قلت: وقال بنحو كلام الجورقاني هذا شيخه ابن طاهر القيسراني في تصنيف مفرد في طرق هذا الحديث، ونقل خلاصة كلامه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183"؛ فقال: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل =(40/413)
ص -300-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: إحداهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وكلاهما لا يصح".
ثم أفاد الحافظ ابن حجر أن الخطيب البغدادي أخرجه في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث. ا. هـ.
ولا بد هنا من ضرورة التأكيد على صحة ما قدمناه عن جماعة من جهابذة الجرح والتعديل أن الحارث بن عمرو قد تفرد بالحديث عن أصحاب معاذ، ومجرد وجود طرق أخرى من غير طريق أصحاب معاذ، لا يعني أن الحارث لم يتفرد به.
وهنا طريقان غير طريق الحارث:
الأولى: التي ذكرها ابن طاهر: محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وهي غير صحيحة كما قال ابن طاهر؛ للإبهام الذي فيها، ولضعف رواتها.
والثانية: طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وتفرد بها عبادة بن نسي -بضم النون، وفتح السين، بعدها ياء مشددة- وهو من الرواة الأردنيين، يكنى أبا عمر، ثقة فاضل مات سنة ثماني عشرة ومائة؛ كما في "التهذيب" "5/ 113".
وروى هذا الحديث عن عبادة بن نسي محمد بن سعيد بن حسان، وقد أبهم في رواية الإمام سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب "المغازي" له؛ كما في "النكت الظراف" "8/ 422" لابن حجر، و"تحفة الطالب" "ص153" لابن كثير؛ فوقع إسناد الحديث عنده هكذا: قال الإمام سعيد بن يحيى: حدثني أبي حدثني رجل عن عبادة بن نسي به.(40/414)
ولكن وقع التصريح به في "سنن ابن ماجه" "1/ 21/ رقم 55"، ومن طريقه الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 108-109/ رقم 102"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ"؛ فرواه من طريق الحسن بن حماد سجادة -صدوق- ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة به.
قال الجورقاني عقبه: "هذا حديث غريب"، وذكره ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 213" وقال: "هذا أجود إسنادًا من الأول "أي: حديث معاذ المتكلم عليه"، ولا ذكر للرأي فيه" ا. هـ. =(40/415)
ص -301-….......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: ولفظ هذا الحديث: "لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، فإن أشكل عليك أمر, فقف حتى تبينه أو تكتب إليّ فيه".
وذكره الجورقاني وحسنه مع غرابته كما تقدم ليبين بطلان لفظ حديث معاذ هذا، إذ أورده تحت عنوان "في خلاف ذلك".
وما أصاب الجورقاني ولا ابن القيم في قولهم: إن إسناد هذا الحديث أجود من الحديث الذي فيه للرأي ذكر، إذ فيه "محمد بن سعيد بن حسان" وهو المصلوب، المتهم الكذاب.
قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "ص155" بعد أن ذكر طريق الأموي في "مغازيه" بوجود المبهم فيه، ومن ثم طريق ابن ماجه المبينة أنه المذكور؛ فقال: "فتبينا بهذا أن الرجل الذي لم يسم في الرواية الأولى، هو محمد بن سعيد بن حسان، وهو المصلوب، وهو كذاب وضاع للحديث، اتفقوا على تركه".
ولهذا قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "ورقة 5/ ب": "هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب، اتهم بوضع الحديث"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 122": "لا يصلح حديثه لاستشهاد ولا متابعة".
نعم، لم يتفرد به محمد بن سعيد المصلوب؛ فقد رواه آخر عن عبادة بن نسي، ولكن إسناده لا يفرح به؛ فقد أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ" من طريق سليمان الشاذكوني: نا الهيثم بن عبد الغفار عن سبرة بن معبد عن عبادة به ولكن الشاذكوني كذاب؛ فهذه الطريق كالماء، لا تشد شيئًا.(40/416)
فالخلاصة أن هذين الطريقين غير صحيحين، ولهذا قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي فيما نقله ابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص70"، وابن حجر في "التلخيص" "4/ 183": "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح"، بل قال ابن الملقن في"البدر المنير" "5/ ق 214": "وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم"، ونقل فيه عن ابن دحية في كتابه "إرشاد الباغية والرد على المعتدي مما وهم فيه الفقيه أبو بكر بن العربي": "هذا حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه، لا أصل له؛ فوجب اطراحه".
عودة على الحارث بن عمرو:
اضطرب الإمام الذهبي في الحكم على "الحارث بن عمرو"؛ فقال في ترجمته في =(40/417)
ص -302-…........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "الميزان" "1/ 439": "ما روى عن الحارث غير أبي عون؛ فهو مجهول"، وأورده في "مختصر العلل" "ص1046-1047"، وقال: "قال ابن الجوزي وغيره: الحارث مجهول، قلت "الذهبي": ما هو مجهول، بل روى عنه جماعة، وهو صدوق إن شاء الله".
كذا قال هنا، مع أنه قال في "الميزان": "مجهول"؛ فانظر إلى هذا الاضطراب1.
ولم يذكر لنا الجماعة الذين رووا عنه، أما إخراج بعضهم له من حيز الجهالة -كما فعل الكوثري في "مقالاته" "ص60-61"- بمجرد قول شعبة "ابن أخي المغيرة بن شعبة"؛ فلا شيء لأنه لم يقل أحد من علماء الحديث أن الراوي المجهول إذا عرف اسم جده أو بلده بله اسم أخي جده، خرج بذلك عن جهالة العين إلى جهالة الحال، قال الخطيب في "الكفاية": "المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد..."، ومن ثَمَّ؛ فإن قول "وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة" يحتمل أن تكون ممن هو دون شعبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط من الاستدلال.
أصحاب معاذ:
ضعف هذا الحديث كثير من المحدثين بجهالة أصحاب معاذ، قال ابن حزم: "هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق"، "قلت: أي طريق الحارث"، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا؛ فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وقال بعد نقل البخاري السابق فيه ما نصه: "وهذا حديث باطل لا أصل له"، وقال الجورقاني: "وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة"، وكذا قال ابن الجوزي في "الواهيات".
وأعله الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي" "ص87, بتحقيق العجمي" بجهالة أصحاب معاذ أيضًا، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
ورد العلامة ابن قيم الجوزية هذه العلة؛ فأجاب عنها بقوله في "إعلام الموقعين" "1/ =(40/418)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وظفرت له في "السير" "18/ 72" في ترجمة "الجويني" باضطراب آخر؛ إذ قال: ".... بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة من أهل حمص عن معاذ؛ فإسناده صالح"؛ فجعل إسناده صالحًا هنا، مع تصريحه بجهالة الحارث.(40/419)
ص -303-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 243": "وأصحاب معاذ وإن كانوا غير مسمين؛ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى..."1، وكذا قال ابن العربي في "العارضة" "6/ 72-73" وقبله الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 189".
قلت: وكلامهم متين وقوي، ولكن علة الحديث غير محصورة في جهالة أصحاب معاذ؛ فالحديث يعل بالعلة الأولى والأخيرة، ولا يعل بهذه، ولبسط ذلك وتوضيحه أقول في كون هذه العلة قاصرة غير صالحة: أخرج البخاري -الذي شرط الصحة- حديث عروة البارقي: "سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات"، وقال مالك في القسامة: "أخبرني رجال من كبراء قومه"، وفي "الصحيح" عن الزهري: "حدثني رجال عن أبي هريرة: من صلى على جنازة؛ فله قيراط".
فجهالة أصحاب معاذ جرح غير مؤثر، لا سيما أن مذهب جمع من المحدثين كابن رجب وابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين، والجماعة خير من المستور كما لا يخفى، ولهذا لم يذكر ابن كثير في "تحفة الطالب" هذه العلة ألبتة، مع أن كلامه يفيد تضعيفه للحديث.
تنبيه: وقال الذهبي في "مختصر العلل" "ص1046-1047" في رد هذه العلة: "وقال, أي ابن الجوزي: وأصحاب معاذ لا يعرفون، قلت "الذهبي": ما في أصحاب محمد بحمد الله ضعيف لا سيما وهم جماعة".
كذا وقع فيه، والعبارة لا تخلو من أمرين؛ إما سليمة فهذا وهم من الذهبي -رحمه الله- فأصحاب معاذ ليسوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يقال فيهم هذا الكلام، والسياق يدل على أنهم من التابعين، والتابعي يجوز أن يكون ضعيفًا، وإما خطأ من النساخ، والصواب "أصحاب معاذ"، وهذا الظاهر؛ فحينئذ يتوافق ما قلناه مع ما عنده، مع ملاحظة أن التابعي يجوز أن يكون ضعيفًا.
الكلام على وصله وإرساله:(40/420)
وخير من تكلم وحرر هذا المبحث الدارقطني في "العلل" "م 2/ 48/ ب و9/ أ" =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "4/ 559" بعد أن نقل رد ابن القيم لعلة جهالة أصحاب معاذ: "قلت: الكلام كما قال ابن القيم، لكن ما قال في تصحيح حديث الباب ففيه عندي كلام".(40/421)
ص -304-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "مخطوط"؛ فقال: "رواه شعبة عن أبي عون هكذا "أي: موصولًا"، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود "أي: الطيالسي": أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال مرة: عن معاذ" ا. هـ.
وقال الترمذي في الحديث: "ليس إسناده عندي بمتصل"، قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 118": "وكأنه نفى الاتصال باعتبار الإبهام الذي في بعض رواته، وهو أحد القولين في حكم المبهم".
وأعل العراقي الحديث في "تخريج أحاديث البيضاوي" بعلل ثلاث: الأولى الإرسال هذا، الثانية جهالة أصحاب معاذ، الثالثة جهالة الحارث بن عمرو.
مسرد عام بأسماء من ضعف الحديث:
ضعف حديث معاذ هذا جماعة من جهابذة الحديث، على رأسهم أميرهم الإمام البخاري، وتلميذه الترمذي، والدارقطني، والعقيلي، وابن طاهر القيسراني، والجورقاني -بالراء المهملة وليس بالمعجمة، ذاك الجوزجاني صاحب "أحوال الرجال"- وابن حزم، والعراقي، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم من الأقدمين، واضطرب فيه الذهبي كما بينا.
مسرد بأسماء من صحح الحديث:
صحح حديث معاذ هذا أبو بكر الرازي، وابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي"، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وغيرهم من المتأخرين.
ملحظ من صححه ومن ضعفه:(40/422)
نظر مصححوه إلى عدم كون جهالة أصحاب معاذ علة قادحة فيه، وتناسوا الإرسال وجهالة الحارث بن عمرو، أما من ضعفه؛ فبعضهم ذكر العلل القادحة -على ما بيناه- وهما علتا الإرسال وجهالة الحارث، كالحافظ ابن كثير في "تخريج أحاديث منتهى ابن الحاجب"، وبعضهم زاد علة غير قادحة -على ما حققناه- وهي جهالة أصحاب معاذ، ونحا بعضهم منحى آخر؛ فقال بعد أن اعترف بضعفه وأنه لا يوجد له إسناد قائم: "لكن اشتهاره بين الناس وتلقيهم له بالقبول مما يقوي أمره"؛ كما فعل عبد الله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه" "ص299"، وسبقه أبو العباس بن القاضي فيما نقله عنه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"، وقال الغزالي في "المستصفى" "2/ 254": "وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنًا وإنكارًا، =(40/423)
ص -305-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما كان كذلك؛ فلا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده"، وأطلق صحة جماعة من الفقهاء أيضًا كالباقلاني وأبي الطيب الطبري لشهرته وتلقي العلماء لهم، وكأني بالجورقاني يرد عليهم عندما قال في "الأباطيل" "1/ 106": "فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه, فقل: هذه طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة"، وكذلك ابن الجوزي عندما قال في "العلل المتناهية" "2/ 272": "وهذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه".
هل معنى حديث معاذ صحيح؟
اختلف العلماء: هل معنى هذا الحديث صحيح أم لا؟ فمن نفى صحة معناه فنفيه لصحة مبناه من باب أولى، ولكن كان سبب صحة معناه عند بعضهم صحة مبناه؛ فكأنه صححه لشواهده، واعتدل آخرون فنفوا صحته من حيث الثبوت، وأثبتوها من حيث الدلالة، وإن كان إطلاق ذلك لا يسلم من كلام كما سيتبين معك إن شاء الله تعالى.
فممن صحح معنى الحديث وانبنى عليه تصحيحه لمبناه الإمام الذهبي؛ فقال في "مختصر العلل": "هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح؛ فإن الحاكم يضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر".
فتحسينه لإسناده غير صحيح؛ إذ لم يسلم من علة الإرسال وجهالة الحارث، ولكن تصحيح معناه فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص صحيح، لا مجال للقول بخلافه، لا سيما أن شواهد كثيرة من نصوص أخرى تؤكد هذا المعنى.
وأطلق ابن الجوزي تصحيح معنى الحديث في "العلل المتناهية" "2/ 272" وإن كان يرى عدم ثبوته؛ فقال: "... ولعمري إن كان معناه صحيحًا، إنما ثبوته لا يعرف".(40/424)
قلت: وإطلاق تصحيح معناه فيه نظر؛ فمتنه لا يخلو من نكارة؛ إذ فيه تصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة؛ فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا، وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم. أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة =(40/425)
ص -306-…وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح: "إذا أتاك أمر؛ فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله؛ فاقض بما سن فيه رسول الله, صلى الله عليه وسلم....."1 إلخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الضعيفة" "رقم 881".
الخلاصة وتنبيهات:
وخلاصة ما تقدم أن حديث معاذ هذا أعل بثلاث علل، لم تسلم واحدة منها، وهي جهالة أصحاب معاذ، وبقيت اثنتان، وهي جهالة الحارث والإرسال؛ فهو ضعيف من حيث الثبوت، وصحيح في بعض معناه، ومنكر في التفرقة بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، وحصر حجية السنة عند فقد الكتاب؛ كما ذكرناه آنفًا.
ونختم الكلام على هذا الحديث بملاحظتين:
الأولى: أفاد ابن حزم في "ملخص إبطال القياس" "ص14" أن بعضهم موه وادعى فيه التواتر!! قال: "وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون، وما احتج به أحد من المتقدمين"، وأقره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183".
والأخيرة: قال ابن طاهر القيسراني: "وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب "أصول الفقه": والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ! قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة".
وتعقبه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"؛ فقال: "قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه؛ فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل، كذا قال, رحمه الله".
اللهم ارزقنا الأدب مع علمائنا ومشايخنا، وتقبل منا، وارزقنا السداد والصواب، وجنبنا الخطأ والخلل والفحش.(40/426)
1 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، 8/ 231"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 133"، والدارمي في "سننه" "1/ 60"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "7/ 241, ط دار الفكر"، ومن طريقه ابن عاصم -كما في "مسند الفاروق" "2/ 548"- ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 134"، وسعيد بن منصور -ومن =(40/427)
ص -307-…وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئًا في كتاب الله؛ فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره"1.
وقد بين2 معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله؛ فاتبع فيه سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3.
ومثل هذا عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء؛ فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله؛ فليقض بما قضى به نبيه, صلى الله عليه وسلم"4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طريقه البيهقي في "الكبري" "10/ 110", والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 99"، وابن عبد البر -المذكور لفظه- في "الجامع" "2/ 846/ رقم 1595"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 29-30"، والبيهقي "10/ 115" من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي الله عنه- يسأله؛ فكتب إليه، وذكروه بألفاظ، منها المذكور هنا، ومنها ما سيأتي عند المصنف، وإسناده صحيح؛ وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120"، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" لأبي يعلى، وفي آخره قصة رؤيا عامل عمر على حمص اقتتال الشمس والقمر، وسبق ذكر إسناده مع بيان ضعفه "2/ 455".
1 هذا اللفظ أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1596"، وإسناده صحيح، ومضى تخريجه في الذي قبله، وفي "ط": "وما تلتفت".
2 احتاج لهذا الدفع ما يتوهم من قوله: "ولا تلتفت إلى غيره" شمول الغير للسنة، مع أنه إذا وجدت السنة مع الكتاب؛ فلا بد من الالتفات إليها كبيان للكتاب. "د".
3 أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848/ رقم 1598"، وما قبله يشهد له.
4 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848-849/ رقم 1599" -والمذكور لفظه- ورجاله ثقات، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 119".
وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 115" من طريق آخر عن ابن مسعود.(40/428)
ص -308-…الحديث.
وعن ابن عباس أنه كان إذا عن سئل عن شيء؛ فإن كان في كتاب الله قال به، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال به1.
وهو كثير في كلام السلف2 والعلماء.
وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب3 راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 115"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 202-203"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 28-29"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 849-850/ رقم 1600، 1601، 1602" من طريق سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: سمعت ابن عباس: إذا سئل... به.
وإسناده صحيح، وصححه البيهقي، وانظر "نصب الراية" "4/ 64".
2 منه ما عند البيهقي في "السنن" "10/ 115" عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لما سأله عن القضاء، وإسناده حسن، قاله ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120".
وناقش الشيخ عبد الغني عبد الخالق هذا الدليل؛ فقال في "حجية السنة" "494": "والجواب أن الحديث ذكره بعضهم في الموضوعات، ولو صح؛ لوجب تأويله على أن المراد به الأسهل والأقرب تناولًا، ولا شك أن كتاب الله كذلك، وإنما وجب هذا التأويل لأن قطعي المتن والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب، وهو كثير بالنسبة لمعاذ المشاهد له -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان خبر آحاد؛ فقد يكون قطعي الدلالة والقرآن ظنيها، فيتعادلان؛ فلا يصح التقديم، بل يجب التأويل الجمع بالاجتهاد والنظر في أدلة الترجيح، وأما قول عمر: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا"؛ فيجب حمله على ما كان نصًّا واضحًا لم يشكل بمعارضة شيء من السنة، لما ذكرنا، على أن قول عمر ليس بحجة".(40/429)
3 انظر في بسط ذلك: "أصول السرخسي" "2/ 303"، و"كشف الأسرار" "2/ 203"، و"فواتح الرحموت" "1/ 58" و"التوضيح على التنقيح" "3/ 75"، و"البدخشي" "1/ 55".=(40/430)
ص -309-…على اعتبار السنة، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار.
فإن قيل: هذا مخالف لما عليه المحققون:
أما أولًا: فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة؛ لأن الكتاب يكون محتملًا لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما؛ فيرجع إلى السنة، ويترك مقتضى الكتاب.
وأيضًا؛ فقد يكون ظاهر الكتاب أمرًا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة1، وحسبك أنها تقيد مطلقه، وتخص عمومه، وتحمله على غير ظاهره، حسبما هو مذكور في الأصول؛ فالقرآن آتٍ بقطع كل سارق؛ فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز2، وأتى بأخذ الزكاة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في "د" وحدها: "فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة، وحسبك...".
2 الدليل على ما ذكر المصنف جملة من الأحاديث، نقتصر على الآتي:
ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وفي كم يقطع؟ 12/ 96/ رقم 6789، 6790، 6791"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1312/ رقم 1684" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وفي رواية لمسلم: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا في النصاب.(40/431)
ص -310-…جميع الأموال ظاهرًا؛ فخصته بأموال مخصوصة1، وقال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24]؛ فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها2؛ فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه، ومثل ذلك لا يحصى كثرة.
وأما ثانيًا؛ فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول: هل يقدم الكتاب على السنة، أم بالعكس، أم هما متعارضان3؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 1710، 4390"، والنسائي في "المجتبى" "8/ 85"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1289"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2596"، والدارقطني في "السنن" "4/ 381"، وأحمد في "المسند" "2/ 180، 203، 207"، والبيهقي في "الكبرى" "
8/ 278"، وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وفيه: "من سرق منه شيئًا بعد أن يئويه الجرين، فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع"، وفي رواية: "وليس في شيء من الثمر قطع؛ إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن؛ ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن؛ فقيه غرامة مثليه وجلدات نكالًا"، وإسناده صحيح، والجرين: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، وهذا في الحرز، وهو الموضع الذي يحرز فيه الشيء لحفظ المال؛ كالدار، والحانوت، والخيمة، والخزانة، والصندوق، وما شابهه.
وانظر تفصيل المسألة مع أدلتها في "دلائل الأحكام" لابن شداد "4/ 112-115 و119-122"، و"الإرواء" "8/ 67-68، 69/ رقم 2408، 2413"، و"أحكام السرقة في الشريعة" "ص58 وما بعدها، وص151 وما بعدها" لأحمد الكبيسي.
1 من مثل الإبل والغنم والبقر والذهب والورق، وتجد الأدلة على ذلك في الأصناف المستثناة في "دلائل الأحكام" "2/ 567 وما بعدها"، وفي سائر كتب أحاديث الأحكام مثل "النيل"، و"سبل السلام"، و"العمدة" مع "شروحها".
2 لما ثبت في "الصحيحين" من تحريم لذلك، وسيأتي تخريجه "ص383".(40/432)
3 أي: فإن علم المتأخر منهما نسخ المتقدم، وإلا رجح أحدهما بما يصلح مرجحًا أو جمع بينهما إن أمكن وإلا أخذ بغيرهما، وقولهم: "لا معارضة بين ظني وقطعي" إنما يكون في المعارضة الحقيقة؛ أي: في المعقولات، أما في الشرعيات؛ فلا مانع لأنها في الواقع صورة معارضة فقط، أما المعارضة بمعنى التناقض ذي الوحدات الثمانية؛ فلا أثر لها في الأدلة الشرعية. "د".(40/433)
ص -311-…وقد تكلم الناس في حديث معاذ، ورأوا أنه على خلاف الدليل؛ فإن كل ما في الكتاب لا يقدم1 على كل السنة، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب، ولذلك وقع الخلاف2، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب3، وهو الكتاب، فإذا كان الأمر على هذا؛ فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب، بل المتبع الدليل4.
فالجواب: أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في5 السنة هو المراد في الكتاب؛ فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فإذا حصل بيان قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله؛ فذلك هو المعنى المراد من الآية، لا أن نقول: إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن قطعي السند والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب؛ فقول: "لا تضعف" أي: بل قد تقدم كما ذكرنا، وقد يحصل التعارض إذا تساويا في قطعية السند والدلالة، ولذلك قالوا: إنه لم يبق من صور التعارض بينهما ما يرجح فيه الكتاب لسنده؛ إلا ما كان ظني الدلالة منه مع قطعي الدلالة منها مع ظنية ضدها. "د".
2 أي: في تقديم الكتاب عليهما أو تقديمها عليه أو تعارضهما. "د".
3 أي: تناولًا. "د".
4 أي: ما يتعين للدلالة منهما بطريق من طرق الترجيح المذكورة في بابه. "د".
5 في "ط": "بل على إن ذلك المفسر".(40/434)
ص -312-…معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله, عليه الصلاة والسلام.
وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له؛ فلا يتوقف مع إجماله واحتماله، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه1.
وأما خلاف2 الأصوليين في التعارض؛ فقد مر3 في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند4 إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول، وإلا؛ فالتوقف، وكونه مستندًا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مناقشة هذا الكلام فيما مضى في التعليق على "ص298".
2 شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وهو قول بعض الأصوليين بتعارضهما إذا كان ظني الدلالة ولم يعلم تاريخهما؛ فلا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابًا ولا بكونه سنة، بل إن لم يمكن الجمع بينهما رجح أحدهما بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن، وإلا تركا. "د".(40/435)
3 حيث قال في المسألة الثانية: "وإن كان ظنيًّا؛ فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر، وإلا وجب التثبت فيه"، وقال: "إن هذا المعتبر يرجع إلى أصل قرآني يكون بيانًا له، وإن عامة أخبار الآحاد بيان للقرآن، وذلك معنى رجوعه لأصل قطعي"، ومثله هناك بالأحاديث التي بينت صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج, والأحاديث التي بينت جملة من الربا... إلخ, وأنت إذا تأملت وجدت أحاديث الطهارة والصلاة مثلًا وإن كانت شارحة ومفصلة لهذين النوعين من العبادة لا يقال فيها: إنها جزئيات لكلي قرآني إلا باعتبار ضعيف؛ لأنه بدأ بميامنه في الوضوء مثلًا جزئيته لآية الطهارة لا يجعله متعين القصد في الآية؛ إذ الطهارة كما تتحقق على هذه الصفة تتحقق بالبدء بالمياسر، وكذا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لا تستلزمه آية: {أَقِيمُوا الصَّلاة}، حتى يكون الخبران الواردان في هذين الجزئيين لهما حكم الجزئي الحقيقي الذي تكون معارضته لغيره معارضة محققة يصح نسبتها لأصله وكليه، ويترتب على ذلك أنه من معارضة قطعيين؛ فهذا كلام خطابي. "د".
4 في "ط": "أسند".(40/436)
ص -313-…كلي، وتبين معنى هذا الكلام هنالك، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية، والخبر معارضة أصلين قرآنيين؛ فيرجع إلى ذلك، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين1، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية؛ فلا بد من تقديم القرآن على2 الخبر بإطلاق.
وأيضًا؛ فإن3 ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز، ولعلك4 لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة؛ فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وسيأتي الكلام فيه بعد. "د". وفي "ط": "لأنه من تعارض...".
2 كما تقدم في رد عائشة حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" بآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. "د".
3 هذا جواب الإشكال الثالث، وهو أن السنة أيضًا فيها قطعي السند؛ فلا تقل عن الكتاب في الدلالة. "د".
4 كأنه سلم الإشكال بالمتواترة على مسألته من تقديم الكتاب مطلقًا على السنة، ولكنه جعل أمره هينًا؛ لأنه إما أنه لا توجد سنة متواترة على شرط التواتر، يعني: يرويها من يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة إلى زمنه -صلى الله عليه وسلم- وإما أن يكون نادرًا لا يستحق البحث والاستشكال. "د".(40/437)
ص -314-…المسألة الثالثة:
السنة راجعة في معناها إلى الكتاب؛ فهي تفصيل1 مجمله، وبيان2 مشكله، وبسط3 مختصره.
وذلك لأنها بيان له4، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}5 [النحل: 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالأحاديث المفصلة لمجمل: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مثلًَا. "د".
2 كالأحاديث التي أوضحت الغرض من الآيات التي فهم منها الصحابة خلاف مقصودها، مثلًا آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ...} إلخ [التوبة: 34]، لما نزلت كبر ذلك على الصحابة، فسألوا عنها؛ فقال عليه, الصلاة والسلام: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم". فكبّر عمر، وكالحديث الذي رفع عن الصحابة إشكال آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، وبيانه أن المراد بالظلم الشرك كما في آية لقمان. "د".
قلت: استشكالهم آية لقمان ورد في خبر صحيح وقد مضى تخريجه "3/ 402" أما قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة... "إلخ أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 1664"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 408-409"، وهو في "السلسلة الضعيفة" لشيخنا الألباني "رقم 1319".
3 كما في آية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]؛ فقد بسط قصتها الحديث الذي أخرجه الخمسة، وشرح ما حصل فيها من النهي عن كلامهم، ثم النهي عن قربان نسائهم... إلى آخر القصة. "د".
قلت: وقصة الذين تخلفوا ثابتة صحيحة مضى تخريجها "2/ 270".(40/438)
4 قوله: "وذلك لأنها بيان"؛ فهو يقصد به أن جميعها بيان فقط، ولا شيء منها بمستقل، كما يدل عليه قوله: "فلا تجد في السنة..." إلخ، ثم إن هذا عين دعواه كما اعترف به أخيرًا حيث قال: "وذلك معنى كونها راجعة إليه"؛ فيكون هذا التعليل منه مصادرة؛ فكان عليه أن يستدل على الدعوى بالآية مباشرة، قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص520".
5 اعترض الشيخ عبد الغني عبد الخالق على هذا الاستدلال بالآية؛ فقال في "حجية السنة" "ص520-522": "وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ =(40/439)
ص -315-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فلا دلالة فيه على حصر علة إنزال الذكر في التبيين.
سلمنا أنه يدل على هذا الحصر -على حد قول من يقول: إن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر- وأن معنى الآية: وما أنزلنا إليك الذكر "الكتاب" إلا تبين للناس ما نزل إليهم فيه من الأحكام، لكنه لا ينتج مطلوبه من أن وظيفة سنته -صلى الله عليه وسلم- البيان لما في الكتاب فقط، وأنه لا شيء منها بمستقل؛ إذ كل ما فهم من هذا الحصر أنه إنما أنزل الكتاب ليبينه -صلى الله عليه وسلم- للناس، لا ليهمل بيانه، ويترك الناس جاهلين بما فيه من الأحكام، وهذا لا ينفي أنه قد يستقل بسن أحكام لا نص عليها في الكتاب.
مثلًا: إذا أعطيت مدرسًا كتابين وقلت له: لم أعطك الكتاب الأول إلا لتبينه لتلاميذك وتشرحه لهم؛ فهل معنى هذا القول أنك لم تعطه الثاني إلا ليبين به الأول، وأنه ليس في الثاني زيادة عما في الأول من القواعد، وإنما الذي فيه مجرد بسط قواعد الأول وشرحها؟ كلا.
فما نحن فيه كذلك، أنزل الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحيين: أحدهما متلو والآخر غير متلو، وقال له: لم أنزل عليك المتلو إلا لتبين للناس ما فيه من الأحكام، فهذا لا يقتضي أن يكون غير المتلو بيانًا للمتلو فقط، وأنه ليس فيه ما لم ينص عليه الأول.(40/440)
ولئن سلمنا أن الآية تفيد أن غير المتلو للبيان؛ فليس فيها ما يدل على أنه بيان لمجمل الكتاب فقط، فإن البيان في الآية معناه إظهار الحكم للناس، وتعريفهم به، سواء أكان ابتداء لم يسبق أن ذكر إجمالًا في كتاب ولا في سنة، أم لم يكن كذلك، و{مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الآية شامل للكتاب وغيره من أنواع الوحي، والذكر الكتاب فقط على الرأي المشهور، ومعنى الآية حينئذ: "وما أنزلنا إليك الكتاب المعجز للبشر؛ إلا ليكون دليلًا على صحة رسالتك، مذكرًا لهم بما يستحقونه من العقاب على مخالفة أحكام الله، ومن الثواب على امتثالها؛ فيمكنك حينئذ أن تظهر للناس جميع ما أنزل إليهم من أنواع الوحي استقلالًا أو بيانًا، ويكون إظهارك هذا حجة عليهم، حيث أثبتنا صحة رسالتك بهذا الذكر، وبشرناهم وأنذرناهم فيه"، هذا إن أريد بالذكر الكتاب.
فإن أريد به العلم كما قاله بعض المفسرين؛ فالأمر ظاهر، إذ لا يكون خاصًّا بالكتاب، فالمعنى عليه "وأنزلنا إليك جميع أنواع الوحي لتبين ما فيها من الأحكام للناس، وتظهرها لهم".
والبيان قد ورد في القرآن بمعنى مطلق الإظهار، ووصف به الكتاب نفسه في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} [القصص: 2]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ =(40/441)
ص -316-…فلا تجد في السنة أمرًا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضًا؛ فكل ما دل1 على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها2؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
فليس في الآية دلالة على ما ذهب إليه المستدل، ولو فرض جدلًَا أن في الآية احتمالًا آخر يفيد مذهبه، ولم نهتد إليه؛ فماذا يفيده هذا الاحتمال، سواء أكان راجحًا أم مرجوحًا، والمسألة قطعية لا ينفع فيها مثل ذلك؟".
1 لم يستدل عليه في موضعه من مباحث الكتاب العزيز، بل قال: إنه "لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة". "د".
2 قوله: "إن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها"، فإن أراد بذلك أنه ذكر فيه جميع القواعد الإسلامية الأصلية، وذكر فيه جميع الأدلة التي يعتمد عليها المجتهدون في فهم الأحكام الفرعية، سواء أكانت هذه الأدلة مستقلة بإفادة حكم لم ينص عليه الكتاب، أم مبينة لحكم أجمله؛ فنحن نقول وتؤمن به،وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولكن ماذا في ذلك: أيستلزم دعواه؟ كلا، وكل ما دل على ذلك من قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على تسليم أن ليس المراد به اللوح المحفوظ؛ فهو لا يدل على دعواه كذلك.(40/442)
وإن أراد بذلك أنه ذكر فيه كل حكم على سبيل الإجمال ونص عليه؛ فهذا لا نسلمه إذ الواقع يكذبه، والآيات التي ذكرها يجب حملها على خلاف ذلك، وإلا كانت كاذبة، على أنا لو أخذنا بظاهرها وسلمنا صحة ذلك جدلًا؛ لكانت دليلًا على أن القرآن كلية الشريعة، بمعنى أنه احتوى على كل حكم إجمالًا وتفصيلًا، ونص على ذلك كله، ولم يكن لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان، ولا استقلال، أتقول أنت بذلك؟ كلا، فما الذي تقوله في الخروج من هذا الإشكال؟ ألست ستقول: إن القرآن احتوى على التفاصيل بمعنى أنه بين بيانًا شافيًا أن السنة حجة فيها؟ فهذا الذي تقوله في التفاصيل هو ما قلناه نحن في غيرها.
فإن قلت: إني أتخلص من ذلك بأن أقول: إن القرآن قد اشتمل على كليات هذه التفاصيل؛ قلنا: سلمنا لك جدلًا أنه اشتمل على هذه الكليات، وأن التفاصيل في الواقع مندرجة فيها، ولكن أيمكنك أنت وغيرك ممن هو أعلى منك عقلًا وفهمًا وإدراكًا لمعاني القرآن أن تستنبطوا جميع هذه التفاصيل من تلك الكليات؟ إن قلت نعم؛ فأنت مكابر، ولا يصح معك الكلام، وإن =(40/443)
ص -317-…فهو دليل على ذلك لأن الله قال1: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت لا؛ قلنا لك: أفيصح حينئذ أن يقال: إن القرآن تبيان لهذه التفاصيل التي لا يمكن لمجتهد من هذه الأمة أن يدركها منه، مع أن كلمة "تبيان" تدل على منتهى الإظهار والإيضاح؟ لا يصح ذلك، فدل على أن تأويلك هذا غير صحيح.
على أنا لو سلمنا لك أنه يمكنك أو يمكن غيرك إدراك هذه التفاصيل؛ أفلا نجد أنفسنا قائلين حينئذ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مبين أيضًا، كما هو غير مستقل؟ فإنا على هذا الفرض نفهم جميع الأحكام إجمالًا وتفصيلًا؛ فلا داعي لتأسيس الرسول بالبيان، ولا بالاستقلال، ولكنا نقول بالاتفاق: إنه مبين ابتداء ومؤسس لهذه التفاصيل، لا مؤكد لها.
فإن قلت: إني أقول: إننا لا يمكننا إدراكها، ولكن صح وصف القرآن بأنه تبيان لها بالنظر إلى الواقع، وصح وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه مبين لها ابتداء ومؤسس لهال بالنظر إلى عقولنا؛ قلنا: فكذلك نحن نقول: إن الأحكام التي استقلت بها السنة ولم يرد في القرآن نص عليها يمكننا أن ندركها منه، بوصف الرسول بأنه مؤسس لها ابتداء بالنظر إلى الظاهر، وإن كانت في الواقع مندرجة تحت كليات القرآن، ومحل النزاع هو النص بحيث يمكن الفهم منه للمجتهدين، لا الاندراج في الواقع ولو لم يمكن الفهم؛ إذ ما قيمة هذا الاندراج بالنسبة للمجتهد الذي يريد أن يستنبط.(40/444)
وبالجملة؛ فأفعال الصلاة، وميراث الجدة لم ينص عليهما القرآن نصًّا يمكن لعقولنا أن تفهمهما منه، ووصف القرآن بأنه تبيان لهما وكل منهما أسسه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقولنا ابتداء، كل ما في الأمر أن هذا التأسيس بالنظر لأفعال الصلاة نسميه بيانًا في الاصطلاح؛ لأن حكم الصلاة منصوص عليه في القرآن مجملًا، وبالنظر لميراث الجدة لا يسمى بيانًا؛ لأنه لم ينص عليه مطلقًا، بل نسميه استقلالًا.
فإن جعلت قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} مبطلًا لتأسيس ميراث الجدة من ناحية الإجمال؛ وجب القول بأنه مبطل لتأسيس حكم أفعال الصلاة وتفاصيلها، ولا يصح أن يقال لفعله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه مؤكد فقط، بل لا يقال له مؤكد أيضًا؛ إذ التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، ولم يقل أحد من المسلمين عامة بشيء من ذلك. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص522-524". وفي "ط": "وينبوع الملة".
1 في نسختي "ف" و"م": "... ذلك وقال"، وفي "ط": "ولأن الله قال".(40/445)
ص -318-…وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه1 القرآن2، واقتصرت في خلقه على ذلك؛ فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن؛ لأن الخلق محصور3 في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبيانًا لكل شيء؛ فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة لأن الأمر والنهي أول4 ما في الكتاب، ومثله قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وخلق الشخص ما تنشأ عنه أفعاله بسهولة؛ فأفعاله -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وسائر شأنه صادر عن القرآن، والأفعال وما معها هي ما تطلق عليه السنة. "د".
2 الحديث صحيح، ومضى تخريجه "2/ 332"، ورد الشيخ عبد الغني عبد الخالق على المصنف بقوله: "وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم}؛ فنعم الوصف ونعم الموصوف به -صلى الله عليه وسلم- وكرم وعظم، وهل من شك في ذلك، وأما تفسير عائشة -رضي الله عنها- فهو موقوف عليها فليس بحجة، سلمنا أنه حجة، وسلمنا أنه يفيد الحصر؛ فمفهومه أن خلقه وما يصدر عنه من الأفعال لا يخالف القرآن، هذا هو الذي يفيده الحصر، وليس فيه تعرض لما سكت عنه القرآن.
سلمنا أنه تعرض له، لكنه تعرض له في المنطوق على وجه الإثبات، لا في المفهوم على وجه النفي، كما يقصده الخصم؛ فإن ما يصدر عنه وسكت القرآن عن النص على حكمه قد أمره الله تعالى بتبليغه واتباعه في القرآن نفسه؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67], وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]، وهذا عام يشمل المتلو وغيره، المؤكد والمبين والمستقل؛ فدل ذلك على أن خلقه الذي نشأ عنه المحافظة على تبليغ غير المتلو إذا كان مستقلًَا وعلى اتباعه مطابق للقرآن وموافق له؛ فهو داخل في منطوق الحصر".
انظر: "حجية السنة" "ص524-525".
3 أي: بمقتضى الجملة المعرفة الطرفين في كلامها، أو أثر الخلق مطلقًا لا يخرج عنها. "د".(40/446)
4 يعني: أن القرآن وإن اشتمل على علوم خمسة كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة من الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل في العلوم المضافة للقرآن؛ فإن أول ما يعنى به هو الأمر والنهي، أي: التكاليف الشرعية اعتقادية وعملية، وأهم ما في السنة بيان التكاليف وتفاصيلها؛ فتكون السنة حاصلة في القرآن على وجه الإجمال، ولو قال بدله: "لأنها لا تخرج عن كونها بيانًا للأشياء الداخلة تحت قوله كل شيء"؛ لكان أوضح في غرضه. "د".(40/447)
ص -319-…{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ1 مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وهو يريد2 بإنزال القرآن؛ فالسنة إذًا في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه.
وأيضًا؛ فالاستقراء التام3 دل على ذلك حسبما يذكر بعد4 بحول الله.
وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي القرآن، على رأي، والرأي الآخر أنه اللوح المحفوظ. "د".
2 هذا من تمام الدليل؛ لأنه لو كان المراد أنه أكمل الدين بما نزل من القرآن وما ورد من السنة؛ لم يتم الدليل، ومعلوم أنه عاش عليه السلام بعد نزول هذه الآية نحو ثمانين يومًا لم تخل من سنة قولية وفعلية، وهو يعين هذا المراد. "د".
قلت: معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، كما قال البيضاوي وغيره أنه أكمل الدين بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو أكمله بالقرآن كما يقول المستدل، بواسطة التنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ومن ذلك التوقيف على أن السنة بجميع أنواعها حجة، ومنها المستقل في التشريع.
وليس معنى الآية أنه أكمله بالقرآن بواسطة النص على كل حكم جاء في السنة؛ إذ لو كان كذلك لوجب أن يكون مشتملًا على التفاصيل لأن ذكر الأحكام مجملة لا يقال: إنه على وجه الكمال، حيث إن الكمال لا يتحقق كما يزعم الخصم إلا من النص على الحكم، وبالجملة، فالكلام ههنا كالكلام في قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}. انظر: "حجية السنة" "ص525".
3 بل الاستقراء المذكور غير تام، وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين، وكلام العلماء الأعلام في المسألة تدل على خلاف زعم المصنف، وانظر: "حجية السنة" "ص525-526".(40/448)
4 أي: في المسألة الرابعة، وأما الاستقراء المذكور في الإشكال الثالث في هذه المسألة؛ فهو معارضة للاستقراء المستدل به هنا. "د".(40/449)
ص -320-…التوقف1 عن قبولها، وهو أصل كاف في هذا المقام.
فإن قيل: هذا غير صحيح من أوجه2:
أحدها: أن الله تعالى قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
والآية نزلت في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير3 بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة4 -الحديث مذكور في "الموطأ"5- وذلك ليس في كتاب الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا كانت لا تعارض أصلًا قطعيًّا في الكتاب، ولا يشهد لها منها أصل قطعي، أما إذا عارضها أصل قطعي؛ فمردودة. "د". قلت: بينا ما في استدلاله هذا من أمور فيما مضى؛ فارجع إليه إن شئت.
2 في "ط": "وجوه".
3 حيث خاصمه الأنصاري إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اسق يا زبير، وأرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري، وقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي -عليه السلام- وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر". فطلب -صلى الله عليه وسلم- من الزبير أولًا التسامح مع جاره بالاكتفاء بأقل درجة في السقي، فلما لم يفهم الأنصاري ذلك، وحمله محملًا سيئًا؛ استوفى -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقه الشرعي، وهو أن للأعلى حبس الماء عن الأسفل حتى يسقي سقيًا تامًّا. "د".
قلت: انظر تخريجه في الهامش بعد الآتي.
4 في "د": "الجرة" بالجيم، والصواب بالحاء.
وكتب "ف" هنا: "الشراج: مجاري الماء من الحرار إلى السهل، واحدها شرج؛ بالفتح، والتسكين" ا. هـ مختصرًا.(40/450)
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار، 5/ 34/ رقم 2359، 2360، وكتاب التفسير، باب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون}، 8/ 254/ رقم 4585"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه, صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357" عن عبد الله بن الزبير، ومضى تخريجه "2/ 285"، وتجد هناك كلامًا أوعب، والله الهادي. والحديث ليس في "الموطأ" برواياته الخمس المطبوعة بين أيدينا.(40/451)
ص -321-…ثم جاء1 في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته2 بعد موته.
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92].
وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله؛ فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن3؛ إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الآية السابقة، من عد ذلك خروجًا عن الإيمان، يعني: فالكتاب شهد للسنة بالاعتبار في موضوع ليس في القرآن. "د".
2 قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 49-50/ ط طه سعد": "أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد مماته".(40/452)
3 هذا الحصر لا نقرك عليه، بل نقول: إن طاعة الرسول امتثاله في جميع ما أمر به ونهى عنه، مبينًا كان أو مؤكدًا أو مستقلًّا؛ فالآية شاملة لهذه الأنواع كلها، كل ما في الأمر أن امتثال المستقل في بادئ الرأي أظهر دخولًا في طاعة الرسول، حيث إنه يحقق الانفراد في ظاهر الأمر دون البيان؛ لأنه عين المراد من المبين، فامتثاله امتثال لذاك، ودون المؤكد كذلك، ولا يضرنا اشتراك الطاعتين في بعض الأنواع؛ إذ المهم لنا شمول طاعة الرسول للمستقل من سنته، على أنك إذا تأملت وجدت أن طاعة الرسول في جميع الأنواع مستلزمة لطاعته تعالى، ونمنع لك الحصر أيضًا في قولك: "وذلك السنة التي لم تأت في القرآن".
قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص510-511".
4 أي: فإفراد الرسول بطاعة غير طاعة الله يدل على تباين المطاع فيه لكان منهما. "د".(40/453)
ص -322-…وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية [النور: 63].
فقد اختص الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى؛ فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن؛ فلا بد أن يكون زائدًا عليه1.
والثاني: الأحاديث الدالة على ذم2 ترك السنة واتباع الكتاب؛ إذ لو كان ما في السنة موجودًا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال، كما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "يوشك بأحدكم أن يقول: هذا كتاب الله، ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه؛ ألا من بلغه عني حديث فكذب به؛ فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن أردت بالزيادة الاستقلال فقط؛ فلا نقول به نحن، وإن أردت ما يشمل الاستقلال والبيان؛ فهو حق. انظر: "حجية السنة" "ص511".
2 لو صاغ هذا الإشكال في صورة أخرى كأن يقول: الأحاديث الدالة على أن الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنة وأن في السنة ما ليس في الكتاب، وأنه يجب الأخذ بما في السنة من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب, لو فعل ذلك؛ لكان مع كونه في ذاته وجيهًا موافقًا لقوله بعد: "وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب"، ولكان مغايرًا تمام المغايرة للإشكال الرابع الذي لا يخرج في محصوله عن الثاني إلا بتكلف لا حاجة إليه. "د".(40/454)
3 أخرجه آدم بن أبي إياس في "العلم" -ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" "ص73"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 90"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 183/ رقم 2340"، و"التمهيد" "1/ 152" من طريق بقية بن الوليد عن محفوظ بن مسور عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا به.
وإسناده ضعيف جدًّا، بقية مدلس وقد عنعن، ولا ينفعه تصريحه بالسماع في رواية آدم؛ =(40/455)
ص -323-…وعنه أنه قال: "يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل الذي حرم الله"1.
وفي رواية: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"2.
وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب.
والثالث: أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو [على] خالتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لأن من بعده لم يصرح بالسماع، ومحفوظ ترجمه الذهبي في "الميزان" "3/ 444"، وقال: "عن ابن المنكدر بخبر منكر"، وقال: "لا يدرى من ذا؟"، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "1/ 149" للطبراني في "الأوسط"، وله طرق أخرى عن جابر لا تخلو من ضعف، فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" "1813"، والخطيب في "الكفاية" "10"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق يزيد الرقاشي والخطيب في "الكفاية" "11" من طريق عباد بن كثير -وكلاهما ضعيف- عن أنس.
ولعل الصواب ما عند الشافعي في "الرسالة" "90، 404", ومن طريقه الحميدي في "المسند" "1/ 255"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1184/ رقم 2341" عن ابن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وكذا ورد مرسلًا عن ابن المنكدر عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع مرسلًا، كما عند الآجري في "الشريعة" "ص50".
ويغني عنه ما مضى "ص190". وهو صحيح بتعدد طرقه.
1 مضى تخريجه "ص191"، وهو لفظ حديث معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد.(40/456)
2 مضى تخريجه مفصلًا "ص190"، وهذا لفظ حديث الحميدي، وهو من مرسل ابن المنكدر، وهو صحيح بتعدد طرقه وشواهده؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد. وفي "د": "بما أمرت...".(40/457)
ص -324-…وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع1، والعقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر وهو2 الذي نبه عليه حديث علي بن أبي طالب؛ [حيث قال فيه: "ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، وما في هذه الصحيفة"3.
وفي حديث آخر عن علي]4 أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة؛ فقال: "والله؛ ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. فنشرها؛ فإذا أسنان الإبل5، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا6، فمن أحدث فيها حدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا7.
وإذا فيها: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا8؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريج الأحاديث في تحريم هذه المحرمات "3/ 372".
2 الضمير راجع إلى الأمثلة الثلاثة الأخيرة. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" بسنده إلى أبي جحيفة؛ قال: "قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا؛ إلا كتاب الله.... به"، وتتمته: "قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير،ولا يقتل مسلم بكافر".
وأخرجه أيضًا بنحوه في "كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير، 6/ 167/ رقم 3047، وكتاب الديات، باب العاقلة، 12/ 246/ رقم 6903، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، 12/ 260/ رقم 6915".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "فإذا فيها".
6 بفتح فسكون: جبل بالمدينة. "ف".
7 الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، وقيل: الصرف الحيلة، ومنه قيل: فلان يتصرف أي: يحتال، وقوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] معناه: لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصروا أنفسهم. "ف".
8 أي: نقض عهده وغدره، والخفارة, مثلثة: الذمة وانتهاكها إخفار، والهمزة فيه للإزالة =(40/458)
ص -325-…فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، وإذا فيها: من والى قومًا بغير إذن مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا"1.
وجاء في حديث معاذ: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: فبسنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم2.
وما في معناه مما تقدم ذكره، وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن، وهو نحو قول من قال من العلماء: ترك الكتاب موضعًا للسنة، وتركت السنة موضعًا للقرآن3.
والرابع: أن الاقتصار4 على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، 4/ 81/ رقم 1870 وكتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، 6/ 273/ رقم 3172، وكتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، 12/ 41-42/ رقم 6755، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275-276/ رقم 7300" -والمذكور عند المصنف لفظ البخاري في هذا الموطن- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 994-998/ رقم 1370".
قال "د": "ويبقى النظر في حصر ما عندهم في الأمور المذكورة مع سعة علمهم وكثرة استنباطهم، وقد ثبت عن علي -رضي الله عنه- كثير مما ليس في الصحيفة، والظاهر -كما قال في "فتح الباري"- أنه ليس المراد حصر ما علموه بل ما كتبوه، كما قال: "والله؛ ماعندنا كتاب نقرؤه"؛ فتحمل عليها الرواية الأولى، وهي قوله: "والله ما عندنا إلا كذا"، غير أن هذا الجواب يتوقف على ثبوت أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يكتب ما يستنبطه هو من القرآن".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 في "ط": "للرأي" ولعله الصواب.(40/459)
4 ليس في الدعوى التي هي رأس المسألة هذا الاقتصار المذموم، إنما فيها أنك لا تجد في السنة أمرًا إلا والكتاب دل عليه إجمالًا أو تفصيلًا، ولا تلازم بين القول بهذا واطراح بعضهم للسنة، ولا يلزم من كون بنائهم فاسدًا أن يكون المبني عليه فاسدًا؛ فما أطال به في هذا الوجه وما رتبه عليه في قوله: "هذا مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب" هو كما ترى. "د".(40/460)
ص -326-…السنة؛ إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شئ، فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة1 وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله؛ فقد روي عن النبي, صلى الله عليه وسلم:
"أن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان: القرآن، واللبن، فأما القرآن؛ فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين، وأما اللبن؛ فيتبعون الريف، يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التاريخ يعيد نفسه، وفي مطلع هذا القرن هناك جهود كثيرة سلكت سبيل هدم السنة والتنكر لها؛ منها: "أضواء على السنة المحمدية" لمحمود أبو رية، و"الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها" للسيد صالح أبو بكر، وقامت جهود خطيرة في شبه القارة الهندية لإنكار السنة، من أفظعها وأخطرها ما قام به غلام أحمد برويز إذ أسس طائفة في الباكستان قائمة على هذه الفكرة الباطلة، وهنالك جهود كثيرة في الرد على هؤلاء وكشف فضائحهم وبواطيلهم، من أشهرها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لمصطفى السباعي، و"دراسات في الحديث النبوي" لمحمد الأعظمي، و"الأنوار الكاشفة" للمعلمي اليماني، و"حجية السنة" لعبد الغني عبد الخالق، و"دفاع عن السنة" لمحمد أبو شهبة، و"السنة المفترى عليها" للبهنساوي، و"موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي" لمحمد بن إسماعيل السلفي، و"زوابع في وجه السنة قديمًا وحديثًا" لصلاح مقبول.
2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 156"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296-297/ رقم 818"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2362" من طريق أبي السمح ثنا أبو قبيل عن عقبة بن عامر به مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، أبو السمح اسمه دراج بن سمعان، صدوق في حديثه؛ إلا أنه توبع؛ فقد تابعه جماعة منهم:
أولًا: عبد الله بن لهيعة، أخرجه من طرق عنه، ومن بينها طريق عبد الله بن يزيد المقرئ =(40/461)
ص -327-…وفي بعض الأخبار عن عمر بن الخطاب: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن؛ فخذوهم بالأحاديث، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"1.
وقال أبو الدرداء: "إن مما أخشى عليكم: زلة العالم، وجدال المنافق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن ابن لهيعة عن أبي قبيل به: أحمد في "المسند" "4/ 146، 155، 156"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 285/ رقم 1746"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296/ رقم 816"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1199/ رقم 2359".
ثانيًا: الليث بن سعد, أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 295-296/ رقم 815", وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2361".
ثالثًا: مالك بن الخير الزبادي، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 296".
ومدار هذه الطرق على أبي قبيل وهو حيي بن هانئ المعافري، وثقه أحمد وابن معين والفسوي وأبو زرعة وأحمد بن صالح والعجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "يخطئ"، وذكره الساجي في "الضعفاء"، فحديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، ولم يسمع من عقبة إلا هذا الحديث كما في "مجمع الزوائد" "2/ 194".
وقد توبع أبو قبيل؛ فأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 155" من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة، ورجاله ثقات؛ فصح الحديث إن شاء الله تعالى.(40/462)
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 49"، والآجري في "الشريعة" "ص48، 52، 74"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 83، 84، 790"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 123"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 7 و8"، والأصبهاني في "الحجة" "1/ 205، 312"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1010/ رقم 1927"، والهروي في "ذم الكلام" "ص68"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 180، 181، 182"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 119"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 213"، وابن النجار؛ كما في "كنز العمال" "1/ 375" من طرق بألفاظ متقاربة، وهو صحيح، وشبهات القرآن متشابهاته؛ إذ ليس في القرآن شبه.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 54، 55"، وذكر هذا الأثر وغيره في ذم الرأي عن عمر: "وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة".(40/463)
ص -328-…بالقرآن"1.
وعن عمر: "ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"2.
وعن ابن مسعود: "ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم؛ فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق"3.
وعن عمر: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه"4.
وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح5 السنن وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا؛ اتخذ الناس رؤساء جهالًا؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء -رضي الله عنه- وفي نسختي "ف" و"م": "وجدل" بدل "وجدال".
2 ورد من طرق عنه، وبعضها صحيح، وقد مضى تخريجه "ص89".
وفي الأصل و"ط": "زيغة" بدل "زلة".
3 مضى تخريجه "ص280"، وهو صحيح.
4 مضى تخريجه "ص280".
5 بالتأمل في هذه الآثار لا تجدها تفيده في غرضه من الإشكال بوجود شيء في السنة ليس في الكتاب، بل ربما أنتجت العكس، وهو أن هذه السنة إنما تتكلم في موضوعات من الكتاب؛ فيجب أن يبين الكتاب بها، ولا تهمل وتطرح، ويعمد إلى فهم الكتاب بالرأي؛ فهذا الإشكال الرابع ضعيف من وجوه كثيرة. "د".(40/464)
ص -329-…وأضلوا"1، وما في معناه؛ فإن كثيرًا من أهل البدع هكذا فعلوا، اطرحوا الأحاديث، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله؛ فضلوا وأضلوا.
وربما ذكروا حديثًا يعطي أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى، وذلك ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله؛ فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما.
2 ورد من حديث جماعة، منهم: أبو هريرة وثوبان وابن عمر وعلي وجبير بن مطعم ومن مرسل الحسن.
أما حديث ثوبان؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 97/ رقم 1429".
وأما حديث ابن عمر؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 316/ رقم 13224"، وابن بطة في "الإبانة" "102"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الوضين بن عطاء سيئ الحفظ، وفيه مجاهيل.
وأما حديث أبي هريرة؛ فله ألفاظ تجدها في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1083، 1084، 1085، 1086", وسيأتي أحدها قريبًا "ص337".
وأما حديث علي, فأخرجه الدارقطني في"السنن" "4/ 208-209", والهروي في "ذم الكلام" "ص170" من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم بن زر بن حبيش عن علي مرفوعًا، قال الدارقطني عقبه: "هذا وهم، والصواب عن عاصم بن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي, صلى الله عليه وسلم".
وأما حديث جبير؛ فأخرجه الخطيب في "الكفاية" "430"، وفيه سليم بن مسلم المكي، قال ابن معين: "جهمي خبيث"، وتركه النسائي، وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا".
وأما مرسل الحسن؛ فأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص170"، وفيه صالح المري، تركه النسائي وغيره.(40/465)
وجميع هذه الأحاديث ليست بصحيحة، ولا تخلو من كذاب أو متهم أو متروك أو مجهول؛ =(40/466)
ص -330-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كما تراه في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 213 وما بعدها"، و"تنزيه الشريعة" "1/ 264 وما بعدها".
وقد ظفرت بكلمات سمان فخام لجماعة من الأئمة الأعلام، فيها حكم على هذه الأحاديث، منها:
- ما قاله عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث"، ذكره عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1191/ رقم 2347".
- ما ساقه المصنف بعد قوله: "قالوا: وهذه الألفاظ... إلخ".
- الساجي، نقل عنه ابن بطة في "الإبانة" "1/ 266-267" قوله: "هذا حديث موضوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث".
- ووافقهم ابن بطة بقوله: "وصدق ابن الساجي وابن المديني -رحمهما الله- لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترده، قال الله, عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، والذي أمرنا الله -عز وجل- أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته -عليه السلام- المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية".(40/467)
- ولابن حزم كلام متين في رد هذه الأحاديث، وذلك في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" "2/ 76-82"، ومما قاله فيه: "إنه لا يقول هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق، إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا؛ لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير".
- الشافعي قال في "الرسالة" "ص225": "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء، صغر ولا كبر".
- البيهقي قال في "المدخل إلى دلائل النبوة" "1/ 27": "الحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح"، قال: "وهو ينعكس على نفسه بالبطلان؛ فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن". وانظر: "تذكرة المحتاج" "ص27-31" لابن الملقن.(40/468)
ص -331-…قال عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث". قالوا1: "وهذه الألفاظ لا تصح2 عنه -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم3؛ فقالوا: نحن نعرضه4 على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد5 على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله؛ وجدناه مخالفًا لكتاب الله، لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال".
هذا6 مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب، ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين، كما كان ذلك فيمن تقدم؛ فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم، أعاذنا الله من ذلك بمنه.
فالجواب: أن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم.
أما الوجه الأول؛ فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب؛ فلا بد أن تكون بيانًا لما في الكتاب احتمال له ولغيره، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر، فإذا عمل المكلف على وفق البيان؛ أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان؛ عصى الله تعالى في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما سبق نقله عن ابن مهدي وما يأتي بعد: "قالوا" من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1191".
2 لأنها سقيمة التركيب بعيدة عن أسلوبه البارع, صلى الله عليه وسلم. "د".
3 في مطبوع "الجامع" زيادة: "من أهل العلم".
4 في مطبوع "الجامع": "نعرض هذا الحديث".
5 فهي معارضة بالقلب، بنفس دليل الخصم. "د".
6 أي: ما ذكر في الإشكال الرابع من مضاهاة أقوال الخارجين عن السنة والأخذ بما وضعه الزنادقة. "د".(40/469)
ص -332-…عمله على مخالفة البيان؛ إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه؛ فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق1، وإذا لم يلزم ذلك؛ لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب2، بل قد يجتمعان في المعنى، ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين، ولا محال فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما مرادك بقولك: "إن السنة بيان للكتاب..."، فإن أردت به أن جميع السنة بيان له، فهذا ما نتنازع فيه، ولا يمكنك بحال إثباته، وسنبطل شبهك، وسائر تكلفاتك في إرجاع المستقل إلى المبين؛ فالواقع أن بعض السنة بيان وبعضها مستقل، كما سنبينه في المسألة الثالثة، وإذا كان الواقع كذلك؛ كانت الآية شاملة لكل منهما، إلا إذا أخرج بعضه الدليل، ولا دليل، وعلى هذا لا يصح لك أن تبني ردك على خطأ مخالف للواقع، وإن أردت به أن بعض السنة بيان له، فهذا مسلم، ونعفيك أيضًا من محاولتك إدخال امتثال هذا النوع في طاعة الرسول، فإنا لم نقل بعدم شمولها له، بل أنت الذي فعلت ذلك في تقريرك لدليلنا؛ فلتوجه الاعتراض إلى نفسك لا إلينا، وحاول إقناع نفسك بما ذكرت. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص511".
2 إن أردت بقولك: ما في السنة جميعها, فنحن لم نقل: إن الآيات تدل على أن جميعها ليس في الكتاب, بل نقول: إن بعضها مستقل وبعضها مبين، والآيات شاملة للنوعين، وإنما أنت الذي قلت ذلك في التقرير الذي تبرعت به.(40/470)
وإن أردت بما في السنة بعض ما في السنة؛ منعنا لك الشرطية؛ إذ لا يلزم من عدم لزوم تباين المطاع فيه بإطلاق لإفراد الطاعتين خروج الطاعتين المتباينتين بإطلاق من الآية، وبعبارة أخرى: لا يلزم من إدخال امتثال السنة المبينة في طاعة الرسول خروج امتثال السنة المستقلة، مع أنها الأصل في الدخول على ما هو الظاهر، ومع وجودها في الواقع؛ فالآية لا زالت شاملة، وإذا أردت أن تخرجها؛ فعليك بالدليل.
وإن كنت تريد أن تقول: إن هذه الآيات لا تدل على وجود النوع المستقل في الواقع؛ فهذا مسلم لك، ولكنا إنما نستدل بها على حجيته ولو على فرض وجوده، وأما هذا الوجود؛ فسنثبته في المسألة الثالثة بغير هذه الآيات، ويثبته أيضًا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. انظر: "حجية السنة" "ص511-512".(40/471)
ص -333-…ويبقى النظر في وجود1 ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى، وقوله في السؤال: "فلا بد أن يكون زائدًا عليه" مسلم، ولكن هذا الزائد؛ هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح2 بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحًا، أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب3؟ هذا محل النزاع.
وعلى هذا المعنى يتنزل4 الوجه الثاني.
وأيضًا؛ فإذا5 كان الحكم في القرآن إجماليًّا وهو في السنة تفصيلي، فكأنه ليس إياه؛ فقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أجمل فيه معنى الصلاة، وبينه -عليه الصلاة والسلام-, فظهر من البيان ما لم يظهر من المبين، وإن كان معنى البيان هو معنى المبين6، ولكنهما في الحكم يختلفان، ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان التوقف، وفي البيان العمل بمقتضاه، فلما اختلفا حكمًا صار كاختلافهما معنى؛ فاعتبرت7 السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: أين يوجد في القرآن ذلك الحكم الذي قضى به للزبير ولو إجمالًا أو احتمالًا؟ وقد أحال جوابه على المسألة الرابعة، كما أحال عليها الجواب عن الإشكال الثالث. "د".
2 في نسختي "ف" و"م": "في الشرح".
3 إنا لا نريد واحدًا بخصوصه كما علمت، بل يكفينا الشمول للاثنين، كما تدل عليه الآيات، فإن زعمت القصر على الشرح؛ فعليك بالدليل، ولا يصح أن يقال: إن شمول الدليل للمدعي محل النزاع، بل محل النزاع هو نفس المدعى. انظر: "حجية السنة" "ص512".
4 أي فيقال: قولكم "لما كانت السنة متروكة على حال" غير مسلّم، بل تكون متروكة لأنه لم يلتفت إلى ما فيها من البيان للمعنى الذي اشتمل عليه الكتاب. "د".
5 في الأصل: "وإذًا فإذا".
6 في "ط": "معنى المبين هو معنى البيان".(40/472)
7 جواب عما يقال: إن ما أجيب به عن الأول لا يظهر في الثاني لا سيما الأحاديث الثلاثة الظاهرة في التغاير، وأنها فيما اشتملت عليه السنة مما لم يوجد أصله في القرآن، كما هو الظاهر من قوله, عليه السلام: "أوتيت القرآن ومثله معه"، وقوله: "وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"؛ فهو يقول: لما اختلفا حكمًا اعتبرت السنة مفردة عن الكتاب؛ فصح فيها التعبير بالمماثلة ونحوها من العبارات الواردة في الأحاديث، وانظر هل هذا الجواب بالكأنية مصحح للتعبير بالعبارات المذكورة وكاف لدفع الإشكال في تأصيل قاعدة كلية كموضوعنا؟ "د".(40/473)
ص -334-…وأما الثالث؛ فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وأما الرابع؛ فإنما1 وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي وإطراحهم السنن، لا من جهة أخرى2، وذلك أن السنة كما تبين توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم؛ فتخرج كثيرًا3 من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة، وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ، فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى؛ صار صاحب هذا النظر ضالًّا في نظره، جاهلًا بالكتاب خابطًا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها؛ إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير، وهي الأخروية4 أبعد على الجملة والتفصيل.
وأما ما احتجوا به5 من الحديث، فإن لم يصح في النقل؛ فلا حجة به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فإنه".
2 وهي بناؤهم على ما بنيت عليه المسألة من أن القرآن تبيان لكل شيء؛ فإنه صحيح في ذاته، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم، وتقدم لك سقوط هذا الاعتراض من نفسه. "د".
3 في الأصل: "جميعًا".
4 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "في الأخروية".
5 أي: على الاقتصار على الكتاب وطرح السنة، وقوله: "لا يمكن فيه التناقض... إلخ" أي: فلا معنى لطرحه، وسواء أفرعنا على القول بجواز الخطأ في اجتهاده -عليه السلام- وعدم إقراره على الخطأ من الله، وأنه لا بد أن يرده إلى الصواب قبل العمل باجتهاده، أم قلنا: إنه لا يخطئ في الاجتهاد رأسًا -وإن كان هذا أحسم للمادة وأولى في أنه لا يحكم حكمًا يعارض الكتاب- فلا معنى لاطراح السنة على أي تقدير. "د".(40/474)
ص -335-…لأحد من الفريقين، وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله؛ فلا بد من النظر فيه؛ فإن الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول -عليه الصلاة والسلام- معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه؛ فلا يقر عليه ألبتة؛ فلا بد من الرجوع إلى الصواب، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكمًا يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه.
نعم، يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة، بل بما يكون مسكوتًا عنه في القرآن؛ إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز، وهو الذي ترجم له في هذه المسألة؛ فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة1 لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور؛ فمعناه صحيح صح سنده أو لا.
وقد خرج في معنى هذا الحديث الطحاوي في كتابه في بيان "مشكل الحديث" عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري عن أبي حميد وأبي أسيد؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب؛ فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم، وتند2 منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكر؛ فأنا أبعدكم منه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصار الكتاب مشتملًا على السنة؛ فعاد الأمر إلى جعل الحديث معارضة بالقلب، وصار حجة لأصل المسألة لا عليها؛ كما هو الإشكال الرابع، هذا ما يريده. "د".
2 في "المشكل" و"ط": "وتنفر".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 497 و5/ 425"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "15/ 344/ رقم 6067"، والبزار في "المسند" "رقم 187, زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 63, الإحسان" من طريق أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك بن عمرو القيسي- وابن سعد =(40/475)
ص -336-…وروي أيضًا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل؛ أن أبي بن1 كعب كان في مجلس، فجعلوا يتحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت، فلما فرغوا؛ قال: "أي هؤلاء! ما حديث بلغكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرفه القلب2، ويلين له الجلد، وترجون عنده؛ فصدقوا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن رسول الله لا يقول إلا الخير"3.
وبين وجه ذلك الطحاوي4 أن الله تعالى قال في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2].
وقال: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية [الزمر: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "الطبقات الكبرى" "1/ 387" من طريق عبد الله بن مسلمة بن قعنب، كلاهما عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن سويد به.
وأخرجه ابن وهب في "المسند" "8/ ق 164/ 2": أخبرني القاسم بن عبد الله عن ربيعة به. ورواه عبد الغني المقدسي في "العلم" "2/ 43/ 2" من طريق أخرى عن سليمان بن بلال، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 732".
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 264, ط دار المعرفة": "رواه الإمام أحمد -رضي الله عنه- بإسناد جيد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب"، وقال فيه أيضًا "2/ 473": إسناده صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك..."، وصححه الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "6/ 523".
1 ضبطه "د": "بالمرخص والمشدد" بكسر الخاء والدال المشددتين، والصواب فتحهما.
2 في مطبوع "المشكل": "تعرفه القلوب".
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 345-346" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح سيئ الخفظ.
4 في كتابه "مشكل الآثار" "15/ 346".(40/476)
ص -337-…وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الآية [المائدة: 83].
فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه، وكان ما يحدثون به عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس ذلك؛ لأنه كله من عند الله؛ ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث، وإن كانوا بخلاف ذلك؛ وجب التوقف لمخالفته ما سواه1.
وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقًا2 لا مخالفًا في المعنى؛ إذ لو خالف لما اقشعرت الجلود، ولا لانت القلوب؛ لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه.
وخرج الطحاوي أيضًا عن أبي هريرة عنه, عليه الصلاة والسلام: "إذا حدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله؛ فإني أقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر نحو ما هنا باختصار أيضًا كما فعل المصنف أبو المحاسن الحنفي في "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار" "2/ 383".
2 إنما يلزم منه أن يكون موافقًا في تلك الصفات، أما في نفس المدلول، فلا، فقد يكون موافقًا في صفات لين القلوب... إلخ عند ذكره، ويكون معناه لا موافقًا ولا مخالفًا، فالكلام خطابي، وقوله: "لأن الضد... إلخ" غير متجه؛ إذ لا يلزم من كونه مشتملًا على معنى ليس في الكتاب أن يكون ضدًّا، ولا ألا تقشعر منه الجلود وتوجل القلوب. "د".(40/477)
قلت: قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "صحيح ابن حبان" "رقم 63": وهذا الحديث خطاب للصحابة، ثم لمن سار على قدمهم واهتدى بهديهم، واقتدى بإمامه وإمامهم -صلى الله عليه وسلم- فعرف سنته وهديه، وعرف شريعته وامتلأ بها قلبه، إيمانًا وإخلاصًا ورضى عن طيب نفس، وإعراضًا عن الهوى والزيغ؛ فهو الذي يعرف الصحيح من السنة، ويطمئن قلبه إليها، وينكر المردود غير الصحيح؛ فلا يسيغه في عقله ولا في قلبه، ولله در الحافظ ابن حبان إذ أشار إلى هذا أدق إشارة في العنوان الذي كتب تحته هذا الحديث: "الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم، ثم الاقتفاء والتسليم". وانظر: "مفتاح الجنة" "ص184" للسيوطي.(40/478)
ص -338-…ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثًا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به؛ فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف"1.
ووجه ذلك أن2 المروي إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه3 لوجود معناه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 347/ رقم 6068"، والدارقطني في "السنن" "4/ 208"، والمخلص في "الفوائد المنتقاة" "9/ 218/ 1"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 36"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "11/ 391"، والهروي في "ذم الكلام" "ص171" من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به، وعزاه في "الكنز" "10/ 134" للحكيم الترمذي، ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ إلا أن وهمًا وقع فيه ليحيى بن آدم، ولم ينتبه لهذا الهروي؛ فقال: "لا أعرف علة هذا الخبر؛ فإن رواته كلهم ثقات، والإسناد متصل"، وكشف عن هذا الوهم إمامان جليلان:
أحدهما: أمير الدنيا في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، قال في "التاريخ الكبير" "3/ 434" في ترجمة "سعيد المقبري" ما نصه: "وقال ابن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، قال: "وقال يحيى: عن أبي هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة".
والآخر: الإمام الجهبذ الكبير أبو حاتم الرازي، قال ابنه في كتاب "العلل" "2/ 310/ رقم 3445": "سمعت أبي وحدثنا عن بسام بن خالد عن شعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وذكره" ثم قال: "قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه".
ويريد بذلك والله أعلم أنهم لا يذكرون أبا هريرة فيه، وكذلك فعل ابن طهمان، ولا تنفع متابعة شعيب بن إسحاق لأن بسام بن خالد غير معروف. وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1085".
وجاء في الأصل: "فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر".
2 في "ط": "بأن".(40/479)
3 أخذ السنة هنا لا يتفق مع غرضه من الاستدلال بهذا، على أن السنة لا تزيد على ما في الكتاب شيئًا جديدًا، وأنها لمجرد البيان، وأن ما وافق منها كتاب الله قبل وما لا فلا، وهذه هي النتيجة التي سيصل إليها بقوله: "والحاصل من الجميع... إلخ"؛ فلا يتم الاستدلال إلا بالاقتصار على موافقة كتاب الله، وأتى له ذلك من هذا الحديث. "د".(40/480)
ص -339-…ذلك؛ وجب قبوله لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ؛ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ، إذ يصح تفسير كلامه -عليه الصلاة والسلام- للأعجمي بكلامه، وإذا كان الحديث مخالفًا يكذبه القرآن والسنة؛ وجب أن يدفع، ويعلم أنه لم يقله، وهذا مثل ما تقدم أيضًا.
والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم1 مخالفته، وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات، وأما إن لم تصح؛ فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح، ويحقق ذلك ما تقدم في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة؛ ففي ذلك الموضع من أمثلة هذا الأصل في الموافقة والمخالفة جملة كافية، وبالله التوفيق، وإذا ثبت هذا؛ بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة؛ حتى صار متضمنًا لكليتها في الجملة، وإن كانت بيانًا له في التفصيل، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الزيادة تقتضي أن الموافقة لا تلزم، وأنه يكفي في اعتبار الحديث ألا يكون مخالفًا، وإلا، لما كان لذكرها فائدة مع الموافقة، فإذا كان هذا غرضه من الزيادة لم يبق في هذا البحث الطويل من مبدأ كلام الطحاوي إلى هنا ما يصلح أن يكون دليلًا على مقصده من كون السنة راجعة إلى الكتاب؛ فعليك بجمع أطراف الكلام في هذه المسألة وتتبع مقاصده فيها ووزنها بدقة يظهر لك غثها من سمينها. "د".(40/481)
ص -340-…المسألة الرابعة:
فنقول وبالله التوفيق: إن للناس في هذا المعنى مآخذ:
-منها: ما هو عام جدًّا، وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها، وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى1 قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 115].
وممن أخذ به عبد الله بن مسعود؛ فروي أن امرأة من بني أسد أتته، فقالت له: "بلغني أنك لعنت ذيت وذيت2 والواشمة والمستوشمة، وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول! فقال لها عبد الله: أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى. قال: فهو ذاك"3.
وفي رواية قال عبد الله: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات4، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله". قال: فبلغ ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسختي "ف" و"م": "الإجماع منه في معنى"، وفي "ط": "الإجماع منه في نحوه".
2 هذه العبارة كناية مثل كيت وكيت. "ف" و"م", وبعدها في "ط": "والواشمات والمستوشمات".
3 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
4 النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى تغير شكل خلقته، والمتنمصة هي التي يفعل بها ذلك. "د".
قلت: النمص مطلق أخذ شعر الوجه، ومنهم من عمم، قال صاحب "القاموس" "ص817": "النمص: نتف الشعر، ولعنت النامصة وهي مزينة النساء بالنمص والمتنمصة وهي المزينة به". قال "ماء/ ص411": "النامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه".(40/482)
ص -341-…امرأة من بني أسد؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟! فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه1، قال الله, عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]" الحديث2.
فظاهر قوله لها: "هو في كتاب الله"، ثم فسر ذلك بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] دون قوله: {وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النساء: 119]، أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي، ويشعر بذلك أيضًا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرمًا عليه ثيابه؛ فنهاه، فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية3 [الحشر: 7].
وروي أن طاوسًا كان يصلي ركعتين بعد العصر؛ فقال له ابن عباس: "اتركهما. فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله -صلى لله عليه وسلم- عن صلاة بعد العصر4؛ فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الياء في "قرأتيه" و"وجدتيه" للإشباع. "ف".
2 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
قال "ماء/ ص413": "قوله: "الواشمات": الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل، و"المستوشمة": هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك... و"المتفلجة": هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: هي التي تتفلج في مشيتها؛ فكل ذلك منهي عنه. قاله الخازن" ا. هـ.
3 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن بطة في "الإبانة" "82"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "248"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1182-1183/ رقم 2338" بإسناد جيد.
4 مضى تخريجه "2/ 516".(40/483)
ص -342-…قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]"1.
وروي عن الحكم بن أبان؛ أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد؛ فقال: "هن أحرار. قلت: بأي شيء؟ قال: بالقرآن. قلت بأي شيء في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وكان عمر من أولي الأمر قال: عتقت ولو بسقط"2.
وهذا المأخذ يشبه الاستدلال3 على إعمال السنة أو هو هو، ولكنه أدخل4 مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 433/ رقم 3975"، والشافعي في "الرسالة" "رقم 1220" و"المسند" "6/ 208, بهامش الأم، وص83"، والدارمي في "السنن" "440"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 110"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 453" و"المعرفة" "1/ 37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 146"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 268"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1183"، وهو صحيح. وذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 148, ط القديمة"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "5/ 201" لابن أبي حاتم وابن مردويه.
2 أخرجه الهروي في "ذم الكلام" "194"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1175/ رقم 2325"، وإسناده صحيح، وعتق أم الولد ثابت عن عمر في "الموطأ" "2/ 776"، و"غريب الحديث" "3/ 337"
لأبي عبيد، و"طبقات ابن سعد" "158-160/ التتمة الأولى"، و"المعرفة والتاريخ" "1/ 628".
وانظر: "مسند الفاروق" "1/ 373"، و"البداية والنهاية" "9/ 346" لابن كثير.
3 وهذا ممنوع، بل هو نفس الاستدلال؛ فيجب الاقتصار على قوله: "هو هو". انظر: "حجية السنة" "ص527".(40/484)
4 أي: سلكوا به مسلك الدال على المعاني التفصيلية التي في السنة، وجعلوا دلالة السنة على تلك المعاني دلالة للكتاب عليها، كما رأيت في الآثار المتقدمة، وإلا؛ فليست بذاتها ولا بكليها مدلولًا عليها في الكتاب، وإنما المدلول عليه في الكتاب منها كلي الاعتداد بها ووجوب =(40/485)
ص -343-…- ومنها: الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام؛ إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك؛ كبيانها للصلوات على اختلافها في1 مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية، والحج، والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن2، وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= امتثالها. "د".
قلت: وقوله: "ولكنه أدخل... إلخ"؛ فلا يفيده في موضوع النزاع شيئًا، فإن النص الدال على حجية السنة لا يقال: إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنة، كما يقال: إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} نص على وجوبها.
ثم نقول له: إن هذا المأخذ يعكس الأمر؛ فيكون القرآن هو المبين لما في السنة، فإن القرآن دال على حجية السنة، والمعقول أن الدال هو الذي يبين ما اشتمل عليه المدلول وما ثبت به، لا العكس.
وإن أبيت إلا أن المدلول هو المبين للدال؛ قلنا لك: قد ورد في السنة أيضًا ما فيد وجوب العمل بالقرآن؛ فيكون القرآن أيضًا مبينًا لما في السنة على ما ذكرت، ولا يصح أن يكون مستقلًّا؛ أفتقول بذلك؟ قاله في "حجية السنة" "527".
1 في "ط": "اختلاف أنواعها في".(40/486)
2 نقول: إن أردت أن تبين لنا بهذا المأخذ أن بعض السنة بيان لما في الكتاب من الأحكام المجملة التي نص عليها كوجوب الصلاة والزكاة؛ فهذا لا ننكره، وإن أردت أن جميعها كذلك، فهذا أمر لم توضحه لنا، وعلى ذلك يكون قولك: "كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن" إذا أردت به جميع السنة، ممنوعًا، ولما تحاول إثباته لنا. وقد تقدم لك أن لكل من المخصص والناسخ ناحية بيان للمراد من نص الكتاب، وناحية استقلال بإفادة الحكم فيما عدا هذا المراد، ومثلهما في ذلك سائر الشروط والقيود؛ فتأمل ذلك وتدبره يظهر لك ما في كلامه من الخلط والإبهام. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص529".
وفي "ط": "مجملًا في الكتاب".(40/487)
ص -344-…وقد روي عن عمران بن حصين؛ أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟". ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: "أتجد هذا في كتاب الله مفسرًا؟ إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك"1.
وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من2 هو أعلم بالقرآن منا"3.
وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية؛ قال: "كان الوحي ينزل على رسول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" -كما في "مفتاح الجنة" "241" للسيوطي- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 65، 66، 67"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1192/ رقم 2348". "استدراك 4".
وأثر عمران هذا لا يفيد حصر السنة في المفسرة، وإنما تعرض للتفسير؛ لأنه الموجود في مثاله الذي أراد أن يقنع به الخصم، قاله في "حجية السنة" "ص529".
2 وهو الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- أي: فحديثه يبين القرآن فيتحدث بالسنة لذلك. "د".
3 أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "97"، والهروي "246"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1193/ رقم 2349"، وقول مطرف هذا يفيد أن القرآن قد يشتمل على حكم لم ينص عليه نصًّا يستطيع المجتهدون أن يستنبطوه بحسب أوضاع اللغة؛ فيستقل -صلى الله عليه وسلم- بإفهامه لنا من حيث الإجمال والتفصيل، لعلمه بما في القرآن من أسرار لا يعلمها من البشر إلا هو، بتعليم الله تعالى إياه بواسطة جبريل أو الإلهام، وهذا يحقق ما ذهبنا إليه. قاله في "حجية السنة" "ص529".(40/488)
ص -345-…الله [صلى الله]1 عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك"2.
قال الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب"3، قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه"4.
وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب؛ فقال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه"5.
فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود، وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من نسخة "د".
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن المبارك في "الزهد" "91, زيادات نعيم"، والمروزي في "السنة" "ص28"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 90"، والهروي في "ذم الكلام" "ص75"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 99"، والخطيب في "الكفاية" "44، 47" و"الفقيه" "1/ 91" من طرق عن الأوزاعي به. وإسناده صحيح، ونسبه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291" للبيهقي وصحح إسناده.
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 88، 89"، والمروزي في "السنة" "ص28"، والهروي في "ذم الكلام" "ص74، 75"، وابن شاهين في "السنة" "48"، والخطيب في "الكفاية" "ص47" من طرق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير تارة، وعن مكحول أخرى، وهو صحيح. وأخرجه البيهقي -كما في "مفتاح الجنة" "ص199"- من قول الأوزاعي، وصححه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291"، وهو في القسم الضائع من "المدخل إلى السنن".
4 "جامع بيان العلم" "2/ 1194".(40/489)
5 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1194/ رقم 2354"، وابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص86, ط العسكري"، ونقل نحوه عن الإمام أحمد ابنه عبد الله في "مسائله" "رقم 1186"، وأبو داود في "مسائله" "276"، والخطيب في "الكفاية" "47" و"الفقيه" "1/ 73"، والهروي "رقم 213". وعبارات العلماء هذه لا تفيد مراد المصنف من إيرادها هنا في حصر السنة في البيان بحال، وهذا ظاهر.(40/490)
ص -346-…- ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبًا لها، والتعريف بمفاسدهما دفعًا لها، وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام، وهي:
الضروريات، ويلحق بها مكملاتها.
والحاجيات، ويضاف إليها مكملاتها.
والتحسينيات، ويليها مكملاتها.
ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد، وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور؛ فالكتاب أتى بها أصولًا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعًا على الكتاب وبيانًا لما فيه منها؛ فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن هذه المصالح والأمور العامة، قد تأصلت في السنة كما تأصلت في الكتاب، وتفصل بعضها في الكتاب كما تفصل بعضها في السنة، وكل منهما وحي من عند الله، مساوٍ للآخر في الحجية والمنزلة؛ فليس لك أن تعين أحدهما للتأصيل، والآخر للتفصيل، أفيجوز لك على هذا أن تقول: إن الكتاب لا يستقل بتشريع الحكم؛ لأن هذه المصالح قد تأصلت في السنة وتفصلت في الكتاب؟
ثم نقول: لو سلمنا أنها تأصلت في الكتاب فقط وتفصلت في السنة فقط؛ أفيمكننا أن نستقل بفهم الأحكام التي لم ينص عليها تفصيلًا ولا إجمالًا من هذه الأمور العامة؟
لو فرضنا أن الكتاب نص نصًّا صريحًا على هذه المصالح العامة، ولم ينص لا هو ولا السنة على تفاصيلها؛ أفيمكننا أن ندرك أن صوم رمضان واجب، وصوم يوم العيد حرام، وأن السارق يحد بخلاف الناهب والمختلس، وأن حد السارق قطع اليد اليمنى في أول مرة، وأن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام، وحد الثيب الرجم... إلى غير ذلك.(40/491)
ألم تر أن المعتزلة لما ذهبوا إلى قريب مما ذهبت إليه -وهو قاعدة الحسن والقبح العقليين- اعترفوا صراحة أن العقل قد لا يهتدي إلى بعض الأحكام؟ فإذا كانت هذه المصالح والأمور العامة على فرض أن الكتاب نص عليها صراحة لا يمكن للمجتهد أن يستقل بفهم الأحكام منها؛ كانت لا تغنيك فتيلًا في محل النزاع. قاله في "حجية السنة" "ص530-531".(40/492)
ص -347-…فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة؛ فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معانٍ، وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأصلها في الكتاب، وبيانها في السنة1، ومكمله ثلاثة أشياء، وهي:
الدعاء إليه بالترغيب والترهيب.
وجهاد من عانده أو رام إفساده.
وتلافي2 النقصان الطارئ في أصله.
وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال.
وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معانٍ، وهي: إقامة أصله بشرعية التناسل، وحفظ3 بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة4 المأكل والمشرب، وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن، وذلك ما يحفظه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنه ما أخرجه مسلم [برقم 1] عن عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان؛ فراجعه. "ف".
2 بمحافظة الإمام على إقامة أصول الدين بإقامة الحدود الشرعية كقتل المرتدين. "د".
3 لم يذكر الثالث ولو قال: "وحفظ النفس من جانب العدم، وهو ما يعود عليها بالإبطال وشرعت له أحكام الجنايات"؛ لوفى بالثالث إلا أنه سيدرج الحد والقصاص في المكمل ولم يجعلهما من الأصل كما صنع في كتاب المقاصد، وإن كان هذا اعتبارًا آخر كما سيقول لكن عليه، أين هو المعنى الثالث؟ وقد يقال: إنه جعل حفظ البقاء قسمين: أحدهما حفظه من الداخل والآخر من الخارج، فإذا ضما إلى الأول كملت ثلاثة، وقوله: "وإقامة ما لا تقوم... إلخ" عائد إلى المكملين قبله. "د".
4 كأنه قال: حفظه باستعمال الأغذية واتخاذ الملابس والمساكن، وهذا غير ما يأتي في مكملات حفظ النفس من فحص الغذاء مثلًا ومعرفة أنه لا يضر أو يقتل... إلخ. "د".(40/493)
ص -348-…من خارج.
وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة، ومكمله ثلاثة أشياء، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته؛ كالطلاق، والخلع، واللعان، وغيرها، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد، وشرعية1 الحد والقصاص، ومراعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك.
وقد دخل2 حفظ النسل في هذا القسم، وأصوله في القرآن والسنة بينتها، وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك3 وكتنميته أن لا يفي4، ومكمله دفع5 العوارض، وتلافي6 الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شرعية الحد والقصاص ومراعاة بقية العوارض -وما أكثرها- كل هذا مكمل لحفظه، وكلها من جانب العدم، وهذا هو المكمل الثالث، وإن كان اعتباره لهذا المكمل هنا غير اعتباره في كتاب المقاصد، ولا مانع من اختلاف الاعتبار متى كان كلٌّ صحيحًا في نفسه. "د".
2 أي: في قسم حفظ النفس، ويصح أن يكون مراده دخل في مكمله، والجميع كما قال أصله في القرآن. "د".
3 أي: بعوض وبغيره من أبواب نقل الملكية شرعًا. "د".
4 قد يقال: إن فيه تحريفًا، وإن صوابه: "ألا يفنى"؛ أي: تنميته إنما تعتبر من حفظه الضروري إذا كانت التنمية وسيلة إلى عدم فنائه بالإنفاق وغيره، أما التنمية التي يقصد منها مجرد الكثرة؛ فليست داخلة في ضروري حفظه، وقد يصحح الأصل بأن التنمية التي تعد من الحفظ الضروري تنمية المال القاصر عن درجة الوفاء بما يحفظ النفس وغيرها، أما ما زاد عن ذلك؛ فالتنمية لا تدخل في الضروريات؛ فكل من المعنيين وجيه بل مقصود في الواقع، وعلى الأول يكون المعنى "لأجل ألا يفنى"؛ فهو مفعول لأجله بدون تقرير، وعلى الثاني: "خشية ألا يفي". "د".
5 بالمحافظة عليه من الإسراف والسرقة والحرق وسائر متلفاته. "د".(40/494)
6 وهو مراعاة صحة دخوله في الملكية يكون بالزجر في مثل الغصب الذي لم يحصل به تلف، والحد في السرقة، والضمان في المتلف؛ فهذه الثلاثة تحفظ صحة دخول الأموال في ملكية الناس، ومما فيه الزجر لعب الميسر، ولم يرد فيه حد مخصوص. "د".(40/495)
ص -349-…القرآن والسنة، وحفظ العقل يتناول1 ما لا يفسده [والامتناع مما يفسده]، وهو في القرآن، ومكمله شرعية الحد2 أو الزجر3، وليس في القرآن له أصل على الخصوص؛ فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضًا؛ فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد4 الأمة، وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض؛ فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف، هذا وجه في الاعتبار في الضروريات، ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد؛ فيحصل المراد أيضًا.
وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضًا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه؛ فإن الحاجيات دائرة على الضروريات.
وكذلك التحسينيات.
وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة؛ فلم يتخلف عنها شيء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "بتناول" بالباء الموحدة، وقوله: "في القرآن" أي: من الآيات الدالة على إباحة الأكل من الطيبات مع عدم الإسراف وعدم الاعتداء، ويحتمل أن يكون الأصل هكذا: "يتناول ما يفسده" بحذف "لا"؛ أي: يتناول حفظه عما يفسده، وهو في القرآن تحريم الخمر. "د".
2 أي: في الخمر. "د".
3 أي: في سائر المخدرات. "د".
4 قالوا: إنه يكون بحسب الجريمة في جنسها ووصفها بصغرها وكبرها، هذا في الزجر وحد الخمر كذلك، لم يرد أصله في القرآن ولم يحدد في السنة بحد مخصوص؛ فكانوا يضربونه بالنعال تارة وبالجريد تارة بدون عدد محدود، أما الثمانون؛ فإنها جاءت من القياس على القذف كما قال علي: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى"؛ فأخذ عمر برأيه وحد في الخمر ثمانين. "د".
قلت: وأثر علي فيه نظر، ومضى تخريجه في التعليق على "ص291".(40/496)
ص -350-…والاستقراء يبين ذلك، ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة، ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه.
ومن تشوف إلى مزيد؛ فإن دوران الحاجيات على التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق.
فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك.
وبالنسبة إلى النفس أيضًا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة1 الصيد وإن لم يتأت2 فيه من إراقة الدم المحرم3 ما يتأتى بالذكاة الأصلية.
وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر4، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالإباحة هنا رخصة دعا إليها رفع الحرج، وإن كانت الذبائح والصيد عدهما فيما تقدم آنفًا من مكملات حفظ النفس. "د".
2 في "ط": "تأت".
3 لأن الدم الخبيث في الحيوان لا ينفصل جميعه عن الجسم حتى يطهر الجسم منه إلا إذا خرج من منفذ عام للدم كالودجين. "د".(40/497)
4 ففي التقييد بالثلاث رفع الحرج وتيسير للمرأة بكونها بعد الثلاث صار لا شأن له معها تتزوج من تشاء، وهذا يساعد حفظ النسل فيه رفع حرج كبير يعرفه من أهل الملل من ليس عندهم طلاق، وإسراف الناس فيه في هذا الزمان ليس من أصل تشريعه، بل من عدم العمل بأوامر الشريعة ونواهيها المكملة له، الواردة في الكتاب والسنة، من بعث الحكمين وغيره. "د".(40/498)
ص -351-…وبالنسبة إلى المال أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي1 لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك2 ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد3 من غير إسراف ولا إقتار.
وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس4 عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة5 رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه؛ فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب، وما فسر من ذلك في الكتاب؛ فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه.
وقسم التحسينيات جار أيضًا كجريان الحاجيات؛ فإنها راجعة إلى العمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في أصول الجدران المغيبة في الأرض، وكما في بيع البطيخ، وكما في بيع الفجل والجزر ونحوها مما غيب بعضه في الأرض وإخراجه كله قيل: بيعه يفسده؛ فاغتفر لذلك. "د".
2 لا ينافي هذا عده التنمية من الضروريات فيما تقدم؛ لأن المعدود منها فيه ما كان مقيدًا بأحد القيدين أي بألا يفي، كما أهل أصل النسخة، أو بألا يفنى، كما هو الوجه الثاني، وسبق أن القيدين مطلوبان معًا. "د".
3 الأنسب به أن يكون من حاجيات النفس كإباحة الصيد والمواساة؛ لأنه توسيع على النفس بما يقوي حفظها، وإن كان اعتباره أيضًا صحيحًا من جهة بذلك المال في هذه الطيبات. "د".
4 أي: فالنفس حينئذ مقدمة على العقل؛ فيرخص فيما يدفع عنها الهلاك وإن كان يضر بالعقل، سواء أكان أكلًا أم شربًا. "د".
5 أي: والقاعدة مقررة في الكتاب صريحًا؛ فالقرآن يشمل جميع ما ذكر ويعتبر كليًّا له، وقد ورد بعضه فيه تفصيلًا، وقوله: "أكثره اجتهادي"؛ أي: فالمعقول فيه أن يناط بكليات تتفصل بالاجتهاد لا بالنص، وما فسرته السنة منه قليل فقط ليحتذى حذوه كما قاله. "د".(40/499)
ص -352-…بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات؛ كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات، على رأي من رأى أنها من هذا القسم، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك، وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات، وآداب الرفق في الصيام، وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان، وآداب الأكل والشرب، ونحو ذلك، وبالنسبة إلى النسل؛ كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، من عدم التضييق على الزوجة، وبسط الرفق في المعاشرة، وما أشبه ذلك، وبالنسبة إلى المال؛ كأخذه من غير إشراف نفس1 والتورع في كسبه واستعماله، والبذل منه على المحتاج، وبالنسبة إلى العقل؛ كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها، بناء على أن قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يراد به المجانبة بإطلاق.
فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معًا، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح، وإنما المقصود هنا التنبيه، والعاقل يتهدى2 منه لما لم يذكر مما أشير إليه، وبالله التوفيق.
- ومنها: النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين، وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع، ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع، وهو المبين في دليل القياس.
ولنبدأ بالأول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من غير حرص، وفي الحديث: "وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف له ولا سائل؛ فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك". "ف".
قلت: والحديث صحيح أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 309".
2 في الأصل: "يهتدي"، وقد تكرر مثلها؛ فلا يحتاج إلى تنبيه آخر.(40/500)
ص -353-…وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني، وتبقى الواسطة على اجتهاد، والتباين1 لمجاذبة الطرفين إياها؛ فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ، فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد، وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة؛ فيأتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه البيان2، وأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "والتشابه"، ويمكن تصحيح النسخة بأنه كلما روعي جذب أحد الطرفين لها باينت الآخر. "د". وفي "ط": "محل اجتهاد والتباس لمجاذبة....".
2 إنك اعترفت أن الواسطة بين الطرفين المنصوص عليهما في الكتاب قد يعجز المجتهد عن إدراك حكمها من الكتاب، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسنه ويشرعه لنا، غير أنك تسمي تشريعه حينئذ بيانًا، ونحن نسميه استقلالًا فقط، حيث إن الكتاب لم ينص عليه نصًّا يمكن المجتهد أن يفهم الحكم منه على وجه التفصيل، ولا على وجه الإجمال.
ومثل ذلك يقال في مجال القياس؛ فقد يعجز المجتهد عن إدراك الحكم في الفرع على نحو ما قررته في مجال الاجتهاد.
ولا يهمنا أن يكون هذا الحكم في الواسطة أو الفرع قد سنه -صلى الله عليه وسلم- بواسطة وحي أو اجتهاد قد وفقه الله إليه بما أوتي من الحكمة والعلم المفقودين في غيره، وإنما المهم أنه شرع ما لم ينص عليه في الكتاب، وكان تشريعه حجة؛ لأنه إما بوحي، وإما باجتهاد معصوم فيه أو مقر على حكمه؛ فاجتهاده من حيث هو ليس بحجة، وإنما حجيته ناشئة عن عصمته فيه، أو عن الإقرار على حكمه.(41/1)
وأما إذا كان حكم الواسطة أو الفرع قريب المأخذ؛ فإن كان قربه من ناحية أن الشارع قد نص على علة أحد الطرفين أو الأصل في الكتاب، ووجدنا هذه العلة شاملة للواسطة أو الفرع، فلو جرينا على أن النص على العلة نص على الحكم في جميع ما وجدت فيه؛ كان الحكم في الفرع أو الواسطة منصوصًا عليه في الكتاب، وكانت السنة حينئذ من قبيل المؤكد، ولكن هذا لا يفيدك؛ لأن الشارع لم ينص على علة كل حكم في الكتاب، بل ذلك نادر، أما إذا نص على العلة في السنة؛ كانت السنة مستقلة بإفادة الحكم في الواسطة أو الفرع.
وإن كان قربه من ناحية إمكان استنباط العلة من غير النص كالمناسبة؛ كان الحكم في الواسطة أو الفرع ثابتًا بالقياس، وكذا إذا جرينا في الشق الأول على أن النص على العلة ليس نصًّا =(41/2)
ص -354-…لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي1 أو غيره2، وهذا هو المقصود هنا3.
ويتضح ذلك بأمثلة:
أحدها: أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وبقي بين هذين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على الحكم، وكأنك تريد أن تقول حينئذ: إن القياس قد استقل بالحكم؛ فلا استقلال للسنة، على ما يشعر به قولك "ص379": "وسواء علينا أقلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له بالقياس أو بالوحي؛ إلا أنه جار في أفهامنا مجرى القياس".
فنقول لك: إن تشريع الله تعالى بأي نوع من أنواع الوحي غير مقيد بما يجري في أفهامنا ولو كان ما يجري في أفهامنا ظاهرًا كل الظهور؛ فله أن يخالفه، وله أن يوافقه، والقياس دليل ضرورة، لا يعمل به إلا عند العجز عن معرفة حكم الله، بواسطة أي نوع من أنواع الوحي؛ فهو بجانب السنة لا قيمة له، سواء أوافقها أم خالفها؛ حتى السنة التي تكون عن اجتهاد وقياس؛ فإنا لم نحتج بها حينئذ إلا من حيث العصمة عن الخطأ في الاجتهاد، أو تقرير الله له -صلى الله عليه وسلم- على الحكم.
ثم نقول: إذا ساغ لك أن تثبت حكمًا "لم ينص عليه الكتاب" بالقياس استقلالًا؛ أفلا يسوغ لك أن تثبته بالسنة استقلالًا؟
قد يكون لك شيء من الشبهة في جعلك السنة أدنى مرتبة من الكتاب، أما أن تقول: إن السنة متأخرة عن القياس، وإنها إذا وافقته يكون هو المؤسس للحكم والسنة هي المؤكدة، وإن القياس يقوى على الاستقلال دونها؛ فهذا أمر ليس لك فيه أقل شبهة. قاله في "حجية السنة" "ص532-534".
1 كما يأتي في احتجاب سودة. "د".
2 إذا جعل بالجر عطفًا على ما قبله كانت القاعدة قاصرة عن شمول مثل الحكم في الجنين بالغرة في المثال الثامن، حيث قال فيه: "وإن له حكم نفسه"، وإذا جعل بالرفع عطفًا على قوله: "لاحق" يكون نوعًا ثالثًا غير اللحوق بأحد الطرفين أو بهما؛ فتكون القاعدة شاملة لمثل هذا الحكم. "د".(41/3)
3 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 119 وما بعدها" للشيخ محمد الأشقر.(41/4)
ص -355-…الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما؛ فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر1؛ فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير2، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال: "إنها ركس"3.
وسئل ابن عمر عن القنفذ؛ فقال: "كل". وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية [الأنعام: 145]، فقال له إنسان: إن أبا هريرة يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "هو خبيثة من الخبائث". فقال ابن عمر: "إن قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بالأمر".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530" عن أبي ثعلبة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة نحوه، وأخرجه برقم "1934" عن ابن عباس ولفظه: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، 9/ 653/ رقم 5528"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح/ رقم 1940" عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر مناديًا فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الأهلية". زاد مسلم: "فإنها رجس أو نجس".
وكتب "ف" هنا ما نصه: الركس شبيه بالرجيع، والمراد هنا النجس، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بروث في الاستنجاء فقال: "إنه ركس" ا. هـ.
قلت: وخرجت الحديث الذي أورده "ف" في "الخلافيات" "2/ رقم 375، 378"، وهو صحيح.(41/5)
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، 3/ 354/ رقم 3799" -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 326"- وأحمد في "المسند" "2 / 381" من طريق عيسى بن نميلة عن أبيه؛ قال: كنت عند ابن عمر؛ فسئل... وذكر نحوه.
قال البيهقي عقبه: "هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف".
قلت: آفته ابن نميلة وأبوه فهما مجهولان، والذي سمعه من أبي هريرة مبهم أيضًا، ولذا قال الخطابي: "ليس إسناده بذاك"، وأقره ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156".(41/6)
ص -356-…وخرج أبو داود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها"1، وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العذرة2.
فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث، كما ألحق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، 3/ 351/ رقم 1785"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة، 4/ 270/ رقم 1824"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب النهي عن لحوم الجلالة، 2/ 1064/ رقم 3189"، والبيهقي في "السن الكبرى" "9/ 332"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 252" من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر به.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا".
قلت: الثوري أثبت بلا شك من ابن إسحاق؛ فراويته تقدم ولكن يشهد لرواية ابن إسحاق أحاديث عديدة، منها: حديث ابن عباس، ونصه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبن الجلالة"، أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 1825"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3719"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 240"، وأحمد في "المسند" "1/ 229، 241، 293، 321، 339"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 220-221/ رقم 3599, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 34"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 887"، والطبراني في "الكبير" "رقم 11819، 11820، 11821"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 254 و9/ 333، 334"، وإسناده صحيح.
قال ابن حبان عقبه: "الجلالة: ما كان الغالب على علفها القذارة، فإذا كان الغالب على علفها الأشياء الطاهرة الطيبة لم تكن بجلالة".
2 كذا في "ط" وهامش الأصل، ووقعت في جميع النسخ المطبوعة هكذا "العنهدة"، وكتب "ف": "لم نقف عليه"، وفي "اللسان": "الجلة: البعرة والعذرة".(41/7)
ص -357-…الصلاة والسلام الضب1 والحبارى2 والأرنب3 وأشباهها4 بأصل الطيبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك في إقراره من أكله وتعليل الامتناع عن أكله بقوله: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، كما هو في "صحيح البخاري" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل لحم الحبارى، 3/ 354/ رقم 3797"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة باب ما جاء في أكل الحبارى، 3/ 77/ رقم 1828"، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 1021"، والمحاملي في "أماليه" "رقم 528, رواية ابن البيع"، والطبراني في "الكبير" "7/ 95"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 168"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 497"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 322"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 111" من طريق إبراهيم -ولقبه برية- بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده؛ قال: أكلت مع رسول الله لحم حبارى، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن عمر بن سفينة روى عنه ابن أبي فديك، ويقال: برية بن عمر بن سفينة".
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، أورد العقيلي الحديث في "ضعفائه" "3/ 168" في ترجمة "عمر بن سفينة"، وقال: "حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به، ونقل عن البخاري قوله: "إسناده مجهول".
قلت: عمر صدقه أبو زرعة كما في "الجرح والتعديل" "6/ 113"، وآفته ابنه، قال ابن حبان في ترجمة إبراهيم: "يخالف الثقات في الروايات، ويروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من رواية الأثبات؛ فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال"، وضعفه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 154" بقوله: "وإسناده ضعيف، ضعفه العقيلي وابن حبان".
وانظر غير مأمور: "من روى عن أبيه عن جده" "ص77-78".(41/8)
و"الحبارى": طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، الذكر والأنثى والجمع فيه سواء.
انظر: "اللسان" "4/ 160"، و"المعجم الوسيط" "1/ 152"، و"حياة الحيوان الكبرى" "1/ 225-226"، وأكلها حلال.
3 ويدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب الأرنب، 9/ 661/ رقم 5535"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب، 3/ 1547/ رقم 1953" عن أنس -رضي الله عنه- قال: أنفجنا -أي: أثرنا- أرنبًا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا -أي: تعبوا- فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها، فبعث بوركيها -أو قال: بفخذيها- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبلها. لفظ البخاري.
4 من مثل الجراد، وسيأتي الدليل على إباحته "ص372".(41/9)
ص -358-…والثاني: أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر؛ كالماء، واللبن، والعسل وأشباهها، وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة، ولكنه يوشك أن يسكر، وهو نبيذ الدباء، والمزفت، والنقير1 وغيرها؛ فنهى عنها إلحاقًا لها بالمسكرات تحقيقًا؛ سدًّا للذريعة، ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "كنت2 نهيتكم عن الانتباذ3؛ فانتبذوا"4، و"كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المنبوذ في هذه الأوعية، والدباء: ما يتخذ من القرع، واحدته دباءة، والمزفت: إناء يطلى بالزفت وهو القار، والنقير أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ فقد كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وفي الحديث: "نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الدباء والحنتم والنقير"، والحنتم: جرار مدهونة خضر أو حمر، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم، واحده حنتمة، وخصت هذه الأواني بالنهي لإسراعها بتغير ما ينبذ فيها. "ف".
2 تحريم الانتباذ في هذه الأوعية سد للذريعة، وفطام لهم عن المسكر وأوعيته؛ إذ كانوا حديثي عهد بشربه, فلما استقر تحريمه عندهم, واطمأنت إليه نفوسهم, وشكوا من ضيق الأمر عليهم بمنع هذه الأواني التي لا مندوحة لهم عنها؛ أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكرًا؛ فقد رجح جانب التحريم حيث قام مقتضيه، فلما زال المقتضى رجح جانب الحل الذي هو الأصل، وسواء أقلنا: إن ذلك بوحي أم باجتهاد؛ فالكل بيانه صلى الله عليه وسلم. "د".
3 أي: في تلك الأواني، وفي بعض الروايات وقع التصريح بها. "ف".(41/10)
4 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، 8/ 319، ص195"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 328"، والطيالسي =(41/11)
ص -359-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "المسند" "ص195"، والدارقطني في "السنن" "4/ 259"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 298" من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن أبي بردة بن نيار الأنصاري مرفوعًا: "إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم، ولا تسكروا". وله عندهم ألفاظ منها للنسائي: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا".
ثم قال: "هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم أن أحدًا تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب، وسماك ليس بالقوي، كان يقبل التلقين، قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه، ثم رواه النسائي من طريق شريك عن سماك عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعًا: "نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". وخالفه أبو عوانة؛ فرواه عن سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة؛ قالت: "اشربوا ولا تسكروا"، قال النسائي: وهذا أيضًا غير ثابت وقرصافة هذه لا ندري من هي، والمشهور عن عائشة خلاف ما روت عنها قرصافة".
ثم خرجه بلفظ آخر بعيد عن هذا المعنى، وقال الدارقطني: "وهم فيه أبو الأحوص في إسناده ومتنه، وقال غيره: عن سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه: "ولا تشربوا مسكرًا"، ثم أخرجه كذلك من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري عن محمد بن جابر عن سماك، ثم قال: وهذا هو الصواب".(41/12)
وذكر ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 24-25" أنه سأل أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص هذا؛ فقال أبو زرعة: "وهم فيه أبو الأحوص قلب من الإسناد موضعًا وصحف في موضع، أما القلب؛ فقوله عن أبي بردة, أراد عن ابن بريدة ثم احتاج أن يقول ابن بريدة عن أبيه؛ فقلب الإسناد بأسره، وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، وقد روى هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء؛ فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرًا". وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم =(41/13)
ص -360-…مسكر حرام"1، وبقي في قليل المسكر على الأصل من التحريم2؛ فبين أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقل أحد منهم: ولا تسكروا؛ وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه، قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد؛ فإن شريكًا وأيوب ومحمدًا ابني جابر رووه عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي -صلى الله علي وسلم- كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا". قال أبو زرعة: كذا أقول، وهذا خطأ، والصحيح حديث ابن بريدة عن أبيه.
وأخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، 2/ 1128/ رقم 3406"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 227-228" عن ابن مسعود مرفوعًا: "إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئًا، كل مسكر حرام".
وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير" "رقم 10304"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 229-230/ رقم 5409, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311"، وإسناده حسن، وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" "3/ 108".
ثم وقفت عليه باللفظ الذي ذكره المصنف، وهو قطعة من حديث فيه قصة عن أبي سعيد، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 485 في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الأضاحي" عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، ولم يسمع ربيعة من أبي سعيد، ولكن أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 374، 375"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311" من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن أبي سعيد نحوه، وإسناده صحيح.(41/14)
وانظر: "صحيح البخاري" "كتاب الأشربة، باب الانتباذ في الأوعية والتور، 10/ 56-57"، و"صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرًا، 3/ 1557"، وقد مضى نحو هذا الحديث وشواهد كثيرة له وتخريجها في "2/ 79-80".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر, رضي الله عنه.
وورد عن ابن عمر في "صحيح مسلم" "رقم 2003" بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وعن عائشة في "الصحيحين" كما بينته في التعليق على "2/ 522".
وانظر تخريج الحديث السابق.
2 لعله قد سقط من النسخة هنا كلمة "أو الإباحة" فالفرض أنه بقيت واسطة وهي القليل الذي لا يسكر، إلى أي الطرفي تنضم, فبين أن ما أسكر كثيره... إلخ. "د".(41/15)
ص -361-…ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام1، وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما2؛ فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين، فكان البيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين.
والثالث: أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك، وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلمًا فصيده حرام، إذ لم يمسك إلا على نفسه؛ فدار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، 3/ 327/ رقم 3681"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، 4/ 292/ رقم 1865"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، 2/ 1125/ رقم 3393"، وأحمد في "المسند" "3/ 343"، و"الأشربة" "148"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 860"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "4/ 351" من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا، وإسناده حسن من أجل داود، وقد تابعه موسى بن عقبة -وهو ثقة-، أخرجه من طريقه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 202/ رقم 5382, الإحسان"، وسلمة بن صالح -وهو ضعيف- أخرجه من طريقه ابن عدي في "الكامل" "3/ 1177".
والحديث صحيح بمجموع طريقيه، والله والموفق.
قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمر وابن عمرو وخوات بن جبير"، وقال عن حديث جابر: "هذا حديث حسن غريب من حديث جابر". وانظر: "نصب الراية" "4/ 301-305".
2 في "ط": "والجر وغيرها"، وفي نسختي "ف" و"م": "وغيرها"، ولذا كتب "ف" هنا: "لعله: "وغيرهما" أو يزاد قبله "والنقير"".(41/16)
ص -362-…بين الأصلين ما كان معلمًا ولكنه أكل من صيده؛ فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك، فتعارض الأصلان؛ فجاءت السنة ببيان ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه"1.
وفي حديث آخر: "إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا؛ فإنما أمسكه عليك"2.
وجاء في حديث آخر: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله؛ فكل وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، 9/ 598/ رقم 5475"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529-1530/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه.
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271/ رقم 2851"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة، 4/ 66/ رقم 1467"، وأحمد في "المسند" "4/ 257/ 377، 379"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 238" من طريق مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به.
قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي، والعمل على هذا عند أهل العلم".
قلت: مجالد ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره؛ إلا أنه توبع، ولكن بلفظ آخر نحو المذكور.
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم؛ قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله؛ فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل". لفظ البخاري.(41/17)
قلت: وكلام الترمذي السابق يقيد بما قاله البيهقي عقبه: "ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين رووه عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد".(41/18)
ص -363-…أكل منه"1 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271-272/ رقم 2852" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 237-238"، وابن عبد البر في "الاستذكار" "15/ 285/ رقم 21939"- من طريق داود بن عمرو الدمشقي عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة به، وقال البيهقي عقبه: "حديث أبي ثعلبة مخرج في "الصحيحين" من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة وليس فيه ذكر الأكل، وحديث الشعبي عن عدي أصح من حديث داود بن عمرو الدمشقي ومن حديث عمرو بن شعيب".
قلت: وإسناده ضعيف، وفيه نكارة واضحة.
وداود بن عمرو ضعف، وقال ابن حجر في "التقريب" "199": "صدوق يخطئ"، وأخطأ في هذا الحديث، ولفظ: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل". قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل". فأخطأ في قوله: "وإن أكل"، والصواب قوله: "وإن قتل".
ويقع مثل هذا كثيرًا للرواة، والأدلة على ما قلت كثيرة، هذا بعضها:
- الثابت في حديث عدي السابق: "وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، ومن المحال أن يروي الثقات الأثبات هذا، ثم يروون حديث أبي ثعلبة، ولا يتعرضون لمثل هذه اللفظة؛ فالحاجة إليها ماسة، فانفراد من يخطئ بها دلالة على عدم ثبوتها.
- مخالفتها لصريح القرآن، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم} [المائدة: 4].
- قول الذهبي في ترجمة "داود بن عمرو" في "الميزان" "2/ 17-18": "تفرد بحديث: "وإذا أرسلت كلبك... فكل وإن أكل منه""، قال: "وهو حديث منكر".
- قول ابن حزم في "المحلى" "7/ 471": "هو حديث ساقط لا يصح، وداود بن عمرو ضعيف، ضعفه أحمد بن حنبل".(41/19)
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه نحو ما في الحديث السابق؛ فأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 110/ 2857"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 238"، و"المعرفة" "13/ 445/ رقم 18786" من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيًّا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا مكلبة؛ فأفتني في صيدها. فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لك كلاب مكلبة, فكل مما أمسكن عليك".
قال: ذكيًّا أو غير ذكي؟ قال: "نعم"، قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". وهو حديث معلول؛ =(41/20)
ص -364-…وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين1.
والرابع: أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقًا، وجاء أن على من قتله عمدًا الجزاء، وأبيح للحلال مطلقًا؛ فمن قتله فلا شيء عليه، فبقي قتله خطأ في محل النظر؛ فجاءت السنة2 بالتسوية بين العمد والخطأ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقد رواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب، فقال عن رجل من هذيل: إنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكلب يصطاد، قال: "كل أكل أو لم يأكل". ذكره البيهقي، ثم قال: فصار حديث عمرو بن شعيب بهذا معلولًا.
وحكم على ظاهر سنده ابن حجر في "الفتح" "9/ 602"؛ فقال: "سنده لا بأس به"، وحكمه في "التلخيص الحبير" "2/ 136" أدق، وذلك عند قوله: "أعله البيهقي"، وتعنت ابن حزم بتضعيفه إياه في "المحلى" "7/ 471" بأنه صحيفة.
وقد ثبت عن ابن عمر وسعد نحو هذا؛ كما في "الموطأ" "2/ 492، 493"، وانظر في بسط المسألة وأقوال أئمة الفقه في: "الاستذكار" "15/ 281 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" "4/ 239 وما بعدها".
وإذا علم ضعف الحديث؛ فلا وجه لما كتبه "د" هنا، وهذا نصه: "فيكون الحديث الأول من الإلحاق بأحد الطرفين احتياطًا فقط".
1 أي: الطرفين الواضحين. "د".(41/21)
2 كما أخرج مالك في "الموطأ" "267, رواية يحيى و1245, رواية أبي مصعب" عن عبد العزيز -قال أبو مصعب: عبد الملك- بن قرير عن محمد بن سيرين؛ أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: "إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين، نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان؛ فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلًا يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا... قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وهذا عبد الرحمن بن عوف".(41/22)
ص -365-…قال الزهري: "جاء القرآن بالجزاء على العامد، وهو في الخطأ سنة"1، والزهري من أعلم الناس بالسنن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه من طريق مالك: عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 408"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 203"، و"المعرفة" "7/ 450/ رقم 10652".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 275-277": "أمر ابن وضاح بطرح عبد الملك اسم شيخ مالك في هذا الحديث، فقال: اجعله عن ابن قرير، وكذلك روايته عن يحيى عن مالك عن ابن قرير عن محمد بن سيرين في هذا الحديث، ورواية عبيد الله عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك عن عبد الملك بن قرير، وهو عند أكثر العلماء خطأ؛ لأن عبد الملك بن قرير لا يعرف.
قال يحيى بن معين: "وهم مالك في اسمه، شك في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قريب وهو الأصمعي"، وقال آخرون: إنما وهم مالك في اسمه لا في اسم أبيه، وإنما هو عبد العزيز بن قرير، رجل بصري، يروي عن ابن سيرين أحاديث، هذا منها، وقال أحمد بن عبد الله بن بكير: لم يهم مالك في اسمه، ولا في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قرير كما قال مالك، أخو عبد العزيز بن قرير".
ونقل البيهقي في "المعرفة" "7/ 451" أن الشافعي خطأ مالكًا أيضًا في هذا الاسم، وعلى أية حال؛ فالأمر كما قال ابن عبد البر: "الرجل مجهول، والحديث معروف محفوظ من رواية البصريين والكوفيين".(41/23)
قلت: وللطريق الأول علة أخرى، وهي الانقطاع بين ابن سيرين وعمر، كما نبه عليه ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 203"، قال ابن عبد البر: "رواه ابن جابر، ورواه عن قبيصة الشعبي، ومحمد بن عبد الملك بن قارب الثقفي، وعبد الملك بن عمير، وهو أحسنهم سياقة له، ورواه عن عبد الملك بن عمير جماعة من أهل الحديث، منهم سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الملك المسعودي، ومعمر بن راشد، ذكرها كلها علي بن المديني". ثم أسندها من جميع هذه الطرق ثم قال: "ظاهر حديث مالك من قوله: "أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيًا" يدل على أن قتل ذلك الظبي كان خطأ".
1 أخرجه بسنده إليه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 391/ رقم 8178"، وذكره عنه ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 285". وفي "ط": "جاء في القرآن... على العمد...".(41/24)
ص -366-…والخامس: أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن، وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام؛ فبين صاحب السنة -صلى الله عليه وسلم- من ذلك على الجملة وعلى التفصيل.
فالأول1 قوله: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات"2 الحديث.
ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة: "واحتجبي منه يا سودة" لما رأى من شبهه بعتبة، الحديث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان على الجملة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه.(41/25)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 292/ رقم 2053، وباب شراء المملوك من الحربي، 4/ 441/ رقم 2218، وكتاب الخصومات، باب دعوى الوصي للميت، 5/ 74/ رقم 2421، وكتاب العتق، باب أم الولد، 5/ 163/ رقم 2533، وكتاب الوصايا، باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، 5/ 371/ رقم 2745، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 23/ رقم 4303، وكتاب الفرائض، باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة، 12/ 32/ رقم 6749، وباب من ادعى أخًا وابن أخ, 12/ 52/ رقم 6765، وكتاب الحدود، باب للعاهر الحجر، 12/ 127/ رقم 6817، وكتاب الأحكام، باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، 13/ 172/ رقم 7182"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، 2/ 1080/ رقم 1457" عن عائشة -رضي الله عنها- وقوله, صلى الله عليه وسلم: "احتجبي منه"، حمله بعضهم على جهة الاختيار والتنزه؛ فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، وقال بعضهم: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر؛ فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر، وهو"الولد للفراش"، وحكم باطن، وهو الاحتجاب من أجل الشبه، كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش، فاحتجبي منه لما رأى شبهه لعتبة. أفاده ابن عبد البر في "التمهيد" "8/ 186".
كتب "د" هنا ما نصه: "لما رأى شبهه بعتبة؛ فألحق بصاحب الفراش، وهو واضح، وألحقه بغير صاحب الفراش من جهة المحرمية، فلم يجعله من محارم سودة؛ لوضوح شبهه بغير أبيها احتياطًا". وفي "ط": "هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي...".(41/26)
ص -367-…وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد: "فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها؛ فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها"1.
وقال في بئر بضاعة2 وقد كانت تطرح فيها الحيض3 والعذرات: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء"4؛ فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه.
2 بضاعة -بضم الباء- هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر, قال المنذري: "بئر بضاعة: دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة، قيل: بضاعة: اسم لصاحب البئر، وقيل: لموضعها.
3 جمع حيضة -بكسر فسكون- وهي الخرقة التي تستثفر بها المرأة؛ كالمحيضة، وجمعها محايض، وفي حديث عائشة: "ليتني كنت حيضة ملقاة"، وفي حديث بئر بضاعة: "تلقى فيها المحايض". "ف".
قلت: في الأصل: "خرق الحيض بدل من الحيض". قلت: انظر أيضًا "الصحاح" "3/ 1073".
4 للحديث طرق كثيرة، أحسنها طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد به، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 31"، وأبي داود في "السنن" "رقم 66"، والترمذي في "الجامع" "1/ 95"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 174"، والدارقطني في "السنن" "1/ 30"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 47"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 141-142"، والبغوي في "شرح السنة" "2/ 60/ =(41/27)
ص -368-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 283"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 269".
وقال الترمذي: "حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وقال البغوي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" "1/ 45": "قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، غير عبيد الله بن عبد الله بن رافع"، وصححه لطرقه وشواهده.
قلت: ومن أصح شواهده حديث سهل بن سعد، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 12"، والدارقطني في "السنن" "1/ 32"، والبيهقي في "السن الكبرى" "1/ 259"، وقاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" "1/ 155"، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه على سنن أبي داود" كما في "التلخيص الحبير" "1/ 13".
والحديث صححه أحمد بن حنبل. قال الخلال: "قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم، وحسنه ابن القطان، وقال ابن أصبغ: أحسن شيء في بئر بضاعة، وقال العيني: إسناده صحيح، وصححه النووي".
انظر: "التلخيص الحبير" "1/ 12"، و"تحفة المحتاج" "1/ 137"، و"المجموع" "1/ 82"، و"المغني" "1/ 25"، و"خلاصة البدر المنير" "1/ 7"، و"البناية في شرح الهداية" "1/ 320"، و"إرواء الغليل" "1/ 45-46"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية" "1/ 266"، و"تحفة الطالب" لابن كثير "رقم 146"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 205-207"، و"البدر المنير" "2/ 51-61". وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 145-146"، و"الخلافيات" المجلد الثالث مع تعليقي عليهما.(41/28)
وكتب "د" هنا ما نصه: "الحديث أخرجه أصحاب السنن، وفيه: إنا نستقي لك الماء من بئر بضاعة وتلقي فيها لحوم الكلاب وخرق المحايض وعذر الناس "جمع عذرة، وهي الفتيلة التي توضع داخل الحلق إذا أصابه وجع"، وإذا نظر إلى الروايات الأخرى التي فيها زيادة: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، يكون الحكم بالطهارة لأن علامة التنجيس لم توجد فيه، وإن كانت هذه الروايات ضعيفة سندًا!! لكنها لا بد أن تكون بحيث يعتمد عليها، بدليل الإجماع على معناها، ولا إجماع بدون سند من الكتاب أو السنة؛ فلا يكون مما نحن فيه لأنه من باب تحقيق المناط فقط إذا كانت القاعدة مقررة من قبل، ويكون هذا كتذكير لهم بالحكم، أما إذا كان إنشاء للحكم، فهو من الباب".(41/29)
ص -369-…وجاء في الصيد: "كل ما أصميت1، ودع ما أنميت"2.
وقال في حديث عقبة بن الحارث في الرضاع؛ إذ3 أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته، والمرأة4 التي أراد تزوجها، قال فيه: "كيف5 بها وقد زعمت أنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما أصابه السهم فأسرع بموته وأنت تراه، من "الإصماء" وهو أن تقتل الصيد مكانه، و"الإنماء" أن تصيبه إصابة غير قاتلة في الحال، ومعناه: أن ما أصبته، ثم غاب عنك فمات بعد ذلك فلا تأكله؛ فإنك لا تدي أمات بصيدك أم بعارض آخر. "ف".
قلت: انظر في تفصيل هذا المعنى وأحكامه: "تفسير القرطبي" "6/ 71-72"، و"فتح الباري" "9/ 611"، و"معرفة السنن والآثار" "13/ 449-450".
2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "12/ 27/ رقم 12370" بإسناد ضعيف، فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 136"، وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "9/ 241"، و"المعرفة" "13/ 449/ رقم 18800، 18802" من طريقين عن ابن عباس موقوفًا، وهو أشبه، وصححه البيهقي موقوفًا، وضعف المرفوع، وانظر: "فتح الباري" "9/ 611"، و"مجمع الزوائد" "4/ 162"، و"تخريج العراقي لأحاديث الإحياء" "2/ 96".
وللمرفوع شاهد من حديث عمرو بن تميم عن أبيه عن جده؛ كما عند أبي نعيم في "المعرفة"، وفيه محمد بن سليمان بن مشمول وقد ضعفوه، وانظر: "من روى عنه أبيه عن جده" "ص493"، و"لسان الميزان" "2/ 73".
وكتب "د" هنا ما نصه: "وبالتأمل في الفرق بين مسألة الصيد ومسألة الماء، حيث أنه -صلى الله عليه وسلم- رجح في الصيد عدم الحل وفي الماء الطهارة، تجد أنه قد أخذ فيهما بالأصل إن كان اجتهادًا؛ فالأصل الذكاة الشرعية المعروفة، والصيد رخصة بقيود وشروط؛ فما لم نجزم بحصول الشروط رجعنا إلى الأصل، وهو عدم الحل؛ لأنه غير مذكى، وكذلك الماء رجح فيه الأصل، وهو الوصف الذي خلق عليه حتى يتبين ما يخالفه، ولما لم يتبين بقي على أصله".(41/30)
3 في النسخ المطبوعة: "إذا"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: مع المرأة. "ف".
5 في "ط": "فكيف".(41/31)
ص -370-…قد أرضعتكما؟ دعها عنك"1.
إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة.
والسادس: أن الله -عز وجل- حرم الزنى، وأحل التزويج وملك اليمين، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع؛ فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض؛ فجاء في السنة ما بيّن الحكم في بعض الوجوه، حتى يكون2 محلًّا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقًا3، أو في4 بعض الأحوال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 291/ رقم 2052، وكتاب النكاح، باب شهادة المرضعة، 9/ 152/ رقم 5104"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الشهادة في الرضاع، 6/ 109"، و"الكبرى" -كما في "التحفة" "7/ 300"- والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، 3/ 457/ رقم 1151"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع، 3/ 306-307/ رقم 3603"، وأحمد في "المسند" "4/ 7، 383-384"، والدارقطني في "السنن" "4/ 175-176"، والحميدي في "المسند" "رقم 579"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 463" عن عقبة بن الحارث, رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "وفيه أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز؛ فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فركب إلى المدينة. فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "وكيف وقد قيل؟". ففارقها؛ إلا أنهم قالوا: إن هذا إرشاد إلى طريق الورع والتنزه عن الشبهات ولو ضعيفة، فإن الشارع جعل لسماع دعوى المرأة في الرضاع شروطًا لم تستوف ههنا؛ فكان مقتضاه ألا يلتفت إلى قول المرأة، ولا يقضي به في تحريم هذا النكاح، ومنه تعلم ما في قوله: "التي أراد أن يتزوج بها"".
قلت: انظر في المسألة وفقهها: "شرح السنة" "9/ 87"، و"فتح الباري" "9/ 153 وما بعدها و5/ 269".
2 أي: المسكوت عنه، أي: باقيه الذي لم تبينه السنة. "د".(41/32)
3 كما في مثال النكاح بغير ولي قبل الدخول؛ فليس له أثر يترتب عليه إن حصل الطلاق قبل الدخول، وبعد الدخول ألحق بكل من الأصلين في حالة وحكم وإن كانت هذه الأحكام التي ذكرناها أخذت من بيان الحديث لا من اجتهاد العلماء. "د".
4 في الأصل: "على".(41/33)
ص -371-…وبالأصل الآخر في حال آخر؛ فجاء في الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل, فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما استحل منها"1، وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة.
والسابع: أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين؛ فأشكل حكمها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث صحيح بمجموع طرقه؛ كما بينته بتفصيل في تعليقي على "3/ 47".(41/34)
2 أخرجه مالك في "الموطأ "كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، 1/ 22/ رقم 12" -ومن طريقه الشافعي في "الأم" "1/ 16"، و"المسند" "8/ 335, مع الأم"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 231"، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" "رقم 46"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 131" و"المسند" كما في "نصب الراية" "1/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 237 و361 و393"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207"، و"السنن الكبرى" "رقم 67"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100-101/ رقم 69"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 64/ رقم 83"، والدارمي في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، 1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر، 2/ 91"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136/ رقم 386، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر، 2/ 1081/ رقم 3246"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 119, موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 59/ رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 43"، والدارقطني في "السنن" "1/ 36"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 140-141" و"معرفة علوم الحديث" "ص87"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 3" و"السنن الصغرى" "1/ 63/ رقم 155"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 247", والبغوي في "شرح السنة" "2/ 55-56/ رقم 281", والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" "1/ 346"، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عنه البخاري تصحيحه =(41/35)
ص -372-…وروي في بعض الحديث: "أحلت [لنا] ميتتان: الحيتان، والجراد"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لهذا الحديث.
وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني.
انظر: "نصب الراية" "1/ 95"، و"التلخيص الحبير" "1/ 9"، و"المجموع" "1/ 82"، و"خلاصة البدر المنبر" "رقم 1"، و"تحفة المحتاج" "رقم 3"، و"البناية شرح الهداية" "1/ 297"، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي" "1/ 101"، و"نيل الأوطار" "1/ 17"، و"سبل السلام" "1/ 15"، و"إرواء الغليل" "1/ 42"، و"البدر المنير" "2-5".
وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة". انظر "المجموع" "1/ 84"، وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد "رقم 231-240" مع تعليقي عليه.
1 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 97"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، 2/ 1073/ رقم 3218، وكتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، 2/ 1102/ رقم 3314"، والشافعي في "الأم" "2/ 223" و"المسند" "2/ 173/ رقم 607, ترتيب السندي"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "ص340 ورقم 820"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1582"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 58"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 254 و9/ 257"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 244"، وابن ثرثال في "سداسياته" -كما في "الصحيحة" "رقم 1118"- جميعهم من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر به مرفوعًا.(41/36)
وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" "1/ 200, مع الفيض" للحاكم، وتبعه شيخنا في "الصحيحة"، ولم أعثر عليه في "المستدرك"، ولعل منشأ هذا العزو ما حكاه ابن الملقن في "البدر المنير" "2/ 161" و"تحفة المحتاج" "1/ 216/ رقم 122": "رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، لأجل عبد الرحمن بن أسلم، وإن كان الحاكم قال في "مستدركه" في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد"، وذكر الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" "8/ 81" أنه لم يجده في "المستدرك" بعد طول بحث.
والإسناد المذكور ضعيف جدًّا، وقال الدارقطني والبيهقي: "رواه سليمان بن بلال عن زيد =(41/37)
ص -373-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن أسلم عن عبد الله بن عمر، أنه قال: "أحلت لنا...". قالا: "وهو الأصح"، يعني أن الحديث موقوف وليس بمرفوع.
وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، كما في "العلل" "2/ 17/ رقم 1524" لابن أبي حاتم، وقال الإمام أحمد في "العلل" "2/ 136 و3/ 271/ رقم 1795 و5204, رواية ابنه عبد الله"، "روى عبد الرحمن أيضًا حديثًا آخر منكر، حديث: "أحل لنا ميتتان ودمان"، وأشار إلى صحة وقفه، بروايته في "العلل" أيضًا "1/ 480/ رقم 1099, رواية عبد الله" عن ابن عمر من طريق آخر، وستأتي الإشارة إليه، مع أن ابن عدي في "كامله" "1/ 388" قال: "رواه يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال مرفوعًا"، وأسنده من طريقه "4/ 1503"، قال البيهقي: "وقد رفع هذا الحديث أولاد زيد عن أبيهم، وهم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن بنو زيد بن أسلم عن أبيهم عن ابن عمر" قال: "وأولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى من معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد؛ إلا أن الصحيح من هذا الحديث هو الأول"، يعني: الموقوف الذي ذكره.
قلت: ومتابعة عبد الله وأسامة أخرجها أحمد في "العلل" "1/ 480/ رقم 1099, رواية ابنه عبد الله"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 388 و4/ 1503".
وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في "كلامه على الوسيط": "هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، غير أنه متماسك"، قال: "وأولاد زيد وإن كانوا قد ضعفوا ثلاثتهم؛ فعبد الله منهم، قد وثقه أحمد وعلي بن المديني". قال: "وفي اجتماعهم على رفعه ما يقويه تقوية صالحة".(41/38)
قلت: وجنح الشيخ ابن دقيق العيد في "الإمام" إلى تصحيح الرواية المرفوعة من طريق عبد الله بن زيد؛ فإنه قال, عقب قول البيهقي: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني كانا يوثقان عبد الله بن زيد إلى آخره: "إذا كان عبد الله على ما قالاه؛ فيدخل حديثه فيما رفعه الثقة، ووقفه غيره، وقد عرف ما فيه عند الأصوليين والفقهاء". يعني: والأصح تقديم ما رواه الرافع؛ لأنها زيادة، وهي من الثقة مقبولة.
قال: "لا سيما وقد تابعه على ذلك أخواه، أي: فلا يسلم أن الصحيح الأول كما قال البيهقي؛ فتكون هذه الطريق حسنة، مع أن الرواية الأخرى يحسن الاستدلال بها، قال البيهقي: =(41/39)
ص -374-…وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة1.
والثامن: أن الله تعالى جعل النفس بالنفس،[وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ....} [المائدة: 45]]2 إلى آخر الآية، هذا في العمد، وأما الخطأ؛ فالدية لقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "هي في معنى المسند"، أي: في حكم المرفوع، كما فهم ابن حجر في "الفتح" "9/ 621".
قلت: لأن قول الصحابي: "أمرنا بكذا"، و"نهينا عن كذا"، و"أحل كذا"، و"حرم كذا": مرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على المختار عند جمهور الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين.
لا جرم أن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ محيي الدين النووي قالا: "يحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنها في معنى المرفوع".
ولهذا الحديث طريق ضعيفة جدًّا، غريبة، لا بأس بالتنبيه عليها، وهي: عن مسور بن الصلت عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا كما تقدم، أخرجه الدارقطني في "العلل" "3/ ق 112/ أ"، والخطيب في "تاريخه" "12/ 245"، وقال الدارقطني: "لا يصح لأن المسور كان ضعيفًا، وهو كما قال؛ فقد كذبه أحمد، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به".
وله طريق أخرى فيها أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، تركه النسائي، وقال البخاري: "منكر الحديث"، ولذا قال ابن حجر بعد كلامه على رواية أولاد زيد: "تابعهم شخص أضعف منهم، وهو...".
وانظر: "التلخيص الحبير" "1/ 26"، و"نصب الراية" "4/ 202"، و"البدر المنير" "2/ 158-164"، و"تخريج الزيلعي على الكشاف" "1/ 100/ رقم 84".(41/40)
1 أخرج ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيرًا لقريش وأميرهم أبو عبيدة، 8/ 78/ رقم 4362"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2308-2309/ رقم 3014" عن جابر -رضي الله عنه- وليس في رواية مسلم أكله -صلى الله عليه وسلم- منه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(41/41)
ص -375-…وبيّن1 عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي2 بحول الله؛ فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة3 ونحوها؛ فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف، ويشبه الإنسان التام لخلقته4؛ فبينت السنة5 فيه أن ديته الغرة6، وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.
والتاسع: أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة؛ فدار الجنين الخارج من بطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأشهر أحاديث الموضوع ما رواه مالك والنسائي عن عبد الله بن حزم عن أبيه، وما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب، وهذا المثال مما وقع في الكتاب النص على الطرفين، لكن بيان أحدهما به والآخر بالسنة، وبقيت الواسطة على اجتهاد يبعد على الناظر. "د".
قلت: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قضى في الموضحة بخمس، وفي الأصابع بعشر، وفي لفظ: "في الموضحة خمس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 695/ رقم 4566"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في الموضحة، 4/ 13/ رقم 1390"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب المواضح، 8/ 57"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "9/ 142"، وعبد الرزاق في "المصنف" "9/ 306/ رقم 7324"، والدارمي في "السنن" "2/ 194"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 785"، وابن أبي عاصم في "الديات" "113"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 81"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 195"، وإسناده صحيح.
قلت: وسيأتي تخريج الحديث الآخر.
2 في المثال الرابع مما يجري مجرى القياس. "د".
3 أي: من غيرها. "د".
4 في "ط": "الخلقة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القسامة، باب دية الجنين، 3/ 1309/ رقم 1681" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(41/42)
6 قال صاحب "التيسير" في شرح الحديث: "الغرة عند العرب العبد والأمة، وعند الفقهاء: ما بلغ ثمنه من العبيد نصف عشر الدية، وقوله: "حكم نفسه"؛ أي: لم يلحق بأحد الطرفين". "د". ونحوه عند "ف".(41/43)
ص -376-…المذكاة ميتًا بين الطرفين؛ فاحتملهما؛ فقال في الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"1 ترجيحًا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 3/ 103/ رقم 2827"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 4/ 72/ رقم 1476"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، 2/ 1067/ رقم 3199"، وأحمد في "المسند" "3/ 31، 53"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 502/ رقم 8650"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 900"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 278/ رقم 992"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272-273، 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 228"، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه.
وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الوداك ثقة، احتج به مسلم.
وقد ضعفه ابن حزم في "المحلى" "7/ 419" بقوله: "مجالد ضعيف، وأبو الوداك ضعيف".
قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي: "صالح"، ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 157": "أما أبو الوداك فلم أر من ضعفه".
وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك أحمد في "المسند" "3/ 39"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1077, موارد"، والدارقطني في "السنن" "4/ 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والخطيب في "الموضح" "2/ 249".(41/44)
قال ابن حجر في "التلخيص" "4/ 157": "فهذه متابعة قوية لمجالد"، وقال المنذري في "مختصر السنن" "4/ 120": "وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تكلم فيه- فقد احتج به مسلم في "صحيحه"", وقال الذهبي في "الميزان" "4/ 483" وساق كلام الأئمة فيه وعنه: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة"، وترجمه في "من تكلم فيه وهو موثق" "رقم 389".
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 45"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ رقم 1206"، والطبراني في "الصغير" "1/ 88، 168"، والخطيب في "تاريخ" "8/ 412"، وأبو نعيم في =(41/45)
ص -377-…والعاشر: أن الله قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]؛ فبقيت البنتان مسكوتًا عنهما؛ فنقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "مسانيد فراس بن يحيى المكتب" "رقم 39" من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف مدلس ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به.
وله شاهد من حديث جابر أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 84"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2828"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 343/ رقم 1808"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 660، 733 و6/ 2403"، والدارقطني في "السنن" "4/ 273"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 114"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 92 و9/ 236"، و"أخبار أصبهان" "1/ 92 و2/ 82"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "رقم 288"، وابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 200"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "265" -موقوفًا- والخليلي في "الإرشاد" "1/ 438"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 334-335" من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أي منها بالتحديث، فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعله ابن حزم في "المحلى" "7/ 419".
وورد الحديث عن ابن عمر وأبي هريرة وكعب بن مالك وأبي ليلى وأبي أيوب الأنصاري وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبي أمامة وأبي الدرداء وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها، إلا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156": "قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: "هو حديث صحيح"، وتبع في ذلك إمامه".
قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرح به العراقي في "تخريج الإحياء" "2/ 116".(41/46)
قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": هو حديث صحيح، لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر".
قلت: والعجب من "د"؛ فإنه نقل عن ابن حجر الكلام السابق، وفيه بدل من "تنتهض": "تنتقض"!! وقال بعد أن ذكر مخارجه عن "الجامع الصغير": "الكل معلول"، والأمر ليس كذلك كما اتضح لك، ولله الحمد، ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا، والله الموفق.(41/47)
ص -378-…في السنة1 حكمهما، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين2. ذكره القاضي إسماعيل.
فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها؛ فإنه أمر واضح لمن تأمل، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما، أو إليهما معًا؛ فيأخذ من كل منهما بطرف؛ فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات، 4/ 414/ رقم 2092"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، 3/ 121/ رقم 2892"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب، 2/ 908-909/ رقم 2720"، وأحمد في "المسند" "3/ 352"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 524"، والدارقطني في "السنن" "4/ 79"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 333-334"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 229" من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر؛ قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث؛ فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي؛ فهو لك".
وإسناد حسن، من أجل عبد الله بن محمد بن عقيل، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل"، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 445" لابن أبي شيبة ومسدد والطيالسي وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان.(41/48)
وشذ بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فقال: "هاتان بنتا ثابت بن قيس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2891"، والدارقطني والبيهقي، قال أبو داود والبيهقي: "أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع, وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة".
وانظر: "فتح الباري" "8/ 244"، و"إرواء الغليل" "6/ 122"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 468".
2 في "ط": "الثنتين".
3 غير ظاهر في الغرة في الجنين؛ لأنه لم يأخذ حكم النفس ولا الأطراف، وهو يفيد عطف قوله: "أو غيره" فيما سبق على قوله "احتياطي". "د".(41/49)
ص -379-…وأما مجال القياس؛ فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها؛ فيجتزى بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادًا على بيان السنة فيه، وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصًّا في حكم العام معنى، وقد مر في كتاب الأدلة1 بيان هذا المعنى، فإذا كان كذلك، ووجدنا في الكتاب أصلًا، وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه؛ فهو المعنى ههنا، وسواء علينا أقلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله بالقياس2 أو بالوحي؛ إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس، والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة3، وله أمثلة4:
أحدها5: أن الله -عز وجل- حرم الربا6, وربا الجاهلية الذي قالوا فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة التاسعة، وإنه كان العموم هناك للأشخاص، وإن الشريعة ليست خاصة ببعضهم دون بعض، وهنا شمول يرجع للمعنى الذي فيه الحكم، كحرمة النبيذ بجعل الخمر شاملًا له معنى وإن لم يشمله صفة. "د".
2 بناء على أنه -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيقيس، وقيل: ليس له الاجتهاد. "د".
قلت: انظر لزامًا ما علقناه على قوله هذا في "ص354".
3 في المسألة الثانية، حيث قال: "إن الظن الراجع إلى أصل قطعي يعول عليه، ومثال ذلك ما ورد من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا. "د".
4 في "ط": "أمثلته".
5 في "د": "أحدهما".(41/50)
6 أي: وظاهر أن المراد به ما يعقد في الإسلام؛ لأن هذا هو الذي بصدده التشريع، فألحق به ما عقد في الجاهلية، فقال: "وربا الجاهلية موضوع... إلخ"، وهذا إما قياس منه -صلى الله عليه وسلم- أو بوحي يجري في أفهامنا مجرى القياس، ويصح أن يكون هذا المقدار إلى قوله: "وإذا كان كذلك" مثالًا لما تردد بين طرفين واضحين فألحقه بأحدهما، وذلك أن الله تعالى حرم الربا، وقال أيضًا: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]؛ فتردد ربا الجاهلية بين ما يغفر فينفذ عقده وما لا يغفر فيبطل عقده، أعني: إنه لا ينفذ ولا يترتب عليه أثره وإن كان مجرد =(41/51)
ص -380-…{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275] هو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقتضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله"1.
وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض؛ ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد؛ فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم 2/ 889/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل، فيه خطبة الوداع الجامعة.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، 3/ 1210/ رقم 1587"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الصرف, 3/ 248-249/ رقم 3349, 3350", والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل، 3/ 541/ رقم 1540"، وأحمد في "المسند" "5/ 320"، والدارقطني في "السنن" "3/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 277، 282، 284" عن عبادة بن الصامت, رضي الله عنه.(41/52)
ص -381-…ثم زاد1 على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف، وعده من الربا2؛ لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة3، ويدخل فيه بحكم المعنى4 السلف يجر نفعًا، وذلك5 لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه؛ لتقارب المنافع فيما يراد منها؛ فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير6 شيء، وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلحاق ثان جاء في قوله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت... " إلخ وثم للتأخر الرتبي، وإلا؛ فالإلحاقان في حديث واحد، إلا أن يعتبر الترتيب في نفس ألفاظ الحديث ترتيبًا في الإلحاق زمانًا أيضًا، وكان عليه أن يؤخر قوله: "فإذا اختلفت" بعد قوله: ثم زاد" ويبقى النظر في أن تحريم بيع النساء عند اختلاف الأصناف جاء بإلحاق السنة؛ لأن هذا يتوقف على أن أصل تحريم الربا في القرآن كان لخصوص النساء عند اتفاق الأصناف فقط، وأن تحريم النساء عند الاختلاف إنما جاء من هذا الحديث، كما جاء تحريم ربا الفضل به، وربما لا يساعده ما كان جاريًا عندهم ووقع عليه التحريم في القرآن؛ إذ كانوا يعطون شعيرًا في مقابلة شعير لأجل بأكثر، في مقابلة دراهم لأجل بأكثر، وهكذا؛ فليرجع إلى التاريخ المبسوط في مثله. "د".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء 4/ 381/ رقم 2178، 2179"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، 3/ 1217/ رقم 1596" عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا ربا إلا في "النسيئة".
قال ابن حبان في "صحيحه" "11/ 397-398" عقبه: "معنى هذا الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر، وبينها فضل؛ يكون ربًا، وإذا بيعت بغير أجناسها، وبينها فضل؛ كان ذلك جائزًا إذا كان يدًا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربًا".
3 أي: غالبًا في العادة كما صرح به بعد. "د".(41/53)
4 وإن كان لفظه لفظ السلف والقرض. "د".
5 تعليل التحريم في بيع هذه الأجناس بمثلها متفاضلًا، وقوله بعد: "والأجل.. إلخ" تعليل لتحريم النساء فيها حتى عند التساوي قدرًا؛ فهو تكميل لقوله: "لأن النساء في أحد العوضين... إلخ". "د".
6 قد يقال: إن هذا لا يظهر فيما إذا دار الفضل من الجانبين، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد؛ فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، فهناك عوض؛ لا أن يقال: إن هناك غررًا كبيرًا لا يعلم معه أيهما غبن وهو ممنوع، وتعليله غير ما حققه بعضهم من أن العلة سد الذريعة. "د".(41/54)
ص -382-…إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة؛ إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة، وهو الزيادة.
ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا1 في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها2 إلى اليوم؛ فلذلك بينتها السنة3؛ إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التفاضل والنسيئة. "د".
2 أي: علتها وسر الفرق بين النقود والأطعمة وبين غيرهما، حيث منعا فيهما أجيزا فيما عداهما، راجع الجزء الثاني من "إعلام الموقعين"؛ ففيه البيان الكافي في المطلوب، والذي أشكل الفرق عند المؤلف هو أنه أخذ علة المنع مجرد الزيادة بدون عوض، ولكنهم أضافوا لهذا في النقدين والمطعومات المقتاتة ما يصح أن يجعل جزء علة يكون محط الفرق الواضح. "د".
3 فمن ذلك أنه اشترى العبد بعبدين، وأنه لما نفدت الإبل في جهاز الجيش أمر -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ على قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا فيه الأمران معًا. "د".
قلت: يشير الشارح -رحمه الله تعالى- إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلًا، 3/ 1225/ رقم 1602"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 150، 292"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1239 و1596"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3358"، وأحمد في "المسند" "3/ 349-350" عن جابر؛ قال: "جاء عبد فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "بعنيه". فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله: أعبد هو؟".(41/55)
وأما حديث عبد الله بن عمرو؛ فأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 3357"، وأحمد في "المسند" "2/ 171، 216"، وهو ضعيف.(41/56)
ص -383-…الاجتهاد؛ فمثل هذا جار1 مجرى الأصل والفرع في القياس؛ فتأمله.
والثاني: أن الله تعالى حرم الجمع2 بين الأم وابنتها في النكاح، وبين الأختين، وجاء في القرآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]؛ فجاء نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع3 بين أولئك موجود هنا، وقد يروى في هذا الحديث: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"4، والتعليل يشعر بوجه القياس.
والثالث: أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء، وأنه أسكنه في الأرض، ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر؛ فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه "الطهور ماؤه، الحل ميتته"5.
والرابع: أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن، ولم يذكر ديات الأطراف، وهي مما يشكل قياسها على العقول؛ فبين6 الحديث من دياتها ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يجزم بأنه منه؛ لما سبق له من أنه من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها، فربما كان تعبدًا ليس مبنيًّا على علة؛ فلا يتأتى إجراء القياس فيه، وأيضًا من أنه إما أن يكون بالوحي لا غير، بناء على أنه لا يجتهد، أو بعضه به وبعضه بالقياس إن جوز له -صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد، وسيأتي قوله: "ولا علينا أقصد القياس على الخصوص... إلخ". "د".
2 أي: في صورة ما إذا عقد على الأم ولم يدخل بها، وأما ما عدا هذه الصورة، كما إذا دخل بالأم أو عقد على البنت؛ فإن التحريم تأييد لا يخص مجرد الجمع. "د".
3 في "ط": "الذي من أجله حرم الجمع...".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.
5 مضى تخريجه "ص371"، وهو صحيح.(41/57)
6 لكن أين في هذا إجراؤه مجرى القياس في أخذ الفرع حكم الأصل كالأمثلة السابقة واللاحقة؛ إلا أن يقال: الإلحاق في مجرد استحقاق المال في نظير التعدي خطأ على البدن، ولذلك قال هذه الكلمة المجملة، وهي أنه بين "ما وضح به السبيل" دون أن يقول: "ألحق الأطراف بالنفس"، وزاد أيضًا قوله: "وكأنه"، ولم يذكرها في تطبيق الأمثلة السابقة ولا اللاحقة. "د".(41/58)
ص -384-…وضح به السبيل1، وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره؛ فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه.
والخامس: أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة: من النصف، والربع، والثمن، والثلث، والسدس، ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الآية [النساء: 11].
وقوله في الأولاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وقوله في آية الكلالة: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى جملة من الأحاديث، أشهرها ما جاء في كتاب عمرو بن حزم: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل".
ولهذا الكتاب وجادات كثيرة، تجعل الباحث يجزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا لعمرو بن حزم؛ لأن التابعين ومن بعدهم وجدوا هذا الكتاب، وقرءوه وعملوا بما فيه، ولذا احتج به الإمام أحمد، كما في "مسائله" "رقم 38" للبغوي، وإسحاق في "مسائله لأحمد" "ص5"، وابن معين كما في "تاريخ الدوري" "رقم 647"، والشافعي في "الرسالة" "422-423".
وخرجته وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" "1/ 501-508"، وانظر: "العواصم والقواصم" "1/ 333-335"، و"فتح الباري" "12/ 226"، و"الإرواء" "رقم 122"، و"تهذيب الكمال" "11/ 419"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 412".(41/59)
ص -385-…وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
فاقتضى أن ما بقي بعد الفرائض المذكورة فللعصبة، وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين؛ كالجد، والعم، وابن العم، وأشباههم؛ فقال1 عليه الصلاة والسلام: "ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"2، وفي رواية: "فلأولى عصبة ذكر"3؛ فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه، بعد ما نبه الكتاب على أصله.
والسادس: أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]؛ فألحق النبي -صلى الله عليه وسلم- بهاتين سائر القرابات4 من الرضاعة التي يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأشباه ذلك، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محل الشاهد قوله: "فما بقي... إلخ" المفيد للعموم في العصبة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، 12/ 11/ رقم 6732، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، 12/ 16/ رقم 6735، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة، 12/ 18/ رقم 6737، وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج، 12/ 27/ رقم 6746"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، 3/ 1233/ رقم 1615" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.(41/60)
3 قال ابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 248, ط دار الكتب العلمية": "ما نحفظ هذه اللفظة"، وأوردها الرافعي في "فتح العزيز"، وقال ابن حجر في تخريجه "التلخيص الحبير" "3/ 81": "وهذا اللفظ تبع فيه -أي: الرافعي- الغزالي، وهو تبع إمامه -أي: إمام الحرمين- وقد قال ابن الجوزي في "التحقيق": إن هذه اللفظة لا تحفظ، وكذا قال المنذري، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد". ثم قال ابن حجر: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة حديث: "أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا"؛ فشمل الواحد وغيره".
4 في "ط": "القرابة".(41/61)
ص -386-…بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق، نصت1 عليه السنة -إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد- فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب"2، وسائر ما جاء في هذا المعنى، ثم ألحق3 بالإناث الذكور؛ لأن اللبن للفحل، ومن جهته در للمرأة4، فإذا كانت المرأة بالرضاع [أمًّا]5؛ فالذي له اللبن أب بلا إشكال.
والسابع: أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم؛ فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وجهة الإلحاق نصت عليه السنة؛ فقال عليه الصلاة والسلام... إلخ لأن المقام قابل لتردد المجتهدين، فلم يتركه صلوات الله عليه؛ فقوله: "نصت.. إلخ" خبر ثان. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، 5/ 253-254/ رقم 2646، وكتاب فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي, صلى الله عليه وسلم 6/ 211/ رقم 3105"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، 2/ 1068/ رقم 1444" عن عائشة، وفيه: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"، لفظ مسلم، ولهما: "إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة", وفي رواية لمسلم برقم "1445" بعد "9": "فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، 3/ 453/ رقم 1147" عن عائشة أيضًا، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
3 كما في حديث عائشة في استئذان أفلح أخي أبي القعيس زوج المرأة التي أرضعتها؛ فقالت: يا رسول الله! إن أخاه ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته. فقال: "ائذني له فإنه عمك". "د". قلت: وهذه القصة هي التي أشرت إليها في تخريج الحديث السابق.(41/62)
4 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "جهة در المرأة".
5 كذا في "ط"، وسقطت "أمًّا" من جميع النسخ، وفيها: "فالذي له اللبن أم"!! وكتب "د": "هنا سقط كلمة أما"، وقوله: "فالذي له اللبن أم" لعل الأصل: "فالذي له اللبن أب"، وهو الذي يلائم قوله -عليه السلام- في الحديث السابق: "فإنه عمك".(41/63)
ص -387-…وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
وذلك حرم الله مكة، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله1 معه؛ فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها2، فقال: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها3، أو يقتل صيدها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في رواية للشيخين أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة"، وقد دعا لأهلها بالبركة في صاعها ومدها، وقال في رواية مسلم "رقم 1378" والترمذي "رقم 3924": "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت شفيعًا له وشهيدًا يوم القيامة"، وورد أيضًا أنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد؛ فلعل هذه المزايا وما ماثلها يفسر بها قوله: "ومثله معه". "د".
2 تثنية "لابة"، وهي الحرة العظيمة، قال ابن الأثير: "المدينة ما بين حرتين عظيمتين يكتنفانها، والحرة حجارة سود". "ف".
قلت: كلام ابن الأثير في "النهاية" "4/ 274".
3 جمع عضاهة وعضيهة وعضة، وأصلها: عضهة، وهي: شجرة ذات شوك. وقيل: العضاه اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فإن لم تكن طويلة؛ فليست من العضاه، والمراد هنا الشجر ذو الشوك مطلقًا. "ف".
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 992/ رقم 1363"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "3/ 295"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 198"، وأحمد في "المسند" "1/ 169، 181، 185"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 38"، والحربي في "الغريب" "3/ 924"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 153"، والجندي في "فضائل المدينة" "رقم 69"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 191"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 197" عن سعد مرفوعًا.(41/64)
وأخرجه مسلم "رقم 1362"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "2/ 304"- والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 192"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 111/ رقم 2151"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 48/ رقم 2029"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 198" عن جابر بألفاظ نحوه.(41/65)
ص -388-…وفي رواية: "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله1 في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء"2.
وفي حديث آخر: "فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا"3.
ومثله في صحيفة علي المتقدمة4؛ فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة، وقد جاء فيها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم، وارتكاب المنهيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل هذا الوعيد وما بعده لا يقال فيه: إنه قياس وتفريع على تحريم مكة، وكل ما يقبل هنا أن يكون الرسول دعا للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة؛ فأجيب من الله وأبلغه إجابة دعوته وما معها من أنواع الوعيد لمن أحدث فيها حدثًا؛ فالمثال السابع على ما ترى من الضعف، وفي "تحريم الأصول" و"شرحه" -في مسألة أن حكم القياس ثبوت حكم الأصل في الفرع- قال: "ولذا لم يستند من قال بحرمة المدينة إلا إلى السمع، وإنما لم يثبت بالقياس لانتفاء الأصل والفرع" ا. هـ.
وإذا انتفى الأصل والفرع وهما ركنان في القياس؛ فكيف يقال إنه ثبت عند الرسول -عليه السلام- بالقياس؟ "د".
2 هذه قطعة من حديث سعد السابق، وهي بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" "2/ 992-993/ رقم 1363 بعد 460"، وأخرجها أيضًا الجندي في "فضائل المدينة" "رقم 28"، ونحوها عند أحمد والدورقي وأبي يعلى، وتقدم مواطن رواياتهم، والله الموفق.(41/66)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثًا، 13/ 281/ رقم 7306"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 3/ 994/ رقم 1366" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وانفرد مسلم بذكر "لا يقبل الله منه...".
4 انظر: "ص192، 208".(41/67)
ص -389-…على تنوعها، حسبما فسرته السنة1؛ فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى.
والثامن: أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الآية [البقرة: 282]؛ فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل، وظهر به ضعف شهادتهن، ونبه على ذلك في قوله: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن"2، وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.
وحين3 ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]؛ دل على انحطاطهن عن درجة الرجل، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد؛ فقضى4 عليه الصلاة والسلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكمًا قضى به قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "تفسير ابن كثير" "3/ 224-225".
2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، 1/ 86-87/ رقم 79" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1/ 405/ رقم 304، وكتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، 3/ 325/ رقم 1462" عن أبي سعيد نحوه.
3 لعله: "وحيث ثبت". "ف".(41/68)
4 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 3/ 1337/ رقم 1712"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 4/ 32/ رقم 3608"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 225" للمنذري-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، 2/ 793/ رقم 2370"، وأحمد في "المسند" "1/ 248، 315"، والشافعي في "المسند" "2/ 178/ رقم 627، 628, ترتيبه"، والدارقطني في "السنن" "4/ 214"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 167" عن ابن عباس؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد.(41/69)
ص -390-…يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران: 77]؛ فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس؛ إلا أنه يخفى؛ فبينته السنة.
والتاسع: أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله، وذكر الإجارة في بعض الأشياء1؛ كالجعل المشار إليه في قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72].
والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60].
وفي بعض منافع2 لا تأتي على سائرها؛ فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك كثيرًا3، ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين، وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع، ولا علينا أقصد النبي -عليه الصلاة والسلام- القياس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنها إجارة شعيب لموسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-. "د".
2 وأصرحها الرضاع، بل قال بعضهم: لم تأت الإجارة الجائزة في القرآن إلا في الرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. "د".
قلت: انظر في ذلك "الأم" للشافعي "3/ 250"، و"محاسن التأويل" "3/ 611" للقاسمي.
3 يضيق المقام عن سرد الأحاديث، ونحيل القارئ على الكتب التالية؛ فإنه يجد فيها ذكرًا جيدًا لما قاله المصنف: "سنن البيهقي الكبرى" "6/ 116 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" لابن شداد "3/ 439 وما بعدها"، و"نصب الراية" "4/ 129 وما بعدها"، و"الفتح الرباني" "15/ 122 وما بعدها"، و"الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص38 وما بعدها".(41/70)
ص -391-…على الخصوص أم لا؛ لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان.
والعاشر: أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده1، وعن رؤيا يوسف2، ورؤيا الفتيين3، وكانت رؤيا صادقة، ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا؛ فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكام ذلك، وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء4 النبوة5، وأنها من المبشرات6، وأنها على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الآيات في سورة الصافات "رقم 102-107".
2 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 4-6".
3 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 36-41".
4 ورد "من ستة وأربعين جزءًا"، وقالوا في توجيهه: إن النبوة كانت ثلاثًا وعشرين سنة، ومدة الرؤيا الصالحة قبلها كانت ستة أشهر، ونسبتها إلى ثلاث وعشرين سنة هي ما قاله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا البيان وإن لم يرتضه بعضهم؛ فهو واضح، وأيضًا؛ فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟"، وكان يعبرها لهم، وهو يتضمن إلحاق غيرهم بهم. "د".
قلت: انظر في نقض التوجيه المذكور: "فتح الباري" "12/ 364-365"، وما علقناه على "2/ 419".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين، 12/ 361/ رقم 6983، وباب من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، 12/ 383/ رقم 6994"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1774/ رقم 2264" عن أنس مرفوعًا: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". لفظ البخاري، ولهما: "رؤيا المؤمن جزء..." به.
6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب المبشرات، 12/ 375/ رقم 6990" عن أبي هريرة؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات". قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".(41/71)
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1773/ رقم 2263" ضمن حديث عن أبي هريرة مرفوعًا، فيه: "فرؤيا الصالحة بشرى من الله".(41/72)
ص -392-…أقسام1، إلى غير ذلك من أحكامها، فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم، وهو المعنى الذي في القياس، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.
- ومنها: النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان؛ فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد؛ فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد، بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب، ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول2 كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في رواية مسلم في الحديث السابق: "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه".
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله، 12/ 368-369/ رقم 6984"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1771/ رقم 2261" عن أبي قتادة مرفوعًا: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان".
وفي رواية للبخاري: "الرؤيا الصادقة"، ولمسلم: "الرؤيا الصالحة".(41/73)
2 في المسألة الثانية: حيث جعله من باب الدليل الشرعي الظني الراجع إلى قطعي لأنه مبثوث في الشريعة في جزئيات وكليات؛ فالسنة قد نظمت هذه المواضع المتفرقة المبثوثة، وجعلتها في سلك واحد بقاعدة عامة، وكأن هذا الوجه جمع المتفرقات، وأخذ كلي من الجزئيات، وإجمال للتفصيلات؛ فهو عكس لبعض الوجوه المتقدمة، وبالتأمل فيه تجده نادرًا ومأخذًا لا تنبني عليه الدعوى في أصل المسألة إلا إذا ضم لغيره من الوجوه، فإن كان مراد المؤلف أن هذه الوجوه الخمسة كل واحد منها يكفي لإثبات المسألة؛ فإنما يظهر ذلك في الوجه الثالث تامًّا، وفي الثاني ببعض تكلف، وفي الأول على الطريق الذي قصد منه، أما ما عداها؛ فلا يظهر انفراده بإثبات المسألة ودفع إشكالاتها، وإذا كان قد اعترض على الوجه السادس بالقصور مع أنه ذكر له عشرة أمثلة، وقال: إن هذا النمط في السنة كثير؛ فكيف يكون حال هذا الوجه الخامس الذي لم يتيسر له فيه إلا مثال واحد، نعم، إن كان غرضه من وجوهه الخمسة أن تكون مضمومة بعضه إلى بعض كما يشير إليه =(41/74)
ص -393-…ضرر ولا ضرار"1 من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث2؛ فلا معنى للإعادة.
- ومنها3: النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن، وإن كان في السنة بيان زائد، ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارًا إليه -من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى- أو منصوصًا عليه في القرآن4، ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح لشواهده.
2 هذه المعاني الكلية "التي استنبط النبي -صلى الله عليه وسلم- من جزئياتها الموجودة في الكتاب" قليلة بالنسبة لسائر السنة، وقد لا يمكن لغيره -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها من جزئياتها، وقد يكون علمها بطريق الوحي، لا بالاستنباط من الجزئيات، ثم إن المعقول أن الجزئيات هي المبينة للكليات؛ فالقرآن هو المبين لكليات السنة على هذا، ولو سلمنا العكس؛ ففي القرآن كليات لها جزئيات في السنة؛ فالقرآن مبين على ما تقول. قاله في "حجية السنة" "ص534-535".
3 هذا النظر السادس أخص من النظر الثاني المتقدم أنه المشهور عن العلماء؛ لأن ذلك بيان للحقيقة المطلوبة أو المنهي عنها مثلًا أو شروطها أو كيفياتها إلى آخر ما تقدم في بيان الأحاديث؛ كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} [الأنعام: 72] مثلًا، أما هذا؛ فمقصور على بيان لفظ مجمل ورد في الآية بما يوضح الغرض منه، كما قال: "من حيث وضع اللغة"، وقوله: "لا من جهة أخرى"؛ أي: من الجهات الخمسة السابقة. "د".(41/75)
4 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه البديع "حجية السنة" "ص535 وما بعدها": "نقول: هذا هو المأخذ الذي لو تم لكان مبطلًا لما ذهبنا إليه من وجود سنة جاءت بما لم ينص عليه الكتاب نصًّا يمكن للمجتهد أن يأخذه منه، بحسب أوضاع اللغة ومعانيها الحقيقية والمجازية، ولكنه لن يتم، ومحاولة تطبيقه على جميع ما ورد في السنة محاولة فاشلة، وقد اعترف الشاطبي نفسه =(41/76)
ص -394-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بذلك، حيث يقول تعليقًا على هذا المأخذ فيما سيأتي "ص401": "ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها..." إلخ قوله.
ولعلك بعد اطلاعك على كلام المصنف في هذه المسألة ندرك أنه -رحمه الله- يخالف فيها مخالفة لفظية: حيث يذهب إلى أن جميع ما في السنة مبينة بمعنى من المعاني التي علمتها من مأخذ، ولا يقول: إنها مبينة، بمعنى أن القرآن قد نص على كل حكم جاءت به السنة ولو على سبيل الإجمال، وأنه ليس للسنة وظيفة إلا إيضاح أحكامه المجملة وشرحها، وعلى ذلك؛ فهو لا ينكر وجود سنة مستقلة بالمعنى الذي أردناه، وهو أن ترد بما لم ينص عليه الكتاب، وإنما نفى الاستقلال بمعنى يتنافى مع ما أراد من معاني البيان، ونحن لو سلمنا له مأخذه، لم يكن هذا التسليم منافيًا لمذهبنا بحال، ألا ترى أن الشافعي الذي يقول: إن من السنة ما هو مستقل، يقول في الوقت نفسه بالمأخذ الأول.
غير الذي نأخذه على المصنف أنه لم يبين مقصده من أول الأمر، بل عبر عن مذهبه بعبارات موهمة للخلاف الحقيقي، وأقام الأدلة وطعن في أدلة أخرى بدون موجب لذلك كله.
وللشافعي -رضي الله عنه- كلمتان رزينتان هادئتان، قاطعتان لألسنة الخصوم على أي مذهب كانوا، مستأصلتان جذور الشغب والنزاع على أي لون كان:(41/77)
1- قال -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جزى به المجاهدين المخلصين- في "الرسالة" "ص88-89": "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم؛ فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}، وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن؛ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا لما وصفت، وما قال رسول الله أسند عن أبي رافع".
2 وقال رضي الله عنه ونفعنا بعلمه بعد أن ذكر المذاهب في النوع المستقل "ص104-105": "وأي هذا كان؛ فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلاف أمر عرفه من أمور رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من تبيين رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه؛ ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه نص كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى؛ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، يل هو لازم بكل حال، وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع "الذي كتبنا قبل هذا"" ا. هـ.(41/78)
ص -395-…وله أمثلة كثيرة:
أحدها:
حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض؛ فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك1 بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"2 يعني: أمره في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} [الطلاق: 1].
والثاني:
حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أمسكها".(41/79)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، 9/ 345/ رقم 5251"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093/ رقم 4171"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء، 6/ 138"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة، 2/ 321/ رقم 1185، 1186"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة، 2/ 632-634/ رقم 2179"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق السنة، 1/ 651/ رقم 2019"، والشافعي في "المسند" "2/ 32-33/ رقم 102-104, ترتيب السندي"، ومالك في "الموطأ" "2/ 576, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "2/ 6، 54، 63، 64، 102، 124"، والدارمي في "السنن" "2/ 160"، والطيالسي في "المسند" "رقم 68، 1853"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 53"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4249, الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 734"، والدارقطني في "السنن" "4/ 7، 8، 9"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 323-324"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 202" من طرق عن نافع عن ابن عمر به، وله ألفاظ متقاربة عندهم.(41/80)
ص -396-…سكنى ولا نفقة؛ إذ طلقها1 [زوجها] ألبتة -وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة- لأنها بذت على أهلها بلسانها2؛ فكان ذلك تفسيرًا لقوله: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة} [الطلاق: 1].
والثالث:
حديث سبيعة الأسلمية؛ إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر3، فأخبرها -عليه الصلاة والسلام- أن قد حلت4؛ فبين الحديث أن قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "م": "نفقة طلقها"، وكتب "د" هنا ما نصه: "يعني زوجها أبا عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة"، وما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، 2/ 1117/ رقم 1480"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب نفقة الحامل المبتوتة، 6/ 210"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، 2/ 325/ رقم 1191"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في نفقة المبتوتة، 2/ 715/ رقم 2289"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة، 1/ 656/ رقم 2035، 2036"، وأحمد في "المسند" "6/ 411، 412"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4240, الإحسان"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 64"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 671"، والدارقطني في "السنن" "4/ 22-25"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 472-474" عن فاطمة بنت قيس؛ قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة".(41/81)
وفي رواية لمسلم برقم "1480 بعد 46" وغيره فيها زيادة: "قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله, عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]".
3 ولفظ البخاري: "قريبًا من عشر ليالٍ". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، 8/ 653/ رقم 4909، وكتاب الطلاق، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، 9/ 469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها، 2/ 1122-1123/ رقم 1485"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، =(41/82)
ص -397-…تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] مخصوص في غير الحامل، وأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] عام في المطلقات وغيرهن.
والرابع: حديث أبي هريرة في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، [قال]: قالوا: حبة في شعرة1، يعني: عوض قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، 6/ 191-192"، والترمذي في "الجامع" "كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع، 2/ 332-333/ رقم 1208"، ومالك في "الموطأ" "2/ 590, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "6/ 432" عن أم سلمة؛ أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين, فمكثت قريبًا من عشر ليال ثم جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "انكحي". لفظ البخاري الثاني.
وفي اللفظ الأول: "قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو السنابل فيمن خطبها، ولفظ مالك: "إن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر"، وفيه: "فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت".(41/83)
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير" 8/ 164/ رقم 4479"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2312/ رقم 3015"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 171/ رقم 9، 10"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، 5/ 205/ رقم 2956"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ رقم 579، 591"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 240"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 318"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 76"، والخطيب في "التاريخ" "2/ 266" عن أبي هريرة مرفوعًا: "قيل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]. فدخلوا يزحفون على أستاههم؛ فبدلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعرة".(41/84)
ص -398-…والخامس:
حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة طاف بالبيت سبعًا؛ فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]؛ فصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه، ثم قال: "نبدأ بما بدأ الله به"، وقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه}1 [البقرة: 158].
والسادس:
حديث النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ قال: "الدعاء هو العبادة"، وقرأ الآية إلى قوله: {دَاخِرِينَ}2 [غافر: 60].
والسابع:
حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}3 [البقرة: 187]؛ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم, 2/ 886-892/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وخرجته بالتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "1/ رقم 270-272"؛ فانظره.(41/85)
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 76-77/ رقم 1479"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 211/ رقم 4969، وباب ومن سورة المؤمن، 5/ 374-375/ رقم 3247, وأبواب الدعوات, باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 456/ رقم 3372"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1258/ رقم 3828"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب سورة حم المؤمن، 2/ 253/ رقم 484"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 100"، والطيالسي في "المسند" "رقم 801"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 714"، وأحمد في "المسند" "4/ 267، 271، 276"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 2396, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490-491"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7" و"المعجم الصغير" "1/ 97"، وابن جرير في "التفسير" "24/ 51" عن النعمان بن بشير من طرق، بعضها صحيح.
3 قوله: {مِنَ الْفَجْر} نزلت بعد ما اشتبه جملة من الصحابة في المعنى، وصار بعضهم يربط حبلين أسود وأبيض في رجله لينظر إليهما، وبعضهم وهو عدي جعلهما تحت الوسادة، ثم سأل =(41/86)
ص -399-…"إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل"1.
والثامن:
حديث سمرة بن جندب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر"2.
وقال يوم الأحزاب: "اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن صلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما: أهما خيطان؟ فقال له: "إن وسادك لعريض.." -كناية لطيفة منه, صلوات الله وسلامه عليه؛ ".. بل هما سواد الليل وبياض النهار"، قال الشيخان: "نزل بعد {مِنَ الْفَجْر}؛ فعلموا إنما يعني الليل والنهار، ولو كان نزل قوله: {مِنَ الْفَجْر} بيانًا من أول الأمر؛ لما وضع عدي الخيطين تحت الوسادة ولا ساءل، فلو ترك المؤلف ذكرها كان أولى، راجع البخاري ومسلمًا. "د".
قلت: وسبق تخريج ذلك "3/ 298".
1 مضى تخريجه "3/ 299"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، 1/ 340-341/ رقم 182، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 217/ رقم 2983"، وأحمد في "المسند" "5/ 7، 8، 12، 13، 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 6823، 6824، 6825، 6826"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 344"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 460"، والدمياطي في "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى" "رقم 31، 32، 33، 34، 35" من طرق عن الحسن عن سمرة به.
والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة؛ فرواه عن أبيه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زبر في "وصايا العلماء" "88-89" -ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى" "رقم 37"-، والطبراني في "الكبير" "رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010" مفرقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي.(41/87)
والحديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 628"، والترمذي في "الجامع" "رقم 181 و2985"، والطيالسي في "المسند" "رقم 366"، وأحمد في "المسند" "1/ 392، 403، 404، 456"، وغيرهم عن ابن مسعود بلفظه مرفوعًا.(41/88)
ص -400-…الوسطى حتى غابت الشمس"1.
والتاسع:
حديث أبي هريرة: قال عليه الصلاة والسلام: "إن موضع2 سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها، اقرءوا إن شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}3 [آل عمران: 185]"4.
والعاشر:
حديث أنس في الكبائر: قال عليه الصلاة والسلام فيها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، 6/ 105/ رقم 2931، والمغازي، باب غزوة الخندق، 7/ 405/ رقم 4111، وكتاب التفسير، باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، 8/ 195/ رقم 4533، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6396"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1/ 436/ رقم 627" وغيرهما عن علي, رضي الله عنه.
2 ولا يظهر هذا المثال؛ لأنه ليس فيه تفسير للفظ في الكتاب من حيث وضع اللغة كما هو موضع هذا النظر، وكما هو الجاري فيما قبله وما بعده من الأمثلة، بل هو كأنه استنتاج لهذا المعنى من الآية، وربما كان أظهر منه في غرضه حديث "الصحيحين": "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" مصداق قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]؛ لأن ما في الحديث وإن كان لم يعين بشخصه؛ إلا أنه توضيح وتقريب لمعنى الآية، وهو أقصى ما يعبر به للدلالة على المراد فيها. "د".
3 {فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ساقطة من الأصل(41/89)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 48/ رقم 3292"، والدارمي في "السنن" "2/ 239/ رقم 2833"، وأحمد في "المسند" "2/ 438"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 101"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 299"، وأبو نعيم في "صفة الجنة" "رقم 53"، والبغوي في "شرح السنة" "15/ 209-210/ رقم 4372" من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.
وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو.
والحديث صحيح، روي من وجوه عن أبي هريرة، قال أبو نعيم عقبه: "ورواه همام بن منبه، وأبو صالح، وابن أبي عمرة، وأبو أيوب المراغي في آخرين عن أبي هريرة"، وتفصيل ذلك يطول.(41/90)
ص -401-…"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور"1، وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر2، وجميعها تفسير لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية [النساء: 31].
وهذا النمط في السنة كثير.
ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على [شرط] النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها، وأول شاهد في هذا الصلاة، والحج، والزكاة، والحيض، والنفاس، واللقطة، والقراض، والمساقاة، والديات، والقسامات، وأشباه ذلك من أمور لا تحصى3؛ فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح، ولا العلماء الراسخون في العلم.
ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه؛ فلم يوف به إلا على التكلف المذكور، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة؛ فكان ذلك نازلًا بقصده4 الذي قصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 5/ 261/ رقم 2654"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 91/ رقم 87" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 انظرها في كتاب "الكبائر" للذهبي بتحقيقي، وهو غير "الكبائر" المليء بالقصص الباطلة، والحكايات الواهية، وانظر عنه: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 201، 312-318" بقلمي.
3 وكلها ليس ما ورد فيها من السنة يجري هذا المجرى الذي يريده هذا القائل من البيان الخاص. "د".
4 أي: نازلًا بما قصده في هذه الدعوى إلى موضع الإهدار. "د".(41/91)
ص -402-…وهذا الرجل1 المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه "المسند الصحيح"، دون ما سواها2 مما نقله الأئمة سواه، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث، وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ3 موفيًا بالغرض في الباب، والله الموفق للصواب.
فصل:
وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا: إن القرآن لم ينبه عليها؛ فقوله, عليه الصلاة والسلام: "يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته..."4 إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه؛ فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدًا على رأيه في فهم القرآن، وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه، بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى، وقوله: "ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله"5 صحيح على الوجه المتقدم؛ إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه، وإما بالطريقة القياسية، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة.
ومن الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليت المصنف أشار إلى اسم هذا المؤلف؛ ليمكن العثور على ما صنعه؛ إذ إنه مبحث جدير بالاهتمام.
2 أي: فإذا كان لم يتم له غرضه في مقدار محدود من الأحاديث وهي أحاديث مسلم؛ فكيف يتم له غرضه إذا نظر إلى دواوين الحديث الأخرى؟ "د".
3 الأنظار الخمسة السابقة على هذا الأخير. "د".
4 مضى تخريجه "323".
5 هو قطعة من الحديث السابق، وف "ط": "مثل الذي حرم الله".(41/92)
ص -403-…ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وعن العقل1.
وأما فكاك الأسير؛ فمأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر، والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر، فهو مما يرجع إلى النظر القياسي.
وأما أن لا يقتل مسلم بكافر؛ فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
وقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وهذه الآية أبعد2، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودًا في القرآن على التنصيص أو نحوه3 لم يجعلها علي خارجة عن القرآن؛ حيث قال: "ما عندنا إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة"4؛ إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر، ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم؛ لأن الله تعالى قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"ط": "وعلى العقل"، وكتب "ف" في الهامش: "لعله "وعن العقل"، وهو المذكور في صحيفة علي, رضي الله عنه"، وفي "م" في الهامش: "العقل: الدية، سميت بذلك لأن الإبل المأخوذة كانت تعقل -أي: تربط- بفناء القتيل".
قلت: وقد مضى تخريج المحرمات المذكورة في كلام المصنف "ص355".
2 لأن محل نفي الاستواء قد بين في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر: 20]؛ فليس المراد ما يشمل عدم استوائهما في القصاص إذا تعدى بعضهم على بعض في الدنيا. "د".
3 أي: كما يؤخذ من دعوى انتزاع الحكم من الآيتين. "د".
4 مضى تخريجه "ص192".(41/93)
ص -404-…فلم يقد من الحر للعبد، والعبودية من آثار الكفر؛ فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر.
وأما إخفار ذمة المسلم؛ فهو من باب نقض العهد، وهو في القرآن1، وأقرب الآيات إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
وفي الآية الأخرى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 27].
وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن2.
وأما من تولى قومًا بغير إذن مواليه؛ فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل.
وأيضًا؛ فإن الانتفاء من ولاء3 صاحب الولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء، كما هو في الانتساب إلى غير الأب، وقد قال تعالى فيها: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
وصدق هذا المعنى ما في "الصحيح" من قوله: "أيما عبد أبق من مواليه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يرد عليه مثل اعتراضه المتقدم آنفًا، وأنه لو كان موجودًا في الكتاب على التنصيص أو نحوه؛ لم يجعلها علي -رضي الله عنه- خارجة عن القرآن، والاعتراض هنا أوجه؛ لأنه يقول: إنه من باب نقض العهد، أي: جزئي منه، وهو في آية: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ...} إلخ [الرعد: 25]، وينظر أيضًا لهذا النظر في قوله بعد: "فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل"؛ إلا أن يقال: إن هذا على وجه القياس أو غيره من الوجوه الأخرى. "د".
2 انظر "ص387".
3 في "م" و"ط": "ولاه" بالهاء في آخره.(41/94)
ص -405-…فقد كفر حتى يرجع إليهم"1.
وفيه: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة"2.
وحديث معاذ3 ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه؛ فهو مبين في السنة، وإلا؛ فالاجتهاد يقضي عليه، وليس فيه معارضة4 لما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 68" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 70" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "لم يتعرض للجواب عن أسنان الإبل الواردة في الصحيفة، وكذا لم يصرح بالجواب عن الاعتراض بالقضاء للزبير، وقد وعد به سابقًا؛ إلا أن يقال: إنه مندرج في النظر الرابع الراجع إلى القياس أو إلى الاجتهاد بإلحاق الواسطة المترددة بين الطرفين بأحدهما".
3 المتقدم "ص298".
4 لأن معاذًا لم ينف أصل كونه في القرآن عندما يلجأ للسنة، بل إنما يفيد كلامه أنه إذا لم يجد الحكم صريحًا مبينًا في الكتاب؛ يلجأ إلى السنة لتبينه، وإلا؛ فيبينه طريق الاجتهاد، هذا هو ظاهر كلامه، وهو جواب آخر الأسئلة في الاعتراض الثالث بالاستقراء. "د".(41/95)
ص -406-…المسألة الخامسة:
حيث قلنا: إن الكتاب دال على السنة، وإن السنة إنما جاءت مبينة له؛ فذلك بالنسبة1 إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف2, وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن؛ فعلى ضربين:
أحدهما: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن؛ فهذا لا نظر في أنه بيان له؛ كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]؛ قال: "دخلوا يزحفون على أوراكهم"3.
وفي قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]؛ قال: "قالوا: حبة في شعرة"4.
وفي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة: 143]؛ قال: "يدعى نوح فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد. فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلّغ؛ فذلك قول الله: {وَكَذَلِكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اطراده، وكليته إنما هي فيما كان راجعًا إلى التكليف، وأما ما عداه؛ فقد يكون كذلك، وقد لا يكون له أصل قريب في الكتاب؛ فلا يكون بيانًا له إلا على الوجه الأول من الوجوه السابقة، وستأتي الإشارة إليه في آخر المسألة. "د".
2 ويندرج فيه الأحكام الوضعية. "د".
3 مضى تخريجه "ص397".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص397".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "بفتح العين، وروي في شعيرة، أمر بنو إسرائيل أن يقولوا حطة؛ فبدلوا وزادوا على ذلك مستهزئين، وقالوا: حبة في شعرة أو شعيرة، وروي أنهم قالوا: حنطة بدل حطة، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب تفسير القرآن".(41/96)
ص -407-…جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]"1.
وفي قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، 6/ 371/ رقم 3339، كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، 8/ 171-172/ رقم 4487، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، 13/ 316/ رقم 7349"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 207/ رقم 2961"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 195، 197/ رقم 26، 27"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1432/ رقم 4284"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 454"، وأحمد في "المسند" "3/ 9, 12، 58"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 26"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 913"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1173، 1207"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 5، 6"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1719, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 268"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 464" و"البعث"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 123"، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري به، بألفاظ مختلفة، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي المطول.(41/97)
2 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 130"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 409، 411"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 226/ رقم 3001"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1433/ رقم 4287، 4288"، وعبد الله بن المبارك في "مسنده" "رقم 106"، وأحمد في "مسنده" "4/ 447 و5/ 3، 5"، ونعيم بن حماد في "زوائده على زهد ابن المبارك" "ص114"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "رقم 1156"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 84"، والطبراني في "الكبير" "19/ 422"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 104/ رقم 7621، 7622, ط شاكر"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 5"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 405"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 477 =(41/98)
ص -408-…وفي قوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]؛ "إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش...." إلى آخر الحديث1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 478" من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به بألفاظ متقاربة، وفي سائرها "تتمون"، وكذا في "م" و"ط" كما أثبتناه، وفي الأصل و"ف" و"ماء" و"د": "تتبعون"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "2/ 64" لابن المنذر وابن مردويه.
وإسناده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 225": "وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري، رجاله ثقات، وفي حديث علي عند أحمد بإسناد حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جعلت أمتي خير الأمم"".
قلت: وله شاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ضمن حديث فيه: "وإنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 61", وفيه علي بن زيد بن جدعان.(41/99)
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3/ 1502-1503/ رقم 1887"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 231/ رقم 3011"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 2/ 936-937/ رقم 2801"، وأبو عوانة في "المسند" "5/ 53، 54"، والحميدي في "المسند" "رقم 120"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2559, ط القديمة"، وعبد الرزاق "5/ 263/ رقم 9554"، وابن أبي شيبة "5/ 308-309"، وكلاهما في "المصنف"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 244"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 386"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 520"، والطبراني في "الكبير" "9/ 237-238"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 163"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 579" و"شرح السنة" "10/ 364", وابن عساكر في "الأربعين في الحث على الجهاد" "رقم 39" من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق؛ قال: سألنا عبد الله -أي: ابن مسعود- عن هذه الآية وذكرها؛ فقال: أما أنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش...".(41/100)
ص -409-…وقال: "ثلاث إذا خرجن {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158]: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها"1.
وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف: 172]؛ قال: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا2 من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب3! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك"4 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، 1/ 138/ رقم 158"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 264/ رقم 3072"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 107"، وأبو يعلى في "المسند" "11/ 31-32، 33/ رقم 6170، 6172"، وابن جرير في "التفسير" "8/ 103"، وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 الوبيص: البريق واللمعان، وفي الحديث: "أخذ العهد على الذرية، وأعجب آدم وبيص ما بين عيني داود, عليه السلام". "ف".
3 في "ط": "ربي".
4 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}، 1/ 506/ رقم 211"، وأحمد في "المسند" "1/ 272"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 202"، وابن منده في "الرد على الجهمية" "رقم 29"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 27 و2/ 544"، وابن جرير في "التفسير" "9/ 75 و13/ 222, ط شاكر" و"التاريخ" "1/ 134"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "1/ 518/ رقم 441 و714" من طريق حسين المروذي عن جرير بن حازم عن أبيه عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.(41/101)
وإسناده حسن، كلثوم من رجال مسلم، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات" "7/ 356"، ومع هذا قال النسائي عقب الحديث: "وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ".=(41/102)
ص -410-…وفي قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]؛ قال: "يرحم الله لوطًا، كان يأوي إلى ركن شديد؛ فما بعث الله من بعده نبيًّا إلا في ذروة من قومه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: يريد مرفوعًا، وإلا، فقد روي من طرق عديدة موقوفًا، قال ابن منده: "هذا حديث تفرد به الحسين المروذي عن جرير بن حازم، وهو أحد الثقات، ورواه حماد بن زيد [كما عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"]، وعبد الوارث [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"]، وابن علية [كما عند ابن سعد في "الطبقات" "1/ 29"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] وربيعة بن كلثوم [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 229"]، كلهم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، وكذلك رواه حبيب بن أبي ثابت [كما عند الآجري في "الشريعة" "211، 212"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 227" و"التاريخ" "1/ 67"]، وعلي بن بذيمة [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 228، 229]، وعطاء بن السائب [كما عند ابن جرير في "التفسير" "1/ 67، 68 و13/ 227 و228"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"]، كلهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله" انتهى كلام ابن منده، وما بين المعقوفتين من إضافاتي.
وذكر نحوه ابن كثير في "التفسير" "2/ 263 و3/ 501, ط الشعب"، وقال في آخره عن الموقوف: "فهذا أكثر وأثبت"، ونحوه في "البداية والنهاية" "1/ 90" له.
والموقوف له حكم الرفع، ولا سيما أن له شواهد عديدة؛ كما تراه في "السلسلة الصحيحة" "رقم 47-50 و848".(41/103)
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ......}، 6/ 415/ رقم 3375، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُف...}، 6/ 418/ رقم 3387، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ....}، 8/ 366/ رقم 4694"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، 1/ 133/ رقم 151، وكتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1839/ رقم 151" عن أبي هريرة، وأوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، وفيه: "ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد".
واللفظ الذي عند المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب =(41/104)
ص -411-…وقال: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن سورة يوسف، 5/ 293/ رقم 3116" من طريق الفضل بن موسى، وعبدة، وعبد الرحيم بن سليمان، وأخرجه الطحاوي في "المشكل" "1/ 136, ط القديمة و1/ 300/ رقم 330, ط المحققة" -من طريق عبد الرحيم- وتصحف في الطبعة القديمة إلى عبد الرحمن بن سليمان، وأحمد في "المسند" "2/ 332" من طريق محمد بن بشر، وأحمد في "المسند" "2/ 384"، وابن جرير في "التفسير" "12/ 53"، وتمام في "الفوائد" "4/ 253-254/ رقم 1441, الروض البسام"، والحاكم في المستدرك" "2/ 561" من طريق حماد بن سلمة، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 605" من طريق عبدة، وتمام في "الفوائد" "رقم 1442, الروض" من طريق محمد بن خالد الوهبي، كلهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وانفرد الفضل بقوله: "ذروة"، وقال الآخرون: "ثروة"، وقال الترمذي عقبه عن اللفظ الثاني: "وهذا أصح من رواية الفضل بن موسى، وهذا حديث حسن"، والمصنف ينقل عنه كعادته، ولم يلتفت إلى تصححه هذا؛ فنقله بلفظ "ذروة"، قال الترمذي وغيره: "قال محمد بن عمرو: الثروة: الكثرة والمنعة".
وإسناد الحديث حسن من أجل محمد بن عمرو. "استدراك 5".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 8/ 381/ رقم 4704" و"القراءة" "51"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3124 -والمذكور لفظه- والطيالسي في "المسند" "305"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأحمد في "المسند" "2/ 448"، وعلي بن الجعد في "المسند" "1016"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 47 و14/ 58، 59"، والدارقطني في "السنن" "1/ 312"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 78, ط قديمة"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 45" عن أبي هريرة مرفوعًا.(41/105)
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، 8/ 156-157/ رقم 4474، وباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّه....}، 8/ 307-308/ رقم 4647، وباب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 8/ 381/ رقم 4703"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2/ 139" و"فضائل القرآن" من "الكبرى" "رقم 73"، وغيرهم عن أبي سعيد بن المعلى مرفوعًا بنحوه.(41/106)
ص -412-…وفي رواية: "ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني"1.
وسأله اليهود عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]؛ ففسرها لهم2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3125"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2/ 139"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "37"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 114"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص116-117, ط وهبي"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "رقم 146"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 58، 59"، والواحدي في "أسباب النزول" "12"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 444/ 446"، والخطيب في "تاريخه" "4/ 364"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 252"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 467 و2/ 78"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 553"، والبيهقي في "السنن" "2/ 375" و"القراءة" "19، 52، 53، 54"، وابن النجار في "تاريخه" "1/ 169" من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به، وبعضهم يزيد عن أبي.
وإسناده حسن، وله طرق أخرى يصل بها إلى درجة الصحة.(41/107)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الاستئذان، باب ما جاء في تقبيل اليد والرجل، 5/ 77/ رقم 2733، وأبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، 5/ 305/ رقم 3144"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب السحر، 7/ 111-112"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، 2/ 1221/ رقم 3705, مختصرًا"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 562 و14/ 289"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 414-415" و"الجهاد" "2/ 649/ رقم 275"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1164"، وأحمد في "المسند" "4/ 239-240"، وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى في "تخريج الزيلعي للكشاف" "2/ 293"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 4-5"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 172-173"، والطبراني في "الكبير" "8/ 83/ رقم 7396"، والحاكم في=(41/108)
ص -413-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "المستدرك" "1/ 9"، والبيهقي في دلائل النبوة" "6/ 268"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 97-98"، والخطيب في "الموضح" "1/ 330-331، 332"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 187"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 130-131" من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن تسع آيات بينات؛ فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت". قال: فقبلوا يده ورجله. فقالا: نشهد أنك نبي، قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟" قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. لفظ الترمذي.
وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
قلت: وظاهر إسناده الصحة ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن سلمة اختلط، ورواية عمرو بن مرة عنه حال اختلاطه، وقد فصلت ذلك ولله الحمد في تعليقي على "الخلافيات" "2/ 17-20".
ولذا؛ فالحديث ضعيف، ولا طريق له إلا المذكور، قال العقيلي: "ولا يحفظ هذا الحديث من حديث صفوان بن عسال؛ إلا من هذا الطريق".(41/109)
وقد تفطن الإمام الحافظ ابن كثير إلى علة تقدح في هذا الحديث، وبين وهمًا وقع لعبد الله بن سلمة هذا فيه؛ فقال: "فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في "تفسيره" من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث مشكل، عبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعل اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم".
وقد أورد الزيلعي في "تخريج الكشاف" "2/ 293" إشكالين على الحديث؛ فقال: "والحديث فيه إشكالان:
أحدهما:
أنهم سألوا عن تسعة وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية أبي نعيم والطبراني؛ لأنهما لم يذكرا فيه السحر، ولا على رواية أحمد أيضًا؛ لأنه لم يذكر القذف مرة، وشك =(41/110)
ص -414-…وحديث موسى مع الخضر ثابت صحيح1.
وفي قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيم} [الصافات: 89]؛ قال: "لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث: قوله إني سقيم" الحديث2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أخرى؛ فيبقى المعنى في رواية غيرهم، أي: خذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم.
الإشكال الثاني: أن هذه وصايا في التوراة ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئًا، وتكلموا فيه وأن له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات؛ فاشتبه عليه بالتسع الآيات، فوهم في ذلك، والله أعلم".
ثم قال: "ورواه ابن مردويه في "تفسيره" كذلك بلفظ "السنن"".
1 مضى تخريجه مسهبًا في "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره، وانظر كتابنا: "من قصص الماضين في حديث سيد المرسلين" "ص21-45".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 388/ رقم 3357، 3358، وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1840/ رقم2371" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(41/111)
وكتب "ف" هنا ما نصه: "وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في زوجه سارة: هي أختي، وهذا من معاريض الكلام وإن في المعاريض لمندوحة كقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ قال: "من ماء"؛ حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه، ففهم السائل أنه بيان قبيلة، فسيدنا إبراهيم -عليه السلام- نظر نظرة في النجوم أوهمهم أنه ينظر فيها من حيث الأوضاع الفلكية التي يستدل بها على ما سيقع من الحوادث الكونية؛ فقال لهم: إني سقيم، وأراد أنه مستعد للسقم أو أنه سقيم القلب لكفرهم، والقوم توهموا أنه أراد قرب سقمه حيث لا يستطيع معهم الخروج إلى معبدهم، ولا يعد ذلك كذبًا في الحقيقة، وتسميته في بعض الأحاديث بالكذب بالنظر لما فهمه الغير منه لا بالنسبة لما قصده المتكلم".
قلت: وسيأتي في "ص442" تخريج قوله, صلى الله عليه وسلم: "من ماء".(41/112)
ص -415-…وقال: "إنكم محشورون إلى الله [عراة]1 غرلًا"2. ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء: 104]3.
وفي قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]؛ قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 الغرلة, بالضم: القلفة. "ف".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 386-387/ رقم 3349، وباب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}، 6/ 478/ رقم 3447، وكتاب التفسير، باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِم}، 8/ 286/ رقم 4625، وباب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك}، 8/ 286/ رقم 4626، وباب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}، 8/ 437-438/ رقم 4740، وكتاب الرقاق، باب الحشر، 11/ 377/ رقم 6524، 6525، 6526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، 4/ 2194-2195/ رقم 2860"، والترمذي في "جامعه" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر، 4/ 615-616/ رقم 2423، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء, عليهم السلام، 5/ 321-322/ رقم 3167"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز، باب البعث، 4/ 114، وباب ذكر ذكر أول من يكسى، 4/ 117" و"السنن الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 462-463/ رقم 180 و2/ 78/ رقم 357" عن ابن عباس مرفوعًا.(41/113)
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب التفسير، باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}، 8/ 441/ رقم 4741، وكتاب الرقاق، باب قوله, عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، 11/ 388/ رقم 6530، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ....}، 13/ 453/ رقم 7483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، 1/ 201-202/ رقم 222"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 80-81/ رقم 359"، وأحمد في "المسند" "3/ 32-33"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم =(41/114)
ص -416-…وقال: "إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 917"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 87"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 27" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا.
وفي الباب عن عمران بن حصين، أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 323-324/ رقم 3169" -والمذكور لفظه- والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 82/ رقم 360"، وأحمد في "المسند" "4/ 432، 435"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 111"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 28 و2/ 233، 385 و4/ 567" من طرق عن الحسن عن عمران به، قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأكثر أئمة البصرة على أن الحسن قد سمع من عمران، غير أن الشيخين لم يخرجاه".
قلت: الحسن مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالسماع؛ إلا أن ما قبله يشهد له، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي الدرداء وأنس وغيرهم.
وعزاه السيوطي في "الدر" "4/ 343" لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن عن عمران به.
1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 324/ رقم 3170"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 201"، والبزار في "مسنده" "2/ 45/ رقم 1165, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 389"، والطبراني في "الكبير" "رقم 262, قطعة من الجزء 13"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 125"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 151-152"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 268-269" من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا"، ثم أخرجه؛ فقال: ثنا قتيبة ثنا الليث عن عقيل عن الزهري به.(41/115)
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 152" من طريق حجاج عن ابن جريج عن الزهري مرسلًا.
وإسناد المرفوع ضعيف، قال البزار عقبه: "لا نعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بهذا الإسناد".
قلت: فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، قيل: ثقة مأمون، ضعفه الأئمة أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، كذا في "مجمع الزوائد" "3/ 296".(41/116)
ص -417-…وأمثلة هذا الضرب كثيرة.
والثاني:
أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي؛ فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على مواقع التكليف، وإنما أنزل القرآن لذلك1؛ فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج وقد جاء من ذلك نمط صالح في "الصحيح"2 كحديث أبرص وأقرع وأعمى3، وحديث جريج العابد4، ووفاة موسى5، وجمل من قصص الأنبياء -عليهم السلام- والأمم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال ابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 274-275/ رقم 810": "سألت أبي عن حديث رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة..."، وذكره مرفوعًا، ثم قال: "قال أبي: هذا خطأ، رواه معمر عن الزهري عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير موقوفًا، ورواه الليث..."، وساقه من الطريق التي ذكرناها، ثم قال: "قال أبي: حديث معمر عندي أشبه؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوع".
1 أي: أن هذا هو المقصود الأول من الكتاب، كما سبق بيانه في المسألة السابعة من الطرف الثاني. "د".
2 في "البخاري" من هذا النوع طائفة صالحة، تجدها في كتاب التفسير منه، وكتاب بدء الخلق، وكتاب أحاديث الأنبياء. "د".
3 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، 6/ 500-501/ رقم 3464، وكتاب الأيمان والنذور، باب لا يقول ما شاء الله وشئت وهل يقول: أنا بالله ثم بك، 11/ 540/ رقم 6653"، و"صحيح مسلم" "كتاب الزهد والرقائق، باب منه، 4/ 2275-2277/ رقم 2964" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(41/117)
4 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب 48، 6/ 476/ رقم 3436، وباب 54، 6/ 511/ رقم 3466"، و"صحيح مسلم" "كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، 4/ 1976/ رقم 2550"، و"مسند أحمد" "2/ 307 و308 و358 و395 و433"، و"مجابي الدعوة" "رقم 1"، و"الآداب" "رقم 1079" للبيهقي، و"مسند أبي يعلى" "11/ 178-179/ رقم 6289" عن أبي هريرة به.
5 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة =(41/118)
ص -418-…قبلنا1، مما لا ينبني عليه عمل، ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني، وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب؛ فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع؛ فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول2، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو نحوها، 3/ 206/ رقم 1339، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى, عليه السلام، 6/ 440/ رقم 3407"، و"صحيح مسلم" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى, عليه السلام 4/ 1842/ رقم 2372"، و"المجتبى" للنسائي "4/ 118 و119"، و"مسند أحمد" "2/ 269 و533"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 274-275/ رقم 20530 و20531"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 599، 600"، و"صحيح ابن حبان" "8/ 38/ رقم 6190, الإحسان"، و"شرح السنة" "5/ 265-266/ رقم 1451"، و"صحيفة همام بن منبه" "رقم 60".
1 تجد هذه الأحاديث -ومنها ما أشار إليه المصنف آنفًا- مع تخريجها وبيان غريبها والفوائد المستنبطة منها في كتابي "من قصص الماضين"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
2 وهو ما كان مبينًا للكتاب؛ لأنه خادم لمقصود الكتاب. "د".(41/119)
ص -419-…المسألة السادسة:
السنة ثلاثة أنواع كما تقدم: قول، وفعل1، وإقرار بعد العلم والقدرة على الإنكار لو كان منكرًا.
فأما القول؛ فلا إشكال فيه ولا تفصيل.
وأما الفعل؛ فيدخل تحته الكف عن الفعل2؛ لأنه فعل عند جماعة، وعند كثير من الأصوليين أن الكف غير فعل، وعلى الجملة؛ فلا بد من الكلام على كل واحد منهما3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما فرق به بين القول والفعل, أن الفعل لا يعارض فعلًا آخر؛ فلا ينسخه ولا يخصصه؛ لأنه لا عموم للأفعال، فلا يعقل التعارض بينها، وإنما يعقل بين الفعل والقول كما يعقل بين الأقوال. "د".
2 أي: ترك الفعل مطلقًا أو ترك الفعل المنهي عنه لأنه الذي اختلف في كونه فعلًا أو غير فعل؛ فالجمهور على أنه فعل، وهو الكف أي الانصراف عن المنهي عنه، مع سبق الداعية إليه أو يدونها؛ فيشمل نهي المعصوم أو هو فعل الضد للمنهي عنه، وقال قوم منهم أبو هاشم المعتزلي: مقتضى النهي الترك، أي عدم الفعل، وهو انتفاء المنهي عنه هذا هو المشهور عند الأصوليين وإن كان تركه -صلى الله عليه وسلم- لا يتقيد بكونه تركًا لخصوص المنهي عنه كما سيأتي. "ف".
قلت: انظر في تحقيق أن الترك المقصود فعل: "جمع الجوامع" "1/ 214, مع شروحه"، و"شرح مختصر ابن الحاجب" "2/ 13، 14"، و"المستصفى" "1/ 90"، و"الإحكام" "1/ 112"، و"إرشاد الفحول" "ص91"، و"أصول السرخسي" "1/ 79-80"، وانظر في عدم الالتفات إلى الترك غير المقصود: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "21/ 313-314"، وانظر في الترك وأقسامه وأحكامه: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 45-70" للشيخ محمد الأشقر، و"أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودلالتها على الأحكام" "ص207-227" للدكتور محمد العروسي عبد القادر, ط دار المجتمع، جدة، سنة 1404هـ, ط الأولى.
3 أي: الفعل والكف. "د".(41/120)
ص -420-…فالفعل منه1 -صلى الله عليه وسلم- دليل على مطلق الإذن فيه2 ما لم يدل دليل على غيره3؛ من قول، أو قرينة حال، أو غيرهما، والكلام هنا مذكور4 في الأصول، ولكن الذي يخص هذا الموضع أن الفعل منه أبلغ في باب التأسي والامتثال من5 القول المجرد، وهذا المعنى وإن كان محتاجًا إلى بيان؛ فقد ذكر ذلك في فصل البيان والإجمال وكتاب الاجتهاد من هذا الكتاب، والحمد لله.
وأيضًا؛ فإنه وإن دل الدليل أو القرينة على خلاف مطلق الإذن؛ فلا يخرج عن أنواعه، فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب والمباح؛ ففعله -عليه الصلاة والسلام- لا يخرج عن ذلك؛ فهو إما واجب أو مندوب أو مباح، وسواء علينا أكان ذلك في حال أم كان مطلقًا؛ فالمطلق كسائر المفعولات6 له، والذي في حال كتقريره للزاني إذ أقر عنده؛ فبالغ في الاحتياط عليه7 حتى صرح له بلفظ الوطء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد به ما قابل الكف واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا؛ كما يدل عليه بيانه بعد "ف".
2 أي: غير مقيد بكونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، واتخاذ ذلك يفهم من دليل آخر كما قال، وليس مراده أن فعله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك يكون غير مأذون فيه كما بينه بعد. "ف".
3 أي: على غير الإطلاق، بأن دل على تعيين نوع الإذن من وجوب أو ندب أو إباحة، كما يشير إليه بعد. "د".
4 واختلفوا فيه على أربعة أقوال، والآمدي اختار أنه إن لم يظهر فيه قصد القربة؛ فهو دليل على القدر المشترك بين الثلاثة، وإن ظهر؛ فهو دليل على المشترك بين الواجب والمندوب، وابن الحاجب قال: "إن ظهر قصد القربة؛ فالمختار أنه للندب، وإلا؛ فللإباحة". "د".
5 في "م": "عن".
6 أي: غير الطبيعة الجبلية؛ فإنه لا نزاع في كونها للإباحة لا غير. "د".
7 حيث ردد الكلام معه وشدد عليه فيه حتى صرح... إلخ؛ ففعل هذا مأذون فيه في حال دون حال. "ف".(41/121)
ص -421-…الصريح1، ومثله في غير هذا المحل منهي عنه؛ فإنما جاز لمحل الضرورة، فيتقدر بقدرها بدليل النهي عن التفحش مطلقًا2، والقول هنا فعل3؛ لأنه معنى تكليفي4 لا تعريفي؛ فالتعريفي هو المعدود في الأقوال، وهو الذي يؤتى به أمرًا أو نهيًا أو إخبارًا بحكم شرعي، والتكليفي هو الذي لا يعرف بالحكم بنفسه من حيث هو قول، كما أن الفعل كذلك.
وأما الترك5؛ فمحله في الأصل غير المأذون فيه، وهو المكروه والممنوع؛ فتركه -عليه الصلاة والسلام- دال على مرجوحية الفعل، وهو إما مطلقًا وإما في حال؛ فالمتروك مطلقًا ظاهر، والمتروك في حال كتركه الشهادة6 لمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "أنكتها"، كما في "صحيح البخاري" "رقم 6824"، وقد مضى تخريجه "ص117".
2 أورد البخاري في "صحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452" عدة أحاديث فيها النهي عن الفحش، أصرحها برقم "6030" من حديث عائشة -رضي الله عنها- فيه: "وإياك والعنف والفحش".
3 أي: فالفعل في هذا المقام أم مما تعورف عليه في مقابلة القول بالفعل؛ فلذا عد تقريره للزاني فعلًا. "د".
4 التكليف متعلق بالشرع، ومسألة الفرق بين "القول" و"الفعل" لغوية محضة، والاختلاف المذكور بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم؛ فلو عبر بقوله: "الوجه الفعلي للقول"؛ لكان أوضح، أفاده الشيخ محمد الأشقر في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 36"، وله كلام جيد في التفريق بين الوجه العباري والوجه الفعلي للقول، وانظر: "إحكام الأحكام" "1/ 10"، و"تيسير التحرير" "1/ 249"، و"المعتمد" "1/ 387 و2/ 1006"، و"الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ص75".
5 أي: المعبر عنه بالكف سابقًا، وإن كان بينهما اختلاف في المعنى عندهم. "د".(41/122)
6 أي: تحملها؛ لأن تحمل الشهادة فيما ليس بمباح مكروه، وليس المراد أداء الشهادة؛ لأن كتمان الشهادة لا يجوز مطلقًا، وفي رواية قال: "لا رجعة"، وعليها يكون قد أبطل الهبة رأسًا، فترك الشهادة لعدم وجود محلها إما على رواية "أشهد غيري"؛ فإن محل الشهادة موجود، ولكنه مرجوح ومكروه، فلم يشهد عليه، مع بقائه نافذًا فيكون مما نحن فيه، وبعد؛ فإنما صح له التمثيل بهذا للمتروك في حال؛ لأنه أخذ الشهادة مطلقة، لكنه لو أخذ نوعًا منها وهو الشهادة على نحلة بعض الأولاد دون بعض؛ لكان من قبيل المتروك مطلقًا. "د".(41/123)
ص -422-…نحل بعض ولده دون بعض1؛ فإنه قال: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: فأشهد غيري؛ فإني لا أشهد على جور"2، وهذا ظاهر3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وهبه دون الآخر، والنحل, بالضم: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، والاسم: النحلة, بالكسر. "ف".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، 5/ 258/ رقم 2650"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1243/ رقم 1623" وغيرهما عن النعمان بن بشير بهذا اللفظ.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب الهبة للولد، 5/ 211/ رقم 2586"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1241/ رقم 1623"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب الرجل يفضل بعض ولده في النحل، 3/ 811/ رقم 3542"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في النحل والتسوية بين الولد، 3/ 649/ رقم 1367"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النحل، باب اختلاف الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل، 6/ 258-259، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده، 2/ 795/ رقم 2375"، ومالك في "الموطأ" "2/ 751"، وأحمد في "المسند" "4/ 268" عن النعمان بألفاظ، منها: "فارتجعه"، ومنها: "فاردده".
3 أي: أن تطبيق قاعدة الترك على غير المأذون سواء أكان من المتروك مطلقًا الذي لا يحتاج إلى جلب أمثلة له، أم من المتروك في حال كمثال النحلة ظاهر؛ لأن الأصل فيما تركه أنه غير مأذون فيه، إلا أن هناك أمورًا وقع تركها مع كونها مأذونًا فيها، وهي في ظاهرها تخرج عن هذه القاعدة؛ فذكر هذه الأمور التي تركها -صلى الله عليه وسلم- وهي مأذون فيها، وذكر أسباب الترك، ثم عاد فحللها ورجعها إلى القاعدة، وبين أنها لتلك الأغراض صارت غير مأذون فيها سوى أولها؛ فليس فيه ترك أصلًا. "د".(41/124)
ص -423-…وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم:
- منها: الكراهية طبعًا؛ كما قال في الضب وقد امتنع من أكله: "إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه"1؛ فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة2، ولا حرج فيه.
- ومنها: الترك لحق الغير؛ كما في تركه أكل الثوم والبصل لحق الملائكة3، وهو ترك مباح لمعارضة حق الغير.
- ومنها: الترك خوف الافتراض؛ لأنه كان يترك العمل [وهو يحب أن يعمل]4 به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك القيام في المسجد في رمضان5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
2 انظر تفصيلًا في الفعل الجبلي الصادر منه -صلى الله عليه وسلم- ومتى يكون مندوبًا في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 219-236" للأستاذ محمد الأشقر.
3 روي في "التيسير" عن الخمسة أنه -صلى الله عليه وسلم- أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسأل عنها، فأخبر بما فيها من البقول، فأشار إليهم أن يقدموها إلى بعض أصحابه، فلما رآه أكلها؛ قال له: "كل فإني أناجي من لا تناجي"، وهذا أوضح في التمثيل للمسألة السابعة من مثال العسل الآتي له. "د". قلت: وقد مضى تخريجه "ص115"، وذكرت جملة من الأحاديث في هذا الباب مع تخريجها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان" "ص107-113".
4 سقط من "ط".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة مرفوعًا، وفيه: "فإنه لم يخف علي شأنكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها".(41/125)
ص -424-…وقال: "لولا أن أشق1 على أمتي لأمرتهم بالسواك"2، وقال لما أعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان: "لولا أن أشق3 على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة"4.
- ومنها: الترك لما لا حرج في فعله بناء على أن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل؛ كإعراضه عن سماع غناء الجاريتين في بيته5، وفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 و3 جعل هذين مما تركه خشية الافتراض فيه نظر؛ لأنه لم يصرح فيه إلا بمجرد خوف المشقة إذا أمرهم به، ولو بتأكد الطلب على جهة الفضيلة، ولا يلزم أن تكون المشقة متوقفة على الطلب المحتم، نعم، فسر بعضهم قوله: "لأمرتهم"؛ فقال: أي أمر إيجاب؛ فهو جارٍ على مقتضى هذا التفسير.
2 ورد عن جمع من الصحابة، وعد متواترًا، انظر: "صحيح البخاري" "كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، 2/ 374/ رقم 887"، و"صحيح مسلم" "كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 220"، وقد خرجت غير حديث باللفظ المذكور في تحقيقي لرسالة الشيخ علي القاري "معرفة النساك في معرفة السواك" "رقم 1-8".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غلب، 2/ 50/ رقم 571، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224/ رقم 7239"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، 1/ 444/ رقم 642" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.(41/126)
5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 949، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، 2/ 445/ رقم 952، وباب إذا فاتته العيد يصلي ركعتين، 2/ 474/ رقم 987، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94/ رقم 2906، وكتاب المناقب، باب قصة الحبشة، 6/ 553/ رقم 3529، وكتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب المدينة، 7/ 264/ رقم 3931"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 607-608/ رقم 892" عن عائشة؛ قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني, وقال: مزمارة الشيطان عند النبي, صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه =(41/127)
ص -425-…الحديث: "لست من دد ولا دد مني"1، والدد: اللهو، وإن كان مما لا حرج فيه؛ فليس كل ما لا حرج فيه يؤذن فيه، وقد مر الكلام فيه في كتاب الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما فخرجتا. لفظ البخاري.
وانظر في شرح الحديث بما يوافق استدلال المصنف به في "مجموعة الرسائل" "3/ 201"، ومجموع الفتاوى" "11/ 565، 569"، و"تلبيس إبليس" "237-238"، و"غاية المرام" "226-227" لشيخنا الألباني، و"المدخل" "3/ 109" لابن الحاج، و"الإعلام بأن العزف حرام" "ص40" لأبي بكر الجزائري.
1 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 785"، والبزار في "مسنده" "3/ 129/ رقم 2402, زوائده"، والطبراني في "الأوسط" "1/ 262/ رقم 415"، والدولابي في "الكني" "1/ 179"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 217"، و"الآداب" "رقم 925, ط عطا ورقم 904, ط عبد القدوس"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2698" من طريق يحيى بن محمد بن قيس أبي زكير عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعًا، وفي آخره: "قال يحيى بن قيس بن عقبة: يعني: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال البيهقي عقبه: "قال علي بن المديني: سألت أبا عبيدة -صاحب العربية- عن هذا؛ فقال: يقول: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال: "وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الدد هو اللعب واللهو".
قال البزار: "لا نعلمه يروى إلا عن أنس، ولا نعلم رواه عن عمرو إلا يحيى بن محمد بن قيس".
قلت: وكلامه متعقب بما يأتي.
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو إلا أبو زكير".
قلت: وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن محمد بن قيس، وقد وثق، ولكن ذكر هذا الحديث من منكراته، والله أعلم، وقال الذهبي: "قد تابعه عليه غيره"، قاله الهيثمي في "المجمع" "8/ 225".(41/128)
وأعله ابن عدي بيحيى أيضًا، وقال: "عامة رواياته مستقيمة إلا هذا الحديث، وهو يعرف به"، وأورده العقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 427" في ترجمة يحيى المذكور، وقال: "وقد تابعه عليه من هو دونه". =(41/129)
ص -426-…- ومنها: ترك المباح الصرف1 إلى ما هو الأفضل؛ فإن القسم لم يكن لازمًا لأزواجه في حقه، وهو معنى قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية [الأحزاب: 51] عند جماعة من2 المفسرين، ومع ذلك؛ فترك ما أبيح له إلى القسم الذي هو أخلق بمكارم أخلاقه، وترك3 الانتصار ممن قال4 له: اعدل؛ فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، ونهى من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 343-344/ رقم 794" من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن معاوية رفعه.
قال الهيثمي في "المجمع" "8/ 226": "رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن نصر الترمذي عن محمد بن عبد الوهاب الأزهري، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات".
قلت: محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ترجمه الخطيب في "التاريخ" "1/ 365"، والسبكي في "طبقاته" "2/ 187-188"، وابن حجر في "لسان العرب" "5/ 49"، وهو ثقة، إلا أنه اختلط.
وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، رواه عن الدراوردي، قال أبو حاتم: "منكر الحديث، يتكلمون فيه"، وقال أبو نعيم: "متروك، والراوي عنه محمد بن عبد الوهاب الذي جهله الهيثمي، ولم أظفر له بترجمة"، قال ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 266/ رقم 2295" بعد أن ذكر حديث أنس ومعاوية: "قلت لأبي زرعة: أيهما عندك أشبه؟ قال: الله أعلم، ثم تفكر ساعة، فقال: حديث الدراوردي أشبه، وسألت أبي؛ فقال: حديث معاوية أشبه".
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "2/ 366".
1 أي: الخالص. "ماء".
2 وحمله بعضهم على الطلاق والإمساك، أعني: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وحمله بعضهم على الأمرين جميعًا. "د".
3 في "ف" و"م": "وتركه".
4 هو ذو الخويصرة، وكان من المنافقين، قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي, رضي الله عنه. "د".(41/130)
ص -427-…أراد قتله1، وترك قتل المرأة التي سمت له الشاة2، ولم يعاقب عروة بن الحارث إذ أراد الفتك به، وقال: من يمنعك مني؟ الحديث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744-745/ رقم 1064" عن أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، 7/ 497/ رقم 4249، وكتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي, صلى الله عليه وسلم 10/ 244-245/ رقم 5777" عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، 5/ 230/ رقم 2617"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب السم، 4/ 1720/ رقم 2190" عن أنس -رضي الله عنه- وفيه: "ألا نقتلها؟". قال: لا. وفي رواية للبيهقي: "أنه أمر بقتلها".
قال "د": "ويجمع من الروايات بأنه عفا عنها لحق نفسه، فلما مات من أكلها بشر بن البراء -وهو ابن معرور- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلها قصاصًا". وقد مضى عند المصنف "2/ 461"، وتخريجه هناك أيضًا.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجرة في السفر عند القائلة، 6/ 96/ رقم 2910، وباب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، 6/ 97/ رقم 2913، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 7/ 426/ رقم 4134"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب منه، 4/ 1787/ رقم 843" عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.(41/131)
ووقع اسم الأعرابي أو الرجل الذي أراد أن يفتك به -صلى الله عليه وسلم- في "ف" و"م" و"د" و"ماء": "عروة" وهو خطأ، والصواب ما ذكرناه، ووقع في الأصل و"ط" على الجادة، ودليله ما ذكره البخاري في "صحيحه" "7/ 426/ رقم 4136" عقب حديث جابر: "وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل: غورث بن الحارث"، ووقع مسمى هكذا في "مسند أحمد" "3/ 364-365"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 238/ رقم 2504, ط الأعظمي"، و"غريب الحديث" للحربي "1/ 307-308"، و"دلائل النبوة" "3/ 373، 375، 376" للبيهقي.(41/132)
ص -428-…- ومنها: الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب؛ كما جاء في الحديث عن عائشة: "لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض"1، وفي رواية: "لأسست البيت على قواعد إبراهيم"2، ومنع من قتل أهل النفاق، وقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"3.
وكل هذه الوجوه قد ترجع إلى الأصل المتقدم4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439/ رقم 1584" -والمذكور لفظه- ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2/ 968-969/ رقم 1333" عن عائشة, رضي الله عنها.
2 ورد نحوه في "الصحيحين" -كما في المواطن السابقة- وفي "مسند إسحاق بن راهويه" "رقم 7": "ووضعته على أساس إبراهيم"، و"رقم 8": "لبنيت البيت على قواعد إبراهيم"، و"رقم 671": "وبنيته على أساس إبراهيم"، وكذا في "المجتبى" للنسائي "5/ 215" من طريقه، وفي رواية أخرى له: "فبلغتُ به أساس إبراهيم, عليه السلام"، ونحو هذه الألفاظ في "مسند أحمد" "6/ 57، 239".
والحديث عند علي بن الجعد في "المسند" "رقم 2525"، و"جامع الترمذي" "رقم 875"، وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 6/ 546/ رقم 3518، وكتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}، 8/ 653/ رقم 4907" عن جابر, رضي الله عنه.
4 وهو أن الترك محله غير المأذون فيه، والمؤلف في رده هذه الأمور إلى القاعدة تارة يلاحظ الفعل فيجعله منهيًّا عنه، وتارة يلاحظ الترك فيجعله مطلوبًا، وهما متلازمان، وإنما هو التنويع في التعبير. "د".(41/133)
ص -429-…أما الأول؛ فلم يكن في الحقيقة من هذا النمط لأنه ليس بترك بإطلاق1، كيف وقد أكل على مائدته, عليه الصلاة والسلام؟
وأما الثاني؛ فقد صار في حقه التناول ممنوعًا أو مكروهًا لحق2 ذلك الغير، هذا في غير مقاربة المساجد، وأما مع مقاربتها والدخول فيها؛ فهو عام3 فيه وفي الأمة؛ فلذلك نهى آكلها عن مقاربة المسجد، وهو راجع إلى النهي عن أكلها لمن أراد مقاربته.
وأما الثالث؛ فهو من الرفق المندوب إليه؛ فالترك هنالك مطلوب، وهو راجع إلى أصل الذرائع إذا كان تركًا لما هو مطلوب خوفًا مما هو أشد منه، فإذا رجع إلى النهي عن المأذون فيه خوفًا من مآل لم يؤذن فيه؛ صار الترك هنا مطلوبًا.
وأما الرابع؛ فقد تبين4 فيه رجوعه إلى المنهي عنه.
وأما الخامس؛ فوجه النهي المتوجه على الفعل حتى حصل الترك أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يعد تركًا رأسًا؛ لأن إقراره كفعله سواء، وقد أقر أكله على مائدته، وأيضًا؛ فهو جبلي لا يدخل في الباب رأسًا كما تقدمت الإشارة إليه. "د".
2 أي: وهو أمر مستمر ومطلق لا يخص حالًا دون حال. "د".
3 كما ورد في الحديث: "من أكل ثومًا أو بصلًا؛ فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"، أخرجه في "التيسير" عن الخمسة. "د".
قلت: أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 567" عن عمر، ورقم "563" عن أبي هريرة، ورقم "565-566" عن أبي سعيد، والبخاري في "صحيحه" "2/ 339/ رقم 853"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 561" عن ابن عمر، والبخاري "2/ 339/ رقم 856 و9/ 575/ رقم 5451"، ومسلم "رقم 562" عن أنس, رضي الله عنه.
4 أي: في مبحث المباح، وأن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل؛ فلذلك قال: "تبين رجوعه"، ولم يقل: إنه منهي عنه. "د".(41/134)
ص -430-…الرفيع المنصب مطالب بما يقتضي منصبه، بحيث يعد خلافه منهيًّا عنه وغير لائق به، وإن لم يكن كذلك في حقيقة الأمر، حسبما جرت به العبارة عندهم في قولهم: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"1، إنما يريدون في اعتبارهم لا في حقيقة الخطاب الشرعي، ولقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان بعد القسم على الزوجات وإقامة العدل على ما يليق به يعتذر إلى ربه ويقول: "اللهم! هذا عملي فيما أملك؛ فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك"2، يريد بذلك ميل القلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قدمناه "3/ 548".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، 3/ 446/ رقم 1140"، وأبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242/ رقم 2134"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، 7/ 64"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، 1/ 633/ رقم 1971"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386-387"، وأحمد في "المسند" "6/ 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1370, مسند عائشة"، وابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 425"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 5/ رقم 4205, الإحسان"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 88"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 187"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 298" من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة به.
ورجاله ثقات، واختلف في رفعه ووصله، وانفرد حماد بن سلمة في وصله، وأرسله غيره.
قال النسائي بإثره: "أرسله حماد بن زيد"، وقال الترمذي عقبه: "ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة".(41/135)
وقال ابن أبي حاتم: "فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا"، وقال: "قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه..." الحديث مرسل".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386" من طريق ابن علية التي ذكرها ابن أبي حاتم. =(41/136)
ص -431-…إلى بعض الزوجات دون بعض؛ فإنه أمر لا يملك، كسائر الأمور القلبية التي لا كسب للإنسان فيها أنفسها.
والذي يوضح هذا الموضع -وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها- قصة نوح وإبراهيم -عليهما السلام- في حديث الشفاعة1، وفي اعتذار نوح -عليه السلام- عن أن يقوم بها، بخطيئته وهي دعاؤه على قومه, ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من إيمانهم، قالوا2: وبعد قول الله له: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وهذا يقضي3 بأنه دعاء مباح؛ إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا؛ إذ كان الأولى الإمساك عنه، وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته، وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"4؛ فعدها كذبات وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويشهد لما ذكره المصنف أولًا ما أخرجه أبو داود في "السنن" كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242-243/ رقم 2135"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 186"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 74" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس؛ حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها". وإسناده حسن.
1 انظره بطوله في "صحيح البخاري" "كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417-418/ رقم 6565"، و"صحيح مسلم" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1/ 180-181/ رقم 193".(41/137)
2 كأنه يحتاج عنده إلى تثبت، وسيأتي له أن قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} [نوح: 27]، إنما كان بوحي، وأنه هو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوح...} إلخ [هود: 36]؛ أي: يستلزمه، إلا أن كل هذا وإن أفاد أن دعاءه اقترن بما هو في معنى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك...} إلخ [هود: 36]؛ فهو لا يعتبر أنه ما دعا إلا بعد ما نزل عليه ذلك صريحًا، بل هذا القدر محتاج للإثبات. "د".
3 في "ط": "يقتضي".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص414" وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(41/138)
ص -432-…كانت تعريضًا اعتبارًا بما ذكر.
والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم1 في دليل الكتاب أن كل قضية لم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها؛ فهي صحيحة صادقة، فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه؛ فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم، ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي، بل حكى أنه قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الآية [نوح: 27].
ومعلوم أنه -عليه السلام- لم يقل ذلك إلا بوحي من الله؛ لأنه غيب، وهو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36].
وكذلك قال تعالى في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89].
ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب، ولا مخالفة أمر ولا نهي، ومثله قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]؛ فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ولا إشارة إلى عتب، بل جاء في الآية الأولى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]، وهو غاية في المدح بالموافقة، وهكذا سائر المساق إلى آخر القصة.
وفي الآية الأخرى قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ...} [الأنبياء: 51] إلى آخرها؛ فتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ص160".(41/139)
ص -433-…الحق من غير زيادة؛ فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق، ومع ذلك؛ فقد قال محمد, صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"1، وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره2، وكذلك نوح؛ فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل3 مخالفة أمر الله، بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة؛ فكذلك قصة محمد -عليه الصلاة والسلام- في مسألة القسم4.
وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه، ولولا الإطالة؛ لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء -عليهم السلام- ما ينشرح له الصدر، وتطمئن إلى بيانه النفس، مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية، والله المستعان.
وفي آخر5 فصل الأوامر والنواهي أيضًا مما يتمهد به هذا الأصل، وقد حصل من المجموع أن الترك هنا6 راجع إلى ما يقتضيه النهي، لكن النهي الاعتباري.
وأما السادس؛ فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص414"، وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة.
2 وهو قوله: "وإني كنت كذبت... إلخ"، وكذلك نوح إذ يقول: "إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي". "د".
قلت: ورد ذلك في حديث الشفاعة المشار إليه آنفًا، وهو في "الصحيحين".
3 في "م": "قبيل".
4 والحديث مرسل وليس بصحيح، كما بيناه قريبًا "ص430".
5 في المسألة الثامنة عشرة، وفيها أنه إذا رجع الأمر إلى الأصل والنهي إلى المآل يكون من باب سد الذرائع، وقوله: "هذا الأصل"؛ أي: وهو أن الترك محله في الأصل غير المأذون فيه، وتمهيده للوجه الثالث منه ظاهر، ولو ذكر هذا هناك؛ لكان أوضح. "د".
6 أي: في الوجه الخامس. "د".(41/140)
ص -434-…تعارض مفسدتين؛ إذ يطلب الذهاب إلى الراجح، وينهى عن العمل بالمرجوح، والترك هنا هو الراجح؛ فعمل عليه.
فصل:
وأما الإقرار1 فمحمله2 على أن لا حرج في الفعل الذي رآه -عليه السلام- فأقره، أو سمع به فأقره، وهذا المعنى مبسوط في3 الأصول، ولكن الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تثبيته لأحد على شيء. "ماء".
2 في "ماء": "فمحله".
3 وحاصله أنه إذا علم بفعل وإن لم يره، فسكت قادرًا على إنكاره، فإن كان معتقد كافر يعلم إنكاره له -صلى الله عليه وسلم- فلا أثر لسكوته لأنه يعلم أن لا ينتفع بالإنكار في الحال، وإن لم يكن معتقد كافر، فإن سبق تحريمه بعام يكون الفعل الذي أقره نسخًا للتحريم أو تخصيصًا له به، على الخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، وإلا بأن لم يسبق التحريم؛ فدليل الجواز حتى لا يكون فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير واقع في الشريعة، فإذا استبشر بالفعل؛ فأولى أن يدل على الجواز، إلا أن يدل دليل على أن هذا الاستبشار لأمر آخر اقترن بالفعل لا لنفس الفعل؛ فعند ذلك يختلف القول في اعتبار سكوته واستبشاره تقريرًا لأصل المسألة وأحقيتها، أو يجعل السكوت والاستبشار غير إقرار ولا موجب لأحقية أصل المسألة، كما في مسألة المدلجي لما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما، وقد بدت أقدامهما؛ فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، وكان أسامة مثل الليل، وزيد مثل القطن؛ فأثبت الشافعي صحة النسب بالقيافة ومنعها الحنفية، ولكل منهما حجته ورده على الآخر، وإنما نقلنا هذه النبذة لتساعد على فهم المقام. "د".(41/141)
قلت: وتجد كلامًا عن القيافة في "الطرق الحكمية" لابن القيم، وتعليقنا عليه، ومضى تخريج حديث: "إن هذه الأقدام..." في "ص75"، وهو صحيح، وانظر بسط موضوع "الإقرار" في: "التمهيد" "1/ 11 وما بعدها" للكلوذاني، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"الإحكام" "1/ 169" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"التفتازاني على ابن الحاجب" "2/ 22"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"إعلام الموقعين" "2/ 387 وما بعدها".(41/142)
ص -435-…يخص الموضع هنا أن ما لا حرج فيه جنس لأنواع: الواجب، والمندوب، والمباح بمعنى المأذون فيه1 وبمعنى أن لا حرج فيه، وأما المكروه؛ فغير داخل تحته2 على ما هو المقصود؛ لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة3 الفعل للترك، والمكروه لا يصح فيه ذلك؛ لأن الفعل المكروه منهي عنه، وإذا كان كذلك؛ لم يصح السكوت عنه، ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء؛ فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة4 تقترن به، فإذا لم يكن ثَمَّ قرينة ولا تعريف5 أوهم ما هو أقرب إلى الفهم، وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق، والمكروه ليس كذلك.
لا يقال: فيلزم مثله في الواجب والمندوب؛ إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج، وليسا كذلك؛ لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله, والمندوب مأمور بفعله، وجميع ذلك زائد6 على مطلق رفع الحرج؛ فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار، وقد زعمت أنه7 داخل، هذا خلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتبط بالمباح إشارة إلى إرادة معنييه السابقين في مبحث المباح. "ف".
2 أي: تحت ما لا حرج فيه الذي هو محمل الإقرار الشامل للأنواع الثلاثة. "ف".
3 أي: على الأقل، حتى يدخل الواجب والمندوب، ثم يقال: وهل هذه العبارة تسع دخول المباح, بمعنى ما لا حرج فيه على تفسيره له سابقًا؟ "د".
4 أي: زيادة من شأنها أن تصرف السكوت إلى غير معنى الإقرار. "د".
5 أي: ولا قول يفيد غير الإذن. "د".
6 أي: ينافي مطلق رفع الحرج، يرشدك إلى ذلك قوله: "للموافقة بينهما" المقتضي أن أصل الاعتراض بالتنافي بين عدم الحرج, وبين مفهوم الواجب والمندوب. "د".
7 الأنسب: "أنهما داخلان". "د".(41/143)
ص -436-…لأنا نقول: بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب1 لازم للموافقة بينهما؛ لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدًا من جهة الفعل، ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما، بخلاف المكروه؛ فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك، لا من جهة الفعل، و"أن لا حرج"2 راجع إلى الفعل؛ فلا يتوافقان، وإلا؛ فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل؟
فإن قيل: من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل، ومعنى كونه معفوًّا عنه هو معنى عدم الحرج فيه، وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام.
قيل: كلا، بل المراد هنا غير المراد هنالك؛ لأن الكلام هنالك فيما بعد الوقوع لا فيما قبله، ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتًا3 كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعدما وقع في حكم ما لا حرج فيه؛ استدراكًا له من رفق الشارع بالمكلف، ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيهًا له بالصغيرة التي يكفرها كثير من الطاعات؛ كالطهارات، والصلوات، والجمعات، ورمضان، واجتناب الكبائر، وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة، والصغيرة أعظم من المكروه؛ فالمكروه أولى بهذا الحكم، فضلًا من الله ونعمة.
وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج؛ فنظر إلى ما قبل الوقوع، ولا مرية في أن الأمر كذلك؛ فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأنسب: "مع فعل الواجب أو المندوب". "ف".
2 أي: الذي يدل عليه الإقرار إنما هو في الفعل، وهذا موجود في الواجب والمندوب لا في المكروه. "د".
3 صوابه: "بحتًا" -بالتاء- أي: خالصًا لا شبهة فيه. "ف".(41/144)
ص -437-…ما لا حرج فيه، وأمثلة هذا القسم كثيرة؛ كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد1، وأكل الضب على مائدته, عليه الصلاة والسلام2.
وعن عبد الله بن مغفل؛ قال: أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبتسمًا3.
وقد استدل بعض العلماء على طهارة دم النبي -عليه الصلاة والسلام- بترك الإنكار على من شرب دم حجامته4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص75".
2 مضى تخريجه "ص357، 423"، وهو في "الصحيحين" عن خالد, رضي الله عنه.
3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772 بعد 72"، وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 8/ 481/ رقم 4214"، ومسلم أيضًا "رقم 1772 بعد 73" عن عبد الله بن مغفل بلفظ آخر.
4 أخرج البزار في "مسنده" "3/ 145/ رقم 2436, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 554"، والطبراني في "الكبير" -كما في التلخيص الحبير" "1/ 30"، و"المجمع" "8/ 270"، و"مناهل الصفا" "رقم 72"، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 329-230"، وهو ساقط حتى من القطعة التي طبعت ملحقًا بالمعجم- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 67" من طريق موسى بن إسماعيل عن هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه؛ قال: احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني الدم، فقال: "اذهب فغيبه". فذهبت فشربته، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما صنعت؟". قلت: غيبته. قال: "لعلك شربته؟". قلت: شربته. زاد الطبراني؛ فقال: "من أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك".(41/145)
قال البزار: "قد روي عن ابن الزبير من وجه آخر". قلت: كما عند الدارقطني في "السنن" "1/ 228"، وأبي نعيم في "الحلية" "1/ 230"، والطريق المذكور آنفًا فيه هنيد -أو جنيد- بن القاسم، لا بأس به، ولكنه ليس بالمشهور في العلم، قاله ابن حجر في "التلخيص" "1/ 30"، وقال الهيثمي في "المجمع" "8/ 270": "رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح؛ غير جنيد بن القاسم، وهو ثقة".
ولذا أطلق السيوطي في "مناهل الصفا" "رقم 72" على إسناده بأنه جيد. وفي الباب عن جماعة والمذكور أقواها، انظرها في "البدر المنير" "2/ 206-219".(41/146)
ص -438-…المسألة السابعة:
القول منه -صلى الله عليه وسلم- إذا قارنه الفعل؛ فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة إلى المكلفين لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- واقع على أزكى1 ما يمكن في وضع التكاليف؛ فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة.
بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل؛ فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة؛ فذلك لا يدل2 على أفضلية ولا مفضولية.
ومثاله ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: أأكذب لامرأتي؟ قال: "لا خير في الكذب". قال: أفأعدها وأقول لها؟ قال: "لا جناح عليك"3.
ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه، بل لما وعد عزم على أن لا يفعل، وذلك حين شرب عند بعض أزواجه4 عسلًا؛ فقال له بعض أزواجه: إني أجد منك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أكمله في شرع التكاليف وإنشائها؛ ففعله في أعلى طبقات التشريع للأحكام، أي فإذا انضم إلى القول؛ كان ذلك أعلى مراتب الصحة في الاقتداء. "د".
2 كيف هذا؟ وسيأتي له في التعقيب على الأمثلة يقول: "وذلك يدل على مرجوحيته"، أي: إن مخالفة فعله لقوله يدل على مرجوحية مضمون القول، فإن قيل: إن ذلك بالنظر للقول وحده بدون نظر إلى أن تركه قصدًا؛ قيل: إن القول إذا كان بصيغة الأمر ففيه أقوال في كونه مشتركًا أو للوجوب والندب كما سبق له؛ فلا يتأتى إطلاق القول بعدم الدلالة على راجحية ومرجوحية. "د".
3 الحديث صحيح بشواهده، وقد مضى تخريجه "1/ 491"، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545".
4 وهي السيدة حفصة -رضي الله عنها- كما جاء في حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب عند حفصة عسلًا، فتواخينا أن نقول له: أكلت مغافير، وهي صمغ العرفط، وله ريح كريهة. "ف".(41/147)
ص -439-…ريح مغافير -كأنه مما يتأذى من ريحه- فحلف أن لا يشربه، أو حرمه على نفسه -ويرجع1 إلى الأول- فقال الله2 له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وكان قادرًا على أن يعد ويقول، ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه، أو تحريم عقده؛ حتى رده الله إلى تحلة الأيمان.
وأيضًا؛ فلما قال للرجل الواهب لابنه: "أشهد غيري"3 كان ظاهرًا في الإجازة، ولما امتنع4 هو من الشهادة؛ دل على مرجوحية مقتضى القول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قارن فعله -وهو الكف عن شربه- قوله: إنه لن يشربه، ثم التمثيل به إنما يظهر لو أنه كف عنه وفاء بوعده للزوجة فيما لا يلزم الوفاء به، بل لمجرد إرضائها، ولكنه قرن الوعد بالحلف والتحريم؛ فليس له قبل نزول آية التحليل أن يخالف؛ فجعل المثال مما نحن فيه ليس واضحًا، وتقدم لنا أن التمثيل لهذا الوضع بقدر البقول الذي امتنع عن التناول منها مع أمره بتقريبها لبعض من حضر من أصحابه أوضح من هذا المثال. "د".(41/148)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، رقم 4912، وكتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، رقم 5267، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامًا/ رقم 6691"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، رقم 1474"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في شراب العسل، 3/ 335/ رقم 3714"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 450/ رقم 628، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، رقم 20"، و"المجتبى" "كتاب الطلاق، تأويل هذه الآية من وجه آخر 6/ 151، وكتاب الأيمان والنذور، باب تحريم ما أحل الله, عز وجل، 7/ 13، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، 7/ 71" عن عائشة, رضي الله عنها.
3 مضى تخريجه "ص422"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
4 وأيضًا قوله: "لا أشهد على جور"، بل هذا محتاج إلى تأويل في الجور بالتغليظ على الرجل بتسميته جورًا حتى يبقى الأصل جائزًا. "د".
قلت: مضى تخريجه "ص422".(41/149)
ص -440-…وأمر عليه الصلاة والسلام حسان وغيره بإنشاد الشعر1 وأذن2 لهم فيه، ومع ذلك؛ فقد منعه3 -عليه الصلاة والسلام- ولم يعلمه، وذلك يدل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، 6/ 553/ رقم 3531، وكتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/ 436/ رقم 4145، وكتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1934/ رقم 2489" عن عائشة؛ قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجاء المشركين؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فكيف بنسبي؟". فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1933" عن البراء بن عازب؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك".
وانظر سائر الأحاديث في "جزء أحاديث الشعر" للحافظ عبد الغني المقدسي "ت 600هـ"، وهو مطبوع. وانظر "الاعتصام" "1/ 345 وما بعده ط ابن عفان و270 ط رضا".
2 فقد دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة ينشد بين يديه:
خلوا بني الكفار عن سبيله…اليوم نضربكم على تنزيله
البيتين.
فلما أنكر عمر على ابن رواحة وقال له: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ قال له: "خل عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"، أخرجه الترمذي وصححه النسائي. "د".(41/150)
قلت: أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم، 5/ 202، وباب استقبال الحج، 5/ 211-212"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، رقم 2847" و"الشمائل" "245"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 3394، 3440"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5758, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 292"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3404" عن أنس بإسناد صحيح.
3 قد يقال: حيث لم يكن في قدرته الشعر، ولم يكن تركه اختيارًا؛ فلا يكون مما نحن فيه إلا أن يقال: إن هذ يكون أبلغ في الدلالة على مرجوحيته، ويقويه قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]. "د".(41/151)
ص -441-…مرجوحيته، ولقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]، وقال لحسان1: "اهجهم وجبريل معك"؛ فهذا إذن في الهجاء، ولم يذم عليه الصلاة والسلام أحدًا بعيب فيه، خلاف عيب الدين، ولا هجا أحدًا بمنثور، كما لم يتأت له المنظوم أيضًا.
ومن أوصافه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن عيابًا ولا فحاشًا2، وأذن لأقوام في أن يقولوا3 لمنافع كانت لهم في القول أو نضال4 عن الإسلام، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يوم قريظة، حيث قال له: "اهج المشركين؛ فإن جبريل معك"، أخرجه الشيخان. "د".
2 يدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452/ رقم 6031، وباب ما ينهى عن السباب واللعن، 10/ 464/ رقم 6046" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه؛ قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه".
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، 4/ 1804-1805" عن أنس؛ قال: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئًا قط".
قلت: مضى تخريجه قريبًا.
3 يكذبون الكذب المباح المستثنى في الأحاديث؛ كحديث الخمسة إلا النسائي: "ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين؛ فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا"، وحديث الترمذي الذي استثنى فيه الكذب على المرأة، وفي الحر وفي إصلاح ذات البين من حرمة الكذب. "د".
4 كما في قصة نعيم بن مسعود الذي قال له, عليه الصلاة والسلام: "خذل عنا إن استطعت". فقال لقريش وغطفان وقريظة ما قال؛ حتى أوقع الفرقة بينهم، وتخاذلوا في واقعة الأحزاب. "د".(41/152)
قلت: وقصته في "سيرة ابن هشام" "3/ 264, مع الروض الأنف" -وذكرها ابن حجر في "الفتح" "7/ 402" وسكت عنها- و"مغازي الواقدي" "2/ 480-493"، و"مغازي الزهري" "ص80-81"، وقصته في "ضعيف الجامع" "رقم 2818"، وأفاد أنها عند الشيرازي في "الألقاب".(41/153)
ص -442-…يفعل هو شيئًا من ذلك، وإنما كان منه التورية؛ كقوله: "نحن من ماء"1، وفي التوجه إلى الغزو؛ فكان إذا أراد غزوة2 ورى بغيرها3، فإذا كان كذلك؛ فالاقتداء بالقول4 الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدًا مما لا حرج فيه، وإن تركه اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أحسن لمن قدر على ذلك، فمن أتى شيئًا من ذلك؛ فالتوسعة على وفق القول مبذولة، وباب التيسير مفتوح، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه؛ فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال لهم: "نحن من ماء". فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير, فلعلهم منهم. والمعنى الآخر أنهم مخلوقون من ماء. "د".
قلت: القصة المذكورة أخرجها ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 194-195": حدثني محمد بن يحيى بن حبان به، وهي معضلة، وعنه ابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 263"، وابن الجوزي في "الأذكياء" "140-141"، وذكرها ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص41".
2 إلا في غزوة تبوك، كما ورد في حديث كعب من مالك عن تخلفه عنها، وقد أخرجه في "التيسير عن الخمسة. "د".
قلت: ومضى تخريج تخلف كعب "2/ 270".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، 6/ 112-113/ رقم 2947، 2948" بسنده إلى كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورى بغيرها".(41/154)
4 يريد أن يجمل حكم هذا القسم الثاني المعبر عنه سابقًا بقوله: "بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل"؛ أي: ففعل ما أذن فيه الرسول قولًا، ولكنه تركه قصدًا يعد مما لا حرج فيه, وتركه بقصد الاقتداء بالرسول في تركه له أحسن وأفضل لمن قدر ولم يتضرر بالترك، وقوله: "تركه قصدًا" مفهومه أنه إذا كان تركه -صلى الله عليه وسلم- له اتفاقًا ومصادفة، أو لأنه تعافه نفسه كأكل الضب، أو لأنه منع منه سجية كالشعر لا يكون مما نحن فيه، وتقدم الكلام عن الإشكال في الشعر والجواب عنه. "د".(41/155)
ص -443-…المسألة الثامنة:
الإقرار منه -عليه الصلاة والسلام- إذا وافق الفعل؛ فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه، ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي؛ لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- واقع موقع الصواب، فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل؛ فهو كمجرد1 الاقتداء بالفعل؛ فالإقرار دليل زائد مثبت.
بخلاف ما إذا لم يوافقه؛ فإن الإقرار وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض، وإن لم تتحقق فيه المعارضة؛ فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه -عليه الصلاة والسلام- عن الفعل.
ومثاله إعراضه عن سماع اللهو2 وإن كان مباحًا، وبعده3 عن التلهي به وإن لم يحرج4 في استعماله، وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك5 ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يصح أن يكون الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في مجموع فعله وإقراره كمجرد الاقتداء به في الفعل؛ لأن كلًّا منهما دليل مستقل؛ فاجتماعهما أقوى وأقطع للاحتمالات، ألا ترى أن الفعل وحده لا زال يحتمل الخصوصية مثلًا؟ وأيضًا؛ فإنه لا يتفق مع قوله: "ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي" لأن الفعل وحده ليس كذلك ففي العبارة ضعف، وكأنه يريد أن يقول: إن الفعل القائم من المكلف على الاقتداء بفعله صحيح، ويزيد على ذلك الإقرار لأنه دليل مثبت أيضًا. "د".
قلت: انظر في اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول في: "جمع الجوامع" "2/ 365"، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 226-227".
2 يشير المصنف إلى قوله, صلى الله عليه وسلم: "لست من دد، ولا دد مني"، ومضى تخريجه "ص425"،
3 كما تقدم في حديث غناء الجاريتين بغناء بعاث. "د".
قلت: وهو في "الصحيحين" كما مضى "ص424".
4 في "ماء": "يخرج بالخاء".(41/156)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، 1/ 463/ رقم 670" بسنده إلى سماك بن حرب؛ قال: قلت =(41/157)
ص -444-…أو ما لا بد منه، ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة؛ قال لها: "خذي فرصة1 ممسكة2 فتطهري بها"3. فقالت: وكيف أتطهر بها؟ فأعاد عليها واستحيا حتى غطى وجهه4. ففهمت عائشة ما أراد، ففهمتها بما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم.
وأخرجه مسلم أيضًا في "كتاب الفضائل، باب تبسمه -صلى الله عليه وسلم- وحسن عشرته، 4/ 1810/ رقم 2322"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب السهو، باب قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، 3/ 80-81" و"عمل اليوم والليلة" "170"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى، 2/ 29/ رقم 1294"، وأحمد في "المسند" "5/ 91، 105"، وعلي بن الجعد في "المسند" "رقم 2755"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 52"، وفي رواية للترمذي في "الجامع" "رقم 2850"، والطيالسي في "المسند" "771"، وأحمد في "المسند" "5/ 105"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 712-713"، والبيهقي في "السنن" "7/ 52 و10/ 240" عنه، قال: "وكان الصحابة يذكرون عنده -صلى الله عليه وسلم- الشعر وأشياء من أمورهم".
1 الفرصة, بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة تتمسح بها الحائض. "ف" و"م".
2 الممسكة: المطيبة بالمسك، يتبع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. "ف" و"م".(41/158)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، 1/ 414/ رقم 314، وباب غسل المحيض، 1/ 416-417/ رقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، 13/ 330/ رقم 7357"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، 1/ 260-261/ رقم 332" عن عائشة, رضي الله عنها.
4 المعروف أنه أعرض بوجهه؛ فانظر أين وردت التغطية؟ "د".
قلت: ورد في "صحيح مسلم" "1/ 261": "واستتر"، وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه، وعند النسائي في "المجتبى" "1/ 136": "فاستتر كذا"، وفي "مسند أبي يعلى" "8/ 179 / رقم 4733": "فستر وجهه بطرف ثوبه"، ورواية الإعراض في "صحيح البخاري" و"مسند أحمد" "6/ 122"، و"المجتبى" "1/ 207-208" للنسائي.(41/159)
ص -445-…أصرح وأشرح؛ فأقر عائشة على الشرح الأبلغ، وسكت هو عنه حياء؛ فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك؛ فإنه1 من باب الجائز، أما إذا تعين؛ فلا يمكن إلا الإفهام كيف كان؛ فإنه محل مقطع الحقوق، والأمثلة كثيرة2.
والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر3، بل فيه ما يكون كذلك نحو الإقرار على المطلوبات4 والمباحات الصرفة ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة.
فإن قارنه قول5، فالأمر فيه كما تقدم6، فينظر إلى الفعل؛ فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: العمل بالفرصة من باب الجائز فلا يتعين فيه الإفهام، أو أن نفس التفهيم لما وجد من يقوم به عنه وهو عائشة صار غير متعين عليه، وعد جائزًا. "د".
2 تقدم منها تقريره لمن اعترف بالزنى، وتصريحه باللفظ الذي يعد في غير هذا المقام فحشًا مبالغة في الاحتياط في الحد. "د".
3 أي: وضم دليل آخر يعين خصوص الحكم. "د".
4 انظر ما وجه زيادة المطلوبات، مع أن أصل الكلام في مطلق الجواز، ولو قال بدله مطلق الإذن لشمل المطلوبات والمباح بنوعيه، وكان موافقًا لما تقرر آنفًا فيما يفيده الإقرار من أنه لا حرج فيه، ولكن لا يناسب قوله: "ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة المذكورة" التي هي من النوع الثاني من المباح، أعني: ما لا حرج فيه. "د".
5 مقابل أصل المسألة تكميل للصور التي يقتضيها المقام، وهي هنا ضم القول إلى الإقرار. "د".
6 أي: في صورة انضمام الفعل للإقرار، وقد قرر ما يقتضيه التشبيه؛ فقال: "فينظر إلى الفعل... إلخ"، أي: ينظر إلى الفعل الذي أقره الرسول: هل جاء القول على وفق الإقرار له، أم جاء على عكسه؟ أقول: أما فرض مطابقة القول للإقرار؛ فظاهر، والحكم ظاهر أيضًا، وهو مطلق =(41/160)
ص -446-…المسألة التاسعة:
سنة1 الصحابة -رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصحة أو مطلق الإذن، ولكن كيف يتصور مخالف الإقرار للقول؟ وكيف يتصور بقاؤهما دليلين مع هذه المعارضة بحيث يجوز الأخذ بأيهما بلا حرج، قياسًا على ما سبق في مخالفة الفعل للإقرار؟ اللهم إلا إذا كان القول المخالف للإقرار خاصًّا بالرسول وليس فيه تصريح بأمر ولا نهي للمكلف ولا إباحة له، كما إذا فرض في مسألة الضب أنه مع الإقرار للآكل قال: "لا آكل" فقط دون أن يبين أن العلة أنه تعافه نفسه الشريفة. "د".
قلت: وعدم أكله -صلى الله عليه وسلم- للضب وتعليله ذلك بالمذكور آنفًا مضى تخريجه "ص423".(41/161)
1 مفاد الدليل الأول والثاني أن المراد السنة العملية، أي: إذا عمل الصحابة عملًا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول لا موافقة ولا مخالفة، فإنا نعد هذا كسنة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونقتدي بهم فيه، وعلى هذا يكون قوله بعد: "فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به" المراد بالقول؛ القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلًا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول بمعنى الرأي والاجتهاد، وإلا؛ فمجرد المدح بالعدالة في الدليل الأول، والأمر باتباع سنتهم في الدليل الثاني لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء، أما الدليل الثالث الذي جعله معتمده؛ فمفاده الأخذ بآرائهم ومذاهبهم، وأنها تكون كالسنة، والظاهر أن مراد المؤلف ما هو أعم من آرائهم والاقتداء بهم في أعمالهم، وأنه يؤيد رأي القائلين: "مذهب الصحابة حجة"، تراجع المسألة بأدلة الطرفين في إحكام الآمدي، وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرًا شافيًا، وأقام ستة وأربعين دليلًا على ما قصد إليه المؤلف هنا، وجعل محل الكلام فيما إذا قال بعضهم ولم يخالفه غيره، سواء اشتهر فيما بينهم أم لم يشتهر، وأنه إذا اشتهر ولم يخالفه أحد؛ هل يكون حجة فقط أم يعتبر إجماعًا؟ خلاف، فإن لم يشتهر كان حجة فقط، وهذا كله فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة كما قلنا. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 128 وما بعدها"، وانظر مبحث حجية قول الصحابي والأقوال فيه في "مختصر المنتهى" "2/ 287, مع شرح العضد"، و"الإحكام" "3/ 195" للآمدي، و"سلم الوصول على نهاية السول" "4/ 408"، و"كشف الأسرار" "3/ =(41/162)
ص -447-…أحدها:
ثناء الله عليهم من غير مثنوية1، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها؛ كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقًا، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى.
ولا يقال: إن هذا عام في الأمة؛ فلا يختص2 بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: "أولًا" ليس كذلك، بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل3 معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثنوية -بفتح، فسكون- أي: من غير استثناء، وأصله قولهم: حلف فلان يمينًا ليس فيها [ثنيا -بضم- أو: ولا ثنية ولا] مثنوية ولا استثناء، بمعنى واحد، ومأخذه من الثني والكلف والرد؛ لأن الحالف إذا قال: ""إلا أن يشاء الله" [مستثنيًا في يمينه]؛ فقد رد ما قاله بمشيئة الله غير". "ف" و"م".
2 في "ماء": "يخص".
3 كما هو المذهب المنصور أن الخطاب الشفاهي كـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس خطابًا لمن بعدهم، وإنما يثبت لمن بعدهم بدليل خارج من نص أو إجماع أو قياس، خلافًا للجنابلة؛ فقوله: "بدليل آخر" عطف على "قياس" عطف عام على خاص، وهذا الجواب ضعيف؛ لأنه لا يلزم في تعديته لمن بعدهم وجود الدليل المذكور في كل جزئية، بل الدليل الكلي كاف، وهو موجود، والثاني لا يفيد، والثالث يحتاج إلى بينة تثبت أن التابعين مثلًا لم يتصفوا على الكمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الصحابة. "د".(41/163)
ص -448-…"وثانيًا" على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب؛ فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهم المباشرون للوحي.
"وثالثًا" أنهم أولى بالدخول من غيرهم؛ إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم؛ فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح.
وأيضًا؛ فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم؛ فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة، بخلاف1 غيرهم؛ فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته، وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يفيد أنهم كانوا لا ينقبون عن عدالة الصحابي في الأخذ عنه، بخلاف غيره، مع أنهم لما اشترطوا العدالة قالوا: فلا يؤخذ عن مجهول الحال؛ لأن الفسق مانع من القبول؛ فلا بد من تحقق عدمه، أي: تحقق ظن عدم الفسق، ولا يكون ذلك مع الجهالة، ومقتضى هذا أنه لا فرق بين الصحابي وغيره، على أن المسألة خلافية، والمؤلف جار على مذهب الأكثر القائل: إن الصحابة عدول، لا يسأل عن عدالتهم، بل تؤخذ مسلمة بدون تنقيب ولا بحث في رواية ولا شهادة؛ لأنا إذا قبلنا تعديل بعضنا بتزكية واحد منا؛ فكيف لا تقبل فيهم تزكية رب العالمين، ورسوله الصادق الأمين؟ وعليه لا يعتبر الصحابي من المجهول الحال، وقيل: هم كغيرهم؛ فلا بد من التعديل، وقيل بالتفصيل بين ما بعد فتنة عثمان وما قبلها؛ فيحتاج إلى التعديل في الأول دون الثاني، والذي يتجه أن يبنى هذا المبحث على مبحث تعريف الصحابي؛ فقد يقوى النظر الأول، وقد يقوى الثاني. "د".(41/164)
قلت: الصواب قبول رواية مجهول الحال من الصحابة؛ كما تراه في "علوم الحديث" "ص147"، و"فتح المغيث" "3/ 103"، و"شرح الألفية" "3/ 13-14"، و"الأجوبة العراقية" "ص10" للآلوسي، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 475"، و"الكفاية" "96" للخطيب البغدادي، و"شرح مختصر المنتهى" "2/ 67"، و"تيسير التحرير" "3/ 65"، و"إرشاد الفحول" "ص70"، و"صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسنة" "ص271-301".(41/165)
ص -449-…أمة بإطلاق، وأنهم وسط -أي: عدول- بإطلاق، وإذا كان كذلك؛ فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم؛ كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا...} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَْ} الآية [الحشر: 8-9]، وأشباه ذلك.
والثاني:
ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1.
وقوله: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص133"، وهو صحيح.
2 ورد عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 25/ رقم 2640"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 140/ رقم 6247, الإحسان و15/ 125/ رقم 6731, الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 6716"، والمروزي في "السنة" "رقم 58"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 5910، 5978، 6117"، والآجري في "الشريعة" "25"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 374-375/ رقم 273"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 6، 47، 128"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 208"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "18" من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به، من غير ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي"، وإسناده حسن.(41/166)
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2641"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "85"، والآجري في "الشريعة" "15-16" و"الأربعين" "رقم 13"، والمروزي في "السنة" "59"، =(41/167)
ص -450-…وعنه أنه قال: "أصحابي مثل الملح، لا يصلح الطعام إلا به"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129"، واللالكائي في "شرح أصول أهل السنة" "رقم 147"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 368-369/ رقم 264"، وقوام السنة في "الحجة" "1/ 106"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5-6"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "7" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رفعه مع ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي".
قال الترمذي: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ضعيف في حفظه؛ إلا أن الحديث صحيح لطرقه وشواهده، وقد صححه ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة، "2/ 410"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 252"، وحسنه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 199"، وشيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204"، وانظر للحديث: "حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة" للصنعاني، و"نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة" لأخينا الشيخ سليم الهلالي.
1 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 572" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 72-73/ رقم 3863"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1347"- وأبو يعلى في "المسند" "5/ 151/ رقم 2762"، والبزار في "المسند" "3/ 291-292/ رقم 2771, زوائده"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 129/ رقم 6400"، وأبو القاسم الحلبي في "حديثه" "3/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762"- جميعهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن البصري عن أنس به.(41/168)
قال البزار عقبه: "لا نعلم رواه عن الحسن إلا إسماعيل، ولا عنه إلا أبو معاوية، وإسماعيل روى عنه الأعمش والثوري، وجماعة كثيرة، على أنه ليس بالحافظ، وقد احتمل الناس حديثه، تفرد بهذا الحديث أنس".
قلت: أما تفرد أبي معاوية؛ فغير صحيح، فقد رواه ابن المبارك عن إسماعيل، والحديث ضعيف، آفة حديث أنس إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وفيه عنعنة الحسن.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 276/ رقم 1348" من طريق آخر عن أنس، وفيه أبو هدبة إبراهيم بن هدبة وهو كذاب، وفيه مجاهيل أيضًا.(41/169)
ص -451-…وعنه أيضًا: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا؛ فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخطأ بعض الرواة، فجعله من مرسل الحسن من طريق ابن المبارك، انظر تفصيل ذلك في "العلل" لابن أبي حاتم "2/ 354-355/ رقم 2582"، وهي رواية ابن بطة في "الإبانة" "رقم 964".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 221"، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة" "رقم 16، 1730" عن معمر عمن سمع الحسن به، وأخرجه أحمد أيضًا "رقم 17 و1740" من طريق آخر عن الحسن مرسلًا.
وله شاهد من حديث سمرة بن جندب عند البزار والطبراني، قاله البوصيري في هامش "المطالب العالية" "4/ 150/ رقم 4207"، ونقله عنه صاحب "بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة السيد ورقة" "ق 11/ 1"، وزاد الهيثمي في "المجمع" "10/ 18": "وإسناد الطبراني حسن".
قلت: حديث سمرة أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبزار في "المسند" "3/ 291/ رقم 2770, زوائده"، ولفظه: "إنكم توشكون أن تكونوا في الناس كالملح في الطعام، ولا يصلح الطعام إلا بالملح".
وفي إسناده جعفر بن سعد، وهو ضعيف، عن خبيب بن سليمان وهو مجهول، عن سليمان بن سمرة وهو مجهول الحال، قاله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762".
1 أخرجه البزار في "المسند" "3/ 288/ رقم 2763, زوائده"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 191", وابن جرير في "صريح السنة" "رقم 23", والخطيب في "الموضح" "2/ 280" و"التاريخ" "3/ 162", وابن حبان في "المجروحين" "2/ 41", واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1243/ رقم 2334"، كلهم من طريق عبد الله بن صالح ثنا نافع بن زيد عن زهرة بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله به مرفوعًا.(41/170)
قال البزار: "لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد، ولم يشارك عبد الله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحد نعلمه".
قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 16": "رواه البزار، ورجاله ثقات، وفي بعضهم =(41/171)
ص -452-…ويروى في بعض الأخبار: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 إلى غير ذلك مما في معناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلاف"، وصححه القرطبي في "تفسيره" "13/ 305". قلت: كلا والله؛ فالحديث موضوع، وأدخل على عبد الله بن صالح، وحكم عليه بالوضع النسائي؛ كما في "تهذيب الكمال" "15/ 104"، وأسند الحاكم -كما نقل المزي- إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زرعة الرازي عن حديث زهرة، وساقه، فقال: هذا حديث باطل، كان خالد بن نجيح المصري وضعه ودلسه في كتاب الليث، وكان خالد بن نجيح هذا يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا ويدلس لهم، وله غير هذا. قلت لأبي زرعة: فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال: هذا كذاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم.
قال الحاكم أبو عبد الله: "فأقول: رضي الله عن أبي زرعة، لقد شفى في علة هذا الحديث وبين ما خفي علينا؛ فكل ما أتي أبو صالح كان من أجل هذا الحديث، فإذا وضعه غيره وكتبه في كتاب الليث؛ كان المذنب فيه غير أبي صالح"، وبنحوه قال البردعي، وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "5/ رقم 398": "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان أبو صالح سليم الناحة، وكان خالد بن نجيح يفتعل الكذب، ويضعه في كتب الناس".
وانظر: أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة المشرقة" "3/ 891"، و"تهذيب الكمال" "15/ 105/ 106"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 757- 758"، و"التهذيب" "5/ 259"، و"الميزان" "2/ 442".
1 ورد بألفاظ متقاربة عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- هم:(41/172)
- ابن عباس، أخرجه أبو العباس الأصم في "حديثه" "رقم 142" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 152"- والخطيب في "الكفاية" "48"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 75" من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك به.
وإسناده ضيف جدًّا، آفته ابن أبي كريمة ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، ولذا قال الزركشي في "المعتبر" "ص83": "وهذا الإسناد فيه ضعفاء"، وأخرجه البيهقي من حديث أبي زرعة ثنا إبراهيم بن موسى ثنا يزيد بن هارون عن جويبر عن جواب بن عبيد الله رفعه. =(41/173)
ص -453-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم قال البيهقي: "هذا حديث مشهور، وأسانيده كلها ضعيفة، لم يثبت منها شيء".
وأخرجه أبو ذر الهروي في كتاب "السنة" من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191".
ورواه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 702" من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه حمزة بن أبي حمزة، وهو كذاب.
- جابر، أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "4/ 1778"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925/ رقم 1760"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 82" من طريق سلام بن سليمان عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان به.
قال ابن عبد البر عقبه: "هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول"، وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك".
قلت: أبو سفيان أخرج له مسلم في "صحيحه"، وهو صدوق.
وقال ابن طاهر: "هذه الرواية معلولة بسلام المدائني، فإنه ضعيف، نقله عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 230"، وبه أعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 58".
وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق آخر عن جابر، ثم قال: "هذا لا يثبت عن مالك، ورواته عن مالك مجهولون"، أفاده الزيلعي وابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 190".
- أبو هريرة، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1346"، وهو معلول بجعفر بن عبد الواحد، وقد كذبوه.(41/174)
- حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 783"، والدارقطني في "فضائل الصحابة" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 231"، وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 701"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 785-786" وأبو ذر في "السنة" -كما في "المعتبر" "ص81"- من طريق حمزة الجزري عن نافع به، لكنه قال بدل "اقتديتم" بأيهم أخذتم بقوله "اهتديتم"، وهو هو، وذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1759" عن ابن عمر معلقًا من طريق حمزة، وقال: "هذا إسناد لا يصح، ولا يرويه=(41/175)
ص -454-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن نافع من يحتج به".
وعنه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83" وقال: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شك أنها مكذوبة، وأسهب في بيان بطلان هذا الحديث دراية بكلام متين حسن، وكان قد بين قبل "5/ 64" تحت باب "ذم الاختلاف" بطلان هذا الحديث، وقال عنه: "وهذا الحديث باطل مكذوب، من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية"، وساق ثلاثة منها.
وقال ابن عدي في ترجمة "حمزة" وساق له أحاديث: "وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه"، وقال ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146"، وعزاه لعبد: "فيه ضعف جدًّا"، وقال ابن طاهر: "حمزة النصيبي كذاب"، قال: "ورواه بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عن أنس، وبشر هذا يروي عن الزبير الموضوعات"، أفاده الزيلعي.
- حديث أنس، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146/ رقم 4193" لابن أبي عمر في "مسنده" عن أنس، وقال: "إسناده ضعيف"، وأسنده -أي: ابن حجر- في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147" من طريق ابن أبي عمر، وقال: "وفي إسناده ثلاثة ضعفاء في نسق سلام وزيد ويزيد، وأشدهم ضعفًا سلام"، وكان قد ذكر أن سلامًا خالف عبد الرحيم بن زيد؛ فقال: "عن أنس"، وقال عبد الرحيم: "عن عمر"، وروايته هي الآتية.(41/176)
- حديث عمر بن الخطاب،1 أخرجه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 700"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه والمتفقه" "1/ 177"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 151"، ونظام الملك في "الأمالي" "رقم 21, بتحقيقي"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1057"، والديلمي في "مسنده" "2/ 190"، والضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو" "116/ 2"، وكذا ابن عساكر "6/ 303/ 1"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 146-147" من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب به.
وإسناده هالك، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 700-701": "هذا حديث ضعيف من هذا الوجه؛ فإن عبد الرحيم بن زيد هذا كذبه ابن معين، وضعفه غير واحد من الأئمة". ثم قال: "إلا أن هذا الحديث مشهور في ألسنة الأصوليين وغيرهم من الفقهاء، يلهجون به كثيرًا محتجين به وليس بحجة، والله أعلم". =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وورد من حديث معاذ عند النسفي في "القند" "ص537" وإسناده واه جدًّا.(41/177)
ص -455-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأعله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 924" بالعمي، وقال الأول: "وفيه أيضًا شائبة الانقطاع بين سعيد وعمر"، وقال الثاني: "والكلام أيضًا منكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم"، وعزاه الزركشي في "المعتبر" "ص80" للدارمي في "مسنده"، ولم أظفر به في "سننه" المطبوعة، وضعفه بالعمي والانقطاع، ورده بقوله: "لكن ذكرت في باب الوتر من "الذهب الإبريز" ما يصحح سماعه منه"، وحكم عليه شيخنا في "الضعيفة" "رقم 60" بالوضع، وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، ومتنه منكر، ولا يجوز الاحتجاج به.
ولا التفات إلى تصحيح الشعراني له في "الميزان الكبرى" "1/ 30" بالكشف؛ فهي دعوى فارغة سبق الإلماع إلى بطلانها. وبهذا حكم عليه الحفاظ، وهذا بعض من كلامهم:
- قال البزار, وقد سئل عن هذا الحديث: "منكر، ولا يصح عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم". نقله ابن عبد البر وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147"، والزركشي في "المعتبر" "83".
- قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" "1/ 283": "هذا لا يصح".
- قال ابن حزم في رسالته الكبرى "في الكلام على إبطال القياس والتقليد وغيرهما": "هذا حديث مكذوب موضوع باطل، لم يصح قط"، وبنحوه قال في "الإحكام" "5/ 64".
- وأشار ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "ص67-68" إلى بعض طرقه، وقال: "وكلها معلولة".(41/178)
- وقال البيهقي في "الاعتقاد" "ص319" بعد أن ذكر حديث أبي موسى المرفوع: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أتى أمتي ما يوعدون"، وقال: "رواه مسلم [في صحيحه" "رقم 2531"] بمعناه، وروي عنه في حديث بإسناد غير قوي، وفي حديث منقطع، أنه قال: "مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منهم اهتدى"، قال: "والذي روينا ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه"، وتعقبه الزركشي في "المعتبر" "ص84" بقوله: "ولا يخلو عن نظر"، وبين ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191" وجهه؛ فقال: "هو -أي: حديث أبي موسى- يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتدء؛ فلا يظهر من حديث أبي موسى".
بقي بيان وجه من قال بنكرته، وهو أنه لو كان صحيحًا ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع أحد إلى قول صاحبه، وإنما لقال كل لصاحبه: بأينا اقتدى الآخر في قوله؛ فقد اهتدى، ولكن كل منهم طلب البينة والبرهان على قوله؛ فثبتت نكارته، أفاده المزني، ونقله عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 110, ط القديمة" وغيره.(41/179)
ص -456-…والثالث:
أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل؛ فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلًا، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلًا، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلًا، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعلق القائلون بحجية قول أبي بكر وعمر دون غيرهم بأدلة كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 472-473/ رقم 681" عن أبي قتادة، وذكر حديثًا طويلًا فيه قصة، وفيه من المرفوع: "فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
وبما أخرجه الترمذي في "جامعه" "4/ 310"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 37/ رقم 97"، والحميدي في "المسند" "رقم 449", وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 11", وأحمد في "المسند" "5/ 382، 385، 402" و"فضائل الصحابة" "رقم 478"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 83، 84"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 75"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 334"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 480"، والخلال في "السنة" "رقم 336"، والبزار في "المسند" "7/ 248-251/ رقم 2827، 2828, 2829"، والقطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 162"، وابن أبي عاصم في "السنة" "2/ 545-546/ رقم 1148، 1149"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 223، 224"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 177" و"التاريخ" "12/ 20" عن حذيفة مرفوعًا: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر"، وإسناده صحيح.(41/180)
واحتج هؤلاء بأثر لابن عباس، انظره في "إعلام الموقعين" "4/ 143"، أما القائلون بحجية قول الخلفاء الأربعة؛ فقد استدلوا بحديث العرباض: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقد مضى تخريجه "ص133" وهو صحيح، وانظر توجيه الحديث على قول هؤلاء في "كشف الأسرار" "3/ 221"، و"منهاج الأصول" "4/ 410, مع شرحه نهاية السول" و"جمع الجوامع" "2/ 297 مع حاشية العطار"، و"إعلام الموقعين" "4/ 139-140".(41/181)
ص -457-…وهذه الآراء -وإن ترجح عند العلماء خلافها- ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المعتمد في المسألة، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين؛ فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر1 من ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم في الشريعة، وأنهم مما يجب2 متابعتهم وتقليدهم فضلًا عن النظر معهم فيما نظروا فيه، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع3 من تقليد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ترى ذلك كثيرًا عقب تراجم البخاري. "د".
2 هذا هو المطلوب، ولكنه لا يسلم لزومه لما قبله، ويعارضه أيضًا أنهم طالما خالفوهم في الأمور الاجتهادية التي هي موضوع الكلام، ولذلك؛ فالمعول عليه أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غير الصحابة،كما أنه لس بحجة على الصحابة باتفاق، فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنتهم التي اتفقوا عليها؛ فذلك ما لا نزاع فيه لأنه أهم أنواع الإجماع؛ فليس من باب السنة وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم وإن لم يتفقوا عليه؛ فهذا ليس بدليل شرعي يتقيد به المجتهد، وقد يقال: إنه عند اختلافهم لا تخرج سنتهم عن كونها حجة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة، ويكون العمل بها متوقفًا على الترجيح، ومع عدم الوقوف على المرجح؛ فالواجب الوقف أو التخيير كما هو الشأن عند التعارض، فتحرر المسألة بأن الغرض سنة الصحابي قولًا أو فعلًا في غير موضع الإجماع منهم تعد سنة كخبر الآحاد؛ فيعول عليها ويرجع إليها كحجة ظنية، وهذا المعنى مأخوذ من كلام الآمدي في مذهب الصحابي. "د".(41/182)
3 اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له التقليد بعد حصول اجتهاده ووصوله إلى الحكم في نظره، أما قبل الاجتهاد؛ فاختلفوا على سبعة أقوال: منها ما أشار إليه هنا، وهو المنقول عن الشافعي أنه يجوز له تقليد الصحابي لا غيره بشرط أن يكون أرجح في نظره ممن خالفه منهم، وإلا تخير، وقال أحمد: "يجوز مطلقًا"، وقال العراقيون: يجوز فيما يخصه لا فيما يفتى به، واختار الآمدي =(41/183)
ص -458-…الصحابة، ويمنع في غيره، وهو المنقول عنه في الصحابي: "كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته"1 ولكنه2 مع ذلك يعرف لهم قدرهم.
وأيضًا؛ فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه.
فعن سعيد بن جبير أنه قال: "ما لم يعرفه3 البدريون؛ فليس [من] الدين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المنع مطلقًا. "د".
قلت: انظر مسلك الشافعي في حجية قول الصحابي في "الأم" "7/ 246"، و"الرسالة" "ص597-598"، وكذا كتاب أبو زهرة "الإمام الشافعي" "308-309"، و"الإمام الشافعي وأثره في أصول الفقه" "2/ 763 وما بعدها"، ومنه يستفاد أن قول الصحابي عنده حجة في مذهبيه القديم والجديد، وهذا ما نصره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 122"؛ فقال بعد أن نقل كلام البيهقي في "المعرفة" "1/ 106, ط صقر" و"المدخل" "ص109-110": "فهذا كلام الشافعي -رحمه الله ورضي عنه- بنصه، ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له".
1 نقله عنه جماعة، منهم ابن همام في "التحرير" "3/ 71, مع التيسير".
2 أي: فهو وإن لم يترك ما صح عنده من الحديث لقولهم، لكنه إذا لم يجد الحديث ووجد سنتهم أخذ بها، ومما يضاف إلى هذا فيقويه ما نقله في "إعلام الموقعين" عن الشافعي في "رسالته البغدادية" وما رواه عن الربيع من جعله البدعة ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض الصحابة. "د".
قلت: انظر ما قدمناه في الهامش السابق.
3 أي: إذا أنكروا شيئًا فقالوا: إنه ليس من الدين؛ كان الأمر كذلك. "د".
4 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 771/ رقم 1425 و2/ 945/ رقم 1805" بإسناد لا بأس به، وما بين المعقوفتين فيه في الموطنين، وسقط من "د" وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط".(41/184)
ص -459-…وعن الحسن -وقد ذكر أصحاب محمد, صلى الله عليه وسلم- قال: "إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم"1.
وعن إبراهيم قال: "لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم"2.
وعن حذيفة؛ أنه كان يقول: "اتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من قبلكم؛ فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"3.
وعن ابن مسعود: "من كان منكم متأسيًا؛ فليتأس بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1807".
2 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1808" بإسناد صحيح، وانظر في شرحه: "الباعث" "ص89, بتحقيقي" لأبي شامة المقدسي.(41/185)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم 13/ 250/ رقم 7282"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 379"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 47"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 273"، وعبد الله بن أحمد في "السنة" "18"، وابن وضاح في "البدع" "ص10، 11"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 196، 197"، والمروزي في "السنة" "25"، والبزار في "المسند" "7/ 359/ رقم 2956"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 280"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 90/ رقم 119"، والهروي في "ذم الكلام" "ص123"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص519, ترجمة أبي مسلم الخولاني"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1809" بألفاظ منها المذكور، وسيورد المصنف قريبًا لفظًا آخر له، وعزاه أبو شامة في "الباعث" "ص70" لأبي داود في "السنن"، وانفرد بذلك، وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 121" للطبراني.(41/186)
ص -460-…وأحسنها حالًا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"1.
وقال علي: "إياكم والاستنان بالرجال". ثم قال: "فإن كنتم لا بد فاعلين؛ فبالأموات لا بالأحياء"2، وهو نهي للعلماء لا للعوام.
ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز؛ قال: "سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا"، وفي رواية بعد قوله "وقوة على دين الله": "ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في3 رأي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1810"، والهروي في "ذم الكلام" "ص188"، ورزين كما في "مشكاة المصابيح" "1/ 67-68" عن قتادة به؛ فهو منقطع.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "1/ 305-306" نحوه عن ابن عمر، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف.
وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 121" للإمام أحمد.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 987/ رقم 1881"، وخشيش في "الاستقامة" كما في "كنز العمال" "1/ 360/ رقم 1594".
وإسناد ابن عبد البر ضعيف؛ إذ هو من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي.
قال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري؛ فلا تكتبه".
وخالد بن عبد الله سمع من عطاء بعد اختلاطه، انظر: "الكواكب النيرات" "ص322، 327، 330"، وانظر هذا الأثر وكلامًا جيدًا للمصنف حوله في "الاعتصام" "2/ 689, ط ابن عفان".
3 ظاهر فيما أجمعوا عليه. "د".(41/187)
ص -461-…خالفها، من اهتدى بها مهتد...."1 الحديث، وكان مالك يعجبه كلامه2 جدًّا.
وعن حذيفة قال: "اتبعوا آثارنا؛ فإن أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"3.
وعن ابن مسعود نحوه؛ فقال: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم"4.
وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول5: سبحوا عشرًا وهللوا عشرًا فقال عبد الله: "إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل! بل هذه، بل هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 94/ رقم 134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 73"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 352-353/ رقم 230، 231"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326"، والهروي في "ذم الكلام" "ص107، 199"، والمروزي في "السنة" "31"، وابن الجوزي في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" "84"، وهو صحيح.
2 أي: هذا الكلام المذكور ويتحدث به كثيرًا هو وغيره من الأئمة كما ذكره في "أعلام الموقعين" "4/ 132"، وشرحه المصنف في "الاعتصام" "1/ 116-117, ط ابن عفان" شرحًا وافيًا وعلق عليه بكلام متين، وفيه: "ومن كلامه -أي: عمر بن عبد العزيز- الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكًا جدًّا..." وساقه، وانظر التعليق على "3/ 130".
3 مضى تخريجه قريبًا، ولفظ "ماء/ ص424" مختلف عن هذا.(41/188)
4 أخرجه وكيع في "الزهد" "2/ 590/ رقم 315" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "162"- وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "10"، والدارمي في "السنن" "1/ 69"، وأبو خيثمة في "العلم" "رقم 54"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص23"، والطبراني في "المعجم الكبير" "9/ 168"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "ق 51/ 2 ورقم 460 من المطبوع"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 86/ رقم 104"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 204"، وإسناده صحيح.
5 في "ط": "وهو يقول".(41/189)
ص -462-…"يعني أضل""1.
والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها، وحسبك من ذلك دليلًا مستقلًّا وهو:
الرابع:
ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أبغضهم فقد أبغض النبي -عليه الصلاة والسلام-2، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط؛ إذ لا مزية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 68 و69" بسند جيد، وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص8-10، 11، 12، 13، 23"، وبحشل في "تاريخ واسط" "ص198-199"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص16-17" من طرق عن ابن مسعود، والأثر صحيح بمجموع طرقه.
2 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب منه، 5/ 696/ رقم 3863"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860" -ومن طريقه القاضي عياض في "الشفا" "2/ 266"، والسبكي في "الفتاوى" "2/ 574"- وأحمد في "المسند" "5/ 54، 57" و"فضائل الصحابة" "رقم 321"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" "4/ 85، 87 و5/ 55" و"زوائد الفضائل" "رقم 2"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 1/ 131"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 7212, الإحسان" و"موارد الظمآن" "رقم 2284, موارد"، وقوام السنة في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 366"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" و"تثبيت الإمامة" -أو: "الرد على الرافضة"- "رقم 220"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 123"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 3, بتحقيقي"، والبيهقي في "الاعتقاد" "321" من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني رفعه: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي؛ فمن أحبهم بحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه". لفظ أحمد.(41/190)
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد، وقال البخاري: "فيه نظر"، وللحديث شواهد كثيرة، خرجت قسمًا منها في أول كتاب الشوكاني "در السحابة".(41/191)
ص -463-…في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته1 ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة.
ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم فجعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك؛ فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتبعهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا وإن كان أقوى البواعث على حبهم وبغض من أبغضهم، التابعين لحبه -صلى الله عليه وسلم- وبغض من أبغضه؛ إلا أن محل الاستدلال هو ما قبله، وهذا الدليل الرابع كالأول ظاهر في الاقتداء بأفعالهم وأقوالهم التكليفية، لا الآراء والمذاهب. "د".(41/192)
ص -464-…المسألة العاشرة:
كل ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه1، سواء علينا انبنى عليه في التكليف حكم أم لا2، كما أنه إذا شرع حكمًا أو أمر أو نهى؛ فهو كما قال عليه الصلاة والسلام، لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله، وبين ما نفث3 في روعه وألقي في نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان؛ فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مؤيد بالعصمة، وما ينطق عن الهوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإذا قال: إن الملك ألقى في روعي كذا؛ فهو صادق في أنه ألقى الملك إليه كذا، وصادق في مضمون الخبر. "د".
2 ولا ينافي هذا ما ورد في حديث مسلم في مسألة تأبير النخل، وقوله لهم: "لعلكم لو لم تضعوه؛ لكان خيرًا"؛ فتركوه فنقصت، فذكر ذلك له؛ فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشي من رأيي؛ فإنما أنا بشر"، فإن هذا ليس في الواقع خبرًا، وإنما هو من باب الشك في عادة عندهم اعتقدوها سببًا عاديًّا، وكأنه قال لهم: جربوها، وهذا هو ما يفهم من قول: "لعلكم لو لم تضعوه... " إلخ؛ فهو لم يذكره خبرًا جازمًا، بل هو من باب المشورة عليهم في الأخذ بالتجربة في سبب عادي ليس من الأمور الشرعية، ولا مما قصد به الإخبار عن أمر يعلمه. "د".(41/193)
3 وهو الإشارة المفهمة من غير بيان بالكلام، وقوله: "وألقي في نفسه" هو الإلهام الذي يكون بدون عبارة الملك وإشارته، ويكون الإلقاء مقرونًا بخلق علم ضروري أنه منه تعالى، وهذا القدر مشترك بين الثلاثة؛ إذ في المشافهة والإشارة لا بد أيضًا من خلق علم ضروري أنه مخاطبة الملك، ولذا كانت الثلاثة حجة قطعية عليه وعلى غيره، والثلاثة وحي ظاهر، يلزمه انتظار واحد منها عند الحاجة للحكم، وإن لم تحصل اجتهد، واجتهاده إنما يكون بالقياس، لا بالترجيح عند التعارض بين الدليلين لعدم علم المتأخر، ولا بغيره مما يكون فيه الاجتهاد عند غيره -صلى الله عليه وسلم- والاجتهاد وحي باطني. "د".(41/194)
ص -465-…وهذا مبين في علم الكلام؛ فلا نطول بالاحتجاج عليه، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله.
فمثاله قوله, عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها؛ فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب"1؛ فهذا بناء حكم على ما ألقى في النفس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" "1/ 298" - ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304/ رقم 4112"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 185/ رقم 1151"- ثنا هشيم بن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
وإسناده صحيح لولا الرجل الذي لم يسم.
وأخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304-305/ رقم 4113" من طريق أبي أسامة عن إسماعيل عن زبيد وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود به، ورجاله ثقات، وهو مرسل.
وأخرجه أيضًا "14/ 303-304/ رقم 4111" من طريق أبي حمزة عن إسماعيل عن رجلين أحدهما زبيد عن ابن مسعود به، وهو كسابقه، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 4" من طريق آخر عن ابن مسعود، وفيه سعيد بن أبي أمية الثقفي، وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات.
وللحديث شواهد كثيرة، بها يصل إلى درجة الصحة، منها:
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2144"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 420"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 265" من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر.
وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 156-157 و7/ 158" من طريق حبيش بن مبشر ثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن محمد بن المنكدر به.
وإسناده صحيح، وقال أبو نعيم عقبه: "غريب من حديث شعبة، تفرد به حبيش عن وهب".(41/195)
وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "رقم 3239، 3241"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، وأبو الفضل الرازي في "المشيخة" "رقم 43"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 264" و"الشعب" "رقم 10505" من طريق عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن =(41/196)
ص -466-…وقال عليه الصلاة والسلام: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها؛ فالتمسوها في العشر الغوابر"1.
وفي حديث آخر: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"2؛ فهذا بناء من النبي -صلى الله عليه وسلم- على رؤيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن المنكدر به. وإسناده حسن.
ولفظ حديث جابر: "لا تستبطئوا الرزق؛ فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام".
وكتب "د" هنا: "والإجمال في الطلب مباشرة الأسباب المشروعة مع ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في محظور".
وفي الباب عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 7694"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 26-27"، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. وعن حذيفة، أخرجه البزار في "البحر الزخار" "7/ 314-315/ رقم 2914"، وأوله: "هلموا إليّ، فأقبلوا إليه؛ فجلسوا، فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل -عليه السلام- نفث في روعي". وقال عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، قال الهيثمي في "المجمع" "4/ 71": "لم أجد من ترجمه"، ووافقه ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" "رقم 874".
وفي الباب عن المطلب، أخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 302-303/ رقم 4110"، ورجاله ثقات، وهو مرسل، والخلاصة الحديث صحيح بشواهده، والله أعلم.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1166"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2197"، وأحمد في "المسند" "2/ 291"، والدارمي في "السنن" "2/ 28" وغيرهم عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(41/197)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، رقم 2015، وكتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلي، رقم 1158، وكتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، رقم 6991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1165" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.(41/198)
ص -467-…النوم1.
ونحو ذلك وقع2 في بدء الأذان -وهو أبلغ في المسألة- عن عبد الله بن زيد، قال: لما أصبحنا أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته الرؤيا؛ فقال: "إن هذه لرؤيا حق" الحديث، إلى أن قال عمر بن الخطاب: والذي بعثك بالحق؛ لقد رأيت مثل الذي رأى. قال: فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد؛ فذاك أثبت"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رؤياه -صلى الله عليه وسلم- وهو ظاهر في الرواية الأولى، وأما الثاني؛ فتحتاج إلى تعريف صدقها عن الله بطريق من الطرق المشار إليها. "د".
2 في "ط": "واقع".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 1/ 358-359/ رقم 189" -وهذا لفظه- وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، 1/ 135-136/ رقم 499"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأذان، باب بدء الأذان، 1/ 232-233/ رقم 706"، وأحمد في "المسند" "4/ 43"، والبخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 180"، والدارمي في "السنن" "1/ 268-269"، وابن الجاورد في "المنتقى" "رقم 158"، وابن المنذر في "الأوسط" "3/ 12-13/ رقم 1162"، والدارقطني في "السنن" "1/ 341"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 189/ رقم 371"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 572-573/ رقم 1679, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 390-391"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 231-232, ط الفقي"، كلهم من طريق ابن إسحاق؛ قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد ثنا أبو عبد الله بن زيد به، وإسناده جيد، وابن إسحاق صرح بالتحديث؛ فانتفت شبهة تدليسه، والخبر في "سيرة ابن هشام" "2/ 154-155".(41/199)
ولهذا الحديث طرق أخرى، المذكور آنفًا أقواها، قال ابن المنذر في "الأوسط" "3/ 13": "وليس في أسانيد أخبار عبد الله بن زيد إسناد أصح من هذا الإسناد، وسائر الأسانيد فيها مقال"، وقال ابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 193": "سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه من عبد الله بن زيد".
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 203"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم =(41/200)
ص -468-…فحكم1 عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الأذان.
وفي "الصحيح": صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا ثم انصرف؛ فقال: "يا فلان! ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؛ فإنما يصلي لنفسه؟ إني والله لأبصر من ورائي2 كما أبصر من بين يدي"3. فهذا حكم أمري بناء4 على الكشف، ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1788"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 197/ رقم 380"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 131، 132، 134"، والدارقطني في "السنن" "1/ 241"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 476، 477/ رقم 1938، 1939"، والبيهقي في "السنن" "1/ 420" من طريق ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وبعضهم يقول: "عن ابن أبي ليلي؛ قال: ثنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عبد الله بن زيد".
قال الدارقطني: "ابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد"، ثم ساق الاختلاف فيه، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 42"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 1787"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 475/ رقم 1937"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 414، 415" من طريق سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد.
والحديث صحيح، وأصح طرقه المذكورة أولًا كما سبق بيانه، وصححه غير واحد من الأئمة كالبخاري، والنووي، والذهبي، وانظر: "نصب الراية" "1/ 259-260".
1 أي: بطريق من الطرق المتقدمة، لا بمجرد رؤياهما. "د".
2 هذه حالة رؤيا الكشف التي تحصل بإزالة الموانع العادية كما حصل في صبيحة الإسراء، حيث كشف له عن بيت المقدس وصار يصفه لقريش وصف عيان. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، 1/ 319/ رقم 423" عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد مضى تخريجه "2/ 472".(41/201)
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "امرئ بنى"، وكتب "د": "لعله "أمري" نسبة إلى الأمر؛ فإنه في معنى: أحسن صلاتك".(41/202)
ص -469-…فإذا تقرر هذا؛ فلقائل أن يقول: قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد1 قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخصنا، وما يعمه يعمنا، فإذا بنينا على ذلك؛ فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعه وكشفه، ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه2 ثم مرض قبل أن تقبضه3، قال فيه: "وإنما هما أخواك وأختاك؛ فاقتسموه على كتاب الله". قالت: فقلت: يا أبت! والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء؛ فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية"4، وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية5 وهو على المنبر؛ فبنوا -كما ترى- على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب، وهو معتاد في أولياء الله تعالى، وكتب العلماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "2/ 263 وما بعدها".
2 وهو عشرون وسقًا. "د".
3 فأبطلها بحكم الشرع. "د".
4 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484, رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 4681, رواية يحيى الليثي وص236, رواية سويد بن سعيد"، وإسناده صحيح. وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر، و"أنساب الأشراف" "63-64, الشيخان".(41/203)
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"؛ وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286, ترجمة عمر و7/ ق 10-13, ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5", وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء", والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46" بأسانيد بعضها حسن، كما قال ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضًا"، وألف القطب الحلبي في صحته جزءًا، قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461".
وانظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن أولياء الشيطان" "ص123-124" لابن تيمية.(41/204)
ص -470-…مشحونة بأخبارهم فيه، فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي, صلى الله عليه وسلم.
والجواب: أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة، وبسببه جلبت هذه المقدمة وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيًا، ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها.
فاعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤيد1 بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بيّن، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا2 بلا خلاف؛ إما بأنه لا يخطئ ألبتة، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض؛ فما ظنك بغير ذلك؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله -عز وجل- وأما أمته3؛ فكل واحد منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلمًا4، وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقه5، واعتيد ذلك فيه واطرد؛ فإمكان الخطأ والوهم باق، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يصدر عنه في ذاته إلا الصدق، وتعضيده بالمعجزة يجعلنا لا نعتقد إلا ذلك. "د".
2 في "ماء": "معصوم".
3 تقدم الكلام بأوسع من هذا وأتم، في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد. "د".
4 أي: والحلم من الشيطان كما تقدم في الحديث. "د".
5 أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باق في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها؛ فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا. "د".
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 636 وما بعدها"، و"بدائع التفسير" "1/ 152 وما بعدها" لابن القيم.
6 في "ط": "حكمًا".(41/205)
ص -471-…وأيضًا؛ فإن كان مثل هذا1 معدودًا في الاطلاع الغيبي؛ فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، كما في الحديث من قوله -عليه السلام- في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}2 [لقمان: 34] إلى آخر السورة3. وقال في الآية الأخرى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26، 27].
فبقى من عداهم على الحكم الأول، وهو امتناع علمه.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179].
وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
وفي حديث عائشة: "ومن زعم أن محمدًا يعلم ما في غدٍ؛ فقد أعظم الفرية على الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} سقطت من الأصل
2 يراجع ما يشير إليه من تحقيق معنى الغيب في قصد الشارع في كتب الحديث والتفسير. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، 1/ 114/ رقم 50، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة}، 8/ 513/ رقم 4777"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإحسان، 1/ 39/ رقم 9" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل.(41/206)
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن عائشة ضمن حديث، ولفظه: "ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية".
والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 262-263/ رقم 3068" عن عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه أيضًا بنحوه في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم، 5/ 394-395/ رقم 3278".(41/207)
ص -472-…وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم [الغيب إلا]1 الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر، حسبما مر في باب2 العموم من هذا الكتاب، فإذا كان كذلك؛ خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء -صلوات الله عليهم- في العلم بالمغيبات.
وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح؛ فمما لا ينبني عليه حكم، إذ لم يشهد3 له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك4 لجميع الأمة، وهو جواز الخطأ، لذلك قال أبو بكر: "أراها جارية"5؛ فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكمًا، وعبارة "يا سارية! الجبل" -مع أنها إن صحت لا تفيد حكمًا شرعيًّا6- هي أيضًا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها، وإن سلم؛ فلخاصية7 أن الشيطان كان يفر منه8؛ فلا يطور9 حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من "د" كاملة، ومن "ف" و"م" سقطت كلمة "الغيب".
2 في المسألة السادسة منه، وهو أن العموم لا يلزم أن يكون آتيًا من جهة الصيغ، بل له طريق ثان وهو الآتي من جهة استقراء مواقع المعنى. "د".
3 كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد السالفة. "د".
4 في "ماء": "بجميع".
5 في قصته السابقة، وهي صحيحة، ومضى تخريجها.
6 بل نصيحة ومشورة. "د".
قلت: وقد صحت، كما بيناه، ولله الحمد.
7 في "ماء": "كخاصية".
8 كما ثبت في "صحيح البخاري" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 7/ 4/ رقم 3683"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر, رضي الله تعالى عنه، 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد مرفوعًا: "والذي نفسي بيده؛ ما لقيك -والخطاب لعمر- سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجك".(41/208)
9 أي: لا يقرب حول حماه، يقال: فلان لا يطورني، أي: لا يقرب طورتي، والطورة: فناء الدار وما حولها، وفلان يطور بفلان أي: كأنه يحوم حوله ويدنو منه، وفي حديث علي, رضي الله عنه: "وأن لا أطور به ما سمر سمير"؛ أي: لا أقربه أبدًا. "ف".(41/209)
ص -473-…بخلاف غيره، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب1؛ فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه، بل على الحال التي يقال فيها: "أرى" و"أظن"2، فإذا وقع مطابقًا في الوجود وفرض تحققه بجهة المطابقة أولًا، والاطراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه [قد] صار من باب الحكم على الواقع3؛ فاستوت الخارقة وغيرها، نعم4 تفيد الكرامات والخوارق5 لأصحابها يقينًا وعلمًا بالله تعالى، وقوة فيما هم عليه، وهو غير ما نحن فيه.
ولا يقال: إن الظن أيضًا معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية؛ كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علمًا مع الاطراد والمطابقة؛ فإنه يفيد ظنًّا، فيكون معتبرًا.
لأنا نقول: ما كان من الظنون معتبرًا شرعًا؛ فلاستناده إلى أصل شرعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ماء" و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الغير".
2 في "د": "أو أظن".
3 أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًّا على الواقع نفسه. "د".
4 استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبها. "د".
5 في "ط": "الكرامات الخوارق" بدون "واو" عطف.(41/210)
ص -474-…حسبما تقدم في موضعه1 من هذا الكتاب، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني، هذا وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت ذلك2 بالنسبة إليه؛ فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسألة الثانية من الأدلة. "د".
2 لا يصح رجوع اسم الإشارة إلى ما لم يستند إلى أصل قطعي أو ظني؛ لأن ما علم له -صلى الله عليه وسلم- بطريق الكشف أو بطريق الرؤيا كله حق معصوم كما تقدم أول المسألة، بل هو راجع لأصل الموضوع -وهو العمل بمقتضى الكشف والاطلاع الغيبي- أي: لا يقال: إن عمله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الكشف يصلح مستندًا لنا ولو ظنيًّا؛ فنقيس أنفسنا عليه لأنا نقول: إنه قياس مع الفارق، وهو العصمة في حقه وعدمها في حقنا. "د".(41/211)
ص -475-…الاستدراكات:
استدراك 1:
[ومثال ضم العبادة إلى العبادة: ضم الدعاء لختم القرآن في رمضان، أو ضمه لأدبار الصلوات، أو ضم القراءة للطواف].
استدراك 2:
وأخرجه من طرق أخرى عن علي: ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 387-388"، وأبو عبيد "322-323"، وابن أبي شيبة "1/ 39"، والدارقطني "1/ 87-88"، والبيهقي "1/ 87".
وصح عن ابن مسعود قوله أيضًا، أخرجه أحمد في "الأسامي والكنى" "رقم 261"، وأبو عبيد في "الطهور" "325-326, بتحقيقي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 388، 422"، والدارقطني في "السنن" "1/ 89" -وصححه- والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 87"، والخطيب في "الموضح" "2/ 320".
استدراك 3:
وفي "ط": "عن "يوم كان مقداره ألف سنة"؛ فقال له ابن عباس: فما "يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".(41/212)
ص -476-…استدراك 4:
وأخرجه عبد الرزاق "20474"، وابن المبارك في "المسند" "233" و"الزهد" "92, زيادات نعيم"، وأبو داود "1561, مختصرًا"، والطبراني "18/ رقم 547"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه" "1/ 76"، والهروي في "ذم الكلام" "242-244"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 25" من طرق لا تخلو من ضعف، ولكن يشد بعضها بعضًا.
استدراك 5:
وفي "ط": "فرحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد؛ إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، فما...".(41/213)
ص -477-…الموضوعات والمحتويات:
الموضوع الصفحة
تابع الطرف الأول في أحكام الأدلة عامة 5
الفصل الرابع: في العموم والخصوص 7
مقدمة في الموضوع 7
الأدلة المستعملة في الإطلاق بالعموم والخصوص 7
المسألة الأولى:
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان
ولا حكايات الأحوال 8
دليل ذلك
الأول: أن القاعدة مقطوع بها وقضايا الأعيان مظنونة 8
الثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية
وقضايا الأعيان محتملة 8
الثالث: أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات 8-9
الرابع: أنها لو عارضتها، فإما أن يعملا معًا أو يهملا، أو يعمل
بأحدهما دون الآخر 9
إشكال على الدليل الرابع بأن تخصيص العموم وتقييد المطلق
صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من المظنونات 9
الجواب من وجهين: 9
أن الإشكال ليس بمحل لمسألتنا 9-10
التوضيح بالأمثلة:
صفات الله والتنزيه 10-11(41/214)
ص -478-…قضايا الأعيان 10
أمثلة على قضايا الأعيان 10
استضعاف جواب المصنف 10
قضايا العقائد عامة 11
عصمة الأنبياء 11
عند معارضة الجزئيات للكليات 11
فصل: فائدة هذه المسألة 12
اتباع المتشابهات أصل الزيغ والضلال 12
لبس الحرير للحكة أو لغيره 12
التمثيل بقصة عن عصمة الأنبياء 12-13
قصة سيدنا موسى -عليه السلام- والعصمة 13
المسألة الثانية:
وضع الشريعة على مقتضى ما قصد الشارع من ضبط
الخلق بالقواعد العامة، وقد كانت العوائد جرت بها سنة
الله أكثرية لا عامة 14
عموم وضع التكاليف 14
السفر والمشقة في القصر والفطر 14
النصاب والغنى في الزكاة 14
الرخص 14
إعمال أخبار الآحاد والقياس "الظنيات" 15
ما يتوجه على القياس من الاعتراضات 15
الشهادات والإشكال فيها 15
إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية
من حيث هي منضبطة بدون معارض قوي مساوٍ له 15
مثال للتوضيح
القصر والفطر في السفر للملك 15
الربا، وما هي علة التحريم؟ 15-16
الثمنية، والوزن والقوت 16(41/215)
ص -479-…ربا الفضل والنسيئة 16
الفرق بين العلل والأوصاف المنضبطة 16
الخمر والزنى والحد عليهما 17
المسألة الثالثة: 18
العموم له صيغ وضعية، والنظر في هذا مخصوص بأهل اللغة العربية 18
للعموم بحسب الوضع نظران: 18
أحدهما: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق 18
التخصيص بالمنفصل وأمثلة عليه 18
الثاني: بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها 19
القاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا
عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي 19
التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي 19
الحلف بالطلاق والعتاق ليضربن جميع من في الدار ولم يضرب نفسه 20
العموم يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها
مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان 21
الاستثناء في القرآن 21
الدباغة واختلاف العلماء في جلد الكلب 22
التنبيه على وهم في عزو حديث "إذا دبغ الإهاب...." 22
هجرة المؤمنات ضمن معاهدات المسلمين للكفار 22
اللفظ العام إذا ثبت ينطلق على جميع ما وضع له من الأصل
حالة الإفراد 23
العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة 23
ذكر بعض أمثلة على ذلك 24
قضية لبس الإيمان بالظلم 24
عذاب الكفار وآلهتهم 24
اللفظ العربي له أصالتان: أصالة قياسية وأصالة استعمالية 25
الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه،
وللشريعة بهذا النظر مقصدان:(41/216)
ص -480-…أحدهما:
المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه 25
الثاني:
المقصد في الاستعمال الشرعي 25
الحقائق الشرعية والعرفية واللغوية 25
الدعاء والصلاة 26
تبيان التفاوت الحاصل في النظر الثاني 26-28
فصل: مناقشة الأمثلة المعترض بها على أصل المسألة 27
تفسير آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 27-29
بعض أنواع الظلم 27-27
النفي والنكران 28
تعذيب الكفار وآلهتهم 30
التنبه على ضعف شديد في قصة ابن الزبعرى في تفسير
الآية بها 30
كتم العلم والفرح به 32
الأدب مع السابقين 32
تبيان أن ذلك بيان لعمومات النصوص كيف وقعت في الشريعة33
السلف مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربًا
قد أخذوا بعموم اللفظ، وإن كان سياق الاستعمال يدل
على خلاف ذلك 34
ذكر مجموعة من الأمثلة وتخريجها 34-40
العموم الإفرادي 33
التخصيص بالمنفصل
أسلوب حياة عمر في الخشونة والتنعم مع فهمه -رضي الله عنه- لقوله
تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 34-35
حديث الذين هم أول من تسعر بهم النار 35-36
تكثير سواد المشركين 36
قصة نزول قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ}36-37
الخواطر والتكليف بها 37
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} 38
حجة الإجماع من الآية 38(41/217)
ص -481-…وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْه} 38
استحياء الصحابة في الخلاء 38
تفسير: يتخلوا 38
الحكم بغير ما أنزل الله كفران 39
عموم اللفظ وخصوص السبب, النزول أو الحادثة 40
ذكر حال الكافر في النار وحال المؤمن في الجنة, أسباب ذلك 40
تبيان فقه السلف في فقه الصيغ العمومية وخصوص
الأسباب والجمع بين الخوف والرجاء في هذا الباب 40-41
هل يصح خصوص السبب أن يكون قرينة مخصصة؟ 41
العموم الإفرادي والاستعمالي 41
الفصل بين الشاطبي والأصوليين في التخصيص 43
فصل: التخصيص يكون بالمتصل وبالمنفصل 43
أسماء العدد ليست من العموم 43
التخصيص بالمتصل 43-44
التخصيص بالمنفصل 44
إشكالات من الأصوليين والجواب عنها 44-46
فصل: فيما ينبني على المسألة من أحكام 46
منها: من المسائل الخطيرة في الدين؛ العام إذا خص
هل يبقى حجة أم لا؟ 46
التخصيص بالمتصل والمنفصل 47
عمومات القرآن 47-48
بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلام 48
صيغ العموم في الأصل الاستعمالي 49
المسألة الرابعة: 50
العزائم تبقى على عمومها، وإن ظهر أن الرخص تخصصها 50
إشكالات من أوجه على المسألة:
الأول: أن العزيمة مع الرخصة من باب الكفارة 51(41/218)
ص -482-…الثاني: أن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية
الرخصة جمع بين متنافيين 51
الثالث: أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة 51
الجواب عن كل واحد منها
الجواب الأول 51
الجواب عن الثاني والثالث 52
رفع الإثم عن المخالف لعذر 52
المسألة الخامسة 53
إطلاق أن الأعذار خصصت عمومات العزائم على المجاز
لا على الحقيقة 53
مواقع المسألة 53
أدلة صحتها ومناقشتها 53
شروط التكليف 53
العزائم 53
الإثم والخطأ 53
فرضية المسألة في موضعين على التمثيل: 53
الأول: فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم 53
ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما 53-54
أمثلة ذلك 53-54
الثاني: إذا أخطأ الحاكم في الحكم... وإذا أخطأ فحكم
بغير ما أنزل 55
مسائل في القضاء والحكم بغير ما أنزل الله 55- 56
المسألة السادسة:
طريقا ثبوت العموم: 57
الأول: ورود الصيغ 57
الثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في
الذهن أمر كلي عام 57
أدلة ذلك: 57
الأول: الاستقراء 57
الثاني: التواتر المعنوي 57
الثالث: قاعدة سد الذرائع وعمل السلف بها وبعض
الأمثلة من عملهم 59(41/219)
ص -483-…ما ورد من أدلة شرعية على قاعدة سد الذرائع 60
فإن قيل: إن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين
من أوجه 60
أحدها: أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات 60
المعاني العقلية وخواصها 60
الثاني: أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا 61
الثالث: كثرة ورود التخصيصات في الشريعة 61-62
سرد مجموعة من الأمثلة التي تخرج تخصيصات من عمومات 62
التزام الرجال والنساء بالتكاليف ذاتها وتبيان ما يخص النساء
لذات الخلقة 63
الأجوبة عن هذه الإشكالات 63-64
فصل: فوائد المسألة 64
إذا تقررت المسألة عند المجتهد ثم استقرأ معنى عامًّا من
أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل
خاص على خصوص نازلة تعن 64-65
فهم الاستشكال على سد الذرائع من القرافي 65-68
المسألة السابعة: العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في
أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير
تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال، وإن قلنا
بجواز التخصيص بالمنفصل 69-71
فصل: العمل بالعموم من غير بحث عن مخصص 71
تبيان موقع الإجماع فيه وموضع التفصيل 71
الفصل الخامس:
في البيان والإجمال 73
توضيح معنى الإجمال 73
المسألة الأولى:
سبعة أسباب لوقوع الإجمال 73
بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل والإقرار وترتيبها 73
ضرب مجموعة من الأمثلة على بيان النبي -صلى الله عليه
وسلم- لإجمال الآيات وتوضيح ذلك 73-75
علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفعل ولم ينكره مع
القدرة على إنكاره 75(41/220)
ص -484-…المسألة الثانية: 76
العالم يقوم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيان: 76
الدليل الأول: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء 76-77
الدليل الثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء 77
أنواع البيان الواجب على العلماء 78
المسألة الثالثة:
بيان العالم مثل بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل 79
المسألة الرابعة: الغاية في البيان أن يطابق القول الفعل 79
أهمية الفعل مع القول في توضيح الأحكام 81
تبيان الأقوى في البيان الفعل أم القول؟ 81
فصل: الترجيح بين الفعل والقول في البيان 83
المسألة الخامسة: 85
عند وقوع القول بيانًا فالفعل شاهد له ومصدق أو مخصص أو
مقيد، وبالجملة عاضد للقول 85
مطابقة أقوال الأنبياء -عليهم السلام- مع أفعالهم 86
قوة الدعوة وصدقها في مطابقة الفعل القول 86-87
العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة ووظائفها 87
حال الصحابة مع أقوال النبي وأفعاله 87-88
التحذير من زلة العالم والآثار الواردة في ذلك 88-90
قوة الأفعال في التأسي 91
اعتبارات أفعال المتبوعين: 91
الأول: من جهة أنه واحد من المكلفين 91
الثاني: من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانًا وتقريرًا لما
شرع الله إذا انتصب في هذا المقام 91
تبيان أن بيان العالم واجب 91-92
أين يتعين البيان؟ 92
أمثلة من أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتروكاته التي
كانت لبيان الأحكام 93(41/221)
ص -485-…الأمثلة السادسة:
المندوب لا يسوى بينه وبين الواجب في القول والفعل والاعتقاد 97
بيان ذلك بأمور:
الأول: أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق 97
الثاني: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبينًا
للناس ما نزل إليهم 97
أمثلة من السنة على ذلك فقد فرق بين الواجب والمحرم
والمندوب 97-98
تخريج أحاديث "لا حرج" 98-100
مسلك آخر في توضيح المسألة: ترك النبي -صلى الله عليه
وسلم- للعمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس 101
مثل قيام رمضان وهل خاف أن يفرض بالوحي أو خوف أن
تظن الأمة أنه فرض؟ 101
ذكر أمثلة على هذا المسلك لتوضيحه 101-102
معنى ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا 102
الثالث: عمل الصحابة على الاحتياط في الدين 102
أمثلة عن الصحابة في ذلك 102-105
الرابع: استمرار عمل أئمة السلف بهذا الوجه 105
اعتباره أصل سد الذرائع عند مالك 107
فصل: الأمور التي يفرق بها بين الواجب والمندوب 107
فصل: ومن استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين
بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان 108
سرد أمثلة عن السلف -الصحابة والتابعين وأئمة
المذاهب- جميعًا في هذا الفصل 108-113
تواطؤ أهل بلد على ترك شيء من الدين 111
أصل سد الذرائع والفصل هنا 111
إرجاعه إلى أصل سد الذرائع 111
المسألة السابعة: 114
وكذلك المباحات لا يسوى بينها وبين المندوب والمكروه 114-116
الإجابة على أدلة المسألة السابعة 116
المسألة الثامنة: 117(41/222)
ص -486-…وكذلك المكروهات لا يسوى بينها وبين المحرمات
والمباحات 117-118
أدلتها مثل أدلة المسألة التي قبلها 117
ويضاف إليها وجهان الأول: أنها قد تظهر محرمات
ويصير الترك واجبًا 117
توضيح أن تبيان الحكم أهم من ارتكاب المكروه 117
ثانيها: أن العمل بها دائمًا يصيرها عند الناس مباحات 118
فصل فوائد للمسائل السابقة وما قبل 118
منها: أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية
أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب 119
منها: ونحوه في الكيفيات والتزامه كيفية لا تفهم منها
في كيفيات أخر 119
ذكر أمثلة على ذلك 119-121
ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة 120-121
التفريق بين ما يفعل بحضرة الناس وما لا يفعل 121
التزامات الصوفية 122-123
المسألة التاسعة: 124
وكذلك الواجبات لا يسوى بينها وبين غيرها ولا
يسامح في تركها ألبتة 124
وكذلك المحرمات 124
فائدة هذه المسألة في قيام وارث النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالقيام بالأفعال على ما يقوم به النبي
-صلى الله عليه وسلم- في أنفسها ولواحقها وسوابقها.125
المسألة العاشرة:
لزوم هذا البيان في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع أيضًا 126
المسألة الحادية عشرة:
بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحيح لا إشكال فيه 127
وكذلك بيان الصحابة المجمع عليه 127
وأما ما لم يجمعوا فهو صحيح أيضًا وهو عند المصنف
من وجهين:
الأول: معرفتهم باللسان العربي 128
الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي
بالكتاب والسنة 128
أمثلة توضيحية 129-131(41/223)
ص -487-…منها تعجيل الفطر 129
والصوم لرؤية الهلال 130
مالك والصحابة في الموطأ 131
وتوضيح كلامهم للغة 131
القول في تقليد الصحابي وحجية قوله 132
كلمة جامعة في الصحابة وعلمهم بالدين وضرورة الالتزام
بفهمهم 132-133
الاجتهاد بين الصحابة وغيرهم 134
المسألة الثانية عشرة:
الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف، وإما غير
واقع في الشريعة 135
يان ذلك: الأول: النصوص الدالة على ذلك 135
التكليف بالمجمل ومعنى المجمل في كلام الأئمة 137
المتشابه في القرآن والمشتبهات 138-139
أحاديث الصفات 139
الوجه الثاني: مقصود الشارع من الخطاب الوارد على
المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم 140
الوجه الثالث: أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان
عن وقت الحاجة 140
الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل 141
اقتصار الكلام على الكتاب والسنة دون الإجماع والرأي 143
مسائل الكتاب: 143
المسألة الأولى: 144
اعتماد أن القرآن طريق الهداية ولأنه كلية الشريعة
وعمدة الملة 144
إعجاز القرآن, وفهمه 144-145
المسألة الثانية: 146
معرفة أسباب النزول وأهميته من جهة أمرين:
الأول: أن علم المعاني والبيان مداره على مقتضيات الأحوال 146
الثاني: الجهل بأسباب النزول موقع في الإشكالات والشبه 146
فوائد معرفة أسباب النزول 147(41/224)
ص -488-…توضيح ذلك بالأمثلة: قصة عمر مع ابن عباس 148-153
قصة مروان مع ابن عباس في معنى الفرح بالحمد
من الناس مع ربط ذلك بميثاق الذين أوتوا الكتاب 149-150
القنوت ومعانيه 150
من شرب الخمر قبل نزول التحريم، ومن احتج بسقوط
الإثم عنه مثلهم 150
مجيء الدخان 152
فصل: علم معرفة أسباب النزول 152-153
أهمية معرفته بمزاولة علم التفسير عمومًا 153
فصل: أهمية معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها
ومجاري أحوالها حالة التنزيل 154
الأول: إتمام الحج والعمرة 154
الثاني: الخطأ والنسيان 154
الثالث: العلو 155
الرابع: عبادة العرب للكواكب 155
ذكر أربعة أمثلة على أهمية هذا الأمر 154-155
فصل: أهمية أسباب ورود الحديث أيضًا 155
سرد مجموعة من الأمثلة:
منها: الأضاحي والتخلف عن الجماعة والهجرة 155-157
المسألة الثالثة: 158
في سرد قصص القرآن، إذا ورد ما هو باطل فلا بد من رده 158-161
فصل: هل الكفار مخاطبون بالفروع؟ 161
صفات الله والأصابع 164
فصل: النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسكت على
باطل ولا يؤخر البيان عن وقت حاجته 166
المسألة الرابعة: 167
مقارنة الترغيب للترهيب والترهيب للترغيب في
القرآن مع الأمثلة من القرآن نفسه 167
فصل: تغليب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات
الأحوال من القرآن مع الأمثلة 170(41/225)
ص -489-…وقد لا يذكر إلا طرف واحد 175
توضيح سبب ذلك 175
التنبيه على أن أصل المسألة هو القانون الشائع 175
وأن ما ذكر من تغليب أحدهما على الآخر قضايا أعيان 175-178
فصل: دوران العبد بين الخوف والرجاء؛ لأن حقيقة
الإيمان دائرة بينهما 178-179
المسألة الخامسة: 180
تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي،
وحيث جاء جزئيًّا فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو
بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي,
صلى الله عليه وسلم 180
معجزات الأنبياء 181
توضيح أهمية السنة في تفسير القرآن وربط ذلك بالإعجاز 181
تضمن الشرع؛ القرآن والسنة للقواعد الثلاثة: 182
من فضائل عبد الله بن مسعود 182-183
فصل: الاستنباط من القرآن ينبغي أن يكون مع
النظر في شرحه وبيان السنة والدليل العقلي على ذلك 183
المسألة السادسة: 184
بناء على ما تقدم، وبالترتيب المتقدم، فإن القرآن فيه
بيان كل شيء 184
دليل ذلك: النصوص القرآنية 184
وما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك 184
سرد مجموعة منها وتخريجها 184-189
ومنها: التجربة، وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى
القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلًا 189
الكلام عن الظاهرية في هذا الباب 189
الإجارة في الدين والقراض 189
وجود قواعد في السنة ليست في القرآن وتكميلها له 190
تبيان السنة للقرآن 192
من نوادر الاستدلال القرآني 193-196(41/226)
ص -490-…استدلالات غريبة -بعضها للصوفية- في القرآن 195-197
رؤية النساء وكلامهن لله رب العالمين 196
فصل: كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل
الوجوه لا بد أن يلتفت إلى أصلها في القرآن 197
المسألة السابعة: 198
العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام: 198
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من
الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله منه؛ كعلوم
اللغة العربية 198
التنبيه على علوم ليست كذلك وعدها من بعض
العلماء أنها معينة وتبيان خطئهم في ذلك 198
قسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من
حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما مثل دلالة البنوة،
وهو كونه معجزة لرسول الله, صلى الله عليه وسلم 199
قسم مأخوذ من عادة الله في إنزاله، وخطاب الخلق
به, ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيًّا
يدخل تحت نيل أفهامهم 200
اشتمال القرآن على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد
الفرعية والمحاسن الأدبية 200
ذكر الأمثلة على ذلك، وهي مهمة في بابها 200- 204
من ذلك: عدم المؤاخذة قبل الإنذار 200
والبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق 200
وترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل
المعاندين بالعذاب 200-201
وتحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي
يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره 201
والتأني في الأمور والجري على مجرى التثبت 201
والتأدب من العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالدعاء 202
آداب الدعاء القرآنية
منها: إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى 202
منها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام
بأمور العباد وإصلاحها 203
ومنها تقديم الوسيلة بين يدي الطلب 203(41/227)
ص -491-…قسم هو المقصود الأول بالذكر، وهو الذي نبه عليه
العلماء وعرفوه مأخوذًا من نصوص الكتاب منطوقها
ومفهومها على حسب ما أداه اللسان العربي 204
أجناس ثلاث من العلوم احتواها القرآن هي المقصود الأول: 204
أحدها: معرفة المتوجه إليه؛ وهو الله المعبود سبحانه 204
الثاني: معرفة كيفية التوجه إليه 204
الثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه 204
الأول: يدخل تحته من علم التوحيد توحيد الأسماء والصفات 205
الثاني: يدخل تحته علم العبادات والمعاملات 205
الثالث: يدخل تحته عذاب القبر والموت ويوم القيامة 205
تعريف الناس بالله 206
تعريف أحوال المستجيبين لدعوة الله 206-207
الحاصلة في علوم القرآن عند الغزالي سوابق ومتممات 206-207
المسألة الثامنة: 208
الظاهر والباطن في تفسير القرآن 208
التفسيرات الورادة في هذا واستدلال كل من أخذ
بتفسير للظاهر والباطن 208-214
تدبر القرآن 209-210
نفي الفقه والفهم عن الناس في القرآن 214
فصل: كل المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن
إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر 214
مثل المسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن
ظاهر القرآن 214
سرد مجموعة من الأمثلة المهمة على ذلك 215
وهو محصل إعجاز القرآن 217
كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب
بوصف العبودية، والإقرار لله بالربوبية، فذلك هو الباطن
المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله 218
تخريج حديث سبب نزول {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}
وهو قول اليهود لعنهم الله 218-220
حصول الباطن على التمام في المكلف 220
المنافق وتدبر الآيات 220-221
مسائل الحيل والإضرار وفهم باطن القرآن 221(41/228)
ص -492-…مسائل الابتداع كذلك 221-223
جملة القول في تحقيق المسألة 223
المسألة التاسعة: 224
كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردًا لا إشكال فيه 224
كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على
اللسان العربي، فليس من علوم القرآن في شيء،
لا مما يستفاد منه، ولا به 224-225
أمثلة ذلك وردها بالأدلة العقلية والنقلية ما أمكن 225-231
فصل: الباطن هو المراد من الخطاب ويشترط فيه
شرطان: 231
أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في
لسان العرب وتوضيح ذلك 232
الثاني: أن يكون له شاهد نصًّا أو ظاهرًا في محل
آخر من غير معارض 232
توضيح ذلك 232-233
بعض أمثلة من تفسيرات الباطنية وقبح ذلك 233
وكذلك الرافضة، وذكر مثل عن عربي أساء الفهم
كالباطنية 234
فصل: ما وقع في القرآن من التفاسير المشكلة،
مما يمكن أن يعد من الباطن الصحيح أو الفاسد 235
فواتح السور, أي: الحروف المقطعة، وما ورد في
تفسيرها وتخريج هذه النقول الشعرية والحديثية 235
الأعداد الجملية 238
كلمة جامعة حول تفسيرات الحروف المقطعة،
خصوصًا ما ادعي في معناها في السحر، وهو
مفصل في كلمات نافعة, إن شاء الله 240-241
فصل: بعض ما نقل عن سهل بن عبد الله
التستري من تفسيرات غريبة ومشكلة ومحاولة
توجيهها ومناقشة ذلك 242
فصل آخر في ذلك 245
التنبيه على عظم الأمر وسبب ذكر ما نقل عن
التستري وتوضيحه، والتنبيه على ما وقع من
الغزالي والباطنية 252
المسألة العاشرة:
الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة
للبصائر ضربان: 253(41/229)
ص -493-…أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن 253
الثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها 253
فصل: مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 255
المسألة الحادية عشرة: 256
ينبغي تنزيل السور المكية على بعضها البعض في الفهم
وكذلك المدني، وتنزيل المدني على المكي كل حسب
ترتيبه في النزول 256
التأكيد على رجوع المدني إلى مكي وأن فهمه من أسرار
علوم التفسير 257-258
فصل: وكذلك مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 258-260
المسألة الثانية عشرة: وهي مسألة مفيدة 261
أخذ تفسير القرآن على التوسط؛ والاعتدال هو فهم أكثر السلف261
ذم من أخذه بالتفريط كالباطنية أو بالتشديد بعيدًا عن أساليب
اللغة العربية أو بالتنطع في أساليبها غافلًا عن التفقه في
المعبر عنه في الكلام 261-264
المسألة الثالثة عشرة: 265
وهي مبنية على ما قبلها وهو معرفة الضابط المعول
عليه في مأخذ الفهم في التفسير على الاعتدال والتوسط 265
وفي الحاشية نوع تلخيص أو إعادة للمسألة السابقة 265
تبيان الموضوع وتوضيحه واعتماده على جمع الآيات وفهمها
بحسب مساقها وحسب نزولها وسبب نزولها 266
النزول القرآني له اعتباران من جهة تعدد القضايا ومن جهة
النظم 267
فهم اعتبار النظم القرآني في ترتيب القرآن مع تفرق نزول
السور والسورة الواحدة 268
السور المكية مقررة لثلاثة معانٍ: 269
أولًا: التوحيد ويأتي على وجوه 269
ثانيًا: تقرير النبوة 270
ثالثًا: إثبات أمر البعث والدار الآخرة 270
بيان ما افتتحت به سورة المؤمنون: 270
أولًا: بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها
رفعه الله وأكرمه 271
ثانيًا: بيان أصل التكوين للإنسان 271(41/230)
ص -494-…ثالثًا: بيان وجوه الإمداد من خارج بما يليق به في
التربية والرفق 271
سرد القصص الواردة في سورة المؤمنون 271-274
سبب ذكر قصص الأنبياء في القرآن 274
فصل: مآخذ القرآن في النظر على أن جميع سوره كلام واحد 274
مناقشة المصنف في ادعاء أن كلام الله -كله- كلام واحد
لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار وسياق المسألة 274
المسألة الرابعة عشرة:
القرآن ذم إعمال الرأي 276
التحذير من تفسير القرآن بالرأي 276-277
أقسام الرأي:
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة 277
سبب عدم جواز إهمال هذا القسم من الرأي 277-279
عدم قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من تفسير كثير
من الآيات 278
حمل أهل البدع تفسير القرآن بأهوائهم 278-279
الرأي غير الجاري على موافقة العرب أو غير الجاري على
الأدلة الشرعية 279-280
سرد أدلة على ذم هذا الرأي 280-282
فصل: فوائد ما سبق وتلخيص له من المصنف: 283
منها: التحفظ من القول في كتاب الله إلا على بينة 283
تبيان طبقات الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في
التفسير: 283
إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين 284
الثانية: من علم في نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم 284
الثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد 284
ومن الفوائد، من ترك النظر في القرآن واعتمد في ذلك على
من تقدمه ووكل إليه النظر فيه غير ملوم، وله في ذلك سعة
إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة 284
ومنها: أن يكون على بال من الناظر والمتكلم عليه أن ما
يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله 284-285(41/231)
ص -495-…الدليل الثاني: السنة 287
المسألة الأولى: تعريف السنة وإطلاقاتها الأربع 289
هل فعل الصحابي يطلق عليه ذلك؟ 290
تعزير شارب الخمر وحده 291
تضمين الصناع 291
الاستحسان والسنة 291-292
جمع القرآن وسنة الصحابة 292
المسألة الثانية: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار 294
الدليل الأول: قطعية الكتاب وظنية السنة 294
مناقشة المصنف في ادعائه أن السنة ظنية 294-295
الدليل الثاني: بيان السنة للقرآن أو زيادة على ذلك 296
مناقشة أخرى للمصنف في دليله الثاني 296-297
الدليل الثالث: ما ورد من الأحاديث والأخبار في ذلك 298
حديث معاذ وتخريجه تخريجًا موسعًا شاملًا لفقهه 298-307
سرد مجموعة أخرى من الأحاديث والآثار وتخريجها 307-308
الواجب والفرض عند الحنفية بالنسبة للكتاب والسنة 308-309
مناقشة الحنفية في ذلك
السنة قاضية على الكتاب 309
التقديم عند التعارض واختلاف العلماء في ذلك 310
توضيح معنى قضاء السنة على الكتاب 311
تبيان اختلاف الأصوليين عند التعارض 312-313
المسألة الثالثة: السنة راجعة في معناها إلى الكتاب 314
حصر المصنف السنة في بيان القرآن، ومناقشته في ذلك 314-316
القواعد دل القرآن عليها، وهل السنة كذلك؟ 316
تبيان استقلال السنة وأنها ليست بيانًا فقط 320
سرد الأدلة من القرآن والسنة والاستقراء العام 320-325
أن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم 325-326(41/232)
ص -496-…سرد مجموعة من الأدلة على ذم من أخذ بالقرآن دون
السنة وعمل بالقرآن برأيه 326-330
توضيح بعض أوجه ما تقدم وإرجاع وظيفة البيان للسنة دون
ما غيرها 331-339
المسألة الرابعة: 340
الأدلة القرآنية التي تأمر باتباع السنة 340
منها: ما هو عام وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على
صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها 340
ذكر أمثلة من فعل السلف على تطبيق هذا المعنى وتخريجها 340-342
ومنها: الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث في بيان ما أجمل
ذكره من الأحكام 343-345
ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود
في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح 346
أقسام المصالح الثلاث 346
أولها: الضروريات الخمس 347
حفظ الدين، والإسلام، والإيمان, والإحسان 347
وحفظ النفس ومعانيه الثلاثة 347-348
وحفظ النسل 348
وحفظ العقل 349
الحاجيات والتحسينيات 349
عودة إلى الضروريات الخمس مع التوسعة ورفع الحرج 350-351
ومنها: النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين
الواضحين ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع 352
توضيح النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين353
أمثلة على ذلك:
الطيبات والخبائث 354-357
والمشروبات حلالها وحرامها 358-361
الصيد من الجارح المعلم 361-364
صيد المحرم بالحج 364
الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن، وجاءت بينهما أمور
ملتبسة بينتها السنة 366-370(41/233)
ص -497-…النكاح والزنى ونكاح التحليل 370
ميتة البحر بين الصيد والأطعمة 371
القصاص وقتل الخطأ 374
ذكاة الجنين 375-376
إرث البنات 377
مجال القياس: أمثلة 379
الربا 379-382
النكاح: الجمع بين الأم وابنتها والأختين 383
الماء: الطهورية 383
الديات 383
الفرائض المقدرة 384
الرضاعة 385
تحريم مكة والمدينة 386-388
الشهادات، شهادة النساء 389
البيوع والإجارات 390
الرؤى الصالحة 391
ومنها: النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من
معانٍ مجتمعة 392
ومنها: النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن،
وإن كان في السنة بيان زائد 393
مناقشة حول هذه النقطة 393-394
مناقشة الأدلة في ذلك 395
حديث تطليق الحائض 395
وحديث سكنى المطلقة ثلاثًا ونفقتها 395
عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 396
تحريف كلام الله من اليهود 397
اتخاذ مقام إبراهيم مصلى 398
الدعاء 398
الصيام والفجر 398(41/234)
ص -498-…الصلاة الوسطى 399
الجنة والنار 400
الكبائر 401
اكتمال فهم القرآن بالسنة 401-402
فصل: تبيان أن القرآن يحوي أصل الدين وأن السنة بيان لها فقط 402
المسألة الخامسة: بيان السنة للقرآن فيما يتعلق بأفعال
المكلفين من جهة التكليف 406
أما ما يتعلق بالإخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا
نهي ولا إذن فعلى ضربين: 406
الضرب الأول: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن 406
ذكر أمثلة على ذلك وتخريجها 406-416
الضرب الثاني: أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف
اعتقادي أو عملي 417
المسألة السادسة: 419
السنة ثلاثة أنواع كما تقدم: قول وفعل وإقرار 419
الفعل والترك والكف 419
أوجه وقوع الترك: 423
الترك لأجل الكراهية طبعًا 423
الترك لحق الغير 423
الترك خوف فهم الافتراض من الناس 423
الترك لما لا حرج في فعله 424
ترك المباح الصرف إلى ما هو الأفضل 426
الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة
ذلك المطلوب 428
مناقشة الأوجه السابقة 429-434
فصل: الإقرار معناه: لا حرج في الفعل الذي أقره النبي
-صلى الله عليه وسلم- بسماعه أو برؤيته 434(41/235)
ص -499-…المسألة السابعة: 438
مقارنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للفعل أعلى درجات
التأسي 438
وأقل منه إذنه مع عدم فعله 440
المسألة الثامنة: 443
الإقرار وموافقة الفعل في مرتبة القول مع الفعل 443
المسألة التاسعة: سنة الصحابة سنة يعمل بها ويرجع إليها: 446
الدليل الأول: ثناء الله عليهم وتوضيح الدليل 447-448
الدليل الثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم
وتخريج ذلك 449-456
الدليل الثالث: أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح
الأقاويل 456
الدليل الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذمّ
من أبغضهم 462-463
المسألة العاشرة: 464
صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر انبنى
عليه تكليف، أو لم ينبنِ 464
خصائص النبي, صلى الله عليه وسلم 469
عصمة النبي, صلى الله عليه وسلم 470
علم الغيب 471
الاستدراكات 475
الموضوعات والمحتويات 477(41/236)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الخامس
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(42/1)
ص -7-…[بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]1
كتاب الاجتهاد:
وللنظر فيه [ثلاثة]2 أطراف.
أ- طرف يتعلق بالمجتهد3 من جهة4 الاجتهاد.
ب- طرف5 يتعلق بفتواه.
ج- وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "د".
2 زيادة في نسخة "ماء."
3 في "ط": "بالمجتهدين".
4 أي من جهة تنوعه إلى عام وخاص، ومن جهة ما يتحقق به الخاص من الوسائل، وما يصح فيه الاجتهاد وما لا يصح، وأسباب خطأ المجتهد، إلى غير ذلك "د".
5 هذه المرتبة متفرعة على ما قبلها، والطرف الثالث لا يبعد في مقصوده عن هذا الثاني. "د".(42/2)
ص -11-…المسألة الأولى:
الاجتهاد1 على ضربين:
أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد هو استفراغ الجهد وبذل غاية الوسع، إما في درك الأحكام الشرعية، وإما في تطبيقها، فالاجتهاد في تطبيق الأحكام هو الضرب الأول الذي لا يخص طائفة من الأمة دون طائفة، وهو لا ينقطع باتفاق، والاجتهاد في درك الأحكام هو الضرب الثاني الذي يخص من هو أهل له، وقد اختلفوا في إمكان انقطاعه، فقال الحنابلة: لا يخلو عصر من مجتهد، وقال الجمهور: يجوز أن يخلو، وهو مذهب المنصور؛ لأنه لا يلزم عنه محال لذاته، وللأدلة السمعية الكثيرة كقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا..." الحديث "د".
قلت: مضى تخريج الحديث "1/ 97"، وهو صحيح.
وانظر في تعريف الاجتهاد ومباحثه عند الأصوليين: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و20/ 202 و22/ 299، 230 و29/ 153"، و"مختصر الطوفي" "173"، و"مختصر البعلي "163"، و"شرح الكوكب المنير/ 4 458"، و"روضة الناظر" "2/ 401 - مع شرح ابن بدران"، و"الإحكام" "4/ 62" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 350"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 62"، و"كشف الأسرار" "4/ 14"، و"الإحكام" "1/ 41 و2/ 155" لابن حزم، و"شرح تنقيح الفصول" "429"، و"نهاية السول" "3/ 233"، و"الحدود" "64" للباجي، و"فواتح الرحموت" "2/ 362" و"إرشاد الفحول" "250".(42/3)
وانظر في إمكان انقطاعه: "جمع الجوامع"2/ 416"، و"التقرير والتحبير" "3/ 339"، و"تيسير التحرير" "4/ 240-241"، و"مسلم الثبوت" "2/ 399"، وشرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 308"، و"البحر المحيط" "6/ 209 وما بعدها" للزركشي، و"الإحكام" "4/ 233" للآمدي، و"إرشاد الفحول" "253"، و"المسودة" "472"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "191"، و"صفة الفتوى" "17" لابن حمدان، "والإمام أحمد بن حنبل" "ص395" لأبي زهرة.(42/4)
ص -12-…فأما الأول؛ فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق1 المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين2 محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وثبت عندنا معنى العدالة3 [شرعا افترقنا إلى تعيين من حصلت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "المنهاج": "تحقيق المناط هو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، أي إقامة الدليل على وجودها فيه، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم يختلفان في وجودها في التين حتى يكون ربويًا" ا. هـ. وهذا لا يلزمه أن تكون العلة فيه ثبتت بالنص أو الإجماع، بل بأي طريق من الطرق التسعة تثبت، كما أنه لا يندرج فيما يسمى قياسًا، بل هو مجرد تطبيق الكلي على جزئياته. "د".
وكتب "ف" و"م" هنا ما نصه: "تحقيق المناط عند الأصوليين أن يقع الاتفاق على كلية وصف بنص أو إجماع؛ فيجتهد الناظر في وجوده في صورة النزاع التي خفي فيها وجود العلة، كتحقيق أن النباش سارق؛ فالوصف -وهو السرقة- علم أنه مناط الحكم، وبقي النظر في تحقيق وجوده في هذه الصورة، قال الغزالي: "وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة"، والمصنف توسع فيه إلى [وفي "م": على] ما ترى".
قلت: انظر في ذلك: "الإحكام" "3/ 435" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 268"، و"تيسير التحرير" "4/ 42-43"، و"المحلي على جمع الجوامع" "3/ 293"، "3/ 293"، "والإبهاج" "3/ 57"، و"نشر البنود" "2/ 207"، و"إرشاد الفحول" "222"، و"شرح اللمع" "2/ 815"، و"مباحث العلة في القياس" "517"، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و22/ 329/ 330".
2 أي: في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواء أكان نفس الحكم ثابتًا بنص أم إجماع أم قياس. "د".(42/5)
3 وهي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، وملازمة التقوى تكون باجتناب الكبائر، والمروءة صون النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس، والشرط في الرواية والشهادة أدناها، وهو ترك الكبائر، وترك الإصرار على صغيرة، وترك الإصرار على ما يخل بالمروءة، هكذا عرفها الأصوليون، وعليه لا يدخل: "الطرف الآخر" الذي ذكره في جزئياتها، وهو ظاهر، وإن أوهم قوله: "وطرف آخر" غير ذلك؛ إلا أنه قوله: "في الخروج عن مقتضى الوصف" يكشف عن قصده، وهو أن =(42/6)
ص -13-…فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة]1 على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا؛ فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: "طرف أعلى" في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق، و"طرف آخر" وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها، و"بينهما" مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد.
فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد، كما2 إذا أوصى بماله للفقراء؛ فلا شك أن من الناس من لا شيء له، فيتحقق فيه اسم الفقر3؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من ثبت له مجرد كونه مسلمًا ولم ينقض وقت ما تحقق فيه بعد من اتصافه بالعدالة المحتاج إلى مدة يعرف فيها تجاه نفسه للخير أو الشر، مثل هذا ليس بعدل؛ إلا أنه أقل درجة في الخروج عن العدالة، ويزيد عنه في الخروج عنها من حد في كبيرة.. إلخ، ولو جعل الطرف الآخر أقل من تحقق فيه العدالة، ثم جعل بينه وبين عدالة أبي بكر مراتب كثيرة؛ لكان أوضح من هذا الصنيع الموهم، فإن أحد الطرفين من العدالة، والآخر خارج، وليس هذا مألوفا في التعبير عن الوسط والطرفين؛ فقوله: "وطرف آخر"؛ أي: خارج عنها، وقوله: "غامض"؛ أي: لا سيما في تطبيق الجزء الثاني من حد العدالة وهو المروءة. "د".
قلت: وقد ناقش الصنعاني التعريف الذي ذكره الشارح لـ"العدالة"-وهو ما درج عليه الأصوليون وأصحاب المصطلح- نقاشًا قويًا في كتابه "ثمرات النظر"، انظره بتعليقنا، أما المروءة وحدها وخوارمها، فينظر "المروءة وخوارمها" بقلمي، وينظر أيضًا: "توضيح الأفكار" "2/ 119، 149"، و"الاختيارات العلمية" لابن تيمية "356-357"، و"الإضافة، دراسات حديثية" "ص11-86".
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبته من "ط" والنسخ المطبوعة.(42/7)
2 ولعله: "وكما". "ف". وأثبتها "م" بالواو.
3 إنما يتمشى كلامه في هذا المقام على رأي المالكية، من أن الفقير هو من يملك قوت عامه، والمسكين من لا يملك شيئًا، وهذا إذا ذكرا معًا، فإذا افترقا -كما هنا- اجتمعا؛ فالفقير هنا يشملها معًا، فالصورة الأولى وهي من لا شيء له من كسب ولا مال يتحقق فيها الوصف العام؛ =(42/8)
ص -14-…من أهل الوصية، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا، وبينهما وسائط؛ كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له؛ فينظر فيه: هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات؛ إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق1، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها؛ فلا يمكن أن يستغنى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهادي2 أيضا، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات، وقيم المتلفات.
ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص3 على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فدخولها في الوصية ظاهر، والصورة الثانية من عنده كسب أو مال يكفيه حاجاته طول العام، وإن لم يبلغ المال نصابًا، وخروجه عن الوصية ظاهر، والصورة الثالثة من له كسب أو مال ولو كان زائدًا عن النصاب لكنه يضيق عن حاجاته؛ فهذا محل نظر؛ لأن الحاجات تختلف، فقد يعد بعض الناس فقد شيء من المعيشة ضيقًا وحرجًا، وقد لا يعده الآخر شيئًا مطلقًا ولا يخطر بباله فقده، وما جرى عليه كلامه غير ما عليه الحنفية من اعتبار النصاب وعدمه في الفقر والغنى، وهم لا يعتبرون الكسب أيضًا، والشافعية كالمالكية في اعتبار الكسب، ولكنهم ينظرون في ضابط الغنى بالمال إلى ما يكفيه عمره الغالب من تلزمه نفقته. "د".(42/9)
1 النظر إلى حالهما معًا هو مذهب مالك، وقوله: "وحال الوقت" يرجع إلى ما قبله؛ لأن النظر في حالهما معتبر فيه الوقت، فليس زائدًا على ما تقرر في الفروع. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "اجتهاد".
3 في "ماء": "تقضي".(42/10)
ص -15-…الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين؛ فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه1 من الطرفين؛ فالأمر أصعب، وهذا كله بين لمن شدا2 في العلم، ومن القواعد3 القضائية "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"4؛ فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة -بل لا يمكنه توجيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بشبهة".
2 أي: أحسن منه طرفًا، والشدو: كل شيء قليل من كثير، والشادي: الذي يتعلم شيئًا من العلم والأدب والفتيا ونحو ذلك. "ف". ومن الخطأ "الشادِّين" بتشديد الدال.
3 في "ماء": "الفوائد".
4 ويروى على أنه حديث نبوي، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني عن الفريابي ثنا سفيان عن نافع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعي رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة به"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي".(42/11)
قلت: وأخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة...، رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، رقم 2668، وكتاب التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}، رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي"، وذكرها من أخطاء سفيان أو الفريابي؛ فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، انظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641"، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث بهذا اللفظ: "ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة".
وبسط ذلك تلميذه ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص87-88"، "110-111" ط العسكري" بكلام ماتع نافع؛ فقف عليه غير مأمور.(42/12)
ص -16-…الحجاج ولا الطلب1 الخصوم بما عليهم- إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه، وهو أصل2 القضاء، ولا يتعين ذلك بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة، وهو تحقيق المناط بعينه.
فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومُفْتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه؛ فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوًا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة؛ فلا بد من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تفسير لما قبله؛ فإن معناه أنه لا يمكنه إدارة المحاجة بين الطرفين بدون ما ذكر. "د". وي "ط": "توجيه الحجج".(42/13)
2 قال في "تبصرة الحكام" في القسم الثاني من الركن السادس في كيفية القضاء "1/ 98: "إن علم القضاء يدور على معرفة المعي من المدعى عليه؛ لأنه أصل مشكل، وأنهم لم يختلفوا في حكم كل منهما، ولكن الكلام في تمايزهما، ولهم في تحديدهما عبارات كثيرة: منها أن الأول من إذا ترك الخصومة ترك، أو من لا يستند قوله إلى مصدق، أو من لا يكون قوله على وفق أصل أو عرف، والثاني ما ليس كذلك؛ غير أن الأنظار تضطرب لتعارض الأحوال من عرف أو غالب أو أصل وهكذا، مثاله يتيم بلغ رشيدًا طلب من الوصي تسليمه ماله الذي تحت يده؛ فاليتيم طالب، وإذا ترك ترك، والأصل أمانة الوصي على مال اليتيم؛ فهذا كله يفهم منه أن اليتيم هو المدعي، والوصي مدعى عليه، ولكن الوصي أيضًا مدعٍ أنه سلم المال، واليتيم مدعى عليه التسلم، ومعلوم اختلاف الحكم باختلاف الاعتبارين، وما حل الإشكال إلا الرجوع لآية: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] التي يؤخذ منها أن الوصي لا يؤتمن في التسليم إلا بالإشهاد، وإن كان مؤتمنًا في نفس الإنفاق، وبذلك كان مجرد قوله: "سلمت" دعوى على اليتيم بلا بينة، واليتيم هو المدعى عليه؛ فيحلف اليمين ويستحق المال، قال القاضي شريح: "وَلِيت القضاء وعندي أني لا أعجز عن معرفة ما يتخاصم فيه إليَّ، فأول ما ارتفع إلى خصمان أشكل على من أمرهما من المدعي ومن المدعى عليه؟" ا. هـ. ملخصًا.(42/14)
ص -17-…تحقق له مناط الحكم؛ فأجراه عليه، وكذلك سائر تكليفاته، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد.
وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة؛ كالمثل في جزاء الصيد، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وهذا ظاهر في اعتبار المثل؛ إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول؛ ككون الكبش مثلا للضبع، والعنز مثلا للغزال، والعناق1 مثلا للأرنب، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية، والشاة مثلا للشاة من الظباء، وكذلك الرقبة الواجبة2 في عتق الكفارات، والبلوغ3 في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة؛ فلا بد من هذا الاجتهاد4 في كل زمان؛ إذ لا يمكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح أوله: دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد، ويأكل اللحم، وهو من السباع. "ف".
2 فقد ضبطها الأولون بأن تكون سليمة من مثل الشلل والعور والبكم. "د".
3 كما ضبطوا بلوغ الأنثى بالحيض وما معه، وبلوغ الذكر بالإنزال وما معه. "د".(42/15)
4 قال في "المنهاج" بصدد اعتراضه على بعض حدود الاجتهاد: "ويدخل فيه ما ليس باجتهاد في عرف الفقهاء؛ كالاجتهاد في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجهة القبلة، وطهارة الأواني والثياب" ا. هـ. فقد أخرج هذه الأمثلة وكلها من باب تحقيق المناط عن أن تكون اجتهادًا =(42/16)
ص -18-…حصول التكليف1 إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد؛ لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما أنه غير ممكن عقلا، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلافًا لصنيع المؤلف، وفي "إحكام الآمدي" ما يوافق طريقة المؤلف؛ فقد جعل تعرُّف شخص القبلة، وتعرف عدالة الشخص الفلاني من باب الاجتهاد وتحقيق المناط بعد ما عرفه بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، ومثل له أيضًا بالنظر في وجود علة شرب الخمر وهي الشدة المطربة في نوع النبيذ؛ فأنت ترى الآمدى قد أدخل هذه الصور في تحقيق المناط وجعله عامًا في الأشخاص والأنواع كما صنع المؤلف حيث يقول: "وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد إذا كان متوجهًا على الانواع". "د".(42/17)
1 أي: لا يمكن توجه الخطاب إلا به، وتكون هذه دعوى دليلها ما بعدها، أو تجعل دليلًا للملازمة بعدها، ويكون المراد بحصوله حصول المكلف به مع قصده ونيته، أي: لا يتأتى امتثال التكليف إلا بمعرفة المكلف به وهي لا تكون إلا بهذا الاجتهاد، وهذا شرط لإمكان الامتثال وفقده رافع لهذا الإمكان؛ فيكون التكليف مع عدم إمكان الامتثال تكليفا بالمحال، والتكليف بالمحال غير واقع شرعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا، وإنما يتم هذا بناء على أنه من باب تكليف المحال الراجع إلى المأمور لا إلى المأمور به، فهو نظير ما قيل في تكليف الغافل وأنه محال؛ لأن التكليف يعتمد العلم بالأمر وبالفعل المأتي به، وما نحن فيه -ما لم يحصل الاجتهاد المذكور- لا يحصل العلم بالمأتي به، أما التكليف بالمحال الذي يرجع المحال فيه إلى المأمور به وهو تكليف ما لا يطاق؛ فقد جعلوه خمسة أقسام: محال لذاته، ومحال للعادة، ومحال لطروء مانع كأمر المقيد بالمشي، وصححوا جواز التكليف بهذه الثلاثة وإن لم تقع، والرابع انتفاء القدرة عليه حالة التكليف مع وجودها حالة الامتثال، كما هو شأن جميع التكاليف عند الأشعري؛ لأن القدة عليه مقارنة للفعل، والخامس أن يكون عدم القدرة لتعلق علم الله بعدم حصوله كإيمان أبي جهل، وهذان واقعان، وبهذا اتضح كلام المؤلف. "د".
قلت: انظر بسط ذلك في "المسوَّدة" "80"، و"مختصر الطوفي" "11"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 484"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"المستصفى" "1/ 86"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 9"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 206 - مع حاشية البناني"، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"روضة الناظر" "1/ 18 - مع شرح ابن بدران"، و"القواعد والفوائد الأصولية" "57"، و"فواتح الرحموت" "1/ 123، 132"، و"إرشاد الفحول "9".(42/18)
ص -19-…أوضح دليل في المسألة.
وأما الضرب الثاني، وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع؛ فثلاثة1 أنواع:
أحدها: المسمى بتنقيح المناط2، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد يكون في كل ما دليله ظني من الشرعيات؛ فيكون في دلالات الألفاظ كالبحث عن مخصص العام، والمراد من المشترك وباقي الأقسام التي في دلالتها عى المراد خفاء، من المشكل والمجمل.... إلخ، كما يكون في الترجيح عند التعارض، إلى غير ذلك، وسيأتي للمؤلف كلام في مجال الاجتهاد؛ فقارنه بما هنا، وتأمل وجه حصره هنا فيما ذكره من تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه، وما بناه على ذلك من حصر ما يمكن انقطاعه فيما ذكره في الضرب الثاني. "د".
2 تنقيح المناط عندهم أن يدل نص ظاهر عل التعليل بوصف، أو يكون أوصاف في محل الحكم دل عليها ظاهر النص؛ فيجتهد الناظر في حذف خصوص الوصف أو بعضها، وينيط الحكم بالأعم أو بالباقي، وحاصله الاجتهاد في الحذف والتعيين، ويمثل له بحديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة"؛ فإن أبا حنيفة ومالكًا رضي الله عنهما حذفا خصوص المواقعة، وأنا الكفارة بمطلق الإفطار، كما حذف الشافعي رضي الله عنه غيرها من أوصاف المحل؛ ككون الواطئ أعرابيًا، وكون الموطوءة زوجة، وكون الوطء في القبل من الاعتبار وأناط الكفارة بها. "ف".
قال "ماء": "التنقيح مأخوذ من تنقيح النخل، وهو إزالة ما يستغنى عنه وإبقاء ما يحتاج إليه، وكلام منقح لا حشو باطنًا، ولا في الظواهر" ا. هـ.(42/19)
قلت: وحديث الأعرابي المذكور أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1937/ 2600، 5368، 6087، 6164، 6710، 6709، 6711، 6821"، ومسلم في "الصحيح" "2/ 871-783/ رقم 1111"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2390، 2393"، والترمذي في "الجامع" "رقم 724"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1671"، والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "التحفة" "9/ 327"، وأحمد في "المسند" "2/ 241، 516" عن أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر الهامش الآتي.
وانظر: تنقيح المناط في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 478، 19/ 14-17، 22/ =(42/20)
ص -20-…الحكم مذكورا مع غيره في النص؛ فينقح بالاجتهاد، حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى، كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره1.
وقد قسمه2 الغزالي إلى أقسام ذكرها في "شفاء الغليل"3، وهو مبسوط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
330، 21/ 326-329، 547، 34/ 122"، - ويبن أن الصواب أنه ليس من باب القياس-، و"المسودة" "387 "، و"مختصر الطوفي" "146"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 203"، و"روضة الناظر" "277"، و"المستصفى" "2/ 231"، و"شفاء الغليل" "412"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"نهاية السول" "3/ 74"، و"الإبهاج" "3/ 56"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 292"، و"تيسير التحرير" "4/ 42"، والمحصول" "2/ 2/ 315"، والتلويح على التوضيح "2/ 580"، ومفتاح الوصول" "147"، و" المحصول" "2/ 315"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 580"، و"مفتاح الوصول" "147"، و"نشر البنود" "2/ 204"، و"إرشاد الفحول" "221"، و"مباحث العلة في القياس" "507" وما بعدها".
1 حديث الأعرابي مضي تخريجه في الهامش السابق، ولفظه -كما عند أحمد في الموطن الثاني: عن أني هريرة؛ أن أعرابيًا جاء يلطم وجهه، وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلا قد هلكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أهلكك؟". قال: أصبت أهلي في رمضان. قال: "أتستطيع أن تعتق رقبة؟". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تطعم ستين مسكنًا؟". قال: لا. وذكر الحاجة، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزنبيل -وهو المكتل فيه خمسة عشر صاعًا- أحسبه تمرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الرجل؟". قال: "أطعم هذا". قال: يا رسول الله! ما بين لابتيها أحد أحوج منا أهل بيت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: "أطعم أهلك".
2 قسموه باعتبار طرق الحذف إلى أربعة أنواع:(42/21)
أ- ما بين إلغاء بعض الاوصاف بثبوت الحكم بالباقي في محل آخر؛ فيلزم استقلال ا لمستبقي وعدم جزئيه المغلى.
ب- وبكونه مما علم إلغاؤه مطلقًا في أحكام الشارع، كالاختلاف بالطول والقصر والسواد والبياض؛ فلا يعلل بها حكم أصلًا.
ج- أو علم إلغاؤه في هذا الحكم المبحوث عنهه؛ كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق. =(42/22)
ص -21-…في كتب الأصول، قالوا: وهو خارج عن باب القياس، ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره1 القياس في الكفارات، وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظاهر.
والثاني: المسمى بتخريج2 المناط، وهو راجع إلى أن النص الدال على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= د- أو ألا يظهر للوصف المنظور في حذفه مناسبة بينه وبين الحكم بعد البحث عنها؛ قال في "المنهاج" "2/ 705 - مع شرح الأصفهاني": "قال في" "المحصول" "5/ 230": إن هذا- أعني المسمى بتنقيح المناط الذي يبين به إلغاء الفارق -طرق جيد؛ إلا أنه بعينه طريق السبر والتقسيم من غير تفاوت، هذا وفي أصول الحنفية أنهم لم يقبلوا الطريق الرابع منه، وما قيل إنه هو السبر والتقسيم بعينه هو قول الفخر الرازي، ورد بالفرق الظاهر؛ فالسبر لتعيين العلة استقلالًا أو اعتبارًا، والتنقيح لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلة، قال الصفي الهندي: الحق أنه قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس؛ فالقياس إما بذكر الجامع، أو بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وكذا لا مدخل له في العلية كما في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، يقال: لا فرق إلا الذكورة، وهي ملغاة اتفاقًا، ولما قال الغزالي: لا نعرف خلافًا في جواز تنقيح المناط؛ رد عليه العبدري بأن الخلاف ثابت بين مثبتي القياس ومنكريه لرجوعه للقياس، وهذا ولما قسموا القياس إلى قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل؛ قالوا: إن هذا هو القياس بنفي الفارق". "د".
3 انظر منه: "ص428 وما بعدها".
1 قال الآمدي: "وهذا الضرب وإن أقر به أكثر منكري القياس؛ فهو دون الأول، أعني تحقيق المناط. "د".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "وسماه استدلالًا وفرق بينه وبين القياس بأن القياس ما كان الإلحاق فيه بجامع يفيد غلبة الظن، والاستدلال ما كان بجامع يفيد القطع".(42/23)
2 وذلك كالاجتهاد في إثبات أن الشدة المطربة هي علة حرمة الخمر مثلًا بمسلك من مسالك العلة المعتبرة، وككون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص حتى يقاس على ذلك كل ما سواه؛ فهو نظر واجتهاد في معرفة علة حكم دل النص أو إجماع عليه دون علته، وهذا في الرتبة دون سابقيه، ولذا أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من البغداديين المعتزلة.
قال"ماء": "المناط؛ بفتح الميم: من الإناطة، وهي تعليق الشيء على الشيء وإلصاقه به، قال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم…كما نيط خلف الراكب القدح الفرد(42/24)
ص -22-…الحكم لم يتعرض للمناط؛ فكأنه أخرج بالبحث، وهو الاجتهاد1 القياسي، وهو معلوم.
والثالث: هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر؛ لأنه2 ضربان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال أبو تمام:
بلاد بها نيطت علي تمايمي…وأول أرض مس جلدي ترابها
أحب بلاد الله ما بين منعج…إلي وسلمًا أن تصوب سحابها
وسمي به؛ لأن العلة ربط بها الحكم وعلق عليها. قاله [في] "نشر البنود" [2/ 204]".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "تخريج المناط هو إبداء ما نيط به الحكم، أي استنباطه وتعيينه بإبداء مناسبة بينه وبين الحكم مع الاقتران بينهما، والسلامة من القوادح؛ كاستنباط الإسكار في حديث مسلم: "كل مسكر حرام" بالنظر في الأصل, وحكمه ووصفه، فإن مجرد النظر في ذلك يعلم منه أن الإسكار لإزالته العقل حفظه، مناسب للحرمة، وقد اقترن بها، وسلم من القوادح" انتهى.
قلت: مضى تخريج حديث "كل مسكر حرام" في "4/ 34"، وهو صحيح.
وانظر في تخريج المناط: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 17-18 و22/ 337".
و"روضة الناظر" "278"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 200-202"، و"مختصر الطوفي" "146"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 58"، و"تيسير التحرير" "4/ 43"، و"شرح تنقيح الفصول" "389"، و"شرح العضد" "2/ 239"، و"مباحث العلة في القياس" "516-517".
1 هو بعضه، وإلا، ففي نوع القياس ذي العلة المنصوصة أو المجمع عليها لا يزال الاجتهاد القياسي موجودًا، وإن لم يدخل في مسمى تخريج المناط. "د".(42/25)
2 لعل الأصل: "إلا أنه"؛ أي: إن هذا القسم من تحقيق المناط ضربان: ما يرجع للأنواع، وما يرجع للجزئيات، لكن بالمعنى الخاص الذي سيفيض الكلام فيه، وهذان حكمهما حكم القسمين الأولين، يجوز انقطاعهما ولا يؤدي إلى ممنوع، وأما ما يرجع للجزئيات لكن بالمعنى العام الذي يستوي فيه المكلفون وينظر إليهم بنظر واحد، فهذا لا يجوز انقطاعه كما تقدم له هذا تخليص كلامه. "د".(42/26)
ص -23-…أحدهما: ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص، كتعيين1 نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات، وما أشبه ذلك، وقد تقدم التنبيه عليه.
الضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه، فكأن تحقيق2 المناط على قسمين:
- تحقيق عام، وهو ما ذكر.
- وتحقيق خاص من ذلك العام.
وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلًا، ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له، أوقع3 عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات4 العامة أو الخاصة وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء5 غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.
أما الثاني، وهو النظر الخاص، فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" و"ف" و"م": "كتعين"، والمثبت من الأصل و"ماء" و"ط".
2 أي: في الجزئيات كما أشرنا إليه. "د".
3 في "م": "أو وقع".
4 في "ط": "للولاية".
5 أي: مما سيشير إليه بقوله: "يعرف به النفوس ومراميها.. إلخ"، أي التي هي المعارف المتعلقة بطب النفوسن وهي وظيفة مشايخ الطريق في الزمن السابق، ويظهر أنه تحقق ما يريد المؤلف الاستدلال على إمكانه، وهو خلو الزمن عن أصحاب هذا الاجتهاد. "د".(42/27)
ص -24-…ناشىء عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}1. [الأنفال: 29].
وقد يعبر عنه بالحكمة، ويشير إليها قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
قال مالك: "من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]2.
وقال أيضًا: "إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد"3.
وقال أيضًا: "الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد"4.
وقال: "أيضًا يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله"5.
وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوى؛ فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.
وعلى الجملة، فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هداية ونورًا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل. "ماء".
2 أورد نحوه عن مالك القرطبي في "التفسير" "7/ 396"، وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدراك" "1/ 186 - ط بيروت".
3 أورده القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 186".
4 أورده القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186"، وذكر المصنف عن مالك نحوه "1/ 105"، وخرجناه هناك، وفاتنا عزوه للدوري فيما رواه الأكابر "ص62" ولأبي نعيم "6/ 319".
5 أورد القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186".(42/28)
ص -25-…الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها1 هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره2.
ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئًا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه3 في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدًا أو قيودًا لما ثبت له في الأول بعض القيود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "يلتقيها".
2 فكل منها لا يدخله العجب به، والرياء، والسمعة، والاعتماد على العمل، وهكذا من تحميل النفس فيهما ما لا قدرة لها عليه؛ فيدخل بذلك في الضرر أو الحرج، فهذه القيود تخلص له العمل من تلك الشوائب. "د". وفي "ط": "المنحتم من غيره".
3 فتحقيق المناط العام المتقدم يلاحظ في هذا الخاص أيضًا؛ فمرتبة هذا الخاص تأتي بعد تحقيق العام في الشخص الذي ينظر فيه بالنظر الخاص، فلو لم يكن ممن ينطبق عليهم تعلق التكليف من الوجهة العامة بهذا النوع من العمل، لا يكون هناك محل للنظر الخاص في أنه يناسبه أو لا يناسبه.. إلخ "د".(42/29)
ص -26-…هذا معنى تحقيق المناط هنا.
وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد، فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه، وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط، فيكون مندرجًا تحت مطلق الدلالة عليه، ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه؛ فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله.
فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة، عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل1، ففي "الصحيح" أنه عليه الصلاة والسلام سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله". قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قال: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"2.
وسئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". قال: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء" "التفصيل" بالصاد المهملة.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، 1/ 77/ رقم 26، وكتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، 3/ 381/ رقم 1519"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 88/ رقم 83" عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمذكورة لفظ مسلم، وزاد البخاري: "إيمان بالله ورسوله"، ولذ قال مسلم عقبه: "وفي رواية محمد بن جعفر قال: "إيمان بالله ورسوله".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، 6/ 3 رقم 2782"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" عن ابن مسعود رضي الله عنه.(42/30)
ص -27-…وفي النسائي عن أبي إمامة، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمر آخذه عنك. قال: "عليك بالصوم، فإنه لا مثل له"1.
وفي الترمذي: [سئل] أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات"2.
وفي "الصحيح" في قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له".... إلخ،
قال: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" الحديث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب.. 4/ 165-166"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 5" وأحمد في "المسند" "5/ 248-249، 255، 258"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 7899"، والطبراني في "الكبير" "رقم 7463، 7464، 7465"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1893"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 211، 212، 213/ رقم 3425، 2426 - الإحسان ورقم 929، 930 - موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 421"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "رقم 1723" عن أبن أمامة، وإسناده صحيح.
وفي "ماء": "لا مثيل له".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعاء، باب منه، 5/ 458/ رقم 3376"، وأحمد في "المسند" "3/ 75"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 981"، والبغوي في "شرحة السنة" "5/ 17/ رقم 1246، 1247" من طريق ابن ليهعة عن دراج أبي السمخ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، ولفظه: "أي العباد"، وليس: "أي الأعمال".
قال الترمذي: "وهذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث دراج".
قلت: في رواية دراج عن أبي الهيثم ضعف، ولذا الحديث ضعيف، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 670".
ويغني عنه ما في "صحيح مسلم" "رقم 2676" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبق المفردون". قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذكرات". ولا يوجد فيه السؤال عن أفضل الأعمال ونحوه.(42/31)
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، 11/ 201/ =(42/32)
ص -28-…وفي النسائي: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"1.
وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: "دعاء المرء لنفسه"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 6403" عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسن، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه".
وفي "صحيح مسلم" "17/ 17-18 - بشرح النووي" عنه مرفوعًا: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه".
وفي رواية لأبي داود في "سننه" "رقم 5091": "سبحان الله العظيم وبحمده".
وانظر: "سلاح المؤمن" "ص271" لابن الإمام، و"الأذكار" للنووي: "1/ 220" تحقيق الأخ سليم الهلالي.
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، رقم 3370"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، رقم 3829" والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 712"، والطيالسي في "المسند" "1/ 253 - منحة"، وأحمد "2/ 362"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 151-152/ رقم 870 - الإحسان"، والطبراني في "الأوسط" "3/ 252-253/ رقم 2544"، وفي "الدعاء" "رقم 28" من طريق عمران القطان عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمران".
قلت: إسناده حسن من أجل عمران القطان، وباقي رجاله ثقات، وفي عزو المصنف للنسائي نظر، بل هو خطأ، إذ لم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "9/ 466/ رقم 12938"، ولا ابن الإمام في "سلاح المؤمن" "رقم 10"، ولا النووي في "الأذكار" "رقم 1166".(42/33)
2 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 715"، والحاكم في المستدرك "1/ 543"، والبزار في "المسند" "4/ 51/ رقم 3173، 3174 - زوائده" من طريق مبارك بن حسان عن عطاء عن عائشة به. وإسناده ضعيف؛ لضعف المبارك بن حسان، انظر: "تهذيب التهذيب" "10/ 26" و"الكامل في "الضعفاء" "6/ 2324".
وفي "ماء": "أي العبادات أفضل؟!".(42/34)
ص -29-…وفي الترمذي: "ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن"1.
وفي البزار: "يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم 2003"، والطبراني في "من اسمه عطاء من رواة الحديث "رقم 13" من طريق طريف بن مطرف، وأحمد في "المسند" "6/ 442"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 468"-ولم يسق لفظه، وأبو نعيم "في الحلية" "7/ 107" من طريق الحسن بن مسلم، كلاهما عن عطاء الطيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به، وإسناده صحيح.
ورواه عن عطاء بنحوه: القاسم بن أبي بزة، وأخرجه من طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، رقم 4799"، وابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 516"، وأحمد في "المسند" "6/ 446/ 448"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 270"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص9"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 173"، وتابع عطاء: يعلى بن مملك كما عند عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20157"، وا لترمذي في "الجامع" "رقم 2002"، وأحمد في "المسند" "6/ 451"، والبزار في "المسند" "رقم 1975 - زوائده" والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3496"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 172"، والحديث صحيح.
2 أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 2"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 53/ رقم 3298"، والبزار في "المسند" "4/ 220/ رقم 3573 - زوائده"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 554"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 191"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 7099" من طريق بشار بن الحكم عن ثابت البناني عن أنس مرفوعًا.(42/35)
إسناده ضعيف، بشار بن الحكم، قال أبو زرعة: "شيخ بصري منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًّا، ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه كأنه ثابت آخر، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب" ومنه تعلم ما في قول الهيثمي في "المجمع" "8/ 22": "ورجال أبي يعلى ثقات"! وكذا قول البوصيري -كما في هامش "المطالب العالية" "رقم 2540": "ورواته ثقات".
وأخرج نحوه هناد في "الزهد" "رقم 1129"، وابن أبي الدنيا في "المصنف" "رقم 646" تعن الشعبي مرسلًا، وإسناده ضعيف، فيه مبهم وضعيف.(42/36)
ص -30-…وفي مسلم: أي المسملين خير؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"1.
وفيه: سئل: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"2.
وفي "الصحيح": "وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 40 بعد 64" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، 1/ 54/ رقم 11"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 66" عن أبي موسى بلفظ: "أي الإسلام أفضل؟".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، 1/ 55/ رقم 12، وباب إفشاء السلام من الإسلام، 1/ 82/ رقم 28"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 39 بعد 63" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" عن أبي سعيد مرفوعًا، وهو جزء في آخر الحديث.(42/37)
ص -31-…وفي الترمذي: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"1.
وفيه: "أفضل العبادة انتظار الفرج"2.
إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة3 إلى الوقت أو إلى حال السائل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، 9/ 74/ رقم 5027، 5028"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن، 5/ 173/ رقم 2907"، وأبو داود في "كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم 1452"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 61"، وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه.
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 565/ رقم 3571"، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" "رقم 2" و"القناعة والتعفف" رقم 79، والطبراني في الكبير "10/ 124" رقم 188، والدعاء "رقم 22"، والأوسط "2/ ق15/ أ" من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن إبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحب أن يُسأَل وأفضل...".
قال الطبراني: "ولم يَرْوِ هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا إسرائيل، تفرد به حماد بن واقد، ولا يروى عن ابن مسعود إلا بهذا الإسناد"، وقال الترمذي عقبه: "هكذا روى حماد بن واقد في هذا الحديث، وقد خولف في روايته، وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ، وهو عندنا شيخ بصرى، وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل"، قال: "وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح".
قلت: وحكيم بن جبير متهم، وإن كان الأصح في حديثه الإرسال: فالحديث ضعيف جدًا.(42/38)
وورد عن ابن عمر وابن عباس وأنس وعلي بلفظ: "انتظار الفرج بالصبر عبادة"، وطرقه كلها معلولة، ومدارها على كذابين ووضاعين؛ إلا حديث علي فهو ضعيف جدًا، انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1572، 1573".
3 فهو من تحقيق المناط وتعيين الصورة التي توجد فيها الأفضلية بالنسبة للوقت أو السائل. "د".(42/39)
ص -32-…وقد دعا1 عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه.
وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله2 الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"3.
وقال لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تَأَمَّرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم"4.
ومعلوم أن كلا العملين5 من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله وقد قال في الإمارة والحكم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" الحديث6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب قول الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِم} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والوالد مع البركة، 11/ 182/ رقم 6378، 6379، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة، 11/ 183/ رقم 6380، 6381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في الناقلة.... 1/ 458/ رقم 660، وكتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس رضي الله عنه 4/ 1928/ رقم 2480" عن أم سليم رضي الله عنهما.
2 أي: ولم يقبل الإرشاد لما يناسب نفسه، ونزل فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]؛ فكان هذا من معجزات علم الغيب. "د".
قلت: لم يثبت ذلك كما قال المحققون من علماء الحديث.
3 مضي تخريجه "2/ 448"، وهو ضعيف.
4 مضى تخريجه في "2/ 448"، وفي الأصل: "ولا تَلِيَنَّ مال يتيم".
"5" في "ط": "كلًّا من العملين".(42/40)
"6" تتمة الحديث: "وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل 3/ 1458/ رقم 1827 والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب فضل الحاكم العادل في حكمه، 8/ 221"، والحميدي في "المسند" "2/ 268/ رقم 588"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1484"، والآجري في "الشريعة" "ص322"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 66" ومن طريقه البغوي في "التفسير" "2/ 93، "وشرح السنة" "10/ 63"، والبيهقي في "السنن الكبرى "10/ 87" والهروي في "الأربعين في دلائل التوحيد" رقم "16"، وأبو نعيم في "فضيلة العادلين" "رقم 13 بتحقيقي" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(42/41)
ص -33-…وقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح.
وفي "أحكام إسماعيل بن إسحاق" عن ابن سيرين؛ قال: كان أبو بكر يخافت، وكان عمر يجهر -يعني: في الصلاة؛ فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقظ الوسنان، وأخسأ الشيطان، وأرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: "ارفع شيئا" وقيل لعمر: "اخفض شيئا"2 وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد3 إخراج كل واحد منهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "3/ 294".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، رقم 447"، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "4/ 30-31/ رقم 919" والتفسير" "4/ 190"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، رقم 1329"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1161" ومن طريقه ابن حبان في "الصحيح" "3/ 6-7/ رقم 733 - الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 310" من طريق يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة مرفوعًا بنحوه، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة، وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلًا".
قلت: يحيى ثقة، وقد وصل الحديث؛ فوصله من باب زيادة الثقة إن شاء الله تعالى؛ فهذه علة لا تضر، ولا سيما أن له شاهدًا عن أبي هريرة، عند أبي داود في "السنن" "رقم 1330" بإسناد حسن، وعن علي عند أحمد في "المسند" "1/ 109"، ورجاله ثقات، وانظر: "التهجد" لعبد الحق الإشبيلي "ص 166".
وفي "د": "وقيل لعمرو"، والصواب: "لعمر".(42/42)
ص -34-…عن اختياره وإن كان قصده صحيحًا.
وفي "الصحيح": أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "وقد وجدتموه؟" قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان"1.
وفي حديث آخر: "من وجد من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت بالله"2.
وعن ابن عباس في مثله؛ قال: "إذا وجدت شيئا من ذلك فقل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحديد: 3]3. فأجاب4 النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة، وأجاب ابن عباس بأمر آخر والعارض من نوع واحد.
وفي "الصحيح": "إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها 1/ 119/ رقم 132" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في رد السنة 4/ 329/ رقم 5110"، واللالكائي -مختصرا- في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "5/ 920/ رقم 1663"، وإسناده حسن: انظر: "صحيح سنن أبي داود" "3/ 962/ رقم 4262".
4 أقول: وأجاب من سأله عن المباشرة للصائم بالمنع، وأجاب آخر بالجواز، ثم ظهر أن الأول شاب والثاني شيخ. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 1/ 79/ رقم 27، وكتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3/ 340-341/ رقم 1478"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان: باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه 1/ 132/ رقم 150" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(42/43)
ص -35-…وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قومًا، ووكل قومًا إلى إيمانهم1 لعلمه بالفريقين، وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله2، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك"3، وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب؛ فردها في وجهه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم" يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 251/ رقم 3150" عن عبد الله بن مسعود؛ قال: "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة؛ فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، فآثرهم يومئذ في القسمة".
وما أخرجه البخاري أيضًا في الكتاب والباب نفسه "رقم 3147" عن أنس أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء: "فطفق يعطي قريشًا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم". قال أنس: فحدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما كان حديث بلغنى عنكم؟". فقال له فقهاؤهم: "أما ذوو آرائنا يا رسول الله؛ فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به؟".
2 مضى تخريجه "3/ 70".(42/44)
3 مضى تخريجه "3/ 70"، وقوله صلى الله عليه وسلم هذا لكعب بن مالك حيث أراد أن ينخلع عن ماله بعد قبول توبته.
4 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله، 2 =(42/45)
ص -36-…وقال علي: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"1، فجعل إلقاء العلم مقيدًا، فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم2، وقد قالوا في الرباني: إنه الذي يعلم3 بصغار العلم قبل كباره4، فهذا الترتيب من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 128/ رقم 1673 عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته، أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى".
وأخرجه الدارمي في "سننه" "1/ 391"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 98/ رقم 2441"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 2084"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 165-166/ رقم 3372، الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 413"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 181".
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
قلت: فيه ابن إسحاق: أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، وهو مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالتحديث، فالإسناد ضعيف.
نعم، صح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، لوروده من طريق آخر عند أحمد في "المسند" "3/ 346"، ولوجود شاهد له عن أبي هريرة عند البخاري في "الصحيح" "رقم 1428" وغيره.
1 مضى تخريجه "1/ 124"، وانظر عنه: "مجموع فتاوى ابن تيمية "13/ 260، 261".
2 في "د": "لقوم".
3 في "ط": "الذي يربي".(42/46)
4 ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 160 - فتح" عقب قول ابن عباس: "كونوا ربانيين: حلماء فقهاء"، ثم قال: "ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره".(42/47)
ص -37-…وروى عن الحارث بن يعقوب، قال: "الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن، وعرف مكيدة الشيطان"1، فقوله: "وعرف مكيدة الشيطان" هو النكتة في المسألة.
وعن أبي رجاء العطاردي، قال: "قلت للزبير بن العوام: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟ قال: نبادر الوسواس"2.
هذا مع أن التطويل مستحب، ولكن جاء ما يعارضه، ومثله حديث: "أفتَّان أنت يا معاذ؟"3.
ولو تتبع هذا النوع لكثر جدًّا، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين، وهو كثير.
وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له4 كما تقدم، وقد فرع العلماء عليه، كما قالوا في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 817/ رقم 1528" بسنده إليه.
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 366-367، 367/ رقم 3727، 3730"، وابن عساكر وابن النجار، كما في "كنز العمال" "1/ 398/ رقم 1706"، وإسناده صحيح.
3 أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"" ومضى تخريجه "1/ 528، 2/ 248".
وكتب "د": "وكان معاذ يطوِّل بهم في الصلاة؛ فيقرأ بالبقرة، وفيهم أصحاب الحاجات فشكوه، أي: مع أن التطويل مطلوب في الأصل".
قلت: انظر في شرح الحديث: تهذيب سنن أبي داود" "1/ 415-417"، و"زاد المعاد" "1/ 212"، كلاهما لابن القيم.
4 أي: يشهد للنظر الشخصي الخاص، ويفريعهم على مناط الأنواع كما في الأمثلة لا يتم إلا بالنظر الشخصي الخاص، فلذلك كان النوعي شاهدًا للشخصي الخاص الذي هو بصدد إثباته. "د".(42/48)
ص -38-…إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد، فالقتل في موضع والصلب في موضع، والقطع في موضع والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء.
وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا؛ فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي، فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يستبعد ببادىء الرأي وبالنظر الأول؛ حتى يتبين مغزاه ومورده من الشريعة، وما تقدم وأمثاله كافٍ مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه؛ لأن العلماء قلَّما نبهوا عليه على الخصوص، وبالله التوفيق.
فإن قيل: كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا1 الاجتهاد المستدل عليه2 وغيره من أنواع الاجتهاد، مع أنهما في الحكم سواء؟ لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك، إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه [بالكلية، وإن صح إيقاع بعض جزئياته، أو يراد
أنه لا يصح ارتفاعه] ولا بالجزئية وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك.
أما الأول؛ فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو تحقيق المناط بالمعنى الأول. "د".
"2: أي: على أنه لا يرتفع من الدنيا ما دام التكليف موجودًا. "د".(42/49)
3 لعل الأصل: "بالكلية أو بالجزئية"، أي: لا يخلو أن يكون هناك بالانقطاع الممنوع هو الارتفاع كليًا بحيث لا يكون له وجود أصلًا، أي: وأما ارتفاعه في بعض الجزئيات مع بقائه في البعض الآخر؛ فليس بممنوع، أو يكون غرضك أنه لا يرتفع أصلًا ولا في جزئية، وقد فرع على الأول ما يفيد استواءهما في عدم الارتفاع كليًا، وعلى الثاني ما يفيد استواءهما في أنه لا ضرر في تعطل بعض الجزئيات في كل من النوعين. "د". وما بين المعقوفتين من "ط" فقط.(42/50)
ص -39-…بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك؛ فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد؛ فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزومًا، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق1؛ فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان.
وأما الثاني: فباطل؛ إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات، فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفى غيره2، فلم يظهر بين الاجتهادين فرق.
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان، عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه، وذلك غير صحيح؛ لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب3 بخلاف غيره، فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم، لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليده فيه؛ لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فدليلك بعينه يجري في الأنواع الثلاثة أيضًا؛ فرفع الاجتهاد فيها يؤدي إلى تكليف المحال؛ فلا وجه لهذه التفرفة، بقي أن يقال: إن هذا غير ما أجراه في الدليل هناك قال: "لكان تكليفًا بالمحال، وهو غير ممكن شرعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا"، والتزمنا هناك تصحيح كلامه، بجعله من التكليف المحال، ورجعه إلى تكليف الغافل، ولكنه هنا جعله من تكليف ما لا يطاق، وهو التكليف بالمحال، وهو جائز عقلًا، غايته أنه غير واقع في الشرع، والظاهر أن غرضه هنا عين ما تقدم له. "د".
2 لعله: وفي غيره كذلك"؛ أي: في غير الاجتهاد المستدل عليه من أنواع الاجتهاد.
"ف".
3 في "ط": "لازم".(42/51)
ص -40-…بعض الجزئيات، كما لو فرض العجز في تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر؛ فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك؛ فوضح أنهما ليسا سواء2، والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "اجتهاد تحقيق".
2 إذ إنه إذا تعطلت الأنواع الثلاثة؛ فإنما يتعطل قليل من فروع الشريعة، بخلاف تحقيق المناط المستدل على عدم ارتفاعه، فإن تعطله يقتضي تعطل جميع فروع الشريعة، أو على الأقل معظمها. "د".(42/52)
ص -41-…المسألة الثانية:
إنما تحصل1 درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم2 مقاصد الشريعة على كمالها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في المسألة الخامسة والسادسة ما يفيد أن هذا الحصر ليس تحقيقًا، وأنه بالنسبة لبعض أنواع الاجتهاد فقط، وأن بعضها يحتاج لأكثر من الوصفين، وبعضها لا يتوقف عليهما. "د".
2 لم نر من الأصوليين من ذَكَر هذا الشرط الذي جعله الأول، بل جعله السبب، أما التمكن من الاستنباط؛ فهو الذي اقتصرت عليه كتب الأصول المشتهرة، وجعلوه يتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، أي ما يتعلق منهما بالأحكام، ثم بمعرفة مواقع الإجماع، وشرائط القياس، وكيفية النظر، وعلم العربية، والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة، وهذه هي المعارف التي أشار إليها المؤلف، ثم رأيت في "إرشاد الفحول" "ص258" للشوكاني نقل الغزالي [في "المنخول" "ص366-367" وهو مأخوذ -كما هو معلوم- عن إمام الحرمين الجويني، والمذكور في كتابه "البرهان" "2/ 927، 338"] عن الشافعي -بعد بيان مفيد ينبغي للمجتهد أن يعمله؛ قال: "ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزيئات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع" ا. هـ. وهذا بعينه ما يشير إليه المؤلف هنا، وأوضحه إيضاحًا كافيًا في المسألة الأولى من كتاب الأدلة؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما نقله في "التبصرة" "1/ 56 - لابن فرحون" عن القرافي في نقض حكم الحاكم إذا خالف القياس والنص والقواعد، حيث قال: "ما لم يكن هناك معارض لها؛ فلا ينقض الحكم إجماعًا، كما في صحة عقد القراض، والمساقاة والسلم والحوالة ونحوها؛ فإنها على خلاف قواعد الشرع والنصوص والقياس، ولكن الأدلة الخاصة مقدمة على القواعد والنصوص والأقيسة"، ولا يخفى مخالفة هذا لما قرره المؤلف هنا، وما سبطه سابقًا، وما نقله الغزالي عن الشافعي، اللهم إلا إن(42/53)
يقال: معنى تقديم الدليل الخاص على القواعد في كلام القرافي تخصيصه لها، والأخذ به في موضع المعارضة إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه؛ كالعرايا وسائر المستثنيات، كما تقدم للمؤلف هناك. "د".
قلت: ذكر ابن السبكي في "جمع الجوامع" "2/ 383" نقلًا عن والده في تعريف "المجتهد": "هو مَن هذه العلوم ملكة له، وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة =(42/54)
ص -42-…والثاني: الممكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
أما الأول؛ فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك1 المكلَّف؛ إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يفهم بها مقصود الشارع". وذكر فيه "2/ 401" في شروط المجتهد "معرفة القواعد الكلية"، ثم ذكر عن الشافعي نحو ما عند الشوكاني، وبين البناني في "حاشيته" عليه أن هذا الاشتراط لا يخرج عن معرفة الآيات والأحاديث المتعلقة بالأحكام، فمن لم يذكر هذا الشرط -وكذا شرط معرفة المقاصد؛ فقد اعتبره مفهومًا من معرفة القرآن والسنة، فلا بد للمجتهد من أن يعرف جزئياتهما وكلياتهما، ويدرك أيضًا العلل والمصالح المنوطة بالأحكام، ومن الأصوليين من أشار إلى ذلك؛ كابن قدامة، فإنه قال في "روضة الناظر" "2/ 406 - مع شرح مختصر الروضة": "ولا بد من إدراك دقائق المقاصد في الكتاب والسنة".
وذكر ذلك علي بن عبد الكافي في السبكي في مقدمة "شرح المنهاج" "1/ 8"؛ حيث علق كمال رتبة الاجتهاد على ثلاثة أشياء، آخرها: "أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة، ما يكسبه قوة يفهم منها موارد الشرع من ذلك، ومن يناسب أن يكون حكمًا لها في ذلك المحل".
وقال ابنه في "الابتهاج بشرح المنهاج" "3/ 206" أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد جاز تقليده، وذكر من شروط ذلك "الاطلاع على مقاصد الشريعة، والخوض في بحارها".
وانظر: "الاجتهاد" "ص192" للسيد محمد موسى، و"الاجتهاد" "ص96-101" لنادية العمري، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "287-290".
1 أي: الإدراك البحث الذي لم يراع فيه الحيثية المذكورة. "د".(42/55)
2 كما تقدم له أنها تكون منافع أو مضار في حال دون حال، ووقت دون وقت، ولشخص دون شخص، وأن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض تضرر آخر لمخالفة غرضه؛ فوضع الشريعة لا يصح أن يكون تبعًا لما يراه المكلف مصلحة؛ لأنه لا يستتب الأمر مع ذلك، بل بحسب ما رسمه الشرع من إقامة الحياة الدينا للحياة الآخرة، ولو نافت الأهواء والأغراض {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، وتقدم الدليل على ذلك، وأن العقلاء في الفترات كانوا يحافظون على اعتبار المصالح بحسب عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى النصفة والعدل، بل مع الهرج، وكانت المصلحة تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أو قواعد؛ فجاء الشرع بالميزان الذي يجمع بين المصالح في كل وقت. "د".(42/56)
ص -43-…واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث1 مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغًا، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة2 من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب3 في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
وأما الثاني: فهو كالخادم للأول؛ فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما4 للأول، وفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا تعدوها وإن حصل اختلاف في بعض جزئياتها أنها من الضروريات أو من الحاجيات أو مكملات إحداهما مثلًا. "د".
2 هذا على القول المرجوح من عدم القول المرجوح من عدم جواز تجزؤ الاجتهاد، فأما على جواز ذلك وهو الراجح المختار للغزالي، وقال ابن السبكي: "إنه الصحيح؛ فلا يشترط الفهم المذكور لغير المسألة التي يتعلق بها اجتهاده". قال في "المحصول" "6/ 25": "والحق [أنه يجوز] أن [تحصل] صفة الاجتهاد تحصل في فن، بل في مسألة دون مسألة". "د".
قلت: انظر في مسألة تجزئ الاجتهاد: المستصفى" "2/ 353-354"، و"الأحكام" "4/ 164" للآمدي، و"المرآة" "2/ 469" مع "حاشية الإزميري"، و"البحر المحيط" "4/ 473 و6/ 209" للزركشي، و"شرح تنقيح الفصول" "430"، و"المعتمد" "2/ 929"، و"التقرير والتحبير" "3/ 294"، و"مقدمة المجموع" "1/ 71"، و"إرشاد الفحول" "254-255"، وإعلام الوقعين "216-217"، و"جمع الجوامع" "2/ 405-406 - مع حاشية البناني"، و"شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 290-291"، "وفواتح الرحموت" "2/ 364"، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص164-173" لنادية العمري.
3 لا ينافي أنه لا بد من الوصف الآخر وهو التمكن؛ لأنه جعله شرطًا، وسمى هذا سببًا. "د".
4 لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا بواسطة هذه المعارف، وقد تقدم أنه لا بد من الكليات =(42/57)
ص -44-…استنباط الأحكام ثانيًا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط؛ فلذلك جعل شرطا ثانيًا، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة؛ لأنه المقصود والثاني وسيلة.
لكن1 هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالمًا بها مجتهدًا فيها، وتارة يكون حافظًا لها متمكنًا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف؛ إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارًا2 إليها في مسألته التي يجتهد فيها؛ فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته؛ فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة.
فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث، والشافعي في علم الأصول؛ فلا إشكال، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي3 وأبي حنيفة في علم الحديث؛ فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده، وإن كان القسم الثالث؛ فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك4؛ فكالثاني وإلا؛ فكالعدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/58)
= التي هي ضوابط المصالح والمفاسد مضمومة إلى الجزئيات التي هي الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما يتعلق بها من المباحث المفصلة في كتب الأصول، وأنه لا يستغنى بالكليات عن الجزئيات، ولا بهذه عن تلك؛ فالجزئيات يفهم بها مقاصد الشريعة أولًا، فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة في الأدلة؛ فلذا قال: "وفي استبناط الأحكام ثانيًا" وقد جعل التمكن شرطًا ثانويًا للحصول على درجة الاجتهاد، وفهم المقاصد شرطًا أوليًا، حتى عبر عنه بالسبب الذي هو أقوى من الشرط وعلله بأنه المقصود، ولو جرى على ما سبق له لعلله بأن الكليات هي أهم الجزأين؛ إذ لا بد من اعتبار الجزئيات بها دائمًا، بحيث لا يمكن أن يخرم الجزئي الكلي بخلاف الجزئيات، فإنها وإن كانت تعتبر في الاستنباط؛ إلا أنه لا بد من ردها إلى الكليات. "د".
1 في "ط": "لكون".
2 في "ماء": "افتقار".
3 هذا متعقب، انظر: "ص46".
4 سيأتي له أن يصح أن يسلم المجتهد من القارئ، ومن المحدث، ومن اللغوي، ومن المؤرخ العالم بالناسخ والمنسوخ، ولم يشترط في هؤلاء أن يكونوا متهيئين لاستنباط الأحكام؛ حتى يأخذ عنهم المجتهد ويبني حكمه؛ فما معنى قوله: "كذلك؟" الذي يفيد أن ذلك التهيؤ له قيد لصحة أخذ المجتهد عنه ما يبني عليه استنباطه؟ نعم، في "شرح العضد" "2/ 290-291" لابن الحاجب في مسألة تجزؤ الاجتهاد: "المفروض حصول جميع ما هو أمارة في [تلك] المسألة في ظنه نفيًا أو إثباتًا؛ إما بأخذه من مجتهد، وأما بعد تقرير الأئمة الأمارات".
ولكنه يحتمل أخذها من مجتهد في ذلك العلم الذي أخذ عنه فيه، وإن لم يكن مجتهدًا في الأحكام بأن لم يكن مستوفيًا كل الشرائط له؛ فتأمل. "د".(42/59)
ص -45-…فصل:
وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم1 المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة، بل الأمر ينقسم: فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقه؛ فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه، وما سوى ذلك من العلوم؛ فلا يلزم ذلك فيه، وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه قضية توجه النفي فيه إلى الكلية؛ فتنحل إلى موجبة وسالبة جزئيتين، وهما ما أشار إليهما بقوله: "بل الأمر ينقسم"؛ فقوله: "فإن كان ثم علم" الجزئية الموجبة، وقوله: "وما سوى ذلك" الجزئية السالبة، ويكن جعلهما كليتين هكذا: "كل علم لا يمكن أن يحصل.. إلخ".
و"وكل علم يحصل وصل الاجتهاد من غير طريقه لا يلزم أن يكون مجتهدًا فيه"؛ فالمطلبان الأخيران ليسا أمرًا زائدا على المطلب الأول، بل هما تفصيله ومآله، كما تقتضيه قوله: "بل الأمر ينقسم"، ولذلك ترى الدليل على الأول يخرج عن كونه استدلالًا على الثالث خاصة، وعندما أراد الاستدلال على الثالث؛ لم يجد شيئًا غير ما ذكره على الأول، والتزم أن يقول: "فقد مر ما يدل عليه"، وحينئذ؛ فهما مطلبان لا ثلاثة عند التحقيق. "د".(42/60)
ص -46-…الاجتهاد؛ فهذه ثلاثة مطالب1 لا بد من بيانها:
أما الأول:
وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة؛ فالدليل عليه أمور:
أحدها: أنه لو كان كذلك؛ لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى2
الصحابة، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة؛ فالشافعي عندهم مقلِّد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته3، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني الحكم على ذلك والحكم4 لا يستقل دون ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مأخذ الأول قوله: "لا يلزم.. إلخ"، ومأخذ الثاني قوله: "فإن كان ثم علم.. إلخ" ومأخذ الثالث قوله: "وما سوى ذلك... إلخ" "ف".
2 ولماذا نستثني الصحابة وهم كغيرهم لا يتأتى لأحدهم أن يكون عالمًا لكل ما يتوقف عليه الاجتهاد؛ من تجارب، وطب، وغير ذلك، ولا بد من الرجوع إلى غيرهم في كثير مما يتوقف عليه الاجتهاد كما هو الواقع. "د". وفي"ط": "مما سوى".
3 انظر رد ذلك في مسألة الاحتجاج بالشافعي" "ص38 وما بعدها" للخطيب، و"مناقب الشافعي" "2/ 324-325" للبيهقي، "تهذيب الأسماء واللغات" "1/ ق1/ 50".(42/61)
4 أي: والحكم الذي بناه لا يستغني عن ذلك الاجتهاد الذي رجع فيه لغيره من هؤلاء، فلو كان لا بد في المجتهد، أن يكون مجتهدًا في كل ما يتعلق به الاجتهاد؛ لكان هؤلاء الأئمة غير مقبول منهم الاجتهاد، وهو باطل، وقوله: "ولو كان مشترطًا.... إلخ" هذا دليل ثانٍ، محصله: لو كان هذا منهم شرطًا لزم ألا يجلس للقضاء بين الناس إلا مجتهد في كل ما يتوقف عليه حكمه على أحد الخصمين للآخر، وليس كذلك بإجماع؛ فأنت تراه يقيس الاجتهاد على القضاء، مع أن القضاء رتبة أخرى يدور أمرها على تحقيق المناط في الجزئيات غالبًا، ولذلك أجمعوا على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في القضاء، مع اختلافهم في كون الاجتهاد في استباط الأحكام في رتبته صلى الله عليه وسلم، فلا يسلم قياس الاجتهاد على القضاء في عدم لزوم العلم بكل ما يتوقف عليه الحكم. "د".(42/62)
ص -47-…الاجتهاد.
ولو كان مشترطًا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم؛ لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدًا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب1، وليس الأمر كذلك بالإجماع.
والثاني2:
أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل3 بنفسه، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال، بل يقول العلماء:
إن مَن فَعَل ذلك؛ فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الأُسطقصات4 أربعة، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان، وغير ذلك من المقدمات، وكذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" وحدها، وفي الأصل و"ف" و"م": "الطالب".
2 هو في الحقيقة دليل ثالث. "د".
3 ليس هناك علم يقال له "علم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية" له موضوع يميزه عما سواه؛ حتى يعد كل ما خرج عنه نظرًا في عرضي العلم لا في ذاتي له، فإن كان مراده المعارف التي ينبني عليها التمكن في الاجتهاد؛ فذلك ما نحن بسبيل معرفته، وتمييز ما يتوقف عليه مما لا يتوقف عليه؛ فبعد أن يمتاز ما يتوقف عليه يقال: إن ما زاد عنه يكون البحث فيه أشبه شيء فيه بإدخال علم في آخر، وهو في اصطلاحهم غير محمود وبالجملة فهذا الدليل أشبه بالشعريات ما لم يمحص الأمر ويحصر ما يتوقف عليه الاجتهاد توقفًا أصليًا كما أشرنا إليه. "د".
قلت: كلمة "علم" لا وجود لها في الأصل.
4 كلمة يونانية يراد بها العناصر: الماء، والتراب، والهواء، والنار. "ف".
قلت: الضبط الذي رسمناه هو الذي صوبه دوزي في "تكملة المعاجم العربية" "1/ 130".
وقال "ماء": يقال لها: "الاستقصاءات"، ويقال لها: "الأركان".(42/63)
ص -48-…{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، بالخفض مروي1 على الصحة، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم، ومن عالم2 الناسخ والمنسوخ أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} منسوخ بآية المواريث، ومن اللغوي أن القرء يطلق3 على الطهر والحيض، وما أشبه ذلك، ثم يبنى عليه الأحكام، بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين وهي مبنية على مقدمات4 مسلمة في علم آخر، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية، ولم يكن ذلك قادحًا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه، وقد أجاز5 النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في هذا اجتهاد حتى يقال: إنه أخذ من المجتهد كما تقدم له في مثال الطبيب، إنما هو مجرد الراوية والتلقي، ويشترك المجتهد في ذلك مع المروي عنه بمجرد الرواية، إلا أن يقال: إنه لا يلزمه في الرواية حينئذ أن يعرف طرقها وطبقات الرواة لها بخلاف عالم القرءات الذي يعد فنيًا أو نسميه خصيصاً، وهذه إذا اشترطنا في الأخذ عنه أن يكون بالغًا هذه المرتبة وإن كانت عبارة هنا لا تفيد ذلك؛ لأنه اكتفي بقوله: "مروي على وجه الصحة", ولا يخفى أن هذا يكفي فيه مجرد تلقي الرواية. "د".
2 في "ط": "علم".
3 ينافي ما سيأتي له أنه لا بد أن يكون مجتهدًا في اللغة، بحيث يساوي العرب في فهمها مفردات وتراكيب، ومن ينقص عن ذلك لا يعد بقوله في فهم الكتاب والسنة كما سيأتي له في الحاصل آخر والمسألة. "د".
4 كوجود الدائرة الذي سيمثل به، وكوجود الزاوية؛ فإنهما يرجعان إلى علم وجود الكم المتصل المبرهن عليه في غير الهندسة، وكذا العدد بالنسبة للكم المنفصل. "د".(42/64)
"5" في "التحرير": و"شرحه" "3/ 291، 343 - مع التقرير والتحبير" و"منهاج البيضاوي"* "ص268" شرطية الإيمان، ثم ما هي ثمرة هذا التجويز؟ هل يقلده المسلمون فيما استنبطه من الأحكام الشرعية، وهو غير معقول، أم يعمل هو بها؟ وهذا لا يعنينا ولا يعد اجتهادًا =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لم يصرحا في مبحث "الاجتهاد" بشرطية الإيمان، وإنما أفاده كلامهما.(42/65)
ص -49-…لوجود الصانع والرسالة والشريعة، إذ كان الاجتهاد إنما ينبني1 على مقدمات تفرض صحتها، كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من إطناب فيه.
فلا يقال: إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التى يبني عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده؛ لأنا نقول: بل يحصل له العلم بذلك؛ لأنه مبني على فرض2 صحة تلك المقدمات، وبرهان الخلف3 مبني على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الشريعة، وقوله: "تفرض صحتها" هذا غير كاف، بل لا بد من تأكده صحتها حتى يكون معتقدًا أو ظانًا صحة الحكم، أما مجرد الفرض، فلا يؤدي إلى حكم مظنون فضلًا عن معتقد، وهذا يقر أيضًا على اجتهاد الكافر؛ لأنه لا يعتقد صحة المقدمات التي ينبني عليها اجتهاده في الشريعة؛ لأنها الكتاب والسنة وما يرجع إليهما، قال في "التحرير" و"شرحه": "وأما العدالة، فشرط قبول فتواه، فإنه لا يقبل قول الفاسق في الديانات، لا شرط صحة الاجتهاد، لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد، فله أن يأخذ باجتهاد نفسه" ا. هـ. فليس الكلام في الكافر على ما رأيت، وقال الآمدي: "شرطه أن يعلم وجوب الرب وما يجب له من الصفات مصدقًا بالرسول وما جاء به". "د".
قلت: "وانظر المستصفى" "2/ 350"، "روضة الناظر" "3/ 960"، "إعلام الموقعين" "1/ 11"، و"جمع الجوامع" "2/ 385".
1 في "ماء" "ط": "يُبنى".
2 وهل فرض الصحة يحصل الظن أو العلم بصحة النتيجة، أو أنه يؤول الأمر إلى أن يكون عنده ليس بعلم ولا ظن، بل إن صحت المقدمات وهو لا يعلم بصحتها تكون نتيجة صحيحة؟ فتأمل. "د".(42/66)
3 المتقدمون من المناطقة على تركبه من قياسين: اقتراني شرطي، ثم استثنائي، هكذا: لو لم يكن المطلوب حقًّا لكان نقيضه حقًا، ولو كان نقيضه حقًا لكان المحال ثابتًا، ونيتجة هذا لو ثم يكن المطلوب حقًا لكان المحال ثابتًا توضع في الاستثنائي، ويستثنى نقيض تاليها، هكذا لكن المحال غير ثابت، فالمطلوب حق، وبعض المتأخرين على أنه قياس استثنائي فقط مركب من متصلة مقدمها نقيض المطلوب، وتاليها أمر محال يستثنى فيه نقيضه، وعلى كل حال، فالصدق والكذب في الاقتراني الشرطي وكذا في الاستثنائي المتصل إنما يرجع إلى وجود الارتباط والتلازم وعدمهما، وإنتاجها يتوقف على كون ذلك كليًا ودائمًا؛ فأين تكون المقدمات الباطلة في نفس الأمر التي يبني عليها فتقيد العلم بالمطلوب؟
فكلامه غير واضح. "د".(42/67)
ص -50-…مقدمات باطلة في نفس الأمر، تفرض صحيحة فيينى عليها، فيفيد النباء عليها العلم بالمطلوب؛ فمسألتنا كذلك.
والثالث:
أن نوعًا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه، فضلًا أن يكون مجتهدًا فيه، وهو الاجتهاد في تفتيح2 المناط، وإنما يفتقر 3 إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة، وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد4 في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه، وهو المطلوب.
فإن قيل: إن جاز أن يكون مقلِّدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة: لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا تكون مجتهدًا فيها بإطلاق، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق، وكلامنا إنما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ينبني".
2 كيف وهو لا يكون إلا في أوصاف تضمنها نص الشارع، وهو عربي يحتاج فهمه إلى الرتبة العربية المشترطة. "د".
3 قال فيما تقدم: إن التمكن من الاستنباط على معارف وعلوم كثيرة، وإنه خادم للأول وهو فهم مقاصد الشريعة؛ فقوله: "وإنما يفتقر إلى
الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة دون شيء من تلك العلوم" لا يتأتى مع سابق الكلام؛ لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل، وإن لم يحتج إليها عند التخريج، وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدًا؛
فتأمل. "د".
4 بل دليله ينتج أكثر من ذلك؛ فيقال: وإن ثبت نوع من الاجتهاد دون هذه العلوم، رأسًا فضلًا عن الاجتهاد فيها؛ ثبت مطلق الاجتهاد بدون تلك المعارف وبدون الاجتهاد فيها، ثم لا يخفى أن هذا غير ما أصله أولًا من جعله شرطًا للحصول على صفة الاجتهاد، وهذا يزيد ما أشرنا إليه في الكلام على الحصر في الوصفين بيانًا ووضوحًا. "د".
قلت: كتب "ف" هنا ما نصه: "اسلأولى: "بدون الاجتهاد".(42/68)
ص -51-…في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها.
فالجواب: إن ذلك شرط في العلم بالمسألة1 المجتهد فيها بإطلاق لا شرطًا في صحة الاجتهاد؛ لأن تلك المعارف ليست جزءًا من ماهية الاجتهاد، وإنما الاجتهاد يتوصل إليها بها، فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض2 محال، بحيث يفرض تسليم صاحب تلك
المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه؛ كان بناؤه صحيحًا لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، وهو قد وقع، ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني، وأن العلماء3 الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس؛ كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة
كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم، وصاروا في عداد أهل الاجتهاد، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم، ثم اجتهدوا بناءً
على مقدمات مقلد فيها، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم، وعمل على وفقها، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم، فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وجميع النسخ المطبوعة: "بمسألة" وما أثبتناه من "ط" وهو الذي صوبه "د"، فقال: "لعل الأصل: "المجتهد فيها مجتهد بإطلاق"".
2 مبني على ما سبق له، وقد علمت أن هذه توسعة في الكلام لا محل لها؛ لأنه لا يعد من بذل الوسع الكافي في الاجتهاد أن يفرض المجتهد المحتاج إلى أمارة أن المجتهد في علم هذه الأمارة يسلم بما حصل عليه منها، ثم يبني على هذا الفرض استنباطه حكمًا شرعيًا يجب عليه العمل به ويقلد فيه، بمجرد هذا الفرض الذي ليس من نوع التقليد، ولا نوع الاجتهاد في هذه الأمارة، وما سلم له في الوجه الثاني كان من باب التقليد للعالم المحدث ومن معه، وسيقول بعد: "ثم اجتهدوا على مقدمات مقلد فيها"، ولم يأت بمثال للمقدمات المفروضة التي كرر الكلام فيها. "د".(42/69)
3 هذا المثال أظهر من الأمثلة التي ذكرها في الدليل الثاني من التسليم للقارئ واللغوي... إلخ؛ لأنه لم يقدم دليلًا على صحة هذا التسليم،
بل أرسلها دعوى مجردة، أما هذا المثال، فواضح؛ لأنه لا ينازع أحد في التسليم لمثل ابن القاسم وأبي يوسف في الاجتهاد، والمخالفة في بعض
الفروع لمالك وأبي حنيفة، واعتبار اجتهادهما صحيحًا. "د".(42/70)
ص -52-…غيرهما معتبرًا في الخلاف على إمامهم، كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة، والمزني والبويطي مع الشافعي1، فإذًا لا ضرر على الاجتهاد2 مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها.
وأما الثاني من المطالب: وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه، فهو لا بد مضطر إليه؛ لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه.
والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الغريب3، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر طبقات أصحاب الأئمة الأربعة بتفصيل حسن أوعب مما عند المصنف عند ابن القيم في "الفروسية" "ص283-285 - بتحقيقي".
2 الأنسب "على المجتهد". "ف".
قلت: وهكذا "المجتهد" عند "م".
3 أي: علم غريب اللغة، وقد اعتنى به العلماء بحثًا وتدوينًا، لا سيما غريب القرآن والحديث. "ف".
قلت: وكتب "د" ما نصه: "لعله لا يريد الغرابة بالمعنى الأعم الذي يشمل ما لا يخل بالفصاحة وما يخل بها، بل يريد الثاني حتى يكون للاستثناء وجه في عدم الحاجة إليه؛ لأنه لا يوجد في القرآن أصلًا، أما المعنى الأول، فهو موجود قطعًا والاجتهاد يتوقف عليه؛ لأنه تعريف بمعنى المفردات".(42/71)
ص -53-…كان العلم به كمالًا في العلم بالعربية وبيان تعين1 هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان2 في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها3 حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا.
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها؛ كالخليل، وسيبويه، والأخفش، والجرمي، والمازني ومن سواهم، وقد قال الجرمي4: "أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس [في الفقه] من كتاب سيبويه"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعلم".
2 أي أن ما ورد في الشريعة من الكتاب والسنة وما ورد من كلام العرب من نمط واحد وطريق واحد، سوى ما اختص به من المزايا التي ترتفع بها درجة الكلام في الحسن والقبول، فالقرآن انفرد عن سائر كلام العرب بمزايا جعلته معجزًا للبشر عن الإتيان بسورة منه، والحديث امتاز بما جعله يفوق غيره من كلامهم وإن لم يبلغ درجة الإعجاز. "د".
3 يعني: فهمه من حيث ما يفيده الكلام العربي، وليس المراد أنه بمجرد ذلك يكون مجتهدًا في الشريعة ويؤخذ بقوله فيها، بل لا بد من ضم
الصفات الأخرى من معرفة مقاصد الشريعة وغير ذلك. "د".
4 هو أبو عمر صالح بن إسحاق البجلي مولى لهم، نزل في جرم، فنسب إليهم، إمام العربية، وكان صادقًا ورعًا خيرًا، إليه انتهى علم النحو في زمنه، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين، له ترجمة في "السير" "10/ 561-563".(42/72)
5 أسنده عنه الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" "ص75"، وقول المصنف الآتي: "وفسروا ذلك..." أورده الزبيدي من مقالة محمد بن يزيد، وهو ممن روى عن الجرمي، وكذا في صدر "كتاب سيبويه" "1/ 5-6" كما سيأتي عند المصنف قريبًا.(42/73)
ص -54-…وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني، ومن هنالك كان الجرمي على ما قال، وهو كلام يروى عنه في صدر1 "كتاب سيبويه" من غير إنكار.
ولا يقال: إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية؛ فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب2 والسنة.
لأنا نقول: هذا غير ما تقدم3 تقريره، وقد قال الغزالي4 في هذا الشرط: "إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، حتى يميز5 بين صريح الكلام وظاهره ومجمله6، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "صدد" بالدال في آخره، وكتب في الهامش: "في المطبوعات: "في صدر".
2 لعل الأصل من الكتاب. "د".
3 من أن من لم يبلغ شأو العرب والصحابة في فهم اللغة لم يكن قوله حجة. "د".
4 في "المستصفى" "2/ 352".
5 في "المستصفى": "إلى حد يميز...".
6 تفردت "م" بزيادة بعد "مجمله": "ومبينه".(42/74)
ص -55-…ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه".
وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد، ثم قال: "والتخفيف1 فيه [أنه]2 لا يشترط أن يبلغ مبلغ3 الخليل والمبرد، وأن يعلم4 جميع اللغة ويتعمق في النحو".
وهذا أيضًا صحيح، فالذي نفي اللزوم فيه5 ليس هو المقصود في الاشتراط، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي6 العربي في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل و"د"، أما "ف" و"م"، ففيهما "التحقيق لذلك"، وعلق "ف"، فقال: "صوابه التخفيف بالفاء ضد التثقيل، كما يفهم من عبارة الغزالي، حيث جعل لكل علم من العلوم المشروطة في الاجتهاد مرتبتين ثقيلة وخفيفة. راجع "المستصفى" "2/ 352".
2 سقطت من الأصل و"ف" و"د"، وأثبتها من "م" و"ط"، وهي في المستصفى" "2/ 352".
3 بدلها في مطبوع "المستصفى": "درجة".
4 بدلها في مطبوع "المستصفى": "يعرف".
5 أي: وهو علم جميع اللغة لم نشترطه؛ لأننا إنما اشترطنا أن يساوي العربي في فهم اللغة، ولم نشترط أن يعرف الجميع؛ لأن العربي لا
يعرف جميع اللغة، ولا يدقق تدقيقات متعمقة مثل ما للخليل مثلًا، وهذا لا يمنع أن يشترط الاجتهاد في اللغة بناء على الكلام الغزالي نفسه، حيث قال: "القدر الذي يفهم به خطاب العرب... إلخ"؛ لأن هذا لا يكون إلا لمن بلغ درجة الاجتهاد. "د".
قلت: انظر كلام الأصوليين حول الدرجة التي ينبغي للمجتهد أن يصل إليه في معرفة العربية: "الرسالة" "ص51-52" للشافعي، و"الإحكام" "3/ 205" للآمدي، و"جمع الجوامع" "2/ 400 - مع حاشية البناني"، و"البحر المحيط" "6/ 202-203"، و"الإجتهاد" "ص168-172" لسيد موسى، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص84-90" لنادية العمري.
6 انظر إذا ما اشتهر عن أبي حنيفة من عدم إجادته اللغة، فهذا يدل على عدم صحة ما اشتهر. "د".(42/75)
قلت: تجد ذلك مفصلًا في "تأنيب الخطيب" "ص44-58"، و"فقه أهل العراق وحديثهم "ص59"، كلاهما للكوثري، و"الروض الباسم" "1/ 160" لابن الوزير.(42/76)
ص -56-…المقدار، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق، فكذلك المجتهد في العربية، فكذلك المجتهد في الشريعة، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية، فيبني في العربية على التقليد المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية بما السكوت أولى به منه، وإن كان ممن1 تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين، وعلمًا في الأئمة المهتدين.
وقد أشار الشافعي في "رسالته"2 إلى هذا المعنى3، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها4، ثم ذكر5 مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادًا به ظاهره، وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "مما"، وكتب "ف": "الأولى "ممن"؛ أي: "وإن كان ذلك المتكلم ممن تعقد عليه الخناصر.... إلخ".
2 انظر منها "الفقرات 173-178".
3 بعد أن ذكر في "الاعتصام" مهم ما قاله الشافعي في هذا المعنى وأمثلته؛ قال "2/ 808 - ط ابن عفان": "وإنما أتى الشافعي بـ [النوع] الأغمض من طرائق العرب؛ لأن سائر تصرفاتها بسطها أهل فنون اللغة من نحو وبيان.. إلخ وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال". "د". وفي "ط": "خاطب بكتابه العرب...".
4 أي: معاني العرب التي تنساق إليها أفهامهم. "ف".
5 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 77-78".(42/77)
ص -57-…ثم قال1: "فمن جهل هذا من لسانها- وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة؛ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته2؛ كانت موافقته للصواب3 وإن وافقه من حيث لا يعرف غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور، إذا نطق 4 فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه".
هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها، وما سواها من المقدمات؛ فقد يكفي فيه التقليد، كالكلام في الأحكام تصورًا وتصديقًا؛ كأحكام النسخ، وأحكام الحديث، وما أشبه5 ذلك.
فالحصل أنه لا غنى للمجتهد6 في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغلب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب.
وأما الثالث من المطالب:
وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالمًا بها؛ فقد مر ما يدل عليه؛ فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه؛ فذلك في كونه مجتهدًا في عين مسألته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 177-178".
2 في النسخ المطبوعة، و"ط": "يثبته معرفة"، وما أثبتناه من "الرسالة".
3 في النسخ المطبوعة، و"ط": "موافقة الصواب"، وما أثبتناه من "الرسالة".
4 كذا في جميع النسخ، وفي مطبوع "الرسالة": "إذا ما نطق...".
5 كأسباب النزول ومواقع الإجماع. "د".
6 كذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "بالمجتهد"، وكتب "ف": "المناسب للمجتهد باللام؛ أي: لا بد له من ذلك: يقال: ما لك عنى عنه ولا مغني، أي: ما لك عنه بد".(42/78)
ص -58-…كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدئراة مثلًا: فلا يضره في صحة برهان تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة وهو المبرهن على وجودها، وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان، وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك من صحة اجتهاده، بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك، ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد، وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن، وإن كان هو غير عارف به، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لم" بغير واو.(42/79)
ص -59-…المسألة الثالثة:
الشريعة كلها ترجع1 إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فيها غير ذلك، والدليل عليه أمور:
أحدها: أدلة القرآن، من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا2 كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فنفى أن يقع فيه الأختلاف البتة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس من مقاصد الشرع وضع حكمين متخالفين في موضوع واحد، بل لا يريد إلا طريقًا واحدا في الواقع، ولا ينافي هذا حصول اختلاف من المجتهدين من الطريق الذي يريده الشارع. "د".
قلت: وكتب "ف" ما نصه: "أي: ليس فيها ما يفهم قولين مختلفين يتضاربان في حكم بحيث يفيد أحدهما الوجوب والآخر الحرمة في نفس الأمر، بل أدلتها سالمة من التعارض في ذاتها، بريئة من الاختلاف الواقعي، وهذا لا ينفي وجود التعارض والاختلاف في فهم الناظر وظنه".
2 مبني على أن المراد الاختلاف في الأحكام الشرعية، ومنعه بعضهم بوقوع هذا الاختلاف فعلًا، وقال: المراد به التناقض في المعنى والقصور عن البلاغة؛ فالأول بأن يطابق بعضه الواقع، وبعضه لا يكون كذلك، ويكون العقل موافقًا لبعض أحكامه دون بعض، والثاني بتفاوته في النظم ركَّة وفصاحة، وبلوغًا لحد الإعجاز في البعض دون البعض، وكل ذلك يكون سببه نقصان القوة البشرية وتخاذلها عن الوفاء بمواجب
الصحة الكاملة والإعجاز التام، على أن الآية في وصف القرآن، وهو أخص من مطلق الشريعة؛ فإنها كما تشمله تشمل السنة والإجماع والقياس وسنة الصحابة كما تقدم؛ فالدليل أخص من المدعى، ولكن المانع لا يتأتى له إثبات الاختلاف في الأحكام الشرعية أيضًا بالمعنى الذي يريده المؤلف وهو تعارض أدلتها في نفس الأمر؛ فيرجع إلى المعنى الذي يقرره المؤلف. "د".(42/80)
قلت: قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 19" أن الاختلاف في القرآن يراد به التضاد والتعارض، ولا يراد به مجرد عدم التماثل، وانظر في الاختلاف ومعناه المنفي عن القرآن: "تأويل مشكل القرآن" "24، 33"، و"بصائر ذوي التمييز" "2/ 561-562"، و"الاعتصام" "2/ 232-233 - ط رضا، و2/ 818 - ط ابن عفان"، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي- وهو مصنف حول الاختلاف في الاصطلاح، و"الحقيقة الشرعية" "ص33-40".(42/81)
ص -60-…ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال.
وفي القرآن: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، وهذه الآية صريحة في رفع1 التنازع والاختلاف؛ فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد؛ إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع، وهذا باطل2.
وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}3... الآية [آل عمران: 105]، والبينات هي الشريعة، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله البتة لما قيل لهم: من بعد كذا، ولكان لهم فيها أبلغ العذر، وهذا غير صحيح؛ فالشريعة لا اختلاف فيها.
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فبين أن طريق الحق واحد، وذلك عام في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عن الشريعة وإثبات أنها لا اختلاف فيها، والاستدلال بهذه الآية تام يشمل القرآن والسنة وغيرهما مما يبني عليهما. "د".
2 أي: عبث لا يطلبه الله تعالى، أي: وقد طلب منهم الرجوع إليهما لرفع التنازع، والرجوع إلى ما يقتضي الاختلاف لا يمكن أن يحقق المطلوب فيكون عبثًا؛ إلا أنه مع قوة هذا الدليل على المدعى تبقى شبهة في المقام، وهي أن الأئمة المجتهدين مع رجوعهم للكتاب والسنة قد لا يرتفع النزاع بينهم، وقد يجاب عنها بأنه لم يقل: إن رددتموه ارتفع قطعًا وبطريقة كلية. "د".(42/82)
3 وقد يقال: إن التفرق المنهي عنه التفرق بالعداوة، والاختلاف في أصول الدين، وتكفير بعضهم بعضًا؛ كما هو الواقع في شأن هؤلاء اليهود والنصارى، الذين نعى عليهم هذا التفرق والاختلاف، ولو كان كما يقول؛ لكان المسلمون وأولهم الصحابة قد وقعوا فيما نهوا عنه، ولكان يترتب عليه الجزاء الذي ترتب على تفرق اليهود والنصارى، معاذ الله؛ فقوله: "والبينات هي الشريعة"، نقول: بل أخص، فلا ينتج
المطلوب. "د".(42/83)
ص -61-…جملة الشريعة وتفاصيلها.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213]، ولا يكون حاكمًا بينهم ألا مع كونه قولا واحدًا فصلًا بين المختلفين.
وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية إلى قوله: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13]، ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم؛ فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14].
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إلى الشريعة كثير كله، قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد، قال المزني صاحب الشافعي: "ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة". [فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة"].
والثاني: أن عامة 2 أهل الشريعة أُثبتوا في القرآن والسنة الناسخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 910 - ط المحققة".(42/84)
2 لم يخالف إلا أبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في وقوعه في شريعة واحدة، والصحيح أن خلافه لفظي؛ لأنه يسميه تخصيصًا، ولم يخالف فيه من الملل الأخرى سوى الشمعونية من اليهود، ذهبوا إلى امتناعه عقلًا وسمعًا، والعنانية منهم إلى امتناعه سمعًا، أما العيسوية منهم أصحاب عيسى* الأصفهاني؛ فيجيزونه عقلًا وسمعًا، واعترفوا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا للعرب خاصة. "د".
قلت: انظر في مذهب أبي مسلم الأصفهاني: "نهاية السول" "2/ 149"، و"نظرية النسخ في الشرائع السماوية" "ص23" لشعبان محمد
إسماعيل، مطابع الدجوي، مصر، سنة 1977، و"لا نسخ في القرآن" لأحمد السقا "ص17-18"، ط دار الفكر العربي، سنة 1978م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الشرح، والصواب: "أبو عيسى"، انظر: "الملل والنحل" "1/ 215"، وانظر عنهم وعن "العنانية" و"الشمعونية": "اعتقادات فرق المسلمين" "82-83"، و"الحور العين" "144"، و"أديان العرب في الجاهلية" "199-202".(42/85)
ص -62-…والمنسوخ على الجملة، وحذروا من الجهل والخطأ فيه، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلا لما كان أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا، والفرض خلافه؛ فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ -من غير نص قاطع فيه- فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلامًا فيما لا يجني ثمرة؛ إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداءً ودوامًا، استنادًا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع؛ فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة، وهكذا القول في كل
دليل مع معارضه؛ كالعموم2 والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما أشبه3 ذلك؛ فكانت تنخرم هذه الأصول كلها، وذلك فاسد؛ فما
أدى إليه مثله.
والثالث: أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق؛ لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معًا للشارع؛ فإما أن يقال: إن المكلف مطلوب بمقتضاهما، أو لا، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر، والجميع غير صحيح؛ فالأول يقتضي "افعل"، "لا تفعل" لمكلف واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لما كان هناك مقتض للبحث والاجتهاد عن الناسخ والمنسوخ، بل كان يجب الوقوف في ذلك عند ما ثبت بنص قاطع فقط. "د".
2 أي: فكان لا يلزم البحث عن المخصصات للعام مع أنه يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن مخصص إجماعًا. "د".
3 أي: كالترجيح بين الأدلة المتعارضة. "د".(42/86)
ص -63-…من وجه واحد، وهو عين التكليف بما لا يطاق، والثاني باطل؛ لأنه خلاف1 الفرض، وكذلك الثالث؛ إذ كان الفرض2 توجه الطلب بهما؛ فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم.
لا يقال: إن الدليلين بحسب شخصين أو حالتين؛ لأنه خلاف الفرض، وهو أيضًا قول واحد لا قولان؛ لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف، وهو المطلوب.
والرابع: أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح3 بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع، وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافًا4 من غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن محصل الثاني أنه غير مطلوب بمقتضى الدليلين، والفرض توجه الطلب، ولم يقل: أنه يكلف بما لا يطاق لأنه لا يكون كذلك إلا لو كان الحاصل أنه مطلوب بمقتضى الدليلين ومطلوب بضد ذلك مثلًا، وقوله: "وكذا الثالث"؛ أي: يلزمه خلاف الفرض؛ لأن الفرض أنهما مقصودان معًا للشارع، فلا يعقل معه أن يكون التكليف بأحدهما دون الآخر، وقوله: "فلم يبق إلا الأول"؛ أي: لم يبقَ غير مخالف لأصل المفروض إلا الأول، وقد بطل بكونه تكليف ما لا يطاق. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإبهاج" "3/ 200"، و"حاشية البناني على المحلي" "2/ 358"، و"المستصفى" "2/ 379 وما بعدها"، و"نهاية السول" "3/ 161-169 - بحاشية التقرير والتحبير".
2 لعله: "إذ كان علة" لقوله: "وكذلك الثالث". "ف".
3 في "المسودة في أصول الفقه" "ص306": "لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به، ذكره الخلال، وهذا قول القاضي".(42/87)
4 لأنه إنما يصح أن يعمد إلى أحد الدليلين المتعارضين جزافًا إذا كان الاختلاف أصلًا في الدين، والحاجة إلى الترجيح لا تكون إلا؛ لأن الحق واحد علينا تعرفه، ولعله لهذه المزية التي انفرد بها الترجيح عن العموم والنسخ وما معهما، أفرده بهذا الدليل الرابع مع إمكان دخوله في قوله: "وما أشبه ذلك"، كما أشرنا إليه، وإن كان بيانه في قوله: "إذ لا فائدة فيه" هو البيان السابق بعينه =(42/88)
ص -64-…نظر في ترجيحه على الآخر، والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة؛ إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلًا شرعيًا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن1 ذلك فاسد؛ فما أدى إليه مثله.
والخامس: أنه شيء لا يتصور؛ لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلًا لم يتحصل مقصوده؛ لأنه إذا قال2 في الشيء الواحد: "افعل" "لا تفعل"؛ فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله: "لا تفعل"، ولا طلب تركه لقوله: "افعل"، فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف؛ فلا يتصور توجهه على حال، والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل؛ لفساد الاختلاف في الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولو صور الدليل هكذا: اتفقوا على إثبات الترجيح، وأنه لا يصح إعمال أحد الدليلين متعارضين جزافًا بدون نظر في طرق ترجيحه، والقول بثبوت الخلاف يرفع لزوم النظر في الترجيح، ويصحح أخذ أحد الدليلين جزافًا؛ لكان لإفراد الترجيح بدليل رابع وجه؛ لأن ما تقدم في الثاني مأخذه أن البحث في العموم وما معه لا يجني له ثمرة، والمأخذ في هذا الدليل أن قولهم بلزوم الترجيح يتنافى مع كون الاختلاف أصلًا في
الدين، ولا يخفى أن مثله يقال في العموم والإطلاق كما أشرنا إليه. "د".
قلت: انظر كلامًا حسنًا وجمعًا مستطابًا في تقديم الجمع على الترجيح في "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية" "1/ 264-301".
1 في "ط": "لكان".(42/89)
2 هذا ليس بعيدًا عن الاحتمال الأول في الدليل الثالث الذي قرره بأنه تكليف بما لا يطاق؛ غايته أنه قرره هنا من جهة فهم المكلف، وأنه لا يتأتى له أن يفهم المكلف به، ويكون حينئذ خللًا في المأمور، وتقدم أن ذلك من التكليف المحال الراجع إلى تكليف الغافل، فعلى فرض أنه يقصد ذلك لا يكون الفرق إلا من جهة التصوير والتقرير لا غير؛ لأنه يمكن تصوير الاحتمال المذكور به؛ فلا تكون هناك حاجة إلى هذا رأسًا، إلا أن يقال: إن نظره هنا من جهة أنه لا يحصل المقصد من التكليف، يعني: فيكون عبثًا، وهذه جهة أخرى لإبطاله غير جهة تكليف
ما لا يطلق في الدليل الثالث، وهذا ما يفيده قوله: "لم يتحصل مقصوده"، وإن كان في استدلاله بعد ذلك نحا نحو لزوم التكليف المحال كما أشرنا إليه. "د".(42/90)
ص -65-…فإن قيل: إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة، وقد وقع، والدليل عليه أمور:
- منها: إنزال المتشابهات؛ فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود؛ فإن الاختلاف فيها قد وقع، ووضع الشارع لها مقصود له، وإذا كان مقصودًا له وهو عالم بالمآلات؛ فقد جعل سبيلًا إلى الاختلاف2، فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع3 مجال الاختلاف جملة.
- ومنها: الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالًا؛ فكثيرًا ما تتوارد عل المسألة الواحدة أدلة قياسية4 وغير قياسية، بحيث يظهر بينهما التعارض، ومجال5 الاجتهاد مما6 قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي تختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك، ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بها المتشابهات الحقيقية، وقوله: "ومنها الأمور الاجتهادية" هي المتشابهات الإضافية. "د".
2 أي: وذلك يدل على أن الاختلاف له أصل في الشريعة، وأنها لا ترجع إلى قول واحد, في فروعها ما دام الاختلاف مستندًا إلى وضع من الشارع. "ف".
3 لعل الصواب: "وضع" بالواو والضاد كما يدل عليه السياق والسباق. "د".
4 كما ذكروه في معارضات القياس؛ كقول الحنفي: "مسح الرأس مسح؛ فلا يكرر كمسح الخف"؛ فيقول الشافعي: "مسح الرأس ركن؛ فيكرر كالغسل". "د".
5 أي: فوضعه للشريعة مراعيًا فيها شرعية القياس، ومجيئه بالظواهر التي من شأنها أن تختلف فيها الأنظار، هذا الوضع مقصود ليتأتى الاجتهاد وإثابة المجتهدين، فلما وضع مثار الاختلاف لهذا القصد؛ كان الاختلاف مقصودًا له، فلا يصح نفيه عن الشريعة، ومن هذا البيان يعلم أن جواب لما محذوف، وقد ذكر دليل الجواب بقوله بعد: "فهذا موضع آخر.. إلخ". "د".(42/91)
6 كذا في "ط" وحده، وفي غيره: "لما"، وكتب "ف": "لعله: "مما قصده الشارع".(42/92)
ص -66-…"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ؛ فله أجر، وإن أصاب؛ فله أجران"1 فهذا موضع آخر من موضع الخلاف بسبب وضح محاله.
-ومنها: أن العلماء الراسخين [و]2 الأئمة المتقين اختلفوا3: هل كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد؟ والجميع سوغوا هذا الاختلاف، وهو دليل على أن له مساغًا في الشريعة على الجملة.
وأيضًا؛ فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب، وأن الاختلاف حق، وأنه غير منكر ولا محظور في الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، فأصاب أو أخطأ، 3/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح"كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، 3/ 342/ رقم 716" عن عمرو بن العاص.
2 زيادة من الأصل و"ط".
3 رأي الغزالي والقاضي والمزني والمعتزلة أن الحق يصح تعدده بتعدد اختلاف المجتهدين في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع، وهي محلات الاجتهاد، والمختار أن الحق واحد؛ من أصابه أصاب، ومن أخطأه أخطأ، وهو مأجور أيضًا، وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر الفقهاء. "د".
قلت: انظر في هذه المسألة: "المحصول" "6/ 29 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "6/ 236 وما بعدها"، و"التبصرة" "ص498"، و"المنخول" "ص455"، و"شرح اللمع" "2/ 1044"، و"الإبهاج "3/ 178"، والبرهان" "2/ 316"، و"المستصفى" "2/ 357"، و"الأنجم الزاهرات" "252"، و"شرح الأسنوي" "2/ 202-203 - مع البدخشي"، و"شرح العضد عل ابن الحاجب" "2/ 294"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص486"، و"عقد الجيد" "ص34" للدهلوي، و"التمهيد" "4/ 307"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 489"، و"(42/93)
الإحكام" "4/ 183" للآمدي، و"تيسير التحرير" "4/ 202"، و"فواتح الرحموت" "2/ 380"، و"كشف الأسرار" "4/ 16"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 9-39"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص495"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "ص186".(42/94)
ص -67-…وأيضًا؛ فطائفة1 من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان، ويجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف.
وطائفة أيضًا رأوا أن قول الصحابي حجة2؛ فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر؛ كل واحد منهما حجة، وللمكلف في كل واحد منهما متمسك، وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"3، فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا.
وقال القاسم بن محمد: "لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعلم العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله"4.
وعنه أيضًا: "أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "التحرير" "3/ 2-3 مع التقرير والتحبير": "والحق أن التعارض في الأدلة الشرعية إنما هو في الظاهر فقط، لا في نفس الأمر، ولذلك يصح أن يقع بين القطعين، وبهذا يرد على من قال: إنه يشترط فيه الوحدات الثمانية؛ لأن ذلك يصح إذا كان التعارض حقيقيًّا وفي نفس الأمر". قال الشافعي: "لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، من غير جهة الخصوص والعموم، والإجمال والتفسير؛ إلا على وجه النسخ، وحكى الماوردي والروياني عن كثيرين أن التعارض على جهة التكافؤ جائز وواقع"، وقال القاضي أبو بكر وجماعة: "إن الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على القول بأن المصيب في الفروع واحد". "د".
2 انظر ما علقناه على "4/ 456 وما بعد".
3 الحديث منكر، وقد خرجناه فيما مضى "4/ 452".
4 أجرجه بسنده إلى القاسم: ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 900-901/ رقم 1787"، وإسناده صحيح.
"5" أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901/ رقم 1687".(42/95)
ص -68-…ومثل معناه مروي عن عمر بن عبد العزيز، قال: "ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"، قال القاسم: "لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: "ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنما أئمة يقتدى بهم؛ فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة"1.
وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء.
و أيضًا؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة [إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى]2 المجتهدين، ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء3، وهو من ذلك في سعة، وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن4 ثم ترجيح؛ فله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901، 902/ رقم 1688، 1689"، وإسناده حسن. وفي "ط": "فلو أخذ رجل بقول أحد...".
2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، وبدله في "ف": "كأقوال"، وقال "ف": "لعل في العبارة سقطًا والأصل؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين".
وتابعه "د" و"م"؛ فأثبتوها في المتن، ولم ينبهوا على ذلك.
3 أي: ولا يلزم البحث عن مرجح، ولا التعرف عن الأفضل، ومقابله أن تعدد أقوالهم يعتبر للعامي كتعدد الأدلة وتعرضها عند المجتهد، وسيأتي له المبحث مستوفى، يعني: وهذا يؤيد إشكاله على المسألة لأنه إنما يصح إذا سلم تعارض الأدلة، وكان ما يترتب عليه من الخلاف مفيدًا في الشريعة. "د".(42/96)
4 بهذا القيد لا ينافي ما تقدم له في الدليل الرابع من الاتفاق على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة؛ فهنا موضوع الخلاف وجود التعارض مع عجز المجتهد عن الترجيح بين الإمارتين، وفيه تسعة مذاهب: أحدها هذا التخيير، ونسب أيضًا إلى أبي علي وابنه أبي هاشم والقاضي أبي بكر، وقيل: يتساقطان فيطلب الحكم من موضع آخر. "د". قلت انظر في هذه المسألة: "شرح العبادي على الورقات" "ص150-153"، و"البحر المحيط" و"أدلة التشريع المتعارضة" ص183" لبدران أبو العينين.(42/97)
ص -69-…الخيرة في العمل بأيها شاء، لأنهما صارا بالنسبة إليه كخصال الكفارة، والاختلاف عند العلماء لا يشاء إلا من تعارض الأدلة؛ فقد ثبت إذًا في الشريعة تعارض الأدلة؛ إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الاختلاف يحمل على الاختلاف في أصول الدين لا في فروعه، بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا.
فالجواب: أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة؛ فإنها من المواضع المخيلة1.
أما مسألة المتشابهات؛ فلا يصح أن يُدَعَى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعًا2؛ لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده، وكونها3 قد وضعت؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] لا نظر فيه؛ فقد قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم فكسر؛ أي: المشكلة من أخال الشيء اشتبه، أو بفتح فكسر، أي: التي هي موضع الخيل، وهو الظن، وفي "ط": "فإنها في المواضع..".
2 الأنسب بقصد الاختلاف: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}؛ أي: ليموت من يموت عن حجة عاينها، و{وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، أي: يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار لا نظر فيه؛ أي: لا إشكال فيه؛ لأنه يستلزم إرادة الاختلاف كما أشار إليه بقوله: فقد قال..." إلخ.
وقال "د": "أي من حيث التشريع والإرادة الأمرية" ا. هـ.
قلت: وقارن مع حاشية "رقم 3" بعدها.
3 أي: وكونه قد ترتب على وضع الشريعة هلاك البعض ونجاة البعض ليس محل البحث ومجال النظر، بل هو مقام آخر تشير آية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ}... إلخ لأن هذا وضع قدري ليس تابعًا للأمر والنهي، ولا رابطة بينه وبين التكليف الذي هو محل البحث هنا؛ فلم يطلب منهم أن يختلفوا وإن كان طبق ما جرت به الإرادة القدرية. "د".(42/98)
وكتب "ف": "أي: بقصد الابتلاء كما سيأتي، لا بقصد الاختلاف".(42/99)
ص -70-…رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}1 [هود: 118]؛ ففرق بين الوضع القدري2 الذي لا حجة فيه للعبد -وهو الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها- وبين الوضع الشرعي الذي لا يستلزم وفق الإرادة، وقد قال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}3 [البقرة: 2].
وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
ومر بيانه في كتاب الأوامر؛ فمسألة المتشابهات من الثاني4 لا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صدر الآية: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر، لكنه لم يشأ سبحانه ذلك: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في العقائد التي هى أصول الدين بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ أي: ولثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم؛ فالإشارة للاختلاف كما روي عن الحسن وعطاء، وقيل:
للرحمة والاختلاف، أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم بعضًا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونظير هذا قوله
تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} "ف".
قلت: انظر شرح المصنف للآية: "الاعتصام" "2/ 675-677 - ط ابن عفان".
2 أي: الراجع إلى إرادة التكوين الذي تشير إليه الآيتان وليس للعبد أن يتعلل به، والوضع الشرعي هو الراجع إلى التشريع للذي يلزمه
الأمر فيما يطلب شرعًا والنهي فيما ينهى عنه شرعًا، بخلاف الأول؛ فلا تلازم فيه بين الإرادة وبين الأمر والنهي، كما تقدم له بسطه في المسألة الأولى من الأمر والنهي. "د".
قلت: مضى هناك الإحالة على مواطن بحث ابن تيمية وابن القيم لهذا الموضوع.(42/100)
3 اجتمع في هذه الآية الوضعان القدري والشرعي معًا، وصدر الآية بعدهما فيه الوضع القدري لا غير؛ لأن المقصود الشرعي من القرآن أن يكون هداية وهو سبب للهداية قطعًا، ولكن الفاسقين لم يتنفعوا به لإعراضهم عنه؛ فكان بطعنهم فيه جهلًا وعنادًا سببًا في زيادة ضلالهم، ولا
أنهم كانوا مهديين فأضلهم. "د".
4 أي: الوضع القدري الذي أشار إليه بقوله: "وقد قال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين}.... إلخ، وقوله: "لا من الأول"؛ أي: الشرعي الذي هو موضوع البحث والجدل. "د".(42/101)
ص -71-…الأول، وإذا كان كذلك؛ لم يدل على وضع الاختلاف شرعًا1، بل وضعها للابتلاء؛ فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم، ومعلوم أن الراسخون هم المصيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها، وأن الزائغين هم المخطئون؛ فليس في المسألة إلا أمر2 واحد، لا أمران ولا ثلاثة، فإذا لم يكن [إنزال]3 المتشابه علمًا للاختلاف ولا أصلًا فيه, وأيضًا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ4، بل كان يكون الجميع مصيبين؛ لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة؛ لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة [قصد]3 الشارع، وإن الخطأ بمخالفته، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعًا.
وأما مواضع الاجتهاد5؛ فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حتى يكون دليلًا على قصده الاختلاف من حيث التشريع. "د".
وقال "ف": "أي إن الشارع لم يقصد بإنزال المتشابهات وضع أصل للاختلاف، بحيث يكون حجة دالة عليه بل قصد بإنزالها وضع أصل للابتلاء كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} والواجب على الكل هو ذلك الأحسن، وهو هنا عمل المصيبين دون المخطئين؛ فهي لشيء واحد، والتعدد والاختلاف إنما جاء في الزيغ واتباع الهوى؛ فلا مدخل لوضع المتشابه فيه".
2 وهو طلب الإيمان به من الجميع. "د".
3 سقط في "ط".(42/102)
4 أي: راسخ في العلم وزائغ، يعني: وقد قسمهم الله إلى القسمين، وإنما عبر بالإصابة والخطأ ليجري الدليل مرتبًا على سابقه من قوله: "ومعلوم أن الراسخين... إلخ"، وعليه؛ فلا يقال: إن هذا الجواب ضعيف؛ لأنه يؤول إلى أن الاعتراض بنى على مذهب المصوبة، والجواب بني على مذهب المخطئة، ومثله لا يعتد به جوابًا حاسمًا للإشكال؛ فقوله: "فلما كانوا منقسمين إلى مصيب... إلخ"؛ أي: كما تقتضيه الآية الكريمة. "د".
5 وهي المسائل الفقهية التي لا قاطع فيها؛ إذ هي وقع الخلاف في أن المصيب فيها واحد أو متعدد، أما العقليات والشرعيات القطعية؛ فالمصيب فيها واحد، وإنما في إثم المخطئ فيها وتكفيره وفيه تفصيل يرجع إليه في كتب الأصول. "ف".(42/103)
ص -72-…طرفي نفي وإثبات شرعيين؛ فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ.
وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدًا1؛ فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا هو حجة من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد؛ في طلب مقصد الشارع المتحد، فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولًا، وإن قيل: إن الكل مصيبون2؛ فليس على الإطلاق، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به؛ لأن الإصابة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وكثير من الفقهاء القائلون بأن لله في الواقعة حكمًا واحدًا معينًا موجودًا قبل الاجتهاد، نصب عليه دليلًا وأوجد على المجتهد أصابته بالنظر فيما يوصل عليه، كما أوجب على المكلف معرفته بالنظر والاستدلال، فإذا اجتهد ووضع النظر موضعه؛ فقد أصابه، وإن قصر؛ فقد أخطأه ولو بذل وسعه في تحصيله. "ف".(42/104)
2 كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء القائلون بأنه ليس لله قبل الاجتهاد معين في الواقعة، بل حكم الله تابع لظن المجتهد، فما ظنه فيها من الحكم، فهو حكم اله تعالى في حقه، وحق مقلده وإن كان الله يعلم غير ما يظنه المجتهد أزلا، ولكن العلم غير الحكم؛ فالحكم لم يشرع إلا على وجه الإبهام، وهو ما يظنه المجتهد، والكلام في الحكم باعتبار التعلق التنجيزي؛ لأنه المتأخر التابع لظن المجتهد ومعناه أن الشارع عند هذا الفريق اعتبر ظن المجتهد المتعلق بمأخذ الحكم ودليله بمثابة الشرع، أي الكلام اللفظي الذي يظهر الحكم، أي الخطاب النفسي في صورته؛ فنظر المجتهد وظنه المسائل الاجتهادية منضم إلى المأخذ الشرعي في ظهور الحكم وتعلقه بأفعال المكلفين تعلقًا تنجيزيًا وقبل نظره وبيانه لا يوجد الحكم في النازلة شاغلًا لذمة المكلف؛ فهو بمثابة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم في مجملات الشريعة، فكما أن حكم المجمل لا يتبين ولا يتعلق بالمكلف إلا بعد بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك الحكم المستنبط في المآخذ الاجتهادية لا يتبين ولا يتعلق بالمجتهد ومن يقلده إلا بعد اجتهاده وبيانه. "ف".(42/105)
ص -73-…عندهم إضافية لا حقيقية1، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق2؛ لكان فيه حجة، وليس كذلك.
فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد، غير أنه إضافي؛ فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد، لا قولان مقرران؛ فلم يظهر إذًا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد، ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معًا3 أصلًا، وإنما يثبت قولا واحدًا وينفي ما عداه.
وقد مر4 جواب مسألة التصويب والتخطئة.
وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان، فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر؛ فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة، وإن أرادوا تجويز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولو كانت حقيقة لم يكن هناك مانع من ترك المجتهد رأي نفسه إلى رأي غيره. "د".
2 أي: بحيث يجوز لكل واحد من المجتهدين أن يأخذ برأي غيره منهم. "د".
3 كما قرره الأصوليون في مسألة "لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد"؛ لأنه إن حصل تعارض جمع أو رجح، وإلا وقف. "د".
4 جواب عن قوله: "وأيضًا؛ فالقائلون بالتصويب... إلخ"، وجوابه هو الجواب المذكور آنفًا عن الاعتراض باختلافهم في أن كل مجتهد مصيب، وهو أن الإصابة إضافية لا حقيقة، بدليل أنه ليس للمجتهد أن يترك ما وصل إليه اجتهاده إلى قول غيره. "د".
قلت: وانظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 124، 20/ 22"، و"فتح الباري" "7/ 409-410"، و"إرشاد الفحول" "ص261-262"، و"الاختلاف وما إليه" "73-78".(42/106)
ص -74-…ذلك في نفس الأمر؛ فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود1 ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن [أن]2 أن أحدا منهم يقوله3.
وأما مسألة قول الصحابي؛ فلا دليل فيه لأمرين:
أحدهما: أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث، على أنه مطعون في سنده، ومسألتنا قطعية ولا يعارض الظن القطع4.
والثاني: على تسليم ذلك فالمراد أنه5 حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند6 إلى قول أحدهم؛ فمصيب7 من حيث قلد أحد المجتهدين، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل8 واحد؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "لو ورد".
2 سقط في "ط".
3 نقل الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص275" أن الماوردي والروياني حكيا عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر، بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الأخر جائز وواقع، وعليه يحمل قول المصنف: "التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين"، وذهب جماعة من الشافعية، منهم البيضاوي والشيرازي إلى جواز التعارض بين الأمارات، وعدم جواز ذلك بين الأدلة القاطعة.
وانظر: "المحلي على جمع الجوامع" "2/ 59"، و"شرح نهاية السول" "3/ 256"، و"مشكاة الأنوار" "2/ 109، 417"، و"التلويح شرح التوضيح" "2/ 103"، و"الإبهاج بشرح المنهاج" "3/ 132، 133، 137، 146، 147" و"شرح تنقيح الفصول" "417، 418" و"كشف الأسرار" "3/ 706"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138"، و"حاشيتا التفتازاني والجرجاني على شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 367"، و"زاد المعاد" "3/ 150"، و"أدلة التشريع المتعارضة "ص26-35" لبدران أبو العينين بدران، و"التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية: "1/ 59 وما بعدها" لعبد اللطيف البرزنجي.
4 في الأصل: "القطعي".
5 في "ط": "منهم".
6 في "ف": "أسند".
7 في "م": "مصيب".
8 أي: بل بالنسبة لنفسه ولمن قلده كما سبق في المجتهدين. "د".(42/107)
ص -75-…فإن هذا مناقض لما تقدم.
وأما قول من قال: إن اختلافهم رحمة وسعة؛ فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: "ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد، قيل له: فمن يقول إن كل مجتهد مصيب؟ فقال: هذا لا يكون [هكذا، لا يكون] قولان مختلفين1 صوابين".
ولو سلم؛ فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك، قال القاضي إسماعيل2: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن3 يقول الإنسان4 بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا، فاختلفوا".
قال ابن عبد البر5: "كلام إسماعيل هذا حسن جدا".
وأيضًا؛ فإن قول من قال: "إن اختلافهم رحمة" يوافق ما تقدم6، وذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "مختلفان"، وينقل المصنف -بتصرف- عن "جامع بيان العلم" "2/ 906، 907"، وفيه: "قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا، وما الحق والصواب إلا واحد"، وليس عنده: "إن كل مجتهد مصيب"، وهي في "ترتيب المدارك" "1/ 192، 193"، و"إعلام الموقعين" "4/ 211"، و"صفة الفتوى" "41" لابن حمدان، و"آداب المفتي والمستفتي" "125".
2 نقل مقولته ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 906-907".
3 في مطبوع "الجامع": "لأن".
4 في مطبوع "الجامع": "الناس".
5 في "الجامع" "2/ 907".
6 أي: من أن ذلك بسبب فتحهم باب الاجتهاد. "د".
قلت: هذا ما صرح به المصنف في "الاعتصام" "2/ 676-676 - ط ابن عفان".(42/108)
ص -76-…لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين [وقد ذمت المختلفين] فيها وفي غيرها من متعلقات الدين؛ فكان ذلك عندهم عامًّا في الأصول والفروع، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فما جاءتهم1 مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} [آل عمران: 7]، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال؛ لأن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة؛ فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي، والفطر والأنظار تختلف؛ فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها -وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها- لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف، وأن الشريعة لا اختلاف فيها، ومواضع الاشتباه مظانٌّ الاختلاف في إصابة الحق فيها؛ فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة، فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف؛ سهل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"2.
وقال: "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا"3.
وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين؛ فكذلك أيضًا، لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل، ومصادفة العامي المفتي؛ فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين4 على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جاءت".
"2 و3" مضى تخريجهما قريبًا.
4 أي: في نظر المجتهد، وأما في نفس الأمر؛ فلا تعارض على الصحيح. "ف".(42/109)
قلت: وما عند المصنف في "المستصفى" "2/ 391" للغزالي.(42/110)
ص -77-…للعامي اتباع المفتيين معًا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح1.
وقول من قال2: "إذا تعارضا عليه تخير" غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفًا.
والثاني: ما تقدم من الأصل الشرعي، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل، وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية، فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا إذا وسعه الترجيح، وإلا؛ فيخير بين أيهما شاء؛ لأن كلا القولين موجود بالفعل، معمول به عند قائله؛ فهو في سعة من الأخذ بأيهما أراد، بخلاف المجتهد إذا تعارض في نظره دليلان ولم يسعه الترجيح؛ فليس هناك قول موجود بالفعل حتى يكون في سعة من العمل به؛ فيلزمه التردد والتوقف كما نقل عن الشافعي في بضعة مسائل، وقد يستأنس لهذا بما قيل من جواز تقليد العامي المفضول من المجتهدين، مع وجود الفاضل، مع أنه لا يجوز للمجتهد الأخذ بالمرجوح من الأدلة مع وجود الراجح. "ف".
قلت: انظر: التقرير والتحبير" "3/ 351"، و"القسطاس المستقيم" "ص76" للغزالي، تحقيق محمد السمان ط دار الثقافة 1381هـ والمدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور "ص325"، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" للباني.
2 التخيير في حق العامي هو الذي صححه الرافعي والشيرازي في "اللمع"، واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه، واختاره الآمدي مستدلًا بحادثة بني قريظة، وفي هذا الاستدلال نظر، كما قدمناه في التعليق على "3/ 407-409"، وقال الغزالي في "المحصول" "6/ 82": "منهم في خيره، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الإعلم"، قال: "وهو الأقرب لمزيته"، وانظر: "البحر المحيط" "6/ 313"، وفيه: "وأغرب الروياني فقال: إنه غلط".(42/111)
قلت: ودليل المصنف على التغليط قوي، وهو موافق للروياني، ونصره الفاسي في "تحفة الأكابر" كما في "رفع العتاب" "ص95".(42/112)
ص -78-…وأما الكلية؛ فهي أن يكون المكلف داخلًا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته؛ اعتقادًا، وقولًا، وعملًا؛ فلا يكون متبعًا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة؛ لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبقَ لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة؛ فلا يصح القول بالتخيير على حال، وانظر في الكتاب "المستظهري" للغزالي؛ فثبت2 أنه لا اختلاف في أصل الشريعة، ولا هى موضوعة على [كون]3 وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودًا من الشارع، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها؛ إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف لصح فيها4 وجود الاختلاف على الإطلاق؛ لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف وذلك معلوم البطلان؛ فما أدى إليه مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر منه آخر "الباب التاسع، في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا.... ص120"، وفي النسخ المطبوعة و"ماء": "المستظهر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، كما في "الأصل"، وفي "طبقات السبكي" "4/ 116": "المستظهري في الرد على الباطنية"، وانظر: "مؤلفات الغزالي" "رقم 22".
وقول المصنف السابق: "فإن الشريعة قد ثبتت أنها تشتمل على مصلحة.... إلخ" منه "ص59" مع تصرف وتغيير.(42/113)
2 هذا واقع في مقابلة قوله في آخر الاعتراض على أصل القاعدة "يحمل على الاختلاف في أصل الدين لا في فروعه الذي جعله نتيجة للأدلة لأدلة المسألة، فلما أبطل أدلة المسألة واحدًا واحدًا؛ رتب عليه قوله؛ فثبت أنه لا اختلاف، وصح أن نفي الاختلاف جارٍ على الإطلاق في الأصول والفروع، كما هو أصل المسألة، وكما نبه إليه قوله آنفًا: "فكان ذلك عندهم عامًّا في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر... إلخ". "د".
3 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".
4 في "ط" و"م": "فيه".(42/114)
ص -79-…فصل:
وعلى هذا الأصل ينبني قواعد، منها1 أنه ليس للمقلد2 أن تتخير3 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: متى ثبت الأصل المتقدم، وهو أن الشريعة ترجع إلى قول واحد، لزم أنه ليس للمقلد أن يتخير؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كانت الشريعة موضوعة على تعدد الحكم واختلاف الرأي في الشيء الواحد، إلا أن هذا الموضع نفسه تقدم له في معارضة المسألة، ثم رده وأقام الدليل على غرضه من عدم تخير المقلد، لكنه بسط الكلام عليه في هذا الفصل؛ فلهذا أعاده.
وقد ذكر الأصوليون في تخيير المقلد مسألة خلافية، وهي أنه هل للعامي أن يسأل من يشاء من المفتين، أم أنه لا بد من ترجيحه في سؤاله وأخذه عن الراجح منهم في نظره ويكفيه الشهرة؟ وهذا هو رأي أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مخالفين لرأي القاضي أبي بكر وجماعة من الفقهاء والأصوليين القائلين بالتخيير، سواء أتساووا أم تفاضلوا، واستدلوا بأن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز؛ لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره، قال الآمدي "في "الإحكام" "4/ 318" في نهاية المسألة: "ولولا إجماع الصحابة على ذلك؛ لكان القول بمذهب الخصوم أولى" ا. هـ. والظاهر أن هذا الدليل لا ينهض بإزاء موضوع المؤلف؛ فإن غاية ما أفاده الدليل تخيير العامي في استثناء أي صحابي شاء، أما إذا ذهب إلى صحابيين، فأفتياه بمختلف الأقوال؛ فليس في هذا الدليل ما يدل على التخيير فيه، وهو الذي يتكلم فيه المؤلف ويبرهن على عدم جوازه، وهو غير أصل المسألة المختلف فيها على ما نقلناه؛ فلا يأتي فيه دليل القاضي ومن معه، وليس محل إجماع الصحابة، وحينئذ فيتم فيه قول الآمدي: "إن مذهب الخصوم أولى"، ويتم للمؤلف مطلوبه. "د".(42/115)
قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "6/ 81"، و"البحر المحيط" "6/ 311"، و"التمهيد" "4/ 403"، و"المستصفى" "2/ 390"، و"البرهان" "2/ 1342-1344"، و"المنخول" "479"، و"الإحكام" "4/ 317" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "432"، و"تيسير التحرير" "4/ 351"، "فواتح الرحموت" "2/ 404"، و"إحكام الفصول" "ص729"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"المسودة في أصول الفقه" "462، 518"، و"جمع الجوامع" "2/ 395 مع شرح المحلي"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 262 و20/ 202"، =(42/116)
ص -80-….....................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 204، 209، 213 و35/ 233"، و"آدب المفتي والمستفتي" لابن الصلاح "ص164-165"، و"روضة الطالبين" "11/ 117".
2 التقليد قبول رأي من ليس رأيه حجة دون أن تعرف حجته، فيخرج عنه العمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإجماع ورجوع القاضي إلى الشهود؛ لأن هذه الثلاثة أدلة شرعية يؤخذ بها في الأحكام جماعًا؛ فهي حجة شرعية، فلا يعد الرجوع إليها تقليدًا، والمفتي في اصطلاحهم هو المجتهد، وقد يطلق على من يعرف الأحكام الشرعية ويتصدى لإجابة السائلين عنها وإن لم يكن مجتهدًا. "د".
3 في المسألة ثمانية أقوال، والتخيير لأكثر أصحاب الشافعي والشيرازي والخطيب والبغدادي والقاضي، والاجتهاد في الترجيح الذي اختاره المؤلف وبالغ في إثباته وشدد النكير على خلافه هو لابن السمعاني، كما يؤخذ من "إرشاد الفحول" "ص271" للشوكاني، وعليك بمراجعة الركن الثاني من أركان القضاء في "التبصرة" "1/ 45 وما بعدها"؛ فإن به فصولًا ممتعة جدًا في هذا الموضوع، وهي على الجملة تؤيد ما ذهب إليه المؤلف هنا، وفي "فتاوى الشيخ عليش" "1/ 57 وما بعدها" في باب مسائل أصول الفقه إفاضة واستقصاء في هذا الموضوع. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "علمت أن الظاهر تخييره، ومن كان حكمه كذلك؛ فلا يلزم أن يكون أخذه بأحدهما متبعًا هواه، خصوصًا إذا تساويا بالنسبة إلى فرضه".
قلت: انظر ما قدمناه قريبًا في التعليق على "ص79"، و"إحكام الفصول" "ص729-730"، و"البرهان في أصول الفقه" "2/ 1350-1351".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/117)
1 نقل عنه هذا الزركشي في "البحر" "6/ 313" وغيره، وفي هذا نظر؛ فإنه قال في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204": "فإن قال قائل: فكيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا؛ فهل له التقليد؟ قيل: له إن شاء الله، هذا على وجهين:
أحدهما: إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه، إذا عقل أن يعقل، وإذا فهم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم؛ فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان عقله يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له؛ وَسِعَهُ التقليد لأفضلهما عنده".
قلت: وهذا تفصيل حسن، وليس فيه التخيير؛ فتأمل.(42/118)
ص -81-…الخلاف؛ كما إذا اختلف المجتهدون على قولين؛ فوردت كذلك على المقلد؛ فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة؛ فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم"1، وقد مر الجواب عنه، وإن صح؛ فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوًا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين؛ فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه؛ فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى، وقد مر ما فيه؛ فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها2.
وأيضًا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد، الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم3 التشهي والأغراض في مثل هذا؛ لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع.
وأيضًا؛ فإن في مسائل الخلاف ضابطًا قرآنيًا ينفى اتباع الهوى جملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث غير صحيح، وانظر تفصيلًا حول الجواب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يؤيد قول المصنف في "رفع العتاب" "ص90-93".
2 مثل الأورعية أو كثرة الأدلة؛ كما تراه في "المحصول" "6/ 81"، و"جمع الجوامع" "2/ 436"، و"رفع العتاب" "ص65-66".(42/119)
3 أي: فلا فرق بين أن يمنع المكلف من الحكم بين الناس بمحض اختياره قولًا من الأقوال المنسوبة للمجتهدين، وبين أن يأخذ لنفسه بمحض هذا الاختيار، فلما كان ممنوعًا من الأول إجماعًا كان ممنوعًا من الثاني، ومن يدعي الفرق عليه البيان، على أن القرافي نقل الإجماع على حرمة اتباع الهوى في الفتيا أيضًا كما نقله عنه ابن فرحون في "التبصرة" "1/ 51" في الركن الثاني من أركان القضاء، ونقل عنه فيه أيضًا أن الحكم والفتيا بالمرجوح خلاف الإجماع. "د".(42/120)
ص -82-…وهو قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [النساء: 59]، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان؛ فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة1 الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة؛ فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول، وهذه الآية2 نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك} [النساء: 60].
وهذا4 يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله: "أصحابي كالنجوم"5.
وأيضًا؛ فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم6 الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الترجيح هنا. "د".
2، 3 الآتيان نزلت كل منهما على سبب خاص غير سبب نزول الأخرى؛ إلا أنهما مشتركان في نوع السبب، فعليك بالرجوع لكتب التفسير. "د".
قلت: انظر "لباب النقول" "72"، و"الصحيح المسند من أسباب النزول" "ص45".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهذا".
5 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث منكر.
6 قال في كتابه "مراتب الإجماع" "ص58": "واتفقوا على أنه لا يحل لمفتٍ ولا لقاضٍ أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء ما لم يكن ذلك الرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب؛ بان له، ونقله عنه المحلي في "شرح جمع الجوامع" "2/ 442".
ونقل الإجماع ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 91، 92 - ط القديمة", والباجي كما سيأتي عنه، وابن الصلاح في "آداب المفتي" "ص125"، وحكاه عنهما ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى الفقهية" "4/ 204"، وانظر: "رفع العتاب" "ص76".(42/121)
ص -83-…وأيضًا؛ فإنه مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء، ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف1، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح2 فإنه متبع للدليل؛ فلا يكون متبعًا للهوى ولا مسقطا للتكليف.
لا يقال: إذا اختلفا، فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز3؛ فكذلك بعد لقائه، والاجتماع طردي؛ لأنا نقول: كلًا، بل للاجتماع أثر؛ لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل4 كما لو وجد دليلًا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل. أما إذا اجتمعا واختلفا عليه؛ فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب، واعتذر عنه بأنه مقيَّد لا مطلق؛ فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره [في]5 العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور، لا قاصدًا لاتباع هواه فيه، ولا لمقتضى التخيير على الجملة؛ فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا، واتباع الهوى ممنوع؛ فلا بد من هذا القصد.
وفى هذا الاعتذار ما فيه، وهو تناقض؛ لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح؛ فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر: "استدراك1".
2 في "ط" و"ف": "للترجيح" وصوب "ف" المثبت في الهامش، وكتب "م": "في "م" و"ت": فالترجيح".
3 أي: بدون حاجة إلى طلب أفضلية المجتهد على غيره، كما هو مذهب القاضي أبي بكر ومن معه للدليل السابق. "د".
4 في "ط": "متصل".
5 ما بين المعقوفتين سقط من "ف" و"ط"، وصوب "ف" وجوده في الهامش، وعند "م": "أن يكون التخيير في العمل..".(42/122)
ص -84-…فصل:
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال؛ اتباعا لغرضه1 وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق.
ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلًا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك.
فأما ما لا يتعلق به فصل قضية، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته؛ ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض فى "المدارك"2: "قال موسى بن معاوية: كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان3؛ فقال له بهلول: ما أقدمك؟ قال: نازلة، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل أخرجوا الأمر عن كونه قانونًا شرعيًا، وجعلوه متجرًا، حتى بعض المؤلفين في فقه الشافعية ما نصه: "نحن مع الدراهم كثرة وقلة". "د".
قلت: ومن الطرائف ما حكاه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 167" عن بعض الفقهاء في زمانه، قال: "قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قومًا فساقًا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم، وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى، وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا منه عيانًا، وعليه جمهور أهل بلدنا، إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها؛ لأننا لم نشاهدها" انتهى.
2 "1/ 330 - ط بيروت".
3 أبهمه المصنف، وهو عبد الرحيم بن أشرس، على ما حكى القاضي عياض.(42/123)
ص -85-…ثلاثًا ما أخفيته. قال له البهلول: مالكٌ يقول: إنه يحنث1 في زوجته. فقال السائل: وأنا قد سمعته يقول2: وإنما أردت غير هذا. فقال: ما عندي غير ما تسمع. قال: فتردد إليه ثلاثًا، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة؛ قال: يابن فلان! ما أنصفتم الناس، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: "قال مالك"، "قال مالك"، فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص، الحسن يقول: لا حنث عليه في يمينه، فقال السائل: الله أكبر قلدها3 الحسن؟!" أو كما قال.
وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين؛ فالأمر أشد، وفى "الموازيَّة"4 كتب عمر بن الخطاب: "لا تقضِ بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك". قال ابن المواز: "لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد5، وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض6 من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن الخوف على النفس أو المال إنما يعد إكراهًا يرفع أثر الإيمان إذا كان الضرر عائدًا على الشخص الحالف نفسه أو ولده؛ حتى إن الأب والأخ مثلًا لا يعد الخوف عليهما إكراهًا يرفع أثر الإيمان، ولو تحقق الحالف حصول ما ينزل بغير نفسه وولده من الضرر؛ فلا يعد إكراهًا، وإن كان يطل منه اليمين شرعًا -ندبًا أو وجوبًا على الخلاف- لأجل سلامة ذلك الغير، ومحل الحنث إذا يَكُنْ: "ابن فلان"، هذا حلف اليمين خوفًا على نفسه هو من عقوبته على إخفائه، أما إذا كان كذلك؛ فهو داخل في الإكراه، ولا حنث في اليمين، وهذا رأي مالك وأصحابه جميعًا في الإكراه لا ينعقد به يمين ولا بيع ولا غيرهما من سائر العقود والالتزامات. "د".
2 في "م" و"ط": يقوله.
3 معناه أخذها في عنقه كالقلادة، أي أنه هو المسئول عنها ولست مسئولا؛ فأعمل بقوله والعهدة عليه، وتكبيره سرور منه بانفراج أزمته وحل مشكلته. "د".
قلت: وهو رد على "ف"، وتبعه "م" حيث قال: "أي: قلد الفتيا، وهو استغراب منه".(42/124)
4 انظر عنها "دراسات في مصادر الفقه المالكي" "ص149-153 - ط دار الغريب".
5 انظر: "الذخيرة" "10/ 133"،
6 في "ط": "في بعض".(42/125)
ص -86-…مضى، ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه، وهو أيضًا من قول من مضى، وهو في أمر واحد، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل؛ فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابًا".
وما قاله صواب، فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر، مع عدم تطرق التهمة للحاكم، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله.
وحكى أحمد بن عبد البر1 "أن قاضيا من قضاة قرطبة2 كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى؛ فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى، فصرف يحيى رسوله، وقال له: لا أشير عليه بشيء؛ إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه. فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى وقال له: لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقًا؟ قال: نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرًا لله [متخيرًا]3 في الأقوال، فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف؛ فلا خير فيما تجيء به، ولا فيَّ إن رضيته منك، فاستعفِ من ذلك فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك". فرفع يستعفي فعُزِل.
وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخو الشيخ ابن لبابة مشهورة، ذكرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعنه القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 539 - ط بيروت".
2 سماه أحمد بن عبد البر: "جميل المذهب".
3 سقط من "ط".(42/126)
ص -87-…عياض1، وكانت مما غض من منصبه، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه2 بيته وأن لا يفتي أحدًا فأقام على ذلك وقتا، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر3 من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر، فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه4 وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه؛ فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس. فقال له: فتكلم مع الفقهاء فيه، وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه؛ فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة.
فتكلم ابن بقي معهم، فلم يجعلوا إليه سبيلًا؛ فغضب الناصر عليهم، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم؛ فجرت بينهم وبين الوزراء5 مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر؛ فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعًا، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة؛ فاجتمع القاضي والفقهاء، وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة6 المعاوضة فيها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "2/ 399 - ط بيروت"، وذكرها المصنف في "الاعتصام" "2/ 684-685 - ط ابن عفان".
2 ف "ط": وألزمه".
3 كمنبر حوض لا يسقى فيه، وبالفتح: اسم مكان من الجشر -بالسكون-، وهو أن يخرجوا بخيلهم فيرعوها أمام بيوتهم، والمراد به مرتفق المرضى كالمستشفى. "ف" وتبعه "م".
4 في الأصل و"ف" و"م": "منزهة"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 684"، وفي "ترتيب المدارك" "2/ 399": "منتزهه وباديته فيهم، وأن مطلعه من علاليه..".(42/127)
5 في "ط": "بعض الوزراء".
6 كذا في الأصل و"ف" و"د" و"الترتيب" و"الاعتصام"، وفي "م": "ورغبه".(42/128)
ص -88-…فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت؛ فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس؛ فالذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأما أهل العراق؛ فإنهم لا يجيزون1 الحبس أصلًا، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وإذ بأمير المؤمنين من2 الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنة فسحة، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق، وأتقلد ذلك رأيا، فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال له3 محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم4 فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم؟5 قالوا: بلى. قال: فأمير المؤمنين؛ أولى بذلك فخذوا به مآخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء؛ فكلهم قدوة. فسكتوا، فقال للقاضي: أنه6 إلى أمير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتاب "البدائع" "6/ 218" في مذهب الخنفية: إنه ينبني على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه في جواز الوقف وعدمه، أنه لو بنى رباطًا أو خاناص للمجتازين أو سقاية للمسلمين لا تزول رقبة العين عن ملكه عند أبي حنيفة، إلا إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري مثلًا وقفا على كذا، ومثله إذا حكم به حاكم، أما عند صاحبيه، فيزول الملك بدون توقف على الإضافة إلى ما بعد الموت وبدون حكم الحاكم. "د".
قلت: انظر في تفصيل المسألة: "المدونة الكبرى" "4/ 342"، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "4/ 91"، و"التاج والإكليل" "6/ 42"، و"رسالة الحطاب في بيع الأحباس" "مخطوطة في دار الكتب المصرية، ق4، 5"، و"أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية" "2/ 32 وما بعدها".(42/129)
2 في "ف": "في"، وفي "م": "وإذا كان بأمير المؤمنين في...".
3 في "ط": "فقال لهم".
4 في "د": "أخذتهم".
5 بعدها في "ط": "في ذلك".
6 أي: أبلغ.(42/130)
ص -89-…المؤمنين فتياي. فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب1، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق؛ ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة؛ فهنئ بالولاية، وأمضى القاضي الحكم بفتواه، وأشهد عليه وانصرفوا؛ فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاث مائة.
قال القاضي عياض2: "ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر؛ فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة؛ فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه. أو كما قال.
وذكر الباجي3 في كتاب "التبيين لسنن المهتدين" حكاية أخرى فى أثناء كلامه فى معنى هذه المسألة؛ قال: "وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في زيادات "شرح القاموس" في مادة منية ما نصه: "والمنية بالكسر اسم لعدة قرى..." إلى أن قال: "مِنية عجب بالأندلس منها خلف بن سعيد المتوفي بالأندلس سنة 305"؛ فقوله في "الاعتصام" "2/ 686 - ط ابن عفان" في فصل أسباب الخلاف: "ويعوض من هذا المجشر بأملاك ثمنية عجيبة" لا يقتضي أن يكون هنا تحريف، بل قوله: "وكانت عظيمة القدر.... إلخ" يقتضي أنها كانت معروفة بأعيانها كما هو مقتضى كونها اسمًا لهذه البلدة بالأندلس. "د".
قلت: وهو رد على "ف" -وتبعه "م"- حيث قال: "لعله بأملاك ثمنية كما في "الاعتصام"" ا. هـ. قلت: الصواب "بمنية عجب" كما في "ترتيب المدارك" "1/ 402".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 204".
3 نقل عنه المزبور عند المصنف: ابن الصلاح في "آداب المفتي والمستفتي" "ص125"، وابن حمدان في "صفة الفتوى" "40-41".(42/131)
ص -90-…الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء، دون أن يخرج عنها ولا يميل1 إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك، فيقضى في قضية بقول مالك، وإذا2 تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول، لا لرأي تجدد له، وإنما ذلك بحسب اختياره".
قال: "ولقد حدثني من أَثِقُهُ3 أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة فى الإجارات، قال لي: فوردت من سفري، فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح فى الدين- عن مسألتي؛ فقالوا: ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها. فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضي لي بها".
قال: وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا المصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر: إن الذى لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه".
قال الباجي: "ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه، ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه".
قال: "وكثيرًا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟ وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولا يلزم أن يكون ميله إلى أحد هذه الأقوال بمقتضى وجه ومرجح؛ إلا أنه يبقى الكلام في معنى كون هذا نظرًا واستدلالًا، وأي شبهة ولو ضعيفة لهذا الزعم مع قوله: "لا يميل.... إلخ"؟ "د".
2 في "ط": "فإذا".
3 في "د": "أوثقه"، وما أثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط".(42/132)
ص -91-…كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به فى الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي فى دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى فى حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم}... الآية [المائدة: 49]؛ فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!".
هذا ما ذكره، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه1 لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدًا2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد به غير المجتهد ممن يعرف أقوال المجتهدين؛ لأنه الذي تقدم الكلام عن الباجي في الإنكار عليه؛ فالمجتهد من باب أولى. "د".
2 قال ابن فرحون في "تبصرة الحكام" "1/ 51-52، 55-56" والقرافي في "الإحكام" "ص250" والنص له: "ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفات الغافلين".(42/133)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر "إعلام الموقعين" "4/ 222" في الفصل الذي عقده لفوائد تتعلق بالفتوى: "الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده =(42/134)
ص -92-…والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكره؛ فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى، وأما المجتهد؛ فهو أحرى بهذا الأمر.
فصل:
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا، فيضرب به المرأة ضربة واحدة.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيتخلص من الربا.
فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله وسوله من الحق اللازم، والله الموفق للصواب" انتهى.
ومن لطيف ما يذكر في جنب الترخص: ما قاله الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر" "2/ 304"، وقد ترخص في بعض الأمور.
"ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابك من وجهين.
أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استفتيت لم تفتي بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نور في قلبك ما أثر مثل هذا عندك: قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدري ما تركت جائزًا بالإجماع، وعدي هجره ورعًا، وقد سلمت".(42/135)
ص -93-…معدودا فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر1، بل فى غير ذلك، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا2 وما ليس بحجة حجة.
حكى الخطابي3 فى مسألة البتع4 المذكور فى الحديث عن بعض الناس؛ أنه قال: "إن الناس لما اختلفوا فى الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه؛ حرمنا ما اجتمعوا5 على تحريمه وأبحنا ما سواه".
قال: "وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول".
قال: "ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله فى الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلف فيها".
قال: "وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة6 على المختلفين من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: يأتي في الفصل الثامن وهو أنه يراعي الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ لأنه حينئذ يتجدد نظرا واجتهادا آخر. "د".
2 في "د": "متعمدًا".
3 في "إعلام الحديث" "3/ 2091-2092".
4 بكسر فسكون: نبيذ يتخذ من عسل كأنه الخمر صلابة. "ف" وتبعه" "م".
5 عند الخطابي: لزمنا ما أجمعوا..".
6 أي: وقد بينت فيما اختلفوا فيه من مسكر غير العنب، وأنواع الربا ونكاح المتعة، والصرف، وغيرها؛ فلا يمكن الاحتجاج بالخلاف. "د".(42/136)
ص -94-…الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِين}. هذا مختصر ما قال1.
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد [له]2 من أن يكون ممتثلًا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا أيضًا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع3 فى الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج فى ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره4، ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي5 عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعًا، وملت بالناس إلى الحرج، وما فى الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله.
وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية، والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله، ذلك أن المتخير بالقولين مثلًا بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملًا بما أفتاه به المفتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر المصنف في "الاعتصام" "2/ 870-871 - ط ابن عفان" نحو المذكور تحت هذا الفصل، وأورد مقولة الخطابي مختصرة، وقال: "وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب "الموافقات"، والحمد لله".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ماء". وفي "ط": "أبعد له عن".
3 في "ماء": "المتوسع".
4 في "ص67، 68".
5 في "د": "والذي".(42/137)
ص -95-…أما الأول، فلا يصح على الإطلاق؛ لأنه إن كان متخيرًا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي؛ فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين؛ فكذلك، [أو بالنسبة إلى الأول؛ فكذلك]1، أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة، وكل ذلك باطل ومؤدٍّ إلى مفاسد لا تنضبط بحصر، ومن ههنا شرطوا فى الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد، وحين فقد؛ لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم [إلا بمذهب فلان2 ما وجده3، ثم بمذهب فلان؛ فانضبطت الأحكام بذلك، وارتفعت المفاسد المتوقعة]4 من غير ذلك الارتباط، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه.
وأما الثاني؛ فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى فى النازلة بالإباحة وإطلاق العنان، وهو قول ثالث5 خارج عن القولين وهذا لا يجوز له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 هو ابن القاسم؛ كما قاله الباجي. "د".
3 في "ط": "وجدوه".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(42/138)
5 فإن تخييره للسائل في الأخذ بأي القولين شاء إباحة له أن يعمل بأحدهما، وهو غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل والإثبات من القائل الآخر، وإنشاء حكم شرعي كهذه الإباحة لا يصح قطعًا إلا من مجتهد بدليل، والفرض خلافه، وهذا أولى من قوله: "وإن بلغها... إلخ"؛ لأنه سلم أن الإباحة قول ثالث غير النفي والإثبات، وعليه لا يكون مانع يمنع المجتهد -إذا وقع له الدليل على الإباحة ومخالفة القولين- من إثباتها وتقريرها حكمًا شرعيًا، فليس الموضوع حينئذ موضوع قولين لمجتهد حتى يتأتى فيه الرد بما بسطه الأصوليون في مسألة أنه لا يصح أن يكون لمجتهد قولان في مسألة واحدة، بل هو حينئذ قول واحد بالإباحة، على أن الإباحة هنا ليست مقعولة؛ لأن الإباحة تخيير بين فعل شيء وتركه، والذي هنا ترديد بين الامتناع من فعل الشيء؛ لأنه حرام، وبين فعله؛ لأنه مباح، فليست تخييرًا بين الفعل والترك. "د".(42/139)
ص -96-…إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان فى وقت واحد ونازلة واحدة أيضًا حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضًا، فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير؛ كذلك هذا.
وأما إن كان عاميًا؛ فهو قد استند فى فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع؛ ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإن العبد فى تقلباته دائر بين لمتين: لمة ملك، ولمة شيطان1؛ فهو مخير بحكم الابتلاء2 فى الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللمة؛ بفتح اللام: المهمة والخطرة تقع في القلب، وفي حديث ابن مسعود؛ قال: "لابن آدم لمتان: لمة من الملك، ولمة من الشيطان، فأما لمة الملك، فاتعاد بالخير، وتصديق بالحق، وتطييب بالنفس، وأما لمة الشيطان؛ فاتعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وتخبيث بالنفس"، قال ابن الأثير: "أراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه؛ فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". "ف".
قلت: أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، رقم 2991"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 279/ رقم 71"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 418/ رقم 4999"، وعنه ابن حبان في "صحيحه" "40 - موارد و997 - الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88" من طريق أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن للشيطان لمة، وللملك لمة....." وإسناده ضعيف؛ عطاء اختلط، وسماع أبي الأحو(42/140)
ص -واسمه سلام بن سليم- بعد الاختلاط، وباقي رجاله ثقات.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 109"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88، 89" من طريق أخرى بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله، وله حكم الرفع؛ إذ لا مجال للاجتهاد فيه، والله أعلم. وفي "ط": "لمة الملك ولمة الشيطان".
2 أي: لا بحكم التشريع، وإلا؛ فهو مطالب بمقتضى الأولى لا غير. "د".(42/141)
ص -97-…{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن} [البلد: 10].
وعامة الأقوال الجارية فى مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات1، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: "أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق"؛ فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له: "فى مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟". فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع2، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية، وجهل بالشريعة، وغش فى النصيحة، وهذا المعنى جارٍ فى الحاكم وغيره، والتوفيق بيد الله تعالى.
فصل:
واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع3 رخص المذاهب، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله؛ فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طلب الفعل أو الترك. "د".
2 نقله عن المصنف بتصرف محمد بن القاسم القادري "ت1331هـ" في كتابه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام" "ص64-65"، وهو مطبوع.
وانظر: في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 472-473".
3 اختلفوا: هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة؟ فقال به جماعة، وقال الأكثرون: لا يلزمه، وبه قال أحمد، أما إذا التزم مذهبًا معينًا؛ فلهم في ذلك خلاف آخر، وهو: هل يجوز له أن يخالف إمامه ويأخذ بقول آخر في بعض المسائل؟ فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم =(42/142)
ص -98-…الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي1؛ فَمُسَلَّم، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف؛ فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك، بل قوله عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كذلك، وفصل بعضهم بين أن يكون بعد العمل أو الحكم أو قبلهما، أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأخف والأسهل؛ فقال أحمد والمروزي: "يفسق"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام"، وتقدم نقل المؤلف عن ابن حزم الإجماع على تفسيق متتبع الرخص، وبهذا تعلم أنه لا تلازم بين منع تتبع الرخص وعدم الانتقال إلى مذهب إلا بكماله؛ فتتبع الرخص فسق، والأخذ بقول غير إمامه في بعض المسائل عرفت ما فيه من الخلاف، وعلى كل حال متى لم يكن تلاعبًا ولا تتبعًا للرخص لا حجر فيه على الصحيح ما لم يترتب عليه التلفيق، وإلا منع؛ فلا يصح جعل قوله: "وأنه إنما يجوز الانتقال... إلخ" عطف تفسير "من منع"؛ إلا على قول ضعيف، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن تتبع الرخص أعم من الأخذ بغير مذهب إمامه ومن الأخذ بقول مرجوح في المذهب، وعليه؛ فلا يصح جعل قوله: "وإنه إنما يجوز.... إلخ" تفسيرًا؛ لأنه يكون تفسيرًا للشيء بما هو أخص منه. "د".
قلت: ومن الجدير بالذكر هنا ما أورده الذهبي في "السير" "8/ 90" متعقبًا مقولة من قال: "إن الإمام لمن التزم بتقليده: كالنبي مع أمته، لا تحل مخالفته"! قال: "قلت: قوله: "لا تحل مخالفته"! مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه، عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص العلماء، وزلات المجتهدين؛ فقد رق دينه، كما قال الأوزاعي أو غيره".
ثم قال: "8/ 93-94".(42/143)
"ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقها، وسعة علم، وحسن قصد فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله؛ لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتشهي والغرض".
1 أي: إذا وقع على خلافها وهي النص الجلي والإجماع والقياس الجلي وقواعد للشرع، راجع "التبصرة" "1/ 56" لابن فرحون. "ف" ونحوه عند "م".
قلت: انظر أيضًا "الذخيرة" "10/ 134"، و"رفع العتاب" "ص58".(42/144)
ص -99-…والسلام: "بُعِْثتُ بالحَنيفِيَِّة السَّمْحة"1 يقتضي جواز ذلك؛ لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاقِّ العباد، بل بتحصيل المصالح، وأنت تعلم بما تقدم [ما]2 فى هذا الكلام؛ لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها؛ فما قاله عين الدعوى.
ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى؛ فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضًا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وموضع الخلاف موضع تنازع؛ فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة، وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض.
فصل:
وربما استجاز هذا بعضهم فى مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات؛ فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج3 عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح فى المذهب فهذا أيضًا من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة، فإن كانت هذه المسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 211".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ف"، وقال: الأولى: "ما في هذا الكلام"".
3 بناء على ما تقدم له من جعله من باب تتبع الرخص، وهو مبني على وجوب التزام مذهب معين في كل واقعة، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله، وقد عرفت ما فيه. "د".(42/145)
ص -100-…منها، فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذًا عن1 صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن2 منها، فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش، ودعوى غير مقبولة.
وقد وقع فى "نوازل ابن رشد"3 من هذا مسألة نكاح المتعة.
ويذكر عن الإمام المازري4 أنه سئل: ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان -والضرورات تبيح المحظورات- من معاملة فقراء أهل البدو فى سني الجدب؛ إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم: ما عندنا إلا الطعام، فربما صدقوا فى ذلك؛ فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم، خوفًا أن يذهب حقهم فى أيديهم بأكل أو غيره5 لفقرهم، ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريًا إلى الرجوع إلى حاضرته، ولا حكام بالبادية أيضًا، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافًا للقول بالذرائع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "من".
2 في "م": "يكن".
3 انظر: "فتاويه" المطبوعة "3/ 1537"، وهي النوازل على ما ذكر المحقق في أولها "1/ 39".
4 نقله عنه صاحب "المعيار المعرب" وعنه المسناوي في تآليفه في "الاستنابة"، وعنه صاحب "رفع العتاب والملام" "ص64".
5 هذه المسألة تنتهي في التفريع إلى أربع وخمسين مسألة، على ما فصله ابن رشد في "المقدمات" "2/ 526-536"، و"النوازل" أو "الفتاوى" "1/ 384-401"، وعنه التاودي في "حلي المعاصم" "2/ 322 وما بعدها"، وميارة في "شرح التحفة" "2/ 204"، والمواق في "التاج والإكليل" "5/ 59 وما بعدها"، وغيرهم.(42/146)
ص -101-…فأجاب: إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى، فهذا ممنوع1 فى المذهب، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت.
قال: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب فى مخالفة المذهب؛ لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب2، وهذا من المفسدات3 التى لا خفاء بها، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعامًا؛ فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه4 إلى الحاضرة، ويقبض البائع الثمن، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز.
فانظر كيف لم يستجز -وهو المتفق على إمامته- الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله؟ فلو فتح5 لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب6؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يؤول الأمر إلا بيع طعام بطعام نسيئة والثمن النقدي المتوسط ملغي، وهذا بناء على التزام يسد الذرائع كما هو المذهب. "د".
2 الأصوب أن يقول: "هيبة الشرع".
3 لأنه يكون تحكيمًا للهوى؛ فلا يسير إلا حيث يكون غرضه وشهوته، ولا يكون داخلًا تحت قانون شرعي يضبط به تصرفاته. "د".
4 في "م": "منقده" بالقاف، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط" بالفاء.
5 في "م": "صح"، وهو خطأ.(42/147)
6 جمع أبو عبد الله محمد بن قاسم القادري الفاسي "ت1331هـ" كتابًا فيه نقل عن علماء المذاهب من الفتوى بغير المشهو في المذهب، وسماه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام"، واعتنى بذكر كلام المصنف "الشاطبي"، انظر منه: "ص35، 37، 57، 58، 65، 66، 80 وغيرها"، إذ هذا رأيه كما رأيت، وهو مطبوع عن دار الكتاب العربي بتحقيق محمد القاسم بالله البغدادي سنة 1406هـ.(42/148)
ص -102-…فصل:
وقد أذكر هذا المعنى جملة مما في اتباع1 رخص المذاهب من المفاسد، سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة؛ كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل2 إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالًا لا ينضبط3، وكترك4 ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم؛ لأن المذاهب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع "التحرير" لابن الكمال* في الأصول في باب التقليد؛ فقد أجاز تتبع رخص المذاهب، وقال شارحه: "لكن ما نقل عن ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا" إن صح احتاج إلى جواب، ويمكن أن يقال: لا نسلم صحة الإجماع، فقد روي عن أحمد عدم تفسيق متتبع الرخص في رواية أخرى وعن أبي هريرة أنه لا يفسق. "د".
قلت: انظر رسالة: "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء"؛ ففيها جمع مستطاب في المنع من تتبع رخص المذاهب، والمفاسد المترتبة على ذلك.
2 كما يقول الله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} الآية [النساء: 59] "د".
3 فلا يحجر النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد. "د".
4 هذه المفسدة قاصرة على حالة ما إذا لم تعلم المسألة المقلد فيها بتفاصليها في المذهب الآخر، كما كان الحال في ذلك الزمان، أما الآن؛ فقد ترتفع هذه المفسدة. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل ولعل صوابه: "لابن الهمام. الكلام....".(42/149)
ص -103-…الخارجة عن مذهب مالك فى هذه الأمصار مجهولة، وكانخرام قانون السياسة الشرعية1، بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق2 إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها، ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك، ولكن فيما تقدم منه كافٍ، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الطرق العادلة التي تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرًا من المظالم، وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويندرج فيها كل ما شرع لسياسة الناس وزجر المتعدين، وسواء منها ما كان لصيانة النفوس كالقصاص، أو صيانة الأنساب كحد الزنا، أو الأعراض كحد القذف، والتعزيز على السب، أو لصيانة الأموال كحد السرقة والحرابة، أو لحفظ العقل كحد الخمر، أو ما كان من الأحكام للردع والتعزيز؛ كجزاء الصيد للمحرم، وكفارة الظهار واليمين، وهجر المرأة وضربها في النشوز، وقصة الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، وما يتصل بذلك من الكشف عن أصحاب الجرائم بالتغليظ عليهم بالإرهاب، والضرب، والسجن، وتحليف الشهود، وسؤالهم قبل مرتبة السؤال، وتفريق الشهود عند أداء الشهادة، وتفريق المتهمين، وإيهام البعض بأن غيره أقر ليقر، وهكذا من الأمور التي توصل إلى معرفة الحقيقة بدون اقتصار على سماع البينات وتوجيه الأيمان، ولا يخفى أن القسم الأخير الذي قلنا فيه: "وما يتصل بذلك... إلخ" مختلف فيه، وإنما سبيله المصالح المرسلة أو شبيه بها، ففيه الخلاف باعتباره -وهو الذي ينبغي التعويل عليه- وعدم اعتباره، فإذا ورد هذان القولان فيه أو في شيء من الأنواع السابقة عليه، وحكمنا أو أفتينا كل واحد بما تشتهي، انخرم قانون السياسة الشرعية، ولم يكن هناك ضابط للعدالة بين الناس، وهذا مفسدة أي مفسدة تؤدي إلى الفوضى والمظالم؛ فتضيع الحقوق وتعطل الحدود، ويجترئ أهل الفساد. "د".(42/150)
2 كما إذا قلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى؛ فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها، , وكما إذا قلد مالكًا في عدم النقض بلمس المرأة خاليًا عن قصد الشهوة ووجودها، والشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس؛ فوضوءه باطل، وصلاته كذلك، وكمن تزوج بلا صدق ولا ولي ولا شهود. "د".
قلت: انظر في المسألة الأخيرة وبيان سوء التلفيق فيها: "فتاوى رشيد رضا".(42/151)
ص -104-…فصل:
وقد بنوا أيضً على هذا المعنى مسألة أخرى، وهى:
هل يجب الأخذ بأخف القولين، أم1 بأثقلهما2؟ واستدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} الآية: [البقرة: 185].
وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"3.
وقوله: "بعُثِْتُ بالحنيفيَّةِ السَّمحة"4.
كل ذلك ينافى شرع الشاق5 الثقيل، ومن جهة القياس أن الله غني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م": "أو".
2 حكاه أبو منصور عن أهل الظاهر، وهذا القول ومقابله لا يصحان؛ لأن الواجب -كما قال المؤلف- الرجوع للدليل الشرعي لا غير، وسواء أقضى بالأخف أم بالأثقل، ثم في القول بالأخذ بالأخف مطلقًا ما تقدم من المفاسد التي أشيير إليها في الفصل السابق. "د".
قلت: والقائلون بالأخذ بأثقل القولين ذهبوا إليه للاحتياط!! ويرد عليهم بأن الاحتياط هو "الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة، ولا تقصير، ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله" قاله ابن القيم في كتابه "الروح" "ص346". انظر في المسألة: "البحر المحيط" "6/ 322-323، 325-326"، و"البرهان" "2/ 1344"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 581"، و"المستصفى" "2/ 391"، و"روضة الناظر" "3/ 1026"، و"المسودة" "463-464"، و"تسير التحرير" "4/ 255"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"جمع الجوامع" "2/ 392 - مع شرح المحلي"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 162-163"، و"الاختلاف وما إليه" "103-104".
3 مضى تخريجه "2/ 72".
4 مضى تخريجه "2/ 211".
"5" في "ماء": "المشاق".(42/152)
ص -105-…كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى.
والجواب عن هذا ما تقدم1، وهو أيضًا مؤدٍ إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة؛ فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفًا من الكلفة، وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت فى التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل؛ لزم2 ذلك فى الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله؛ فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال، ثم قال المنتصر لهذا الرأي3: إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل فى الملاذ الإذن، وفى المضار الحرمة، وهو أصل قرره فى موضع آخر، وقد تقدم التنبيه على ما فيه فى كتاب المقاصد4.
وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا؛ لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف، وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أن سماحة الشريعة إنما جاءت مقيدة بما هو جار على أصولها، واتباع هوى النفوس وعدم الرجوع إلى الدليل ينافي أصولها. "د".
2 في الأصل: "فليزم".
3 المصنف ينقل عن "المحصول" "6/ 159-160" والعبارات السابقة مع الأدلة منه، ومراده بكلامه هذا صاحبه الرازي، ويؤكده بقوله: "وهو أصل قرره في موضوع آخر". وتجد ذلك في "المحصول" "6/ 107-108" أيضًا، وسيأتي كلام المصنف في المسألة الرابعة من الطرف الثاني من كتاب الاجتهاد أن الذي ينبغي للمفتي اختيار التوسط.
4 وتقدم في المسألة الثالثة عشر من كتاب الأدلة حيث قال هناك: "إنه تحكيم للهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تابعة لا متبوعة". "د".(42/153)
ص -106-…فصل:
فإن قيل1: فما معنى مراعاة الخلاف2 المذكورة فى المذهب المالكي؟ فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف؛ فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها، فإن كانت مختلفًا فيها؛ روعي فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي، فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها، ألا تراهم يقولون: كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به3 الميراث، ويفتقر فى فسخه إلى الطلاق، وإذا دخل مع الإمام فى الركوع وكبر للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام؛ فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة4 لقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع إلى معارضة أصل المسألة، ولكن بشيء لم يتقدم له في أدلة المعارضة السابقة، وأفرده هنا لاحتياجه إلى مزيد بيان وتحقيق. "د".
2 انظر حوله: "تهذيب السنن" "1/ 60"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257-259"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130 - ط الفقي" كلها لابن القيم، و"المعلم بفوائد مسلم" "1/ 71-72"، و"إيضاح السالك" "160" للونشريسي، و"ملء العيبة" "3/ 248" لابن رشيد و"المنثور في القواعد" للزركشي "2/ 127-134"، و"الأشباه والنظائر" "ص94-95" للسيوطي، وبهامشه "المواهب السنية على الفوائد البهية" "ص206-212" للجوهري، و"فتح الباري" "1/ 127"، و"الدين الخالص" "4/ 176، 182" لصديق حسن خان، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"تمام المنة" "159"، وما مضى عند المصنف "1/ 161 وما بعدها"، و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146 - ط رضا، و2/ 647 - ط ابن عفان"، و"الاختلاف وما إليه" "ص79"، وما سيأتي "ص188-189".
3 لأنه بعد الوقوع تعلق به حق كل من الزوجين والأولاد ويتعلق به من المصلحة وأدلتها ما يرجع قول المخالف. "د".
قلت: انظر: الذخيرة" "4/ 446-447 - ط دار الغرب" للقرافي.(42/154)
4 بعد الوقوع تعلق به دليل عدم جواز إبطال الأعمال، وهو يرجع دليل المخالف ويقويه في هذه الحالة. "د". قلت: انظر في المسألة: "قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي"، و"الذخيرة" =(42/155)
ص -107-…من قال: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، وكذلك من قام إلى ثالثة فى النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز1 التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها؛ فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها، ومثله جار فى عقود البيع وغيرها؛ فلا يعاملون الفاسد المختلف فى فساده معاملة2 المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف؛ فأنت تراهم يعتبرون الخلاف، وهو مضاد لما تقرر فى المسألة.
فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة، منهم ابن عبد البر؛ فإنه قال: "الخلاف لا يكون حجة فى الشريعة"3، وما قاله ظاهر؛ فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه4 الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم5.
وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ6 الذين أدركتهم؛ فمنهم من تأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "2/ 169 - ط دار الغرب" و"فتح الباري" "2/ 217-218"، وكتابنا "القول المبين" "ص266 - ط الأولى".
1 في "ط": "قال: يجيز".
2 البيع بيعًا فاسدًا مجمعًا على فساده يجب رده إن لم يفت؛ فإن فات مضى بقيمته إن كان مقومًا ومثله إن كان مثليًا، أما المختلف في فساده، فيجب رده إن لم يفت أيضًا بفسخ الحاكم أو من يقوم مقامه، فإن فات مضى بالثمن؛ فمحل الفرق بينهما عند الفوات؛ لأنه إذ ذاك يتعلق به حق لكل من المتبايعين، وهو يقوي النظر في اعتبار دليل مصحح
البيع المختلف فيه والبناء عليه، فيمضي بالثمن نفسه. "د".
3 جامع بيان العلم" "2/ 922 - ط دار ابن الجوزي".
4 في "د": "يقضيه"!!
5 أي: في أدلة أصل المسألة. "د".
6 انظر عنهم ما قدمناه في التعليق على "1/ 159-160".(42/156)
ص -108-…العبارة ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداءً، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف؛ فيكون القول بأحدهما فى غير الوجه الذى يقول فيه بالقول الآخر؛ فالأول1 فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان2؛ فليس جمعًا بين متنافيين ولا قولًا بهما معًا، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف، وسيأتي3 للمسألة تقرير آخر بعد، إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل مراده بالأول تأويلها وحملها على غير ظاهرها، وبالآخر إنكار مقتضاها، وإلا؛ فحق العبارة العكس. "د".
قلت: وهو كلام مبني على كلام "ف"؛ حيث قال: "لعل صحته، فالأول فيما قبل الوقوع، والآخر فيما بعده، ولا يخفى ما في هذا التأويل من الضعف، وأنه ليس عامًا لصور مراعاة الخلاف المذكورة في كتب الفروع".(42/157)
2 فحالة ما بعد الوقوع ليست كحالة ما قبله؛ لأنه بعده تنشأ أمور جددة تستدعي نظرًا جديدًا، وتجد إشكالات لا يتفصى عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعيًا بالنظر لقول المخالف وإن كان ضعيفًا في أصل النظر، لكن لما وقع الأمر على مقتضاه، روعيت المصحلة، وتجدد الاجتهاد في المسألة من جديد بنظر وأدلة أخرى، وعليه؛ فبعد الوقوع تكون مسألة أخرى غيرها باعتباره ما قبله، وهو تأويل قوي جدًا كما ترى، وعليك باختيار مسائله، ولعلك لا تجد صورة يصعب فيها التطبيق كما أشرنا إليه في المسائل التي ذكرها؛ إلا في الشاذ؛ كما في ندب التسمية للمالكي في قراءة الفاتحة خروجًا من خلاف الشافعي، وسيأتي في هذا توقف المؤلف واعتراضه في تقريره الآتي، نعم، يوجد في مذهب مالك عبارة "هذا مشهور مبني على ضعيف"، ولكنه ليس من موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع، الذي هو موضوع الكلام، بل هذا طريق آخر، يرشدك إلى هذا أنه ليس كل مشهور قويًا ومعتمدًا، فكثيرًا ما يقابل المشهور بالراجح. "د".
3 في فصل المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد، والواقع أن ما هنا يجب ألا يؤخذ على إجماله كما فعل المؤلف؛ لأنه لا يتوجه ويكون مقبولًا إلا إذا قرر على الطريقة الآتية، كما قررنا به أمثلته هنا، وعليه؛ فلا يظهر جعله ما يأتي تقريرًا يغاير هذا. "د".(42/158)
ص -109-…على أن الباجي1 حكى خلافًا2 فى اعتبار الخلاف فى الأحكام3، وذكر اعتباره عن الشيرازي، واستدل على ذلك بأن "ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط، ولو قال الشارع4: إن كل ما لم تجتمع5 أمتي على تحريمه واختلفوا فى جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ، لكان ذلك صحيحًا، فكذلك إذا6 علق هذا الحكم عليه بالاستنباط".
وما قاله غير ظاهر لأمرين:
أحدهما: أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب على المستدل7 به؛ إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول: لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا فى جواز أكله، فإن جلده لا يطهر بالدباغ، لكان ذلك صحيحًا، فكذلك إذا علق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه "أحكام الفصول" "ص645-646/ رقم 6871".
2 أي: وهذا الخلاف يضعف من شأن المعارضة في أصل المسألة بمراعاة الحلاف. "د".
3 أي: بحيث يستند إليه [أي الخلاف] الحكم كما يستند إلى الدليل". "ف".
قلت: وسقط من "م": "في الإحكام".
4 في "الأحكام": "صاحب الشرع".
وكتب "ف" ما نصه: "بأن قيل الحمار أو البغل مثلًا يطهر جلده بالدباغ، أي: لكونه مما اختلف في جواز أكله".
5 في "الأحكام": "تجمع".
6 إشارة لمثال تكون فيه العلة في هذا الموضوع بالاستنباط وما قبله مثال لما تكون العلة فيه بالنص لو فرض حصوله من الشارع. "د".
7 فالاستناد إليه كما ينتج مدعاه نقيضه، وما كان كذلك لا يصلح دليلًا. "ف".(42/159)
ص -110-…الحكم [عليه] بالاستنباط، ويكون هذا القلب أرجح؛ لأنه مائل إلى جانب الاحتياط، وهكذا كل1 مسألة تفرض على هذا الوجه.
والثاني2: أنه ليس كل جائز واقعًا، بل الوقوع محتاج إلى دليل، ألا ترى أنا نقول: يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين، وما أشبه ذلك، ولا يكون هذا التجويز سببًا فى وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط؛ فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال.
فإن قال: إنما أعني ما3 يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه فى التعليل.
قيل: لم تفصل أنت هذا التفصيل، وأيضًا؛ فمن طرق4 الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه؛ كالاطراد والانعكاس ونحوه، ويمكن أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أكانت فيما فرضه هو من الطهارة بالدباغ أم في غيرها. "د".
2 منع للتقريب، أي: مع تسليم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط؛ فمجرد الجواز المذكور لا يفيد اعتبار الخلاف علة في الحكم، وإنما يفيده لو وقع كذلك، ألا ترى الأمثلة المذكورة؟ "ف".
3 بيان لتقريب الدليل بتقييد قوله: "ما جاز أن يكون علة.... إلخ"؛ أي: مما اشتمل على معنى فيه مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة ليست كذلك. "ف".(42/160)
4 أي: من مسالك العلة الطرد والعكس، وهو المسمى بالدوران، وقوله: "ونحوه"؛ أي: كالطرد الذي هو عبارة عن وجود الحكم في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، والفرق بينهما أن الدوران يكون في صورة واحدة يوجد الحكم عند الوصف ويرتفع عند ارتفاعه، كالحرمة مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرًا حل، فلما حدث السكر حرم، فلما زال بالخلية حل، ولا تظهر فيهما المناسبة، أي المعنى الذي يتلقاه العقلاء بالقبول في ترتيب الحكم عليه، فما فرقت به غير تام. "د".(42/161)
ص -111-…الباجي أشار فى الجواز إلى ما فى الخلاف من المعنى المتقدم1، ولا يكون بين القولين خلاف فى المعنى.
واحتج المانعون بأن الخلاف2 متأخر عن تقرير3، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي4: "ذلك غير ممتنع، كالإجماع، فإن الحكم يثبت به وإن حدث فى عصرنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو التأويل السابق الذي أجاب به من لقيه من علماء فاس وتونس، وإذا كان كذلك لا يكون بين القولين خلاف؛ فإن المانع يمنعه باعتبار ما قبل الوقوع، والمصحح يراعيه باعتباره ما بعد الوقوع؛ لأنه بعد الوقوع صالح للعلية بخلاف قبل الوقوع لما ذكرناه قبل هذا، وحمل كلامه على هذا أولى مما حمله عليه بعضهم من التقييد السابق بقوله: "لمعنى فيه"؛ لأنه لم يرض هذا الفرق ونقضه بالطرد ونحوه، أما الجواب السابق، فإنه سلمه، وقلنا: إنه سيقرره في المسألة العاشرة مع شرحه وتوجيهه، وضرب أمثلة كثيرة له هناك. "د".
قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "وهو التقييد المشار إليه بقوله لمعنى فيه.... إلخ، وحينئذ لا يكون بين القول باعتبار الخلاف علة والقول بعدم اعتباره خلاف في المعنى؛ لأن اعتباره إذا كان صالحًا للعلية وعدم اعتباره إذا لم يكن كذلك".
2 أي: الذي جعل علة للحكم. "د".
3 أي: بمتقتضى الأدلة المتلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. "د".
4 في كتابه "إحكام الفصول" "ص646/ رقم 688"، والمذكور فيه تصرف من المصنف، ومنه تظهر مقدرته رحمه الله على تلخيص كلام العلماء بعبارات مختصرة ليس فيها حشو ولا زيادة، قارن ما ذكره بنص الباجي، وهذا لفظه: "أما هم -المانعون-؛ فاحتج من نص قولهم بأن الاختلاف حدث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكم ثبت في زمانه، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته.(42/162)
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون الاختلاف متأخرًا عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبتت به الأحكام، ألا ترى أن الإجماع حدث بعده صلى الله عليه وسلم، ويصح أن يحدث في عصرنا ويثبت به الحكم؟
وجواب آخر: وهو أن معنى قولنا "إنه مختلف فيه".... حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ثبت له هذا الحكم، فلم يتقدم على علته".(42/163)
ص -112-…وأيضًا: "فمعنى قولنا: "إنه مختلف فيه"1 أنه يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا كان حاله فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتقدم على علته".
والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم، بل هو أصل2 الحكم، وقوله: "إن معنى قولنا مختلف فيه كذا" هى عين3 الدعوى.
فصل:
ومن القواعد4 المبنية على هذه المسألة أن يقال: هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركًا5 كما يفعله المتورعون فى التروك6، أم لا؟ أما فى ترك العمل7 بهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإذا وقع التعليل بكون الشيء مختلفًا فيه؛ فمعناه ما ذكر، وحينئذ لا يكون متأخرًا عن الحكم. "ف".
2 أي أن الحكم الذي استند إلى الإجماع هو عين الحكم الذي تقرر من كل مجتهد أخذًا من الأدلة؛ فليس هناك علة ومعلول، بخلاف الحكم المستند إلى الخلاف، فإنه غير الحكم المتقدم، والخلاف علة في هذا الحكم الطارئ، فمثلًا التكبير للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام اختلف فيه بالإجزاء وعدمه؛ فبعد الوقوع يقول الثاني بالتمادي مراعاة للقول بالإجزاء؛ فالحكم المترتب على الخلاف مغاير للحكم المختلف فيه. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138-139".
3 لعل صوابه: "غير الدعوى"؛ لأن الدعوى أن الحكم الذي نقرره إنما جاء بسبب الخلاف، وقد بني عليه، وهذا غير المعنى الذي يدعيه من أنه لم يراع فيه إلا مجرد كونه محلًا للاجتهاد. "د".
4 في "ماء": "الفوائد".
5 بأن يصرف أحدهما إلى الآخر؛ فيرجع مقتضاهما إما إلى الفعل، أو إلى الترك، وقد يحمل أحدهما على الفعل في حال والآخر على الترك في حال. "ف".(42/164)
6 أي عند ترجيح دليل الجواز على دليل المنع، فيراعون القول بالتحريم تنزهًا عن الشبهات، كما قال ابن العربي؛ القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجيب* العطف على المرجوح بحسب مرتبته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "واحتجبي منه يا سودة"، وهذا مستند مالك فيما كره أكله؛ فإنه حكم بالحل عند ظهور الدليل، وأعطى المعارض شيئًا من أثره؛ فحكم بالكراهة. "د".
7 محل البيان قوله: "وأما في العمل... إلخ"، وهذا زائد على المبين. "ف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعلها: "يجب".(42/165)
ص -113-…معًا مجتمعين أو متفرقين1؛ فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح. وأما فى العمل، فإن أمكن الجمع بدليله؛ فلا تعارض، وإن فرض التعارض2؛ فالجمع بينهما فى العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف فى الشريعة، وقد مر إبطاله، وهكذا يجري الحكم فى المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه، ولهذا الفصل تقرير فى كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو متفردين".
2 في "م": "التعاون"!!(42/166)
ص -114-…المسألة الرابعة:
محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح فى كل واحد منهما قصد الشارع فى الإثبات فى أحدهما والنفي فى الآخر؛ فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات.
وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال1 المكلف أو تروكه؛ إما أن يأتي فيها خطاب2 من الشارع، أو لا، فإن لم يأت فيها خطاب؛ فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضًا غير موجود، والبراءة الأصلية فى الحقيقة راجعة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكانت أفعال القلوب أم الجوارح ليشمل المعتقدات؛ فصح ذكره بعد للمشابهات الحقيقية التي لم يظهر للشارع فيها قصد ألبتة؛ فإنها إنما تظهر في المعتقدات. "د".
2 بأحد الأدلة الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غيرها من الأدلة المختلف فيها كلاستدلال؛ فليس بلازم أن يكون الخطاب في نص، بدليل أنه جعل ما لم يرد فيه خطاب، إما فرضًا صرفًا لا وجود له، وإما أن يكون من مرتبة العفو، وهذا وذاك لا يكون إلا عند عدم الأدلة رأسًا منصوصة وغير منصوصة؛ فلا ينافي ما يجيء في المسألة الخامسة من التفصيل بين الاستنباط من النصوص والاستتنباط من غيرها؛ فالتردد بين الطرفين عام في مسائل الاجتهاد. "د".(42/167)
3 قال في "التحرير" و"شرحه": "نفي كل مدرك خاص للدليل الخاص حكمه الإباحة الأصلية؛ فلا تخلو وقائع عن حكم الشرع". وقال في "المنهاج" [ص246 - مع تخريجه الابتهاج]: "من الأدلة المقبولة فقد الدليل بعد التفحص البليغ، فيغلب ظن عدمه، وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل"، وقال العضد شارح ابن الحاجب: "ولا نسلم بطلان خلو وقائع من حكم وإن التزم فالأقيسة والعمومات تأخذه؛ أي: فتكفي في جميع ما يحتاج فيه إلى المصالح المرسلة، وإن سلم أنها لا تكفي، فالحكم عند انتفاء المدرك هو نفي الوجوب والحرمة، وهو معنى التخيير، وتقدم للمؤلف إدراجه في مرتبة العفو التي أشير إليها في حديث سلمان الفارسي في الترمذي وابن ماجه: "وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه" [مضى تخريجه "1/ 255"]، وبالجملة؛ فكل ما لم يرد فيه دليل شرعي يخصه أو يخص نوعه فيه الخلاف بالإباحة أو المنع أو الوقف، ولكل دليله وحجته، تراجع مسألة العفو السابقة في كتاب الأحكام وينزل على الخلاف ترديد المؤلف هنا. "د".(42/168)
ص -115-…إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره، وإن أتى فيها خطاب؛ فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات، أو لا فإن لم يظهر له قصد البتة؛ فهو قسم المتشابهات، وإن ظهر؛ فتارة يكون قطعيًّا، وتارة يكون غير قطعي، فأما القطعي؛ فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات، وليس محلا للاجتهاد، وهو قسم الواضحات؛ لأنه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعًا، وأما غير القطعي؛ فلا يكون كذلك1 إلا مع دخول احتمال فيه أن2 يقصد الشارع معارضه أو لا؛ فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه؛ لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي3؛ إما إلى العلم، وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين، وتارة لا يقوى فإن لم يقو4 رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يكون غير قطعي إلا إذا دخل فيه احتمال أن الشارع قصد معارضة أو لم يقصده؛ فقوله أن يقصد معمول احتمال ولو حذف قوله أولًا لكان أولى. "ف".
2 هذه العبارة بدل من لفظ: "احتمال"، والاحتمال بمعنى التردد حينئذ لا بمعنى أحد الأمرين؛ فإذا جعل معمولا لاحتمال كان بمعنى أحد الأمرين تعين حذف كلمة "أولًا". "د".
3 أي: إلى المرتبة التي يليها العلم أو إلى المرتبة الضعيفة التي يليها الشك مباشرة، وليس المراد أن العلم أو الشك يكون من المراتب الظنون، وهو واضح ما دامت في انتهائها لم تخرج عن الموضوع، وأنها من الظنون، فإذا كان معنى انتهائها خروجها عنه؛ صح إجراء كلامه على ظاهره، ولكنه بعيد عن الفرض. "د".(42/169)
4 قد فرض أنه واضح نسبي، وأنه من مراتب الظنون، وأن قصد الشارع فيه ظاهر؛ إلا أنه غير قطعي، فلا يظهر بعد ذلك فرض أنه لا يقوى في إحدى الجهتين، الذي معناه أن النفي والإثبات على حد سواء ليس قصد الشارع لأحدهما أظهر من قصده لمعارضة حتى يعد من المتشابهات، وما الفرق بينه حينئذ وبين الفرض الذي قال فيه: "فإن لم يظهر له قصد البتة في النفي والإثبات؛ فهو قسم المتشابهات"، لا فارق؛ لأن القطع بأنه لم يظهر قصده في النفي والإثبات يساوي قوله هنا: "لم =(42/170)
ص -116-…عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن قوي في إحدى الجهتين؛ فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد؛ فواضح في حقه في النفي أو [في]1 الإثبات إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، وإما على قول المخطئة؛ فالمقدم عليه إن كان مصيبًا في نفس الأمر فواضح، وإلا فمعذور.
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات؛ إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفيٌّ قطعًا وإما مثبت قطعًا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا؛ لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين؛ فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض2 الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه؛ فلذلك صار إضافيًّا لتفاوت3 مراتب الظنون في القوة والضعف، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه؛ فثبوت العلم مع نفيه نقيضان؛ كوقوع التكليف وعدمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقو في إحدى الجهتين"؛ أي: فهما سواء في عدم ظهور قصد أحدهما، وقد يقال: الفرق أن الأول هو المتشابه الحقيقي الذي لم يجعل سبيل إلى فهم معناه، ومهما نظر المجتهد في الشريعة لا يجد ما يدل له على مقصوده، والثاني الإضافي، وهو ما كان التشابه فيه ليس من جهة الدليل، بل من جهة المناط، ويساعد عليه قوله في مقابله: "هو الواضح الإضافي في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين"، الذي يفيد أن هذا المتشابه عدم وضوحه بالنسبة إلى نظر المجتهدين فقط؛ فينزل الكلام على ما قلنا حتى يندفع التنافي. "د".
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 أي: وهو من لم يظهر له قربه من أحد الطرفي. "د".(42/171)
3 تعليل كونه واضحًا إضافيًا بتفاوت مراتب الظنون تعليل واضح، وكذا بناء التشابه عليه؛ لأنه إذا كانت الظنون مختلفة؛ فمنها ما يقف عند حد أنه لا فرق بين الطرفين في نظره؛ فيجيء التشابه. "د". وفي "ط": "ولتفاوت" بزيادة واو.(42/172)
ص -117-…وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان؛ كالوجوب مع الندب، أو الإباحة، أو التحريم، وما أشبه ذلك1.
وهذا الأصل واضح في نفسه، غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله.
فمن ذلك أنه "نهى عن بيع الغرر"2، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء، والسمك في الماء3، وعلى جواز بيع الجبة التى حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري؛ فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته4 في الأول وقلته مع عدم5 الانفكاك عنه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالأمر والنهي، والصحة والفساد، والشرط والمانع، وهكذا من المتقابلات المتضادة، يجري التقابل بينها كما يجري بين المتناقضات في طرفي النفي والإثبات. "د".
2 مضى تخريجه "2/ 522".
3 في حكاية الإجماع نظر؛ فذهب ابن حزم في "المحلى" "8/ 388" إلى جواز بيع الطير في الهواء إذا صحَّ الملك عليه قبل ذلك، وذهب عمر بن عبد العزيز -كما في "الخراج" "87" لأبي يوسف- وابن أبي ليلى -كما في "المبسوط" "13/ 11، 12"- إلى جواز بيع السمك في بِرْكة عظيمة، وإن احتيج في أخذه إلى مؤنة كثيرة.
وانظر في المسألة: "المغني" "4/ 152"، و"العناية شرح الهداية" "5/ 192"، و"البحر الرائق" "6/ 80"، و"المجموع" "9/ 311"، و"كشاف القناع" "3/ 162"، و"الفواكه الدواني" "2/ 137"، و"المعاملات" "259" لأحمد إبراهيم، و"نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية" "1/ 438-447" لأستاذنا ياسين درادكة.
4 أي: مع إمكان الانفكاك عنه. "د".(42/173)
5 أي: أنه لا يتأتى التحرز عنه؛ فهو ضرورة عمت بها البلوى، مع تفاهة التضرر من أحد المتعاملين في ذلك فيما لو ظهر على خلاف مصلحته، والأول جمع وصفين: الكثرة وإمكان التحرز منه، وما بينهما ما فقد أحد الوصفين؛ فأشبه بذلك كلًّا من الطرفين في وصف فجاء الاختلاف. "د".(42/174)
ص -118-…الثاني؛ فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهى متوسطة بين الطرفين، آخذة بشبه من كل واحد منهما؛ فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة1، ومن منع مالَ إلى جانب الآخر.
ومن ذلك مسألة زكاة الحلي، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين2، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرًا بين الطرفين؛ فذلك3 وقع الخلاف فيها.
واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحال دائرًا بينهما؛ فوقع الخلاف فيه.
واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه: هل يملك، أم لا؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يقل: "عدم الانفكاك"؛ لأن اليسارة هي التي يتأتى فيها اختلاف الانظار بخلاف الانفكاك وعدمه، فإنه إلى الوضوح أقرب. "د".
2 لأنهما اجتمع فيهما كونهما معدين للتعامل والثمنية بخلقتهما، والعروض فقدت المعنيين؛ فاتفق على حكم كلٍّ، أما الحلي؛ فأخذ وصفًا واحدًا من النقدين، وهو أنه من الذهب والفضة، وباستعماله للزينة لا للثمنية فقد الوصف الآخر وشارك العروض في عدم قصده بالثمنية؛ فجاء فيه الخلاف. "د".
3 مع أسباب أخرى مذكورة في مظانها، والراجح وجوب الزكاة فيها، انظر في المسألة: "أحكام القرآن" "3/ 106، 107" للجصاص، و"المحلي" "6/ 76، 77"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 16-17"، و"إعلام الموقعين" "2/ 100، 110" -ولم ير ابن تيمية وتلميذه وجوب الزكاة في الحلي- و"فقه زكاة الحلي"، و"أقوى القولين في زكاة الحلي من النقدين"، و"القول الجلي في زكاة الحلي".(42/175)
ص -119-…واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة، وما بين ذلك1 دائر بين الطرفين؛ فاختلفوا فيه.
واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق، أو أنكروا ذلك؛ فغير إجماع باتفاق، فإن سكتوا2 من غير ظهور إنكار؛ فدائر بين الطرفين، فلذلك اختلفوا فيه، والمبتدع بما يتضمن3 كفرًا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين؛ فإن المبتدع بما لا يتضمن4 كفرًا من الأمة، وبما اقتضى كفرا مصرحًا به5 ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من صلى بالتيمم صلاة صحيحة ثم بعد تمامها وقبل خروج الوقت؛ وجد الماء. "د".
قلت: وتدخل في عبارة المصنف "وما بين ذلك" أيضًا رؤية الماء في الصلاة بتيمم، هل يبطلها بإبطال التيمم أم لا؟ قال أبو حنيفة: "يبطله"، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: "لا يبطله"، وهذا مذهب مالك، انظر بسط المسألة مع الأدلة في "الخلافيات" "2/ 449، 459/ رقم 26 مع تعليقي عليه"، والله الموفق.
ومنه تعلم دقة المصنف في عباراته.
2 أي: وكان ذلك قبل استقرار المذاهب، أي كان في العصر الذي فيه البحث عن المذاهب، أما إن كان بعد استقرارها؛ فالسكوت لا يدل على الموافقة قطعًا؛ إذ لا عادة بإنكاره حينئذ، فلم يكن إجماعًا ولا حجة قطعًا، أما قبل ذلك؛ فالعادة الإنكار عند عدم الموافقة، فجاء الخلاف، فالشافعي يقول: "لا هو إجماع ولا هو حجة"، والجمهور إجماع أو حجة وليس بإجماع قطعي، والجبائي إجماع انقراض العصر. "د".
3 في "د" و"ط": "بما لا يتضمن"!! والصواب حذف "لا".
4 كالابتداع في الفروع التي ليست قطعية ولا معلومة من الدين بالضرورة؛ فهذا باتفاق ليس بكفر. "د".(42/176)
5 كغلاة الخوارج والروافض؛ كالخطابية من هؤلاء الذين يقولون: إن عليًا الإله الأكبر، والحسنان ابنا الله، وجعفر إله، لكن أبو الخطاب رئيسهم أفضل منه ومن عليٍّ؛ فهذا كفر باتفاق "د".
قلت: انظر عن الخطابية: "الفرق بين الفرق" "215"، و"الحور العين" "169"، و"البرهان" "38" للسكسكي، و"الغلو والفرق الغالية" "99".(42/177)
ص -120-…من الأمة؛ فالوسط1 مختلف فيه: هل هو من الأمة، أم لا؟
وأرباب النِّحَل والمِلَل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أمور2 إليه بناء على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناء [على]3 أن الإضافة إليه هى الكمال، وكذلك ما أشبهها.
فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها؛ لأنها دائرة بين طرفين واضحين؛ فحصل الإشكال والتردد، ولعلك لا تجد خلافًا واقعًا بين العقلاء معتدًّا4 به في العقليات أو في النقليات، لا مبنيًا على الظن ولا على القطع؛ إلا دائر بين طرفين [و] لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف [في الواسطة المترددة بينهما، فاعتَبِرْه تجده كذلك -إن شاء الله].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو المبتدع بما يتضمن كفرًا بغير تصريح؛ كالمجسمة، ومنكري الشفاعة، فهذا يختلف فيه بالتكفير وعدمه. "د".
2 أي من الصفات؛ كالقدرة والعلم.. إلخ على أنها صفات زائدة على الذات، وقوله: "وفي عدم إضافة أمور... إلخ"؛ أي: كالأفعال التي تعتبر شرورًا؛ فبعضهم يضيفها إليه؛ لأنه لا فاعل إلا هو، ولا تعتبر شرورًا إلا بنسبتها للعبد، والبعض لا يضيفها ويرى أن الكمال في ذلك؛ فلا تكرار في العبارة، ولا يمكن الاستغناء عن الثانية مع إفادة المعنى المقصود. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 في نسخة "م": "معتمدًا".(42/178)
ص -121-…فصل:
وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر1 أن يبلغ درجة الاجتهاد؛ لأنه يصير بصيرًا بمواضع الاختلاف، جديرًا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الله ابن مسعود". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "أتدرى أي الناس أعلم؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العمل، وإن كان يزحف في استِه"2؛ فهذا تنبيه3 على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب: يترشح الناظر أن يبلغ؛ أي: يستعد لبلاغ درجة الاجتهاد. "ف".
2 أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 402-403" - ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 807/ رقم 1500" - والطيالسي في "المسند" "25"، وابن جرير في "التفسير "27/ 138-139"وابن أبي عاصم في "السنة" "70"، والمروزي في "السنة" "ص16"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 480"، والطبراني في "الصغير" "1/ 223-224" و"الأوسط" "رقم 11، 21 - مجمع البحرين" و"الكبير" "رقم 10531"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 60-61"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1502، 1503" من طرق عن الصعق بن حزن عن عُقيل الجَعْديّ عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود.
قال الطبراني: "ولم يروه عن أبي إسحاق إلا عقيل، تفرد به الصعق"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عقيل الجعدي، منكر الحديث، وانظر: "مجمع الزوائد" "1/ 90، 163".
وأخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 211/ رقم 10357"، وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" "4/ 315"-، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 71"-، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1501"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 61" من طريق آخر عن ابن مسعود بنحوه.(42/179)
وإسناده ضعيف، وفيه انقطاع؛ فالحديث ضعيف، وساقه المصنف في "الاعتصام" "2/ 745-746" بأطول من هذا، وفي "د": "في استه"، والصواب ما أثبتناه.
3 لأن هذه الدرجة الفضلى إنما تتحقق عند وجود الاختلاف ومعرفة الحق فيه، ولا يكون إلا بمعرفة مواقع الاختلاف؛ فصح أنه تحريض على هذه المعرفة. "د".
قلت: انظر في ضرورة معروفة الخلاف: "شرح تنقيح الفصول" "ص194"، و"أسباب اختلاف الفقهاء" "ص3-9، 104" لعلي الخفيف، وكثير من الأصوليين لم يذكروا هذا الشرط، واكتفوا بضرورة معرفة الإجماع؛ لأنه مقابل له، والأشياء تعرف بأضدادها.(42/180)
ص -122-…المعرفة بمواقع الخلاف.
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف.
فعن قتادة: "من لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ أنفُه الفقه"1.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: "من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف2 الفقهاء فليس بفقيه"3.
وعن عطاء: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك رد4 من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 814، 815/ رقم 1520، 1522".
2 أي: المبني على اختلاف أدلتهم؛ لأنه بدون ذلك لا يمكن ترجيح جانب الحق في المسألة ما لم يقف على دليل كل. "د".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815-816/ رقم 1523".
4 يظهر هذا فيمن له القدرة على الترجيح، فإنه إذا لم يعلم اختلافهم وأدلة كل ربما كان ما في يده أضعف مدركًا مما لم يقف عليه، فإذا عرف الخلاف ومدرك كل أمكنه الترجيح، فلا يأخذ ضعيفًا ويترك قويًا، أما شبه العامي؛ فسيان عنده أن يعرف الخلاف وألا يعرف إن كان مثله يصح له أن يفتي؟! وفيه الخلاف المشهور. "د".
5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816/ رقم 1524" بسنده إلى ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه.
قلت: أبوه هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وعثمان فيه كلام، انظر: "تهذيب الكمال" "19/ 441".(42/181)
ص -123-…وعن أيوب السختياني وابن عيينة: "أَجْسَرُ1 الناس على الفتيا أقلهم علمًا باختلاف العلماء". زاد أيوب: "وأمسكُ الناسِ عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء"2.
وعن مالك: "لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرَّأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
وقال يحيى بن سلام: "لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إليَّ"4.
وعن سعيد بن أبي عروبة: "من لم يسمع الاختلاف، فلا تعده عالمًا"5.
وعن قبيصة بن عقبه: "لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس"6.
وكلام الناس هنا كثير، وحاصلة معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر؛ فلا بد منه لكل مجتهد، وكثيرًا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يوضح ما قبله. "د".
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816، 817، 1124/ رقم 1525، 1527، 2209"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 166".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 818/ رقم 1529".
4 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 819/ رقم 1534".
5 أخرجه عباس الدوري عنه في "تاريخه" "4/ 271"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815، 819/ رقم 1521، 1536".
6 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 820/ رقم 1537".(42/182)
ص -124-…المسألة الخامسة:1
الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن2 اقتضاء النصوص لها أو مسلَّمة من صاحب الاجتهاد في النصوص؛ فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع3 من الشريعة جملة وتفصيلا4 خاصة.
والدليل على5 عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب، كما لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة والتي بعدها تكميل للمسألة الثانية، يقيد بهما اشتراط الوصفين السابقين في الاجتهاد، ويبين أنهما قد يرتفعان معًا وقد يرتفع أحدهما ويبقى نوع من الاجتهاد، وأن اشتراطهما إنما هو في بعض أنواعه، ولو ذكرتا عقبها، لكان أجود صنعًا حتى لا يتوهم معارضتهما لها. "د".
قلت: قارن بما عند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 286".
2 سيأتي تمثيله لذلك بالاجتهاد القياسي وبتوقيع المجتهدين الأحكام على النوازل، وسيأتي البحث معه فيها. "د".
3 في "ط": "الشارع".
4 أي: في الباب الذي فيه الاجتهاد إن قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ، أو في سائر الأبواب إن قلنا: إنه لا يتجزأ. "د".
5 للمؤلف دعويان اشتراط العربية في الاجتهاد من النصوص، وعدم اشتراطها في الاجتهاد الراجخ للمعاني من النظر في المصالح والمفاسد، وقد أقام الدليل عليهما حسب ترتيبهما في سياقه، ففي العبارة سقط، والأصل هكذا: "والدليل على الاشتراط وعدم الاشتراط... إلخ" "د".
قلت: وكتب "ف" ما نصّه: "الأنسب: "على عدم اشتراط علم العربية فيه"، أي: في الاجتهاد المتعلق بالمعاني".
قلت: أثبتها "م": "عدم اشتراط علم...".(42/183)
ص -125-…يمكن التفاهم [فيما] بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه.
وأما المعاني مجرَّدة1؛ فالعقلاء مشتركون في فهمها، فلا يختص بذلك لسان دون غيره، فإذن2 من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام، وبلغ فيها رتبة العلم بها، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي؛ فلا فرق3 بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية، ويعتبرون4 [المعاني، ولا يتعبرون] الألفاظ في كثير من النوازل.
وأيضًا، فإن الاجتهاد القياسي غير5 محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتبط بقوله: "وإنما يلزم العلم... إلخ"؛ لتضمنه دعوى اشتراط العلم بمقاصد الشرع وعدم اشتراط العلم بالعربية، ولذلك شمله البيان وإن سبق دليله. "ف" و"م".
2 أي: فالفهم هو اللازم المعمول عليه، فهو المشترط في الاجتهاد المتعلق بالمعاني دون العلم بالعربية؛ إذ لا فرق بين أسلوبها وأسلوب غيرها بالنسبة لفهم تلك المعاني. "ف".
3 تأمل في وجه التوفيق بين هذا وبين ما سبق له، حيث قال: "يتوقف فهم الشريعة حتى الفهم على فهم اللغة العربية حق الفهم"، وقال فيما سبق أيضًا: "إن الاجتهاد يتوقف على وصفين: العلم بمقاصد الشريعة، والتمكن من الاستنباط، وهذا إنما يكون بواسطة معارف خاصة، وإن هذه المعارف وسيلة إلى معرفة المقاصد"، ثم قال: "إن أوجب الوسائط اللغة العربية... إلخ". "د".
4 أي: فيسألون عما تدل عليه في مجاري عرف أهلها مع أنه غير عربية، وبعد، فهل هذا عير تحقيق المناط؟ وسيأتي له في المسألة الثانية أنه لا يحتاج إلى واحد من الأمرين، لا فهم مقاصد الشريعة ولا اللغة العربية. "د". قلت: قوله مبني على سقط لاحق أثبتناه فقط من "ط".(42/184)
5 إذا كان ثبوت العلة بالسبر والتقسيم أو المناسبة المسمى بتخريج المناط، فربما يسلم في بادئ الرأي، أما إذا كان ثبوتها في الأصل بالنص أو الإيماء في مراتبهما الكثيرة، فلا يظهر؛ لأنه لا بد من الرجوع إلى النص الذي أفاد ذلك، والتسليم في هذا ليس بكاف، وعلى فرض كفايته لا بد له من استقراء النصوص حتى يتمكن من دفع فساد الاعتبار وفساد الوضع، وهما أهم اعتراضات القياس، والرجوع للنص مستوجب لشرط العربية؛ لأنه لا يتم له إجراء القياس والمحافظة على نتيجة إلا بعدم مصادمته للنصوص مطلقًا في أي قياس كان، وهذا ما يعود على الأولين أيضًا بالتوقف كما أشرنا إليه. "د".(42/185)
ص -126-…فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل، وقد يؤخذ مسلمًا أو بالعلة1 المنصوص عليها أو التي أومئ إليها2، ويؤخذ ذلك مسلمًا، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي.
وإلى هذا النوع3 يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين، كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرعون المسائل، ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك.
وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم، وعملوا على مقتضاها، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته، وإنما كان كذلك؛ لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد أنه إنما يحتاج الاجتهاد القياسي إلى اللغة العربية في شيئين: معرفة الأصل المقيس عليه، ومعرفة العلة إذا كانت منصوصة أو مومًا إليها، أما باقي أعمال القائس، فلا تحتاج إلى اللغة، والأصل والعلة إذا كانت كذلك يمكن أن يؤخذا مسلمين، وإذ ذاك؛ فلا يحتاج إلى اللغة أصلًا. "د".
2 في "ط": "لها".
3 أي: الثاني، وهو المتعلق بالمعاني والمصالح... إلخ، وقوله: "يأخذون أصول إمامهم"، أي: مسلمة لا بحث لهم فيها، إنما يبحثون في تفاريعها حتى فيما فرعه نفس الإمام صاحب هذه الأصول، وقد يخالفونه في تفريعه، بقي أنه يقتضي أنهم لا يرجعون إلى النصوص التفصيلية، وأن اجتهادهم منحصر في التفريع على تلك الأصول المسلمة؛ لأنهم لو رجعوا إلى النصوص لكان الواجب توافر شرط العربية؛ فهل الواقع كذلك، وأنهم لا يتعلقون بالنصوص مطلقًا في اجتهادهم؟ هذا يحتاج إلى استقراء، وقلما يثبته الاستقراء. "د".(42/186)
ص -127-…الأحكام، ولولا ذلك، لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقَّرهم على ذلك، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص، فلمًّا لم يكن شيء من ذلك؛ دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء1 بالإقدام فيه، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح، لا إشكال فيه، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضًا في صحة اجتهادهم على الإطلاق2 والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"ط" و"ف" بالفاء، وعلق "ف": "لعله بالقاف جمع خليق".
قلت: وهو كذلك في الأصل و"د".
2 ظاهره أن اجتهادهم في هذه الحالة مطلق؛ كالأئمة الأربعة، ولك أن تقول مطلق، أي شامل للاجتهادين وإن كانوا منتسبين إلى أئمتهم متقيدين بقواعدهم لعدم بلوغهم درجة تأسيس الأصول. "ف".(42/187)
ص -128-…المسألة السادسة:
قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع1 على ما هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به2، من حيث قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفًا ومجتهدًا من تلك الجهة التى ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها، وصحيحها من سقيمها، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به، فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به، كان عالما بالعربية أم لا3، وعارفًا بمقاصد الشارع أم لا4، وكذلك القارئ في تأدية5 وجوه القرءات، والصانع في معرفة عيوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: موضع الحكم على ما هو عليه، ومتى علمه كذلك، علم المناط في الجزئيات؛ لأنه منصوص شرعًا، وإنما النظر في تحقيقه ووجوده في جزئيات قد يخفى تحققه فيها على الوجه المطلوب. "ف".
2 خذ هذا المثال لزيادة الإيضاح: الحكم الشرعي أن من يعتريه المرض أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء يرخص له في التيمم، فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي بالنسبة لمريض ليرخص له أو لا يرخص؛ فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى معرفة مقاصد الشرع في باب التيمم فضلًا عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطرق الموصل: هل يحصل ضرر فيتحقق المناط، أم لا فلا يتحقق؟ ولا شأن لهذا بواحد من الأمرين، وإنما يعرف بالتجارب في الشخص نفسه، أو في أمثاله، أو بتقرير طبيب عارف. "د".
3 كيف هذا مع أن الترجيح بالمتن يكون بالمرجحات الراجعة إلى الألفاظ ككون ما دل بالحقيقة يحتج به ولا يحتج بما عارضه الدال بالمجاز، وهكذا؛ فلا بد في هذا النوع من علم العربية، أما الترجيح بالإسناد، فقد يسلم فيه عدم التوقف على شرط العربية. "د".(42/188)
4 قد لا يسلم في بعض صور الترجيح بالحكم، كما يعلم من مراجعتها في مثل "المنهاج" للبيضاوي. "د".
5 لأنها ترجع للرواية الصرفة، أو إلى ضوابط تعين كيفية النطق بالكلمات مثلًا. "د".(42/189)
ص -129-…الصناعات، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب، وعرفاء الأسواق1 في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها، والعاد2 في صحة القسمة، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها، كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية، ولا العلم بمقاصد الشريعة، وإن كان اجتماع ذلك كمالًا في المجتهد.
والدليل على ذلك3 ما تقدم من أنه لو كان لازمًا4 لم يوجد مجتهد إلا في الندرة، بل هو محال عادة، وإن وجد ذلك، فعلى جهة خرق العادة، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها، ولا كلام فيه.
وأيضًا، إن لزم5 في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع6 لزم في كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "العرفاء بالأسواق".
2 في "ماء": "العادي".
3 أي: على عدم الافتقار إلى العلم بالأمرين. "د".
4 أي: لمن يجتهد في الأحكام الشرعية بأي نوع من أنواع الاجتهاد، سواء أكان تحقيق مناط أم غيره، لو كان لازمًا له أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق به الاجتهاد أي تعلق كان، لم يوجد مجتهد... إلخ، هذا ما تقدم للمؤلف استدلالًا على غير هذا الموضع، ولا يخفى أن الكلام ها هنا ليس فيما يتوقف عليه مطلق الاجتهاد، بل في خصوص توقف تحقيق المناط على الوصفين، وقد تقدم له في تحقيق المناط العام أن ارتفاعه تتعطل بسببه التكاليف كلها أو أكثرها، فلو لزم الشرطان في تحقيق المناط، لتعطلت أكثر التكاليف، وهو باطل، فلو نحا هذا النحو في الدليل لكان ظاهرًا، ولا يتأتى أن يقال: إذا توقف الاجتهاد بأي نوع منه عليهما لم يوجد مجتهد، كيف وهما الركنان في أكثر أنواع الاجتهاد؟ "د".
5 في "ط": "لو لزم".
6 أي: والعربية بدليل قوله بعد: "ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية"، أي: فضلًا عن مقاصد الشريعة، فقد أدرج العربية في الاستدلال، وهذا الدليل صالح لإقامته على الدعويين. "د".(42/190)
ص -130-…علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك، إذ1 فرض من لزوم العلم2 بها العلم بمقاصد الشارع، وذلك باطل؛ فما أدى إليه مثله، فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية، ومن الكفار المنكرين للشريعة.
ووجه ثالث أن العلماء3 لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة، وهو التقليد في تحقيق المناط.
فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه، كما أنه في الأولين4 كذلك، فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد [العربية، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد]5 ذلك المناط، من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره، وهو ظاهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "إذا".
2 أي: وهو الذي قلنا: إنه يتوقف عليه تحقيق المناط. "د".
أما "ف"، فقال: "لعله من لازم العلم".
3 أي: مطلقًا مجتهدين ومقلدين. "د".
4 وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني، واقتصر في تفريعه على الأول. "د".
5 سقط من جميع النسخ إلا من "ط".(42/191)
ص -131-…المسألة السابعة:
الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:
أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا1 بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد، وهذا هو الذى تقدم الكلام فيه. والثانى: غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذى أنزل الله كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} [المائدة: 49].
وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} الآية [ص: 26].
وهذا على الجملة لا إشكال فيه، ولكن قد ينشأ في كل واحد من القسمين قسم آخر فأما القسم الأول، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تقووا واهتموا بمعرفة... إلخ، "وأصلها مأخوذ" من الضلاعة وهي القوة، يقال: أضلع بحلمه، أي: قوي عليه ونهض به. "ف" و"م".(42/192)
ص -132-…المسألة الثامنة:
فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد، إما بخفاء1 بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه، وإما بعدم2 الإطلاع عليه جملة.
وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان في [أمر] جزئي3، وأما إن كان [الخطأ] في أمر كلي4، فهو أشد وفي هذا الموطن حذر من زلة العالم، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها؛ فروي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائرٍِ، ومن هوىً متَّبع"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 وقد يكون هذان من عدم بذل الوسع، ومن التقصير فيما هو واجب على المجتهد، وسيأتي الإشارة إليه بقوله: "وأكثر ما يكون ذلك عند الغفلة... إلخ". "د".
3 فينتقض حكم الحاكم فيه إذا صادم إجماعًا، أو نصًا قاطعًا، أو قياسًا جليًا، أو قواعد الشريعة، ويبطل أثر الفتوى أيضًا إن لم يكن حكم حاكم بل إفتاء. "د".
قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل.
4 كتحريم الحلال وتحليل الحرام مصادمة لقاطع أيضًا، كحل المتعة والربا، وكتحريم الطيبات من الرزق، وهكذا. "د".
5 أي: فأما اتقاء زلة العالم، فطريقه أنكم إن ظننتم به الخير وأنه موفق، فلا تستسلموا له، فربما جره الاستسلام إلى الزيغ واتباع الهوى، وإن ظننتم به الخطأ والزيغ، فلا تظهروا له تمام الجفوة وشدة الغلظة؛ فربما جره هذا إلى التمادي في العناد، وخلع ربقة الحق في غير ما ظهر خطؤه فيه أيضًا، وشواهد هذا حاصلة الآن فيمن زل من المنسوبين للعلماء في زماننا هذا، فإنهم لما قرروا حذف اسمه من عدادهم أعانوا عليه إبليس، فصار ضد الإسلام ونبي الإسلام يهرف بفحش القول ولا رادع له، أعاذنا الله من زيغ القلوب بعد الهداية. "د".
قلت: ومضى تخريج الحديث "4/ 89".(42/193)
ص -133-…وعن عمر: "ثلاث يهدمن الدين: زلَّة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"1.
وعن أبي الدرداء: "إن مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حقٌّ، وعلى القرآن منارٌ كمنار الطريق"2.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرًا: "وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقولُ المنافقُ الحقَّ، فتلقَّوا عمن جاء به، فإن على الحق نورًا". قالوا: وكيف زيغة3 الحكيم؟ قال: "هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تَصُدَّنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 89".
2 مضى تخريجه "4/ 89". وفي "ط": "زلة عالم... منافق".
3 بفتح الزاي؛ أي: زلته وميله، يقال: زاغ فلان عن الشيء زيغًا "وزيغانًا" وزيوغًا "وذلك إذا" مال عنه. "ف" و"م".
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 203/ رقم 4611"، ومعمر في "الجامع" "11/ 363-364/ رقم 20750"، والدارمي في "السنن" "1/ 67"، وابن وضاح في "البدع" "ص25، 26"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 222، 320-322، 719"، والآجري في "الشريعة" "ص47، 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص18-19، 19-20"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 22/ 2"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن" "رقم 834"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 981/ رقم 1781"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 88-89، 89"، والذهبي في "السير" "1438" من طرق، وبألفاظ متقاربة، منها المذكور وسنده صحيح.
وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 297"، وأبو شامة في "الباعث" "ص11"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص57-58".
ووقع في "م": "أن يراجع الخلق".(42/194)
ص -134-…وقال سلمان الفارسي: "كيف أنتم عند ثلاث: زَلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تُقلَّدوهُ دينكم، تقولون: نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ، فلا تقطعوا إياسكم منه، فتُعينوا عليه الشيطان"1 الحديث.
وعن ابن عباس: "ويلٌ للأتباع من عَثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجدُ من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله ثم يمضي الأتباع"2.
وعن ابن المبارك: "أخبرني المعتمر بن سليمان، قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بُنّي! لا تنشد الشعر. فقلت له: يا أبت! كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد. فقال لي: أي بُني! إن أخذت بَشرٍّ ما في الحسن وبشرٍّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشرُّ كله"3.
وقال مجاهد والحكم بن عُتيبة4 ومالك: "ليس أحدٌ مِن خلق الله إلا يُؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 90".
2 مضى تخريجه "4/ 90".
3 سيأتي قريبًا وسليمان هو التيمي.
4 كذا في الأصل، وهو الصواب، وفي النسخ المطبوعة كلها: "عيينة"!! وهو خطأ، وانظر ترجمته في "طبقات الفقهاء" "ص82، 83" للشيرازي.
5 أسنده عن مجاهد أبو نعيم في "الحلية" "3/ 300"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 176"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 857"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925، 926/ رقم 1762، 1763، 1764، 1765"، وإسناده صحيح.
وأسنده عن الحكم ابن عبد البر في "الإحكام" "2/ 925/ رقم 1761"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 883"، وإسناده صحيح.(42/195)
ص -135-…وقال سليمان التيمي1: "إن أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشَّر كله"2.
قال3 ابن عبد البر: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا".
وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب4 الحذر من زلة العالم، وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار5 مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذى اجتهد فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وذكر الغزالي في "الإحياء" "1/ 78" أنه من قول ابن عباس عند الطبراني، وكذا السبكي في "الفتاوى" "1/ 148"، وقال: "وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد، وأخذ منهما مالك رضي الله عنه واشتهرت عنه".
قلت: وأخذها أيضًا الشعبي، كما في "مختصر المؤمل" "رقم 185"، و"معنى قول الإمام المطلبي" "ص127 - ط دار البشائر".
ومقولة مالك صححها ابن عبد الهادي في "إرشاد السالك" "ق227/ أ"، وذكرها أحمد كما في "مسائل أبي داود" "ص276".
وانظر: مقدمة "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص49 - ط المعارف وص24-25 - ط الرابعة عشر، المكتب الإسلامي"، و"الإيقاظ" "ص72" للفلاَّني.
1 في "م": "التميمي"، وهو خطأ.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 927/ رقم 1766، 1767" بإسنادٍ صحيح.
3 قاله في كتابه "بيان العلم" "2/ 827"، وفيه أن سليمان المذكور خاطب بهذا خالد بن الحارث، وكأن المؤلف يجعل هذه الرخص في المذاهب من زلات العلماء، ولولا أنها كذلك ما كانت شرورًا. "د".
4 ورد في الأصل -وهو خطأ-: "عدم الحذر".
5 أي: في غير تحقيق المناط؛ لأنه لا يحتاج إلى هذين كما سبق، وهو الموافق لقوله أيضًا أول المسألة: "وفي هذا الموطن -يشير إلى الأمر الكلي- حذر من زلة العلم"، وتحقيق المناط من الجزئي، وكأنه لم يعتد به زله -مع أنه كذلك-؛ لأن الذي يترتب على خلل تطبيق الأحكام الشرعية على مناطاتها من الفساد وضياع الحقوق أخف من الخطأ في الكليات؛ لأنها تعم وذلك يخص. "د".(42/196)
ص -136-…والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة"، وذكر منها أمثلة، ثم قال: "فهذه ذنوب يتبع1 العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرًا في العالم آماد2 متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه"3، وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعًا يتقلد، وقولًا يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته4 تدارك ما سار في البلاد عنه [ويضل عنه]5 تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل6.
فصل:
إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل:
-منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة7 ولا الأخذ بها تقليدًا له وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدًّا بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير8، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "يتّسع".
2 كذا في "الإحياء"، وفي جميع النسخ بدلها: "أيامًا"!!
3 "إحياء علوم الدين" "4/ 33".
4 ولذلك كره مالك كتابة الفقه عنه. "د".
5 سقط من "م".
6 أسندها المعافي في "الجليس الصالح" "3/ 177" عن الخليل بن أحمد، وانظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 274".
7 في "ط": "جهته".(42/197)
8 كيف هذا وقد جعل من أكثر أسباب هذا الخطأ الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص، يعني: بحيث يصح أن يقال: إنه لم يبذل غاية الوسع والاجتهاد يتوقف عليه، فإذا لم يقم ببذل أقصى الوسع، ووقف عند حد كان يمكنه تجاوزه في البحث، يكون مقصرًا وغير آت بحقيقة الاجتهاد، فيكون ملومًا قطعًا، ويؤيد هذا قوله أول الفصل التالي: "لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد"، أما عدم التشنيع وعدم الانتقاض، فمسلمان للأدلة السابقة. "د".(42/198)
ص -137-…من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة [بحتا]1، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي2 رتبته في الدين، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد3 إلى هذا المعنى.
وقد روي4 عن ابن المبارك؛ أنه قال: "كنا في الكوفة فناظَرُوني في ذلك -يعني: [في]5 النبيذ المختلف فيه-، فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج6 منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة7 صحت عنه فاحتجوا. فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود8 وليس احتجاجهم عنه في رخصة9 النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق! عُدَّ10 أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسًا فقال: هو لك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المقعوفتين ساقط من الأصل، وشرحها "ماء": أي: خالصًا".
2 في "م": "تقتضي"، وفي "ماء": "تقتضيه".
3 وهو أن ذلك يكون إعانة للشيطان عليه، وذلك لا يجوز. "د".
قلت: ومضى كلام معاذ وتخريجه "ص133".
4 تأييد للبناء الأول "د".
5 سقطت من "ط".
6 أي: بالراوية والنقل عمن شاء من أصحابه صلى الله عليه وسلم النبيذ بأن يحكي عنه قولًا بإباحة شربه، فإن لم نبين الرد على ذلك المحتج برواية أخرى صحيحة عن ذلك الرجل تفيد القول بحرمته، فقد تم لكم ما أردتم. "ف".
7 مقابل للرخصة في كلامه. "د".
"8" انظر ما ورد عنه في "الأشربة" لابن قتيبة "ص21-22".
9 في "ط": "شدّة".
10 بضم أوله, وتشديد ثانيه، أي: هب أن ابن مسعود... إلخ. "ف" و"م".(42/199)
ص -138-…حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن! فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟ فقلت1 لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال؛ فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم؛ فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا. قال: فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالًا فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم". هذا ما حكي2.
والحق ما قال ابن المبارك، فإن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} الآية [النساء: 59].
فإذا كان بينًا ظاهرًا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة، لم يصح الاعتدادُ به ولا البناءُ عليه، ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع، مع أن حكمه مبنيٌّ على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر، ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين؛ لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض3 نقض حكمه، ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة؛ لأنه حكم بغير ما أنزل الله.
فصل:
-ومنها: أنه لا يصح اعتمادها خلافًا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استفهام إنكاري، أي: يلزم على رأيك أنهم كانوا يشربون المحرم. "د".
2 ذكر مناظرة ابن المبارك هذه للكوفيين مختصرة بسنده البيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 289-299".
3 وإلا، لصح النظر في النقض أيضًا، وفي نقض النقض ويتسلسل، فلا ينفذ حكم، فتتعطل المصالح. "د".(42/200)
ص -139-…تصدر في الحقيقة عن اجتهاده، ولا هي من مسائل1 الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف فيها محلاّ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوي أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء2 الدليل أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء3، وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها.
فإن قيل: فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك؟
فالجواب: إنه من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم، فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافًا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافًا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية، فأما المخالف للقطعي؛ فلا إشكال في اطراحه4، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه، لا للاعتداد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنها ليست ظنية، بل من القطعيات التي لم تتردد طرفي النفي والإثبات. "د".
2 في "ماء": "خطأ".
3 جمع محشاة، وهي "في الأصل" مبعر الدواب أراد بها هنا أدبار النساء، وفي الحديث محاشي النساء حرام. "ف" و"م".
وقال "ماء": "أي: إتيانهن في أدبارهن".(42/201)
4 قال الشافعي في "الرسالة" "ص560": "فإني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال: "الشافعي": فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، لا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصًا بينًا، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القياس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل: إنه يضيق عليه الخلاف في المنصوص".
قلت: وحدّه أدق مما ذكره المصنف، والله أعلم.(42/202)
ص -140-…به، وأما المخالف للظني؛ ففيه الاجتهاد1 بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره.
فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟
فالجواب: إن له ضابطا تقريبيًا، وهو أن ما كان معدودًا في الأقوال غلطًا وزللًا قليل جدًّا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة، فليكن اعتقادك أن الحق [في المسألة] مع السواد الأعظم من المجتهدين2، لا من المقلدين.
فصل:
وقد عد ابن السيد3 هذا المكان من أسباب الخلاف، حين عدّ جهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فطرحه رأسًا أو الاعتداد به خلافًا محتاج لاجتهاد المجتهد والموازنة... إلخ؛ فالمرجع في مثل ذلك للمجتهد. "د".
2 نعم، مخالفة الجماهير من العلماء المجتهدين مظنة الخطأ والزلل، ولكن لا يستلزم ذلك دائمًا، والعبرة بالحجة والدليل.
3 وهذا نص كلامه في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين" "ص165-166": "اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله وعن أصحابه والتابعين لهم رضي الله عنهم تعرض له ثماني علل: أولها: فساد الإسناد: والثانية: من جهل نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة: من جهة الجهل بالإعراب، والرابعة: من جهة التصحيف، والخامسة: أن ينقل المحدث بعض الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بساط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة: أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة: نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ".(42/203)
ص -141-…الرواية وأن لها ثماني علل: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى أو من الصحف1، والجهل بالإعراب، والتصحيف2، وإسقاط جزء3 الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه، وهذه الأشياء ترجع إلى4 معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة، فإنه5 قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف، وإذا كان على هذا الوجه، فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول.
وأما القسم الثاني وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة كلها: "المصحف"، وكتب "م" معلًَّقا": "أي: النقل من كتاب اشتهر بالتصحف".
قلت: الصواب ما أثبته، ووقع على الجادة في الأصل وفي "التنبيه" لابن السيد البطليوسي، انظر الهامش السابق.
2 التصحيف من الراوي غير النقل عن كتاب عرف فيه التصحيف، فهو علة أخرى. "د".
قلت: انظر الهامش السابق. وكتب "م": "المراد هنا الأخذ عن راوٍ يصحف فيما يرويه".
3 أي: أن الراوي مع علمه بباقي الحديث أو سببه لغرض صحيح في نظره، كأن يكون شاهده لما يدعيه يكفي فيه ما اقتصر عليه، وقد يكون في إسقاط السبب أو جزء الحديث ما يكون سببًا في خفاء المعنى المراد وتبادر خلافه، وهذا غير سماع بعض الحديث وفوات بعضه، فعذره في هذا أنه لم يسمع كل الحديث. "د".
4 أي: لأن الدليل الذي يوجد فيه شيء من هذه العلل لا يعد دليلًا معتبرًا، هذا إذا سلم وجودها في المحل، وقد لا يسلم فلا ترجع إلى ما تقدم، فيكون الخلاف الحاصل من اعتبار هذه الأدلة وعدم اعتبارها بناء على الخلاف في وجود هذه العلل فيها وعدم وجودها معتدًا به خلافًا، وهذا وجه كلام ابن السيد في عده هذا الموضع من أسبابه. "د".
5 بيان لعد ذلك من أسباب الخلاف. "د".(42/204)
ص -142-…المسألة التاسعة:
فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به، وتكون مخالفته تارة في جزئي وهو أخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال؛ فتراه آخذًا ببعض1 جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع2 الافتقار إليها، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد عرفت في كتاب الأدلة أنه يجب اعتبار الجزئيات بكلياتها، فلا ينقض جزئي قاعدة كلية، فمسألة العسل الذي لم يوافق الصفراوي الذي شربه لا ينقض مع قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} القاعدة الكلية، وهي أن الشارع لا يخبر خبرًا يغاير المخبر عنه، ولا بد من رجوع* الدليل الجزئي إلى كلي آخر بأن يقيد هذه المطلق، ويقال فيه ما لم يكن صفراويًّا مثلًا أو يوكل فهمه إلى الله العالم بما أراد بهذه الجزئيات، مع أن الآية ليس فيها تعميم نفعه لجميع الناس، ومن الشاهد للمؤلف ما قاله بعض من يدعي لنفسه الفهم والاستنباط في الشريعة في هذا الزمان أنه لا يوجد حكم شرعي في غير العبادات إلا وهو قابل للتغيير، ويستدل على ذلك بأمور ككون الأحكام تتغير بتغير الزمان، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم، فإنما أنا بشر"**، وقولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهكذا أخذ بهذه الأمور على غير وجهتها، ولم يرجع إلى أهل العلم بها ليفهم معناها، فهدم بهذا الشريعة كلها، ولم يبق بيده من كلياتها سوى أن الشريعة وضعت للمصحة، وطبعًا المصلحة هي ما يوافق هواه، وما يظهر له ببادئ الرأي؛ لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا ما يزعمه هو مقصدًا ومصلحة. "د".
قلت: انظر في المعنى الذي ذكره المصنف هنا كتابه "الاعتصام" "2/ 712 - ط ابن عفان".(42/205)
2 بل يرجع إليها رجوع الاستظهار بها على صحة غرضه في النازلة؛ فالمقصود إنما هو تنزيل الدليل على وفق غرضه، وتحكيم هواه في الدليل، فيكون الدليل تبعًا لهواه كما تقدم في المسألة الثالثة عشرة من كتاب الأدلة. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل: "رجع".
** مضى تخريجه.(42/206)
ص -143-…مسلم لما روي عنهم في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59].
ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب1، فإن2 العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر.
وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7].
وفى "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، ثم قال: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"3.
والتشابه4 في القرآن4 لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طلب العلم. "د".
2 أي: فهذا التوهم يجعله يفهم أنه لا يخاطر بعمله، ولو كان يفهم أنه يخاطر ما خاطر؛ لأن العاقل... إلخ. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}، 8/ 209/ رقم 4547" عن عائشة رضي الله عنها.
4 أي: الأعم من الحقيقي والإضافي، وقوله: "بل هو من جملة... إلخ، أي: أن ما نصوا عليه من جملة... إلخ، ولذلك قال: "وأصل هذه المسألة مذكور في قوله تعالى"، أي: فالآية أصل عام شامل لما ذكر وما لم يذكر. "د".
قلت: انظر "الاعتصام" "1/ 71 و2/ 586، 737 - ط ابن عفان".(42/207)
ص -144-…الموهمة للتشبيه، ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، ولا غير ذلك مما يذكرون، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية؛ إذ لا دليل على الحصر، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية، فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض1 المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها2 أو ردت إلى أصولها؛ فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فمثلًا تنزيه الله عن متشابهة الخلق في الجسمية ولواحقها كالحركة أصل مطرد مقرر واضح، وجاء في الحديث قوله: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا... إلخ"، فهذا يتقى اتباعه، وإلا لأفضى إلى معارضة السابق المقرر، فإما أن نكل هذا إلى العالم سبحانه بمراده فنفوض، أو نؤوله ونرده إلى أصل آخر ثابت بتقدير مضاف أو غيره، وهذا في الأعمال كثير، فترى أحاديث ظاهرها مخالفة ما تقرر من أصول الأعمال، فيجرى فيها مثل هذا، لكن المغتر بما وصل إليه يستعمل هذه الجزئيات في نقض الكليات توصلًا إلى غرضه، وستأتي أمثلة كثيرة في الفصل التالي. "د".
قلت: قرر الشارح مذهب الخلف من التأويل أو التفويض، وهو ليس بصواب، على ما بيناه في التعليق على "4/ 11، 137".
2 إشارة إلى ما ذكره المؤلف في "الاعتصام" "2/ 587 - ط ابن عفان" عنه صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، "فلا تكذبوا بعضه ببعض"، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه". "د".(42/208)
قلت: أخرجه أحمد "2/ 181، 185"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 192"، وابن الضريس في "فضائله"، وابن مردويه -كما في "الدار المنثور" "2/ 6"- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وإسناده حسن.(42/209)
ص -145-…ودل على ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب} [آل عمران: 7]؛ فجعل المحكم -وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه- هو الأمُّ والأصلَ المرجوع إليه، ثم قال: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، يريد: وليست بأم ولا معظم، فهى إذا قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم، فليسوا كذلك، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه1.
وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية2؛ إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة، بل ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقتِ اليهودُ على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين3 وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لاتباع المتشابه".
2 هذا المقام وهو إثبات أن المتشابه لا يخص ما كان في قواعد الدين، بل يشمل الأعمال استوفاه "المصنف في" "الاعتصام" في المسألة الرابعة "2/ 709-712 - ط ابن عفان"، وقال هناك: "وقد تقررت هذه المسألة في كتاب "الموافقات" بنوع آخر من التقرير". "د".
3 على الشك، قال في "الاعتصام" في المسألة التاسعة "2/ 742 - ط ابن عفان": "الرواية الصحيحة في الحديث: إن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين فرقة". "د".(42/210)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 4/ 25/ رقم 2640" -وقال: "حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"-وهذا لفظه-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وأبو يعلى "10/ 317، 381-382، 502/ رقم 5910، 5978، 6117"، والآجرى في "الشريعة" "25"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86، 128"، وابن حبان "14/ 140/ رقم 6247 - الإحسان و15/ 125/ رقم 6731 - الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 66"، والمروزي في "السنة" "ص17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 252"، وغيرهم عن أبي هريرة، وإسناده حسن.(42/211)
ص -146-…وفي الترمذي تفسير هذا1 بإسناد غريب عن غير أبي هريرة، فقال في حديثه: "وأن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا: من هي2 يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"3.
والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة، لم يخص من ذلك شيء دون شيء.
وفي أبي داود: "وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون، في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة"4، وهي بمعنى الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ففيه تفسير الفرقة بالملة، وهي المناسبة للمقام. "د".
2 في "ط": "وما هي".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افترق هذه الأمة، 5/ 26/ رقم 2641" -وقال: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه"-، والآجرِّي في "الشريعة" "ص15، 16"، والمروزي في "السنة" "ص18"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص85"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 16، 17"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 145-147" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، من أجل عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ إلا أن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. انظر: "السلسة الصحيحة" "رقم 1348".(42/212)
واستغرب المصنف في "الاعتصام" أيضًا "2/ 698 - ط ابن عفان" هذا الحديث، ولعل ذلك من أجل: "كلها في النار إلا واحدة"، كما حصل لابن الوزير في "العواصم والقواصم" "1/ 186 و3/ 172"، والصنعاني في "حديث افتراق الأمة" "ص95-97"، وللشوكاني في "فتح القدير" "2/ 56"، وغيره، ورد على ذلك بتفصيل حسن وعلى وجه قوي الشيخ صالح المقبلي في "العلم الشامخ" "ص414"، ونقل كلامه وأيده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 204".
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 198/ رقم =(42/213)
ص -147-…التي قبلها1.
وقد روى ما يبين هذا المعنى، ذكره ابن عبد البر بسند لم يَرضه2، وإن كان غيره قد هوَّن الأمر فيه، أنه قال: "ستفترقُ أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها3 فتنة الذين يقيسون الأمورَ برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وهو ظاهر؛ فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 4597"، وأحمد في "المسند" "4/ 102"، والدارمي في "السنن" "2/ 158/ رقم 2521 "، والآجرى في "الشريعة" "ص18"، والمروزي في "السنة" "ص14، 15"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 1، 2، 65"، والطبراني في "الكبير" "19/ 376"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 245، 247"، والأصبهاني في "الحجة" "رقم 107"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 150"، وأبو العلاء الهمذاني في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 12" من طريق صفوان بن عمرو عن أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية مرفاعًا بألفاظ، والمذكور لفظ أبي داود، وهو قطعة من الحديث.
وإسناده حسن على أقل أحواله، وللحديث شواهد يصل بها إلى درجة الصحة، وحسنه ابن حجر في "الكافي" الشاف" "ص63"، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" "1/ 118": "هذا حديث محفوظ"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء "3/ 230": "ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث حسن، وعوف بن مالك، "وهي الجماعة"، وأسانيدها جياد".
1 لأن التي تستحق اسم الجماعة هي التي اتبعت سبيله وسبيل أصحابه صلى الله عليه وسلم، وانظر تفسير كلمة "الجماعة" في المسألة السادسة عشر من "الاعتصام" "2/ 767-776". "د".(42/214)
2 في "الاعتصام" "2/ 699-700/ ط ابن عفاف" أنه قدح فيه ابن عبد البر بهذه الرواية؛ لأن ابن معين قال: "إنه باطل لا أصل له"، قال بعض المتأخرين: روي عن جماعة من الثقات، وقد أشبع المؤلف الكلام على الحديث ورواياته في "الاعتصام" "2/ 699". "د".
قلت: الحديث منكر، وقد خرجناه وتكملنا عليه فيما مضى "1/ 98"، فانظره غير مأمور.
3 راجع المسألة الخامسة والعشرين من "الاعتصام" "2/ 795 - ط ابن عفان" لتبيين معنى القياس المذموم في الحديث. "د".(42/215)
ص -148-…فصل:
وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها، وأنها مقصودة الدخول تحته، فإنه جاء في القرآن أشياء1 تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها، فهو آخذ في بدعة، خارج عن مقتضى الشريعة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها، وربما ورد التعيين في بعضها، كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج: "إن من ضئضئ2 هذا قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"3.
وفي رواية: "دعه -يعني: ذا الخويصرة-، فإن له أصحابًا َيحقُر أحدُكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستأتي له في العلامات التفصيلية في الفصل التالي لهذا الفصل. "د".
2 الضئضئ؛ بكسر الضادين، وضمهما: الأصل والمعدن، وفي الحديث ان رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال له: اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال: "يخرج من ضئضئ هذا..." الحديث؛ أي: يخرج من أصله ونسله، والرمية: الصيد الذي ترميه، فتقصده وينفذ فيه سهمك، وقيل: كل دابة مرمية. "ف" و"م".
وقال "ماء": "ضئضئ، أي: خالص".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول الله {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه}، 13/ 415-416/ رقم 7432" -بنحوه-، والمذكور لفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 741-742/ رقم 1064 بعد 143" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(42/216)
ص -149-…يمَرقوُن من الإسلام...." الحديث إلى أن قال: "آيتُهم رجل أسودُ، إحدى عضُديه مثلُ ثَدْيِ المرأة أو مثل البَضْعةِ1 تَدَرْدَر2"..... إلخ3.
فقد عرَّف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء، وذكر لهم علامة في صاحبهم، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كُلِّيَّيْنِ:
أحدهما: اتبَّاع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث: "يقَرءونَ القرآن لا يجُاوزُ حناجرهم"، ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض، ويضاد المشي على الصراط المستقيم، ومن هنا ذم4 بعض العلماء رأي داود الظاهري، وقال: إنها بدعة ظهرت بعد المائتين، ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت5 عليه السور6 والآيات، وتعارضت في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البضعة، بالفتح، ومثلها الهبرة: القطعة من اللحم. "ف" و"م".
2 تددر، بفتح التاء، وسكون الراء، أي: ترجرج، وأصله تتدردر، فحذفت منه إحدى التائين. "ف" و"م".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" بنحوه "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610، وكتاب الأدب ما جاء في الرجل "ويلك"، 10/ 552/ رقم 6163، وكتاب استتابة المرتدين، باب من ترك قتال الخوارج، 12/ 290/ رقم 6933"، ومسلم -والمذكور لفظه- في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4 في "الاعتصام" "2/ 784 - ط ابن عفان": "ومن البدع التي تتجارى بصاحبها كالكلب ما ذهب إليه الظاهرية، على رأي من عدها من البدع". "د".
قلت: انظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على 3/ 420" عنهم، والله الموفق، لا رب سواه.
5 أي: فلا بد للناظر من التدبر والنظر في المقاصد حتى لا تتناقص السور والآيات عنده، والأخذ بالظاهر مؤد إلى هذا، فينطبق عليه الحديث. "د".
6 في "د": "الصور".(42/217)
ص -150-…يديه الأدلة على الإطلاق والعموم.
وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في "مشكل القرآن"1، وكتابه في "مشكل الحديث"2 يبين لك صحة هذا الإلزام، فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر.
والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها، فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون، وأن أهل الأوثان هالكون، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد، صار صاحبه هادمًا لقواعدها، وصادا عن سبيلها، ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس3 وفى غيرها، ظهر له خروجهم عن القصد، وعدولهم عن الصواب، وهدمهم للقواعد، وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز4، وأشباه ذلك.
فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعًا للمتشابهات.
وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه، كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، وأن لا حرام إلى ما في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر منه: "ص103-106".
2 انظر منه: "ص5-11 - ط الكتاب العربي"، ونقل كلامه المصنف في "الاعتصام" "2/ 760-764 - ط ابن عفان".
3 انظر تفصيل المناظرة عند المصنف في "الاعتصام" "2/ 696-698 - ط ابن عفان"، ومضى تخريجها "4/ 221-223".
4 انظر: "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص112-115، 147" لا بن عبد الحكم.(42/218)
ص -151-…إِلَيَّ} الآية [الأنعام: 145]، وما سوى ذلك فحلال، وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق، والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة، وأن الجاهل معذور1 في أحكام الفروع بإطلاق، وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد2، وأن المكلف قد يكون مطيعًا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله، وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك3 وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية.
ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة، ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذى ينبغي أن يلتزم ليكون سترًا على الأمة، كما سترت عليهم قبائحهم، فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام، وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يناقض قولهم سابقًا: إن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، فلا يعذر بالجهل حتى ولا في الحكم بخروجه عن الإسلام، ولا يخفى أن ما سبق لهم في الفروع. "د".
قلت: العذر بالجهل في الفروع هو مذهب النجدات منهم، قاله البغدادي في "أصول الدين" "ص332".
2 هذا زعم اليزيدية، وإنكار سورة يوسف مذهب الميمونية منهم، أفاده البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333"، وقال: "فهذه الفرقة منهم -أي: اليزيدية- مع الميمونية في أعداد المرتدين".
3 انظر: "أصول الدين" "ص332-333"، و"الملل والنحل" "1/ 114-138"، و"اعتقادات فرق المشركين" "51"، و"الفصل في الملل" "3/ 189"، و"التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" "ص51".(42/219)
ص -152-…أحدهم ليلًا1 أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة، وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول، منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب، إلى ما أشبه ذلك، فكثير من هذه الأشياء خصت بها2 هذه الأمة، وقد قالت طائفة: إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم، فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف.
وللستر حكمة أيضًا، وهي أنها لو أظهرت -مع أن أصحابها من الأمة-، لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة، وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} [الأنفال: 1].
"وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات}3" [آل عمران: 105].
وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31-32].
وفي الحديث: "لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "الاعتصام" "2/ 724" و"ط" فقط، وفي غيره: "أحدهم ذنبًا".
2 أي: بالستر فيها كما في "الاعتصام" "2/ 724 - ط ابن عفان". "د".
قلت: وفيه أيضًا: "وهذا الفصل مبسوط في كتاب "الموافقات" والحمد لله".
3 ما بين المعقوفتين سقط في "د". وهو مثبت في الأصل و"ف" و"م" و"ط"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 725 - ط ابن عفان"، وما قبله وبعده فيه بحرفه ونصره.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر 10/ 481/ رقم 6065، وباب الهجرة، 10/ 492/ رقم 6076"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والبتاغض والتدابر، 4/ 1983/ رقم 2559" عن أنس رضي الله عنه.(42/220)
ص -153-…وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة، وأنها تحلق الدين1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها:
ما أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 1310" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، 4/ 663/ رقم 2509"-، وأحمد في "المسند" "6/ 444-445"، والبخاري في "الأدب المفرد" "106"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، 4/ 280/ رقم 4919"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 130" عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصلاة والصدقة؟". قالوا: بلى. قال: "صلاح ذات البين، وإن فساد ذات البين هي الحالقة".
قال الترمذي: "هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
ثم أخرج برقم "2510"، وأحمد في "المسند" "1/ 165، 167"، والبزار في "المسند" "رقم 2002 - الزوائد"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 32/ رقم 669" عن الزبير مرفوعًا: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام". لفظ أبي يعلى.
وإسناده ضعيف، ولكنه حسن بشواهد، ولآخره: "والذي نفسي بيده..." شاهد عن أبي هريرة، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 54"، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 260"، وزاد في آخره: "وإياكم والبغضة، فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، ولفظ الترمذي "رقم 2508" عنه مرفوعًا: "إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة".
وانظر: "غاية المرام" "414"، و"الإرواء" "2/ 239"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 197".(42/221)
ص -154-…والشريعة طافحة بهذا المعنى، ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب "البر والصلة"، وقد جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} الآية [الأنعام: 159]، أنه روي عن عائشة وأبي هريرة -وهذا حديث عائشة-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، من هم؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة! إن لكل ذنب توبة؛ ما خلا أصحاب الأهواء والبدع، ليس لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني برءاء"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 203"، وأبو الشيخ -ومن طريقه الواحدي في "الوسيط" "2/ 342"-، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 204"-؛ وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 4"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 77/ رقم 2724"، الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص209"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 449-450/ رقم 7239 و7240"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 137-138"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 144/ رقم 209" من طريق بقية ثنا شعبة أو غيره من مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رفعه.
قال الطبراني: "لم يروه عن شعبة إلا بقية، تفرد به ابن مصفى"، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية".(42/222)
قلت: إسناده ضعيف، فيه مجالد، ليس بالقوي، والحديث لم ينفرد به ابن المصفى كما قال الطبراني، وإنما تابعه جحدر بن الحارث كما قال الدارقطني في "العلل" "2/ 163"، وخالفهما وهب بن حفص الحراني -وكان ضعيفًا-، فرواه عن عبد الملك الجدي عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 5232" -وسقط متن الحديث من هذه الطبعة-، وقال: "رواه بقية عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر"، قال: "وجميعًا غير محفوظين".
وقال الدارقطني في "العلل" "2/ 164": "ولا يثبت عن شعبة ولا عن مجالد، والله أعلم"، ونقله ابن الجوزي وزاد: "أما بقية فكان يدلس، والظاهر أنه سمع من ضعيف فأسقط ذكره، فلا يوثق بما يروي"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 204": "وهو غريب أيضًا، ولا يصح رفعه"، وقال =(42/223)
ص -155-…فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة، لزم من ذلك أن يكون منهيًا عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدًّا كبدعة الخوارج، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها، كما عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم، حتى يعرفون ويحذر منهم. ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما سوى ذلك، فالسكوت عن تعيينه أولى1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الهيثمي في "المجمع" "1/ 188": "وفيه بقية ومجالد عن سعيد، وكلاهما ضعيف"، وهذا هو الصواب، فبقية مدلس، ولكنه قال "7/ 22": "وإسناده جيد"، وعاد في "10/ 189"، فقال: "وفيه بقية، وهو ضعيف"، وعزاه في المواطن كلها للطبراني في "الصغير"، وانظر: "مجمع البحرين" "1/ رقم 275 و6/ رقم 3320 ورقم 4712"، والحديث كما رأيت حديث عمر وليس حديث عائشة كما قال المصنف رحمه الله تعالى.
أما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن جرير في "التفسير" "8/ 105" من طريق بقية عن عباد ابن كثير عن ليث، والطبراني في "الأوسط" "1/ 384/ رقم 668" من طريق معلل عن موسى بن أعين عن سفيان الثوري عن ابن طاووس، كلاهما عن طاووس عن أبي هريرة به، ولفظه: "هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة"، وزاد عباد بن كثير: "وأهل الشبهات"، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا موسى، تفرد به معلل".(42/224)
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 23": "ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 203-204" عقب إسناد الطبراني: "هذا إسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه، فإن سفيان الثوري عن ليث -وهو ابن أبي سليم- عن طاووس عن أبي هريرة في الآية، أنه قال: "نزلت في هذه الأمة"، وعزى الآلوسي في "روح المعاني" "8/ 68" حديث أبي هريرة أيضًا للحكيم الترمذي والشيرازي في "الألقاب" وابن مردويه".
1 قال في "الاعتصام" "2/ 726، 730": "إن التعيين يكون في موطنين: الأول ما أشار إليه هنا، والثاني: حيث تكون تلك الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام، "ومن لا علم عنده"، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، "وهم من شياطين الإنس"، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة".
ولا يخفى عليك أن بدعة طائفة من أهل الأهواء في زماننا هذا كبعض محرري الصحف الأسبوعية قد جمعت الخستين: بدعة غاية في الشناعة والكفر، ثم الدعوة إليها بنشرها في الصحف وتزيينها بكل أنواع البهتان والزخرف، فلا حول ولا قوة إلا بالله. "د".(42/225)
ص -156-…وخروج أبو داود عن عمرو1 بن أبي قرة، قال: "كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول. فيرجعون إلى حذيفة، فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صدقك ولا كذبك. فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة2، فقال: يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول [في الغضب]3 لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالًا حب رجال، ورجالًا بغض رجال، وحتى توقع اختلافًا وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب، فقال: "أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته [لعنة]4 في غضبي، فإنما أن من ولد آدم أغضب5 كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعاملين، فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة"6، فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ المطبوعة: "عمر"، بضم العين، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وكذا في "الاعتصام" "2/ 225 - ط رضا، و2/ 725 - ط ابن عفان" وفيهما: "ابن أبي مرة"، بالميم بدل القاف، وهو خطأ ثان، فليصحح.
2 أي: موضع البقل، وهو من النبات ما ليس بشجر. "ف" و"م".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
5 في "ط": "وأغضب".(42/226)
6 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، 4/ 214-215/ رقم 4658"، وأحمد في "المسند" "5/ 437" عن عمرو بن أبي قرة، وإسناده صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أذيته فاجعله له زكاة ورحمة"، 11/ 171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه، وليس هو أهلًا لذلك، كان له زكاةً وأجرًا ورحمة، 4/ 2008/ 2601" "91". وأخرجه مسلم من حديث عائشة وجابر وأم سلمة رضي الله عنهم.(42/227)
ص -157-…فهذا من سلمان حسن من النظر، فهو جار في مسألتنا.
فإن قيل: فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشريد1 بهم وتقبيح ما هم عليه، فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز؟
فالجواب: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة2 عليهم إلا القليل منهم كالخوارج، ونبه على البدع من غير تفصيل، وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة، وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة، ولم يصرح بالتعيين غالبًا تصريحًا يقطع العذر3، ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس4، فنحن أولى بذلك معشر الأمة.
وما ذكره المتقدمون5 من ذلك فبحسب فحش تلك البدع، وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم، مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد، فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "والتشديد" بدالين!!
2 أي: تنبهًا إجماليًا لا تفصيليًا. "د".
3 حتى لا يسد عليهم باب التوبة بسبب العناد واليأس من رحمة الله. "د". وفي "د": "لقطع العذر".
4 أي: في غالبهم كما نبه عليه، أما مثل الخوارج، فقد تقدم له ذكر العلامة القاطعة "د".
5 من عد أهل البدع وتعيينهم بأسمائهم وإيصال هذه الفرق إلى اثنتين وسبعين فرقة، وقوله: "إذا كان بحسب الاجتهاد"، أي: كما هو الشأن في تعيين المتقدمين لهذه الفرق، أي فليس هذا التعيين جاريًا مجرى الحكم الفصل، وقد عقد في "الاعتصام" "2/ 718-720 - ط ابن عفان" مسألة خاصة لتعيين هذه الفرق الاثنتين والسبعين. "د".(42/228)
ص -158-…ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه، فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر، حتى يظهر أمر فيكون له حكمه، ويبقى النظر: هل هذ الظاهر من جملة ما يدخل1 تحت الحديث، أم لا؟ فهو موضع اجتهاد.
وأيضًا، فإن البدع المحدثة تختلف، فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال، ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التي قال فيها مالك: "التثويب2 ضلال"؟
وقد قسم المتقدمون3 البدع إلى ما هو مكروه، وإلى ما هو محرم، ولو كانت عندهم على سواء، لكانت قسمًا واحدًا، وإذا كان كذلك، فالبدع التي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون صاحبه في النار، وهل دوامًا أم كبقية عصاة المؤمنين؟ ويرجع ذلك إلى درجة البدعة وكونها مكفرة أو لا، وكونها صغيرة أو كبيرة. "د".
2 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 556": "وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس، قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الفلاح! وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة رحمكم الله، وقيل: إنما عني بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على خير العمل؛ لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة" اهـ. يعني: وأما جملة "الصلاة خير من النوم" في أذان الصبح، فهي مطلوبة داخلة في جمل الأذان المشروعة. "د".
وكتب "ف" -وتبعه "م"- في تفسير "التثويب" ما نصه: "أي: ترجيع المؤذن بالصلاة، وفي حديث بلال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر، وهو قوله: "الصلاة خير من النوم" مرتين من ثاب يثوب إذا رجع".
قلت: انظر بدع الأذان عن المصنف: "فتاوى الشاطبي" "ص217"، و"الاعتصام" "2/ 102-103/ ط رضا".(42/229)
3 قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 241": "وبسط ذلك القرافي "في الفروق" "4/ 202-205"، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين عبد السلام "في قواعد الأحكام" "2/ 172-174"، و"الفتاوى" "116"، وها أنا آتي به على نصه... وساقه".
انظر: "القواعد" للمقري" "2/ 438، القاعدة الرابعة والتسعون بعد المئة".(42/230)
ص -159-…تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح، وبسب ذلك يظهر أنها كثيرة جدًا.
وما في الحديث محصور، فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث، أو يكون بعضها جزءًا من بدعة فوقها أعظم منها، أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه1، فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه، فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع، وهذا كالمعدوم فيها، فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها.
فإن قيل2: فالعلماء يقولون خلاف هذا، وإن الواجب هو التشريد3 بهم والزجر لهم، والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا، وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين.
فالجواب: إن ذلك حكم فيهم [كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع] من فعل واجب أو ترك محرم، كما يقتل تارك الصلاة، وإن كان مقرًا إلى ما دون ذلك، وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث، فتوجه4 الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر5.
فصل:
ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة، وعلامات أيضًا في التفصيل6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تدخل في الحديث الذي يجعل صاحب البدعة في النار. "د".
2 ترق في السؤال ووصول به فوق التعيين إلى القتل ومناصبة القتال، وجوابه فيما سبق يمنع التعيين، وكذلك هنا حيث يقول: إن دخولهم تحت الأحكام شيء ودعوى دخولهم تحت الحديث شيء آخر. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "التشديد".
4 في الأصل و"ط": "فتوجيه".
5 أي: فهما مقامان لا يشكل أحدهما على الآخر. "د"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
6 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 114-116".(42/231)
ص -160-…فأما علامات الجملة فثلاث:
إحداها: الفرقة التى نبه عليها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105].
وغير ذلك من الأدلة.
قال بعض المفسرين1: "صاروا فرقا لاتباع أهوائهم، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، ثم برأه الله منهم بقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وهم أصحاب البدع [وأصحاب الضلالات] والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله".
قال: "ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا ولم يصيروا2 شيعًا؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصًّا، واختلفت في ذلك أقوالهم، فصاروا محمودين؛ لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به، كاختلاف أبي بكر وعمر [وعلي] وزيد في الجد مع الأم3، وقول عمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الاعتصام" "2/ 733 - ط ابن عفان": "قال بعض العلماء..." وساقه بنصه، وما بين المعقوفتين منه، وسقط من الأصل و"ط" في الأصل و"ط" وجميع النسخ المطبوعة.
وانظر في تفسير الآية: "الكشاف" "2/ 50"، و"تفسير القرطبي، "7/ 149-150"، و"نظم الدرر" "7/ 344-335"، و"روح المعاني" "8/ 68".
2 في "الاعتصام": "ولم يتفرقوا، ولا صاروا....".
3 وكذا في "الاعتصام" "2/ 734 - ط ابن عفان"، وفي هامش الأصل: "لعله "مع الإخوة""، وكذا أثبته "د"، وفصل "ف"، فقال: "لعله في الأخوة مع الجد إذ لا نعلم خلافًا بين =(42/232)
ص -161-…................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العلماء في إرث الجد مع الأم، وقد أجمعوا على أن الجد عاصب مع ذوي الفرائض يأخذ ما أبقته الفروض، فإذا انفرد مع الأم يرث الباقي بعد فرض الثلث لها، ولا يحجبه إلا الأب، واختلفوا في حجبه الأخوة أشقاء أو لأب، فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما وجماعة من الفقهاء إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد وعلي وعمر رضي الله عنهم إلى إرثهم معه".
قلت: يتأكد هذا التصويب بأمور:
أولًا: هذا هو المثبت في كتب الأصول، انظر على سبيل المثال: "مختصر المنتهى" "ص199".
ثانيًا: وهذا هو المثبت في كتب التخريج، انظر على سبيل المثال: "تحفة الطالب" "ص437"، و"موافقة الخبر الخبر" "1/ 158-160".
ثالثًا: وهذا هو المثب أيضًا في كتب الحديث والرواية، وإليك ما يدل عليه: أخرج البيهقي في "الكبرى" "6/ 248" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية في شأن الجد، قال: "وجرى بيني وبين عمر كلام في الجد مع الأخوة، وكنت أرى يومئذ أن الأخوة أقرب حقًا إلى أخيهم من الجد، وكان هو يرى أن الجد أقرب".
وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 160"، وأخرج الدارمي "رقم 2910، 2911" مذهب أبي بكر، وقال ابن حجر عنه: "هذا موقوف صحيح، وثبت عن أبي بكر من طريق أخرى من رواية ابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وبعضها في البخاري".(42/233)
قلت: قال البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة 8/ 18 - مع الفتح": "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: الجد أب، وقرأ ابن عباس: {يَا بَنِي آدَم} و{اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني". قال: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة".
قلت: انظرها مع الكلام عليها في "تغليق التعليق" "5/ 214-222"، وخلاصة ما في هذا الباب أن المال للجد ثابت عن أبي بكر، وتابعه عمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى القول بالمقاسمة، وهو قول الأكثر، وأما القول بحرمان الجد، فجاء عن زيد وعلي وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع علي وزيد إلى المقاسمة. =(42/234)
ص -162-…وعلي في أمهات1 الأولاد، وخلافهم في الفريضة المشتركة2، وخلافهم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وانظر في المسألة: "سنن سعيد بن منصور" "1/ 62-72 - ط الأعظمي"، و"المحلي"، "10/ 364-376"، و"إعلام الموقعين" "1/ 212"، و"المبسوط" "29/ 144، 180-181"، و"شرح الرحبية" "44"، و"تحفة الطالب" "ص438-440" لابن كثير، و"أحكام التركات والمواريث" "ص158 وما بعدها"، و"الميراث في الشريعة الإسلامية" "ص175-187"، و"عدة الباحث في أحكام التوارث" "32".
1 أي: في جواز بيعهن كما رأى بعض من كبار الصحابة، أو عدم جوازه كما هو رأي الجمهور. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "هل يجوز بيعهن أولًا؟ فإن العلماء اختلفوا في أم الولد، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع"، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار، والثابت عن أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الزبير أنهم يجيزون بيعها، وبه قال الظاهرية".
قلت: أخرج اختلاف عمر وعلي في ذلك: عبد الرزاق في "المصنف" "7/ 291-292/ رقم 13224" بإسناد صحيح، ومضى تخريج ذلك.
2 أي: التي ورد فيها: "هب أبانا كان حجرًا في اليم". "د".
وكتب "ف" ما نصه: "وهي امرأة توفيت عن زوج وأم وأخوة لأم وأخوة أشقاء، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت رضى الله عنهم يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة لأم الثلث فلا يبقى للإخوة الأشقاء شيء، فكانوا يشركونهم مع الإخوة للأم في الثلث: يقسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي وجماعة من الفقهاء، وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون الأشقاء مع الأخوة للأم في هذه الفريضة ولا يوجبون لهم شيئًا فيها، وبه قال أبو حنيفة وأبو ليلى وأحمد رضي الله عنهم".(42/235)
قلت: أخرج سعيد بن منصور في "السنن" "رقم 20، 21 - ط الأعظمي"، وسفيان الثوري في "الفرائض" "رقم 22"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 255" -وهذا لفظه-، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 251"، والدارمي في "السنن" "2/ 251"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 256" بإسناد صحيح من طرق عن إبراهيم، قال: إن عمر وزيدًا وابن مسعود كانوا يشركون في زوج وأم وإخوة لأم وأب وأخوات لأم، يشركون بين الإخوة من الأب والأم مع الأخوة للأم في سهم، وكانوا يقولون: لم يزدهم الأب إلا قربًا، ويجعلون ذكورهم وإناثهم فيه سواء"، وعدم مشاركة علي في "سنن سعيد" "رقم 26" وفيه "برقم 28 و29" مذهب أبي موسى.(42/236)
ص -163-…الطلاق1 قبل النكاح، وفي البيوع... وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح [و] أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة، فلما حدثت [الأهواء]2 المردية3 التى حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت العداوات، وتحزب أهلها فصاروا شيعًا، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه".
قال: "فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز4 والقطيعة، علمنا أنها ليست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعليق الطلاق على النكاح، كأن يقول: إن تزوجت فلانه فهي طالق، وفيها الأقوال الثلاثة لمالك وأبي حنيفة والشافعي. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "أي: العقد مثل أن يقول: إن نكحت فلانه فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول أن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلًا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وجماعة، وقول أنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة، وقول أنه إن عم جميع النساء لم يلزمه وإن خص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، مثل أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن.
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" و"ماء".
3 في "د": "المرذية"، بالذال المعجمة، وكتب "د": "الذي في "الاعتصام" "2/ 734" بالدال المهملة، وكل له وجه، فإن الأهواء موقعة في الهلاك والردى، كما أنها مرذية جالبة للأرذاء والمضعفات، وفي الأصل: "حظر"، ولكن عليها علامة التوقف والشك".
قلت: وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط" بالدال.
4 هو التعاير، فكل فرقة تعير غيرها بالمروق، وتسمى غيرها باسم ولقب تكرهه. "د".(42/237)
وفي "ط": "التدابر"، وقال "ف": "لعله": "والتدابر" كما في "الاعتصام"". قلت: في "الاعتصام" "2/ 734": "... الاختلاف بينهم العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة".(42/238)
ص -164-…من أمر الدين في شيء، وأنها التى عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، وقد تقدمت، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، فإذا اختلفوا وتقاطعوا، كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى".
هذا ما قاله1، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك، فخارج عن الدين.
وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق2، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"3، وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التى4 بين أهل الإسلام وأهل الكفر! وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"الاعتصام" "2/ 735": "قاله"، وفي جميع النسخ المطبوعة و"ماء": "قالوه".
2 أي: المضمنة في الحديث كما في "الاعتصام" "2/ 735". "د".
3 مضى تخريجه "ص148"، وهو في "الصحيحين".
4 أي: هم وإن كانوا ينطقون، بكلمة التوحيد، ويصلون، ويزعمون أنهم مسلمون، إلا أن خاصيتهم التي ذكرها الحديث تجعل فرقتهم عن المسلمين لا يوازيها إلا فرقة الكفار عن المسلمين، فلا فرق بينهم وبين الكفار في الواقع، فكلمة "إلا" لازمة وإن كانت عبارة "الاعتصام" بدونها، ولكني ما رأيت كتابًا في مثل تحريف طبعة "الاعتصام" "الحالية". "د".
قلت: قال "ف": "لعله كما في "الاعتصام": "توازي هذه الفرقة التي..."، والمذكور آنفًا رد عليه".(42/239)
ص -165-…الفرق أو من ادعى ذلك فيهم1.
والخاصية الثانية: هي التى نبه عليها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة} الآية [آل عمران: 7]، فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم اتباع المتشابهات، وقد تبين معناه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.
والخاصية الثالثة3: اتباع الهوى، وهي التى نبه عليها قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]، وهو الميل عن الحق اتباعًا للهوى. وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه} [القصص: 50].
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} الآية [الجاثية: 23].
إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أحد في خاصة نفسه؛ لأنها أمر باطن، فلا يعرفها غير صاحبها، إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر، والتي قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم؛ لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها، والتي قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام؛ لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم، وبمعرفته يعرف أهله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد في "الاعتصام" "2/ 735": "إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت؛ لأنها تختلف بالقوة والضعف، وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق في الفروع الجزئية، فإن الفرقة بلا بد أضعف، فيجب النظر في هذا كله".
2 مضى تخريجه "ص143"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره.
3 يراجع الكلام في الخواص الثلاث في "الاعتصام" "2/ 732-742" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني ليزيد اتضاحًا. "د".(42/240)
ص -166-…وأما العلامات التفصيلية في [كل]1 فرقة، فقد نبه عليها وأشير إليها2، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}... إلى قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 59-60].
وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 116-117].
وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] إلى آخرها.
وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الآية [التوبة: 37].
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَه} الآية [يس: 47].
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} [الحج: 11] إلى آخر الآيتين.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء}... إلى قوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم} [المائدة: 101-105].
وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا} الآية [الأنعام: 140].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سقطت من "د".(42/241)
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 742 - ط ابن عفان" "... فقد نبه عليها، وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارًا إليها، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها، لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمن، فغلبنا عليه، ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك".
قلت: يشير بقوله: "في ماضي الزمن" إلى صنيعه هنا.(42/242)
ص -167-…وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْن}... إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143-144].
إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم.
وكذلك في الحديث، كقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"1.
وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى، وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق2 لما تقدم ذكره، فمن تهدى3 إليها فذاك، وإلا، فلا عليه أن لا يعلمها، والله الموفق للصواب.
فصل:
ومن هذا4 يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص.
ومن ذلك تعيين هذه الفرق، فإنه وإن كان حقًّا فقد يثير فتنة، كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعًا بثه.
ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها، فإن الله ذم من اتبعها، فإذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 97"، وهو في "الصحيحين".
2 تصريحًا يعين أصحابها تعيينًا تامًا بالأسماء والألقاب. "د".
3 في الأصل: "اهتدوا".
4 في "ط": "ومن هنا يعلم...".(42/243)
ص -168-…ذكرت وعرضت للكلام فيها، فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه، وقد جاء في الحديث عن علي: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"1.
وفى "الصحيح" عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا معاذ! تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله..." الحديث إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا"2.
وفى حديث آخر عن معاذ في مثله قال: "يا رسول الله! أفلا أخبر بها فيستبشروا؟ فقال: "إذن يتكلوا"3. قال أنس: فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "2/ 129/ رقم 2656" عن الحسين بن علي مرفوعًا، وهو في "ضعيف الجامع" "رقم 2701"، وقال العزيزي في "السراج المنير" "2/ 223": "وهو في البخاري موقوف على علي، وإسناد المرفوع واهٍ، بل قيل: موضوع".
قلت: أخرجه موقوفًا على علي رضي الله عنه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم "127"، وانظر في معناه: "فتح الباري" "1/ 225"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 260، 261"، ومضى موقوفًا "1/ 124".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 10/ 397-398/ رقم 5967"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 58-59/ رقم 30 بعد 49".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص العلم قومًا دون قوم...، 1/ 226/ رقم 128 و129"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 61/ رقم 32 بعد 53" عن أنس رضي الله عنه.(42/244)
4 كان معاذ بين عاملين: النهي عن كتمان العلم بإطلاق، والنهي عن تبليغ هذه المسألة من الرسول صلى الله عليه وسلم فلعله فهم عند موته أن النهي لم يكن تحتيمًا أو النهي في حال أو أن العلة غير محققة بل متوهمة، ويدل عليه حديث عمر بعده، فإن قوله فيه: "فخلهم" بعد الإذن لأبي هريرة وتبشيره بالفعل دليل على أن في الأمر فسحة بين الفعل والترك، وأن المصلحة الشرعية لا تتنافى =(42/245)
ص -169-…ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة، انظره في كتاب مسلم والبخاري، فإنه قال فيه عمر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك: "من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟" قال: "نعم". قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فخلهم"1.
وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف، قال: "لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل، فقال: إن فلانًا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانًا. فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= معهما، على أنه يمكن أن ينازع في إفادة قوله صلى الله عليه وسلم: "فخلهم" للنهي المطلق عن تبليغ هذه المسألة "د".
وكتب في "ف" ما نصه: "قوله "تأثمًا"، أي: تاجنبًا للإثم، يقال: تأثم فلان إذا فعل فعلًا يخرج به عن الإثم، ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علمًا يخاف ذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كتم علمًا ولم يبلغ سنة فيأثم، فاحتاط وأخبر بهذه السنة خشية الإثم".
وقال "ماء": "أي: تخريجًا من الإثم".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 59-61/ رقم 31 بعد 52" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وعزو المصنف الحديث للبخاري خطأ، ولم يعزه إلا لمسلم المزي في "تهذيب الكمال" "10/ 442/ رقم 14843"، والنووي في "رياض الصالحين" "ص306-307"، تحقيق شيخنا الألباني.
وكتب "د" في الهامش: "لفظ مسلم: "مستعينًا بها"".
قلت: في "صحيح مسلم": "مستيقنًا بها"، وفي النسخ المطبوعة من كتابنا "مستيقنًا به"، فلعل خطأ مطبعيًا وقع في تعليق "د"، ومراده تصويب "به"، والله أعلم.(42/246)
2 كذا في الأصل و"ف" و"ط": "يريدون يغصبونهم"، وفي "د" و"م": "يريدون يغصبونهم"، وقال: "ف" وتبعه "م": "لعله" "يعصبونهم"، أي: يسودونهم ويملكونهم من التعصيب ويراجع". =(42/247)
ص -170-…قلت: لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون1 على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها2 على وجهها، فيطيروا بها كل مطير وأمهل3 حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، ويحفظوا4 مقالتك وينزلوها على وجهها. فقال: والله لأقومن [به]5 في أول مقام أقومه بالمدينة"6 الحديث.
ومنه حديث سلمان مع حذيفة، وقد تقدم7.
ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي، بل يربي بصغار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: الصواب ما أثبتناه، وهي رواية البخاري كما سيأتي، قال ابن حجر في "الفتح" "12/ 147": "وكذا في رواية الجميع بغين معجمة وصاد مهملة، وفي رواية مالك: "يغتصبوهم" بزيادة مثناة بعد الغين المعجمة، وحكى ابن التين أنه روي بالعين المهملة وضم أوله من "أعضب"، أي: صار لا ناصر له، والمعضوب: الضعيف، وهو من عضب الشاة: إذا انكسر أحد قرنيها أو قرنها الداخل وهو المشاشي، والمعنى، أنهم يغلبون على الأمر فيضعف لضعفهم، والأول أولى، والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد علي، على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه.
1 في "صحيح البخاري": "يغلبون" من غير واو.
2 في "د": "ينزلها".
3 في "صحيح البخاري": "فأمهل".
4 في "صحيح البخاري": "فيحفظوا".
5 سقط من جميع النسخ، وأثبتها من "صحيح البخاري".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم وما اجتمع، 13/ 303/ رقم 7323"، وهذا لفظه.
وأخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، 7/ 264/ رقم 3928"، وكتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، 12/ 144/ رقم 6830"، وأحمد في "المسند" "1/ 55".
7 انظره وتخريجه: "ص156".(42/248)
ص -171-…العلم قبل كباره، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة1 الدور في الطلاق، لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق، بإطلاق وهو مفسدة.
من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وقالت لها: أحروية أنت2؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغًا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل3، وربما أوقع خيالًا وفتنة وإن كان صحيحًا، وتلا قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]. فقال: هذه الفاكهة، فما الأب؟ ثم قال: ما أمرنا بهذا4.
إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر5 وإن كان حقًا وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلمًا ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صورتها أن يقول لزوجته: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا. نص الشافعية على الخلاف فيها على ثلاثة أقوال:
1 لا يقع شيء للدور وهو منسوب لابن سريج عندهم، وتنبه كتبهم على ضعفه.
2 يقع الثلاث.
3 يقع المعلق عليه وهو المفتي به. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب لا تفضي الحائض الصلاة، 1/ 421/ رقم 321"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، 1/ 265/ رقم 335"، وسمى مسلم السائلة معاذة، وانظر: "تنبيه المعلم" "رقم 200 - بتحقيقي"، و"المستفادة" "16"، و"فتح الباري" "1/ 422".
3 مضى لفظه وتخريجه "1/ 51".
4 مضى لفظه وتخريجه "1/ 49".
5 في "ط": "ولا ينشر".(42/249)
ص -172-…ذلك1، فتنبه لهذا المعنى.
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية.
فصل:
هذه الفرق وإن كانت على ما هي عليه من الضلال، فلم تخرج من الأمة، ودل على ذلك قوله: "تفترق أمتي"1، فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها.
وقد جاء في الخوارج: "فى هذه الأمة كذا"2، فأتى بـ"في"3 المقتضية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى عند المصنف "2/ 142-143".
2 مضى ذلك في أحاديث عديدة، منها المتقدم "ص145 وما بعدها".
3 انظر الهامش الآتي، وفي "ط": "يخرج في...".
4 مجرد ذكر "في" أو "من" كما في بعض الأحاديث لا يقتضي بقاءهم في أمة الإجابة، ألا ترى ما ورد في حديث مسلم: "سيكون في أمتي ثلاثون كذابًا، كلهم يدعى أنه نبي وأنه خاتم النبيين"*، فهذه الظرفية في الحديث وما ماثلها فيما هو صريح في الكفر لا يصح أن يستدل بها. =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام 7/ 616/ رقم 3606، وكتاب الفتن، باب منه 13/ 81/ رقم 1721، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 3/ 1454/ رقم 1822، وكتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة 4/ 2240/ رقم 157.(42/250)
ص -173-…أنها فيها وفي جملتها.
وقال في الحديث: "وتتمارى في الفوق"1، ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار2 في كفرهم، ولقال: إنهم كفروا بعد إسلامهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأيضًا، فإن أبا سعيد الخدري في روايته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها-: قوم تحقرون صلاتكم...." إلخ "أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6931" وغيره"، قال ابن حجر "في "فتح الباري" "12/ 289": "لم تختلف الطرق "الصحيحة" على أبي سعيد في ذلك... قال النووي: وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة"، ولكن المؤلف رآه دليلًا لكونهم منها، والفرق جسيم، إلا أن يقال: "أمة الدعوة لا أمة الإجابة، ولكن هذا بعيد عن غرضه، ولا تترتب عليه فائدة. "د".
1 أي: حديث البخاري "في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب منه، 12/ 283/ رقم 6931": "فيتمارى في الفوقة"، قال ابن حجر "في "الفتح" "12/ 1290": "الفوقة: "موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباري": تذكر وتؤنث، أي: يتشكك هل بقي فيها من الدم شيء؟"، "وقال 12/ 300-301": "قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أنهم غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله: "يتمارى في الفوق"؛ لأن التماري في الشك، وإذا وقع الشك -يعني: في التمثيل- لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين... ورد هذا برواية "سبق الفرث والدم"، والجمع بينهما أنه شك أولًا، ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم شيء. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "صحته في الفوق بالضم، وهو موضوع الوتر من السهم والتماري في الفوق هو شك الرامي، هل فيه شيء من أثر الصيد، يعني نفذ السهم المرمي بحيث لم يتعلق به شيء ولم يظهر أثره فيه؟ فكذلك قراءتهم للقرآن لا يحصل لهم منها فائدة".(42/251)
قلت: وجاء عنده وفي الأصل و"م" و"ماء": "الفرق بالراء، وهو خطأ.
2 أي: التماري في الكفر الممثل له في الحديث بالتماري في الفوق: هل علق به أثر من الفرث والدم؟ "د".(42/252)
ص -174-…فإن قيل: فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع، كالخوارج1، والقدرية2 وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الخطابي*: "أجمع المسلمون على عد الخوارج -مع ضلالتهم- فرقة إسلامية أجازوا شهادتها وأكل ذبيحتها ومناكحتها" اهـ، لكن المؤلف نقل عنهم في هذه المسألة ما لا شك في كفرهم به، من إنكار سورة يوسف، وبعث نبي بعد محمد، وغير ذلك، فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الرجوع إلى مقالات هذه الفرق السبع من الخوارج التي ذكرت في "الاعتصام" "2/ 719 - ط ابن عفان"، وتعليقاته، فمن وصل منهم إلى إنكار مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، كمن يقول ببعث نبي أو ينكر سورة يوسف، وغير ذلك من الشناعات المنقولة عنهم، فهؤلاء كفار يقينًا**، ومن كان منهم باغيًا قاتل عليًّا وأنكر عليه التحكيم، وقاتل عمر بن عبد العزيز، وعمل من المعاصي والكبائر ما لم يصل إلى خروجه عن عقائد الدين الضرورية، فهذا لا نكفره، ونأكل ذبيحته، أما نقل الخطابي الإجماع، فلا يصح أن يحمل على الإطلاق، وإلا لم يكن هناك محل لباب الردة كله ولا إلى تشريع أحكام الكفار، ثم رأيت في "فتح الباري على البخاري" "12/ 283-302" في باب قتل الخوارج تلخيصًا حسنًا جدًّا في شأنهم، ورأيت فيه ما يوافق ما رأيناه من عدم إطلاق الكفر أو عدم الكفر عليهم، فإنهم طوائف: غلاة، وغيرهم. "د".
2 هم الذين يقولون: الخير من الله والشر من الإنسان، وأن الله لا يريد أفعال العصاة، سماهم الرسول صلوات الله عليه: "مجوس هذه الأمة"، ونهى عن عيادة مرضاهم وشهود جنازتهم"***. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النقل بتصرف من "الفتح" "12/ 300".
** وهذا ما صرح به البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333".(42/253)
*** ورد ذلك في حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود "رقم 4691"، والآجري في "الشريعة" "190"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1068"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 338"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 314"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص236"، وابن الجوزي في "الواهيات" "225"، وإسناده منقطع، لم يسمع أبو حازم من ابن عمر، وبهذا أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "7/ 58"، والعلائي -كما في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 258"-، والذهبي في "الكبائر" ص128 - بتحقيقي"، وله طرق أخرى حسنه من أجلها ابن حجر في "أجوبته على مشكاة المصابيح" "3/ 1779، 1790"، وأنكره الإمام أحمد في "مسائل أبي داود" له "ص299".(42/254)
ص -175-…فالجواب: أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه، وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذن من تلك الفرق، بل الفرق من1 لم تؤدهم بدعتهم إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أين هذا وقد وقال: "كلهم في النار"؟ والحديث يحتمل التأبيد والتوقيت، ولم يقطع المؤلف بأحدهما في "الاعتصام" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني. "د".
قلت: أخطأ الشارح في الإحالة، فالذي يصدق على كلامه هنا ما ذكره في "الاعتصام" "2/ 752-753 - ط ابن عفان، في المسألة الثانية عشر لا في المسألة الثامنة، 2/ 732 - ط ابن عفان"، وهي: "في خواص وعلامات أهل البدع".
والمتمعن في كلام المصنف يجزم بأنه لا يرى تكفير هذه الفرق على الجملة، وقد صرح بذلك في "المسألة السادسة، 2/ 714 - ط ابن عفان"، وكذا في "2/ 694"، وأيده وأكده بأنه عمل السلف قال: "وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه علم السلف الصالح فيهم"، ثم ذكر صنع علي في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذا هجر السلف لمعبد القدري، ولم يقيموا عليه حد الردة، وصنيع عمر بن عبد العزيز مع الحرورية".(42/255)
ثم قال "2/ 695 - ط ابن عفان": "ومن جهة المعنى: إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارًا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادًا، وهو كفر، وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال فيه: إنه صاحب هوى إطلاق، بل هو متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحتله، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلب واحد، وهو =(42/256)
ص -176-…الكفر، وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله، والأمر بالقتل في حديث الخوارج1 لا يدل على الكفر؛ إذ للقتل أسباب غير الكفر، كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل، وما أشبه ذلك، فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب، وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه، إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف مثلًا مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائض وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معًا، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع.
وأيضًا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم في أن المتبدع ليس له توبه".
وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في "منهاج السنة النبوية" "3/ 19-70"، وفي "الرد على البكري" "ص256-260"، و"مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199-204"، فانظر كلامه فإنه من النفائس، وقلما تعثر على مثله -بالاستطراط والتأصيل والتقعيد- في غيره.
وهذا -أعني: عدم التكفير- ما نحى إليه جماهير العلماء والباحثين، كما تراه في "الاقتصاد في الاعتقاد" "الباب الرابع: بيان من يجب تكفيره من الفرق" للغزالي، و"شرح مشكاة المصابيح" "1/ 147-148" للشيخ علي القاري، و"حديث افتراق الأمة" للصنعاني، وهو مطبوع عن دار العاصمة -الرياض، بتحقيق الشيخ سعد بن عبد الله السعدان.(42/257)
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابه المرتدين، باب قتل الخوارج، 12/ 283/ رقم 6930" عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان..."، وفيه: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة".(42/258)
ص -177-…المسألة العاشرة:
النظر في مآلات1 الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل2، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة3 فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة لها ارتباط تام بالمسألة الرابعة في الأسباب، حيث يقول: "وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات"، أي: فالشارع إنما شرع الأسباب لأجل المسببات، أي: لتحصل المصلحة المسببة أو تدرأ المفسدة المسببة، وقوله: "موافقه أو مخالفة"، أي: مأذونًا فيها أو منهيًا عنها، وهذا غير ما سبق في المسألة الثالثة في الأسباب، حيث يقول: "يلزم من تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات والقصد إليها، بل المقصود الجريان تحت الأحكام الموضوعة"، فلكل منها مقام، وهو ما يشير إليه هنا بقوله بعد: "ومر الجميع بين المطلبين"، إلا أنه زاد هنا تعارض المصلحة والمفسدة في العمل الواحد، ورتب عليه قوله: "وهو مجال للمجتهد"، وقال بعد: "وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة، وأما في المسألة على الخصوص، فكثير"، ويؤخذ منه أن هذا الخصوص هو مقصود المسألة، فاستدل على الإجمال واعتبار المآل في ذاته، ثم انتقل لفرضه من اعتبار الراجح عند التعارض بالأدلة الآتية. "د".
وقال "ماء": "مآل: مرجع".
2 هنا سقط لا يستقيم الكلام بدونه يعلم من مقابله الآتي بعده، وأصله: "فقد يكون". "د".
قلت: سبقه إلى ذلك "ف"، فكتب: "لعله: "فقد يكون مشروعًا لمصلحة...".(42/259)
3 أي: أو درء المفسدة به، ومثله يقال فيما بعده، حسبما يناسب كلًّا منهما لتكميل المقام. "د".(42/260)
ص -178-…هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية1 وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب2، جار على مقاصد الشريعة.
والدليل على صحته أمور:
أحدها3: أن التكاليف -كما تقدم- مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية، أما الأخروية، فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، وأما الدنيوية، فإن الأعمال -إذا تأملتها- مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هى مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات.
لا يقال: إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب؛ لأنا نقول: وتقدم أيضًا أنه لا بد من اعتبار المسببات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الأصل من أبين الأدلة على استجابة الشريعة لما يقتضيه تطور الحياة بالناس، بما يلابس أوجه نشاطهم الحيوي فيها من ظروف، الأمر الذي يدعم صدق قضية عموم الشريعة وخلودها، بلا مراء. انظر: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 23".
2 أي: العاقبة، وفيه "غب الصباح يحمد القوم السرى". "ف".
3 هذا يرجع إلى الدليل الثاني من أدلة المسألة الرابعة في الأسباب التي تتفق في المآل مع هذه المسألة، غايته أن الكلام هناك كان في وضع الشارع، وهنا في لزوم اعتبار المجتهد وملاحظته لذلك، وأيضًا هنا زيادة الخصوص الذي قرره بعد، وأشرنا إليه وإلى أنه هو المهم عنده الذي سيفرع عليه قواعد الفصل الآتي، ولم يتوصل للدليل هنا إلا توسيطه الأسباب والمسببات، وجعل المآلات هنا هي المسببات التي تقدمت هناك، وقوله: "هي مقصودة للشارع"، أي: بدليل ما سبق في المسألة الرابعة. "د".(42/261)
ص -179-…فى الأسباب، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ومسألتنا من الثاني لا من الأول؛ لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ، فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب، وهو مآل السبب.
والثانى: أن مآلات الأعمال إنما1 أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة، فإن اعتبرت فهو المطلوب، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود2 تلك الأعمال، وذلك غير صحيح، لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع3 مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد.
وأيضًا4، فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق.
والثالث5: الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إنما"، والمثبت من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
2 في "ط": "المقصد".
3 أي: يعتد بها ويلتفت إليها باعتبار مصلحة. "د".
4 مفرع على ما قبله، وقوله: "ألا نتطلب"، أي: لا يلزم أن نطلب من فعل شرعه الشارع مصلحة، بل قد تحصل مصحلة اتفاقًا، وقد لا تحصل، فإن هذا الذي يتفرع على قوله: "أمكن أن يكون... إلخ". "د".
5 وهذا بعينه هو الدليل الذي عول عليه في كون الشريعة وضعت لمصالح العباد في أول كتاب المقاصد، وساق هناك ضعف هذه الآيات، وقال: "المقصود هو التنبيه، ونحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة". "د".(42/262)
ص -180-…وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183].
وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الآية [البقرة: 188].
وقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 108].
وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء: 165].
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية: [الأحزاب: 37].
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216].
وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة1.
وأما في المسألة على الخصوص، فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: "أخاف2 أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقطع النظر عن كونه فيه للعمل مآلان متعارضان يحتاجان إلى كد من المجتهدين ليترجح الطلب أو النهي الذي يتطلبه أحد المآلين، وقوله: "وهذا مما فيه... إلخ"، يصح توجهه للأدلة الثلاثة السابقة، وربما فهم من كلامه أنه ليس في الآيات من الدليل الثالث دليل الخصوص، مع أن آية: {وَلا تَسُبُّوا} إلخ فيها هذا الخصوص؛ لأن سب الأوثان سبب في تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح وهو سبهم لله -ملء ما بين السماوات والأرض سبًا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة ومأذونًا فيه لولا هذا المآل. "د".(42/263)
2 فموجب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتلهم درء =(42/264)
ص -181-…أصحابه"1.
وقوله: "لولا قومك حديث عدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم"2. بمقتضى3 هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله. هذا معنى الكلام دون لفظه4.
وفى حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال: "لا تُزرِموه"5.
وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع6.
وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر -وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام- أشد ضررًا على الإسلام من بقائهم، وعليك بالنظر في باقي الأمثلة. "د".
1 مضى تخريجه "2/ 467".
2 مضى تخريجه "4/ 428".
3 أي: من مراعاة القاعدة هنا، وإن كان المآل أمرًا آخر غير ما في الحديث لا أنه بالقياس على ما فيه من الامتناع عن ردة للقواعد -مع كونه مصلحة- خشية المفسدة، ولا يخفى أن المصلحة المتروكة فيهما محققة والمفسدة المتروكة من أجلها مظنونة، مع ذلك رجحت. "د".
4 مضى لفظه في "4/ 113".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 10/ 449/ رقم/ 6025"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول...، 1/ 236/ رقم 284" عن أنس، قال إن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذكره، وقال: "ثم دعا بدلوٍ من ماء فصب عليه"، وكتب "ف" و"م" في تفسير "تزرموه" ما نصه: "بضم التاء، أي: لا تقطعوه يقال للرجل إذا قطع بوله "مخاطبًا إياه": قد أزرمت بذلك وأزرمه غيره قطعه".
6 انظر النصوص الواردة في ذلك في التعليق على "1/ 525 وما بعد".(42/265)
ص -182-…لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز، إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية، لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها.
قال ابن العربي [حين]1 أخذ في تقرير هذه المسألة: "اختلف الناس بزعمهم فيها، وهي متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها".
فصل:
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:
- منها: قاعدة الذرائع التى حكمها مالك في أكثر2 أبواب الفقه؛ لأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من نسخة "ماء".
2 مثل لها في "إعلام الموقعين" "3/ 147-171" بتسعة وتسعين مثالًا، وقال: "إن سد الذرائع ربع التكليف؛ لأنه إما أمر، أو نهي، والأول مقصود لنفسه أو وسيلة إليه، والمنهي عنه مفسدة لنفسه أو وسيلة إليه، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام ربع الدين"، وجعل صورة البيع المذكورة هنا من أمثلة الذرائع، ثم ذكرها في مسألة الحيل بعد ذلك، وقال: "إن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فالشارع يسد الطريق إليها بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم ممن يعمل الحيلة في التوصل إليه؟"، ثم قال بعد ذلك: "ومن يبطل الحيلة كبيع العينة -يعني: كصورة البيع المذكورة هنا- يبطل العقد الأول بلا تردد، وبعضهم يجعل الخلاف في العقد الثاني يصحح الأول، وعلى هذا تكون من مسائل الذريعة لا من باب الحيل" اهـ.(42/266)
ولعل ذلك؛ لأن الحيلة تكونت من مجموع العقدين، ولكن الذريعة إنما جاءت بالعقد الثاني، فأنت ترى المقام محتاجًا إلى قول فصل يتضح به الفرق بين حد الحيلة وحد الذريعة، وإن كان يظهر في الفرق أيضًا أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها =(42/267)
ص -183-…حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة1 فإن عاقد البيع2 أولًا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز، من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة، فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، بأن يشتري البائع سلعته من مشتريها [منه]3 بخمسة نقدًا، فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل؛ لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء، ولكن هذا بشرط4 أن يظهر لذلك قصد ويكثر5 في الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للتخلص من المحرم، والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم، وتعريف المؤلف للذريعة يجعلها شاملة للحيل بتعريفها الآتي له، فيكون كل ما ذكرناه فارقًا بينهما، وقد أشبع الكلام في وجوب سد الذريعة ومنع الحيل ابن القيم في هذا الكتاب رحمه الله. "د".
قلت: انظر في سد الذرائع: "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، و"القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 786"، و"أحكام القرآن" "2/ 798" كلاهما لابن العربي، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "23/ 186-187"، و"إعلام الموقعين" "2/ 142 و3/ 147-171"، و"روضة المحبين" "ص93"، و"زاد المعاد" "3/ 88"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 361-376"، و"تهذيب السنن" "5/ 102"، كلها لابن القيم، و"إحكام الفصول" "ص689-694" للباجي، و"البحر المحيط" "6/ 82-86"، و"تبصرة الحكام" "2/ 376-377"، و"تفسير القرطبي" "2/ 57 و3/ 252 و359-360 و7/ 61"، و"أصول الفقه وابن تيمية" "1/ 200 و2/ 479-507"، و"القواعد" للمقري "2/ 471-474، القاعدة الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين والثلاثون والحادية والثلاثون بعد المئتين"، و"الفروق" "2/ 32"، و"الإمام مالك" "ص405" لأبي زهرة، و"سد الذرائع" لمحمد هشام البرهاني، رسالة ماجستير.(42/268)
1 في "ط": "التوسل إلى ما هو مفسدة بفعل ما هو مصلحة".
2 لعله: "عقد البيع" "ف". قلت: كذا أثبتها "م"، وفيه قبلها: "... التوسل إلى ما هو مصلحة، فإن عقد...".
3 سقطت من "د".
4 والصورة المذكورة من بيوع الآجال التي قد يظهر فيها قصد المتبايعين لهذا الممنوع، =(42/269)
ص -184-…بمقتضى العادة.
ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي1، فإنه اعتبر المآل2 أيضًا؛ لأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد لا يظهر، ولكنه كثر قصد الناس له بمقتضى العادة، فلذلك قالوا: إن السلف الذي يؤدي إلى منفعة المسلف ممنوع، ولو لم يقصد منفعة المسلف؛ لأنه كثير القصد من الناس عادة، فلا تنافي بين شرطيته للقصد وقول المالكية: إنه ممنوع، ولو لم يقصد بالفعل، فالمظنة كافية عندهم، بخلاف ما قل قصده لضعف التهمة كضمان يجعل كأن يبيعه ثوبين بدينار لشهر ثم يشتري منه عند الأجل أو دونه أحدهما بدينار، فيجوز، ولا ينظر لكونه آل الأمر لضمان أحد الثوبين له عند الأجل في مقابلة الثوب الآخر -مع أن الضمان لا يكون إلا لله- لقلة قصد الناس لمثله. "د".
قلت: انظر: في هذا: "الموطأ" "2/ 673"، و"المغني" "4/ 133-134" لابن قدامة.
5 عبارة المالكية: "يمنع ما أدى لممنوع يكثر قصده للمتبايعين، ولو لم يقصد بالفعل"1، وبالتطبيق عليها يكون عطف قوله: "ويكثر" على قوله: "يظهر لذلك قصد" عطف تفسير، وكأنه قال تصويرًا لذلك: بأن يكثر... إلخ، فهذه الكثرة هي الضباط والمظنة، ومقابلة ما لا يكثر، فلا يمنع كما تقدم مثال الضمان بالجعل. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "لعله: أو يكثر في الناس تنزيلًا للكثرة منزلة القصد إشارة إلى أن القصد أعم من أن يكون حقيقة أو حكمًا؛ إذ مجرد القصد في المنع كثر أو لم يكثر؛ لأن البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها سلف جر نفعًا، وهو غير جائز".
قلت: وأثبتها "م": "أو يكثر".(42/270)
1 قال في "الإعلام" "3/ 200 - ط محمد عبد الحميد": "وأبو حنيفة وإن قال بالحيلة، إلا أن له مأخذًا آخر في منع العينة، وهي الصورة المذكورة هنا؛ لأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه". اهـ. يعني: فليس للبائع الأول أن يشتري شيئًا ممن لم يتملكه، فالثاني فاسد، ورجع إلى خمسة في عشر لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا. "د".
2 يعبر عنه فقهاء الشافعية أحيانًا بـ"سلامة العاقبة"، وانظر: "المنثور في القواعد" "2/ 217-218" للزركشي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه عبارة الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117".(42/271)
ص -185-…البيع إذا كان مصلحة جاز، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة، فلا مانع على هذا؛ إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير، ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد1 إلى المآل الممنوع.
ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق، واتفقوا في خصوص المسألة2 على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببًا في سب الله، عملًا بمقتضى قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها.
وأيضًا، فلا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتَّهم بسبب ظهور فعل اللغو3، وهو دال على القصد إلى الممنوع، فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظهور القصد بوجود قرينة تحتف بالحادثة تدل على قصد المآل الفاسد الذي أدى إليه مجموع العقدين، أو بكثرة وقوع هذه العقود بين الناس. "ف" ونحوه عند "م".
2 أي: مسألة سد الذرائع؛ لأن إسقاط الشافعي لحكم الذرائع لا ينافي اعتبار بعض جزئياتها الخاصة التي ورد النص فيها، وسيأتي بين أن إسقاط حكم الذرائع [عند] ما لم يظهر القصد إلى الممنوع بقرينة خارجة عن العقدين، وإلا، فيتفق مع مالك على اعتباره. "ف" و"م".(42/272)
3 لعل المراد باللغو هنا: العقد الصوري الذي يتخذ وسيلة إلى تحليل المحرم، كأن يبيعه شيئًا بمئة إلى أجل، ثم يشتريه منه بثمانين حالًا مثلًا، فيكون أقرضه ثمانين ليرد له مئة، وجعلا عقد البيع ذريعة لتحليل ذلك، أفاده مصطفى البغا في "أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي "ص575".
4 هو في الحقيقة اختلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع، وهو من تحقيق المناط في الأنواع كما سبقت أمثلته، فمالك يجعل وجود اللغو في البيعة دليلًا على قصد التوسل =(42/273)
ص -186-….........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الممنوع، والشافعي يزيد في المناط دليلًا أخص من هذا، فلو صورت المسألة بأنه باع له حيوانًا بعشرة لأجل، ثم بعد شهر خرج إلى السوق ليشتري بدل الحيوان، فوجد المبيع معروضًا في السوق وقد حالت الأسواق مثلًا أو تغير، فاشتراه بخمسة نقدًا، فهذا ظاهر فيه أنه لم يقصد الممنوع، ولكنه بيع فاسد عند مالك ولو لم يقصد، كما قال الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117"، وقال ابن رشد: "إنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله، حيث لم يقصد الممنوع، يعني: وإنما ذلك الفساد لاطراد حكم الحاكم فقط. "د".
قلت: سبق المصنف إلى القول بنحو هذا القرافي في "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، ورجحه الأستاذ أبو زهرة، فقال في كتابه "الإمام مالك" "ص216": "ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع، وإن لم يسموه بذلك الاسم".
قلت: أسهب الإمام الشافعي في كتابيه: "الأم" "3/ 34 و4/ 41"، و"إبطال الاستحسان" "7/ 267-270" في بيان موقفه من الذرائع، وأنكر القول به، وهذا مخالف لقول القرافي والمصنف، وقد حقق ذلك العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" "2/ 364"، فقال: "وأما قاعدة سد الزرائع، فقد اشتهرت عند المالكية، وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية، إلا من حيث زيادتهم فيها، قال: فإن من الذرائع ما يعتبر إجماعًا، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسبب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله عند سبها، وتلغى إجماعًا، كزراعة، العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وما يختلف فيه كبيوع الآجال.(42/274)
قال العطار: "قال المصنف -أي: ابن السبكي-: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى الذرائع من شيء، نعم، حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي رضي الله عنه في باب إحياء الموات من الأم عند النهي عن منع الماء ليمنع به الكلأ: إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله، فقال: في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحلال والحرام.
قال ابن السبكي: ونازعه الشيخ الإمام الوالد، وقال: إنما أراد الشافعي رحمه الله تعالى =(42/275)
ص -187-…- ومنها: قاعدة الحيل، فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر1 الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم2 قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس3 الحول فرارًا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب، فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء.
قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها" اهـ.
وهذا التحقيق سديد ووجيه، فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم -في أغلب صوره- على الظن والتوهم والتخمين، وشتان ما بينهما، ولذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله تعالى في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا سليمًا وصحيحًا، يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى كما أثبت الشافعي فيما أشرنا إليه، وذلك كي تستقر للناس أحوالهم، ويطمئنوا إلى تصرفاتهم، طالما أنها لا تصادم الشريعة في ظاهرها، والله أعلم.
انظر: "اثر الألدلة المختلف فيها" "578-579".
1 في "ماء": "ظاهره".
2 جعل المفسدة في الحيل خرم قواعد الشريعة، خاصة كإبطال الزكاة وهدمها بالكلية، ولا يخفى أنه ممنوع، والهبة ذريعة إليه، فتكون الحيل أخص من الذريعة على ما يؤخذ من تعريفه لهما. "د".(42/276)
3 المراد به قرب نهاية الحول، أما بعد تمام الحول، فقد وجبت الزكاة، ولا تفيد الحيلة وقبل تمامه اختلف محمد وأبو يوسف في استهلاك النصاب تحليلًا لدفع الوجوب، كأن أخرجه عن ملكه، فقال الثاني: لا يكره ذلك؛ لأنه امتناع عن الوجوب لا إبطال لحق الغير، وقال الأول: يكره؛ لأن فيه إضرارًا بالفقراء وإبطالًا، فكلام المؤلف مبني على رأي محمد، وأنه إذا قصدت الحيلة بإبطال الحكم صريحًا يكون ممنوعًا. "د".
وقال: "ف": "أي: ولو لم يتفق مع الموهوب له على رده بعد الحول أو قبله". وانظر لطيفة في هروب الفقهاء "ممن تخرج من مدرسة الكرخي والجصاص والخصاف"، وتحيله والرد عليه في "أحكام القرآن" "3/ 110" لابن العربي.(42/277)
ص -188-…الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد، صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية.
ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة، فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد، فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة، كإنفاق المال عند رأس الحول، وأداء الدين منه، وشراء العروض به، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة، وهذا الإبطال صحيح جائز؛ لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق، لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم، فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع؛ لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، وأما إبطالها ضمنًا، فلا، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقًا، ولا يقول بهذا واحد منهم.
ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال، كالمنافقين، والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرًا إلى المآل، والخلاف إنما وقع في أمر آخر1.
- ومنها: قاعدة مراعاة2 الخلاف، وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو تحقيق المناط كما سبق في سد الذرائع. "د".
2 مثاله استحقاق المرأة المهر، وكذا الميراث مثلًا عند مالك فيما إذا تزوجت بغير ولي، فمالك -مع كونه يقول بفساد النكاح بدون ولي- يراع في ذلك الخلاف عندما ينظر فيما ترتب بعد =(42/278)
ص -189-…وقعت، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها، كالغصب مثلًا إذا وقع، فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب1 أو قيمته أو مثله، وكان ذلك من غير زيادة، صح، فلو قصد فيه حمل على الغاصب، لم يلزم؛ لأن العدل هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوقوع، فيقول: إن المكلف واقع دليلًا على الجملة وإن كان مرجوحًا، إلا أن التفريغ على البطلان الراجح في نظره يؤدي إلى ضرر ومفسدة أقوى من مقتضى النهي على ذلك القول، وهذا منه مبني على مراعاة المآل في نظر الشارع، فالمراد مراعاة الخلاف الواقع بين المجتهدين، والتعويل بعد وقوع الفعل من المكلف على قول وإن كان مرجوحًا عند المجتهد، ليقر فعلًا حصل منهيًا عنه على القول الراجح عنده، وأن له بعد الوقوع حكمًا لم يكن له قبله، وذلك نظر إلى المآل، وأنه لو فرع على القول الراجح بعد الوقوع، لكان فيه مفسدة تساوي أو تزيد على مفسدة النهي، فينظر المجتهد في هذا المآل، ويفرع على القول الآخر المرجوح باجتهاد ونظر جديد، لولا المآل الطارئ بعد الوقوع بالفعل ما كان له أن يفرع عليه وهو يعتقد ضعفه، ويدل على أن هذا غرضه لاحق الكلام، أما تمثيله بالغضب والزنا، فمن باب التمهيد والتوطئة لغرضه، ولا يتعلق به مقصوده. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "أي: خلاف ما شرع له الحكم مما يعود عليه بالنقض، ومراعاته بالاحتراز عما يوجبه، كما في مثالي الغصب والزنا، فلا يحمل على الغاصب والزاني بالزيادة في استيفاء الحق والحد على القدر المشروع في حقهما لئلا يؤدي إلى مفسدة تساوي أو تزيد عن مفسدة الفعل المنهي عنه".(42/279)
قلت: انظر في المسألة: "الاعتصام" "2/ 146 وما بعدها -ط رضا و2/ 645 وما بعدها -ط ابن عفان" للمصنف، و"البحر المحيط" "4/ 478 و6/ 324" للزركشي، و"إيضاح السالك" "ص160-161" للونشريسي، وما مضى "ص106".
1 إن كان بقي على حاله لم يتغير، وقوله: "أو قيمته"، أي: إن تغير في غير المثلي، وقوله: "أو مثله"، أي: إن تغير وهو مثلي، وقوله: "من غير زيادة" مفهومة أن الحمل عليه بالزيادة لا يصح، بأن كان غزلًا فنسجه الغاصب أو سبيكة فصكها نقودًا: فليس للغاصب أخذه، بل له القيمة فقط. "د".(42/280)
ص -190-…المطلوب، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة1، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد2 عليه بسبب جنايته؛ لأنه ظلم له، وكونه جانيًا لا يجني عليه زائدًا على الحد الموازي لجنايته، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي3 [على المتعدي] أخذًا من قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
ونحو ذلك.
وإذا4 ثبت هذا، فمن واقع منهيا عنه، فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك5 وما فعل من ذلك، أو نجيز6 ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع وافق7 المكلف فيه دليلًا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا أصل للمحامين في مشروعية خصوماتهم عن موكليهم إن كانوا ظالمين، على أن تكون العقوبة الملحقة بهم أكثر من المقررة في الشرع.
2 أي: فلا يلزم بسكنى المزني بها مدة الاستبراء، ولا بنفقتها كذلك، ولا بإرضاع ولدها من الزنا ونفقته وهذا... لأن هذه زيادة عن الحد الذي رآه الشارع. "د".
3 المراد به الزيادة عن الحد المشروع في جزاء العدوان لا نفس العدوان. "د".
4 من هذا يفهم أن الكلام في الغصب والزنا تمهيد ليقاس عليه الكلام في مراعاة الخلاف، فكأنه يقول: إذا كان ما وقع ممنوعًا باتفاق لا يصح أن يكون سببًا للحيف، فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالفًا لغيره في منعه من باب أولى أن يراعي دليل صحته، وإن كان مرجوحًا عند هذا المجتهد، فلا يكون سببًا للحيف، بل ينظر للأمر الواقع وللمآل. "د".
5 أي: كما في مثال البائل الآتي. "د".
6 أي: كما يأتي في الأنكحة الفاسدة قبل الدخول، والمصححة بعد الدخول. "د".(42/281)
قلت: في "الأصل" و"ف": "يحيز"، بالياء آخر الحروف في أوله. وقال "ف": "لعله" "أو نجيز" كما يدل عليه البيان بعد"، ونحوه عند "م"، وفي "ط": "يجبر".
7 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "واقع".(42/282)
ص -191-…الجملة، وإن كان مرجوحًا، فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن [به] من القرائن المرجحة، كما وقع التنبيه عليه1 في حديث2 تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وحديث3 [ترك] قتل المنافقين، وحديث4 البائل في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك، فالذي ينجسه موضع واحد.
وفي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل"، ثم قال: "فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل منها"5. وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد6 الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على الترك أو التصحيح وإن لم يكن مما نحن فيه مما فيه مراعاة الخلاف؛ لأن المواضع الثلاثة ليست منه، وإنما هي مما وقع مخالفًا للمطلوب وترك كما في بناء البيت على غير قواعد إبراهيم، أو وقع منهيا عنه قطعًا، كمسألة البائل في المسجد، وكترك قتل الكافر المنافق المؤذي للمسلمين، وقد تركه الجميع خشية حصول ضرر أشد من إزالة هذه الثلاثة. "د".
2 و3 مضى تخريجهما "4/ 428".
4 مضى تخريجه "ص181".
5 صحيح بمجموع طرقه، كما بيناه بتفصيل فيما مضى "3/ 48".(42/283)
6 أي: كما في الأنكحة الفاسدة للصداق، كأن نقص عن ربع دينار، أو جعل الصداق خمرًا أو إنسانًا حرًا، أو وقع العقد على إسقاط رأسًا، فإنه إن عثر عليه قبل الدخول فسخ إن لم يتمه في الصورة الأولى وفي غيرها مطلقًا، وأما إن لم يعثر عليه إلا بعد الدخول، فلا فسخ بناء على الخلاف في الصداق داخل المذهب وخارجه. "د".(42/284)
ص -192-…جانب التصحيح.
وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة [مقتضى] النهي أو تزيد.
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد، وهو أن العامل بالجهل مخطئًا في عمله له نظران:
نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي، وهذا يقتضي الإبطال.
ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة؛ لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام؛ لأنه مسلم لم يعاند1 الشارع، بل اتبع شهوته غافلًا عما عليه في ذلك، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الآية [النساء: 17].
وقالوا: إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل، فجرى عليه حكم الجاهل، إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح، فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد، فإذ ذاك لا نظر في المسألة، مع2 أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لا يعاند".
2 أي: فلم يخالف القاعدة حينئذ. "د".(42/285)
ص -193-…ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان1، وهو -في مذهب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لهم في الاستحسان عبارات: منهم أنه العدول عن قياس إلى قياس أقوى، ومنها تخصيص قياس بأقوى منه، وعلى هذين لا يخالف فيه أحد، إلا انه ليس دليلًا شرعيًا زائدًا، ومنها دليل ينقدح في ذهن المجتهد يعسر عليه التعبير عنه، فإن كان بمعنى أنه مؤد إلى الشك فيه، فباطل أن يكون دليلًا، وإن كان على أنه ثابت متحقق، فليس بزائد عن الأدلة، ومنها العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام، والشرب من السقاء، مما لا يحدد فيه زمان الانتفاع ولا مقدار المأخوذ من الماء، فقيل عليه: إن كانت العادة ثابتة في زمنه عليه السلام، فقد ثبت الحكم بالسنة لا بالاستحسان، وإن كانت في عصر الصحابة من غير إنكار منهم فإجماع، وإن كانت غيره عادة، فإن كان نصا أو قياسًا مما ثبتت حجيته، فقد ثبت بذلك كالأمثلة التي ذكرها المؤلف من القرض والعرية وجمع الصلاتين، وكذا سائر الترخصات التي وردت أدلتها بالنص أو القياس، وبه تعلم ما في قوله: "هذا نمط من الأدلة... إلخ"، وقوله: "وله في الشرع أمثلة... إلخ" الذي يفيد ظاهره أن هذه المواضع مما فيه تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وليس كذلك إذ هي ثابتة بالنص، وأما إن كان شيئًا آخر لم يثبت حجيته، فهو مردود، قال الباجي1: "الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو العدول إلى أقول الدليلين، كتخصيص بيع رطب العرايا من بيع2 الرطب بالتمر"، قال: "وهذا هو الدليل، فإن سموه استحسانًا، فلا مشاحة في التسمية"3، قال ابن الأنباري: "الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على المعنى السابق، بل هو استعمال مصلحة جزئية في قياس كلي، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس، ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات فاختلفت ورثته في الإمضاء والرد، قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنا نستحسن إذا قبل البعض(42/286)
الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع من قبوله أن نمضيه"، قال ابن الحاجب: "لا يتحقق استحسان مختلف فيه"، وتبعه على ذلك من بعده. "د".
قلت: انظر عن الاستحسان: "الاعتصام" "2/ 136-146 - ط رشيد رضا"، و"الإحكام" =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "إحكام الفصول" "ص687" وقبله: "ذكر محمد بن خويز منداد من أصحابنا"، وفيه: "... القول بأقوى... مثل تخصيص..".
2 في الأصل: "منع"، والتصويب من "الإحكام" للباجي.
3 عبارته: "وإن كان يسميه استحسانًا على سبيل المواضعة".(42/287)
ص -194-…مالك- الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي، فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده، فيستثنى موضع الحرج1، وكذلك في الحاجي مع التكميلي، أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر.
وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلًا، فإنه ربا في الأصل؛ لأنه الدرهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "4/ 137" للآمدي، و"الرسالة" للشافعي "505-507"، و"المحصول" "6/ 123"، و"البحر المحيط" "6/ 87 وما بعدها"، و"شرح اللمع" "2/ 973"، و"المسودة" "451 وما بعدها"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص451"، و"الذخيرة" "1/ 155-156 - ط دار الغرب"، و"الحدود" "ص65" للباجي، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 353"، و"فتح الغفار شرح المنار" "3/ 30"، و"بدائع الفوائد" "4/ 32، 124-126" لابن القيم، و"المنخول" "ص374"، و"المستصفى" "1/ 137"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 228"، و"شروح المنار" "811"، "والتمهيد" "4/ 93"، و"المعتمد" "2/ 840"، و"التبصرة" "494"، و"أصول السرخسي" "2/ 204"، و"كشف الأسرار" "4/ 3"، و"فتح الرحموت" "2/ 32"، و"تيسير التحرير" "4/ 78"، و"تفسير القرطبي" "4/ 106، 119".(42/288)
1 هذا الاستثناء الذي فيه ترك القياس هو الأخذ بالاستحسان، وقد نص جمال الدين الحصيري في كتابه "التحرير" "1/ ق34" على قاعدة "إن ترك القياس في موضع الحاجة والضرورة جائز؛ لأن الحرج منفي، ومواضع الضرورات مستثناه عن قضيات الأصول" بواسطة "القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير" "ص205"، وانظر غير مأمور: "رد المحتار" "1/ 219" لابن عابدين، ففيه ربط هذه القاعدة بالاستحسان. وبعده في "ط" زيادة: "لرفع ذلك الحرج".(42/289)
ص -195-…بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين، ومثله بيع العرية1 بخرصها تمرًا، فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى، ولو امتنع مطلقًا، لكان وسيلة لمنع الإعراء، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه.
ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر2 وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي3 على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك؛ لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الإطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة.
هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة، وعليها بنى4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العرية عند المالكية: ثمر نخل أو غيره، ييبس ويدخر، يهبه مالكه ثم ثشتريه من الموهوب له بثمر يابس إلى الجذاذ المعروف أو دفع الضرر، وتجوز عندهم بشروط مبنية في كتب الفروع. "ف" و"م".
2 من لطيف استدلال ابن القيم على وجوب صلاة الجماعة بالجمع بين الصلاتين؛ إذ شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة،- مع أن إحدى الصلاتين وقد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب، فلو لم تكن الجماعة واجبة، لما ترك لها الوقت الواجب، انظر ذلك مبسوطًا في: "بدائع الفوائد" "3/ 159-161"، وكتاب "الصلاة وحكم تاركها" "ص133-134".
3 في "م": "الترخيصات التي هي على...".(42/290)
4 أي: فهذه المسائل فيها تخصيص الدليل على المنع بالمصلحة الجزئية، فبنى عليها مالك وأصحابه صحة ما يكون مثلها، وسموه بالاستحسان، فهذه المسائل ليست من باب الاستحسان؛ لأنها كلها منصوصة الأدلة. "د".(42/291)
ص -196-…مالك وأصحابه.
وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار1 ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثاء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته، ثم جعله أقسامًا، فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف، وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك، أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي2، وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق، كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة، وإجازة بيع وصرف في اليسير.
وقال في "أحكام القرآن": "الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يجيء فيه ما تقدم من أن التخصيص بالعرف والعادة إن كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، فالدليل السنة، وإن كانت في عهد الصحابة... إلخ. "د".
قلت: وكلام ابن العربي في كتابه "المحصول في علم الأصول".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 642 - ط ابن عفان": "يريدون غرم قيمة الداية، لا قيمة النقص الحاصل فيها، ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع، وهو متجه بحسب الغرض الخاص، وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة، لكن استحسنوا ما تقدم"، ثم قال: "وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبمًا نص عليه القاضي عبد الوهاب".
3 إن كان المراد ظاهر العبارة، فالعمل بأقوى الدليلين لا يخص هذين المذهبين، وإن كان المراد تخصيص النص العام والقياس بأي دليل كان، فيصح أن يدخله الخلاف الذي أشار إليه بعد، فمالك يخصص بالمصلحة -أي: بدليل المصالح المرسلة الذي يقول هو به، ويخالفه فيه =(42/292)
ص -197-…بأقوى الدليلين، فالعلموم إذا استمر والقياس إذا اطرد، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أكثر الأصوليين-، وأبو حنيفة يخصص العام والقياس بخبر الواحد، وكل منهما يرى صحة القياس الذي نقضت علته ونقضها هو إبداء الوصف المدعى عليته في المحل بدون وجود الحكم فيه، ويعبر عنه بتخصيص الوصف، كقول الشافعي فيمن لم يبيت النية: "الصوم تعرى أوله عنها فلا يصح"، فجعل العلة للبطلان عرو أوله عنها، فيقول الحنفي: تنتقض العلة بصوم التطوع، فوجدت فيه العلة مع عدم الحكم وهو البطلان، قال الأصوليون: إن النقض إذا كان ورادًا على سبيل الاستثناء لا يقدح في القياس، وذلك بأن كان ناقضًا لجميع العلل، مخالفًا للقياس في جميع المذاهب، كبيع الرطب في العرية، فإنه ناقض لعلة حرمة الربا، التي هي الطعم أو القوت أو الكيل أو المال، ولا زائد على هذه الأربعة، وكل منها(42/293)
موجود في بيع العرايا المذكور، ولم يحرم هذا البيع فيها، والإجماع على أن العلة لا تخرج عنها، فدلالته على العلية أقوى من دلالة النقض على عدم العلية، وأما إن لم يكن واردًا على طريق الاستثناء، ففيه أربعة أقوال: أولها يقدح في العلة، ويبطل القياس مطلقًا منصوصة أو مستنبطة، كان التخلف لمانع أو لغير مانع، وعليه أكثر أصحاب الشافعي والشافعي نفسه في أظهر قوليه، ولذلك قال بعض الحنفية: إن قياس الشافعي أقوى الأقيسة لسلامة علله من الانتقاض، وثانيها لا يقدح مطلقًا، وعليه مالك وأحمد وأبو حنيفة، وثالثها يقدح في المستنبطة دون المنصوصة، ورابعها لا يقدح إذا وجد مانع من تعميم القياس، واختار ابن الحاجب أنه لا يصح تخصيص المستنبطة إلا إذا وجد مانع، وإن كانت منصوصة، صح تخصيصها بالنص المنافي لحكمها، فيقدر المانع في صورة التخلف، ووجهه قياس تخصيص العلة على تخصيص العام جمعًا بين الدليلين، فإن احتجت للأمثلة، فعليك بكتب الأصول وبما حررناه على قاعدة الاستحسان أولًا وآخرًا يتضح المقام. "د".
قلت: اختلاف الأصوليين في كون النقض قادحًا في الوصف المدعي عليته أوسع مما ذكره الشارح، وأوصله الزركشي في "البحر المحيط" "3/ 271" إلى ثلاثة عشر قولًا، وانظر: "المعتمد" "2/ 1041"، و"المسودة" "412-415"، و"البرهان" "2/ 999-1001"، و"الإحكام" "3/ 208" للآمدي، و"نشر البنود" "2/ 210-211"، و"مسلم الثبوت" "2/ 277"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "555-573".(42/294)
ص -198-…بخلاف القياس، ويريان معًا تخصيص القياس ونقض العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصًا، وهذا الذي قال هو نظر1 في مآلات الأحكام، من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام".
وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدًا.
وفي "العتبية"2 من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد، فينكر أحدهما الولد دون الآخر، أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به، فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال، لم يلتفت إلى إنكاره، وكان كما لو اشتركا فيه، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به، فقال أصبغ: إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر، والقياس أن يكونا سواء، فلعله غلب ولا يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: "إن الوكاء قد يتفلت"3.
قال: "والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس، قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان"4.
فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ظاهر بالنسبة لاستحسان مالك في التخصيص بالمصلحة، أما استحسان أبي حنيفة الذي يخصص بقول الواحد من الصحابة، فالتخصيص ليس فيه نظر للمآل، وإنما هو بالنص الجزئي في مقابلة القياس الكلي أو في مقابلة العام. "د".
2 "4/ 154-155/ مع "الشرح".
3 انظر المسألة في: "البيان والتحصيل" "4/ 155"، و"الاعتصام" "2/ 943 - ط ابن عفان"، ومذاهب الصحابة والتابعين في "مصنف عبد الرزاق" "7/ 359-361"، و"السنن الكبرى" "10/ 263-364" للبيهقي، و"نصب الراية" "3/ 291-292".
4 انظره وتعليق المصنف في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رشيد رضا".(42/295)
ص -199-…نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها؛ إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان؛ لأن العزل لا حكم له إذ أقر بالوطء، ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد، لكن الاستحسان ما قال؛ لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرًا، فأجرى الحكم على الغالب1، وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر2 المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال، وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال: "إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة3 وإن الاستحسان عماد العلم"، والأدلة المذكورة تعضد4 ما قال.
ومن هذا الأصل أيضًا تستمد قاعدة أخرى، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج5، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: وهل مع وجود الغالب يصح أن يكون القياس التسوية، حتى يدعى أن هذا تخصيص للقياس بالمصلحة المبينة على النظر للمآل؟ أم الأحكام تبنى على العادة المستمرة أو الغالبة في مجرى عادة الله في خلقه، ولا محل لأصل التسوية هنا حتى تحتاج إلى الاستحسان؟ وبالجملة، فإنك تجد عند التأمل أن المؤلف تارة يبني كلامه على فهم أن الاستحسان تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وتارة يجعله عامًا كما يعلم بتتبع عباراته من أول كلامه في الاستحسان إلى آخره. "د".
2 في "ط": "فلم يعتبر".
3 عزاه في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رضا" لمالك، وفيه: "إن المفرق..." بالفاء، وكذا أيضًا في طبعة عفان "2/ 638".
4 عرفت ما فيه. "د".
5 الأمثلة المذكورة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو دون ذلك كشهود الجنائز، وكان قد فصل بين هذه المراتب في "1/ 181، 3/ 232-233". وانظر ما علقناه هناك.(42/296)
ص -200-…واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه1 غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية2 على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا، لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح.
وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمهما3 حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع، وما ينقل4 عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها، فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال، فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هذا اللازم غير مانع من النكاح، وقوله: "لما يؤول" تعليل لكونه غير مانع، وقوله "من المفسدة" بيان لما يؤول، وقوله: "ولو اعتبر" شرح للمفسدة التي يؤول إليها التحرز. "د".
2 أي: الزائدة على المفسدة التي تتوقع من التعرض، وذلك أنه يتوقع من نكاحه مفسدة هي التعرض للكسب الحرام، لكنا لا نمنعه من النكاح نظرًا لما يؤول إليه التحرز من تلك المفسدة، فإن التحرز منها يؤول إلى الوقوع في مفسدة أشد، وهي خشية الزنا، بل وإبطال أصل النكاح، وهو ضروري أو حاجي، فاغتفر الأول خشية الوقوع في هذا المآل الذي هو أشد ضررًا من التعرض. "د".
3 في "ط": "ها هنا فهمهما".(42/297)
4 من أنهم كانوا يتركون الجنائز وأمثالها من فروض الكفاية، وبعضهم كان يترك الجماعات خشية المناكر التي تعترض في طريق القيام بها، كما يروى عن مالك أنه ترك الجماعات وغيرها للمناكر، ولكنه عند التحقيق ظهر أن تركها لسلس أصابه خشي منه على طهارة المسجد، فصارت بهذا قضيته العينية موافقة لما تقرر. "د".(42/298)
ص -201-…المسألة الحادية عشرة:
تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة، ولم يقع هنالك تفصيل، وقد ألف ابن السيد كتابًا1 في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة، وحصرها في ثمانية أسباب:
أحدها: الاشتراك الواقع في الألفاظ، واحتمالها للتأويلات، وجعله ثلاثة أقسام:
اشتراك في موضوع اللفظ المفرد2 كالقرء وأو3 في آية الحرابة.
واشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}4 [البقرة: 282].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعنوان: "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم"، وهو مطبوع.
2 وهذا القسم نوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة: انظر: "التنبيه" "ص12".
3 وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}؛ فإنه اختلف في حرف "أو" فيها: هل هو للتخيير، أو للتفصيل على حسب جناياتهم، أو "هي" للتخيير في البعض والتفصيل في البعض "الآخر". "ف" و"م".
وكتب "د" هنا ما نصه: "قال البناني محشي "جمع الجوامع": التحقيق أنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وهذه المعاني إنما تأتي من السياق والقرائن، وعليه فلا اشتراك".
4 فإن الإدغام جعل الكلمة محتملة لأن يقع الإضرار من الكتاب بالنقص والزيادة بناء على أن الأصل "يضارر" بالكسر، وبه قرأ عمر، فنهوا عن ذلك، ويحتمل الفتح أي: لا يجوز أن يقع الإضرار عليهما بمنعهما عن أعمالهما وتعطيل مصالحهما، وبه قرأ ابن مسعود، أي: بالفك والفتح وما أجمل موقع هذا الإدغام الذي كان غاية الإيجاز بتضمنه المعنيين معًا، فلا محل لأن يكون الخلاف حقيقًا. "د".(42/299)
قلت: انظر: "التنبيه" "ص32"، و"المحتسب" "1/ 148" لابن جني، و"مختصر الشواذ" "ص15" خالويه.(42/300)
ص -202-…واشتراك من قبل التركيب، نحو: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه}1 [فاطر: 10].
{وَمَا قَتَلُوهُ2 يَقِينًا} [النساء: 157].
والثاني دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وجعله ثلاثة أقسام:
ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو حديث النزول3، {اللَّهُ نُورُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإنه لولا وقوع الضميرين في يرفعه قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقوله: {وَالْعَمَل الصَّاْلِحُ} ما جاء الاختلاف في فاعل يرفع: هل هو الكلم، أم العمل؟ وكذلك ضميره البارز المفعول، هل هو الكلم، أم العمل؟ والكلم الطيب هو التوحيد على رأي الأكثر، والأعمال الصالحة الأقوال، والأفعال غير الإيمان، فأيهما يرفع الآخر ويقويه ويزكيه أو يجعله مقبولًا؟ وانظر في تسمية مثل هذا اشتراكًا مع أنه لا بد فيه من الوضع للمعنيين أو المعاني، فهل مجرد الاحتمال في الضميرين لوجود ما يقتضيهما في التركيب يسمى اشتراكًا؟ "د".
قلت: انظر "التنبيه" "38-39".
2 مثل سابقه، فقد تقدم قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}، وتقدم لفظ: "عِيْسَىْ"، فهل الضمير في قتلوه لعيسى كما هو الظاهر، أم للعلم؟ أي: ما قتلوا العلم يقينًا، من قولهم: قتلت العلم والرأي إذا بالغت فيه وهو مجاز كما في "الأساس" "ص355"، وأيضًا فلفظ "يقِينًا" قيد وقع بعد نفي ومنفي، فهل يرجع للنفي، أي النفي متيقن به، أم للمنفي؟ أي: القتل المتيقن ليس حاصلًا عندهم، بل هو ظن فقط، فيكون مؤكدًا لقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ}، وما جاء هذا إلا من التركيب وكون القيد وقع فيه بعد أمرين صالحين لعوده إليهما. "د".
قلت: الجمهور يرون أن الضمير في "قَتَلُوهُ" عائد إلى المسيح عليه السلام، وقال الفراء وابن قتيبة: "الضمير عائد على العلم"، وانظر: "التنبيه" "ص49"، و"البحر المحيط" لأبي حيان "3/ 391"، و"الكشاف" "1/ 588".(42/301)
3 مضى لفظه وتخريجه والتعليق عليه في "2/ 445"، وأنكر ابن السيد في "التنبيه" "ص =(42/302)
ص -203-…السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}1 [النور: 35].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 66" هذه الصفة لله عز وجل، ونسب إلى مالك أنه قال في الحديث: "ينزل أمره في كل سحره"، وهذا تأويل مكذوب على الإمام مالك، والمحفوظ عنه خلافه، وانظر في تفصيل ذلك: "شرح حديث النزول" "182"، و"التمهيد" "7/ 143" لابن عبد البر، و"السير" "8/ 105"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 261"، و"الردود والتعقبات" "93-97"، وصنيع المصنف عفى الله عنا وعنه في تلخيص كلام ابن السيد، وذكره هذا المثال والذي يليه على وجه الخصوص في التمثيل على دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ينبئ على أشعريته في الصفات، وتقدم أمثلة كثيرة تدلل على ذلك أيضًا، وهذا يخالف ما كتبه أخونا الشيخ سليم الهلالي في تعليقه على "الاعتصام" "1/ 305" من أن "من تتبع عقيدة المصنف رحمه الله من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"!!
1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص74-75": "وما غلطت فيه المجسمة أيضًا قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فتوهموا أن ربهم نور -تعالى الله عن قول الجاهلين-، وإنما المعنى: الله هادي أهل السموات والأرض، والعرب تسمي كل ما جلى الشبهات، وأزال الالتباس، أوضح الحق: نورًا".(42/303)
قلت: كلام ابن السيد في تأويل هذه الآية شبيه بما قاله المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "1/ 304"، والقاضي عياض في "إكمال المعلم" "806"، والنووي في "شرح صحيح مسلم" "3/ 12-13 و6/ 54"، وهذا التأويل قائم على أن النور من فعله سبحانه وتعالى، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه قائم به أيضًا، وحمل الآية عليه من باب أولى، وفي هذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص10": "سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه: نورًا يتلألأ، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "النور: 35"، وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على وجهين:
- إضافة صفة إلى موصوفها.
- وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول كقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69"، فهذا إشراقها يوم =(42/304)
ص -204-…وما يرجع إلى أحواله، نحو: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}1 [سبأ: 33] ولم يبين وجه الخلاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت"، "أخرجه ابن جرير في "التاريخ" "2/ 345"، والطبراني في "الكبير" بإسناد رجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، ومن أجلها وللإعضال الذي فيه ضعفه شيخنا الألباني في تخريجه لـ"فقه السيرة" "ص132"، وفي "معجم الطبراني" و"السنة" له، و"كتاب عثمان بن سعيد الدارمي" وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، "أخرجه ابن منده في "الرد على الجهمية" "99".
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنها منور السماوات والأرض، فلا تتنافى بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها" انتهى.
فقول ابن السيد رحمه الله وغيره: "ولا يصح أن يكون النور صفة ذات الله تعالى، وإنما هو صفة فعل" غير صحيح، والصواب ما ذكره ابن القيم آنفًا، من صحة إضافة "النور" إلى ذات الله عز وجل، دل على هذا القرآن في قوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69".(42/305)
وقد أحسن العلامة عبد الرحمن السعدي عندما قال في "تفسيره" "5/ 419" عند تفسير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما نصه: "الله نور السماوات والأرض، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش والكرسي، والشمس والقمر والنور، وبه استنارت الجنة، وكذلك المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور".
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه أسهب في إثبات هذه الصفة لله عز وجل، وبين أنها متعلقة بذاته عز وجل، فضلًا عن أفعاله، وأورد شبه المخالفين وفندها بما لا مزيد عليه في مواطن من "مجموع الفتاوى" له، انظر منها: "5/ 73-74، 6/ 374-379، 382-396، 20/ 468-469"، وكذا تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه البديع: "الصواعق المرسلة" "2/ 191 وما بعدها-مختصره"، و"التفسير القيم" "374".
1 أي: أن ما تقدم يظهر فيه كونه سببًا للخلاف، وهذا لم يبين فيه، وليس بظاهر سببيته =(42/306)
ص -205-…وما يرجع إلى جهة التركيب، كإيراد الممتنع بصورة الممكن1، ومنه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للخلاف في مثل الآية، فسواء أكان من الإضافة للظرف أم للفاعل، فالمعنى لا يختلف إلا من جهة أنه حقيقة أو مجاز، فإن كان الأصل مكركم بناء في الليل والنهار، فحذف المضاف إليه وحل محله الظرف اتساعًا كان حقيقة، وإن كان الإسناد إلى الظرف، كان مجازًا علقيًّا، ولم يوجب الدوران اختلافًا في المعنى. "د".
قلت: انظر: "التنبيه" "ص80".
1 لعله سقط هنا لفظ: "وعكسه"، ويكون قوله: "ومنه"، أي: من العكس؛ لأنه إيراد للممكن في صورة الممتنع، أو أن قوله: "كإيراد... إلخ" مقدم من تأخير، وموضعه بعد قوله: "وعكسها" الراجع لسائر ما ذكره من أنواع ما يرجع إلى جهة التركيب، فيكون مثالًا لأول نوع من العكس، وهذا كله على حمل كلمة "قدر" على أنه من القدرة، فيكون مما استعمل فيه إن في مقام الجزم تجاهلًا للحيرة أو الخوف، أو مما نزل فيه المخاطب منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، أما إن حملت على أنها بمعنى ضيق كما في قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، أو أنه قدر المضاعف، فلا يكون مما نحن فيه. "د".
قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص91 وما بعدها"، يدل على صحة السياق المذكور وعلى عدم وجود سقط فيه، فإنه قال "ص89": "وأما ورود الممتنع بصورة الممكن...". وذكر أمثلة، ثم قال: "ومن هذا قول الرجل المحرق لبنيه: "إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اذروا رمادي في اليم، فلعلي أضل الله، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً"، قال: "ألا ترى أنه قد أخرج ما قد تحقق أنه لا يكون مجرج ما يرجي أن يكون، تقللاً بذلك، واستراحة إليه".(42/307)
ثم قال شارحًا الحديث: "فمعناه: فوالله لئن ضيق الله علي طرق الخلاص ليعذبني، وليس يشك في قدرة الله، ولو شك في قدرته لكان كافرًا، وإنما هو كقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} "الطلاق: 7"، أي: ضيق"، ثم قال: "ويجوز أن يكون من "القدر" الذي هو القضاء، فيكون معناه: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني العذاب، فحذف المفعول اختصارًا"، ثم قال: "... وقد يجوز أن يكون قوله: "فوالله لئن قدر الله علي، من القدرة على الشيء...، فمعناه على هذا: فوالله إذا قدر الله علي ليعذبني عذابًا شديدًا"، وإنما جاز وقوع إن التي للشرط موقع إذا الزمانية؛ لأن كل واحدة منهما تحتاج إلى جواب".
قلت: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 409-410": "... =(42/308)
ص -206-…"لئن قدر الله علي" الحديث1، وأشباه ذلك مما2 يورد من أنواع الكلام بصورة غيره، كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذم، والتكثير بصورة التقليل، وعكسها.
والثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث3 الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن تأول قوله: "لئن قدر الله علي" بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى، يدل على أنه سبب لها، وأنه فعل ذلك، لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة به؛ ولأن التقدير عليه والتضييق موافقات للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا لأن يقدر الرب".
والمقصود أن هذا الرجل دخل الجنة مع صدور الكفر منه، ولكنه عذر بالجهل، ومن تتبع الأحاديث الصحيحة، وجد فيها من هذا الجنس الكثير مما يوافقه، ولتفصيل هذا موطن آخر، وهو كتب العقيدة، وانظر: "من قصص الماضيين" "ص246-247".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، رقم 3481، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}، رقم 7506"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، رقم 2756"، ومالك في "الموطأ" "1/ 240" وغيرهم عن أبي هريرة.
وفي الباب عن أبي سعيد وحذيفة ومعاوية بن حيدة وأبي بكر الصديق وأبي مسعود الأنصاري وسلمان الفارسي، خرجتها في كتابي "من قصص الماضين" "ص239-243".
2 في "م": "بما".(42/309)
3 سيأتي في المسألة الثالثة عشرة "ص231"، فإن كلا منهم أخذ بحديث لم يتبين فيه أنه مستقل بإنتاج حكم المسألة، أو محتاج إلى ضم غيره إليه حتى ينتج، فكان ذلك سببًا لاختلافهم. "د".
4 فقد وردت فيها أحاديث متعارضة، كحديث جابر: "ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا، =(42/310)
ص -207-…وكمسألة1 الجبر والقدر والاكتساب.
والرابع: دورانه بين العموم والخصوص، نحو: {لا إِكْرَاهَ فِي2 الدِّين} [البقرة: 256].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وشرط ظهره إلى المدينة"، وحديث بريرة: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل"، وحديث جابر في النهي عن بعض البيوع والترخيص في العرايا، وحديث النهي عن بيع وشرط، ولتعارضها اختلف العلماء في بيع وشرط، فأبو حنيفة والشافعي ذهبا إلى فساد البيع والشرط، وابن شبرمة ذهب إلى جوازهما، وابن أبي ليلى ذهب إلى جواز البيع وفساد الشرط، وفصل مالك في الشروط، فمنهما ما يوجب بطلان البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع دون الشرط، فكل دليل من هذه الأدلة أصبح محتملًا للاستقلال بالحكم وعدمه. "ف" و"م".
قلت: مضى تخريج بعض الأحاديث المشار إليها، وانظر حديث جابر: "ابتاع مني..." في "صحيح البخاري" "رقم 2097"، وحديث بريرة في "1/ 427"، وحديث جابر في الترخيص في العرايا في "صحيح البخاري" "رقم 2192"، وحديث النهي عن بيع وشرط في "1/ 469".
1 فكل قائل لشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، وهو ظاهر في دليل الجبريين والقدريين، أما الاكتساب، فقد لاحظ صاحبه سائر الأدلة. "د".
قلت: انظر "التنبيه" "ص134"، والكسب هو مذهب الأشاعرة، ومداره عندهم على الإرادة التى تحصل عند الفعل، وهو الاقتران العادي بين القدرة الحادثة والفعل، وأن الله سبحانه أجرى عادته بخلق أفعاله عند إرادة العبد، انظر: "شرح جوهرة التوحيد" "104"، و"أصول الدين "133-134" للبغدادي، و"روضة الطالبين وعمدة السالكين" "ص31-32، 34-35" للغزالي، وانظر رده في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "30/ 139"، و"ابن حزم وموقفه من الإلهيات" "421-423".(42/311)
2 هل هو خبر حقيقي؟ أي: لا يتصور الإكراه فيه بعد دلائل التوحيد، وما يظهر إكراهًا، فليس في الحقيقة بإكراه، أم هو خبر بمعنى النهي؟ أي: لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه، وعليه فهو عام منسوخ بآية: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} "التوبة: 73"، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية، والآية على الوجه الثاني صالحة للتمثيل بها للقسم الثالث مما يدور اللفظ فيه بين الحقيقة والمجاز، ولدورانه بين العموم والخصوص، ولدعوى النسخ وعدمه. "د".
قلت: انظر: "التنبيه" "ص155-156".(42/312)
ص -208-…{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 [البقرة: 31].
والخامس: اختلاف الرواية، وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها2.
والسادس: جهات3 الاجتهاد والقياس.
والسابع: دعوى النسخ وعدمه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هل هي أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، أم اللغات، أم أسماء الله، أم أسماء الأشياء علوية وسفلية؛ لأنه الذي يقتضيه مقام الخلافة؟ فاللفظ صالح للعموم والخصوص، ولا يلزم أن يكون مجازًا عند الخصوص في هذا. "د".
قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص156-157" له وجه آخر غير الذي ذكره المصنف والمعلق، قال رحمه الله: "ومن هذا الباب قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "العلق: 5"، ذهب قوم إلى أنه خصوص، واختلفوا في حقيقة ذلك، فقال بعضهم: أراد آدم عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "البقرة: 31"، وقال بعضهم: أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله عز وجل: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} "النساء: 113"، وقال آخرون: هي عموم في جميع الناس، وهو صحيح".
قلت: ومنه تعلم ما في صنيع المصنف من اجتزائه الآية المذكورة على وجه مخل من السياق المذكورة فيه، وكذا تكلف المعلق، والله الموفق.
2 انظر: "ص140-141".
3 الاختلاف في أصل القياس وشروطه وما يجري فيه الاجتهاد وما لا يجري فيه الاجتهاد، وما لا يجري فيه شهير، وينبني عليه الاختلاف في نفس الأحكام المستنبطة. "د".
قلت: لا يخرج ما عند ابن السيد في "التنبيه" "ص213" على المذكور هنا.
4 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص217-218": "الخلاف العارض من هذا الموضع يتنوع أولًا نوعين:(42/313)
أحدهما: خلاف عارض بين من أنكر النسخ ومن أثبته، وإثباته هو الصحيح، وجميع أهل السنة مثبتون له، وإنما خالف في ذلك من لا يلتفت إلى خلافه؛ لأنه بمنزلة دفع الضرورات وإنكار العيان. والنوع الثاني: خلاف عارض بين القائلين بالنسخ، وهذا النوع الثاني ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدهما: اختلافهم في الأخبار، هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي، أم لا؟
والثاني: اختلافهم، هل يجوز أن تنسخ السنة والقرآن، أم لا.
والثالث: اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، يذهب بعضهم إلى أنها نسخت، وبعضهم إلى أنها لم تنسخ".(42/314)
ص -209-…والثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات1.
هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه، ومن أراد التفصيل فعليه به، ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص221": "هذا النوع من الخلاف يعرض من قبل أشياء وسع الله فيها -عز وجل- على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كاختلاف الناس في الأذان...".
قلت: وهذا يطلق عليه ابن قتيبة في "تأويل القرآن" "24، 33" وكذا ابن تيمية في "رفع الملام" و"مقدمة في أصول التفسير": "اختلاف تنوع"، وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص59".(42/315)
ص -210-…المسألة الثانية عشرة:
من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم التنبيه عليه.
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالًا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى1 على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه، وهكذا يتفق في شرح السنة، وكذلك في فتاوي الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه، فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح.
فإذا ثبت هذا، فلنقل الخلاف هنا2 أسباب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يمكن التعبير عنها بعبارة واحدة كما هو شأن المعنى الواحد. "د".
قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 58، 390-391 و13/ 333، 340، 381-383 و19/ 139-140"، و"توجيه النظر" "1/ 44 - ط المحققة"، وفيه تفصيل لفائدة مثل هذا الاختلاف من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة، على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام، فيزول ذلك بغيرها، وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين، فكثيرًا ما تعرض عبارتان متحدتان المعنى لاثنين، تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما، والأخرى أقرب إلى فهم الآخر، وهذا مشاهد بالعيان.
2 أي: لنقل الخلاف في الضرب الثاني الذي ليس في الحقيقة بخلاف أسباب أوقعت الناقلين في نقله خلافًا، فالعبارة جيدة لا تحتاج إلى زيادة لفظ كما قيل. "د".
قلت: وهو ما رد على ما قاله "ف": "لعله له أسباب".(42/316)
ص -211-…أحدها: أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا، فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق، وقيل: زنجبيل، وقيل: الترنجبين وقيل: شراب مزجوه بالماء، فهذا كله يشمله1 اللفظ؛ لأن الله من به عليهم، ولذلك جاء في الحديث: "الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل"2، فيكون المن جملة نعم، ذكر الناس منها آحادًا.
والثاني: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني وقيل: طير أحمر صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور، وكذلك قالوا في المن: شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة، وقيل: الترنجبين وقيل: مثل رب غليظ وقيل: عسل جامد، فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإن كان أنواعًا متغايرة في المعنى، بخلاف ما قيل في المن في السبب الثاني، فإنه اختلاف في مجرد العبارة، والمعنى واحد. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 343".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، 3/ 1620/ رقم 2049 بعد 159" عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وتتمته: "وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}... 8/ 163/ رقم 4478، وباب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا...} / 303/ رقم 4639، وكتاب الطب، باب المن شفاء العين 10/ 163/ رقم 5708" عنه مختصرًا بلفظ: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".(42/317)
3 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "13/ 341-342 و19/ 139-140".(42/318)
ص -212-…والثالث: أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب1 وتفسير المعنى، وهما معًا يرجعان إلى حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر2 راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِين} [الواقعة: 73]، أي: المسافرين، وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر، وكذلك قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} [الرعد: 31]، أي: داهية تفجؤهم3، وقيل: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانظر لم أطلق على بيان المعنى الوضعي إعرابًا؟ "د".
قال: "ف": "لعله: "تقرير الإعراب"، وكذا ما بعده".
قلت: لأنه ورد في الأصل، وفيه وفي "ماء" و"ط": "تقدير".(42/319)
2 هذا الآخر مبني على الأول، ففي المثال الأول المسافرون لازم عرفًا للنازلين بالأرض القفر ألجأتهم الضرورة إلى النزول فيها، فيكون بهذا الاعتبار مجازًا، وسيأتي في السبب الثامن، فإن كان على اعتبار معنى المسافرين تحقيق فيه الكلي، فيكون حقيقة، لكنه يكون من السبب الأول، وكذا المثال الثاني، فإن كان باعتبار أنه يلزم من وصول السرية إليهم قرعهم ورميهم بالأمر العظيم، فمجاز، وإن كان باعتبار أن السرية جزئي من القارعة تحققت فيه، فحقيقة، ويلزمهما ما، لزم سابقهما، فلم يأت بمثال يحقق أن هذا سبب ثالث مستقل عن الأسباب الأخرى، إلا أن يقال: إنه يقصد المعنى الاستعمالي الذي تقدم له في المسألة الثالثة من العموم والخصوص، وأن المعنى الاستعمالي الذي يفهم بواسطة القرائن والمقامات ومقتضيات الحال يكون حقيقة أشبه بالحقيقة الشرعية، وعليه يكون تقرير الكلام على أصل الوضع حقيقة، وتقريره بحسب المقاصد الاستعمالية حقيقة أيضًا، فيكون هذا السبب الثالث مغايرًا للأول وللثامن، راجع المسألة المشار إليه ليتضح غرضه ويستقيم كلامه. "د".
3 القارعة من القرع، وهو ضرب الشيء بالشيء، استعملت مجازًا في الداهية المهلكة، كما في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} "القارعة: " 1-2"، وفي "البيضاوي" "أي: داهية تقرعهم وتقلعهم"، فاللفظ محرف على كل حال!! "د".
قلت: وقع عنده وفي "ط" "تفجوهم" من غير همز، فقال: "محرف"، فتنبه.(42/320)
ص -213-…والرابع: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، كاختلافهم1 في أن المفهوم له عموم أولا، وذلك أنهم قالوا: لا يختلف القائلون بالمفهوم2 أنه عام فيما سوى المنطوق به، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به، وهو مما لا يختلفون فيه أيضًا، وكثير من المسائل، على هذا السبيل فلا يكون في المسألة خلاف، وينقل فيها الأقوال [على]3 على أنها خلاف.
والخامس: يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم، كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأي بعض الكاتبين هنا يكون خلافًا حقيقيا مبينًا على خلاف حقيقي، فمن يعتبر المفهوم دليلًا شرعيًا يقول: يعم، ومن قال: ليس بدليل شرعي، يقول: لا عموم ولا خصوص؛ لأن المفهوم غير معتد به، حتى يقال: إنه يعم أو لا يعم، ولكن كلام المؤلف ليس في الخلاف بين القائلين بجعل المفهوم دليلًا شرعيًا وبين غيرهم، بل الخلاف بين فريق القائلين باعتبار المفهوم دليلًا شرعيًا أنفسهم، كما قال العضد في "شرح ابن الحاجب" "2/ 120"، وعبارته هكذا: "الذين قالوا بالمفهوم اختلفوا في أن له عمومًا أم لا، فقال الأكثر: له عموم، ونفاه الغزالي، وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف" اهـ. فقول المؤلف: "والذين نفوا العموم وأرادوا... إلخ"، أي: الذين نفوه ممن قالوا بالمفهوم كالغزالي، ووجه كون ذلك لا يتحقق به خلاف مبسوط في "شرح العضد" و"حواشيه"، فليرجع إليه. "د".
قلت: انظر الهامش الآتي والتعليق عليه.(42/321)
2 أي: المتمسكون به في الاستدلال متفقون على عمومه فيما سوى المنطوق، بناء على أن العموم لا يختص بالألفاظ كما في قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة"، فلا زكاة عندهم في كل معلوفة، والنافون لعمومه يقولون بعدم اعتبار المفهوم في الاستدلال رأسًا، فالخلاف في عمومه، وعدمه لم يتوارد على محل واحد، وهو المفهوم المعتبر في الاستدلال نعم، الخلاف في كون المفهوم معتبرًا أو لا خلاف حقيقي. "ف".
قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 105-110"، و"المحصول" "2/ 401"، و"البحر المحيط" "3/ 163" للزركشي.
3 ما بين المعقوفتين سقط "من "م".(42/322)
ص -214-…فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافًا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له بالثاني، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع، والحق فيه ما ذكر أولًا1، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد، ولا يصح فيها غير ذلك، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر، كما ذكر عن ابن عباس2 في المتعة وربا الفضل، وكرجوع3 الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف.
والسادس: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا به على إنكار غيره، بل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على تفصيل تراه في: "إعلام الموقعين" "4/ 223"، و"البحر المحيط" "6/ 266" للزركشي، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص137-142 - ط الدار السلفية" للشيخ محمد الأشقر، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص215-216" لنادية العمري.
2 أنه رجع عن حلهما الذي كان مخالفًا فيه للجمهور إلى تحريمهما. "د".
قلت: انظر في رجوع ابن عباس عن ربا الفضل في: "المعرفة والتاريخ" "3/ 27"، و"مصنف عبد الرزاق" "8/ 118-119"، و"التاريخ الكبير" "1/ 2/ 487"، و"المطالب العالية" "1/ 388-389"، "شرح معاني الآثار" "4/ 64-65"، و"الكفاية" "ص28"، و"الفقيه" والمتفقه" "1/ 140-143"، كلاهما للخطيب، و"ذكر أخبار أصبهان" "1/ 230"، و"المعجم الأوسط" "رقم 1561" للطبراني، و"الاعتبار" "ص248، 250" للحازمي، و"التمهيد" "4/ 74"، و"تاريخ واسط" "ص93"، و"فتح الباري" "4/ 381-382"، و"المغني" "4/ 1-3"، و"تحفة الأحوذي" "4/ 442".
3 تقدم له في المسألة الثانية عشرة من كتاب الأدلة في فتوى زيد بن ثابت ورفاعة بن رافع وكلام عمر معهما. "د".
قلت: انظر تخريجها هناك "3/ 275".(42/323)
ص -215-…إجازته والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، وليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون1 فيها.
والسابع: أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافًا في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة، فهذا ليس بمستقر خلافً؛ إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالًا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه [دون غيره]، وليس الكلام في مثل هذا.
والثامن: أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلًا وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد2، كما يقع لأرباب التفسير كثيرًا في نحو قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} [يونس: 31]، فمنهم من يحمل الحيات والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما، ونظير هذا قول ذي الرمة:
وظاهر لها من يابس الشخت
وبائس الشخت وقد مر بيانه 3، وقول ذي الرمة4 فيه: إن "بائس" و"يابس" واحد، ومثل ذلك قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم} [القلم: 20]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يتأتى الاختلاف بينهم في المتواتر. "د".
2 أي: نحصل عليه على محمل، كما سيقول: "فلا فرق... إلخ". "د".
3 أي: في المسألة الرابعة من النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام. "ف" و"م".
قلت: انظره والتعليق عليه "2/ 133".
4 أي: حيث سائل أنشدت البيت أولًا بلفظ: "يائس"، ثم بلفظ: "بائس". "ف" و"م".(42/324)
ص -216-…فقيل: كالنهار بيضاء لا شيء فيها، وقيل: كالليل سوداء لا شيء فيها، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان.
والتاسع: أن يقع الخلاف في التأويل1 وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل2، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيرًا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه، وتقع في غيرها كثيرًا أيضًا، كتأويلاتهم3 في حديث4 خيار المجلس بناء على رأي5 مالك فيه، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تعين المراد، وإن اتفقوا على صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يساعد عليه الدليل، فالتأويل في كلامه بمعنى المآل كما في قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} "النساء: 59" "د".
2 هذا معنى التأويل عند المتأخرين بخلاف معناه عند السلف، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 35-36 و13/ 278-291"، وكتاب محمد السيد الجليند "الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل".
3 وكيف لا يكون اختلاف الفهم الموجب لاختلاف الحكم الشرعي من مواضع الاختلاف الحقيقي؟ بل الوجه التاسع كله غير ظاهر في غرضه؛ لأنهم وإن اتفقوا على لزوم التأويل، إلا أنهم اختلفوا اختلافًا حقيقيًّا في المعنى المراد، ومجرد اتفاقهم على أصل التأويل لا يجعل نقل الخلاف خطأ كما يقول. "د".(42/325)
4 وهو كم في "صحيح البخاري" "رقم 2107، 2109" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار"، فالشافعية حملوه على التفرق بالأبدان، واعتمدوا عليه في إثبات خيار المجلس، والمالكية حملوه على التفرق بالأقوال، وهو الفراغ من العقد، فإذا تعاقدا، صح البيع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطًا، وتسميتهما بالمتبايعين بمعنى المتساومين مجازًا، فلم يثبتوا خيار المجلس. "ف" و"م".
قلت: انظر تخريجه "1/ 425، 3/ 197".
5 لم يأخذ مالك بظاهر الحديث، مع أنه راو له في بعض طرقه ورفعه، وأخذ بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، ومثل مالك في ترك العمل به أبو حنيفة وأصحابهما، وقد توسع الزرقاني على "الموطأ" "3/ 420-423" في نقل أدلة الطرفين وأبحاثها فيه. "د".
قلت: وانظر ما مضى أيضًا حول هذه المسألة: "3/ 197".(42/326)
ص -217-…والعاشر: الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد1 كما اختلفوا في الخبر: هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب؟
فهذا خلاف في عبارة2، والمعنى متفق عليه3، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما.
قال القاضي عبد الوهاب4 في مسألة "الوتر أواجب هو؟": "إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة، وإن لم يريدوا ذلك5، وقالوا: لا يحرم6 تركه ولا يجرح فاعله، فوصفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 341-342".
2 يقولون في مثله: إنه خلاف في حال، وهو قسم ثالث غير الخلاف في العبارة المسمى خلافًا لفظيًا، فلعله أيضًا اصطلاح، والواقع أنه ليس خلافًا حقيقيًا على كل حال؛ لأنه لو نظر كل إلى ما نظر إليه الآخر لم يختلفا. "د".
3 إذ من جعل القسمة ثنائية أراد بالكذب ما قابل الصدق، ومن جعلها ثلاثية أراد به هو أخص من ذلك. "ف".
4 ونحوه له في "الإشراف" "1/ 106-107"، و"المعونة" "1/ 244"، و"التلقين" "1/ 79".
5 قلت: هكذا في الأصل و"د"، و"ف" و"م" و"ط": "لم يرد ذلك"، وكتب "ف": "لعله: "وإن لم يريدوا ذلك، وقالوا: لا يحرم..." إلخ، وعلى هذا، فلا فرق بين الواجب عندهم والمسنون عند غيرهم في المعنى، ويكون تقسيم المطلوب فعله أكيدًا إلى فرض وواجب كتقسيم غيرهم إله إلى فرض وسنة".
6 وعلى هذا الوجه يصح كونه مثالًا لا على الوجه الأول الذي هو المعروف عند الحنفية في الوتر؛ لأن الوتر عندهم واجب يأثم المكلف بتركه، بل هو فرض عملي يفوت الجواز -أي =(42/327)
ص -218-…بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه".
وما قاله حق، فإن العبارات لا مشاحة فيها، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم، فلا اعتبار بالخلاف فيها.
هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف، يجب أن تكون على بال من المجتهد، ليقيس عليها ما سواها، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة1 الإجماع.
فصل:
وقد يقال: إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق1 أيضًا.
وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضًا يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الإطلاع عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصحة- بفوته، فلو شرع في الفجر ثم تذكر أن عليه الوتر، فسد الفجر، ووجب قضاء الوتر أولًا كما هو شأن الفرائض من حيث وجوب الترتيب للفوائت مع الحاضرة إذا كانت الفوائت ستًّا فأقل، والواجب الصرف عندهم هو ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة، كقراءة السورة، وقنوت الوتر، وتكبيرات العيد، وهذه وأمثالها لا يفوت الجواز بفوتها، ولكن تركها عمدًا مؤثم، وسهوا مقتض لسجود السهو، فالخلاف بين المالكية وبينهم في الوتر خلاف حقيقي يصح أن تتناوله الأدلة. "د".
قلت: انظر تفويت الجواز بفوت الوتر عند الحنفية في: "المبسوط" "2/ 87"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 95"، و"المطالب المنيفة" "ص46-47 - بتحقيقي".
1 أي: بإثباته الخلاف في محل الإجماع. "د".
2 أي: في التحري عن مقصد الشارع وإن كان الحكم الذي قرره كل منهما يخالف الآخر. "د".(42/328)
ص -219-…أما هذا الثاني، فليس في الحقيقة خلافًا؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع1 عن قوله، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي.
أما الأول، فالتردد بين الطرفين تحر2 لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقًا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه فيه، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعًا إلى القسم الثاني3، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقًا، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب، إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد وقع ذلك من مالك وغيره من المجتهدين، فكل مجتهد منهم لقي مجتهدًا آخر، واطلع على أدلة لم تكن عنده رجع عن رأيه، كما في مسألة تخليل أصابع الرجلين كان مالك يقول: "إنه تعمق في الوضوء"، فلما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله رجع إلى استحبابه1، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع حتى رجع لموافقة مالك، وكما سبق قريبًا عن ابن عباس وعن الأنصار أيضًا. "د".
2 لا يخفى أن التردد بين الطرفين وصف للفعل نفسه وليس من عمل المجتهد، والذي للمجتهد هو الرد على أحدهما، بتحريه الدليل المرشد إلى أخذ الفعل حكم أحد الطرفين دون الآخر، فالعبارة -كما ترى- فيها ركة ونبو عن هذا المقصود، ولو قال: "فالرد إلى أحد الطرفين تحر... إلخ"، لكان جيدًا، وقوله: "هذين القصدين" هما في الحقيقة قصد واحد، وهو الوصول إلى قصد الشارع باتباع الدليل المرشد إلى تعرفه. "د".
3 فإن مخالفة أحدهما لقصد الشارع في الواقع -بناء على اتحاد الحكم، وأن من أصابه، ومن أخطأه أخطأ- إنما ترتبت على استبهام الدليل وخفائه عليه. "د".(42/329)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ذلك في: "مقدمة الجرح والتعديل" "ص31-32"، و"السنن الكبرى" "1/ 81" للبيهقي.(42/330)
ص -220-…قول غيره وإن كان مصيبًا أيضًا، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئًا، فالإصابة على قول المصوبة إضافية1، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار، فإذا كان كذلك، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون.
ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد2، حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقربه الصلاة، وآخر تقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدًا، ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم3؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى، لا إلى تحري مقصد الشارع، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها، بل ليتعرف منها المقصد المتحد، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة، وإلا، لم يصح، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالنسبة للمجتهد نفسه ولمن قلده من غير المجتهدين، لا للواقع، وإلا لما تعدد الصواب، وقوله: "إلى قول واحد"، أي: في هذا المقام، وهو أنه لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده مطلقًا إلا ببينة، لا لمجرد أن غيره مصيب على قول التصويب. "د".
2 ومن أحسن ما حكاه يونس الصدفي قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق، في مسألة؟". حكاه الذهبي في ترجمته في "السير".
3 في المسألة الثالثة، وهو أنه ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، ولا بد من الترجيح وتحري مقصد الشارع بأي طريق كان، كما أن المجتهد ليس له أن يأخذ بأحد دليلين بدون ترجيح "د".(42/331)
ص -221-…فصل:
وبهذا يظهر أن الخلاف -الذى هو في الحقيقة خلاف1 - ناشئ عن الهوى المضل2، لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق3، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع، ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء: "إن كل بدعة ضلالة"4؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي5، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، فلا خلاف6 حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة.
فإن قيل: هذا مشكل، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول، وفرعوا عليها الفروع، واعتبروهم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "استدراك2".
2 ذكر نحوه في "الاعتصام"، في "الباب التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين، 2/ 683 وما بعدها -ط ابن عفان"، وكذا في المسألة الثامنة من الجزء الثاني "2/ 737".
3 بعدها في "ط": "فاتباعه مخالفة للشرع بإطلاق".
4 مضى تخريجه.
5 قد لا يشعر به صاحبه، فيتوهم أنه مصيب في اجتهاده الذي بعض مقدماته مبني على الهوى. "د".
6 أي: يلزم أن نخرج من الشريعة جميع الأقوال التي دخلها الهوى باتباع المتشابه، فلا تحسب منها، ولا يقال بالنسبة لها: إن هناك خلافًا. "د".(42/332)
ص -222-…الإجماع [والاختلاف]، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها، بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها، كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها، وذلك في علمي الأصول معًا بين، وما يتفرع عنها1 مبني عليها.
والثاني: إذا سلم اعتدادهم بها، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسًا، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره، فمثله لا يقال فيه: إنه متبع للهوى مطلقًا، بل هو متبع للشرع، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة.
وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد، وهو اتباع الشريعة، وأشد مسائل الخلاف مثلًا مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معًا2، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية.
وإلى هذا3، فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه، ولهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "عنها".
2 نحوه في "الاعتصام" "2/ 695" مبرهنًا به على عدم كفر أصحاب البدع والأهواء.
2 أي: يضاف إلى أنهم طالبون للحق في تنزيه الله تعالى -وإن لم يصادفوا صميم الحق في كثير من المسائل التي خالفوا فيها- أن هناك من مسائل خلافهم ما هو مشكل في ذاته، ويصعب الخوض في الكشف عن اليقين فيه، فربما كان لهم وجه في جانب هذه المشكلات، ولذلك لم يصرح الشارع بخروجهم... إلخ. "د".(42/333)
ص -223-…لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم.
وأيضًا، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم، ومدارك الاجتهاد تختلف، لم يمكن1 والحال هذه إلا حكاية أقوالهم، والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه، وإلا أدى إلى عدم الضبط2، ولهذا تقرير3 في كتاب الاجماع، فلما اجتمعت هذه الأمور، نقل خلافهم.
وفى الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها، وجهة الاختلاف هم4 مخطئون فيها قطعًا، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف، فالاتفاق حاصل إذن على كل تقدير.
فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية، ولكن ما ذكر فيها كافٍ، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يكن".
2 أي: وعدم تميز حقهم من باطلهم، فيرد كل ما ينسب إليهم ولو كان حقًا، وذلك لا يصح. "د".
3 فقد اختلفوا: هل يشترط عدالة المجمعين، أم لا؟ والحنفية تشترط، وعليه يبتنى شرط عدم البدعة، إذا لم يكفر بها كالخوارج، والحنفية قالوا: يشترط عدم بدعته إذا دعا إليها، فإن لم يدع إليها، كان قوله في غير بدعته معتبرًا في انعقاد الإجماع. "د". قلت: انظر "ص275 والتعليق عليها".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فهم".(42/334)
ص -224-…المسألة الثالثة عشرة:
مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم، وأنه إذا حصلها، فله الاجتهاد بالإطلاق.
وبقي النظر في المقدار الذى إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة: أحدها: أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى1 ما حصل، لكنه مجمل بعد، وربما ظهر2 له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا، وربما لم يظهر بعد، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهامًا وإشكالات تعرض له في طريقه، يهديه إلى مواقع إزالتها [ويطارحه] في الجريان على مجراه، مثبتًا قدمه، ورافعًا وحشته، ومؤدبًا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم.
فهذا الطالب3 حين بقائه هنا، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه، طمعًا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتلخص له بعد، لا يصح4 منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه؛ لأنه لم يتخلص له مسند4 الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه، فاللازم له الكف والتقليد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بسره وحكمته. "د".
2 أي: مفصلًا. "د".
3 وضع ناسخ الأصل فوق كلمة الطالب: "مبتدأ"، وفوق كلمة لا يصح. "خبر".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مسند".(42/335)
ص -225-…والثاني: أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق1 معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي، بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك، بل تصير الشكوك -إذا أوردت عليه- كالبراهين2 الدالة على صحة ما في يديه، فهو يتعجب3 من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار لكنه استمر به4 الحال إلى أن زل محفوظه5 عن حفظه حكمًا، وإن كان موجودا عنده، فلا يبالي في القطع على المسائل، أنص عليها أو على خلافها أم لا.
فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة6، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا؟ هذا محل نظر والتباس، ومما يقع فيه الخلاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويكون ذلك بتمام علمه بالمراتب الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، ومكملاتها، واستقصاء انبثاثها في أبواب الشريعة، بحيث تكون ميزانًا يزن به كل ما يرد عليه من قواعد الشريعة وتفاصيلها المنصوص على أدلتها من كتاب وسنة... إلخ. "د".
2 لأن دفع الشكوك عن العقيدة بسهولة مما يزيد صاحب العقيدة ثباتًا ورسوخًا في اعتقاده، حيث إن ما يورد عليه فيها لا يجد صعوبة في دفعه. "د".
3 في "ط": "يعجب".
4 في الترقي لإدراك مقاصد الشريعة وأصولها، حتى صار تعلقه بتلك الكليات وكأن محفوظاته من النصوص الجزئية والقواعد الشرعية غابت عن حافظته، وإن كانت في الواقع لا تزال عنده، إلا أن همته منصرفة إلى التعويل على كليات المقاصد وأصول الشريعة، حتى إنه لا يبالي في استنباطه الحكم: أنص على دليله الخاص أم لا؟ بل لو نص على دليل خلافه، لكان حكمه عنده مقتضى الكليات ولو خالفت النص؛ لأنه لم يصل بعد إلى ملاحظة الخصوصيات مع الكليات، فهذه مرتبة متوسطة بين المرتبة الأولى والثالثة الآتية، ومثاله يأتي في إعمال ذي الرأي رأيه مطلقًا، حتى إذا خالفه نص جزئي رده إلى الكلي الذي اعتمده. "د".(42/336)
5 أي: من الأدلة التفصيلية ومن القواعد الشرعية التي سماها سبابقًا جزئيًا إضافيًا. "د".
6 وليكن على البال أن الفرض أنه وصل لهذه المرتبة باستقصائه بنفسه موارد الشريعة، حتى صار مجتهدًا في الأصول، فمن عرف الأصول تقليدًا لغيره مهما قتلها خبرة، فليس من أهل هذه المرتبة. "د".(42/337)
ص -226-…وللمحتج للجواز أن يقول: إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار1 بعضها عاضدًا للبعض، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب2، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة، وعمدة النحلة، ومنبع التكليف، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة3 أو مسائلها الجزئية أم لا؛ إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن واصلًا بعد إلى هذه المرتبة، وقد فرضناه واصلًا، هذا خلف.
ووجه ثان، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك4 المطلوب الكلي الشرعي، حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده، فإذا كان حاصلًا، فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل، وهو محال.
ووجه ثالث5، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه، فإن تكن في الحال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ماء": "صارت".
2 فقد عرف الضروري والحاجي والتحسيني ومكملاتها في سائر الأبواب، وصار لا يخفى عليه من ذلك شيء، فصارت مقاصد الشارع في سائر الأبواب متميزة عنده كل التميز. "د".
3 أي: الوارد فيها الأدلة التفصيلية، وقوله: "أو مسائلها الجزئية"، أي: الإضافية، وهي القواعد المتعلقة بالأبواب الفقهية. "د".
4 تقدم بيانه بتوسع في المسألة الأولى من كتاب الأدلة في قوله: "فإن قيل: الكلي لا يثبت كليًا إلا من استقراء الجزئيات كليًا أو أكثرها، فالنظر بعد ذلك إلى الجزيئات عناء... إلخ". "د".
5 هذا الوجه لا يسلم أنه قطع النظر عن الجزئي، بل يقول: إنه منظور إليه وحاكم في الواقع، وما قبله يقول: لا مقتضى للنظر إليه بعد أن تكون الكلي من جزئياته، فالنظر فيه تحصيل حاصل. "د". وسقطت "وهو" من"ط".(42/338)
ص -227-…غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي، فهي حاكمة في الحقيقة؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت1 له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته، فلما كان كذلك، ثبت أن صاحب هذه المرتبة2 متمكن جدًّا من الاستنباط والاجتهاد، وهو المطلوب.
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه:
- منها: أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها، وتعاضدت مراميها، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعًا حتى صارت الشريعة في حقه أمرًا متحدًا ومسلكًا منتظمًا، لا يزل عنه من مواردها فرد، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا3 وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضًا من اعتباره؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس، وإذا كان4 كذلك، لم يستحق من هذا حاله أن يترقي إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله.
- ومنها: أن للخصوصيات5 خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإن لم يتنبه إليها عند الاستنباط، وسيأتي للمانع أن ينازعه في اطراد هذا بالحجة الثانية والثالثة. "د".
2 في "ط": "الرتبة".
3 لعل هنا سقطًا حاصله: "لا يترك النظر إلى الجزئي"، وهو جواب إذا، أي إن صاحب هذه الرتبة متحقق بركن من أركان الاجتهاد، غير حاصل على الركن الآخر، وهو اعتبار الجزئي. "د".
4 هذه هي القضية الكبرى في الدليل، فهي بمنزلة قوله: "وكل من كان كذلك، لم يستحق درجة الاجتهاد. "د".
وكتب "ف": "إعادة للشرط قبله، وجوابه قوله: "لم نستحق... إلخ"".
5 في "ط": "للخصوصية".(42/339)
ص -228-…آخر كما في النكاح مثلًا، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات1 من كل وجه، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه، وكما في مال العبد2، وثمرة الشجرة، والقرض، والعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض، والمساقاة، بل لكل باب ما يليق به، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره، وكما في الترخصات3 في العبادات والعادات وسائر الأحكام.
وإذا4 كان كذلك -وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلًا إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات-، فتنزيل5 حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي، وأنه هو مقصود الشارع؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع.
- ومنها: أن هذه المرتبة يلزمها إذا6 لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها7 وهي أفعال المكلفين، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أنهما من مرتبة واحدة، وهي مرتبة الحاجيات. "د".
2 هو وما بعده من المستثنيات من القواعد المانعة، وتقدو له أننا لو طردنا الباب في كل الضروريات لأجل ذلك بالحاجيات أو الضروريات، أما إذا اعتبرنا في كل رتبة ما يليق بها، فإن ذلك يكون محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الرتب، فلا بد إذن من اعتبار الجزئيات. "د".
3 وتقدم له أن الترخصات الهادمة للعزائم إعمال لقاعدة الحاجيات في الضروريات؛ لأن هذه الرتب يخدم بعضها بعضًا ويقيد بعضها بعضًا. "د".
4 في "د": "وإن".
5 في "ط": "فتنزل".
6 أي: يلزمها ما ذكر، فاللازم مضمون هذه الجملة الشرطية. "ف". وفي "ط": "أن صاحب هذه... يلزمه إذا...".
7 في "ط": "محلها".(42/340)
ص -229-…الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع، فلا يصح مع هذا1 إلا اعتبار خصوصيات الأدلة، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما2 تقتضيه رتبة المجتهد، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد.
وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذًا، كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال3.
ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنصوص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له4 في جملة الشريعة اطرادًا لا يتوهم معه في الشريعة نقص5 ولا تقصير، بل على مقتضى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اعتبار خصوصيات المكلفين لا يصح معه إلا اعتبار خصوصيات الأدلة. "د".
2 وهو النظر في الجزئيات والخصوصيات وتفاصيل الأدلة. "د".
3 أي: فلا يمكن الحكم لصاحب هذه المرتبة أو عليه بأهليته للاجتهاد أو عدمها والمؤلف هنا تردد، ولكنه في المسألة الأولى من كتاب الأدلة جزم بالمنع، وقال "3/ 180": "فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها"، وضرب مثلًا بمسألة العسل الذي شربه الصفراوي مع الآية الكريمة، إلى أن قال "3/ 183": "فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ "، وبالجملة إنما تتضح هذه المسألة تمام الاتضاح بمراجعة تلك المسألة، فراجعها. "د".
قلت: انظرها في "3/ 171 وما بعد".
4 أي: حتى وصل إلى كلية أصولية هي اعتبار القياس عند أحدهما وعند الثاني اعتبار الأدلة التفصيلية لا غير. "د".
5 في ماء: "نقض"، بالضاد المعجمة.(42/341)
ص -230-…فصاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت أدلتها عمومًا وخصوصًا، دل على ذلك الاستقراء، فكل فرد جاء مخالفًا فليس بمعتبر شرعًا؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر1 مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام؛ لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان.
والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملًا، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع، لا على حسب أنظارهم2، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك وإتباع المعاني رأي، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي.
فأصحاب الرأي جردوا المعاني3، فنظروا في الشريعة بها، واطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ، فنظروا في الشريعة بها، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين4 إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما كان من مقاصد الشارع في المراتب الثلاثة. "د".
2 أي: التي من شأنها أن تختلف في الحكم على الشيء الواحد بأنه مصلحة أو مفسدة. "د".
3 أي: الأسرار والحكم والمصالح والمفاسد التي فهموها مقصدًا للشارع من استقرائهم لموارد الشريعة، أما الظاهرية، فلم يلتفتوا إلى الحكم والأسرار والتفتوا إلى مدلولات التراكيب، ووقفوا عندها ولو كانت في نظرها مخالفة لما يفهمونه مصلحة. "د".
4 في "ماء": "الفريقين".(42/342)
ص -231-…ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل1 ما خرج ثابت في "الدلائل" عن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: "وجدت في كتاب جدي: "أتيت مكة، فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنفية فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا قال: البيع باطل، والشرط باطل. وأتيت ابن أبي ليلى، فقال: البيع جائز والشرط باطل. وأتيت ابن شبرمة، فقال: البيع جائز. والشرط جائز، فقلت: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط2، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشتري بريرة واشترطي3 لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"4، فأجاز البيع وأبطل الشرط. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما، فقال: ما أدري ما قالاه5، حدثني مسعود بن حكيم، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: "اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة6 فشرطت حملاني، فأجاز البيع والشرط"7 اهـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مطلق الاعتماد على الكليات واطراح الجزئيات، وليس المراد أن هؤلاء الأئمة الثلاثة منهم من نظر إلى المعاني واطرح خصوصيات الألفاظ كأصحاب الرأي، ومنهم من نظر إلى مقتضيات الألفاظ كالظاهرية، كلا، بل جميعهم تمسك بدليل اللفظي في الأحاديث الثلاثة. "د".
2 مضى تخريجه "1/ 427".
3 في الأصل: "فاشترطت"، وكتب "ف": "أي: اقبلي منهم هذا الشرط والتزميه".
4 مضى تخريجه "1/ 427".
5 في "م" و"ط": "قالا" من غير ماء.
6 المعروف في قصة جابر: "جمل" لا ناقة. "د".(42/343)
7 مضى تخريجه "ص206"، وأورد القصة المذكورة ابن السيد في "التنبيه" "ص115-117"، ومثال آخر على وزانه تجد الإشارة إليه في هامش "بذل المجهود" "12/ 297".(42/344)
ص -232-…فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد1 في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه، ولم ير غيره من الجزئيات معارضًا، فاطرح الاعتماد عليه، والله أعلم.
و[الحال] الثالث: أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون2 أن يعرضه على الآخر، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل3 ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عمومًا وخصوصًا.
وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، وحاصله أنه متمكن فيها، حاكم لها، غير مقهور فيها، بخلاف ما قبلها، فإن صاحبها محكوم عليه فيها، ولذلك قد تستفزه معانيها4 الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها، وإن كانت محكومًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأيه يكونون مصححين للفتيا من رأس الكلية، وقائلين بأن النظر إلى الجزئي ليس بلازم، وهل يصح أن يأخذ كل منهم كليته من حديث واحد؟ إن هذا بعيد، والقريب أن يكون كل منهم استند إلى الحديث الذي رواه، ولم يعتمد على ما رواه غيره، إما لعدم روايته له، أو لعدم صحة الحديث عنده، أو لمرجع آخر من المرجحات الكثيرة عند تعارض الأحاديث في السند أو في المتن أو بخارج عنهما، وربما أيد الاحتمال الأول قول كل "لا أدري ما قالاه"، فالتمثيل بهذه القصة للمقام الذي هو بصدده غير ظاهر. "د".
قلت: قال ابن السيد قبل هذه القصة: "ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم يتصل به سواه".
2 كما سبق أن المرتب يخدم بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا. "د".(42/345)
3 أي: فلا بد في النظر في محال الخصوصيات، وأهي أفعال المكلفين، فلا يكونون عنده سواء، بل كل وما يليق به كما أشار إليه آنفًا في حجج المانع. "د".
4 أي: تخرجه تلك المعاني الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات. "ف".(42/346)
ص -233-…عليها تحت نظره وقهره، فهو صاحب التمكين والرسوخ، فهو الذى يستحق الانتصاب للاجتهاد، والتعرض للاستنباط، وكثيرًا ما يختلط أهل الرتبة، الوسطى بأهل هذه الرتبة، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه، والله أعلم.
ويسمى صاحب هذه المرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم والعالم، والفقيه، والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده [من شريعته].
ومن خاصيته1 أمران:
أحدهما: أنه يجيب السائل على ما يليق [به]2 في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص، بخلاف صاحب الرتبة الثانية، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص.
والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما، وكان في مساقه كليًا، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة من مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل، وفي مذهب مالك من ذلك كثير3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "خاصته"، وفي "ماء" بالحاء: "حاصيته".
2 سقط من "ط".
3 لما تقدم أنه يقول بالمصالح المرسلة التي يكون النظر فيها إلى جزئي في مقابلة الكلي. "د".(42/347)
ص -234-…المسألة الرابعة عشرة:
تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء والعام لجميع المكلفين، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين، ويبين جهة المأخذ في الطريقين.
وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه1 قضايا مكارم الأخلاق، من التلبس بكل2 ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها3، فكان أكثر ذلك موكولًا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات، ومصروفًا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين، ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت، على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب، ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يخفى موقع كلمة "تحكمه" التي تفيد أنه ليس المراد من المكارم ما يختلف فيها العرف والأزمان، فتكون مكرمة في زمن ثم تنسخ، فيكون ضدها مكرمة في زمن آخر، ويلوح إلى ذلك قوله بعد: "أو من كان عادة في الجاهلية... إلخ". "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من كل"، وكتب "ف": "لعله: بكل، يقال: تلبس بالأمر، خالطه".
3 أي: من تفاصيل التعبدات. "د".(42/348)
ص -235-…وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش، على مراتبها في القبح، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن.
فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم1، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد وفاته وفى زمان التابعين. إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات2 تقتضي أحكامًا خاصة، أو بدرت3 من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات، وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات؛ إذ كان أكثرها جزئيات4 لا تستقل بإدراكها العقول السليمة، فضلًا عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك5 النفوذ من عربي أو غيره، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري6 على استحسانها فريقه ومال إليها طبعه وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى7 ما أمر الله به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مقدورهم. "ف".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ضرورات".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بدت".
4 أي: إضافية. "د".
5 في الأصل: "تلك".
6 بفتح فكسر: اعتاد، والفريق طائفة من الناس، أي: اعتاد قومه اسحسانها. "ف".
7 أي: فالجهاد تشريع مدني جديد، وليس تفصيلًا وتكميلًا لما سبق في مكة؛ لأنه لم يكن سببه قد تم في مكة وهو ظاهر وإن كان قد يتنافى مع ما سبق له في المسألة الثامنة1 من كتاب =
1 في الأصل: "الثانية"، وهو خطأ.(42/349)
ص -236-….................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأدلة حيث قال هناك "3/ 240": "والجهاد شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة، كقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر} "لقمان: 17"، وهو توجيه منه لتلك المسألة التي تقول "3/ 236": "كلما وجدت في المدنيات كلياً، فإنه جزئي بالنسبة إلى ما هو أتم منه أو تكميل لأصل كلي"، وقد يقال: لامنافاة؛ لأن ما قبل الجهاد في كلامه من أنواع المشروعات المكية كان مذكوراً بنفسه ومقرراً نوعه، إلا أنه قيد مثلاً، وبين وفصل بالمدينة أما الجهاد، فهو وإن كان مندرجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه اندراج أشبه بالاندراج الذهني المحض، الذي لم يتحقق في الخارج على أي وجه كان في مكة، بخلاف الأنواع السابقة، فإنها بنفسها شرعت مطلقة، فاحتاجت إلى التقليد والبيان... إلخ، فلذلك عد تشريع الجهاد في المدينة تشريعا جديدا، بخلافها، ولكن يبقى قوله: "وإلى الأمر بالمعروف... إلخ"، وعطفه على قوله: "إلى أمر الله" الذي يقتضي أنه شرع بالمدينة، وقد عرفت فيما نقلناه عنه آنفاً أنه مقرر في مكة كما ورد في سورة لقمان، إلا أن يقال: "إنه ليس عطفا مغايرا حتي يلزم منه أن يكون مطلق الأمر بالمعروف نوعا آخر تشريعه بالمدينة جديد، بل غرضه عطف التفسير وبيان منزلة الجهاد، وأنه أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه قال: "الذي هو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليجتمع كلامه هنا وهناك.(42/350)
ولنوسع الكلام بمقدار ما يتضح المقام: جاء في سورة العنكبوت: {مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6]، قال بعض المفسرين: جاهد جهاد النفس، وقال بعضهم: بل الأعم من جهاد الغزو، وجاء في آخر السورة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، قالوا: أطلق الجهاد ليعم الأمرين، ولم يشذ عن هذا إلا من قال: الجهاد في الآية الثبات على الإيمان، ومن قال: خاص بجهاد الغزو والسورة كلها مكية لم يشذ عن القول بمكيتها؛ إلا من قال: ما عدا الآيات العشر الأول، ومن قال: بل كلها مدنية، وينبني على هذا أن السورة إذا كانت كلها مكية أو إلا العشر الآيات التي منها {وَمَنْ جَاهَد}، وكان إطلاق الجهاد في آخرها ليعم الامرين؛ يكون تشريع الجهاد مكياً بالنص عليه بخصوصه لا بمجرد دخوله في آية الأمر بالمعروف غايته أنه مجمل من جهة الوقت، ولا يتمشى كلامه هنا وفيما سبق إلا على أحد وجهين: إما أن تكون السورة كلها مدنية، أو يكون معنى الجهاد لا يشمل الغزو، ولا يخفى ما في الوجهين من الضعف ومخالفة الجمهور. =(42/351)
ص -237-…من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم وطلبوا1 بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان: تارة القرآن، وتارة بالنسبة؛ فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المحتملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا وأصلا مستنا2، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماماً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/352)
= نعم، قال المفسرون: إن أول آية نزلت في الأمر بالجهاد آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وسورة الحج قيل: مدينة، وقيل: مكية، والأصح أنها مركبة من مدني ومكي، ولم يحققوا تمييز المكي من المدني فيها*، وقال بعضهم: أول آية نزلت في الأمر به: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] في سورة البقرة المدنية قطعاً؛ فكيف يجمع بين ما قالوه في الآيتين مع ما قولوه في آيات العنكبوت؟ فما قالوه في آيات البقرة يؤيد ما بنى عليه المؤلف كلامه هنا وفيما سبق، ويخالف ما قالوه في العنكبوت؛ فنقول: إن الجهاد قرر في مكة فضله؛ وأثنى عليه الثناء الذي يستلزم مشروعيته، ولوح ألى أنه سيكون نافذاً إذا جاء وقته، وكمل الاستعداد له، فلما جاء وقته رخص فيه بأية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقد كانموا يجيئونه صلى الله عليه وسلم بمكة هذا مشجوج الرأس، وهذا مجروح، وهذا مهان؛ فيقول لهم: "لم يؤذن لي**، بل جاء النهي عنه في جملة آيات، ثم جاءت آيات البقرة بالطلب الأكيد بالقتال وتفاصيل أحواله، فلما كان الإذن والطلب الأكيد بالقيام به إنما جاء بالمدينة؛ قال المفسرون: إنه تشريع مدني، إلا انه كان الأولى للمؤلف هنا وفيما سبق أن يجعله من الكليات المشروعة في مكة بنفسه لا بمجرد دخوله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كنت عرفت وجه صنيعه. "د".
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وطلبوا".
2 في "ط": "مستثنياً".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تحقيق ذلك وتفصيله عند الداني في: "البيان في عد آي القرآن" "ص189".(42/353)
** قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 388": "غريب جداً، وعزاه الواحدي في "الوسيط" "3/ 273"، للمفسرين، وقال ابن حجر في الكافر الشاف" "ص113": "لم أجده هكذا"، ثم قال: "وهو منتزع من أحاديث...". وبينها وهي مقطوعات، وانظر: "البداية والنهاية" "3/ 64".(42/354)
ص -238-…لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة، فضلًا من الله ونعمة. فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه1 عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات.
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين.
وأما الأحكام المدنية، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات، والرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات -في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة2 بمكة-، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها، وذلك3 يؤتى بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا، فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "وجوهه".
2 كما في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}... إلخ "الأنعام: 160"، وكما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ}... إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}... إلخ "هود: 106"، وكما في آيات: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} "الإسراء: 23"، والتذيلات التي جاءت عقبها، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}... إلخ "النازعات: 37"، ومثله كثير في تقرير الجزاءات الكلية. "د".(42/355)
3 كذا في "ط" -وفيه أيضًا: "... السور المدنية"- وفي غيره: "وذلك"، وكتب "د": "لعله: "ولذلك".(42/356)
ص -239-…التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن [مقاربته ويمنعونهم عن] مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق1 الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم2 تارة بالشدة3، وتارة باللين4 فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا.
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه؛ فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل؛ فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان اعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر.
وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الكفارات وغيرها. "د".
2 الحجز؛ بضم، ففتح: جمع حجزة؛ بضم، فسكون، وهي موضع شد الإزارة، والمراد هنا التمسك والتعلق. "ف".
"3 و4" يحتاج إلى بيان؛ فإن ذلك إنما يظهر في مواطن الوعظ بالترغيب والترهيب، لا في الاجتهاد؛ إلا أن يقال: إن ذلك يظهر في الاجتهاد بمعنى تحقيق المناط الخاص لما سبق أنه يختلف باختلاف الأشخاص وما يناسبهم. "د".(42/357)
ص -240-…بمقتضى تلك الأصول، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات؛ فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك؛ فعاملوا ربهم في الجميع، ولا يقدر على هذا1 إلا الموفق الفذ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير.
ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها؛ حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء"2.
فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "ذلك".
2 مضى تخريجه "1/ 151"، وهو صحيح، وفي "ف": "بدا" من غير همز، وكتب "روي مهمزًا وغير مهموز*، أي أنه كان في أول مره كالغريب الوحيد لقلة المسلمين، وسيعود غريبًا كان، أي: يقل المسلمون في آخر الزمان لفساد الناس، وظهور الفتن؛ فطوبى للغرباء أولًا وآخرًا؛ لصبرهم على أذى الكفار، ولزومهم دين الإسلام، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغرباء؛ فقال: "الذين يحيون ما أمات الناس من سنتى"**، وطوبى لهم؛ أي: قرة عين وخير لهم"، وفي "ط": "بدأ الإسلام".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر في هذا: "شرح النووي" على صحيح مسلم" "2/ 176"، و"التدوين في تاريخ قزوين" "1/ 139".(42/358)
** ورد هذا التفسير في حديث عمرو بن عوف، أخرجه البزار "رقم 3287 - زوائده"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1052، 1053"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 207"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 120"، وعياض في "الإلماع" "ص18-19" بإسناد واه، وقد صح تفسير الغرباء بـ"النزاع" من القبائل، كما مضى تخريجه"1/ 151".(42/359)
ص -241-…فصل:
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم وإحتياطهم؛ فسبقوا غاية السبق حتى سموا "السابقين" بإطلاق، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم؛ فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم، وجعلهم في الدين أئمة؛ فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه، بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معًا.
لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105].
فعلى1 تقرير2 هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا كالتلخيص لما سبق يبنى عليه مقصده في تفريع طريقة الصوفية عليه بقوله: "فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ الأصل الأول... إلخ". "د".
2 في الأصل و"ف": "تقدير".(42/360)
ص -242-…الصوفية الأول1، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة؛ فإن الذى يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعًا؛ فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة.
وحاش لله! ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي [المحكم] الذى لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه؛ تبين لك أن تلك الطريق2 سلك هؤلاء، وباتباعها عنوا3 على وجه لا يضاد المدني المفسر.
فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم، فقال: "أما على مذهبنا؛ فالكل لله، وأما على مذهبكم؛ فخمسة دراهم"، وما أشبه ذلك؛ علمت أن هذا يستمد مما تقدم؛ فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله، ولم يبين فيه الواجب من غيره، بل وكل إلى اجتهاد المنفق، ولا شك أن منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذا4 المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات، إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق؛ فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به، والتزمه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "الأول" تقييد لما عليه من ذمه منهم من المتأخرين؛ كما مضى "1/ 358"، والفرق بين الطائفتين العلم الشرعي المصفى؛ فالأوائل ممن لهم انقطاع إلى الله لم يفعلوا ذلك إلا بعد تحري الحق والصواب بالأدلة والبراهين.
2 لعله: "إن في تلك الطريق". "ف".
3 في ماء": "عللوا".
4 في "د": "في مثل هذه".(42/361)
ص -243-…مذهبًا في تعبده، وفاء بحق الخدمة، وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض، وأنه قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات: 57].
وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
ونحو ذلك؛ فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به، ومثله لا يقال في ملتزمه: إنه خارج عن الطريقة، ولا متكلَّف في التعبد، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات؛ فصارت هي الواجبة انحتامًا، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها، وبقي ما سواها على حكم الخيرة؛ فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازًا، والإنفاق ندبًا؛ فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر؛ والجميع محمودون؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله.
ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع، بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبقِ شيئا، علما بـ"أن في المال حقا سوى الزكاة"1، وهو يتعين تحقيقًا، وإنما فيه الاجتهاد؛ فلا يزال ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد هذا اللفظ في حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقًا سوى الزكاة" 3/ 48/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385" عن فاطمة بنت قيس بإسناد ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهو أصح"، انظر ما مضى "3/ 64".(42/362)
ص -244-…متحملا1 منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه، أو كالوكيل فيه لخلق الله، سواء عليه أعد نفسه منهم2 أم لا.
وهذا كان غالب أحوال الصحابة، ولم يكن إمساكهم مضادًا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجرى على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد.
وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر؛ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم3 معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ؛ فيجوز لهم ذلك، بخلاف القسمين الأولين، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها.
فإن قيل: فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء؟
فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه؛ فسقط له طلب الحظ لنفسه، فساغ أن يفتي على حسب حاله؛ لأنه يقول: هذه حالتي، فاحملني على مقتضاها، فلا بد أن يحمله على ما تقضيه4، كما لو قال أحد للمفتي: إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئًا، وأن لا تمس يدي يد مشرك، وما أشبه هذا؛ فإنه عقد [عقدًا]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "محتملًا".
2 في "د": "أمد نفسه منه".
3 في "د": "أهل هذا البلد".
4 في "د": "يحمله... تقضيه".(42/363)
ص -245-…لله على فعل فضل، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91].
ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله؛ فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع، وفي الحديث: "إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا"1؛ فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه2.
وقال عثمان: ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وقصة حَمِيِّ الدبر4 ظاهرة في هذا المعنى؛ إذ عاهد الله أن لا يمس مشركًا، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك، الحديث كما وقع5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 501".
2 مضى تخريجه "2/ 500".
3 أخرج الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، وابن قتيبة في "غريب الحديث" "2/ 72"، والطبراني في "الكبير" "1/ 85/ رقم 124"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص23، 24" من طرق عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي ثور الفهمي، عن عثمان؛ قال: "لقد اختبأت عند ربي عشرًا...."، وذكر منها: "ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها حبي صلى الله عليه وسلم"، وذكره ابن جرير" في "التاريخ" "4/ 390"، والذهبي في "تاريخ الإسلام" "ص469 – عهد الخلفاء الراشدين"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 210"، وغيرهم.
وأخرجه من طريق آخر بنحوه أبو يعلى في "مسنده" "7/ 45"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 339"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "142-143 – ترجمة عمر بن الخطاب".(42/364)
4 بفتح الحاء، وكسر الميم، وياء مشدده؛ أي: محميه، والدبر؛ بفتح الدال، وكسرها وسكون الباء: النحل والزنابير، وحمي الدبر هو عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أصيب يوم أحد؛ فمنعت النحل الكفار منه، وقصته أن المشركين لما قتلوه أرادا أن يمثلوا به؛ فسلط الله عز وجل عليهم الزنابير الكبار تأبر الدارع، فارتدعوا عنه؛ حتى أخذه المسلمون، فدفنوه، وتأبر؛ بكسر الباء: تدفع بإبرتها. "ف".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 7/ 308-309/ رقم =(42/365)
ص -246-…غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية؛ لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال، وأما الفقهاء؛ فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبًا لحظه من حيث أثبته له الشارع، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم؛ لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه، ولا يقال: إن هذا خلاف ما صرح به الشارع؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع، لكن جعل إحدى الحالتين وهى المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ولم يلزمها أحدا؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة؛ فإنها لازمة، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه.
فإن قيل: فإذا كانت غير لازمة؛ فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم؟
قيل: لم يفت بها [على]1 مقتضى اللزوم الذى لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك، وإنما يفتي لها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله، وأصل الإلزام معمول به شرعًا؛ أصله النظر والوفاء بالوعد2 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 3989، وباب غزوة الرجيع 7/ 378-379/ رقم 4086" عن أبي هريرة؛ قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا..." وفيه أنه قتل و"بعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله عليه مثل الضُّلَّة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء".
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأسر 3/ 51/ رقم 2260" مختصرًا، وأحمد في "المسند" "2/ 294، 310-311"، وفي رواية ابن إسحاق: "كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا".
انظر: "فتح الباري" "7/ 384"، وعزاه في "الإصابة" "2/ 245" لـ"الصحيحين" بلفظ ابن إسحاق، وفي هذا نظر، وهو ليس في مسلم، وقول "ف": "يوم أحد" ليس بصحيح.(42/366)
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أصله النظر والوفاء بالعهد".(42/367)
ص -247-…التبرعات، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم1؛ كالمتعة في الطلاق، وحديث: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره"2.
وكان عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها؛ كحديث الأشعريين إذا أرملوا3.
وقوله: "من كان له فضل ظهر؛ فليعد به4 على من لا ظهر له" الحديث بطوله5. وقوله: "من ذا الذى تألى6 على الله لا يفعل الخير؟"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألف محمد بن محمد الحطاب المالكي "ت954هـ" كتابًا بعنوان: "تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، وهو مطبوع، وفيه كلام تفصيلي على الفروع المذكورة عند المصنف.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المظالم، باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره، 5/ 110/ رقم 2643"، وكتاب الأشربة، باب الشرب من فم السقاء 9/ 60/ رقم 5627"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار 3/ 1230/ رقم 1609" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 مضى لفظه وتخريجه "2/ 324"، و"أرملوا" أي: تقدمت أزوادهم، يقال: أرمل الرجل والقوم إذا ذهب زادهم. "ف" و"م".
4 "فليعد" –بالدال "المهملة": من عاد يعود، إذا رجع. "ف" و"م".
5 مضى تخريجه "3/ 63".
6 أي: حلف، يقال: تألَّى، يتألَّى، تألِّيًا، وائتلى يأتلي ائتلاء: "إذا" حَلِف. "ف" و"م".
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1191-1192/ رقم 1557" عن عائشة؛ قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: "والله لا أفعل". فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟" وأبهم مسلم شيخه فيه، انظر له: "غرر الفوائد المجموعة" "ص678-680 - بتحقيقي" لرشد الدين العطار.(42/368)
ص -248-…وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه1.
وقد أنزل الله2 في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الآية [النور: 22]، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال: "والله؛ ليمرَّنَّ به ولو على بطنك"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد 1/ 551-552/ رقم 457، وكتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض 5/ 73/ رقم 2418، وكتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2706، وباب الصلح بالدين والعين 5/ 300/ رقم 2710"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1192/ رقم 1558" عن كعب بن مالك؛ أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد دينا كان له عليه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف –أي: ستر- حجرته، ونادى كعب بن مالك؛ فقال: "يا كعب!". فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم فاقضِهِ".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، 4/ 2129-2137/ رقم 2770" عن عائشة -ضمن حديث الإفك الطويل- وفيه: ".... قال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ}".(42/369)
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "746 – رواية يحيى، ورقم 2897 - رواية أبي مصعب، و358 – رواية محمد بن الحسن" -ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 135"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 157" و"معرفة السنن والآثار" "9/ رقم 12264"- ويحيى بن آدم في "الخراج" "رقم 353" من طريق عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، وشط فيه يحيى؛ فقال: "أظنه عن أبيه، ولعله رواه من حفظه"، وإسناد رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، كما قال البيهقي.
وله طريق أخرى أشار إليها البيهقي وابن عبد البر في "الاستذكار" "22/ 229/ رقم 32544"، ثم ظفرت بها في "الخراج" ليحيى بن آدم "رقم 348، 349، 350"، وهو مرسل أيضًا، أفاده البيهقي.(42/370)
ص -249-…إلى كثير من هذا الباب.
وأخص1 من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه؛ فإنه يفتى بما تقتضيه مرتبته، كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان؛ فسألها: "من أنت؟ فقالت: أخت بشر الحافي. فأجابها بترك الغزل بضوئها"2.
هذا معنى الحكاية دون لفظها.
وقد حكى مطرف3 عن مالك في هذا المعنى؛ أنه قال: "كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يُفتي به الناس"4، يعني: العوام، ويقول: "لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما5 لو تركه لم يكن عليه فيه6 إثم". هذا كلامه.
وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وأرخص".
2 ذكره القشيري في "الرسالة" "ص54".
3 نقله عن القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 180 - ط بيروت"، وأسنده الخطيب البغدادي إلي في "الفقيه والمتفقه" "2/ 161".
4 في "تريب المدارك": "ما لا يلتزمه الناس".
5 أي: بفعل ما لو تركه لم يكن آثمًا، ولكن إنصاف من النفس، وإسقاط للحظ. "د".
6 سقطت "فيه" من "م"، وفي "ترتيب المدارك" "..... لو تركه لا يكون عليه فيه إثم".(42/371)
ص -253-…المسألة الأولى:
المفتي قائم1 في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النقل الشرعي في الحديث: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم"2.
وفي "الصحيح": "بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت؛ حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم"3. وهو في معنى الميراث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القيام مقامه صلى الله عليه وسلم بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها إبلاغها الناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها كذلك، ومنها بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة، فكل مرتبة من هذه المراتب أعلى مما قبلها، فالمرتبة الأولى استدل عليها بحديثين وبمجموع الآيتين؛ فصدر الآية الثانية يفيد وراثة العلم، وعجز الثانية مع الأولى يفيدان الوراثة بوجه عام، والوراثة في النذارة بوجه خاص ولو أخرهما إلى الرتبة الثانية؛ ليستدل بهما عليها كان أجود، والرتبة الثانية استدل عليها بالأحاديث الثلاثة، والثالثة أدلتها هي عين أدلة الاجتهاد، ومطالبة من بلغ ربتبته بالقيام به مضافة إلى دليل أنه صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، وهذه الرتبة للمفتي أهم الرتب الثلاثة في القيام مقامه والخلافة عنه صلى الله عليه وسلم كما سيقول المؤلف، وبهذا التقرير يتضح كلامه؛ فليست الأمور الثلاثة دليلًا على نوع واحد، بل المستدل عليه أنواع ثلاثة كلها داخلة تحت الخلافة عنه، وأدلتها أيضًا مختلفة بحسبها. "د".(42/372)
قلت: أسهب ابن القيم في بيان أن المفتي في الأمة قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في "إعلام الموقعين"، ونقل القاسمي في "الفتوى في الإسلام" ص49-54" كلام المصنف هذا، وانظر: "المعتمد" "1/ 338"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 94"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص119"، وكلاهما للشيخ محمد الأشقر.
2 مضى تخريجه "4/ 76".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب اللبن 12/ 393/ رقم 7006، وباب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره 12/ 394/ رقم 7007، وباب إذا أعطى فضله غيره في النوم 12/ 417/ رقم 7027، وباب القدح في النوم 12/ 420/ رقم 7032، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه" "4/ 1859-1860/ رقم 2391" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.(42/373)
ص -254-…وبُعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا؛ لقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12].
وقال في العلماء: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} الآية [التوبة: 122]، وأشباه ذلك.
والثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام؛ لقوله: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"1.
وقال: "بلغوا عني ولو آية"2.
وقال: "تسمعون ويُسمَع منكم، ويُسمَع ممن يَسمَع منكم"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في صحيحه "كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب" "1/ 199/ رقم 105"، "وكتاب المغازي، باب حجة الوداع 8/ 108/ رقم 4406"، "وكتاب الأضاحي، باب من قال: الأضحى يوم النحر 10/ 7-8/ رقم 5550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3/ 1305-1306/ رقم 1679" عن أبي بكرة رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 496/ رقم 3461" وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/ 321-322/ رقم 3659" ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 539"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 292/ رقم 203" ومن طريقه ابن خير في "الفهرست" "10، 12-13" وأحمد في "المسند" "1/ 321"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 263/ رقم 62 - الإحسان، ورقم 77 - =(42/374)
ص -255-…وإذا كان كذلك؛ فهو معنى كونه قائما مقام النبي.
والثالث: أن المفتي شارع من وجه؛ لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول؛ فالأول يكون فيه مبلغًا، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاءُ الأحكام إنما هو للشارع1، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده؛ فهو من هذا الوجه شارع، واجب اتباعه2 والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= موراد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "92"، والرازي في "مشيخته" "رقم 5"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "70"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 250"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012-1013/ رقم 1932" عن ابن عباس، وإسناده حسن.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ليس له علة".
"قلت: فيه أبو جعفر الرازي عبد الله بن عبد الله، لم يخرج له الشيخان، قال النسائي: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان؛ فقال عقب حديثه: "ثقة كوفي"، ولم يضعفه أحد، قاله العلائي في "جامع التحصيل" "ص50-51"، وزاد: "والحديث حسن، وقد صححه الحاكم في "المستدرك"، وفي كلام إسحاق بن راهويه ما يقتضي تصحيحه أيضًا".
وللحديث شاهد عن ثابت بن قيس أخرجه البزار في "مسنده" "146 - زوائده"، والطبراني في "الكبير" "2/ 71/ رقم 1321"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "ص91"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص37-38"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012/ رقم 1931".
ورجاله ثقات؛ إلا أن انقطاعًا فيه؛ عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من ثابت، أفاده الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 137".
1 أي: بالوحي أو الاجتهاد على القول به له صلى الله عليه وسلم. "د".(42/375)
2 في هذا نظر؛ فالمفتي ليس شارعًا، وليس واجب الاتباع؛ لأنه مفتٍ، وإلا للزم الناس فتاوى المجتهدين جميعًا على اختلافها وتناقضها، ويتأيد ذلك بما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 654" بعد "257" وغيره عن ابن مسعود قوله: "إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى"، وقال تعالى: =(42/376)
ص -256-…التحقيق1، بل القسم الذى هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام، وكلا الأمرين راجع إليه فيها؛ فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى، وقد2 جاء في الحديث: "أن من قرأ القرآن؛ فقد أدرجت النبوة بين جنبيه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}، وترى في لفظ "المشروع" بحثًا مطولًا في كتاب "التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية" "ص32-36"، ولكل من الشيخ عبد العال عطوة والشيخ عبدا لستار فتح الله سعيد في كتابه "المنهاج القرآني في التشريع" "ص300-302" اعتراضات على مؤلف الكتاب في تجويزه هذا الإطلاق.
وانظر: الفروق" "4/ 53-54"، و"نظرات في اللغة" "ص106" للغلاييني، و"معجم المناهي اللفظية" "ص303-305 - ط الأولى" للشيخ بكر أبو يزيد، والتعليق على "الفتوى في الإسلام" "ص53" للقاسمي، و"تغيُّر الفتوى" "ص57-58" لبازمول.
1 أفاد الشيخ القاسمي في كتابه "الفتوى في الإسلام" "ص53 - الهامش" أن المصنف يشير إلى حديث: "اللهم ارحم خلفائي".
قلت: الحديث ضعيف باطل، ومضى تخريج نحوه بإسهاب.
2 يصلح أن يكون دليلًا للرتب الثلاثة. "د".
3 أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" "ص159"، وأبو عبيد "ص53"، وابن الضريس "65"، وأبو الفضل الرازي "51"، كلهم في "فضائل القرآن"، والشجري في "الأمالي" "1/ 92"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 531"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 396" من طريق إسماعيل بن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
وإسناده ضعيف جدًّا؛ إسماعيل بن رافع متروك.(42/377)
وأخرجه ابن الانباري في "إيضاح الوقف والابتداء" "1/ 11-12"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 50"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 446"، والشجري في "الأمالي" "1/ 85"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 557-558" و"5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، و"الحدائق" "1/ 501" من طريق بشر بن نمير عن القاسم =(42/378)
ص -257-…وعلى الجملة؛ فالمفتي مخبِرٌ عن الله كالنبي، ومُوقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور1 الخلافة كالنبي، ولذلك سُمُّوا أولى الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر وهو:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعًا: "من قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوة.... ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها".
وإسناده هالك، بشر بن نمير مُتهم.
وأخرجه الأجُرِّي في "أخلاق حملة القرآن" "رقم 14"، ومن طريقه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 49"، من طريق مسلمة بن علي الخشني عن زيد بن واقد عن مكحول عن أبي أمامة رفعه: "من قرأ ربع القرآن؛ فقد أوتي ربع النبوة..... ومن قرأ القرآن؛ فقد أوتي النبوة؛ غير أنه لا يوحى له"، وإسناده ضعيف جدًّا؛ مسلمة بن على متروك الحديث، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة.
وقد صح موقوفا بنحو اللفظ الذي أورده المصنف عن عبد الله بن عمرو قوله، ومضى تخريجه "4/ 189".
1 أقرب معاني "المنشور" هنا ما كان غير مختوم من كتب السلطان، وذلك هو ما أشار إليه سابقًا من الآيات والأحاديث الدالة على خلافة العلماء عنه صلى الله عليه وسلم. "د".(42/379)
ص -258-…المسألة الثانية:
وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول، والفعل والإقرار؛ فأما الفتوى بالقول؛ فهو الأمر المشهور ولا كلام فيه.
وأما بالفعل؛ فمن وجهين:
أحدهما: ما يقصد به الإفهام في معهود1 الاستعمال؛ فهو قائم مقام القول المصرح به كقوله عليه الصلاة والسلام: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا"2 وأشار بيديه.
وسئل عليه الصلاة والسلام في حجته؛ فقال3: "ذبحتُ قبل أن أرمي" فأومأ بيده؛ قال: "ولا حرج"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في عرف المفتي والمستفتي؛ فرب إشارات يختلف استعمالها عند الأمم والطوائف. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب اللعان 9/ 439/ رقم 5302" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "الشهر هكذا وهكذا " يعني ثلاثين"، ثم قال: "وهكذا وهكذا "يعنى تسعًا وعشرين". يقول مرة ثلاثين، ومرة تسعًا وعشرين.
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15" عن ابن عمر، وفيه: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" -وعقد الإبهام في الثالثة- "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" -يعني: تمام الثلاثين.
وأخرجه بألفاظ كثيرة، وكذا أخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1908، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" 4/ 126/ رقم 1913"، وأوله في بعض طرقه: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب".
3 أي: فقال السائل في سؤاله. "م".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة(42/380)
ص -259-…وقال: "يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج". قيل: يا رسول الله! وما الهرج؟ فقال هكذا بيده؛ فحرفها؛ كأنه يريد القتل1.
وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء، قلت: آية؟ فأشارت برأسها أي نعم2.
وحين سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن أوقات الصلوات قال للسائل: "صل معنا3 هذين اليومين". ثم صلى، ثم قال له: "الوقت ما بين هذين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والرأس 1/ 181/ رقم 84".
ومضى تخريجه "4/ 100" دون لفظة الإيماء باليد وهو في ستة مواطن أخرى من "صحيح البخاري" "الأرقام: 1721، 1722، 1723، 1734، 6666"، و"صحيح مسلم" "رقم 1306" دونها والمثبت: "ولا حرج" من "صحيح البخاري"، وفي الأصول: "لا" من غير واو.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس 1/ 182/ رقم 85"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 182" معلقًا على: "فحرفها، كأنه يريد القتل": "كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب، لكن هذه الزيادة لم أرها في معظم الروايات؛ وكأنها من تفسير الراوي عن حنظلة؛ فإن أبا عوانة رواه عن عباس الدروي عن أبي عاصم عن حنظلة، وقال في آخره: "وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/ رقم 1053" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها؛ قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم-حين خسفت الشمس- فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي؛ فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله! فقلت: آية. فأشارت؛ أي نعم...".
وأخرجه أيضًا مسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في الموطأ" "1/ 188-189".(42/381)
3 لو اكتفى صلى الله عليه وسلم بصلاته معهم هذين اليومين، وفهم الصحابي منها الغرض؛ لكان مما نحن فيه، أما وقد قال له: "الوقت..... إلخ"، والإفتاء بهذا القول لا بمجرد الفعل الذي إنما حصل مساعدًا على إيجاز الإفتاء القولي، نعم، له دخل في قوة البيان، ولكن الفتوى قولية، انبنى على الفعل وضوحها وإيجازها، وقد يقال: إنها مركبة من الفعل والقول. "د".
4 مضى تخريجه "3/ 156".(42/382)
ص -260-…أو كما قال، وهو كثير جدًا.
والثاني: ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به، ومبعوثا لذلك قصدًا، وأصله2 قول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37].
وقال قبل ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} الآية [الأحزاب: 21].
وقال في إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيم} [الممتحنة: 4] إلى آخر القصة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كحديث الأنصاري الذي شكا عدم الحفظ؛ فقال له: "استعن بيمينك"* وأومأ بيده إلى الخط، وقد يقال أيضًا: إنها مركبة منهما، وسيأتي في المسألة بعد هذه أنه لما سأله الرجل عن أمر؛ قال: "إني أفعله...". "د".
2 أي: الدليل القولي العام للاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم. "د".
3 والكلام وإن كان في الفعل وباقي القصة قول؛ إلا أن قول إبراهيم والذين معه لقومهم.... إلخ يعد فعلًا في هذا المقام، كما سبق في القول التكليفي، وهو الذي لا يؤتى به أمرًا ولا نهيًا ولا أخبارًا عن حكم شرعي، بل يؤتى به كما يؤتى بالأفعال، وبيانه في المسألة السادسة من السنة. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الرخصة فيه" "أي: كتابة العلم" 5/ 39/ رقم 2666" عن أبي هريرة، والحديث ضعيف؛ قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث".(42/383)
ص -261-…والتأسي: إيقاع الفعل على الوجه الذى فعله، وشَرْعُ مَن قبلَنا شَرْعٌ لنا1.
وقال عليه الصلاة والسلام لأم سلمة: "ألا أخبرتيه أني أُقَبِّل وأنا صائم"2.
وقال: "صلوا كما رأيتموني أُصَلِّي"3، و: "خذوا عني مناسككم"4.
وحديث5 ابن عمر وغيره في الإقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى، ولذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية فيها التصريح بطلب القدوة بإبراهيم؛ فلا يحتاج للبناء على هذه القاعدة. "د".
2 رواية مالك: "ألا أخبرتها"، والضمير يعود على السائلة، وقد تقدمت هذه الرواية، ورواية مسلم وإن لم يكن فيها جملة: "ألا أخبرتيه"؛ إلا أن الضمير عائد إلى عمر بن أبي سلمة ابنها، فيصح لو وجدت جملة: "ألا أخبرتيه"... إلخ أن يكون الضمير مذكرًا؛ لأنه يعود إلى عمر ابنها. "د".
قلت: مضى تخريجه "4/ 74".
3 مضى تخريجه "3/ 245".
4 مضى تخريجه "3/ 246".
5 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، أقتصِر على واحد منها جُمع فيه أربع خصال:(42/384)
أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين 1/ 267-268/ رقم 166"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة 2/ 844-845/ رقم 1187" عن عبيد بن جريج قال لعبد الله بن عمر: "يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية، قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها؛ فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها؛ فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته". لفظ البخاري، وانظر: "تحفة الأشراف" "6/ 6/ رقم 7316".(42/385)
ص -262-…جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله.
وإذا كان كذلك، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه؛ لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضًا، فما قصد بها البيان والإعلام؛ فظاهر، وما لم يقصد به ذلك؛ فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين:
أحدهما: أنه وارث، وقد كان المورث [قدوة]1 بقوله وفعله مطلقًا2؛ فكذلك3 الوارث، وإلا لم يكن وارثًا على الحقيقة؛ فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله.
والثاني: أن التأسي بالأفعال -بالنسبة إلى من يُعظَّم في الناس- سر مبثوث في طباع4 البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، لا سيما عند الاعتياد والتكرار، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به، ومتى وجدت5 التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس؛ فاعلم أنه إنما ترك لتأسٍ آخر، وقد ظهر ذلك6 في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلين:
أحدهما: حين دعاهم عليه الصلاة والسلام [إلى الخروج] من الكفر إلى الإيمان، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله؛ فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء7؛ كقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في "ف" و"م".
وفي "ماء": "الموروث مقتدى"، وفي "ط": "الموروث يقتدى".
2 أي: سواء أقصد به البيان أم لم يقصد. "د".
3 ولعل أصل العبارة: مطلقًا كذلك فكذلك. إلخ. "ف".
4 وهل يكفي هذا لأن يكون دليلًا شرعيًا على شرعية التأسي بالمفتي ولو لم يقصد البيان؟ "د".
5 في "م": "وجد".
6 أي: ترك التأسي لتأسٍ آخر. "د".
7 فصل المصنف الكلام على هذا في كتابه "الاعتصام" "2/ 688-690 - ط ابن =(42/386)
ص -263-…[لقمان: 21] وما أشبهه من الآيات.
وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5].
ثم كرر عليهم التحذير من ذلك؛ فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم، إلى أن نوصبوا بالحرب1 وهم راضون بذلك؛ حتى كان من جملة ما دُعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم، وأضيفت الملة المحمدية إليه؛ فقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} [الحج: 78]؛ فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم، وبيَّن لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها وتعمل بكثير منها؛ فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي، وهو من أبلغ ما دعوا به من2 جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
وقوله3: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [النحل: 125].
فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة والسلام يدعو بها.
وأيضًا؛ فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصدق الفعلُ القولَ بالنسبة إليهم، فكان ذلك مما دعا إلى اتِّباعه والتأسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عفان في السبب الثالث من أسباب الخلاف "التصحيح على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق"، من الباب التاسع "في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين". وانظر: "الأمر بالمعروف" لابن تيمية "ص46-47 - ط المكتبة القيمة".
1 في "م": "الحرب"، وفي "ط": "نصبوا الحرب".
2 في "ط": "في".
3 في "ط" بدون "واو" على أنها فاعل "جاء"، وقال "د": "لعل الواو زائدة".(42/387)
ص -264-…به1؛ فانقادوا ورجعوا إلى الحق.
والمحل الثاني: حين دخلوا في الإسلام وعرفوا الحق، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه، فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم؛ فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول، وقضيته عليه الصلاة والسلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم؛ حتى قال لأم سلمة: "أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون؟". فقالت: اذبح واحلق. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعوه2. ونهاهم عن الوصال؛ فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل؛ فقال: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"3، ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا، وقال: "لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"4.
وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما؛ فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذا المحل خالٍ من قصد البيان حتى يكون دليلًا على قوله: "وما لم يقصد.... إلخ"؟ نعم، في المحل الثاني الذي فيه أنه كان يفعل من التشديد على نفسه في العبادة غير ما يطلبه منهم؛ كمسألة الوصال وغيرها، لم يكن يقصد بالفعل البيان؛ لأنه خاص به. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 5/ 329-333/ رقم 2731، 2732"، وأحمد في "المسند" "4/ 326"، والبيهقي في "الدلائل" "4/ 150" عن المسور بن مخرمة، وهو جزء من حديث طويل في عمرة الحديبية، وانظر: "مرويات غزوة الحديبية" "ص225-234"، و"المحقق عن علم الأصول" "ص147" و"4/ 87".
3 مضى تخريجه "2/ 239".
4 مضى تخريجه "1/ 526"، وفي "ط": "لا يدع"، والصواب حذف "لا".
5 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88".(42/388)
ص -265-…وكانوا يبحثون عن أفعاله1 كما يبحثون عن أقواله، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان؛ لكن على وجه آخر، والمعنى في الموضعين واحد.
ولعل قائلا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره؛ فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان، فأفعاله لا يوثق بها؛ فلا تكون مقتدى بها.
فالجواب: أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي؛ فليعتبر مثله في نصب أقواله، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا؛ لأنه ليس بمعصوم، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال؛ لم يكن2 معتبرًا في الأفعال، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان؛ فحق3 على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع؛ ليتخذ فيها أسوة.
وأما الإقرار؛ فراجع [في المعنى] إلى الفعل؛ لأن الكف فعل، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكذلك يكون بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصنفوا في حجيتها وأحكامها كتبًا ورسائل، منها: "المحقق من علم الأصول" لأبي شامة "ت665هـ"، و"تفصيل الإجمال" للعلائي، و"أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام" لمحمد العروسي عبد القادر، و"أفعال الرسول" لمحمد الاشقر، وهو أوعبها وأحسنها.
2 الفرق واضح بين الأقوال والأفعال بالوجدان والمشاهدة؛ فكثير من المنتصبين يزنون الفتوى القولية وزنًا تامًا، مع أن أفعالهم يكون فيها كثير من مخالفة ما يفتون الناس به؛ ترخصًا لأنفسهم، لا سيما في باب المكارم والمطلوبات على غير الوجوب، والمنهيات على غير الحرمة. "د".(42/389)
3 الحق والمطالبة به شيء، واتخاذ حجة شرعية شيء آخر. "د".(42/390)
ص -266-…المنتصب بالفتوى، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جارٍ هنا بلا إشكال، ومن هنا ثابر1 السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه، ومن أخذ بالرخصة3 في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار؛ فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما4، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلم يكفوا عن الإنكار، حتى لا يكونوا كالمصرحين بجواز المنكر. "د".
2 انظر قصتين ماتعتين للسلف في الأمر بالمعروف في "الطبقات الكبرى" "5/ 137" لابن سعد، و"الإحكام" "4/ 163-164" لابن حزم. وفي "ط": "السلف الصالح".
3 أي: فاعتزل الخلق حتى لا يترتب على إنكاره أذى شديد يصيبه، وقوله: "المراتب الثلاث"؛ أي: التغيير باليد واللسان والقلب. "د".
4 انظر عنها: "الأمر بالمعروف" "ص22 - ط المكتبة القيمة" لابن يتيمة، و"إعلام الموقعين" "2/ 7" و"3/ 291"، و"مفتاح دار السعادة" "ص341، 348"، و"روضة المحبين" "ص132"، و"الداء والدواء" "ص225-226، 309-310"، و"قواعد ابن رجب" "ق112 - بتحقيقي"، و"القواعد الكلية والضوابط الفقهية" "ص10" ليوسف بن عبد الهادي، و"الأمر بالمعروف" "ص178" للعمري.
5 انظر: "الإحياء" "2/ 289-292"، و"الأمر بالمعروف" "169 وما بعدها" للعمري.(42/391)
ص -267-…المسألة الثالثة:
تنبني على ما قبلها، وهى أن الفتيا لا تصح من مخالف1 لمقتضى العلم، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه؛ فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا.
فأما فتياه بالقول؛ فإذا جرت أقواله على غير المشروع، [فلا يوثق بما يفتي به؛ لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع]، وهذا من جملة أقواله، فيمكن2 جريانها على غير المشروع؛ فلا يوثق بها.
وأما أفعاله، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم؛ لم يصح الاقتداء بها ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح.
وكذلك إقراره؛ لأنه من جملة أفعاله.
وأيضًا؛ فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد3 على صاحبيه بالتأثير، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد4 قلبي.
هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي له تفسير الصحة بالانتفاع والوقوع لا الصحة في الحكم الشرعي ما لم يحط إلى رتبة الفسق بالمخالفة. "د".
وكتب في "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: لا تعد صحيحة منتفعًا بها موثوقًا بحكمها إذا صدرت ممن يخالف قوله فعله؛ لأن للمفتي وراثة وخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وله منصب التأسي والاقتداء به؛ فمن هذه الجهة إذا خالف قوله عمله كان كالمكذب نفسه، ولا شك أن من أخبر بشيء وكذب نفسه فيه، يهدر قوله، ويطرح رأيه، ولا يوثق به".
2 أي: فيحتمل احتمالًا قريبًا أن يكون فتياه بالقول غير صحيحة كأقواله الأخرى. "د".
3 في الأصل: ".... الوجوه الثلاثة دالٌّ على...".
4 وهو كمال الإيمان أو عدمه. "د".(42/392)
ص -268-…وأما على التفصيل؛ فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني؛ فإن كان صامتًا عما لا يعني ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة1، وإذا دلَّك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة، وإن دلَّك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه، وإلا فلا.
وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر، ومثلها النواهي؛ فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه، أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان، أو عن الزنى وهو لا يزني، أو عن التفحش وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك؛ فهو الصادق الفتيا والذي2 يقتدى بقوله ويقتدى بفعله؛ وإلا فلا؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه}3 [الأحزاب: 23].
وقال في ضده: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن} إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التوبة: 75-77].
فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل، وفي الكذب مخالفته.
وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}4 [التوبة: 119].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد به غير ظاهرة الصدق؛ لعدم وجود العلاقة الدالة على صدق قوله، وهي مطابقة الفعل للقول، أو المراد: غير صادقة بمعنى عدم مطابقتها لفعله وإن كان الصدق عند الجمهور مطابقة الواقع. "ف".
2 في "ط": "الذي" بدون واو.
3 أي: فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى. "ف".(42/393)
4 أي: اتقوا الله وكونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية، كما هو أحد التفاسير، وقال الآلوسي "في تفسيره" "11/ 45": "أنه المناسب" أي: فهؤلاء قد طابق قولهم فعلهم؛ فلم ينتحلوا أعذارًا كغيرهم، وقال يقال: إن السبب وإن كان خاصًا وهو مطابقة لفعلهم؛ إلا أن لفظ الصدق بمعناه الأعم عند الجمهور وهو مطابقة نسبة الخبر الواقع يدل على خصوص الغرض وهو مطابقة قول الشخص لفعله، وهو المعنى الخاص عند العلماء. "د".(42/394)
ص -269-…وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهى؛ فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة؛ فإن وافق صدق وإن خالف كذب؛ فالفتيا لا تصح مع المخالفة وإنما تصح مع الموافقة.
وحسب الناظر من ذلك1 سيد البشر صلى الله عليه وسلم، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق2 والتمام؛ حتى أنكر على من قال: يحل الله لرسوله ما شاء3.
وحين سأله الرجل عن أمر؛ فقال: "إني أفعله". فقال له: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. غضب صلى الله عليه وسلم وقال: "والله؛ إني لأرجو أن أكون4 أخشاكم لله، وأعلمكم بما اتقي"5.
وفي القرآن عن شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89].
وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه} [هود: 88].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في ذلك".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفيه "الوفاق التمام"، ,في جميع النسخ المطبوعة "الوفاء -بالهمزة- والتمام".
3 مضى تخريجه "2/ 503".
4 في الأصل: "تكون".
5 مضى تخريجه "2/ 503".
6 لأنه يدعو الناس إلى توحيد الله بلسانه، فإذا عاد إلى شركهم؛ كان كاذبًا، لم يصدق قوله فعله. "د".
7 يقال: "خالفني فلان إلى كذا" إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، "وخالفني عنه" بالعكس؛ أي: إذا سمعتم نصحي، وتجنبتم التطفيف والبخس وعبادة الأوثان وسائر المعاصي؛ فإني لا أفعله،= واستبد به دونكم لأن الأنبياء لا ينهون عن شيء ويخالف فعلهم قولهم؛ وقد يقال: إن الآية ليس فيها أن هذا يعد كذبًا، بخلاف ما قبلها، إلا أن يقال: إنها تفيده بضميمتها إليها؛ لأن المخالف إليه فيها هو ما سماه كذبًا في قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}. "د".(42/395)
ص -270-…فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا، وقد قالوا في عصمة1 الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله: إن ذلك؛ لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة، بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها؛ فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف [ولا يفعلونه] وناهين عن المنكر ويأتونه -عياذا بالله من ذلك- لكان ذلك أولى2 منفِّر وأقرب صادٍّ عن الاتباع؛ فمن كان في رتبة الوارثة لهم؛ فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول.
ولما نهى3 عن الربا قال: "وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب"4.
وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية؛ قال: "وأول دم أضعه دمنا: دم ربيعة بن الحارث"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في دليلها. "د".
2 في "م": "أوَّل".
3 في خطبة حجة الوداع المشهورة. "د".
4 مضى تخريجه "4/ 380".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 886-892/ رقم 1218" ضمن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الطويل، ولفظه: "وإن أول دم أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث".
وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 73" عنه بلفظ: "وأول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 182-186/ رقم 1905". بلفظ: "ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا"؛ -قال عثمان: "قلت: هو ابن أبي شيبة، =(42/396)
ص -271-…وقال حين شفع له في حد السرقة: "والذي نفسي بيده؛ لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها"1.
وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته، وأن الناس في أحكام الله سواء.
والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول؛ فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} الآية [البقرة: 44].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2-3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شيخ أبي داود": "دم ابن ربيعة"، وقال سليمان -"قلت: هو ابن عبد الرحمن الدمشقي، شيخ آخر لأبي داود في الحديث"-: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وقال بعض هؤلاء -"أي: المذكورين، وعبد الله بن محمد النفيلي وهشام بن عمار؛ فمجموع شيوخه في هذا الحديث أربعة"- "كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل".
وأخرجه أبو داود في "السنن" أيضًا "كتاب البيوع، باب في وضع الربا 3/ 244-245/ رقم 3334"، بلفظ: "ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث ابن عبد المطب، وكان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل".
قال الخطابي في "معالم السنن" "3/ 59-60": "دم الحارث بن عبد المطلب"؛ فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وأسند إلى ابن الكلبي قوله: "إن ربيعة بن الحارث لم يقتل، وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر، وإنما قتل له ابن صغير في الجاهلية؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أهدر، ونسب الدم إليه؛ لأنه ولي الدم".(42/397)
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 8/ 24-25/ رقم 4304"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود 34/ 1315/ رقم 1688" عن عائشة رضي الله عنها.(42/398)
ص -272-…عن جعفر بن برقان؛ قال: سمعت ميمون ابن مهران يقول: "إن القاص1 المتكلم ينتظر المقت2، والمستمع ينتظر الرحمة. قلت: أرأيت قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون} الآية [الصف: 2]، هو الرجل يقرظ نفسه فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى3 عن المنكر وإن كان فيه تقصير؟ فقال: كلاهما"4.
فإن قيل: إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال العلماء: إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة؛ فكذلك هنا5، ومثله الانتصاب للفتوى، ومن الذى يوجد لا يزلُّ ولا يضلُّ ولا يخالف قوله فعله، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة؟
نعم، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب، وأما أن يقال: إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب؛ هذا مشكل جدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في القا(42/399)
ص -بالقاف "وآخره صاد مهملة مشددة: هو" الذي يقص [الحديث و] الأخبار، ويعظ الناس. "ف" و"م".
2 لأنه يخشى عليه ألا يطابق فعله ما يعظ؛ فيمقت من الله ومن العباد، أما المستمع؛ فيرجى له أن يعمل بما سمع؛ فيرحم. "د".
3 في "ط": "أو ينهى".
4 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 49 - ط الأعظمي، ورقم 41 - ط المحققة"، وإسناده حسن، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "ص240". "استدراك 3".
5 أي: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أصل كلي في الدين، ومكمله الائتمار والانتهاء، حتى يكون قدوة وينتفع به، ولكنه إذا جعل هذا المكمل شرطًا مطردًا حتى عند عدم وجود المؤتمر؛ انخرم الأمر بالمعروف، وضاع هذا الأصل؛ فيهمل هذا المكمل. "د".(42/400)
ص -273-…فالجواب: أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر؛ لأنا إنما1 تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي؛ فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد2 إن حصل؛ وذلك أنه إن كان موافقا3 قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا أو كان مظنة للحصول؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه، وإن خالف فعله قوله؛ فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق، أو لا؛ فإن كان الأول؛ فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله؛ فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم، وإن كان الثاني؛ صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق4 دون ما خالف، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه [لك]؛ حصل تصديق قوله بفعله، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم؛ فلم يصدق القول الفعل.
هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله؛ فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله؛ لأنه وارث النبي، فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذا".
2 أي: بل يقع الانتفاع به نادرًا، بخلاف الصادق؛ فالانتفاع به مطرد أي غالب، كما سيقول: "أو كان مظنة للحصول". "د".
3 في "ط": "بقوله".(42/401)
4 أي: فيما وافق فيه قوله فعله؛ أما كل ما خالف فيه قوله فعله؛ فلا يعتد بقوله المخالف لفعله فيه، وسيأتي أنه يحمل ذلك على كمال الصحة لا على البطلان؛ لأن الشرع نصبه للمتابعة في القول وإن خالف مرتبته في الفعل، وسيأتي مزيد البيان في الفصل الآتي. "د".(42/402)
ص -274-…فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق، وقد قال أبو الأسود الدؤلي1:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها…فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدى…بالرأي منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتىَ مثله…عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
[وهو معنى موافق للنقل والعقل، لا خلاف فيه بين العقلاء]2.
فصل:
فإن قيل: فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله؛ هل يصح تقليده في باب التكليف، أم لا؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا.
فالجواب: أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي، فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي؛ هذا هو المطَّرِد والغالب، وما سواه كالمحفوظ النادر الذى لا يقوم منه أصل كُلِّيٌّ بحال، وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي؛ فالفقه فيها ظاهر، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته؛ فلا يصح إلزامه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأبيات من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي في "شرح شواهد المغني" "194"، ومنها:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
وفي "البيان والتبين" "1/ 198" للجاحظ عدا الثالث، وعزاهما للأفوه الأودي، وفيه:
فهناك تُعذَر إن وَعَظت ويُقتَدَى
بالقول منك ويُقبَل التعليم
ويروى بعضها للمتوكل الليثي. انظر: "حماسة البحتري" "173".
2 انظر: "الاجتهاد في الإسلام" لنادية العمري "ص113-115"، وما بين المعقوفتين سقط من "م".(42/403)
ص -275-…إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه، وغير العدل لا يوثق به، وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر؛ إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته، وجهته غير موثوق بها؛ فيسقط الإلزام عن المستفتي، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي؛ فهل يبقى إلزام1 المفتي متوجها أم لا؟ يجرى2 ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي: هل هو شرط3 في التكليف أم لا؟ وذلك مقرر في كتب الأصول4، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته؛ فقبول قوله صحيح، والعمل عليه مبرئ للذمة والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هل يبقى مكلفًا بالإفتاء مع فقد الشرط الشرعي وهو العدالة أو لا؟. "د".
2 قد يقال: وهل العدالة شرط في تكليفه بالإبلاغ، أم هي شرط شرعي لإلزام المستفتي الأخذ بأقواله؟ "د".
3 نسبوا للحنفية القول بشرطية ذلك في التكليف، وتبرأ الحنفية من كون ذلك عامًا، وقالوا: إنه لا يقول به عاقل؛ بل النزاع بينهم وبين الشافعية في خصوص تكليف الكفار بفروع الشريعة لا غير، وعليه لا محل لإجراء هذا الخلاف هنا حتى يعد تسليم أن العدالة شرط في وجوب الإبلاغ. "د".
4 انظر منها على سبيل المثال: "البحر المحيط" "6/ 204" للزركشي، و"المستفتي" "2/ 350"، و"إعلام الموقعين" "1/ 11 و4/ 220"، و"جمع الجوامع" "2/ 385 - مع حاشية البناني"، و"المجموع" "1/ 76"، و"روضة الناظر" "3/ 960 - ط المحققة"، و"أدب المفتي والمستفتي" "ص107"، لابن الصلاح، و"صفة الفتوى" "ص13" لابن حمدان، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص40" للأشقر، و"الفتوى في الإسلام" "ص62-63" للقاسمي، و"إرشاد الفحول" "ص296".(42/404)
ص -276-…المسألة الرابعة:
المفتي البالغ ذروة2 الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين3.
وأيضًا4؛ فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد5 عليه الصلاة والسلام التبتل6. وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل جل هذه المسألة عن المصنف القاسمي في "الفتوى" "ص56-60".
2 قال "الماء": "جمعها" "ذري"، وهي من الدرجات".
3 انظر أدلة هذا من الكتاب والسنة وآثار السلف في: رسالة السخاوي "الجواب الذي انضبط عن: "لا تكن حلوا فتُستَرَط" بتحقيقي، و"العزلة" "ص207، 236 - ط المحققة" للخطابي، و"الموشى" "ص83-84" لابن الوشاء -وهو مطبوع بعنوان "الظرف والظرفاء" تصرفًا من المحقق، وهو غير جيد، والله الموافق- و"الغلو في الدين".
4 دليل ثانٍ غير استدلاله بالقاعدة الأصولية التي تقدمت له في كتاب المقاصد في المسألة الثانية عشرة من النوع الثالث. "د".
5 أي: على جماعة من أصحابه طلبوا منه ذلك. "د".
6 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح.
7 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح.(42/405)
ص -277-…وقال: "إن منكم منفرين"1.
وقال: "سددوا، وقاربوا، واغدُوا ورُوحُوا وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلُغُوا"2.
وقال: "عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا"3.
وقال: "أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قَلَّ"4.
ورد عليهم الوصال5، وكثير من هذا.
وأيضا؛ فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد؛ فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال؛ فكذلك أيضا؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّضَ إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد؛ وأما إذا ذُهِب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح.
2 مضى تخريجه "2/ 208" وهو في "الصحيحين"، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: اطلبوا السداد أي الصواب والقصد في القول والعمل، وأصل السداد: إغلاق الخلل وردم الثلم، والمقاربة قريبة من هذا المعنى؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا" مراد به اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه فلا تميلوا بها* إلى الأطراف، ولمغايرة الثاني للأول في المعنى اللغوي عطف عليه "واغدوا" أي: بكروا بأعمالكم، والغدوة نقيض الرواح؛ والدلجة؛ بالضم، سير الحر**، وبالفتح: سير الليل كله".
3 مضى تخريجه "1/ 525".
4 مضى تخريجه "2/ 404"، وفي "د" و"ف": "ما دام".
5 مضى ذلك في أحاديث عديدة، انظر منها: "2/ 239".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "م": "فلا تميلوا بأنفسكم..".
** في "م": "السير في وقت الحر".(42/406)
ص -278-…فصل:
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادًا1 للمشي على التوسط؛ كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا [أيضًا]2.
وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد؛ فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك، وأكثر من هذا شأنه من أهل [الانتماء إلى]3 العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى4 الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا؛ لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التشديد؛ فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "مضاد".
2 سقط من "ط".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 تقدم الكلام على هذا بأوفى بيان في المسألة الثالثة ولواحقها من كتاب الاجتهاد.
5 تكلم بعض الأصوليين على هذه المسألة على هذا النحو: "هل يجب الأخذ بأخف القولين أو الأثقل؟"، وذكر ذلك المصنف في آخر المسألة من الطرف الأول من كتاب =(42/407)
ص -279-…فصل:
قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط؛ بناء على ما تقدم في أحكام الرخص، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يُقتدَى1 به فيه فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل، فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقًا، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة؛ فربما اتبع لظهور عمله؛ فكان ينهى عنه في مواضع؛ كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص2 في سرد الصوم3.
وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم} [الحجرات: 7].
وأمر بحل4 الحبل الممدود بين الساريتين5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الاجتهاد مع الأدلة معتمدًا على الرازي، واختار المصنف قولًا آخر، وهو صحيح من حيث الجملة وعلى وجه العموم، وإلا يلزم في كثير من المسائل القول إما بالأخف أو الأثقل، والمرجح النص والدليل؛ نعم، يظهر أهمية كلام المصنف في مجمل ما يفتي به؛ المطلوب ما قرر، على الرغم من صبغ فقه ابن عباس بالترخص في كثير من المسائل، وصبغ فقه ابن عمر بالتشدد في كثير من المسائل، وقصة المنصور مع مالك، وذكره هذا أمر مشهور، ولكن في صحتها نظر كبير، ولتحقيق ذلك موطن آخر.
وانظر في المسألة: "المحصول" "6/ 159-160"، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 352".
1 في "ط": "أن يقتدى".
2 كان المراجعة لعبد الله بن عمرو بن العاص لا لعمرو نفسه. "د".
3 مضى تخريجه ذلك "2/ 240"، وهو صحيح.
4 حبل وضعته زينب أم المؤمنين رضي الله عنها حتى إذا فترت تعلقت به. "د".
قلت: مضى تخريج ذلك "1/ 528"، وهو صحيح.
5 أي: ليتعلقوا به خشية النوم. "ف" و"م".(42/408)
ص -280-…وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل1.
وربما ترك العمل2 خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
ولهذا -والله أعلم- أخفى السلف الصالح أعمالهم؛ لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضًا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء؛ لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه.
فصل:
إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح؛ فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتِّباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا3 في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقًا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي4: لا يكاد المعرق5 في القياس إلا يفارق السنة؛ فإن كان ثم رأي بين هذين؛ فهو الأولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 527".
2 كقيام رمضان جماعة في المسجد. "د" قلت: تقدم مع تخريجه "4/ 423".
3 المذكور قول القاضي عياض كما قدمناه "2/ 320"، وانظر -لزامًا- تعليقنا عليه.
4 المذكور قول مالك على ما في "الاعتصام" "2/ 638 - ط ابن عفان" أو قول أصبغ، على ما مضى عند المصنف "ص199".
5 كذا في "ط": وفي النسخ المطبوعة: "المعرق" بعين مهملة، وتصحف في "الاعتصام" إلى "المفرق" بالفاء، والصواب ما اثبتناه، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي": المناضل فيه، المتوغل في مناحيه".(42/409)
ص -283-…المسألة الأولى:
إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية؛ فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة1؛ لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل، وإنما تعبدهم على متضى قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة: 282] لا على ما يفهمه2 كثير من الناس، بل على ما قرره الأئمة في صناعة النحو، أي: إن الله يعلمكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أَسَأَل عنها وطلب الوقوف على دليلها حتى يقتنع، كما في العقائد وكما في الفروع إن كان من أهل الاستقلال، أم سأل بمقدار ما يصحح به عمله فقط، وأيضًا؛ سواء أكان سؤاله لمن هو أَهْلٌ أم لا.. إلخ ما سيبينه في المسألة الثانية. "د".
2 يفهمونها على حد: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]؛ إلا أن فهمهم لا تساعده قواعد اللغة الفصحى؛ لأنه مبني على أن جملة {وَيُعَلِّمُكُم} حال مقدرة، أو بمعنى مضمونًا لكم التعليم، وكلاهما يفيد أن التعليم مرتب على التقوى، ولكن الجملة المضارعية المثبتة وقوعها حالًا بالواو قليل؛ حتى قالوا: لا بد له من التأويل، والوجه الثاني أن هذه الجمل الثلاث مستقلة بعضها عن بعض؛ فالأولى طلب تقوى الله، والثانية وعد بالإنعام، والثالثة غاية التعظيم، ولذا ساغ فيها تكرار كلمة الجلالة مع أنهم كرهوا تكرار اللفظ الواحد في الجمل المتعاقبة. "د".(42/410)
قلت: نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 177" على خطأ فهم الآية، قال رحمه الله تعالى بعد كلام: "وقد شاع في لسان العامة أن قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} من الباب الأول، حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل: "وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمكم"، ولا قال: "فيعلمكم"، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني"، ثم قال "18/ 177-178": "وقد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم، كما يقال: "زرني وأزورك"، و"سَلِّمْ علينا ونسلِّمُ عليك"، ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين، والتعاوض من الطرفين"، قال: "فقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قد يكون من هذا الباب؛ فكلٌّ من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم... وهلم جرا".(42/411)
ص -284-…على كل حال فاتقوه؛ فكأن الثاني سبب في الأول1؛ فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويًا، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل، والأدلة على هذا المعنى كثيرة2، وهي قضية لا نزاع فيها؛ [فلا فائدة في التطويل فيها]3، لكنها كالمقدمة لمعنى آخر وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "فكان الثاني سببًا في الأول".
2 انظر بعضها في "صحيح البخاري" "كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 159"، و"روضة الطالبين" "ص92" للغزالي.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".(42/412)
ص -285-…المسألة الثانية:
وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد أمر إلى غير أهله؛ والإجماع على عدم صحة مثل هذا1، بل لا يمكن2 في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل3 به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء؛ إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء؛ لعدَّ من زمرة المجانين؛ فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة، والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه؛ غير أنا نقول بعده:
إذا تعين عليه السؤال؛ فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذى يسأل عنه؛ فلا يخلو أن يتحد في ذلك النظر4 أو يتعدد، فإن اتحد؛ فلا إشكال، وإن تعدد؛ فالنظر في التخيير وفى الترجيح قد تكفل به أهل الأصول، وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال، أما إذا كان [قد] اطلع على فتاويهم قبل ذلك، وأراد أن يأخذ بأحدها؛ فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح؛ لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى؛ فلا سبيل إليه البتة، وقد5 مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب؛ فلا نعيده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى الإجماعَ الرازيُّ في "المحصول" "6/ 81" وغيره.
2 أي: حصوله من العقلاء. "د". وفي "ط" بعده: "في الوقائع".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالجهل".
4 هكذا في الأصل، وفي "د" و"ط" و"ماء": "القطر".
5 في المسألة الثالثة من كتاب الاجتهاد ولواحقها. "د".(42/413)
ص -286-…المسألة الثالثة:
حيث يتعين1 الترجيح؛ فله طريقان: أحدهما عام، والآخر خاص.
فأما العام؛ فهو المذكور في كتب الأصول؛ إلا أن فيه موضعا يجب أن يُتَأمل ويُحترز منه، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم، أو على أهلها القائلين بها، مع أنهم يثبتون مذاهبهم ويعتدون بها ويراعونها، ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى، وهو غير لائق بمناصب المرجحين، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة وما يليها من مذهب داود ونحوه2؛ فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها:
أحدها: أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك3 في الوصف الذى تفاوتا فيه، وإلا؛ فهو إبطال لأحدهما، وإهمال لجانبه رأسًا، ومثل4 هذا لا يسمى ترجيحًا، وإذا كان كذلك؛ فالخروج في [ترجيح] بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين خروج عن نمط5 إلى نمط آخر مخالف له، وهذا ليس من شأن العلماء، وإنما الذى يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله، والأئمة المذكورون برآء6 من ذلك؛ [فهذا]7 النمط لا يليق بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعين".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 291-293"، و"بدعة التعصب المذهبي" للشيخ محمد عيد عباسي.
3 في "ف" و"م": "بين الاشتراك"، وقالا: "لعله: "بعد الاشتراك"، وفي "ط": "مع الاشتراك".
4 في "د": "مثله".
5 لعل فيه سقط كلمة "الترجيح". "د".
6 إذ الموضوع أنهم يثبتون مذاهبهم.. إلخ ما تقدم. "د".
7 ما بين المعقوفتين سقط من "د".(42/414)
ص -287-…والثاني: أن الطعن في مساق الترجيح يبين1 العناد من أهل المذهب2 المطعون عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه؛ لأن الذى غُضَّ من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر محاسنه؛ فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام [المذهب]3، وإن كان مرجوحًا؛ فكأن4 الترجيح لم يحصل.
والثالث: أن هذا الترجيح مغرٍ بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضًا؛ فبينا نحن نتتبع المحاسن5 صرنا نتتبع القبائح [من المجانبين]؛ فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها؛ فمن غَضَّ من جانب صاحبه غَضَّ صاحبه من جانبه؛ فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاضٌّ من جانب مذهبه؛ فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه". قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"6؛ فهذا من ذلك.
وقد منع الله أشياء من الجائزات7 لإفضائها إلى الممنوع؛ كقوله: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} الآية [الأنعام: 108].
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يثيره. "د". قلت: في "ط": "يثير".
2 في الأصل: "المذاهب".
3 سقط من "د"، وفي الأصل: "المذاهب".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن".
5 أي: لترجُّحٍ بها صار كل منا يبحث عن القبائح عند الآخر، يزعم أن ذلك يرجح مذهبه. "د".
6 مضى تخريجه "3/ 76".
7 أي: فما بالك بالممنوعات؟ "د".(42/415)
ص -288-…والرابع: أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعًا، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية [آل عمران: 105].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الانعام: 159].
وقد مر تقرير هذا المعنى قبلُ؛ فكل ما أدى إلى هذا ممنوع؛ فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع.
ونقل الطبري1 عن عمر بن الخطاب -وإن لم يصحح سنده2 - أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجائه3 الزبرقان بن بدر؛ قال له: "إياك والشعر. قال: لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه، مأكلة عيالي ونملة على لساني4. قال: فشبب بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة. قال: وما هى؟ قال: تقول بنو فلان خير من بنى فلان، امدح ولا تفضل. قال: أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني".
فإن صح هذا الخبر وإلا فمعناه صحيح؛ فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفًا، والعوائد شاهدة بذلك.
والخامس: أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه "تهذيب الآثار" "2/ 2/ 20/ رقم 2718"؛ قال: ثنا الزبير بن بكار: ثني محمد بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه؛ قال: "لما أرسل عمر...."، والخبر مرسل، بل معضل؛ فإسناده ضعيف.
2 الصواب أنه سكت عليه، ولم يضعفه.
3 في الأصل والنسخ المطبوعة كلها: "هجاء"، والتصويب من "تهذيب الآثار" و"ط".
4 أي: قرحة فيه لا تنفك عنه. "ف" و"م".(42/416)
ص -289-…التغالي والانحراف في المذاهب، زائدا إلى ما تقدم؛ فيكون ذلك سبب إثارة1 الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض2 الترجيح والمحاجة.
قال الغزالي في بعض كتبه: "أكثر الجهالة3 إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق، في معرض التحدي والإدلاء4، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء؛ فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء؛ لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا5 في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل".
هذا ما قال؛ وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله "بسبب" كما يدل عليه لاحق الكلام؛ فالزائد على ما تقدم إنما هو الانحراف الشديد والتغالي في مجافاة الحق؛ بسبب الأحقاد الناشئة عن مر التشنيع في معرض المحاجة كما سيمثل له في كلام الغزالي. "د".
2 في "ط": "معرض".
3 في "ط" و"الاعتصام" "2/ 230 - ط رشيد رضا؛ و2/ 732 - ط ابن عفان": "الجهالات".
4 من قولهم: "أدلى فلان في فلان"؛ أي: قال قبيحًا، وليس المراد الإدلاء بالحجة؛ لأنه لا يناسب ما قبله وما بعده. "د".
قلت: تصحفَت في "الاعتصام" "ط رضا" إلى: "والإدلال"، وفي طبعة ابن عفان: "والإذلال".
5 في "الاعتصام" "2/ 230 - ط رضا": "مستفزًا"، وفيه "2/ 732 - ط ابن عفان": "مستنفرًا"؛ وكلاهما خطأ.
6 زاد في "الاعتصام" عليه: "فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم".(42/417)
ص -290-…وقد جاء في حديث الذى لطم وجه اليهودي القائل: "والذى اصطفى موسى على البشر" أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: "لا تفضلوا بين الأنبياء"1، أو: "لا تفضلوني على موسى"2، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالتفضيل3 أيضًا؛ فذكر المازري4 في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد: لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم، قال:
"وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي؛ فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص [حق]5 موسى [عليه السلام]5؛ فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق".
قال عياض6: "وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته، لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} 6/ 450-451/ رقم 3414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم 4/ 1844 رقم 2373 بعد 159" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال: ثم ينفخ فيه أخرى؛ فأكون أول من بُعث -أو: في أول من بُعث- فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش.." لفظ مسلم.
ولفظ البخاري: "لا تفضلوا بين أولياء الله".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم 4/ 1844/ رقم 2373 بعد 160"، وابن أبي شيبة في "المصنف" في "11/ 509"، وأحمد في "المسند" "3/ 31، 33" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس....".
3 أي: التفضيل بين الأنبياء وتفضيله على موسى؛ فهو راجع للروايتين. "د".
4 في كتابه: "المعلِم بفوائد مسلم" "3/ 134".(42/418)
5 زيادة من "المعلم"، وما بين المعقوفتين الأخريين من "المعلم" و"ط".
6 ونقله عنه الأبي في "إكمال إكمال العلم" "6/ 166".(42/419)
ص -291-…ذكر ما لا يُحَبُّ منهم عند الجدال، أو ما يحدث1 في النفس لهم بحكم الضجر والمراء؛ فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهي عنه في القرآن2 وغير ذلك". هذا ما قال، وهو حق3، فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء.
فصل:
وأما1 إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة؛ فلا حرج فيه؛ بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن، أعني: عند الحاجة إليه، وأصله من الكتاب قول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} الآية [البقرة: 253]؛ بيَّن أصل التفضيل، ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء: 55].
وفى الحديث من هذا كثير: [كقوله] لما سئل: من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم". فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فيوسف، نبي الله ابن نبي الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معطوف على "ذكر"؛ أي: ذريعة إلى أن يحدث في نفوسهم شيء لا يليق بمقامهم بسبب ضجرها من المراء والجدل، وإن لم يتكلم به. "د".
2 ولا تجادلوا أهل الكتاب. "د".
3 ذهب الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "3/ 57 - ط المحققة" إلى قول آخر، وهو حسن؛ فقال رحمه الله تعالى: "... وكان هذا عندنا والله أعلم على التفضيل بينهم، وعلى التخيير بينهم بآرائنا، وربما لم يوقفنا عليه، ولم يُبَيِّنْه لنا، فأما ما بينه لنا وأعلمنا؛ فقد أطلقه لنا، وعاد ما نهى عنه في هذا الباب ما سوى ذلك مما لم يبينه لنا، ولم يطلق لنا القول فيه بما قد تولاه عز وجل ومنعنا منه، واللهَ نسأله التوفيق".
4 سقط من "ط".(42/420)
ص -292-…نبي الله ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"1. وقال عليه الصلاة والسلام: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه: بلى، عبدنا خضر"2.
وفى رواية: "أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل؛ فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ3 لم يَرُدَّ العلم إليه. قال له: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 6/ 387/ رقم 2353، وباب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} 6/ 414/ رقم 3374، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين} 6/ 417/ رقم 3383، وكتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم} 6/ 525/ رقم 3490، وكتاب التفسير، باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين}، 8/ 362/ رقم 4689"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام 4/ 1846-1847/ رقم 2378" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذُكر في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر، رقم 74، وباب الخروج في طلب العلم، رقم 78، وكتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، رقم 3400، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} رقم 7478"، وأحمد "5/ 116"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 282" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
3 في "د": "إذا".(42/421)
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم، رقم 122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ}... رقم 4725، وباب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} رقم 4727، وكتاب الإيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، رقم 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في فضائل الخضر عليه السلام 4/ 1847/ رقم 2380" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.(42/422)
ص -293-…واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود؛ فقال المسلم: "والذى اصطفى محمدا على العالمين -في قسم يقسم به- فقال اليهودي: والذى اصطفى موسى على العالمين..........." إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: "لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق؛ فإذا موسى آخذ بجانب العرش؛ فلا أدرى أكان فيمن صَعق فأفاق، أو كان ممن استثنى اللهُ"1.
وفى رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء؛ فإنه ينفخ في الصور..." الحديث2.
فهذا3 نفي للتفضيل مستند إلى دليل، وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح، وقال: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء؛ إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وإنَّ فَضْلَ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه قريبًا، في "ط": "فإذا موسى باطش".
2 مضى تخريجه قريبًا.
3 أي: فهذا النوع في حديثي موسى نهى عن التفضيل إذا لم يكن له مرجح، فإذا كان له مرجح ومستند؛ فلا مانع منه كما في الأحاديث الأخرى، ومنه يعلم أن الأصل هكذا: "نفي للتفضيل إذا كان غير مستند إلى دليل" كما يرشد إليه ما بعده. "د".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن} 6/ 448/ رقم 3411، وباب قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَم} 6/ 471-472/ رقم 3433، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها 7/ 106/ رقم 3769، وكتاب الأطعمة، باب الثريد 9/ 551/ رقم 5418، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين 4/ 1886-1887/ رقم 2431" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(42/423)
ص -294-…وقال للذى قال له: يا خير البرية: "ذاك إبراهيم"1.
وقال في الحديث الآخر: "أنا سيد ولد آدم"2.
وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق، وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين3 وإنما النظر في صحة التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة، وهو ثابت4 من الحديثين، وقال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"5.
وقال [ابن]6 عمر: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، 4/ 1839/ رقم 2369" عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، 4/ 1782/ رقم 2278" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 "استدراك 4".
4 أي: في كل منهما صراحة، وإن كان الأول يفيد تفضيل إبراهيم على جيمع الخلق، والثاني يفيد تفضيل خاتم الأنبياء على أولاد آدم؛ فلذا كان بينهما تعارض كما قال المؤلف. "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، 5/ 258-259/ رقم 2651"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1964/ رقم 2535" عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ولفظ البخاري: "خيركم قرني...."، ولفظ مسلم: "إن خيركم قرني..."، و"خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيه..".
6 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل ومن النسخ المطبوعة كلها، واستدركته من مصادر التخريج.(42/424)
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، 7/ 16/ رقم 3655 -والمذكور لفظه- وباب مناقب عثمان رضي الله عنه 7/53-54/ رقم 3697"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 629-630/ رقم 3707"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في التفضيل، 4/ 206/ رقم 4627، 4628".(42/425)
ص -295-…وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة، وهم عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام: "إذا اختلفتم أنت وزيد بن ثابت في شيء من القرآن1؛ فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم"2. ففعلوا ذلك.
وقال "صلى الله عليه وسلم": "خير دور الأنصار [بنو النجار ثم]3 بنو عبد الله الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفى كل دور الأنصار خير"4.
وقال: "أرحم أمتى بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من جهة الإملاء الذي ينبني على النطق لا في أصل الألفاظ، حاشا لله أن يكون ذلك في المتواترة ألفاظه لفظًا لفظًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش، 6/ 537/ رقم 3506، وكتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، 9/ 8-9/ رقم 4984، وباب جمع القرآن، 9/ 10-11/ رقم 4987".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 2807"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949/ رقم 2511" عن أبي أسيد رضي الله عنه.
5 أخرجه بهذا اللفظ الخطيب البغدادي في "الفصل للوصل" "ق102/ ب-103/ أ" من طريق إسماعيل بن علية ثنا خالد عن أبي قلابة؛ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم.... وذكره =(42/426)
ص -296-…وقال عبد الرحمن بن يزيد: "سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه؛ فقال: ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مرسلًا، ثم قال: "وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة أمين....".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 472" عن ابن علية به مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على: "أرحم أمتى بأمتي....".
وأخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" "رقم 537" عن ابن علية به مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على: "أصدق أمتي حياء عثمان".
وأخرجه أيضًا "7/ 531" -ومن طريقه مسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، 4/ 1881/ رقم 2419" عن ابن علية به مرفوعًا موصولًا مقتصرًا على: "إن لكل أمة أمينًا..."، والمتتبع لطرق هذا الحديث يجزم بيقين أن الحديث من مرسل أبي قلابة عد ذكر أبي عبيدة، وقد ظفرت بكلام جماعة من الحفاظ فيه نحو هذا؛ منهم البيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 210"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" "ذكر النوع السابع والعشرين، ص114"، والخطيب في "الفصل للوصل" "ق102/ أ"، والدارقطني في "الأفراد" "ق96/ أ- مع ترتيبه"، وأبو نعيم الأصبهاني في "الرد على الرافضي" أو "تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة" "ص112-113" - وأطلق التضعيف وأيده بكلام قوي- وابن عبد البر في "الاستعاب" "1/ 50 - مع الإصابة"، وابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" "7/ 512-513"، و"مجموعه الفتاوى" "4/ 10، 408-409 و31/ 343"، و"الفتاوى المصرية" "1/ 369 - ط دار الفكر"، ومحمد بن عبد الهادي في "جزء طرق حديث "أفرضكم زيد" "ق10/ أ- 10/ ب"- وقد فرغت من تحقيقه- وابن حجر في "فتح الباري" "7/ 93".(42/427)
وللحديث طرقا أخرى وشواهد جمعتها وخرجتها وتكلمت عليها في دراسة مستقلة، وأثبت فيها ما قررته آنفًا من أن الحديث مرسل بسياقه عد ذكر أبي عبيدة، وهي مطبوعة بعنوان: "دراسة حديث: "أرحم أمتي بأمتي...".
1: أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، 7/ 102/ رقم 3762" -وهذا لفظه- وكتاب الأدب، باب الهدي الصالح، 10/ 509/ رقم 6097".
وكتب "د" معرفًا بابن أم عبد: "وهو عبد الله بن مسعود".(42/428)
ص -297-…ولما حضر معاذا الوفاة، قيل له: "يا أبا عبد الرحمن! أوصنا. قال: أجلسوني. قال: إن العلم والإيمان مكانهما؛ من ابتغاهما وجدهما" يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهط، عند عويمر1 أبي الدرداء وعند سلمان2 الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام... "3 الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر"4.
وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح، وإذا كان كذلك؛ فهو القانون اللازم والحكم المنبرم الذى لا يتعدى إلى سواه، وكذلك فعل السلف الصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل بياض.
2 في الأصل سليمان.
3 أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" "1/ 73" -وهو "الاوسط" على التحقيق- والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، 5/ 671/ رقم 3804" -واللفظ له- والنسائي في "فضائل الصحابة" "149"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 86"، والفسوي في "المعروفة والتاريخ" "1/ 467-468" - ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" - والحاكم في "المستدرك" "3/ 416" من طريقين عن زيد ابن عميرة؛ قال: لما حضر... به، وتمته: "الذي كان يهوديًا فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة".
وإسناده حسن، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال: قال الحاكم: "صحيح الإسناد".
وأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 550"، والخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 298 - بتحقيقنا", وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" من طرق ضعيفة عن معاذ به.
4 مضى تخريجه في التعليق على "4/ 456".(42/429)
ص -298-…فصل:
وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم، وعمروا بذلك دواوينهم، وسودوا به قراطيسهم؛ حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم؛ فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا وتنزيه1 الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده، بل أتى الوادي فطم على القرى؛ فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال؛ فنظموا فيه ونثروا، وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة والسلام وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء، ولكن2 مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها، وهو خروج عن الحق، وقد علمت السبب في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تفضلوا بين الأنبياء"3، وما قال الناس فيه؛ فإياك والدخول في هذه المضايق؛ ففيها الخروج عن الصراط المستقيم4.
وأما الترجيح الخاص؛ فلنفرد له مسألة [على حدة]، وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": و"ترجيح".
2 في "ط": "لكن" بإسقاط الواو، ويشير المصنف في كلامه السابق إلى ما أثير في عصره -واستمر إلى القرن العاشر- من المفاضلة بين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام؛ وذكر نحوه ابن القيم في "جلاء الأفهام". وانظر: "الإشارات" "رقم 820 - بقلمي".
3 مضى تخريجه "ص290".
4 انظر كلام المصنف المتقدم في آخر المسألة السادسة من النوع الأول من المقاصد.(42/430)
ص -299-…المسألة الرابعة:
وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين:
أحدهما: من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند1 مقتضى فتواه؛ فهو متصف بأوصاف العلم، قائم معه مقام الامتثال التام؛ حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال، كما كان رسول الله عليه وسلم يؤخذ العلم من قوله وفعله وإقراره.
فهذا القسم إذا وجد؛ فهو أولى ممن ليس كذلك، وهو القسم الثاني وإن كان في أهل العدالة مبرزًا؛ لوجهين:
أحدهما: ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله؛ فوعظه أبلغ، وقوله أنفع، وفتواه أوقع2 في القلوب ممن ليس كذلك؛ لأنه الذى ظهرت ينابيع العلم عليه، واستنارت كليته به، وصار كلامه خارجا من صميم القلب3، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، ومن كان بهذه الصفة؛ فهو من الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، بخلاف من لم يكن كذلك؛ فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ، حسبما حققته التجربة العادية.
والثاني4: أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول، كما تقدم بيانه أيضًا؛ فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب، وانقادت له بالطواعية النفوس، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام وإن كان فضله ودينه معلومًا، ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة؛ الفائدة أو عدم زيادتها فمن زهد الناس في الفضول التى لا تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها؛ فتزهيده أنفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "على".
2 في "ط"ك "أرفع".
3 في "ط": "قلبه".
4 يحتاج إلى الفرق بين هذا الوجه وسابقه. "د".(42/431)
ص -300-…من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها، فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله.
فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة؛ فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله.
والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي، فإذا طابق فيهما؛ [فهو الكمال، فإن تفاوت الأمر فيهما]1 -أعني فيما عدا شروط العدالة- فالأرجح المطابقة في النواهي، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يرتكب منهيا عنه، لكنه في الأوامر ليس كذلك، والآخر مثابر على أن لا يخالف2 مأمورا به، لكنه في النواهي على غير ذلك؛ فالأول أرجح في الاتباع من الثاني؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه:
أحدها: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم.
والثاني: أن المناهي تمتثل3 بفعل واحد وهو الكف؛ فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة، وأما الأوامر؛ فلا قدرة للبشر على فعل جميعها، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح؛ فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق، بخلاف [فعل] بعض النواهي، فإنه مخالفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 أي: بقدر ما في قدرته كما تقدم له، وكما يأتي في قوله بعد: "فلا قدرة للبشر على فعل جميعها... إلخ. "د".
3 في "م": "تمثل".(42/432)
ص -301-…في الجملة؛ فترك النواهي أبلغ في تحقيق1 الموافقة.
الثالث: النقل؛ فقد جاء في الحديث: "فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا، وإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم"2، فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر، حيث حتم في المناهي من غير مثنوية، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تحقق".
2 مضى تخريجه "1/ 256".(42/433)
ص -302-…المسألة الخامسة:
الاقتداء بالأفعال الصادرة من1 أهل الاقتداء يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون المقتدى به بالأفعال2 ممن دل الدليل على عصمته كالاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعل أهل الإجماع أو ما يعلم3 بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ؛ كعمل4 أهل المدينة على رأي مالك.
والثاني: ما كان بخلاف ذلك.
فأما الثاني؛ فعلى ضربين:
أحدهما: أن ينتصب بفعله ذلك؛ لأن يقتدي به قصدًا؛ كأوامر الحكام ونواهيهم، وأعمالهم في مقطع الحكم، من أخذ وإعطاء ورد وإمضاء، ونحو ذلك أو5 يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدًا به واهتماما بشأنه دينا وأمانة.
والآخر: أن لا يتعين فيه شيء من ذلك.
فهذه أقسام ثلاثة، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الاقتداء.
فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذى أوقعه6 عليه المقتدي به، لا يقصد به إلا ذلك سواء عليه أفهم مغزاه أم لا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "عن".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالأفعال".
3 واقعة موقع "من"؛ فهو داخل فيمن الدليل على عصمته. "د".
4 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "وعمل"، وكتب "ف": "لعله: "كعمل أهل المدينة"، والمثبت من "د".
5 صنف آخر من أحد الضربين، وقوله: "والآخر.. إلخ" هو الضرب الثاني؛ فلا هو ممن دل الدليل على عصمته، ولا هو ممن انتصب للاقتداء أو تعيين قصده؛ فلذا كانت الأقسام ثلاثة فقط. "د". وفي "ط": "ويتعين".
6 كذا في "ط" و"ماء"، وفي "م": دلة"، وفي "م" و"ف": وقعه".(42/434)
ص -303-…من غير زيادة، أو يزيد عليه تنوية1 المقتدى به في الفعل أحسن2 المحامل مع احتماله في نفسه؛ فيبني في اقتدائه على المحمل الأحسن، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ويفرع عليه المسائل.
فأما الأول؛ فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون، كما اقتدى3 الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة؛ كنزع الخاتم الذهبي4، وخلع النعلين في الصلاة5، والإفطار في السفر6، والإحلال من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م": "تنويه" بهاء في آخره، وفي "د" و"ط": "تنوية" بتاء مربوطة، وكتب "ف" هنا ما نصه: "من نواه بالتشديد: جعله ينوي، والمراد هنا حمله على أن المقتدي به قصد بفعله أحسن الوجوه، أو لعله الميم، بالميم؛ أي: كون المقتدي به مصيبًا بفعله أحسن المحامل، يقال: رجل منوي؛ بفتح الميم، وسكون النون: إذا كان يصيب النجعة المحمودة".
2 وهو أن يكون فعله تعبدًا، مع احتماله أن يكون دنيويًا، وقد يقال: إنه في صورة فهم مغزاه وسره الشرعي، يتعين فيه أن يكون فاهمًا فيه التعبد من المعصوم لعدم التنوية المذكورة إنما يظهر فيما لم يفهم مغزاه. "د".
3 فإن قيل: وهل اقتداؤهم به صلى الله عليه وسلم في مثل الإفطار في السفر والإحلال من العمرة كان مجردًا من تنويتهم له صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك تعبدًا، وإنما فعلوه لمجرد أنه فعله من غير زيادة حتى يصح عده من القسم الأول؟ قلنا: إن محل الفرق بين القسمين قوله: "مع احتماله في نفسه" في الثاني، وهذه الأمثلة ليست مما يحتمل في نفسه لأنها متعينة للتعبد؛ فاتضح كلامه. "د".(42/435)
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب خواتيم الذهب، 10/ 315/ رقم 5865، وباب ختم الفضة 10/ 318/ رقم 5866، 5867" عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال بألفاظ أحدها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمًا من ذهب؛ فنبذه فقال: "لا ألبسه أبدًا". فنبذ الناس خواتيمهم.
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو دواد في "سننه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل 1/ 175/ رقم 650" -وهذا لفظه، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 431"- والدارمي في "السنن" "1/ 320"، وأحمد في "المسند" "3/ 20، 92"، والطيالسي في "المسند" "رقم 2154"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 260"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ =(42/436)
ص -304-…العمرة عام الحديبية1، وكذلك أفعال الصحابة التى أجمعوا عليها2، وما أشبه ذلك.
وأما الثاني3؛ فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن4 انضباط المقصد، ولكن الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا في الاقتداء؛ لأمور:
أحدها: أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال5 قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل.
فالاحتمال الذى عينه المقتدي لا يتعين، وإذا لم يتعين لم [يكن ترجيحه]6 إلا بالتشهي، وذلك مهمل في الأمور الشرعية؛ إذ لا ترجيح إلا بمرجِّح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 402، 431" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؛ قال: @"ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني، فأخبرني أن فيها قذرًا"، وقال: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى؛ فليمسحه، وليصلِّ فيهما".
وإسناده صحيح، صححه النووي في "المجموع" "2/ 179، 3/ 132، 156"، وشيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 284".
6 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88".
1 مضى لفظه وتخريجه "ص264".
2 كصلاة التراويح جماعة في المسجد. "د".
قلت: مضى تخريج ذلك "4/ 423".
3 وهو زيادة نية التعبد. "د".
4 فإذا لم يمكن؛ فلا وجه للاختلاف فيه، بل يتعين إلغاؤه. "د".
5 أي: وهو احتمال قوي لا يصح إهماله بمجرد تحسين المقتدي الظن بأن المقتدى به فعله على الوجه الأفضل وهو التعبد، وإلغاؤه بدون دليل ترجيح الاحتمالين بمجرد التشهي. "د".
6 كذا في "ط"، وبدله في جميع النسخ: "يترجح".(42/437)
ص -305-…ولا يقال: إن تحسين الظن مطلوب على العموم؛ فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من1 ثبتت عصمته؛ لأنا نقول: تحسين الظن بالمسلم -وإن ظهرت مخايل2 احتمال إساءة الظن فيه- مطلوب3 بلا شك؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن} الآية [الحجرات: 12].
وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} الآية [النور: 12].
بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم كما أمر4 باعتقاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما هو الفرض في هذا القسم. "د".
2 بالياء: جمع مخلية؛ كمعايش، ومعيشة. "ف".
3 في الأصل: "مطلوبه".(42/438)
4 أداة الطلب الموجه إلى القول في الآيتين واحدة، وهي: "لولا"، كما أنها موجهة إلى ظن الخير بالمؤمنين والمؤمنات في الأولى؛ فالمطلوب في الأولى أن يظنوا الخير بأهل الإيمان، وأن يقولوا: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، وفي الثاني أن يُكَذِّبوا ما سمعوا، ويهولوا عليه ويقولوا: "سبحان الله!"؛ أي: تنزه عن أن يَصِمَ نبيه ويشينَه؛ لأن فجور الزوجة ينفر القلوب من زوجها، وأن يقولوا: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وعليه؛ فلا يظهر وجه لما قيل*: "إن موضع الأمر قوله: لولا إذ سمتعتموه، وذكر الأول؛ لتعلقه به"، ويبقى الكلام في أن طلب الجزم في قولهم: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]، و{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم} [النور: 16] من باب طلب القول والاعتقاد لما يعلم أو ما لا يعلم، قال بالأول الفخر، والعلامة الثاني؛ لأن الأنبياء معصومون من كل منفر، وهذا منه كما أشرنا إليه، واستشكل بأن هذا لو كان شرطًا عقليًا في النبوة؛ لما خفي عليه صلى الله عليه وسلم ولما سألها؛ فقال: "إن كنتِ ألممت بذنب؛ فاستغفري الله، وتوبي إليه..." إلخ**، وأجيب بأجوبة، واختار الآلوسي*** أن هذا من مجرد الظن بخيرة المؤمنين؛ فراجعه. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المذكور قول "ف".
** قطعة من حديث الإفك الطويل، ومضى تخريجه "2/ 422".
*** في "تفسيره" "18/ 120-121".(42/439)
ص -306-…ما لا يعلم في قوله: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12].
وقوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
ومع ذلك؛ فلم يبْن عليه حكم شرعي، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك [بـ] مجرد هذا التحسين؛ حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب.
فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم، ولم يكن كل مسلم عدلًا [عند المحسِّن] بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية1؛ دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر، وإذا لم يثبته لم ينبنِ عليه حكم، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك؛ فلا ينبني عليها حكم.
ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلًا يُحتمل أن يكون دينيًا تعبديًا، ويُحتمل أن يكون دنيويًا راجعا إلى مصالح الدنيا، ولا قرينة تدل على تعين أحد الاحتمالين؛ فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني [لا الدنيوي] بناء على تحسينه الظن به.
والثاني: أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلًا، وهو مأمور به مطلقا وافق ما في نفس الآمر أو خالف؛ إذ لو كان يستلزم2 المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقًا، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الآمر، وليس كذلك باتفاق فلا يستلزم المطابقة، وإذا ثبت هذا؛ فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه لا على أمر3 حصل لذلك المقتدى به، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "والتزكية".
2 في "ط": "ويلتزم".
3 وهو قصده في الواقع بهذا الفعل التعبد، وقوله: "على ما عند المقتدى به"؛ أي: كما يقتضيه معنى الاقتداء. "د".(42/440)
ص -307-…عند المقتدى به؛ فأدَّى إلى بناء الاقتداء على غير شيء، وذلك باطل، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته؛ فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا1، وإياه قَصَد المقتدي باقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة2.
والثالث3: أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض؛ لأنه إنما يُقتدَى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنًّا مثلًا، ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنًا، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر، وقد فرضنا أنه كذلك، هذا خلف متناقض.
وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن، والفرق بينهما ظاهر؛ لأمرين:
أحدهما: أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية، بخلاف تحسين الظن؛ فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أو لا.
والثاني: أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة4 لا انفكاك للمكلف5 عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": و"ظنًّا".
2 أي: للتعبد كما في الصنف الأول من هذا القسم. "د".
3 هذا الوجه لازم لما قبله، ولو قال عقب قوله: "فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء"، ويلزمه أيضًا التناقض؛ لصَحَّ؛ لأن مقدمات هذا الوجه هي محصل مقدمات الوجه الثاني. "د".
4 كما قالوه في لزوم النتيجة للدليل. "د".
5 في "ط": "لانفكاك المكلف".(42/441)
ص -308-…قوَّاه وثبتَهُ بتكراره في فكره ووعظ النفس في اعتقاده، وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه، وكرر نفيه على فكره، ومحاه عن ذكره.
فإن قيل: إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميلُ إلى الأمور الأخروية، والتزود للمعاد، والانقطاع إلى الله، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله؛ فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان.
فالجواب: أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي؛ فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله، ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره، والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه، وفرض مسألتنا ليس هكذا، بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل1 متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ليس [له]2 في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته؛ فمثل هذا له في هذه الدار حالان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/442)
1 لتكن على ذكر من أصل الموضوع، وهو أن المتقدى به ممن دل الدليل على عصمته كالنبي صلى الله عليه وسلم أو فعل أهل الإجماع، لا فعل واحد منهم، بل فعل صدر من جمع يتحقق منهم الإجماع الشرعي، أو صدر من جماعة يقوم الدليل على أنهم لا يتواطئون على الخطأ؛ كعمل أهل المدينة، فالفعل المقتدى فيه فيما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون عمل فرد ولا جماعة لا يتحقق فيهم ما ذكر؛ فتمثيله برجل... إلخ هنا وفيما يفهم من أصل السؤال بعيد عن أصل الفرض، ومحتاج تطبيقه على أصل الموضوع إلى تكلفات، وإنما يتضح التمثيل فيما يأتي له بعد بالأفعال الجبلية بالنسبة له صلى الله عليه وسلم من حيث تحسين الظن بأن أفعاله مصروفة إلى الآخرة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "م".(42/443)
ص -309-…- حال دنيوي، به يقيم معاشه ويتناول ما مَنَّ الله به عليه من حظوظ نفسه.
- وحال أخروي، به يقيم أمر آخرته.
فأما هذا الثاني؛ فلا كلام فيه، وهو متعين في نفسه، وغير محتمل إلا في القليل، ولا اعتبار بالنوادر.
وأما الأول؛ فهو مثار الاحتمال، فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه، فإذا عمله ولم يُدرَ وجه أخذه؛ فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا له به؛ فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به، ليس له أصل يبني عليه؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه؛ فلا يصادف قصد المقتدي محلا، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا به، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام.
بل نقول: إذا وقف المقتدى به وقفة، أو تناول ثوبه على وجه، أو قبض [على] لحيته في وقت ما، أو ما أشبه ذلك؛ فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلًا؛ كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين؛ فمثل هذا هو المراد بالمسألة.
وكذلك إذا كان له درهم مثًلا، فأعطاه صديقًا له؛ لصداقته1، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به؛ فيقول المقتدي: حسن الظن به يقتضى أنه [كان] يتصدق به، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا لفقر مثلًا. "د".(42/444)
ص -310-…الأخروي؛ فيجيء1 منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية.
وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث: "واختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة"2، فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة؛ إذ كان إنما يدعو3 بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا.
فإذا بنينا على ما تقدم4؛ فلقائل أن يقول: إن ما قاله غير متعين؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء، وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له، ويتعين ذلك في أمور؛ كحبه للنساء، والطيب5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يفرع عليه جواز ذلك، ولا بد له أن يجعل في طي حسن ظنه أنه إنما أعطاه لصديقه ليتصدق به؛ حتى يتم له الاستنباط. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة 11/ 96/ رقم 3604، وكتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة 13/ 447/ رقم 7474"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 1/ 188-190/ رقم 198" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي؛ شفاعة لأمتي في الآخرة". لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6305"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 210" عن أنس نحوه.
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 201" عن جابر مرفوعًا، وفي آخره: "وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
3 أي: فحسن الظن به صلى الله عليه وسلم أنه يدعو بها لأمر أخروي؛ فآثر أمته عن نفسه في أمر أخروي. "د".
4 وهو أن الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا للأدلة السابقة، فلنا أن نردَّ ما لحظه هذا البعض؛ فنقول: إن ما قاله... إلخ. "د".
5 مضى بيان ذلك وتخريجه في "2/ 240".(42/445)
ص -311-…والحلواء، والعسل، والدباء1، وكراهيته للضب2، وأشباه ذلك، وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له3، وهو منقول كثيرًا.
ووجه ثانٍ4 وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور كثيرة دنيوية؛ كاستعاذته من الفقر، والدين، وغلبة الرجال، وشماتة الأعداء، والهم وأن يرد إلى أرذل العمر5، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل، ويدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى بيان حبه صلى الله عليه وسلم للحلواء والعسل وتخريجه في "1/ 185"، وأما حبه صلى الله عليه وسلم للدباء؛ فأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 5379، 5420، 5535، 5437" عن أنس رضي الله عنه.
2 مضى بيان ذلك وتخريجه في "4/ 115".
3 مضى بيان ذلك وتخريجه في عدة أحاديث. انظر "1/ 469-470، 523".
4 مغايرة هذا الوجه لما قبله من حيث إنه في هذا وقع الدعاء فعلًا بأمور دنيوية، وفيما قبله أنه بحيث لو وقع؛ لكان مقبولًا؛ لما ثبت أنه كان يميل إلى بعض أمور دنيوية ولا حجر عليه في طلبها. "د".
5 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها:
ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من غزا بصبي للخدمة 6/ 86/ رقم 2893" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره 4/ 2079/ رقم 2706" عن أنس؛ قال: كنت قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال".(42/446)
وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب ما يتعوذ من الجبن 6/ 36-37/ رقم 2822" عن ميمون الأودي: قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". فحدثت به مصعبًا؛ فصدقه.
وما أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب السهو، باب التعوذ في دبر الصلاة 3/ 73-74" -وهذا لفظه- وأحمد في "المسند" "5/ 36، 39، 44"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 110" بسند صحيح على شرط مسلم عن مسلم بن أبي بكرة؛ قال: كان أبي يقول =(42/447)
ص -312-…عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله: "لكل نبى دعوة مستجابة في أمته"1 على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم، وهو الدعاء عليهم؛ كقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، حسبما نقله المفسرون2، وكان من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في دبر الصلاة، "اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر". فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني! عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر الصلاة.
وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء 11/ 513/ رقم 6616" عن أبي هريرة مرفوعًا: "تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "أيضًا في "كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء 11/ 148/ رقم 6347" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الاعداء".
وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب من التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره 4/ 2080/ رقم 2707".
1 هو صدر الحديث السابق، وسيأتي الكلام على قوله في "أمته" من جهة الرواية ومن جهة المعنى. "د".(42/448)
2 ذهب ابن العربي في "أحكامه" "4/ 1861" -وتبعه القرطبي في "تفسيره" "18/ 313"- إلى أن دعاء نوح عليه السلام على قومه كان "غضبًا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك"، ولم يبين هنا هل استجيب لنوح أم لا، وبينه في مواضع أخر، منها قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَه} وكذلك في قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، بقى الدليل الذي يعين أن دعوت عليه السلام المستجابة هي المذكورة، لم أظفر بأحد من المفسرين تعرض لذلك، وذلك على خلاف قول المصنف، وقد نظرت في تفسير الآية عند الزمخشري، والآلوسي، والبقاعي، وابن كثير، والجلالين، وحواشيه، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، والقاسمي، والشنقيطي، ولكن سيأتي أن في رواية مسلم: "دعاها لأمته"، و"مستجابة في أمته"، وهذا يرجح ما ذكره المصنف هنا.(42/449)
ص -313-…الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة؛ فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط، فكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعين فيها أمر الآخرة البتة؛ فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم.
أمر ثالث1: وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل2؛ لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام، كان من أفعال الجبلة الآدمية أو لا؛ إذ يمكن أن يقال: إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصًا، وليس كذلك عند العلماء، بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصًا3 بالدنيا إلا ما بين أنه راجع إلى الدنيا؛ لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به4، وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضًا؛ فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة، فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت5، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه.
مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة؛ لقوله فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا يصلح دليلًا لأصل الموضوع، وهو أن الصواب عدم الاعتداد بالمحتمل في الاقتداء؛ فيكون رابع الأدلة الثلاثة المتقدمة. "د".
2 أي: المجيز للاقتداء تحسين الظن الذي بني عليه الإيثار في أمور الآخرة. "د".
3 أي: متعينًا لها غير محتمل. "د".
4 لعله قد سقطت هنا جملة المشبه به، والأصل: "فما بين رجوعه إلى الآخرة؛ فهو أخروي، وكذلك.... إلخ"، وقوله: "فلا يحصل... إلخ" مبني على تمهيد مطوي، حاصله أن ما لم يبين جهته هو الغالب والكثير، وقوله: "وذلك خلاف... إلخ" في قوة الاستثنائية القائلة: وذلك باطل. "د".
5 طبق قوله سابقًا: "الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا". "د".(42/450)
ص -314-…"لكل نبي دعوة مستجابة في أمته"1؛ فليست مخصوصة به، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذى ذكره؛ لأن الإيثار ثانٍ عن قبول الانتفاع في2 جهة المؤثر، وهنا ليس كذلك.
والقسم الثاني إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه؛ فلا شك في3 صحة الاقتداء؛ إذ لا فرق بين تصريحه4 بالانتصاب للناس وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك، وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك، بالقرائن الدالة على ذلك؛ فهو موضع احتمال:
فللمانع أن يقول: إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ والنسيان والمعصية5 قصدا، وإذا لم يتعين وجه فعله6؛ فكيف يصح الاقتداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه في "ص310"، وأفاد "د" أنه في "صحيح مسلم" بروايات منها روايتان قريبتان في المعنى مما يرويها المؤلف، إحداهما: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته"، والأخرى: "دعاها لأمته"، وعلى هاتين يتمشى كلام المؤلف؛ أما على رواية البخاري وروايات مسلم الأولى؛ فيمكن استنباط الإيثار الذي قاله بعضهم، لولا الاحتمال الذي ذكره المؤلف سابقًا من أنه لا مانع أن يدعو بها في أمور ديناه؛ فلا يكون في أمور الآخرة متعينًا حتى يستدل به على الإيثار المذكور، وإلى ما فصلناه أشار المؤلف بقوله: "كما تقدم"، أي أنه بالرواية المتقدمة لا معنى للاستدلال به على الإيثار رأسًا، يعني: وما قررناه أولًا مقطوع فيه النظر عن هذه الرواية، ومصروف إلى الروايات الأخرى التي لم تصرح بما يقتضي أن الدعوة مختصة بأمته.
2 في "ط": "مَن".
3 في "ط": "إشكال".
4 أي: لا فرق بين ما بعد كالتصريح القولي بسبب الانتصاب المذكور، وهو فعله في مقطع الحكم من أخذ ورد... إلخ، وبين تصريحه اللفظي بحكم الفعل من إذن ومنع مثلًا، وإنما أولنا كلمة "التصريح" بهذا؛ لأن موضوع المسألة الاقتداء بفعله. "د".
قلت: انظر صحة الاقتداء بالحاكم في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "30/ 407".(42/451)
5 هذا في الحقيقة لا داعي إليه في الدليل، ويكر بالإبطال على الأقوال نفسها وعلى أفعال المنتصب اللذين سلمنا فيها بصحة الاقتداء، ويرشح ما قلناه قوله بعد: "ولعله فعله ساهيًا"، ولم يقل: أو عاصيًا. "د".
6 إلا بقرائن قد لا تصدق؛ كما هو موضوع كلامه. "د".(42/452)
ص -315-…قصدا في العبادات أو في العادات؟ ولذلك حكي عن بعض السلف1 أنه قال: "أضعف العلم الرؤية، يعنى: أن يقول رأيت فلانا يعمل كذا، ولعله فعله ساهيًا".
وعن إياس ابن معاوية: "لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سَلْهُ يصدقْك"2.
وقد ذم الله تعالى الذين قالوا3: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية [الزخرف: 22].
وفى الحديث من قول المرتاب: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته"4. فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس أو هو قريب منه.
وللمجيز أن يقول: إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام5، وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك -ولا سيما في العبادات، ومع التكرار أيضًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عطاء، وأورد نحوه عنه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 778/ رقم 1448"، ونصه: "وأضعف العلم: علم النظر، أن يقول الرجل: رأيت فلانًا".
2 أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" "1/ 350"، وابن شبة كما في "تهذيب الكمال" "3/ 433".
3 أي: الذين قلدوا من ليس أهلًا، وفي الحديث لفظ: "الناس"؛ أي: مطلق الناس الذين لا يقلدون، فتقليد من ليس أهلًا المنفي عليه في الآية، والحديث يشبهه تقليد العالم في الفرض المذكور، وليس التقليد بعمومه مذمومًا كما تدل عليه تلك المسائل الأصولية. "د".
4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب الصلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/ رقم 1053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في "الموطأ" "1/ 188-189" عن أسماء رضي الله عنها".
5 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 312-313 و13/ 310-326"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص518"، و"البحر المحيط" للزركشي "1/ 76، 82 و5/ 276 و6/ 285".(42/453)
ص -316-…وهو من أهل الاقتداء بقوله؛ فالاقتداء بفعله كذلك.
وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم: "إنه جائز"1، واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه، قال2: "وأراه كان يتحراه"؛ فقد استند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذهب الجمهور إلى كراهته، وقال عياض: "لعل قول مالك يرجع إليه؛ لأن مذهبه كراهة تخصيص يوم معين بالصيام" وأشار الباجي في "المنتقى" "2/ 76" إلى احتمال أنه قول آخر له، وقال الداودي: "لم يبلغه الحديث، ولو بلغه ما خالفه"، قال الأبي: "فالحاصل أن المازري والداودي فهما من "الموطأ" الجواز، وعياض رده إلى ما علم من مذهبه من كراهته تخصيص يوم معين بالصوم، وعضده بما أشار إليه الباجي؛ هذا وأكثر الشيوخ يحكي عن مالك الجواز، ولكن بناؤه على ما قال المؤلف بعيد، فإنه روي عن ابن مسعود أنه "كان صلى الله عليه وسلم، يصوم من كل شهر ثلاثة ايام، وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة"*، وعن ابن عمر: "ما رأيته [صلى الله عليه وسلم] مفطرًا يوم الجمعة قط"**، ويكون قوله: "لم أسمع أحدًا من أهل العلم ينهى عنه"، وقوله: "وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه... إلخ" من باب الترشيح والتقوية لهذه الأحاديث؛ لا أن عمل بعض أهل العلم هو الدليل المسقط لحكم الحديث الصحيح كما يقول المؤلف، يراجع: "الزرقاني على الموطأ" "2/ 203". "د".
قلت: انظر أيضًا: "الاستذكار" "10/ 260-264"، و"مصنف ابن أبي شيبة" "3/ 46"، و"الشرح الصغير" "1/ 694" للدردير.
2 عبارته في "الموطأ" "كتاب الصيام، باب جامع الصيام 1/ 311 - رواية يحيى" هذا =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/454)
* أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 742 "، وأبو دواد في "السنن" "رقم 2450" -دون: "وقلما..."، والنسائي في "المجتبى" "4/ 204"، وأحمد في "المسند" "1/ 406"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 3129"، وإسناده صحيح، وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 260".
** أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" "3/ 46" بإسنادٍ ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم.(42/455)
ص -317-…إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه عليه الصلاة والسلام عن إفراد يوم الجمعة بالصوم.
فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذى يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة؛ فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به، وتحريه إياه دليل2 على عدم السهو والغفلة، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به، وجهة فعله، فصَحَّ الاقتداء.
والقسم الثالث: هو3 أن لا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل، فإن قلنا في القسم الثاني بعدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نصها: لم اسمع أحدًا من أهل العلم والفقه، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 261" في تحديد "بعض أهل العلم": "وأما الذي ذكره مالك؛ فيقولون: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: إنه صفوان بن سليم".
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها:
- ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة 4/ 232"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردًا 2/ 801/ رقم 1143" عن محمد بن عباد؛ قال: "سألت جابرًا رضي الله عنه: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم". زاد بعض الرواة: "يعنى: أن ينفرد بصومه". لفظ البخاري.
- وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده".
2 خبر قوله: "وتحرِّيه". "د".(42/456)
3 في "ط": "وهو".(42/457)
ص -318-…صحة الاقتداء؛ فههنا أولى، وإن قلنا بالصحة؛ فقد ينقدح فيه احتمال، فإن قرائن التحري للفعل [هنالك]1 موجودة؛ فهي دليل يتمسك به في الصحة2.
وأما ههنا، فلما فقدت قوى احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما، هذا مع اقتران الاحتياط على الدين؛ فالصواب والحالة هذه منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها، ويتمكن قول من قال3: "لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقْك" ونحوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ماء" و"ط".
2 أي: في القسم الثاني. "د".
3 هو إياس بن معاوية كما تقدم قريبًا "ص315".(42/458)
ص -319-…المسألة السادسة:
قد تقدم1 أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة:
أما الحال الأول؛ فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد، فإذا كان اجتهاده غير معتبر؛ فالاقتداء به كذلك لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر، ولأنه عرضة لدخول العوارض2 عليه من حيث لا يعلم بها فيصير عمله مخالفا فلا يوثق بأن عمله صحيح فلا يمكن الاعتماد عليه.
وأما الحال الثالث؛ فلا إشكال في صحة استفتائه، ويجري الاقتداء بأفعاله، على ما تقدم في المسألة قبلها.
وأما الحال الثاني؛ فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه3، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله؛ فاستفتاؤه3 جارٍ على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته.
وأما الاقتداء بأفعاله؛ فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر.
هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال، فإن كان صاحب4 حال وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثالثة عشرة من الطرف الأول في الاجتهاد.
2 أي: من شأنها أن تدخل النقص والخلل في أعماله، وذلك كدواعي الهوى والانحراف عن قصد الدليل وغير ذلك. "د".
3 في "ط": "استيفائه.. فاستيفاؤه".
4 ليس خاصًا بالحالة الثانية، بل عام لكل من صح اجتهاده، واستفتاؤه كان من ذوي الحالة الثانية أو الثالثة. "د".(42/459)
ص -320-…ممن يستفتى؛ فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا، وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا؟
كل هذا مما ينظر فيه، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال؛ فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق؛ إما لسائق الخوف، أو لحادي الرجاء، أو لحامل المحبة؛ فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه؛ فليس لهم عن الأعمال فترة، ولا عن جد السير راحة، فمن كان بهذا الوصف؛ فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته؟!
وأيضًا؛ فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم؛ فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة1 عن حمل تلك الأعباء، أو مريض العزم في
قطع مسافات النفس، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية، أو راض بالأوائل عن الغايات؟!
فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال، وإن تطوقوا ذلك زمانًا؛ فعما قريب ينقطعون2، والمطلوب الدوام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لن يمل حتى تملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القوة، وتقدمت. أما "ماء"؛ ففيها: "الهمة".
2 كما في حديث الترمذي الصحيح: @"إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة"، والشرة: النشاط والرغبة. "د".
قلت: مضى تخريجه الحديث "3/ 522".
3 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو صحيح.(42/460)
ص -321-…وقال: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل"1.
وأمر2 بالقصد في العمل وأنه مبلغ، وقال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"3.
وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد4 خوفا من الانقطاع، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].
ورفع عنا الإصر الذى كان على الذين من قبلنا، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال؛ لم يَلِقْ أن ينتصبوا منصب الاقتداء وهم كذلك، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم وغير مخوف عليه الانقطاع؛ فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل، وهذا المقام قد عرفه أهله، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه.
وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل؛ فيحتمل تفصيلًا، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال، أو لا؛ فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو بقية الحديث السابق.
2 كما في حديث: "سددوا وقاربوا"، وهو صحيح، ومضى تخريجه "2/ 208".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 10/ 449/ رقم 6024، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6395"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة رضي الله عنها.
والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، تقدم منها ما يفي بالغرض، وانظر غير مأمور: "1/ 522".(42/461)
ص -322-…أعماله، والغالب فليه أنه يفتي بما يقتضيه حاله، لا بما يقتضيه حال السائل، وإن كان الثاني ساغ ذلك لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال؛ إذ ليس مأخوذًا فيه.(42/462)
ص -323-…المسألة السابعة:
يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه.
قال مالك بن أنس1: "ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم. فقيل له: يا أبا عبد الله! والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك. قال: فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا؟ قال الراوي: فرأيت في النوم قائلا يقول: مالك معصوم".
وقال2: "إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن".
وقال3: "ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي".
وكان4 إذا سئل عن المسألة قال للسائل: "انصرف حتى أنظر فيها". فينصرف ويردد فيها، فقيل له في ذلك؛ فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم".
وكان إذا جلس؛ نكس رأسه، وحرك شفتيه يذكر الله ولم يلتفت يمينًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 144 - ط بيروت": "قال عبد الرحمن العمري: قال لي مالك... "وذكره"، وفيه: "كنقش في الحجر"، و"أن يكون كذا"، وفي "ط": "نقش".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال: ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول... "وذكره".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": "قال ابن مهدي: سمعت مالكًا يقول... "وذكره"، وفيه: "... المسألة فأسهر فيها عامة ليلي".
4 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا... وذكره"، وفيه: ".... ويتردد فيها؛ فقلنا... شفتيه بذكر... وكان أحمر فيصفر".(42/463)
ص -324-…ولا شمالا، فإذا سئل عن مسألة؛ تغير لونه -وكان أحمر- فيصفر، وينكس رأسه ويحرك شفتيه، ثم يقول: "ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"، فربما سئل عن خمسين مسألة؛ فلا يجيب منها في واحدة، وكان يقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب.
وقال بعضهم1: "لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة؛ واقف بين الجنة والنار".
وقال2: "ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذى بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا؛ فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم".
قال3: "ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يُقتدى بهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144"، وفي "د": "مسألة والله".
2 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144-145"، وفيه: ".... كأن هذا هو.. وعلقمة -وهو خطأ- خيار الصحابة..... تتردد عليهم المسائل. ويسألون حينئذ ثم.......".
3 نقله عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وفيه: "مضى ولا من سلفنا... ويعول... أكره كذا وأحب...".
وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1075/ رقم 2091"؛ قال: "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول.... "وذكر نحوه".(42/464)
ص -325-…ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأرى كذا وأما حلال وحرام؛ فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} الآية [يونس: 59]؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرماه".
قال موسى بن داود1: "ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول: "لا أحسن" من مالك، وربما سمعته يقول: "ليس نبتلى بهذا الأمر، ليس هذا ببلدنا"، وكان2 يقول للرجل يسأله، اذهب حتى أنظر في أمرك، قال الراوي: فقلت: إن الفقه من باله3 وما رفعه الله إلا بالتقوى.
وسأل4 رجل مالكا عن مسألة -وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب- فقال له: أخبر الذى أرسلك أنه لا علم لي بها. قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب؛ فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقله عنه عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وليس فيه: "ليس نبتلى بهذا الأمر".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 145": "قال مروان بن محمد: كنت أرى مالكًا يقول للرجل... "وذكره"، وفيه: "من بابه".
3 أي معروف عنده، ولكنه لورعه يريد التثبت، وهذا نوع من التقوى الموجبة لرضى الله عن عبده ورفعه في أعين خلقه. "د".
4 في "ترتيب المدراك" "1/ 145-146": "قال ابن مهدي: سأل رجل مالكًا"... و"ذكره"، وفيه: "تكلم بها ولكن... جاءه.... بغلة يقودها...".
وأسنده إلى ابن مهدي ابنُ أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" "ص18"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 174"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 838/ رقم 1573":، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 816"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 323" بألفاظ متقاربة.(42/465)
ص -326-…أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي! فقال: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله! تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك. فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن". وسأله آخر1 فلم يجبه، فقال له: "يا أبا عبد الله أجبني. فقال: ويحك، تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك".
وسئل2 عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها" "لا أدري".
وسئل3 من العراق عن أربعين مسألة؛ فما أجاب منها إلا في خمس.
وقد4 قال ابن عجلان: "إذا أخطأ العالم "لا أدري"؛ أصيبت مقاتله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 146"، وفيه: "أتريد أن..." ونحوه في "المعرفة والتاريخ" "1/ 556"، و"الفقيه والمتفقه" "2/ 169"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 823".
2 في ترتيب المدارك" "1/ 146": قال الهيثم بن جبيل: "شهدتُ مالكًا سئل عن...".
3 في ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال خالد بن خراش: قدمت من العراق على مالك بأربعين..."، وفيه: "... فما أجابني...".
4 في "د" و"ف" و"ط": "وقال: قال....."، وسقطت "قال" من "م"، والتصويب من "ترتيب المدارك" "1/ 146"، والأصل.
وأسند مقولة ابن عجلان ابنُ أبي حاتم في "مناقب الشافعي" "ص107"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"، والحازمي في "سلسلة الذهب" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر للخبر" "1/ 22-23"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 172-173"، والبيقهي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 812"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 840، 840 841/ رقم 1852، 1853"، وإسناده صحيح.
ونحوها عن ابن عجلان عند أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "3/ 142"، وأبي نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 349".(42/466)
ص -327-…ويروى هذا الكلام عن ابن عباس1، وقال2: "سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري"، وكان3 يقول في أكثر ما يسأل عنه: "لا أدري". قال عمر بن يزيد: "فقلت لمالك في ذلك؛ فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما أفتيهم4 به. قال: فأخبرت الليث بذلك؛ فبكى وقال: مالك والله أقوى من الليث "أو نحو هذا".
وسئل5 مرة عن نيف وعشرين مسألة؛ فما أجاب منها إلا في واحدة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عنه الآجري في "أخلاق العلماء" "ص133"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 172"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 839، 840/ رقم 1580، 1581" بأسانيد منقطعة.
والمذكور من "ترتيب المدارك" "1/ 146".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال مالك: "سمعت ابن هرمز."، وأسنده إلى ابن هرمز: الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 655"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 173"، والبيهقي في "مدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 809"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 835/ رقم 1564".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال ابن وهب: كان مالك يقول: "وذكره بتمامه".
وأسند الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" إلى الفضل بن دكين؛ قال: "ما رأيت أحدًا أكثر قولا "لا أدري" من مالك بن أنس"، وفي "د": "لعلي أرجع عما أرجع..." والصواب حذف "أرجع" الثانية.
4 في "ط": "أفتيتهم".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 147": قال ابن أبي أويس: سئل مالك مرة عن نيف... "وذكره".(42/467)
ص -328-…وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: "لا أدري".
قال أبو مصعب1: "قال لنا المغيرة: تعالوا نجتمع [ونستذكر] كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا. فمكثنا نجمع ذلك، وكتبناه في قنداق2 ووجه به المغيرة إليه، وسأله الجواب؛ فأجابه في بعضه وكتب في الكثير منه: لا أدري، فقال المغيرة: يا قوم! لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول: لا أدري؟".
[والروايات عنه في لا أدري"]3 و"لا أحسن" كثيرة؛ حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك "لا أدري" لفعل قبل أن يجيب في مسألة4.
وقيل5: "إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري؛ فمن يدري؟ قال: ويحك أعرفتني، ومن أنا، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر6، وقال: هذا ابن عمر يقول "لا أدري"؛ فمن أنا؟ وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "14/ 147" و"ط"، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول: "نجمع"، و"ما نريد"، والتصويب منه ومن "ط".
2 بضم القاف: صحيفة الحساب. "ف" و"م".
قلت: تصحفت في "ترتيب المدراك" إلى "قنوان"!!
3 سقط من "ط".
4 أخرجه الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" بسنده إلى وهب؛ قال: "ولو شئت أن أنصرف كل يوم عن مالك وألواحي مملوءة من "لا أدري" لفعلت"، وذكره الذهبي في "السير" "8/ 108".
5 في "ترتيب المدراك" "1/ 147": "وقال بعضهم: إذا قلت... "وذكره"، وفيه: "ما عرفتني؟ وما أنا"، وفي "ط": "وقيل له...".(42/468)
6 يشير إلا سؤال الأعرابي لابن عمر: "أترث العمة؟ قال: لا أدري. قال: أنت ابن عمر ولا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء؛ فسلهم"، وأخرجه الدرامي في "السنن" "1/ 63"، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والذهلي في "جزئه"، وابن مردويه في "التفسير المسند" -كما في "فتح الباري" "3/ 273"، و"موافقة الخبر والخبر" "1/ 81"- والآجري في "أخلاق العلماء" "ص131-132"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 171-172"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 796"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 834-835، 835-836/ رقم 1563، 1566"، بألفاظ وأسانيد بعضها صحيح على شرط البخاري.(42/469)
ص -329-…أهلك الناسَ العُجْبُ وطَلَبُ الرياسةِ، وهذا يضمحِلُّ عن قليل".
وقال مرة أخرى1: "قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء؛ فلم يجب فيها2، وقال ابن الزبير: لا أدري، وابن عمر: لا أدري".
وسئل3 مالك عن مسألة فقال: "لا أدري. فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قَدر؛ فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]؛ فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
قال بعضهم4: ما سمعت قط أكثر قولا من مالك: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله: "لا أدري {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]؛ لفعلنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 147".
2 وكان رضي الله عنه يجمع الشباب فيستشيرهم تارة، وأهل بدر تارة أخرى، وأخرج الأول عنه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "193" والخليلي في "الإرشاد" "1/ 309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 106 - ط القديمة"، وذكره عنه الذهبي في "السير" "8/ 372-373" وأخرج الثاني والبيهقي في "المدخل" "رقم 803".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 147-148": "وقال مصعب: سئل مالك..... "وذكره"، وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" "ص399" لحميد الحمر، ط دار الفكر، 1415هـ.
4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148".(42/470)
ص -330-…وقال1 له ابن القاسم: "ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال: منك. فقال2 مالك: ما أعلمها [أنا]؛ فكيف يعلمونها؟!".
وقال ابن وهب3: "قال مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ولا أحدث بها قال الفروي: فقلت له: لم؟ قال: ليس عليها العمل".
وقال4 رجل لمالك: إن الثوري حدثنا عنك في كذا. فقال: "إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة".
وقيل5 له: عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك. فقال: "أنا أحدث الناس بكل ما سمعت؟! إني إذن أحمق!"، وفي رواية6: "إني أريد أن أضلهم إذن! ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها، وإن كنت أجزع الناس من السياط!".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول: "يعلمونها بي"، والتصويب منه.
2 كذا في الأصل و"د" و"ف" و"ط"، وفي "الترتيب"و"م": "قال".
3 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، و"ما رواه الأكابر" "43"، و"الحلية" "6/ 322، و"السير" "8/ 62".
4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148-149"، وفيه: "إني لأحدثك....".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 149": "قال الشافعي: قيل لمالك: عند ابن عيينة..." وفيه: "إذا أحدث..".
6 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 149-150"، وفيه: "أفزع الناس"، وأسنده بنحوه من طريق القعنبي عن مالك الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 552-553" والضبي في "البغية" "ص464"، وانظر: "نوادر ابن حزم" "1/ 56".(42/471)
ص -331-…ولما مات؛ وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته1.
وكان إذا قيل له: "ليس هذا الحديث عند غيرك" تركه، وإن قيل له: "هذا مما2 يحتج به أهل البدع" تركه، وقيل له: إن فلانا يحدث3 بغرائب. فقال: "من الغريب نفرّ". وكان4 إذا شك في الحديث طرحه كله، وقال5: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب؛ فانظروا [في] رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه".
وقال6: "ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة ويذهب به إلى الأمصار، قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية [الزمر: 17-18].
وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه: "لا أدري، إنما هو الرأي وأنا أخطئ وأرجع، وكل ما أقول يكتب"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "ترتيب المدارك" "1/ 148، 149".
2 في "د" "ما"، وما أثبتناه من "ترتيب المدارك" "1/ 150" والأصل و"ف" و"م" و"ط".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 150": "تحدثنا".
4 في "ترتيب المدراك" "1/ 150": "قال الشافعي: كان مالك إذا شك..".
5 في ترتيب المدارك" "1/ 146-147": قال معن: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر...."، وما بين المعقوفتين منه.
6 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 362": "ذكر ابن معين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك... "وذكره"، ونحوه في "المقدمات" لابن رشد "3/ 424 - ط دار الغرب"، وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" "ص341".
7 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 150".(42/472)
ص -332-…وقال أشهب1: "ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال: لا تكتبها؛ فإني لا أدري أثبت عليها أم لا".
قال ابن وهب2: "سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يُسأل، قال: وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف، ويقول: حسبكم! من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك، وقال: يتكلم كأنه جمل مغتلم3 يقول: هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء. وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة، فأفقست البيضة عنده عن فرخ: أيأكله؟ فقال مالك: سَلْ عما يكون، ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه؛ فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله! فقال4: لو سألت عما تنتفع به أجبتك".
وقيل له5: إن قريشا تقول: إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها. فقال: "إنما نتكلم فيما نرجو بركته".
قال ابن القاسم6: "كان مالك لا يكاد يجيب، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى، فيجيب فيها".
وقال7 لابن وهب: "اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذى لا يستقيم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150".
2 أخرجه الدوري "فيما رواه الأكابر" "36، 53"، بنحون، ومثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150"/ وزاد: "يعني: الرجل الذي يجلس لهذا".
3 [أي]: هائج. "ف" و"م".
4 في "ترتيب المدارك" "1/ 150" زيادة "له".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "قال ابن المعدل: قيل لمالك: إن قريشًا...".
6 مثله في "ترتيب المدراك" "1/ 151". وفي "ط": "أن يتعلموها".
7 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "اتق هذه الآثار، وهذا السماع... فقال [له]... لأعرفه لأحَدِّث. فقال: ما سمع... إلا تحد َّث به، وعلى ذكر القدر وسعت".(42/473)
ص -333-…يحدث به. فقال: إنما أسمعه لأعرفه، لا لأحدث به. فقال له: ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به، وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها، وأرجو أن لا أفعل ما عشت، وقد1 ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت".
قال أشهب2: "رأيت في النوم قائلا يقول: لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها، وذلك قوله: "ما شاء الله، لا قوة إلا بالله"".
هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح، ولم آتِ بها على ترجيح تقليد مالك، وإن كان أرجح3 بسبب شدة اتصافه بها، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء؛ فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام، غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "وروى البياضي عنه أنه قال: لقد ندمت أن لا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث". وفي "ط": "وقال: لقد...".
2 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "لو ورد عليه الجبال"، وفي "ط" و"ف" و"م": "وردت عليه"، وعلَّقا: "لعل "أصل" هذه العبارة: "لو وردت على الجبال لقلعتها"".
3 انظر رجحان مذهب أهل المدينة في "مجموع الفتاوى" "10/ 260 و20/ 294-320 و333-396"، وانظر منه: "20/ 320-348" تعظيم الناس لمالك.
4 في "ط": "من البعض".(42/474)
ص -334-…المسألة الثامنة:
يسقط عن المستفتي1 التكليف بالعمل عند فقد المفتي، إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر، ولا من تقليد، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح -حسبما تبين في موضعه من الأصول- فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى.
والثاني: أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف؛ إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم؛ إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به، وهذا غير عالم [به] بالفرض؛ فلا ينتهض سببه على حال.
والثالث: أنه لو كان مكلفا بالعمل؛ لكان من تكليف ما لا يطاق؛ إذ هو مكلف بما لا يعلم، ولا سبيل له إلى الوصول إليه، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه، وهو عين المحال؛ إما عقلًا وإما شرعًا، والمسألة بيِّنَة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من هو بصدد الاستفتاء، وهو من عرضت له مسألة دينية وليس من أهل الاجتهاد. "د".
قلت: قال إمام الحرمين في "الغياثي" "ص431" في مثل اختيار المصنف: "وهذا زَلَل ظاهر"، ثم أسهب في بيان أن هذه المسألة "تنزل منزلة التباس الأحوال في الطهارة والنجاسة مع وجود العلماء"، ثم قال "ص442": "فقصارى القول فيه اعتبار شك بشك، وبناء على الأمر على تغليب ما قضى الشارع بتغليبه"، ثم قال "ص481": "ويتحصل من مجموع ما نفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به ما يُتوقع منه فساد البنية، أو ضعف يصد عن التصرف، والتقلب في أمور المعاش"، ثم فصل ذلك في سائر الأبواب، وقرر أشياء نفيسة وقواعد كلية مليحة، وصرح في "ص521" أنه ألف الكتاب عند تخليه انحلال الشريعة، وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن طلبها.(42/475)
ص -335-…فصل:
ويتصور في هذا العمل أمران:
أحدهما: فقد1 العلم به أصلًا؛ فهو كمن لم يرد عليه تكليف البتة.
والثاني: فقد العلم لوصفه دون أصله كالعالم بالطهارة أو الصلاة2 أو الزكاة على الجملة، لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها، كالسهو وشبهه؛ فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به، وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها، وكتب الفروع أخص3 بها من هذا الموضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمن يسمع أن التهجد مطلوب ولكن لا يدري ما هو، أو يسمع أن العمرة مطلوبة ولا يعرفها؛ من أي نوع من العبادات؟ لا أنه لم يُروَ إليه حتى اسم العمل المطلوب؛ لأنه حينئذ لا يتحقق فيه أنه مستفتٍ هذا، ومغايرته لما بعده ظاهرة، وما يسقط عنه في أصل العلم، وما يسقط عنه في الثاني الوصف الذي لم يتيسر له طريق معرفته. "د".
2 في "ط": "أو بالصلاة".
3 فمنها يُعلم ما رتب على هذه ا لمسألة مما يسقط عنه وما لا يسقط بعد حصول العلم به. "د".(42/476)
ص -336-…المسألة التاسعة:
فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة1 الشرعية بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قائمة مقامها، فكما أن المجتهدين ملزمون باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة... إلخ، فكذلك المقلدون ليس لهم أهلية الاجتهاد يلزمهم اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواهم؛ كما قال الآمدي في "الأحكام" "4/ 306 وما بعد" واستدل عليه بالنص والإجماع والمعقول؛ فالنص الآية التي استدل بها المؤلف والإجماع السكوتي على ذلك المعقول، وهو أن من لم يكن عنده أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية؛ فإما ألا يكون متعبدًا بشيء أصلًا، وهو خلاف الإجماع، وإن كان متعبدًا بشيء؛ فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم، أو بالتقليد، والأول ممتنع؛ لأن ذلك مما يفضي في حقه وحق الخلق أو أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش، وتعطيل الحرف والصناعات، وخراب الدنيا بتعطيل الحرث والنسل، ورفع التقليد رأسًا، وهو منتهى الحرج والإضرار المطلوب رفعهما؛ فلم يبقَ إلا التقليد، وأنه هو المتعبد به عند ذلك الفرض، هذا هو ما يريد المؤلف تقريره، وهو بعينه الذي يوافق المسألة قبله من سقوط التكليف عن المستفتي والمقلد إذا لم يجد المفتي، فهذا لا يكون إلا إذا كانت أقوال المجتهدين كأقوال الرسل، من جهة وجوب اتباعها والتزام العمل بها، وأنها كخطاب الله الوارد على لسان الرسل بالنسبة للعوام، ولا معنى لكونها حجة على الناس إلا ذلك، وسبق للآمدي في تعريف التقليد ما صرح فيه بوجوب أخذ العامي بقول المفتي، حتى قال: "إنه حجة ملزمة كالأخذ بالإجماع وبقول الرسول عليه السلام"، وأما كون ذلك حجة لذاته، أو ليس لذاته، وكذا كون الأدلة الشرعية للمجتهدين حجة لذاتها أو للمعجزة؛ فهذا أمر آخر وبحث آخر، لا يخص موضوع المسألة. "د".(42/477)
وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "لا لأن أقوالهم حجة على الناس في ذاتها كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فإن ذلك لا يقول به أحد، بل لأنه -لعدالتهم، وسعة اضطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشرعية وحفظ نصوصها- لا بد أن تستند أقوالهم إلى مأخذ شرعي عام أو خاص وإن يذكروه لمن يستفتيهم في النوازل، فإن ذلك غير لازم؛ فقد كان المجتهدون من الصحابة والتابعين يفتون العامة من غير إبداء المستند، ويُتَّبَعون* في ذلك من غير نكير، وشاع ذلك بينهم حتى تَوَاتَر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "م": "والناس يتبعونهم في ذلك".(42/478)
ص -337-…المجتهدين.
والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم البتة وقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
والمقلد غير عالم؛ فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام [أقوال] الشارع.
وأيضًا؛ فإنه إذا كان فقد المفتي1 يسقط2 التكليف فذلك مساوٍ لعدم الدليل؛ إذ لا تكليف إلا بدليل، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به؛ فكذلك إذا لم يوجد مفتٍ في العمل؛ فهو غير مكلف به، فثبت أن قول المجتهد دليل العامي، والله أعلم.
ويتعلق3 بكتاب الاجتهاد نظران:
أحدهما: في تعارض الأدلة على المجتهد، وترجيح بعضها على بعض.
والآخر: في أحكام السؤال والجواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط: "عدم المفتي".
2 في "ط": "بسقوط".
3 لعل هنا كلمة "فصل" محذوفة. "ف".(42/479)
ص -341-…النظر الأول:
وفيه مسائل:
بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها، وهى أن كل من تحقق بأصول الشريعة؛ فأدلتها عنده لا تكاد1 تتعارض، كما أن كل من حقق2 مناط المسائل؛ فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة، فالمتحقق بها متحقق بما في [نفس] الأمر؛ فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف؛ لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ؛ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم، فإذا ثبت هذا فنقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أوضح ذلك في الفصل اللاحق للمسألة الثالثة من التشابه. "د".
قلت: انظر بسط المسألة على عدم التعارض مع الأدلة العقلية: "كشف الأسرار" "3/ 76"، و"التقرير والتحبير" "3/ 2"، و"شرح منار الأنوار" لابن مالك "ص226 - ط التركية"، وما مضى في المسألة الثالثة من الطرف الأول في الاجتهاد.
2 في "ط": "تحقق".(42/480)
ص -342-…المسألة الأولى:
التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر، وإما من جهة نظر المجتهد، أما من جهة ما في نفس الأمر؛ فغير ممكن بإطلاق، وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك -في مسألة أن الشريعة على قول واحد- ما فيه كفاية، وأما من جهة نظر المجتهد؛ فممكن بلا خلاف، إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين، وهو صواب؛ فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض1؛ كالعام مع الخاص، والمطلق مع المقيد وأشباه ذلك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولا داعي إلى الترجيح، قالوا: من شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها ألا يمكن الجمع بين الدليلين بوجه مقبول، فإن أمكن تعين المصير إليه، قال في "المحصول" "5/ 406": "العمل بكل منهما أولى من إهمال أحدهما"، وبه الفقهاء جميعًا. ا. هـ شوكاني في "الإرشاد" "ص273". "د".
قلت: انظر في ذلك: "المحلى" "1/ 121-122"، و"الخلافيات" "1/ 329" وتعليقنا عليه "1/ 235، 236، 237، 244، 245"، و"الأوسط" "2/ 306-309" لابن المنذر، و"الإبهاج" "3/ 139-144"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص417-419، 421"، و"شرح مشكاة الأنوار على المنار" "2/ 109"، و"جمع الجوامع" "2/ 359-361 - مع شرح المحلي"، و"الاعتبار" "ص4-5"، للحازمي، و"توجيه النظر" "ص224-226"، و"أدلة التشريع المتعارضة" "ص36-38" لبدران أبو العنين بدران، و"التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية" "1/ 265-299"، وأفاد أن خلافًا وقع في المسألة.(42/481)
2 ومثلوا له أيضًا بقوله عليه السلام "فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود 3/ 1344/ رقم 1719" عن زيد بن خالد الجهني رفعه": "ألا أخبركم بخير الشهود؟" فقيل: نعم. فقال: أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" مع قوله "فيما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 4/ 465، رقم 2165"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد 2/ 791/ رقم 2363" =(42/482)
ص -343-…لكنا نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذى لا يمكن فيه الجمع ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة، وبمجموع النظر في الضربين يسهل إن شاء الله على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد، وبالله التوفيق1.
فأما ما لا يمكن فيه الجمع، وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأحمد في "المسند" "1/ 18"، وغيرهم عن عمر مرفوعًا، وهو صحيح، والمذكور جزء من آخر الحديث، وأوله: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم...."، وفيه": "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد"؛ فحملوا الأول على ما فيه حق لله، والثاني على ما فيه حق الآدمي؛ فكل عمل به في وجه؛ فلا تعارض ولا ترجيح، وسيأتي له كثير منه في المسألة الثالثة. "د".
1 في "م": "والله ولي التوفيق".(42/483)
ص -344-…المسألة الثانية:
فإنه قد مر في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما؛ فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب، هو متعلق الدليل الشرعي؛ فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معًا: دليل النفي ودليل الإثبات، فتعارض عليها الدليلان؛ فاحتيج إلى الترجيح، وإلا؛ فالتوقف وتصير من المتشابهات، ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى؛ لم يحتج إلى مزيد.
إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح تعارض ما في معناها1 كما في تعارض القولين على المقلد؛ لأن نسبتهما إليه نسبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفوا التعارض بأنه تقابل الدليلين على سبيل الممانعة، بأن يثبت أحدهما ما ينفيه الأخر؛ فالتعارض الذي يتكلم فيه الأصولين واقع بين الدليلين أنفسهما، فيجيء الترجيح بينهما من جهة المتن أو السند أو المعنى أو أمر خارج؛ أما أنواع التعارض التي ذكرها المؤلف من هذه المسألة أولًا وآخرًا -إذا استثنينا تعارض القولين على المقلد- فأنها ليست في شيء من تعارض الدليلين الذي أفاض فيه الأصوليون؛ إذ الأدلة في هذه الأنواع لا تعارض فيها باعتبارها في أنفسها، وإنما التعارض فيها باعتبار التطبيق وتحقيق المناط في محل الحكم، وقد قال المؤلف في المسألة الثالثة من التشابه في الأدلة "3/ 318" ما حصله أن التشابه الراجح إلى المناط ليس راجعًا إلى الأدلة؛ فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل المذكية واضح، والاشتباه عند اختلاطهما في المأكول لا في الدليل. ا. هـ.(42/484)
وسبق له في المسألة الرابعة من الاجتهاد "ص144 وما بعد" ذِكْر أكثر هذه الأنواع أمثلة لموضوع القاعدة التي أشار إليها في صدر هذه المسألة، وهو الواسطة تقع بين طرفين مختلفي الحكم، وفيها شبه من كل منهما، وحيث كانت كل هذه الأنواع راجعة إلى اختلاف المناط في الواسطة، وكان اختلاف المناط ليس من التعارض في الأدلة؛ فلا يصح جعل بعضها من التعارض الحقيقي في الأدلة وبعضها شبيهًا به وفي معناه، فإن كان المؤلف يريد أن ما قبل قوله: "كذلك يصح... إلخ" من باب تعارض الأدلة حقيقة وما بعده من الملحق به، فغير صحيح كما عرفت =(42/485)
ص -345-…الدليلين إلى المجتهد، ومنه تعارض العلامات1 الدالة على الأحكام المختلفة، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الانتهاب؛ فيرى مثله في يد رجل ورع؛ فيدل صلاح ذي اليد على أنه حلال، ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام؛ فيتعارضان، ومنه تعارض الأشباه الجارَّة إلى الأحكام المختلفة؛ كالعبد؛ فإنه آدمي، فيجري مجرى الأحرار في الملك، ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك، ومنه تعارض الأسباب؛ كاختلاط الميتة بالذكية، والزوجة بالأجنبية؛ إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم، ومنه تعارض الشروط؛ كتعارض البينتين؛ إذ قلنا: إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم؛ فإحداهما تقتضي إثبات أمر، والأخرى تقتضي نفيه، وكذلك ما جرى مجرى [هذه]2 الأمور داخل في حكمها.
ووجه الترجيح في هذا الضرب غير3 منحصر؛ إذ الوقائع الجزئية النوعية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(42/486)
= وإن كان يعني أنه يتكلم من أول الأمر على تعارض آخر غير ما ذكره الأصوليون وهو تعارض ليس باعتبار الأدلة في أنفسها، بل باعتبار المناط، وهو ما يشير إليه قوله: "تعارض -عليها- الدليلان"، وقوله: "كما يصح تعارضها -على ذلك الترتيب"؛ فهو صحيح، لكن يرد عليه أن تعارض الدليلين بهذا المعنى موجود بعينه في تعارض العلامات وما معه، كما يرشد إليه قوله بعد: "وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من الطرفين... إلخ"، وصنيعه هنا يوهم خلاف ذلك، وأن تعارض العلامات وما معها ليس من جنس ما قبله، وقد يجاب بأن هذه الأنواع وإن اشتركت في أن الكل من باب التعارض الواقع على واسطة بين الطرفين، لكن المنظور إليه في النوع الأول حصول التعارض بين دليلي الطرفين، وفي الأنواع حصل التعارض أولًا وبالذات بين علامتي الطرفين أو سببيهما... إلخ"، وهو إن كان يلزم منه تعارض دليليهما على تلك الواسطة؛ لكن ليس هو نفس تعارض الدليلين؛ فلذلك جعله في معنى تعارض الدليلين؛ لأنه يَئُول إليه. "د".
1 في نسخة "ماء": "المعاملات".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 أي: بخلاف وجوه الترجيح في التعارض الواقع بين نفس الدليلين؛ فقد حصرها =(42/487)
ص -346-…أو الشخصية لا تنحصر، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد؛ بل لا بد من ضمائم تحتفّ، وقرائن تقترن، مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر؛ فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات، وهذا أمر مشاهد معلوم، وإذا كان كذلك؛ فوجوه1 الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض؛ فلا يمكن في هذه الحال [إلا]2 الإحالة على نظر المجتهد فيه، وقد تقدم لهذا المعنى تقرير في أول3 كتاب الاجتهاد، وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من الطرفين أيهما أسعد4 وأغلب5 أو أقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة؛ فيبنى على6 إلحاقها به من غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأصوليون في الأنواع الأربعة التي أشرنا إليها، وأضافوا إليها ترجيح الأقيسة وما معها؛ فصارت ستة أنواع. "د".
قلت: فَصَّل الكلام على وجوه الترجيح على وجه مستوعب: الشيخ عبد اللطيف البرزنجي في رسالته العالِمية "الدكتوراة": "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية"، وهو مطبوع في مجلدين سنة 1397هـ، عن مطبعة العاني، والعراق.
1 هل وجوه الترجيح هي الجارية مجرى الأدلة المذكورة، أم أن العلامات والأشباه والأسباب المتعارضة هي الجارية هذا المجرى؟ فتحتاج إلى نظر المجتهدين فيها من أهل الذكر والخبرة في كل نوع منها؛ إلا أن يقال: إنه يعني بوجوه الترجيح هذه الأسباب والعلامات.... إلخ، ولا ينافيه قوله بعدُ: "أيهما أسعد أو أغلب.. إلخ".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 في المسألة الأولى منه، حيث بسط الكلام في الاجتهاد في تحقيق المناط. "د"، وهذا يؤيد ما قررناه في هذا المقام، وأن الكلام كله مسوق في تحقيق المناط، لا في التعارض الذي فصله الأصوليون ولا في نوع منه، إنما هو نوع آخر شبيه به. "د".
4 أي: أقوى وأنسب. "د".
5 كذا في "ط" و"د"، وفي غيرهما: "أو أغلب".(42/488)
6 لعل الصواب: "فيبنى عليها إلحاقها"، وهو راجع لكل واحد من الثلاثة منفردة أو مجتمعة. "د".(42/489)
ص -347-…مراعاة للطرف الآخر أو مع مراعاته1 كمسألة2 العبد في مذهب مالك3 ومن خالفه وأشباهها.
فصل:
هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام4 الأصوليين، وإذا تأملنا المعنى فيه؛ وجدناه راجعًا5 إلى الضرب الثاني، وأن الترجيح راجع إلى وجه من الجمع6، أو إبطال7 أحد المتعارضين، حسبما يذكر على أثر هذا بحول الله تعالى.
وأما ما يمكن فيه الجمع، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عند مراعاة الطرفين كيف يكون من الضرب الأول الذي لا يمكن فيه الجمع، مع أنه في هذه الحالة يكون أعمل الطرفين المتعارضين إعمالًا جزئيًا في كل منهما؛ فلم يلغ أحدهما، ولم يعمل الآخر إعمالًا كليًّا، فوضعه هذه المسألة للضرب الذي لا يمكن فيه الجمع إنما هو باعتبار الغالب، وسيأتي له كلام في المسألة الثالثة. "د".
2 في "د": "مسألة".
3 فعنده أن يملك ملكًا غير تام، وعند غيره لا يملك رأسًا، ولكل تفريعه. "د".
4 أي: حيث اشتغلوا بترجيح أحد الدليلين بالمرجحات التي تقتضي اعتماد أحد الدليلين وإهمال الآخر، وهذا لا يكون إلا إذا كان مما لا يمكن فيه الجمع، ولكن قد سبق لنا ذكر شيء من أمثلة ما اعتبروا فيه الجمع بإعمال الدليلين. "د".(42/490)
5 ظاهره أن كل ما حكم عليه الأصوليون بعدم إمكان الجمع فيه يرجع إلى الضرب الثاني الذي فيه؛ إما الجمع، أو الأبطال لأحدهما؛ فلا تبقى معارضة مطلقًا، فإن كان هذا مراده حقيقة يريد به القضاء على باب التعادل والترجيح؛ فإنه لم يصل إليه، وذلك لأن الصور التي ذكرها في المسألة الثالثة على فرض أنها حاصرة للصور المعقولة في التعارض، فإن الأحكام لم تُستوفَ في الصورة الثانية؛ فما بين الجزئيتين الداخلتين تحت كلية واحدة لا ينحصر حكمه في الإبطال بالطرق التي أشار إليها أو الإعمال الذي ذكره، بل هناك شيء كثير، بل أكثر ما ذكر في باب التعادل، والترجيح ليس فيه إبطال أحد الدليلين بالنسخ وما معه، ولا إعمال الدليلين معًا؛ فبقي ما قالوه كما هو ولم يرجع الضرب الأول إلى الثاني. "د".
6 كذا في "ط" وفي غيره "وإبطال"، وكتب "د": الصواب: "أو"؛ ليتفق مع المسألة الثالثة.
7 هذا إنما يظهر فيما سيذكره في المسألة الثالثة في الصورة الثانية في الأمر الأول منها؛ فإنه هو الذي فيه إبطال الدليلين إبطالًا حقيقيًّا، أما ما رجحوا فيه دليلًا على آخر بالمرجحات المتعلقة بالمتن أو السند أو المعنى أو بخارج -مع اعترافهم بأنه لا يزال الدليل قابلًا لأن يكون صحيحًا غايته أنه وجد لمقابله ما يقتضي الظن بأرجحيته- فلا يكون فيه أبطال أحدهما إبطالًا حقيقيًّا، وتسمية ما ذكره من نسخ أحدهما وما معه جمعًا بين الدليلين بعيد من جهة المعنى، وقد اعترف بذلك حيث يقول: "لم يمكن فرض اجتماع دليلين فيتعارضا"، وعليه؛ فإدخال هذا النوع في التعارض ثم دعوى أنه مما أمكن فيه الجمع لا محصل له. "د".(42/491)
ص -349-…المسألة الثالثة:
فنقول: لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور:
إحداها: أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية [تحتها]1؛ كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين، وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى؛ فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي، أو لا.
وعلى كل تقدير؛ فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم2 تعارضًا وترجيحا، وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة؛ فلا فائدة في التكرار.
والثانية: أن يقع في جهتين جزئيتين، كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة؛ كتعارض حديثين3، أو قياسين، أو علامتين4 على جزئية واحدة، وكثيرًا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذى لا يمكن5 فيه الجمع، ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر؛ فلا بد من أحد أمرين: "إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال"؛ فيبقى الآخر هو المعمل لا غير؛ وذلك لا يصح إلا مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 ومحصله إعمال الدليلين، كما سبق في مسألة شرب العسل لصاحب الصفراء في كتاب الأدلة. "د".
3 وانظر لِمَ لم يذكر تعارض آيتين؟ ولعله لا يقول بتعارضهما لأنهما قطعيتان، ولكن التعارض واقع باعتبار الدلالة الظنية، وللحديثين المتواترين حكم الآيتين، وقد أطلق في الحديثين، وقد عرفت أن الكلام في التعارض صورة فقط لا في التعارض الحقيقي؛ لأنه لا يقع في الشريعة مطلقًا؛ فلا فرق بين القطعي وغيره. "د".
4 أي: كما صنع هو في تعارض العلامتين، وقد توسع هنا في العلامة؛ فجعلها شاملة للسببين والشبهين، إلى غير ذلك مما يكون فيه تحقيق المناط. "د".
5 أي: مع أن هذه الصورة قد تكون مما يمكن فيه ذلك؛ كما يذكره في الأمر الثاني. "د".(42/492)
ص -350-…فرض1 إبطاله بكونه منسوخًا، أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به2، إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل، وإذا فرض أحد هذه الأشياء؛ لم يمكن فرض اجتماع الدليلين3 فيتعارضا، وقد سلموا أن أحدهما [إذا كان] منسوخًا لا يعد معارضًا، فكذلك ما في معناه4؛ فالحكم إذن للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل، "والأمر الثاني الحكم عليهما معا بالإعمال"5، ويلزم من هذا أن لا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد؛ لأنه محال مع فرض إعمالهما فيه، فإنما يتواردان من وجهين، وإذ ذاك يرتفع التعارض البتة؛ إلا أن هذا الإعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك، فإنه أعمل حكم الملك له من وجه، وأهمل ذلك من وجه، وتارة يخص6 أحد الدليلين؛ فلا يتواردان على محل التعارض معًا، بل يعمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلامه -كما عرفت- قاصر على ما يتأتى فيه القدح في اعتبار الدليل، ولا يشمل ما إذا ترجح فقط أحد الدليلين المتعارضين بالمرجحات المشهورة مع بقاء الاعتراف بصحة الدليل المهمل، مع أن هذا النوع هو الذي عليه معظم باب التعادل والترجيح عندهم. "د".
2 هذا على رأي؛ والتحقيق ما عرفته من أنه يتأتى التعارض بين الكتاب والسنة لأنه ليس المراد به التناقض والتعارض الحقيقي، بل التعارض في الشرعيات صوري فقط، وبذلك نسخت السنة الكتاب وخصصته.. إلخ، ولا يعد كون السنة مظنونة المتن قدحًا فيها في مقابلة قطعي الكتاب الظني الدلالة؛ إلا أن يكون مراده به الدليل المقطوع به من جميع الوجوه إذا قابله ظني. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "دليلين".
4 أي: من طريق الغلط والوهم..... إلخ، ما أشار إليه. "د".
5 راجع كتب الأصول، ففيها من هذا النوع كثير من الأمثلة. "د".(42/493)
6 أي: فيُعْمِل الدليلين، لكن يخص كل واحد منهما ببعض الجزئيات، بضم قيود أو رفع بعضها؛ كما تقدم في تحقيق المناط الخاص، وكما تقدم لنا في حديث "خير الشهود"، حيث حمل كل على محل خاص به من حق الله وحق الآدمي، وسيأتي له تمثيل في التيمم. "د". =(42/494)
ص -351-…في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك. ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد، وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام1.
والصورة الثالثة: أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل2 إحداهما تحت الأخرى، ولا ترجعان إلى كلية واحدة، كالمكلف لا يجد ماء ولا تيممًا؛ فهو بين أن يترك مقتضى {أَقِيمُوا الصَّلاة} [البقرة: 43] لمقتضى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلى آخرها، أو يعكس؛ فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات، والطهارة راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول3 من قال بذلك، أو معارضة {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة؛ فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي، فإن رجح الكلي؛ فكذلك4 جزئيه، أو لم يرجح فجزئيه مثله؛ لأن الجزئي معتبر بكليه، وقد ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: تجد أمثلة كثيرة من هذا الباب في "شرح معاني الآثار" و"مشكل الآثار"، كلاهما للطحاوي.
1 قال هناك: إن فرض الجهاد كفاية يجب أن يخص بمن فيه غناء ونجدة؛ فلا إثم على من ليس كذلك إذا لم تقم به الأمة، وكذا مثل الولاية العامة.. إلخ ما قال؛ فهذا فيه تخصيص لأحد الدليلين بقيد يراعى فيه، حتى لا يتعارض دليل طلب الجهاد كفاية مع دليل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إذا تسلط الدليلان على محل واحد. "د".
2 احتاج له لأن المراد بالجزئي النوعي، وقد حقق بهذا القيد مخالفة هذه الصورة للصورة الأولى، وحقق بقوله: "ولا ترجعان" مخالفتها للصورة الثانية. "د".(42/495)
3 أما إذا قلنا: إنها من المكملات لنفس الصلاة؛ فيقال فيها ما سيقال في القبلة، والظاهر أنه لا فرق بين القبلة والطهارة؛ فكل شرط سابق على الدخول في الصلاة ومتسصحب فيها. "د".
4 أي: فيصلي بلا وضوء ولا تيمم كما هو بعض الأقوال في مذهب مالك، وقد يقال: كيف يكون استقبال القبلة ليس من كلية الصلاة مع أنه شرط؟ إلا أن يقال: إنه شرط خارج عنها؛ =(42/496)
ص -352-…ترجيحه؛ فكذلك يترجح جزئيه.
وأيضا؛ فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه، وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي؛ فهو الحامل1 له، حتى إذا انخرم؛ فقد ينخرم الكلي؛ فهذا إذا متضمن له، فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كليه؛ للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر؛ فلا بد من تقديم جزئيه كذلك، وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات2 الشاملة لهذه الجزئيات؛ فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب، والحمد لله.
والصورة الرابعة3: أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد، وهذا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهو مكمل، والمكمل إذا عاد بسببه إهمال المكمل ألغي. "د". وفي "ط": "فذلك".
قلت: انظر تفصيل المسألة وأدلتها مع سبب الخلاف في: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 81-82"، و"الذخيرة" "1/ 350-351"، و"منح الجليل" "1/ 161".
1 أي: الذي يتحقق فيه كالعرض مع المعروض. "د".
2 أي أنه وإن كان التعارض المفروض بين جزئيتين؛ إلا انه انجر معه الكلام في تعارض الكليين اللذين ليسا من نوع واحد، وحكمه قد علم من بيان حكم الجزئيين الداخلين في هذين الكليين؛ فيرجح كلي الضرويات على كل الحاجيات مثلًا، وهكذا. "د".
3 بقي أنهم ذكروا من صور التعارض ما كان بين الدليلين عموم وخصوص وجهي، كما في حديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"* مع حديث: "قراءة الإمام قراءة المأموم"**؛ فالأول =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، 2/ 236-237/ رقم 756"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، 1/ 295/ رقم 394" عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، ولفظه: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".(42/497)
** روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة؛ منهم: جابر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وأبو الدرداء، وجميعها لا تخلو من مقال، وحسنه شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 500" بتعدد طرقه، بينما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 242": "حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدراقطني وغيره".(42/498)
ص -353-…ظاهره شنيع، ولكنه في التحصيل صحيح.
ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن، وتعارض القطعيات محال.
وأما وجه الصحة؛ فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران؛ فلا يكون تعارضا في الحقيقة، وكذلك الجزئيان1 إذا دخلا تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقتضى أن الفاتحة واجبة على المأموم، والثاني يقتضي أن المأموم يكفيه عنها قراءة إمامه لها، فعموم كل منهما يقابله خصوص الآخر ويعارضه، وكذا ما بين حديث: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"*، وحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها**، ولا يخفى أنهما جزئيتان كلتاهما داخلة تحت كلية الصلاة، وقد أعملوا كلًا من الدليلين على خلاف في طريق الإعمال، ويمكن إدخال ذلك في الصورة الثانية في الأمر الثاني، أما مالك؛ فقد التمس إزالة المعارضة في مسألة الفاتحة من خارج عنهما، وهو حديث جابر: قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِّ؛ إلا أن يكون وراء الإمام"***، وعلى كل حال؛ فقد أعملهما معًا. "د".
1 أعاده ومثل له مع دخوله في الأمر الثاني من الصورة الثانية ليرتب عليه بيان الكليين إذا تعارضا وكان لهما اعتباران؛ لأنهما مثلهما في ذلك كما قال: "وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار... إلخ. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 597"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 684" عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
** مضى تخريجه "2/ 516"، "وهو صحيح".
*** أخرجه الخلعي في "فوائده" "ق47/ أ" عن يحيى بن سلام عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعًا، وإسناده ضعيف، يحيى بن سلام ضعفه الدراقطني، وقال الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 10": "هذا باطل لا يصح عن مالك"، والصواب أنه موقوف على جابر؛ كما عند البيهقي" "2/ 160".(42/499)
ص -354-…كلي واحد وكان موضوعهما واحدًا؛ إلا أن له اعتبارين.
فالجزئيان أمثلتهما كثيرة، وقد مر منها1 ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور؛ فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم، ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم؛ فقد تعارض على الميل دليلان، لكن بالنسبة إلى شخصين، وهكذا ركوب البحر2 يمنع منه بعض ويباح لبعض، والزمان واحد، لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق، وأشباه ذلك.
وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار؛ فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله.
وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما في المسائل التي أشار إليها فيما يستثنيه المجتهد في تحقيق المناط الخاص وما ذكر معه. "د".
2 انظر تفصيل ذلك مع الأدلة في: "مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 135 و5/ 336"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 149"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 185-187"، و"السنن الكبرى" "4/ 334-335" للبيهقي، و"مجمع الزوائد" "4/ 64"، و"فتح الباري" "4/ 229"، و"القرى لقاصد أم القري" "67-68"، و"تفسير القرطبي" "2/ 190 و7/ 341"، و"أحكام القرآن" "1/ 131" للجصاص، و"إتحاف السادة المتقين" "4/ 513"، وكتابنا "المروءة" "ص108 - ط الأولى"، وغيرهما كثير، وانظر ما مضى "1/ 331".(42/500)
3 وإنما كان هذان الوصفان كليين لأنهما في معنى "كل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا مذموم"، "وكل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا ممدوح ونافع"، وإنما لم يجعلهما متضادين حقيقة لوجود الاعتبارين المشار إليهما أيضًا؛ فإن ما ذكر من الآيات والأحاديث ليس صريحًا في الوصفين المذكورين، ولكنه يفهم منه ذلك، ولذا قال: "يقتضي"، ووسط الوجهين المذكورين في كل منهما كمقدمة ينتقل الذهن منها إلى وصف الذم، ثم بين التضاد بين الوجوه المقتضية للوصفين، وسيأتي له بعد تمام البيان أن يقول: "فالوصفان إذن متضادان". "د".(43/1)
ص -355-…وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها.
ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول؛ لأنه1 شيء عظيم مهدىً من ملك عظيم.
فالأول له وجهان:
أحدهما: أنها لا جدوى لها ولا محصول عندها، ومن ذلك قوله تعالى:
{أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} الآية2 [الحديد: 20].
فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد في شيء ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها3.
وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة.
وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ4 الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64].
وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14].
وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
إلى غير ذلك من الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "على لأنها"، والصواب حذف "على".
2 أي: إلى قوله: {وَالْأَوْلَادِ}، وأما قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ}... إلخ؛ فظاهر دخوله في الوجه الثاني. "د".
3 في "ط": "طائل وراءها، ولا فائدة تحتها".
4 سقطت من "د": و"ط".(43/2)
ص -356-…وكذلك الأحاديث في هذا المعنى؛ كقوله: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، 4/ 560/ رقم 2320"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1376-1377/ رقم 4110"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 306"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 128"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1956"، والعقلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 46"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 253"، والطبراني والضياء في "المختارة" -كما في "المقاصد" "346" -من طريقين ضعيفين؛ في أحدهما: عبد الحميد بن سليمان، وفي الأخرى زكريا بن منظور، وكلاهما ضعيف- عن أبي حازم عن سهل بن سعد مرفوعًا.
إلا أن الحديث صحيح بشواهده، قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة"، وقال: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه".
قلت: حديث أبي هريرة أخرجه البزار في "مسنده" "4/ رقم 3693 - زوائده"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 130"، وابن عدي في "الكامل" "6/ 2235"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1440"، وفيه محمد بن عمار بن حفص المديني، وهو ضعيف.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 129" من طريق آخر عن أبي هريرة، وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف.
وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" "4/ 92"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1439" من طريق علي بن عيسى الماليني عن محمد بن أحمد بن أبي عون عن أبي مصعب عن مالك عن نافع به.
قال الخطيب: "هذا غريب جدًّا من حديث مالك، لا أعلم رواه غير أبي جعفر بن أبي عون عن أبي مصعب، وعنه علي بن عيسى الماليني، وكان ثقة".
وأبو جعفر ثقة؛ كما قال الخطيب "1/ 311"؛ فالسند مع غرابته صحيح.
وعن ابن عباس أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 304 و8/ 290"، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك.(43/3)