكتفاء بالوضوء وبهذا القول تتآلف الأدلة ويعمل بها جميعاً وهو الواجب لأن الجمع بين الأدلة واجب ماأمكن والله أعلم, وقبل أن أختم هذا الفرع أقول:- الذي ندين الله تعالى به أنه لايجوز ادعاء شذوذ شيء من الألفاظ النبوية الثابتة ولاإلغاء شيء من الأحاديث الثابتة أو القيود الشرعية مادام يمكن إعمالها, فالعمل بالأدلة كلها وبجميع قيودها وشروطها واجب, فالعام يعمل به على عمومه ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل, والمطلق يعمل به على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل, والأمر يعمل به على بابه وهو الوجوب حتى يرد الصارف والنهي يعمل به على بابه وهو التحريم ولا ينتقل عنه إلى الكراهة إلا لصارف, والأصل في القيد الشرعي الإعمال والأصل في التخصيص الشرعي الإعمال, وليس قول أحدٍ حاكماً على الأدلة بل الدليل هو الحاكم على كل شيء, فأقوالنا ومذاهبنا وآراؤنا تابعة للدليل, فالمعتمد منها هو ماوافق الدليل, والصحيح منها ما وافق الدليل, فالدليل هو الميزان الذي توزن به الأقوال والمذاهب والمجتمعات والدول, فهو الأصل وما سواه ففرع, وهو الميزان وماسواه فموزون, وهو المقدم وماسواه فمؤخر, وهو المتبوع وما سواه فتابع, وهذا ماندين الله تعالى به ولذلك فإني أقول:- إن جميع ماكتبته يداي في سائر الكتب التي ألفتها إنما حاولت فيها نصر الدليل فإن رأيت شيئاً منها مخالفاً للدليل مخالفة واضحة فإني أبرأ إلى الله تعالى منه, وإني أشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة ومن يقرأ هذه الكتابة من الإخوان والأخوات إني بريء من كل قول يخالف الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف, والله من وراء القصد ولا حول ولا قوة إلا بالله, والمقصود إن جميع الأحاديث الواردة في هذا الفرع يجب العمل بها والتأليف بينها وهذا يكون بقولنا:- إن الغسل يوم الجمعة(1/100)
سنة مؤكدة وهو قول الجمهور ويزاد في تأكده واستحبابه على من به ريح تؤذي المصلين والله أعلى وأعلم.
الفرع الثامن والثلاثون
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من غسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ ))"حديث حسن بمجموع طرقه" وقد زعم بعض أهل العلم- رحمهم الله تعالى- إلى أن هذا الحديث منسوخ بحديث ابن عباس عند الحاكم وغيره قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ليس عليكم في غسلِ ميتكم غسلٌ إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهراً ))" وهو حديث حسن" وهذا الزعم فيه نظر ظاهر على صاحبه رحمة الله تعالى والصحيح إن الأحاديث يجب العمل بها جميعاً ولا يجوز ادعاء نسخ شيء منها إلا بدليل واضح وقد تقرر إن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, والجمع بين هذه الأدلة ممكن وبلا تكلف وهو أن يقال:- إن الأمر في قوله ( فليغتسل ) ليس على بابه الذي هو الوجوب وإنما المراد به الندب بدلالة الأدلة الأخرى, وبهذا تتآلف الأدلة ولا يكون بينها نسخ ولا تحتاج إلى ترجيح لأن الجمع ممكن وقد روى نافع عن ابن عمر قول(( كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لايغتسل )) قال ابن حجر بعد سياق هذا الأثر:- وهذا إسناد صحيح وهو أحسن ماجمع به بين مختلف هذه الأحاديث اهـ .
ويؤيده أن المسلم طاهر حياً وميتاً, كما في حديث(( إن المسلم لا ينجس )) فالغسل من تغسيل الميت ليس من باب الوجوب وإنما من باب الاستحباب, فحديث أبي هريرة يفيد الاستحباب وحديث ابن عباس يفيد الجواز ويروى ((أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر لما غسلته خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت:- إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل عليَّ من غسلٍ؟ قالوا:-لا )) "رواه مالك في الموطأ ولكن فيه ضعف" وحيث تقرر إن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن فإننا نقول:- لا يجوز ادعاء النسخ لأن العمل بكل هذه الأدلة ممكن بلا كلفة وهو أن نقول بالاستحباب والله أعلى وأعلم .(1/101)
الفرع التاسع والثلاثون
زعم بعض أهل العلم- رحمهم الله تعالى- أن حديث الأمر بالوضوء من لحم الإبل منسوخ ففي حديث جابر ابن سمرة ((أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :- أتوضأ من لحوم الغنم قال:- إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ, قال:- أتوضأ من لحم الإبل قال:- نعم فتوضأ من لحم الإبل )) "رواه مسلم" وفي الحديث الآخر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((توضؤا من لحوم الإبل))" حديث صحيح". فزعم هذا البعض أن هذه الأحاديث منسوخة بحديث جابر :(( كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار))"حديث صحيح" ولكن هذا الزعم فيه نظر لأن النسخ مرتبة تعقب الجمع فإذا أمكن الجمع فإنه لا يجوز القول بالنسخ وفي هذه الأحاديث يمكن الجمع بلا تكلف وهو أن يقال:- إن حديث جابر من الأحاديث العامة فكل شيء تمسه النار فإنه لا يتوضأ منه وحديث جابر بن سمرة والحديث بعده يفيد الوضوء من لحمٍ خاص وخصوا لحم الإبل فقط فهو حديث خاص وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام فحديث جابر في ترك الوضوء مما مست النار حديث عام وأحاديث الوضوء من لحم الإبل خاصة والخاص مقدم على العام وهذا القول من مفردات الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- والعبرة موافقة الحق فالراجح في هذه المسألة هو وجوب الوضوء من لحم الإبل وأن هذه الأحاديث لا نسخ فيها بل يجب العمل بها جميعاً لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم .
الفرع الأربعون(1/102)
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه (( شرب لبناً فمضمض وقال إن له دسماً ))"متفق عليه" فزعم البعض أن ذلك منسوخ بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( شرب لبناً فلم يمضمض ولم يتوضأ وصلى ))"رواه أبو داود بسند حسن" والعجب من هذا الزعم أنه زعم لا أساس له من الصحة كيف يكون منسوخاً مع إمكان العمل به فإن الواجب هو الجمع بين الأدلة ما أمكن فلا يوجد تعارض ولا اختلاف بين هذين الحديثين أبداً لأن المضمضة من اللبن ليست حتماً يعاقب من تركه بل هي للاستحباب ومن المعلوم أن المستحب مرادف للمندوب, والمندوب هو ماأمر الشارع به أمراً غير جازم, وعلامته أنه يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه فلما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - المضمضة علمنا أن الأمر فيه سعة ولله الحمد والمنة, وأنت تعلم أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تفيد الندب مالم تقترن بقولٍ فتفيد ماأفاد القول, وتمضمضه - صلى الله عليه وسلم - من اللبن فعل من الأفعال فيفيد الاستحباب, فحتى لولم يرد حديث أنس أصلاً لما كان يستفاد من تمضمضه إلا الندب فقط لأنه فعل, والمندوب يجوز تركه فكيف وقد ورد ذلك صريحاً من تركه - صلى الله عليه وسلم - ففي الحقيقة أن القول بالنسخ مجازفة كبيرة والحق أن هذه الأحاديث لاناسخ فيها ولا منسوخ لأن العمل بها جميعاً ممكن ومع إمكانية العمل فلا نسخ تحقيقاً للقاعدة المباركة الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والراجح في هذه المسألة أن المضمضة من شرب اللبن للندب ويؤيده أيضاً أن راوي الحديث هو ابن عباس - رضي الله عنه - شرب لبناً وتمضمض ثم قال:- لو لم أتمضمض ما باليت فقوله هذا يعد تفسيراً لحديثه وأن الأمر فيه سعة وقد تقرر في الأصول أن تفسير الراوي مقدم على غيره مالم يخالف ظاهر الحديث والله أعلى وأعلم .
الفرع الحادي والأربعون(1/103)
أقول:- روى البخاري ومسلم في صحيحيهما بسندهما عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه مرت به جنازة فقام فقيل:- إنما هي جنازة يهودي, فقال (( أليست نفساً )) وروى مسلم في صحيحه بسنده من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر - رضي الله عنه - يقول:- قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي حتى جاوزته وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- تمر بنا جنازة الكافر أنقوم لها, قال:(( نعم قوموا لها, إنكم لا تقومون لها,إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس )) وقد روى حديث القيام للجنازة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم زيد بن ثابت عند النسائي, ومنهم أبو سعيد عند البخاري ومسلم, وعامر بن ربيعة عند البخاري ومسلم أيضاً وكذلك عبدالله بن عمر, فكل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام للجنازة, ولكن عندنا أحاديث تخالف ذلك كقول علي - رضي الله عنه - منكراً على من قام للجنازة(( ما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة فلما نهى انتهينا )) وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر قال(( كنا جلوساً مع علي - رضي الله عنه - فمرت جنازة فقمنا فقال لنا:- ما هذا؟ فقلنا:- أمر أبي موسى فقال:- إنما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرةً واحدة ثم لم يعد )) وأخرج النسائي بسنده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالساً فمرت به جنازة وكان على طريقها فكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي فقام )) وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار عن ابن عباس قال(( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل جنازة مرت به فقال:- آذاني ريحها )) وأخرج أبو داود وابن ماجة عن عبادة بن الصامت ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد(1/104)
فمر حبر من اليهود فقال:- هكذا نفعل فقال:- اجلسوا, خالفوهم, فجلس )) فأنت ترى أن هذه الأحاديث بينها اختلاف, وقد جنح بعض أهل العلم إن النسخ وبعضهم جنح إلى الترجيح وبعضهم توقف وبعضهم ثبت على الجمع, ولاشك أن المسلك الأخير هو الأصح إن شاء الله تعالى, وذلك لأن المتقرر عندنا أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, والجمع هنا ممكن بلا إشكال ولله الحمد والمنة, وهو أن يقال:- الأمران جائزان فمن شاء قام ومن شاء قعد, فقيامه - صلى الله عليه وسلم - دليل الاستحباب وقعوده - صلى الله عليه وسلم - دليل الجواز.
ولله در ابن حزم- رحمه الله تعالى- إذ قال:- فكان قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد أمره بالقيام مبنياً أنه أمر ندب, وليس يجوز أن يكون هذا نسخاً لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ والنسخ لا يكون إلا بالنهي أو بتركٍ معه نهي اهـ كلامه - رحمه الله تعالى- قلت:- وأما حديث عبادة الذي فيه الأمر بالقعود مخالفة لليهود فإنه صريح في النسخ لكنه ضعيف الإسناد لا تقوم بمثله الحجة والأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة الصحيحة الصريحة, فالراجح في هذه المسألة هو جواز الأمرين, فمن قام فقد أحسن ومن قعد فقد أحسن عملاً بالثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي أن يكون القيام للجنازة من باب السنة المؤكدة بل يفعل أحياناً ويترك أحياناً فالكل جائز والأمر فيه سعة والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع الثاني والأربعون(1/105)
لقد ثبت في الكتاب والسنة أن الله تعالى معنا وقريب منا كما قال تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } (1) وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (2) وقال عليه الصلاة والسلام(( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت )) وقال عليه الصلاة والسلام ((أربعوا على أنفسكم فإنكم لاتدعون أصماً ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته )) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ - رضي الله عنه - (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) فأنزل الله تعالى { لاتَحْزَن إِنَّ اللهَ مَعَنَا } (3) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا صلى أحدكم فلا يبصقن قِبَل وجهه فإن الله تعالى قِبَل وجهه...الحديث )) مع أنه ثبت بالتواتر إن الله تعالى له العلو المطلق وذلك في آيات كثيرة وعلى أوجه متعددة, فقد يسأل سائل:- كيف نجمع بين علوه جلَّ وعلا وبين قربه ودنوه ومعيته جلَّ وعلا؟
فالجواب أن يقال:- لاتعارض في ذلك فنحن نؤمن الإيمان الجازم أن الله تعالى هو العلي العلو المطلق على مايليق بجلاله وعظمته جلَّ وعلا, وهو القريب من عباده القرب اللائق به جلَّ وعلا, وهو معهم المعية العامة والخاصة على مايقتضيه كماله وجلاله وعظمته جلَّ وعلا فكل ذلك ثابت ولا يجوز القدح فيه أو إعمال الفكر في شيء من ذلك, وبيان الجمع بين هذه الأدلة من عدة أوجه:-
الأول:- أن الأدلة جمعت بينهما وجاءت بكل واحد منهما والأدلة لا تأتي بالمحال, ولذلك فالقاعدة عندنا تقول:- النصوص ليس فيها ما يتعارض مع العقل ولكن فيها ما يحار فيه العقل.
__________
(1) سورة الحديد آية (4)
(2) سورة البقرة آية (186)
(3) سورة التوبة آية (40)(1/106)
الثاني:- أن العلو والمعية متصورة في المخلوق الضعيف فإن العرب لازالت تقول في أسفارها مازلنا نسير والقمر معنا, وهو في السماء, فجمعوا له ما بين العلو والمعية, فمعيته لهم لم تستلزم الاختلاط, فإذا كان هذا الأمر متصوراً في المخلوق العاجز الضعيف فكيف بالخالق الكامل الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله وإذا كانت الشمس في وجهك في السفر فإنك تقول:- سرنا والشمس قِبَل وجوهنا, وهي في العلو, فالعلو مع المقابلة لا يتنافيان في حق الشمس وهو مخلوق ضعيف فكيف بالخالق الكامل من كل وجه, سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الثالث:- سلَّمنا جدلاً أن ذلك لا يتصور في حق المخلوق فهل كل شيء يمتنع في حق المخلوق يكون ممتنعاً في حق الخالق جلَّ وعلا, بالطبع لا فإن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته ولا يتصور أصلاً أن يثور مثل هذه الإشكالات إلا في ذهن من جعل صفات الله جلَّ وعلا كصفات المخلوقين, والله تعالى هو الفرد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فلا كفوء له ولا سمي له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه.
وبهذا التخريج لا يكون بين الأدلة أي اختلاف ولله الحمد والمنة.
الفرع الثالث والأربعون
كيف نجمع بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به فإن كان لابد متمنياً فليقل:- اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي )) "متفق عليه" وبين قوله تعالى عن مريم : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } (1) وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون )) ؟
__________
(1) سورة مريم آية (23)(1/107)
والجواب أن يقال:- لا اختلاف في شيء من ذلك ولله الحمد والمنة وبيان ذلك أن يقال:- إن مريم رضي الله عنها وأرضاها إنما تمنت الموت للخوف على دينها أن تفتن فيه, فإن الناس إذا رأوا معها ولداً وليست بذات زوج فإنهم سيرمونها بالعظائم فخافت رضي الله عنها أن تفتن في دينها فتمنت الموت والمتقرر شرعاً جواز تمني الموت إذا خاف العبد أن يفتن في دينه وعلى ذلك الحديث الأخير أيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا أن يقبضه الله تعالى إذا أراد بعباده فتنة, فيقبضه إليه غير مفتون وبناءً عليه فيجوز للعبد أن يتمنى الموت إذا خاف الفتة في دينه, فإن الفتنة أكبر وأشد من القتل, وأما التمني الآخر فهو التمني بسبب الضر الدنيوي الذي نزل به, كموت قريبه أو فقرٍ مدقع أو خسارة في تجارة أو ديون مثقلة أو حلول أمراضٍ مزمنة ونحو ذلك فهذا لايجوَّز للعبد أن يتمنى الموت المطلق لأن حياة المؤمن خير فهو إما مذنب فيتوب وإما محسناً فيزداد في الإحسان وعلى هذا فلا يكون بين هذه النصوص أي وجه من أوجه الإشكال ولله الحمد والمنة وذلك بإعمال هذه القاعدة المباركة التي ينبغي لطالب العلم أن يهتم بها ويجعلها أصلاً من أصوله في سيرِه الفقهي والله أعلى وأعلم .
الفرع الرابع والأربعون(1/108)
أقول:- روى ابن ماجة في كتاب الطهارة بسنده عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائماً )) ومثله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى أن يبول الرجل قائماً )) وقالت عائشة:(( ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن )) "رواه أحمد" وفي حديث الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(( من الجفاء أن يبول الرجل وهو قائم )) فهذه الأحاديث تفيد النهي عن البول قائماً, ولكن ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قومٍ فبال قائماً... الحديث)) فكيف نجمع بين ذلك؟(1/109)
الجواب أن يقال:- لقد اختلفت مسالك أهل العلم في ذلك وأصح هذه المسالك أن يقال:- الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأحكام الشرعية أنها لا تثبت إلا بالأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة, وكل حديث مرفوع ينهى عن البول قائماً فإنه ضعيف فيما أعلم "والله أعلم" وحيث لم يصح في ذلك حديث فالأصل الإباحة, وبناءً على ذلك فلا نحتاج إلى جمع لأن الجمع إنما يكون عند صحة الأدلة التي ظاهرها التعارض وأن المنقولات الضعيفة فإن حقها الإطراح, فهذا هو المسلك الراجح عندي أن هذه المسألة لا تحتاج إلى جمع لضعف الأحاديث الناهية عن البول قائماً, لكن لو سلَّمنا جدلاً أنها تبلغ بمجموعها درجة الاحتجاج فلنا جواب آخر وهو أن يقال:- إن بوله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يفيد أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - ليس على بابه الذي هو التحريم وإنما هو للكراهة التنزيهية ولقد تقرر في الأصول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء ثم خالفه بفعله أن فعله هذا يعد من الصوارف للنهي القولي عن بابه إلى الكراهة وهذا أيضاً مسلك حسن لكن الأول أصح, وعلى كلا الجوابين فلا تعارض ولله الحمد والمنة, والراجح في هذه المسألة باعتبار ما فيها من الفقه هو أن البول قائماً جائز بشرطين:-
الأول:- أن يأمن من انكشاف عورته للغير.
الثاني:- أن يأمن عود رشاش البول عليه.
والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الخامس والأربعون(1/110)
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )) فهذا الحديث يفيد أن الهجرة قد انقطعت وهو صريح الدلالة في هذا, بل إنه نفي مسمى الهجرة بـ(لا) النافية للجنس فجنس الهجرة قد انتفى وانقطع, كيف يكون ذلك مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:(( لا تنقطع الهجرة مادام الجهاد )) وهو حديث صحيح, وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها, قال ذلك ثلاث مرات )) فظاهر هذه الأحاديث أنها متعارضة فكيف الجمع بينها؟(1/111)
والجواب أن يقال:- إن المراد بالهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة وذلك لأنها صارت بعد الفتح دار إسلام ولن ترجع بعده دار كفرٍ أبداً, فالهجرة منها إنما هي لما كانت دار كفرٍ, فكان من أسلم فيها يؤمر بالهجرة إلى المدينة حيث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون ولكن بعد أن فتحها الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - انقطعت الهجرة منها فهذا هو المراد بقوله(لاهجرة بعد الفتح) أي أن الهجرة بعد فتح مكة من مكة قد انقطعت, وتبقى الأحاديث الأخرى تفيد بقاءها مابقي الجهاد ومالم تنقطع التوبة وعلى هذا فلاإشكال ولله الحمد والمنة, وهناك جواب آخر في هذه المسألة وهو أن يقال:- إن الهجرة التي انقطعت بقوله(لاهجرة بعد الفتح) إنما هي الهجرة الخاصة التي لها أحكامها الخاصة وهي الهجرة قبل الفتح من مكة, فإن هذه الهجرة التي قام بها المهاجرون كانت لها أحكام خاصة, ومن ذلك أنه يحرم على من هاجر هذه الهجرة أن يرجع إلى مكة للبقاء فيها إلا لحاجة ثلاثة أيام فقط, ولذلك سأل عمر بن عبد العزيز السائب بن يزيد ما سمعت في سكنى مكة للمهاجر, فقال:- قال العلاء بن الحضرمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ثلاث بعد الصدر للمهاجر )) وسنده صحيح, بل كان المهاجرون - رضي الله عنهم - يشفقون من إدراك الموت بمكة ويعظمون ذلك ويخشونه على أنفسهم ولذلك لما مرض سعد ابن أبي وقاص في مكة قال:- يارسول الله:- أخلف بعد أصحابي فقال:(( إنك لن تخلف فتعمل عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه حتى ماتجعل في فيِّ امرأتك, ولعلك أن تخلف حتى يُسَرُّ بك أقوام ويُضَرُّ بك آخرون اللهم أمضي لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس لكن البائس سعد بن خولة((يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة)) "متفق عليه" فهذه الهجرة هي التي انقطعت بفتح مكة, وأما الهجرة العامة التي لايترتب عليها تحريم الرجوع إلى البلد المهاجر منه(1/112)
فإنها باقية إلى يوم القيامة كما صرح بذلك في الأحاديث, وكلا الوجهين صحيح, وبهما يزول الإشكال ولله الحمد والمنة قلنا ذلك لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله ربنا أعلى وأعلم.
الفرع السادس والأربعون
أقول:- لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به أنه قال(( فأتينا السماء السابعة قيل:- من هذا؟ قال:- جبريل قيل:- ومن معك؟ قال:- محمد, قيل:- وقد أرسل إلي؟ قال:- نعم قيل:- مرحباً به ولنعم المجيء جاء فأتيت على إبراهيم فسلمت عليه فقال:- مرحباً بك من ابن ونبي, فرفع لي البيت المعمور فسألت جبريل فقال:- هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ماعليهم ورفعت لي سدرة المنتهى..الحديث )) ففي هذا الحديث بيان أن هذه السدة في السماء السابعة, ولكن روى مسلم في كتاب الإيمان في صحيحه بسندٍ إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال:(( لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدة المنتهى وهي في السماء السادسة.. الحديث)) فهذا الحديث يثبت أنها في السماء السادسة ومثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع فكيف ذلك؟(1/113)
والجواب أن يقال:- لقد ذهب بعض أهل العلم- رحمهم الله تعالى- إلى مسلك الترجيح فرجحوا أحاديث كونها في السماء السابعة لكثرتهم ولأن أحاديثهم مرفوعة حقيقة ولأنها في الصحيحين ولكن كما ذكرت لك أنه لا ينبغي الذهاب إلى مرتبة الترجيح إلا إذا تعطلت مرتبة الجمع لأن الترجيح فيه إبطال لبعض ما ثبت من الأدلة والجمع هنا يسير ولله الحمد والمنة وهو أن يقال:- إن سدرة المنتهى لها أصل وفروع وأوراق وثمار, فأما أصلها ففي السماء السادسة كما أخبر بذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - , وأما فروعها من أغصانٍ وأوراق وثمار ونظرة ففي السماء السابعة كما أخبرت بذلك باقي الأحاديث, وماأحسن هذا الجمع الذي تبقى معه الأدلة سالمة معمولاً بها وقد ذكر هذا الجمع الإمام النووي وابن حجر وغيرهما من المحققين وهو الحق في هذه المسألة, فلا اختلاف ولا تعارض بين هذه الأحاديث فالكل حق وصدق, يؤيد بعضها بعضاً ويساند بعضها بعضاً والجمع بينها واجب ماأمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع السابع والأربعون
لقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما اشترط على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغفر له, فقال له:(( يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله )) فهذا الحديث يفيد أن المرء إذا أسلم فإنه بإسلامه يغفر له ما سلف في جاهليته لأن الإسلام يهدم ما كان قبله ولكن يشكل على ذلك حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قال يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال:(( من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر )) وفي رواية لمسلم (( ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام )) فبهذا الحديث يفيد أن المرء إذا أسلم ثم أساء في إسلامه فإنه يعاقب على إساءته في حال إسلامه وجاهليته فكيف الجمع بين هذين الحديثين؟(1/114)
والجواب أن يقال:- لابد أولاً أن تعلم أن أهل العلم رحمهم الله تعالى أجمعوا على أن من أسلم باطناً وظاهراً أن الله تعالى يغفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام ويجب أن تعلم أيضاً أن من أسلم وحسن إسلامه فالتزم بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه فإنه بهذا الإسلام يغفر له ذنوبه كلها لأن توبته توبة عامة من الكفر ومن غيره من سائر الذنوب والمعاصي وهذا بإجماع العلماء أيضاً ويجب أن تعلم أيضاً أن هناك إجماعاً ثالثاً وهو أن من أسلم ظاهراً فقط فإنه لا يغفر له شيئاً لأن إسلامه هذا إسلام نفاق فهذه الإجماعات الثلاث لاينبغي أن تغفل عنهن لأن ذلك من باب تحرير محل النزاع وبقي مسألة رابعة وهي التي اختلفوا فيها وهي فيما إذا كان الكافر يفعل شيئاً من الذنوب والمعاصي ثم أسلم ولا يزال مُصِراً على معاصيه وذنوبه فهل إسلامه هذا يكفر عنه ما سبق فعله من الذنوب والمعاصي ؟(1/115)
فيه خلاف, فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفر عنه ذلك وهذا قول ضعيف بل الحق في هذه المسألة أن من أساء بعد إسلامه بفعل شيء من الذنوب التي كان يفعلها حال كفره فإنه مؤاخذ بإساءته في الجاهلية والإسلام كما نص على ذلك المعصوم عليه الصلاة والسلام فالإسلام الذي يكون مكفراً لما مضى إنما هو الإسلام العام ومعناه التوبة من جميع ماكان يفعله وأما من تاب من الكفر فقط فإنه لا يغفر له إلا الكفر لأنه لم ينته إلا من الكفر فقط ومن انتهى عن ذنب غفر له ماسلف من ذلك الذنب فقط وأما الذنوب التي لايزال مصراً عليها بعد إسلامه فإنها تبقى على حالها ولا تدخل في حيز المغفرة وبناءً عليه فيكون الجمع بين الحديثين كما يلي:- فحديث عمرو بن العاص محمولٌ على من تاب التوبة العامة من الكفر وغيره فهذا هو الذي يغفر له جميع ماسلف وحديث ابن مسعود محمولٌ على من تاب من الكفر فقط ولكن لايزال مصراً على بعض الذنوب والمعاصي التي كان يفعلها حال كفره وقد ذهب إلى هذا القول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ونصره ابن حزم واختاره ابن تيمية وابن أبي العز في شرح الطحاوية وابن رجب وغيرهم من المحققين وبه تتآلف الأدلة وتتفق ويكون ذلك محققاً لقولنا الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن .
الفرع الثامن والأربعون(1/116)
أقول من الصفات التي أجمع على إثباتها أهل السنة صفة الرحمة لله تعالى وذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع, كقوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (1) وحديث(( لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي )) وحديث(( فاغفرلي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم )) وحديث(( الله أرحم بعباده من هذه بولدها )) والأيات والأحاديث في ذلك لا تكاد تحصر إلا بكلفة, ولكن يشكل على هذا حديث(( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة )) وفي رواية (( فأمسك عند تسعة وتسعين جزءاً وأنزل جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق.. الحديث )) ومعلوم أن صفات الله تعالى غير مخلوقة فكيف الجمع بين هذه الأحاديث؟
والجواب:- لا إشكال ولله الحمد والمنة وبيانه أن يقال:- إن الرحمة المضافة إلى الله تعالى قسمان :-
الأول:- رحمة مضافة إليه إضافة الصفة إلى الموصوف بها, كقوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وقوله تعالى: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمَاً } (2) وهذه الرحمة صفة ذاتية لازمة لله تعالى بالنظر إلى أصلها وهي من صفات الفعل بالنظر إلى آحادها وأفرادها لأن الله تعالى يرحم من يشاء, ويدل عليهما اسماه(الرحمن الرحيم) إلا أن صفة الرحمن صفة عامة وصفة الرحيم صفة خاصة فالأولى من صفات الذات والثانية من صفات الفعل.
__________
(1) سورة الأعراف آية (156)
(2) سورة غافر آية (7)(1/117)
الثاني:- رحمة مضافة إلى الله تعالى إضافة مفعولٍ إلى فاعله, أو تقول:- إضافة مخلوقٍ إلى خالقه, وهذه الرحمة ليست من صفات الله تعالى وإنما هي أثر من آثار رحمته التي هي صفته الذاتية والفعلية كقوله تعالى في الجنة(( وأنتِ الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء )) فسمى الجنة أنها رحمته وهي عين قائمة بذاتها منفصلة عنه جلَّ وعلا فالإضافة هنا إضافة مخلوق إلى خالقه ومنه الحديث السابق(( إن الله خلق مائة رحمة.. الحديث )) فهذه الرحمة المخلوقة ليست صفة من صفاته جلَّ وعلا - حاشا وكلا- وإنما إضافتها إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه, وأنت تعلم أن الإضافة إلى الله تعالى قسمان:- إضافة أشياء لاتقوم بذاتها فهي إضافة صفة إلى موصوف وإضافة أشياء تقوم بذاتها فهي إضافة خلق إلى خالقه أو إضافة لتشريف وتكريم.
فالرحمة التي هي صفته لا تنفصل عن ذاته جلَّ وعلا والرحمة المخلوق منفصلة عنه كل الانفصال, فالرحمة الأولى صفة من صفاته, والرحمة الثانية أثر من آثار هذه الصفة, والصفة شيء والأثر شيء آخر, فالمطر وإنبات الأرض ورزق الأولاد وتراحم الخلق فيما بينهم ونحو ذلك كله من آثار رحمة الله تعالى, كما في قوله تعالى عن المطر وإنبات الأرض واستبشار الناس بذلك: { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ } (1) وفي يوم القيامة يرحم الله تعالى عباده بكلا الرحمتين بالرحمة المخلوقة وبالرحمة التي هي صفة من صفاته وعلى هذا فالنصان متفقان متآلفان يصدق بعضهما بعضاً ويؤيد بعضهما بعضاً والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلى وأعلم .
الفرع التاسع والأربعون
__________
(1) سورة الروم آية (50)(1/118)
لقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثُ نساء عن حكم الاستحاضة فأجابهن بأجوبة مختلفة, فسألة فاطمة بنت حبيش فقال لها(( إن دم الحيض دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق))"رواه أبوداود وغيره وسنده حسن" وسألته أم حبيبة رضي الله عنها عن ذلك فقال لها (( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضك ثم اغتسلي))"حديث صحيح" وسألته حمنة بنت جحش عن ذلك فقال لها(( فتحيضي ستة أيامٍ أو سبعة أيامٍ ثم اغتسلي..الحديث )) وهو صحيح.
وكلهن كن مستحاضات ومع ذلك اختلف جوابه - صلى الله عليه وسلم - فأعطى كل واحدة منهن حكماً خاصاً يختلف عن حكمه على المرأة الأخرى فكيف ذلك؟
والجواب أن يقال:- الأمر يسير سهل ولله الحمد والمنة ولا اختلاف بين هذه الأحاديث البتة وقد اختلف مسالك أهل العلم في التوفيق بينها وأحسنها مانحاه أبو العباس ابن تيمية- رحمه الله تعالى- وغيره من المحققين وهو أن المرأة المستحاضة لاتخلو من ثلاث حالات:-
الأولى:- أن يكون لها عادة مستقرة معلومة قبل إطباق الدم بها فإن كان ذلك كذلك فإننا نردها ما تقرر من عادتها أي إذا جاء وقت عادتها من كل شهر فإنها تجلسه وإذا ذهب قدرها فتغتسل وتصلي وعلى ذلك حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
الثانية:- أن لا يكون لها عادة مستقرة قبل الاستحاضة إما لأنها نسيت أيام عادتها أو لأن دم الاستحاضة أطبق بها قبل الحيض, فحينئذٍ تعمل بالتمييز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فالدم الأسود النتن الثخين هو زمن حيضها فإذا ذهبت هذه الصفات وحلَّ محله الدم الأحمر السيال الذي لا رائحة له فهو استحاضة وعلى ذلك حديث فاطمة بنت حبيش.
الثالثة:- أن لا يكون لها عادة مستقرة وليس دمها متميزاً فتعمل حينئذٍ بغالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام تجلسها من كل شهر ويرجع في وقتها بالتحديد إلى عرف قريباتها كأمها وأختها وعمتها وخالتها وعلى ذلك حديث حمنة.(1/119)
فالأجوبة الصادرة من بين شفتي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - اختلفت باختلاف الأحوال, وهذا القول في المستحاضة هو الراجح وعليها يدور باب الاستحاضة , وبناءً عليه فلا تعارض بين هذه الأدلة ولله الحمد والمنة والجمع بينها ممكن فلا نسخ ولا ترجيح بل هو الجمع فقط لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم .
الفرع الخمسون
لقد ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه حفظ من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات- فذكرها- وفيه (( وركعتين بعد الجمعة في بيته))"متفق عليه" ولكن ثبت عنه أيضاً في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال(( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلِ بعدها أربعاً )) فكيف ذلك فإن الحديثين يظهر فيهما التعارض؟(1/120)
والجواب:- لا والله الذي لاإله إلا هو ليس بينهما أي نوع من أنواع التعارض وبيان الجواب أن يقال:- لقد اختلف أهل العلم في ذلك, فذهب البعض إلى أن الحكم الخاص بالأمة هو الصلاة أربعاً وأما صلاة ركعتين فإنه من الأحكام الخاصة به والحكم الخاص به لايتنافى مع الخاص بنا, وما أبعد هذا المسلك لأن الأصل أن كل حكم ثبت في حقه - صلى الله عليه وسلم - فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, والأصل أيضاً في التشريع التعميم والعجب أن يصدر هذا الكلام ممن ينكر- كثيراً- الدعاوى بلا برهان رحمه الله وعفا عنه ورفع نزله وأعلى درجته في الفردوس الأعلى هو وسائر علماء الإسلام وذهب البعض إلى النسخ, وما أسمج هذه الدعوى وأبعدها عن الصراط المستقيم, وذهب البعض إلى الجمع بقولهم:- حديث أبي هريرة يثبت أربعاً وحديث ابن عمر يثبت ركعتين إذاً هما ست ركعات فالسنة بعد الجمعة أن تصلى ستاً, وذهب البعض إلى جمع آخر وهو أن هذا من العبادات المتنوعة فتارة تصلي بعد الجمعة أربعاً وتارة تصلي اثنتين, ولكن الأصح والله تعالى أعلم والذي يتوافق مع التأصيل والتقعيد هو أن العبد إذا صلى سنة الجمعة في المسجد فإنه يصليها أربعاً وإذا صلاها في بيته فإنه يصليها اثنتين, وذلك لأن الثابت في حديث ابن عمر السابق أنه قال(( وركعتين بعد الجمعة في بيته )) فقيدها بأنها في البيت والأصل في القيود الإعمال لا الإهمال, وإذا صلاها في المسجد فيصليها أربعاً بدليل أنه قال(( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلِ)) والفاء تفيد التعقيب المتقارب فهذا مشعر بتقارب هذه الأربع من تسليم صلاة الجمعة واختار هذا المسلك شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- وهذا الجمع لاإشكال فيه ولله الحمد والمنة وهو أقرب ماقيل في الجمع بين هذين الحديثين والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والله أعلم .
الفرع الحادي الخمسون(1/121)
ولعله الأخير لأنني أظن أن القاعدة قد استوفت حقها من الشرح إن شاء الله تعالى فأقول:- من هذا الباب أيضاً قاعدة مهمة جداً وقد شرحتها في(تلقيح الأفهام) وهو القاعدة الأولى والتي نصها يقول العبادات الواردة على وجوه متنوعة تفعل على جميع صفاتها في أوقاتٍ مختلفة, فبعض العبادات ترد على أوجه متنوعة فلا تحسبن أن ذلك اختلافاً بل كل يسوغ لكن في أوقات مختلفة, بل السنة التنويع لأنه هكذا وردت السنة, ففعل هذه العبادة على هذا الوجه تارة وعلى هذا الوجه تارة أخرى وذلك كصفات الأذان كلها سائغة ثابتة وصفات الإقامة كلها سنة ثابتة, وأدعية الاستفتاح كلها سائغة جائزة فالكل سنة, وصفة رفع اليدين في مواضع الرفع الأربعة, وأذكار الركوع وأذكار السجود وصفة رفع الأصبع في التشهد وصفة التشهد الأخير كل ذلك سنة ثابتة وكذلك صفة التورك وذكر التسليم فتزيد أحياناً (وبركاته) عن اليمين فقط, وصفات الوضوء وتكبيرات الجنازة, وصفات الوتر, وغير ذلك من الأمثلة وهي كثيرة جداً كل ذلك صحيح ثابت فيفعل على جميع وجوهه في أوقات مختلفة, فلا تقل:- هذا اختلاف لا ليس هذا من الاختلاف في شيء, لأن الجمع بين جميع هذه الوجوه ممكن ومع إمكان الجمع فلا نسخ ولا ترجيح بل هو الجمع فقط لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن, وهذا هو آخر فرع أحببت تقيده لك والله أعلى وأعلم .(1/122)
وبه تتم هذه الرسالة التي أسأله جلَّ وعلا أن يبارك فيها وأن ينفع بها النفع العام والخاص وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ويجعلها خطوة نافعة مباركة في سائر فروع هذه القاعدة وهي عبارة عن هدية أهديها لك, وهي وقف لله تعالى على سائر المسلمين, والفضل فيها إنما هو لله جلَّ وعلا ثم لأهل العلم وإنما وظيفتي فيها الترتيب والتجميع فقط, فاللهم اغفر لأهل العلم جميعاً و ارحمهم وارفع درجتهم في المهديين و اجمعنا بهم في جنات النعيم و اجزهم خير ما جزيت عالماً عن أمته ولا تحرمنا بركة الانتفاع بعلومهم والحشر معهم و أستغفر الله و أتوب إليه من زلل البنان واللسان و الجنان ثم أستغفر الله و أتوب إليه من ذلك ثم أستغفر الله و أتوب إليه من ذلك و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
وقد حصل الفراغ بحمد الله وعظيم منته وحسن توفيقه في ليلة الحادي عشر من شهر جمادي الآخرة قبيل صلاة الفجر عام خمس وعشرون وأربعمائة و ألف من هجرة المعصوم صلى الله عليه و سلم والله أعلى وأعلم .
قال كاتبه الفقير إلى عفو ربه وليد بن راشد بن سعيدان
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة ومن
يطلع عليه من أهل العلم وطلبته
وسائر المسلمين أنه وقف
لله تعالى على عموم المسلمين
أجمعين(1/123)