ص -312-…الفارهات، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه.
وأيضا، فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير1، وإن كان في طريق الحظ، فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير2 عاقل، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب، والله أعلم.
فصل:
وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية، وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام:
قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة.
وقسم اعتبر فيه ذلك، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه، كالصناعات والحرف العادية كلها، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلاب3 حظه في خاصة نفسه، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض.
وقسم يتوسط بينهما، فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ4 الأمر الذي لا حظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فكما أن فيه الضروري العيني، فيه الضروري الكفائي. "د".
2 في "ط": "أو غير".
3 في "د": "واستجلابه".
4 أي: وملاحظة.(36/420)
ص -313-…فيه، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمحض في العموم وليست خاصة، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات، والأذان، وما أشبه ذلك، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ، ولا تناقض في هذا، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ؛ فيؤمر انتدابا أن يقوم به لا لِحَظٍّ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة، حين لا يكون ثمَّ قائم بالانتداب، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية، وتعليم العلوم على تنوعها1، ففي ذلك ما يوضح هذا القسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما يصرف لمن يقوم بمصلحة يتعدي نفعها، كالعلم، أو القسام للعقار بين الخصوم، أو ترجمان الحاكم أو كاتبه، هو من باب المعونة على القيام بهذه المصالح، وتقاضيه لهذه المعونة لا يقطع عنه ثواب الله في الآخرة، بل ينال جزاءه الأخروي لقيامه بذلك العمل النافع موفورا، ولباذل المعونة ثواب التبرع بالمال في سبيل المصالح العامة. "خ".
قلت: ذهب إلى مشروعية أخذ الأجرة على الطاعات المذكورة ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "30/ 202، 206-207"، وانظر في المسألة: "المغني" "6/ 143- مع الشرح الكبير" و"كشاف القناع" "4/ 12"، و"المحلى" "8/ 191"، و"حاشية ابن عابدين" "6/ 56"، و"بدائع الصنائع" "4/ 191"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 16"، و"فتح العلي المالك "2/ 229"، و"مغني المحتاج" "2/ 344"، و"نيل الأوطار" "5/ 322".(36/421)
ص -314-…المسألة الرابعة1:
ما فيه حظ العبد محضا -من المأذون فيه- يتأتى تخليصه من الحظ، فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا، فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد، صار مجردا من الحظ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه، تجرد عن الحظ، وإذا تجرد من الحظ ساوى2 ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف.
وإذا كان كذلك، فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد؟ هذا مما ينظر فيه، ويحتمل وجهين3 من النظر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن قلت: إنه كان الأنسب للمؤلف أن يؤخر هذه المسألة ويضمها إلى مسائل القسم الثاني من الكتاب المتعلقة بمقاصد المكلف نفسه، ولا يدرجها في مسائل هذا القسم المتعلقة بمقاصد الشرع بالتكليف؛ لأنها ترجع إلى أن المباح يكون عبادة بقصد المكلف، ثم يكون النظر في أنه حينذاك هل يأخذ الفعل حكم ما كان عبادة ويصير صاحبه كصاحب الولاية فيما ولي عليه، أم يبقى حكمه كصاحب الحظ يتصرف كيف يشاء فيما تحت يده؟ قلنا: بل المقصود من المسألة هذا الأخير، وهو الوجهان من النظر، فإنهما أنسب بمقام النوع الرابع الذي نحن فيه وأولى من عدهما من القسم الثاني الآتي، وأما أول المسألة، فمقدمة فقط. "د".
2 أي: في القصد. "د".(36/422)
3 ظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين جارٍ بعد تسليم الخلوص من الحظ، وأن هذا أمر لا نزاع فيه، إنما البحث في أنه هل يحكم لمن هذا شأنه بحكم العمل في قسم ما لا حظ فيه؟ أي: فلا يأخذ عوضا ويكون كقسم ما لا حظ فيه بنوعيه العيني والكفائي؟ هذا هو ظاهر كلامه، وجعله الاستفهام خاصا بمسألة الإلحاق في الحكم، فكأنه سلم جميع ما قبل الاستفهام، مع أنه سيقول في تقرير الوجه الثاني: "فالجميع مبني على إثبات الحظوظ"، وقال أيضا: إذا ثبت هذا، تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ جملة"، وقد كان هذا مسلما في صدر المسألة، ولم يدخل فيه شكا ولا ستفهاما، مع أنه بمقتضى تقريره الآتي يكون هذا بل وما قبله من قوله تجرد عن الحظ، كل هذا يليق به أن يدرج في موضوع النظر. "د".(36/423)
ص -315-…أحدهما:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم ما ساواه في القصد؛ لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم، أو1 صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به، كذلك ههنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده، كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف، وما سوى ذلك يبذله2 من غير عوض، إما بهدية، أو صدقة، أو إرفاق، أو إعراء أو ما أشبه ذلك، أو3 يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ من حيث يأخذ الغير؛ لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير؛ لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة.
ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات؛ لكن لا ليدخروا لأنفسهم، ولا ليحتجنوا4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل التنويع إشارة إلى النوعين السابقين فيما لا حظ فيه، وتقدم أنهما إما عبادة بدنية أو مالية، وإما قيام بولاية عامة على مصالح المسلمين، ويدل عليه قوله: "على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به". "د" "استدراك 6".
2 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص186": "بذله".
3 لعلها واو عطف على "يقتطعه"؛ إذ هما قسم واحد كما سيجيء له، نعم، قد يؤخذ من جعل نفسه كالغير أنه يصح له الزيادة عن حاجته، ولكن هذا ليس بمراد بدليل السباق واللحاق. "د".
4 في الأصل: "ليحتنوا"!! واحتجان المال: جمعه وضم ما انتشر منه، كما في "اللسان" "مادة ح ج ن 13/ 109".(36/424)
ص -316-…أموالهم؛ بل لينفقوها في سبيل الخيرات، ومكارم الأخلاق، وما ندب الشرع إليه، وما حسنته العوائد الشرعية، فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم، فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة.
ويدل على أن هذا مراعىً على الجملة1 وإن قلنا بثبوت الحظ، أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين، فإن طلب الحظ إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية، [وانتفاء الموانع الشرعية، ووجود الأسباب الشرعية]2 على الإطلاق والعموم، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به، فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أُمِرَ به من الإحسان إليه في المعاملة، والمسامحة في المكيال والميزان، والنصيحة على الإطلاق، وترك الغش كله، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع، وأن لا تكون العاملة عونا له على ما يكره شرعا، فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا، فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ3.
هذا والإنسان بعدُ في طلب حظه قصدا، فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري4 المشروع في الأعمال، لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن ما فيه حظ عُومل معاملة ما لا حظ فيه على الجملة لا التفصيل؛ لأنه قيد فيه الحظ بقيود كثيرة وشديدة، حتى إن الحظ الباقي له بعدها اضمحل بجانبها وصار مغمورا في ثناياها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: على الجملة: "د".
4 أي: على فعل ما لا حظ فيه بقسميه. "د".(36/425)
ص -317-…بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات، وهو مجمَع عليه، فكذلك فيما صار بالقصد كذلك.
وأيضا؛ فإنَّ فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ، وإذا كان كذلك، فهي1 داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ2، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به، سواء علينا أقلنا: إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة، وهذا3 ظاهر، فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"4، وتوعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المسألة داخلة في نظير "ما لا يتم.... إلخ" يعني: ولا يتم كونه مسلوب الحظ إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه. "د".
2 أي: مطلوب بتخليص العمل لله، فلا يتم ذلك إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه ابتداء، وهو القسم العبادي وقسم الولاية العامة؛ لأنه إذا كان حرا في تصرفاته المالية وغيرها، فلا يكون مسلوب الحظ، ويبقى الكلام في قوله: "سواء أقلنا: إنه مطلوب شرعا أم لا"، فإنه إذا لم يكن الطلب شرعيا ولو من باب المكارم ومحاسن الشيم، فلا وجه للبحث برمته؛ لأن الغرض أنه إذا خلص الإنسان قصده في الأعمال ذات الحظ، وأخذها على أنها امتثال صرف أو نيل هدية الله، فهل يطلب منه أن يكون كمن يعمل في القسم الثاني وهو ما لا حظ فيه، فلا يأخذ إلا ما يكفيه من ماله، أو أنه مع هذا يبقى حرا في المال وغيره يدخر منه وينفق حسبما يراه، فإذا لم يكن الكلام في الطلب الشرعي، ضاع البحث، وصار مما لا محصل له، وسيأتي له في آخر المسألة أن ذلك بإلزامهم لأنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء، أي: فهو حال شرعي ومقبول شرعا وإن لم يكن بتكليف الشارع. "د".(36/426)
3 راجعٌ للمقيس عليه، وهو ما لا حظ فيه ابتداء، يريد به بيانه وضرب الأمثال له، وليس غرضه بيان المدعي المقيس بضرب الأمثال له، وإن كان هذا هو الذي كان منتظرا تتميمًا للوجه الأول من النظر، ومن ذلك تعلم أنه وجه ضعيف لم يوفق فيه لأكثر من ضرب الأمثال بأعمال بعض الصحابة وسيأتي أنها معارضة بأفعالهم أيضا في نفس باب الأموال وادخارها. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 =(36/427)
ص -318-…على تركه في مواضع، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل، لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما.
وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله، فكونه معمولا به على عوض لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 55"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام، 7/ 156-157"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النصيحة، 4/ 286/ رقم 4944"، وأحمد في "المسند" "4/ 102و 102-103"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 36-37"، والحميدي في "المسند" "2/ 369/ رقم 837"، والقضاعي في "المسند" "1/ 44 و45/ رقم 17و 18"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 61/ رقم 1" وأبو عبيد في "الأموال" "90-10"، ووكيع في "الزهد" "2/ 621-622/ رقم 346"، والبخاري في "التاريخ الصغير" "2/ 35"، و"التاريخ الكبير" "1/ 1/ 459 و3/ 2/ 460"، وابن منده في "الإيمان" "1/ 424/ رقم 271 و272"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "ص194"، و"الصحيح" "7/ 49- مع الإحسان"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 93"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "2/ 681-682، 683، 684، 685، 686، 687"، والطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 52-54/ رقم 1260-1268"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 163" و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 590"، و"شعب الإيمان" "3/ 1/ 14"، وابن الأعرابي في "المعجم" "10/ 194/ أ" مخطوط، والروياني في "المسند" 3/ 263/ أ" مخطوط، وابن خزيمة في "الصحيح" كما في "فتح الباري" "1/ 138"، و"تغليق التعليق" "2/ 56"، وعزاه له في كتاب "السياسة" العيني في "عمدة القاري" "1/ 368" وذكره بسنده.(36/428)
وذكر الحديث البخاري في "صحيحه" "1/ 137- مع الفتح" دون سند، ولم يخرجه مسندا لكونه على غير شرطه، ووقع فيه اختلاف طويل، ورواه محمد بن عجلان عن سهيل، فأخطأ فيه، فجعله من مسند أبي هريرة. قال البخاري في "التاريخ الأوسط": "لا يصح إلا عن تميم" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "1/ 138"، "ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه البخاري في "صحيحه"، بل لم يحتج فيه بسهيل أيضا، وللحديث طرق دون هذه في القوة". وانظر -غير مأمور: "تغليق التعليق" "2/ 54-61".(36/429)
ص -319-…يتصور أن يكون إيثارا؛ لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية، فهذا وجه نظري في المسألة يمكن القول بمقتضاه.
والوجه الثاني:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ؛ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله، وجعله المقدم على غيره، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا، وكان له أن يدخره لنفسه، أو يبذله1 لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة، فهي هدية الله إليه، فكيف2 لا يقبلها؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ، ومن حيث جعل له، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه.
وأيضا3 فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ، فهي وسيلة وطريق إلى حظه، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ماليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة4 إلى حظه كالمعاوضات، فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص 186" و"ط": ويبذله".
2 الأصل: كيف".
3 رد لقوله في الوجه السابق: "إن طلب ما فيه حظ مقيد بالقيود الشرعية التي لا حظَّ فيها"، فينتفي أن يكون فيه الحظ، فيرد عليه هنا بأن هذه الحدود إن هي إلا وسيلة إلى حصول حظه، وليس بلازم أن يأخذ المقصد حكم الوسيلة، ألا ترى أن ما فيه حظ الشخص بالقصد الأول كأنواع الحرف والتجارات والمعاوضات لا يصل الشخص فيها إلى غرضه إلا بطريق نفع الغير، ومع ذلك لم يأخذ المقصد فيها حكم ما كان في طريقها من مصلحة الغير، وعد مما كان فيه حظ الشخص أصالة وحظ الغير بالعرض. "د".
4 وإن كان مما فيه مصلحة الغير، إلا أنها جاءت بطريق العرض، فلم يأخذ المقصد حكم هذه الوسيلة. "د".(36/430)
ص -320-…وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه1، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم.
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم؛ لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم، فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ، ويعملون في أخراهم كذلك، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ، وهو المطلوب، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة ما حد الشارع، من غير تعد يقع في طريقها.
وأيضا، فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه2، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه3، ولذلك قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي شرحه فيما سبق، ودلل عليه بعمل الصحابة. "د".
2 لأن الإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس، بسبب العقوبات والزواجر وقيم المتلفات، وغيرها من المصائب والنوازل التي تنزل بسبب الارتكابات والمخالفات، وقد أباح الله لمن اعتُدِيَ عليه أن يجازي المعتدي بمثل ما اعتدى، فالإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 187" زيادة: "وفي غيره".(36/431)
ص -321-…وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
وفي أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الظلم وتحريمه: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"1.
ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه، لقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}2 [الشورى: 30].
وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والأدلة على هذا تفوت الحصر، فالإنسان لا ينفك عن طلب3 حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة.
وقد يمكن الجمع بين الطريقين، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب.
- منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه4، فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر، ولا يدخر لنفسه من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسيأتي "ص480"، وهناك تمام تخريجه.
2 في الأصل: "بما قدمت أيديكم"!!
3 في "د": "طلبه".
4 أي أنه لا يأخذ شيئا جاء بتسببه، بل يجعل ذلك لغيره، فكل ما سيق إليه بالتسبب يجعله للخلق، فهو مع كونه هو المتسبب والمحترف يرى أن ما وصل ليده من ذلك من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وما بعدها يجعل نفسه كالوكيل يأخذ إن احتاج، وهو أقل من هذا. "د".(36/432)
ص -322-…ذلك شيئا، بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من1 الحظوظ؛ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير من قبيل ما ينسى، وإما قوة يقين بالله؛ لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض2 وهو حسبه فلا يخيبه، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال، وفي مثل هؤلاء جاء: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين -قال الراوي: أراه ثمانين ومائة ألف- فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: "يا جرية هلمي أفطري"، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعَنِّيني، لو كنت ذكرتني لفعلت3.
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. [قالت]: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في".
2 في "ط": "ملكوت كل شيء".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 67"، والدارقطني في المستجاد" "رقم 36، 37"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738"، والحاكم في "المستدرك "4/ 13"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47 و49"، والبغوي في "الجعديات" "1673" بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة.
ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعض إليها بالمال، اشترى به منها دارا، ولا تَعَارُضَ، فهو المرسِلُ، وابنُ الزبيرِ المرسَلُ، إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم.(36/433)
ص -323-…-ما [كان] يهدي لنا- 1 شاة وكفنها2 فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا؛ هذا خير من قرصك3 وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها4، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير5، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة، فلا يأخذ إلى من الملك؛ لأن قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه6، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "ما لا يهدي لنا" أي: أهدى لنا شيئا ما جرت العادة أن يهدي لنا مثله في عظمه، وقوله: "شاة" بدل من ما. "د".
قلت صوابه ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين، من "الموطأ" وسقط من الأصول كلها.
2 إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كله بعجين دقيق البر، وكفنوه فيه ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في "الاستذكار" "27/ 407".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 997- رواية يحيى- ورقم 2105- رواية أبي مصعب" بلاغا عن عائشة.
4 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 57".
5 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "23/ 47-48"، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف.(36/434)
6 إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة، فهو مما يحدث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك، فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين، فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه. خ".(36/435)
ص -324-…وهؤلاء هم أرباب الأحوال:
- ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم1، إن استغنى استعف، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه، فقد يكون في الحال غنيا عنه، فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب، فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم.
وفي "الصحيح" عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، فهم مني وأنا منهم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 694-695، 701"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1538/ رقم 788- ط الصميعي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 324/ رقم 12690"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 582/ رقم 8597"، وابن سعد في "الطبقات" "3/ 276"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص112"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "6/ 4، 5، 354"، وابن الجوزي في "مناقب عمر" "ص105" من طرق عن عمر، قال: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت" وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود رضي الله عنهم حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: "إني وإياكم في مال الله...." وذكر نحوه، وعبارة المصنف للشافعي في "الأم" "4/ 80"، وعنه السيوطي في "الأشباه" "135"، والبلاطنسي في "تحرير المقال" "144".(36/436)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشعريين" باب الشركة في الطعام والنهد والعروض 5/ 128/ رقم 2483"، ومسلم في الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم 4/ 1944-1945/ رقم 2500" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(36/437)
ص -325-…وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا1، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور2، فالإيثار بالحظوظ محمود3 غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار/ رقم 3782" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا، قال: تكفوننا المئونة، وتُشركوننا في التمر. قالوا: سمعنا وأطعنا".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 3781"، في الكتاب والباب السابق وفي باب "كيف أخى النبي بين أصحابه" من الكتاب نفسه/ رقم 3937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح باب منه/ رقم 1427"، وغيرهما من حديث أنس، قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن...."(36/438)
2 قلت: أكتفي هنا بذكر مثال واحد وقع في غزوة تبوك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1/ 55-56/ رقم 27" بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هم بنحر بعض حمائلهم قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قال: حتى ملأ القوم أزودتهم قال: فقال عند ذلك: "أشهدُ أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله، لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فيهِمَا إلا دَخَلَ الجَنَّةَ".
وأخرجه أحمد في "مسنده" "3/ 11"، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلام متعقب، انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" "1/ 221-223".
3 وهو حاصل في أهل المرتبتين المذكورتين كما سيوضحه، وقوله: "ما أخذوا لأنفسهم" هذا في أهل المرتبة الثانية. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه"كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، 4/ 294/ رقم 1427"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 2/ 717/ رقم 1034" عن حكيم بن حزام مرفوعا: "أفضل الصدقة عن ظهر =(36/439)
ص -326-…بل يحمل على الاستقامة في حالتين.
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ؛ إذ للقصد إليه أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوى نفسه مع غيره، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء بُرَءاء من الحظوظ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ، وتجدهم في الإجارات والتجارات1 لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم2، من ذلك كسبا لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم، فأين الحظ هنا؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم، فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء.
- ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء، بل أخذوا ما ما أُذِن لهم فيه من حيث الإذن، وامتنعوا مما مُنِعوا منه، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".
وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 193"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1586" بلفظ: "ليبدأْ أحدكم بمن يعول"
ويشهد لما ساقه المصنف أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة 2/ 692-693" عن جابر مرفوعا: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا" يقول: "فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك".
1 في الأصل: "في التجارات أو مع الإجارات".
2 في الأصل: "أخذهم".(36/440)
ص -327-…فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها، فإن قيل في مثل هذا: إنه تجرد عن الحظ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم؛ إذ1 لم يقف دون ما حد له، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها، ولا كلام في هذا، وإنما الكلام في الأول، وهو لم يتصرف إلا لنفسه، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة للمسلمين2، بل هو والٍ على مصلحة نفسه، وهو من هذا الوجه ليس بوالٍ عام، والولاية العامة هي المبرَّأة من الحظوظ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ، فيجوز لهم ذلك بخلاف3 القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به، لكن على نسبة القسمة ونحوها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "على المسلمين".
3 فلا يجوز لهما بمقتضى ما فرضوه على أنفسهم زهدًا وكمالًا في الأحوال لا بتكليف الشرع. "د".(36/441)
ص -328-…المسألة الخامسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية، فإما على المقاصد الأصلية، أو المقاصد التابعة، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع، فلنضع في كل قسم مسألة، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل، فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا، فيما كان بريئا من الحظ1 وفيما روعى فيه الحظ؛ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع؛ إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله، وهذا كافٍ هنا.
وينبني عليه قواعد وفقه كثير:
من ذلك أن المقاصد الأصلية -إذا روعيت- أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد من مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية.
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه، على قولنا، إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به؛ إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد، وهو أيضًا جارٍ على القول بالوجوب العقلي، فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن2 كافٍ في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رأسا كالعبادات الصرفة، أو كان مما فيه الحظ بالعرض، فلا ينافي أنه عرف المقاصد الأصلية بأجمعها بأنها مما لا حظ فيها للمكلف، ويشير إليه قوله بعد: "ثم يندرج حظه في الجملة"، إلا أن يقال: إن ما فيه الحظ إذا خلصه العامل من الحظ، كان كالمقاصد الأصلية، ويأتي للكلام تتمة. "د".(36/442)
2 ذكر الإذن بعد ذكر الأمر والنهي يقتضي أنه بمعنى الإباحة، وليس هذا من المقاصد الأصلية؛ لأنها كما تقدم الواجبات عينية أو كفائية، فلو حذفه كان أليق بالمقام، ويدل عليه أيضا قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها" إلا أن يقال: إنه تقدم له في المسألة الرابعة أن ما فيه الحظ -يعني: وهو من المقاصد التابعة- يتأتى تخليصه من الحظ، ويساوي ما كان مأمورًا به على ما سبق في تفصيل المسألة المذكورة والوجهين من النظر فيها، وكما يأتي له في الفصل الأول حيث يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّر تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات" وفي الفصل الثاني يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال إلى أحكام الوجوب". "د".(36/443)
ص -329-…حصول كل غرض، فالمتوجّه إلى مجرد خطاب الشارع، العامل1 على وفقه ملبيًا له بريء من الحظ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة، بل هو المقدم شرعا على الغير.
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر، أو اعتبارا بعلة الأمر، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها، كان هو2 المقدم شرعا: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"3، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها، أو بحياة من تحت نظره، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر؛ لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة، وتقع نفقته حيث لم يقصد، ويقصد غير ما كسب4 وإن كان لا يضره5 فإنه6 لم يكلِ التدبير إلى ربه، وأما الثاني، فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير7، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية، ولا يفوته من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "في التوجه إلى... فالعامل...".
2 إشارة إلى قوله: "ثم يندرج حظه في الجملة"، وقوله: "أو كان قيامه... إلخ" إشارة إلى قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها". "د".
3 مضى تخريجه "ص325".
4 في الأصل و"خ": "كتب".
5 في أنه قام بواجب شرعي، وأنه محمود أيضا. "د".
6 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "أنه".
7 في "ط": "وكيل".(36/444)
ص -330-…حظه شيء.
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة، فقد يفوته معها جُلُّ هذا أو جميعه؛ لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردًا عن غير ذلك، وهذا وإن كان جائزا، فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي، وهو منجرٌّ1 معه، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا، فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم، فإذا لم يراعَ2، لم يبقَ إلا مراعاة الحظ خاصة، هذا وجه.
ووجه ثانٍ أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي3 من غير نظر في شيء سوى ذلك، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه، وإما إلى ما4 فُهِم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده، فجعله وسيلة وسببًا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن كان عمله موافقا لقصد الشارع ولم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجا عن داعية هواه، أي أنه لم يعمل التفاتا لمقتضى خطاب الشارع أمرا أو نهيا أو إذنا، بل بمقتضى مجرد حاجته هو وداعية شهوته بقطع النظر عن الخطاب. "د".
2 في الأصل: "يرعَ".
3 لم يذكر هنا ما يتعلق بالمباح، فيقول: "أو توجهه للخطاب بالإذن، وقد ذكر الإذن في الوجه الأول، واحتجنا فيه إلى التكلف لتصحيح الكلام بجعله داخلا في المقاصد الأصلية، على أنه في الأول أيضا عند قوله: "فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر... إلخ"، لم يذكر الإذن، ومحصل الفرق بين هذا الوجه وما قبله أنه جعل هناك حكمة الأمر إحياء النفوس وإماطة الشرور عنها، وهنا جعل الحكمة أنه عبد سخره سيده في مصلحة عبيده وجعله وسيلة لإيصال حاجاتهم إليهم، ولم يقل هنا: "إنه يكون مقدما"، بل قال: "فكأن السيد هو القائم له بحظه"، فهل يعتبر هذا وذاك فيما به التغاير بين الوجهين؟ تأمل. "د".
4 في الأصل: "إذا ما فهم".(36/445)
ص -331-…وهذا أيضًا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر، فهو عامل بمحض العبودية، مسقط لحظه فيها، فكأن السيد هو القائم له بحظه، بخلاف العامل لحظه، فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر، ولا من حيث فهم مقصود الآمر، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ، فهو إن امتثل1 الأمرَ فمن جهة نفسه، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه، والتعبد بذلك العمل منتفٍ، وإن لم يمتثل الأمر، فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين، إذا غلب عليه طلب حظه، وذلك نقص.
ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأُوَل قائم بعبء ثقيل جدا، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب، بل يطلب حظه بما هو أخف، وسبب ذلك أن هذا الأمر2 حالة داخلة على المكلف شاء أم3 أبى، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف، وقد قال تعالى4: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد، بخلاف طالب الحظ، فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بهذا المعنى يكون فعله فعلا لمباح بدون نية لشيء سوى حظه، ومثل هذا لا يقال فيه: إنه امتثل الأمر، بل وافقه؛ لأن الامتثال يحتاج للقصد والنية، ويدل عليه قوله: "والتعبد بذلك منتفٍ". "د".
2 هو القيام على المقاصد الأول، وقوله: "الأول محمول"، أي: له حامل وباعث قوي من جهة سيده، يحفزه على القيام بمشاق الأعمال، فيستريح لها. "د".
3 في "د": "أو".
4 يصح أن يفهم ثقل القول في الآية على الرصانة والامتلاء من الحكمة التي تطمئن إليهما العقول الراجحة، وكذلك القرآن لإنزال حقائقه راسية وأنوار هدايته متدفقة على الرغم من كثرة من يحاول نقده، ويثير غبار الشبه في عين من يؤمن بأنه تنزيل من حكيم حميد. "خ".(36/446)
ص -332-…عامل بنفسه، وغير مستويين فاعل وفاعل بنفسه، فالأول محمول، والثاني عامل بنفسه، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق، فإن رأيت من يدعي تلك الحال، فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام، فإن أوفى به، فهو ذاك، وإلا، علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول، فلذلك أثر من آثار الإخلاص، وصاحب الحظ1 ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول، وثبت له الإخلاص، وصارت أعماله عبادات.
فإن قيل: فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، بل قد جاء عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الطيب، والنساء2 والحلواء والعسل3، وكان تعجبه الذراع4، ويستعذب له الماء5، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس؛ إذ كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال، بل كان يستعمله إذا وجده، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، وهو أتقى الخلق وأزكاهم، و"كان خلقه القرآن"6، فهذا في هذا الطرف.
ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله، ومع ذلك، فليس له في الآخرة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي خلط في عمله بين الحظ وبين الالتفات إلى الامتثال، ليس له من هذا المقام إلا بمقدار قلة مراعاة للحظ، وسيقول في آخر الفصل: "وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدم الإخلاص ولا أنفيه". "د".
2 مضى "ص240": "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء"، وهو صحيح.
3 مضى "1/ 185".
4 مضى "1/ 185".
5 مضى "1/ 185".
6 كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل 1/ 512-513/ رقم 746".(36/447)
ص -333-…خلاق، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة، حتى صار في الناس آية، وكل ما يعمله مبني على باطل محض، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ما زعمت ظواهر، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة، فانظر ما قاله الإسكاف في "فوائد الأخبار" في قوله عليه الصلاة والسلام: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاثٌ"1 يَلُحْ لك من ذلك المطلع خلافُ ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان، وهكذا يمكن أن يقال في سواها.
وأيضا، فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال، فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ، دون أن يتناوله من حيث الإذن؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم تبين نحوه في كل مقتدىً به ممن اشتهرت ولايته.
وأما الكلام عن الرهبان2، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ، بل هي عين الحظ، واستهلاك في هوى النفس؛ لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه لأن حظ النفس في الجاه أعلى، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم، فإنها أعلى، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث صحيح دون لفظة: "ثلاث"، وقد خرجناه "ص240".
2 في "ط": "في الرهبان".(36/448)
ص -334-…التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها، وذلك أول1 منهي في مسألتنا، فلا كلام فيمن هذا شأنه، ولذلك قالوا: "حب الرياسة آخر ما يخرُج من رءوس الصديقين"، وصدقوا.
والثاني: أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءًا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا، فإن كان أمر الشارع، فهو الحظ المبرأ المنزه؛ لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره، فكما يكون في مصالح غيره مبرءًا عن الحظ، كذلك يكون في مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول، وهذا شأن من ذكر في السؤال، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد؛ لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه، فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول، فإنه سعى في الحظ، وليس ما نحن فيه هكذا.
وأما2 شأن الرهبان ومن أشبههم، فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع، فينقطعون في الصوامع والديارات، ويتركون الشهوات واللذات، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه، وما يظنون أنه سبب إليه، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف، ولا أقول: "إنهم غير مخلصين، بل هم مخلصون إلى من عبدوا، ومتوجهون صدقا إلى من عاملوا، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة؛ لأنهم بنوا على غير أصل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أشد بواعث الهوى الذي وضعت الشريعة لإخراج العبد من ربقته. "د".
2 في الأصل: "وما".(36/449)
ص -335-…ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة: "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم"1 الحديث، فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره2، لكنه مبني على غير أصل، فلذلك قال فيهم: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"3، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم4، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 617-618/ رقم 3610، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب من ترك قتال الخوارج للتألف6 ولئلا ينفر الناس عنه، 12/ 290/ رقم 6933، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فجر به، 9/ 99/ رقم 5058"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 إن كان المراد من الدين في قوله: "يمرقون من الدين" أصل الإسلام، كان فساد أعمال هذه الفرقة من جهة أنها لم تكن قائمة على أساس الصحة الذي هو الإيمان، أما إذا أريد من الدين الطاعة وذهبنا إلى أنهم داخلون في حساب المسلمين على ما هم من الابتداع، فإنما يبطل من أعمالهم ما لم يأتِ على وضعه الشرعي أو لم يتوجهوا فيه إلى الله بنية خالصة. "خ".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 618/ رقم 3611، وكتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 283/ رقم 6930"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2/ 746-747/ رقم 1066" عن علي رضي الله عنه.
4 ورد في آخر الحديث السابق: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم".(36/450)
قال "د": "هذا دليل على أن معنى مروقهم من الدين خروجهم من أصل الإسلام، لا مطلق المعصية، فلا وجه لتردد بعضهم هنا".
قلت: وكلامه متعقب من وجوه كثيرة، انظرها في: "منهاج السنة النبوية" "3/ 27، 60 وما بعدها"، و"الرد على البكري" "ص256-260"، و"المسائل الماردينية" "ص65-70"،=(36/451)
ص -336-….........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و" مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199 وما بعدها"، وقد قرر المصنف في كتابه "الاعتصام" "2/ 185-187" عدم التكفير، فقال:
"وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر: عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم، ألا ترى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية؟!
فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة، لم يهاجمهم علي رضي الله عنه ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
وأيضا، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر، لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعادة والعداوة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين، وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.
ومن جهة المعنى إنا وإن قلنا: "إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفارا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا، وهو كفر.(36/452)
وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة والجماعة على مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة.
وأيضا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع"، انتهى كلام الشاطبي، ثم حكى كيف رجع الألفان من الحرورية لما جاءهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وناقشهم فآبوا إلى الحق ورجعوا.(36/453)
ص -337-…وعلى الجملة، فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه من اطراح الحظوظ1، لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله، وإن كان [مبنيا] على أصل فاسد، فبالضد، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة، فمن طالع أحوال المحبين رأى اطِّراحَ الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان.
فإذن، قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه، ولا أنفيه.
فصل:
ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّرُ تصرفاتِ المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات؛ لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل، ويترك إذا طلب منه الترك، فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب2.
أما باليد، فظاهر في وجوه الإعانات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنما يصح خلوص الإخلاص وكماله بسبب اطراح الحظوظ، وما بقي للحظ رائحة، فليس الإخلاص كاملا، في أي عمل فرضته. "د".
2 قرر رحمه الله في كتابه "الاعتصام" "1/ 32/ 34- ط محمد رشيد رضا" هذا المعنى بتفصيل، وله رسالة كتبها لبعض أصحابه فيها ضرورة الدعوة إلى الحق وأمانة نشره، تراها في "المعيار المعرب" "11/ 139"، و"فتاوى الشاطبي" "ص182-185"، وله أيضا في "المعيار" "11/ 141" وصية يحمل فيها أصحابه على الصبر على البلاء في بث العلم ونشره.(36/454)
ص -338-…وأما باللسان، فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم.
وبالقلب لا يضمر لهم شرا، بل يعتقد لهم الخير، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد.
بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ"1، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها"2، وحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل مسلم، فإذا قتلتم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2363، وكتاب المظالم، باب الآبار التي على الطريق إذا لم يُتأذَّ منها/ رقم 2466، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم/ رقم 6009" و"الأدب المفرد" "378"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم وإطعامها/ رقم 2244 بعد 153"، ومالك في "الموطأ" "2/ 929-930"، وأحمد في "المسند" "2/ 521"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم/ رقم 2550"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 537- الإحسان"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 46"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "113".(36/455)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم/ رقم 2318، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب 54/ رقم 3482"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242، وكتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، 4/ 2022".
وانظر تفصيل التخريج في كتابنا "من قصص الماضيين" "ص343-345".(36/456)
ص -339-…فأحسنوا القتلة" الحديث1 إلى أشباه ذلك.
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه، واقتداءً بنبيه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا تكون تصاريف مَن هذه سبيله عبادةً كلَّها؟ بخلاف من كان عاملا على حظه2، فإنه إنما يلتفت [إلى]3 حظه أو ما كان طريقا إلى حظه، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق، بل هو عامل في مباح إن لم يُخِلَّ بحق الله أو بحق غيره فيه، والمباح لا يُتعبَّد إلى الله به، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع، فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة، وإن فرضته كذلك، فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة.
فصل:
ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب؛ إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاةِ باتفاق، وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل، وهذا عامل بالكل4 فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله، فقد صار عاملا بالوجوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548/ رقم 1955"، وغيره عن شداد بن أوس ولكن بلفظ: "شيء" بدل "مسلم" وكذا سيأتي عند المصنف "3/ 396"، ومضى تخريجه "1/ 217".
وانظر سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب في كتاب السخاوي "تحرير الجواب في ضرب الدواب" بتحقيقنا.
2 في "ماء/ 189": "حظوظه".
3 سقط من "ط".
4 أي: عامل بقصد الأمر الكلي، وهو إقامة المصالح العامة للناس، لا لخصوص نفسه، سواء أكان الفعل الجزئي مندوبا أم كان مباحا يختل النظام إذا اختل. "د".(36/457)
ص -340-…فأما البناء [على المقاصد التابعة، فهو بناء على الحظ الجزئي، والجزئي لا يستلزم الوجوب، فالبناء]1 على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب، فقد يكون العمل مباحا، إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا، وإما مباحا بالجزء مكروها، أو ممنوعا بالكل، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام.
فصل:
ومن ذلك أن المقصد2 الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة، فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع، إما بعد فهم ما قصد3، وإما لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير، فهو قاصد ما قصده الشارع، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولاها، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ، كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع، فهو حَرٍ أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة.
وأما القصد التابع، فلا يترتب عليه ذلك كله؛ لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه، وخص عمومه، فلا ينهض نهوض الأول.
شاهده قاعدة: "الأعمال بالنيات"4، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخيل لِرَجل أجرٌ، ولرجل سترٌ، وعلى رجل وِزرٌ، فأما الذي هي له أَجْرٌ، فرَجُل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "المقصود".
3 في الأصل: "مقصودا".
4 سيأتي تخريجه "ص355"، وهو في الصحيحين".(36/458)
ص -341-…المرج أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك، فاستَنَّت شرفًا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهرٍ، فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حَسَنات"1، فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول؛ لأنه قصد بارتباطها سبيل الله، وهذا عام غير خاص، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجل ربطها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا ولم يَنْسَ حقَّ الله في رِقَابِهَا ولا ظهورها، فهي له ستر"2 فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه، كان حكمها مقصورا على ما قصد، وهو الستر، وهو صاحب القصد التابع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجُلٌ ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام3، فهي على ذلك وزرٌ"4، فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى، ولا كلام فيه هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار 5/ 45-46/ رقم 2371، وكتاب الجهاد، باب الخيل لثلاثة 6/ 63-64/ رقم 2860، وكتاب المناقب، باب منه 6/ 633/ رقم 3646، وكتاب التفسير، باب قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 8/ 726/ رقم 4962، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل 6/ 329/ رقم 7356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة 2/ 680-683/ رقم 987" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمرج: مرعى الدواب ومرج الدابة: أرسلها ترعى، وطيلها: حبلها الذي تربط فيه، والشَّرَف، بالتحريك: الشوط، أي الجري مرة إلى الغاية، وهو الطلق.
"2و 4" قطعة من الحديث السابق.(36/459)
3 اتخاذ أدوات الحرب مناوأة لأهل الإسلام قد يكون فسوقا كمن يتخذ الخيل للإغارة على الأموال المحترمة مثلما يفعل بعض قطاع الطريق، وقد يعد نبذًا للدين جملة، ودخولا في زمرة المخالفين عقيدة وحكما، كمن يركبها منضما إلى جيش العدو والزاحف على بلد إسلامي؛ لتكون كلمته هي العليا ويذيق المسلمين من مرارة سلطته القاهرة عذابا مهينا. "خ".(36/460)
ص -342-…ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالصحابة أو التابعين؛ لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به، كما في قول [بعض]1 الصحابة في إحرامه: "بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم"2، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال.
فصل:
ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصيِّرُ الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم.
أما الأول:
فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [العام] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق؛ لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل، وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر، وإذا فعل [ذلك] جوزي على كل نفس أحياها، وعلى كل مصلحة عامة قصدها، ولا شك في عظم هذا العمل، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا3، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء4 بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده؛ لأن الأعمال بالنيات، فمتى كان قصده أعم، كان أجره أعظم، ومتى لم يعم قصده، لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وفي "ط": "قول الصحابي".
2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روى جابر في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم في "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 888/ رقم 1218"، وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟". قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك..." إلخ.
3 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
4 مضى النص الوارد في ذلك "1/ 363".(36/461)
ص -343-…أجره إلا على وزان ذلك، وهو ظاهر.
وأما الثاني:
فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر، فالعامل على ضده يعظم به وزره، ولذلك كان ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة؛ لأنه أول من سن القتل1، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا، و"من سن سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"2.
فصل:
ومن هنا تظهر قاعدة أخرى، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها، ويتبين لك ذلك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا، فإنك تجده مطَّرِدًا إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
2 سيأتي تخريجه "ص385"، ومضى "1/ 223".(36/462)
ص -344-…المسألة السادسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة، فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية، أو لا.
فأما الأول؛ فعمل بالامتثال بلا إشكال1، وإن كان سعيا في حظ النفس.
وأما الثاني، فعمل بالحظ والهوى مجردا.
والمصاحبة إما بالفعل، ومثاله أن يقول مثلا: هذا المأكول، أو هذا الملبوس، أو هذا الملموس، أباح لي الشرع الاستمتاع به، فأنا أستمتع2 بالمباح وأعمل باستجلابه؛ لأنه مأذون فيه، وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه3 من الطريق الفلاني، فإذا توصل إليه منه، فهذا في الحكم الأول، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا، إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى، ويجري غير4 المباح مجراه في الصورتين.
فإذا تقرر هذا، فبيان كونه عاملا5 بالحظ والامتثال أمران:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي استشكاله، إلا أن يقال: إن هذا منه تنبيه على أن لم يبقَ بعد الجواب أثر للإشكال في نظره. "د".
2 أي: يقضي شهوة نفسه؛ لأنه مأذون فيه، فقد جمع بين الأمرين كما ترى. "د".
3 أي: فتخيره للطريق المباح من بين الطرق، وتحريه عنه ما جاء إلا من جهة التفاته لإذن الشارع، فيكون في قوة القول المذكور. "د".
4 وهو المندوب. "د".
5 أي: في الصورتين، والغرض بيان صحة مصاحبة الحظ والمقاصد التابعة للمقاصد الأصلية، وأن ذلك لا يكون اتباعا للهوى. "د".
قلت: وفي الأصل: "عاملا بالحق".(36/463)
ص -345-…أحدهما:
أنه لو لم يكن كذلك، لم يجز1 لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك2، بل كان يمتنع3 للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ، وهذا غير صحيح باتفاق، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال، مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى، فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال.
فإن قيل: كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟
قيل: معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية4، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك.
كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يكون انغماسا في اتباع الهوى المنهي عنه؛ لأن صاحبة الحظ إذا كانت مسقطة لما صاحبها من قصد الامتثال كان ما ذكره لازما. "د".
2 في الأصل و"ط": "لذلك".
3 أي: وأكل الميتة للمضطر من باب الواجب المتعلق بأمر عادي وهو إقامة الحياة. "د".
4 بعدها في "ط": "ودعاء الجاهلية".(36/464)
ص -346-…إسماعيل المخزومي أجرى عينا، فقال له المهندسون عند ظهور الماء: لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور، فتقتل من يعمل فيها. فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها، فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى1 أن يُذبَح للجن"2؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهٍ لما ذُبِحَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب بعض الناظرين هنا أن دعوى رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح كلها خرافات ومزاعم سخيفة ابتدعت بعد صدر الإسلام. ا.هـ. [قلت: هذا كلام "خ"، وسيأتي في آخر التعليق الآتي].
وأقول: إن الكلام في رؤية الجن مع كونه نابيًا عن المقام هنا، فهو مخالف لما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي"، وحديث البخاري عن أبي هريرة في حراسة الزكاة، وأنه علمه أن يقرأ آية الكرسي فلا يقربه شيطان حتى يصبح، إلى غير ذلك. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث تفلت الجني "ص441".
2 أخرجه أبو عبيد في "الغريب" "2/ 221"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 314" عن الزهري مرسلا بإسناد فيه عمر بن هارون، وهو متفق على ضعفه، واتهمه ابن معين وصالح جزرة بالكذب.
وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" "2/ 19"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 302" من طريق عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا.
قال ابن حبان عن ابن أذينة: "منكر الحديث جدا، يروي عن ثور ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الحاكم والنقاش: "روى أحاديث موضوعة". انظر: "اللسان" "3/ 257".(36/465)
وقال البيهقي عقب الحديث: "قال -أي الزهري: وأما ذبائح الجن أن تشتري الدار، وتستخرج العين، وما أشبه ذلك، فتذبح لها ذبيحة للطيرة، وقال أبو عبيد: وهذا التفسير في الحديث معناه أنهم يتطيرون إلى هذا الفحل مخافة أنهم إن لم يذبحوا فيطعموا أن يصيبهم فيها شيء من =(36/466)
ص -347-…على النصب وسائر ما أهل لغير الله به.
وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"1، وهي أن يتبارى الرجلان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجن يؤذيهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ونهى عنه".
قلت: الحديث موضوع، ومعناه المذكور يدخل فيه الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الطيرة. وفي "ط": "نهى عن ذبائح الجن، يريد، نهى أن يُذبَح للجن".
وكتب "خ": "مضى صدر الإسلام وليس من مدَّعٍ رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح والأطعمة، حتى قام من يزعم ذلك كله واتسع خرق هذه الضلالة، فكانت إحدى العلل التي فتكت بعقول كثيرة وألقت بها في تخيلات سخيفة ومزاعم يتبرأ منها الشرع الحكيم قبل أن يتهكم بها النظر الصحيح". وانظر -لزاما- الهامش السابق.
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب 3/ 101/ رقم 2820 -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 313"- عن أبي ريحانة، عن ابن عباس به.
قال أبو داود: "اسم أبي ريحانة عبد الله بن مطر، وغندر أوقفه على ابن عباس".
قلت: يشهد للمرفوع ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف" رقم 6690"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 197"، و النسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز" باب النياحة على الميت، 4/ 16"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، 3/ 216/ رقم 3222"، وابن حبان في "الصحيح" "7/ 415-416/ رقم 3146- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 62و 9/ 314"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 461و 11/ 227 - عن أنس مرفوعا: "لا عقر في الإسلام". وإسناده صحيح على شرط الشيخين.(36/467)
قال عبدالرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة"، وقال البيهقي عقبه: "قال أبو زكريا -أي: يحيى بن معين: "العقر" يعني الأعراب عند الماء يعقر هذا، ويعقر هذا، فيأكلون لغير الله ورسوله". وقال: "وقال أبو سليمان الخطابي فيما بلغني عنه: معاقرة الأعراب أن يتبارى الرجلان، كل واحد منهما يجادل صاحبه، فيعقر هذا عددا من إبله، ويعقر صاحبه، فأيهما كان أكثر عقرا غلب صاحبه، وكره لحومها لئلا يكون مما أهل به لغير الله".
وأفاد ابن الأثير في "النهاية" أنهم كان يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي: ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم.
ونقل كلام المصنف بحروفه السوسي في "الرحلة الحجازية" "1/ 162-163".(36/468)
ص -348-…فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقرا أجودهما، نهي عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به، قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان1 حوادث يتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرج أبو داود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل"2، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه، فهذا وما كان نحوه إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذكريات حوادث الموت الأربعينية والسنوية، وما شاكل ذلك. "د".
قلت: و في "خ" و"ط": "حدوث".
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في طعام المتبارين 3/ 344/ رقم 3754" من طريق زيد بن أبي الزرقاء، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، قال: سمعت عكرمة يقول: كان ابن عباس يقول... "وذكره".
وقال عقبه: "أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وهارون النحوي ذكر فيه ابن عباس، وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس".
قلت: أخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 128-129"، والطبراني في "الكبير" "11/ 340/ رقم 11942" من طريق هارون بن موسى عن الزبير به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509، 551"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6067" من طريق بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم به موصولا أيضا.
وقال البغوي: "والصحيح أنه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".
وقال ابن عدي عقبه في الموطن الأول: "وهذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقل من أوصله، وممن أوصله بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم".
قلت: وللموصول طريق أخرى، كما عند ابن عدي في "الكامل" "5/ 1874"، والخطيب في "تاريخه" "3/ 240" من طريق يزيد بن عمر -هو ابن جنزة- عن عاصم بن هلال، عن أيوب، عن =(36/469)
ص -349-…شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل، فإذا زِيدَ فيه هذا القصد، كان تشريكا في المشروع، ولحظا لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفيتا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها: إنها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عكرمة عن ابن عباس رفعه.
قال ابن عدي بعد أن ساقه وغيره من الأحاديث: "وهذه الأحاديث عن أيوب بهذا الإسناد ليست هي محفوظة".
وعاصم بن هلال ضعفه ابن معين ووهَّاه النسائي.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 7-8"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 123" عن طريق سليمان بن الحجاج، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المباهاة وطعام المتبارين".
وسليمان بن الحجاج الغالب على حديثه الوهم، كما قال العقيلي، وأورد الذهبي في "الميزان" "2/ 198" هذا الحديث في ترجمته، وقال: "لا يُعرَف، عداده في أهل الطائف".
وقال العقيلي عقبه: "يروي عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس، رفعه9 بعضهم وأوقفه بعضهم على عكرمة؛ الصحيح الموقوف".
قلت: وهو مما فات أبو حفص الموصلي في "الوقوف على الموقوف"، فدار الحديث من رواية الثقات على الزبير بن خريت، ولذا لما سأل علي ابن المديني أبا داود سليمان بن عمرو النخعي الكذاب عن الحديث، قال له: "عكرمة، إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين". قال: "حدثنا خصيف، عن عكرمة". قال ابن المديني: "فبان أمره، ولم يروِ هذا غير الزبير بن الخريت"، كذا في "تاريخ بغداد" "9/ 17-18"، وتصحف فيه "المتباريين" إلى المتنازين" فلتصحح.(36/470)
إلا أن الحديث شاهدا بإسناد صحيح، أخرجه ابن السماك في "جزء من حديثه"، "ق 64/ أ" كما في "الصحيحة" "رقم 626"، وابن لال والديلمي كما في "فيض القدير" "6/ 259"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6068" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما".
وقال الخطابي في "معالم السنن" "4/ 240" في شرح الحديث: "وإنما كره ذلك؛ لما فيه من الرياء والمباهاة، ولأنه داخل في جملة ما نهى عنه من أكل المال بالباطل".(36/471)
ص -350-…والثاني:
أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية، لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق، وذلك باطل قطعا، فيبطل ما يلزم عنه.
أما بيان الملازمة؛ فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ، إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة1 فيه، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا2 كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا.
وأما بطلان التالي3، فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي، واعملوا يدخلكم الجنة، واتركوا تدخلوا الجنة، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار، ومن يعمل كذا يُجْزَ بكذا، وهذا بلا شَكّ تحريض على العمل بحظوظ النفوس، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل، لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأَل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار، فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك، وقد أخبر الله تعالى عمن قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ط"، وفي غيره: "لا مناسبة".
2 الأولى أن يقول: ولما كان طلب الحظ الآجل بالطاعات سائغا، كان طلب الحظ العاجل بالعادات أولى بالجواز كما سيشير إليه بقوله: "فإذا لم يكن مثله قادحا في العبادات.... إلخ" وهذا في قوة قولنا، لكن التالي باطل، فيثبت نقيض المقدم وهو أن قصد الحظ لا ينافي صحة الأعمال العادية إذا انضم إليه قصد الامتثال ولو حكما. "د".
3 في الأصل و"خ": "الثاني".(36/472)
ص -351-…بقولهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10].
وفي الحديث: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما...." إلى آخر الحديث1، وهو نص في العمل على الحظ
وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك واشترط لنفسك، فلما اشترط، قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة" الحديث2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 495-496/ رقم 3459" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنما أَجَلُكُم في أَجَلِ من خَلَا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى"، فقالوا: "نحن أكثر عملا وأقل عطاء"، قال الله: "هل ظلمتكم من حقكم شيئا"؟ قالوا: لا، قال: "فإنه فضلي أعطيه من شئت".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، 4/ 445/ رقم 2268" عن ابن عمر مطولا مرفوعا، وفيه: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء...." نحوه.
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/ 446-447/ رقم 2269"، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام 96/ 66/ رقم 5021" عن ابن عمر نحوه.(36/473)
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 4/ 447 / رقم 2271" عن أبي موسى مرفوعا نحوه، وفيه: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما".
2 أخرج ابن شيبة في "المصنف" "14/ 598" -ومن طريقه ابن أبي عاصم في =(36/474)
ص -352-…وبالجملة، فهذا أكثر من أن يحصى، وجميعه تحريض على العمل بالحظ1، وأن لم يقل: اعمل لكذا، فقد قال: اعمل يكن لك كذا، فإذا لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الآحاد والمثاني" "3/ 394/ رقم 1818"، والطبراني في "الكبير" "17/ 256/ رقم 710"- وأحمد في المسند" "4/ 120" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "2/ 451"- من طريقين عن مجاهد عن عامر عن عقبة بن عمرو وأبي مسعود البدري، قال: "وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: وإني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أوجزوا في الخطبة، فإني أخاف عليكم كفار قريش". فقلنا: يا رسول الله! سلنا لربك، وسلنا لنفسك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا بما لنا من الثواب على الله تعالى وعليك. فقال: "أسأل لربي أن تؤمنوا به ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدِكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم وأن تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك، فلكم على الله عز وجل الجنة وعلي". قال: فمددنا أيدينا فبايعناه.
وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد.(36/475)
وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 119-120"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450، 451" من طرق عن زكريا ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي به مرسلا، ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "6/ 47"، وقوى إسناده الزرقاني في "شرحه على المواهب"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 186/ رقم 1757"، و"الصغير" "2/ 110"، و"الأوسط" بنحوه، ورجاله ثقات، كما في المجمع" "6/ 49"، وأخرج ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 389/ رقم 1809"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 410/ رقم 3772"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 234" من طرق عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حميد، عن أنس أن ثابت بن قيس خطب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: رضينا.
وإسناده ضعيف، خالد بن عبد الله الواسطي ضعيف، إلا أنه توبع، فأخرجه ابن السكن كما في "الإصابة" "2/ 14" من طريق ابن أبي عدي، عن حميد به.
وهذه الطرق تدلل على أن للقصة أصلا، والأشهر فيها أنه وقعت في حديث بيعة الأنصار، كما قال المصنف، واحتمال تعداد الوقوع ضعيف، والله أعلم.
1 في الأصل و"خ" و"ط": "بالحظ على العمل".(36/476)
ص -353-…يكن مثله قادحا في العبادات، فأولى أن لا يكون قادحا في العادات.
فإن قيل: بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول.
أما المعقول، فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة؛ لأنه لو لم يكن مقصدًا لم يكن مطلوبا بالعمل، وقد فرضناه كذلك، هذا خلف، وكذلك العمل1 لو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه، وقد فرضناه أنه يعمله؛ ليصل به إلى غيره، وهو حظه، فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث، وإذا ثبت هذا، فالأعمال المشروعة2 إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد، فأشبهت3 العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك، والأعمال المأذون فيها4 كلها يصح التعبد بها إذا أُخذت من حيث أذن فيها، فإذا أخذت من جهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق آخر يتوصل به إلى أن العمل وسيلة للحظ، وهو أقرب إلى أن يكون طريقا آخر في التقرير والتصوير فقط، ولا يخفى أنه في هذا الإشكال من أوله إلى آخره لم يأخذ فيه سوى العمل والحظ، ولم يذكر المقصد الأصلي المشارك للحظ الذي قال فيه: "فأما الأول "فعمل بالامتثال بلا إشكال" فإن الحظ موضوعنا ليس هو المقصود وحده، بل معه القيام بالمصلحة ودرء المفسدة، الذي هو غاية لإذن الشارع فيه، وأخذ المكلف له من هذه الجهة. "د".
2 وهي ما في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، يعني ما ليست عبادة بالأصالة لأنها موضوع المسألة هنا. "د".(36/477)
3 ولم تكن رياء محضا؛ لأنه مع طلب حظه والسعي فيه يضم إلى ذلك غرضه من إقامة المصلحة ودرء المفسدة بدليل أخذه لها من جهة الإذن. "د".
4 هي نفس الأعمال المشروعة في كلامه. "د".(36/478)
ص -354-…الحظوظ سقط كونها متعبدا بها، فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما، ينبغي أن يسقط التعبد بها، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به1، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة، فصار مهمل الاعتبار في العبادة، فبطل التعبد فيه، وذلك معنى كون العمل غير صحيح.
وأيضا، فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ؟! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه، فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة، وعلى هذا نبه القائل بقوله:
هب البعث لم تأتنا رسله …وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحَقِّ …ثناء العباد على المنعم
ويعني بالوجوب بالشرع، فإذا جعل وسيلة، أخرج عن مقتضى المشروع، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل، والعمل المبني عليه مثله، فالعمل المبني على الحظ كذلك.
وإلى هذا، فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق، ولا حجة له عليه، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه، بل لو عذب أهل السماوات والأرض كان له ذلك بحق الملك {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد، فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يخلو من حظ للنفس يمكن أن يتعلق به. "د".(36/479)
ص -355-…وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر، فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله، وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله، كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة: 5].
وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وفي الحديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك"1.
وفيه: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"2، أي: ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه، ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله، فالعامل لحظِّه مسقط لجانب التعبد، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء، وفي الآثار من ذلك أشياء، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: 3].
وأيضا: فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال، فقال الغزالي3: "كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وقل4 به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله / رقم 2985".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 9/ رقم 1"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 3/ 1515/ رقم 1907" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتقدم "1/ 459".
3 في "الإحياء" "4/ 380".
4 كذا في جميع النسخ، وفي "الإحياء": "وزال".(36/480)
ص -356-…إخلاصه"1.
قال: "والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما، وأغراض عاجلة [من هذه الأجناس]، ولذلك [قيل]: من سلم له من عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعز الإخلاص، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى"2.
ثم قال:"وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه".
قال: "وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتَر، مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبقَ لـ [حب] الدنيا في قلبه قرار، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة3، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام؛ بل لأنه يقويه على العبادة، ويتمنى [أن] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل، فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية، فلا يكون له همٌّ إلا الله تعالى، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته، كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوَّى4 على العبادة بعده؛ كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين، ومَن ليس كذلك؛ فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور"، ثم تكلم على باقي المسألة، وله5 في "الإحياء" من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله، فإذا كان كذلك، فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما كونه إذا شارك طلب الحظ قصد الامتثال يضعف الإخلاص، فلا كلام فيه، ولكن يلزم منه المطلوب وهو بطلانه رأسا. "د".
2 الهوامش من "2-5" في الاستدراك: "رقم 7".(36/481)
ص -357-…خلاف1 ما وقع الكلام عليه.
فالجواب أن ما تُعُبِّد العباد به على ضربين:
أحدهما: العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات.
والثاني: العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وهو القسم الدنيوي المعقول المعني، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم.
فأما الأول، فلا يخلو أن يكون الحظ [المطلوب]2 دنيويا أو أخرويا.
فإن كان أخرويا، فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم، وإذا ثبت شرعا، فطلبه من حيث أثبته صحيح؛ إذ لم يتعدَّ ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته؛ إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي، وذلك غير قادح في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يقل: "سقط كونه متعبدا بها" مع أن هذا هو محل الإشكال على أصل المسألة، بل قال كلاما مجملا عاما يمكن حمله على أنه لم يكن الإخلاص تاما، وهو الذي يصح أن يكون نتيجة لقوله: "وأيضا إلى هنا"، ويصح أن يحمل على الاستدلال على ما قاله من الإشكال، وهو أن جهة التعبد ساقطة وملغاة لمشاركة الحظ لها، وهذا هو الذي دلل عليه قبل قوله: "وأيضا"، واستنتج فيه قوله: "فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد"، ولو اقتصر عليه كان أولى؛ لأن ما بعده زائد عن الغرض. "د". وفي "ط": "فالعامل ملتفتا إلى...".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ونسخة "ماء/ ص193".(36/482)
ص -358-…إخلاصه؛ لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره؛ لأنه عز وجل يقول: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إلى قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الآية [الصافات: 40-43].
فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلَ(36/483)
ص -ومعنى كونه مخلَصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره1، فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلب الحظ ليس بشرك؛ إذ لا يعبد الحظ نفسه2، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله [من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله]3 غيره في ذلك الطلب بذلك العمل، والله لا يقبل عملا فيه شرك، ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا.
فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك.
وأيضا، فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ4 لا في الدنيا ولا في الآخرة، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله؛ لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه، والتلذذ بمناجاته، وذلك حظ عظيم، بل هو أعظم ما في الدارين، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك، فإن الله تعالى غني عن العالمين، قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا أنه لا يقصد مع العبادة شيئا آخر مطلقا حتى ما أثبته الشرع. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص194": "بنفسه".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في الأصل و"ط" و"خ": "الحظ.... للعبد".(36/484)
ص -359-…وإلى هذا، فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص، وذلك قليل، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق، وهذا شديد.
وعلى أن بعض الأئمة قال: إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية، ومن ادعاه، فهو كافر، قال أبو حامد: "وما قاله حق، ولكن القوم إنما أرادوا به1 "يعني: الصوفية" البراءة عما يسميه الناس حظوظا، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة، والنظر إلى وجه الله العظيم، فهذا حظ هؤلاء، وهذا لا يعده الناس حظا، بل يتعجبون منه".
قال: "وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة، وملازمة الشهوة للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة، لا ستحقروها ولم يلتفتوا إليها، فحركتهم لحظّ2، وطاعتهم لحظّ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره". هذا ما قال، وهو إثبات لأعظم الحظوظ3، ولكن هؤلاء على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بقولهم: "إن البراءة عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسيرة جدا، لا يصل إليها إلا خواص الخواص" أي: فهي ممكنة، فكيف يقال: من ادعاها كافر؟ فأبو حامد يجمع بينهما بأن براءة خواص الخواص إنما هي من قصد النعيم المذكور لأهل الجنة من أكل وشرب ولباس وتمتع بحور وما أشبه، لا كل حظ، وإلا، فحظ المعرفة والمناجاة والنظر ونحوها حظوظ خواص الخواص، فلم يتبرؤوا من الحظوظ رأسا، حتى يشاركوا الإله في وصفه. "د".
2 في الموضعين من الأصل: "لحظة".(36/485)
3 ادعى بعض الفلاسفة أن الإنسان قد يعمل لمجرد كونه خيرا، وأن يتقين أنه لا ينال من أثره نفعا، والراسخ في علم أحوال النفس لا يكاد يصدق بأن في طبيعة النفس الناطقة ما يساعدها على أن تقبل على العمل دون أن تشعر بأنها ستنال في عاقبته قسطا من اللذة أو السعادة، غير أن من الغايات ما يكون محمودا وتزداد النفس بالقصد إليه كالفوز برضوان الله، وما يترتب عليه من سعادة باقية، ومنها ما يكون رذيلة كمن يعمل حرصا على منفعة خاصة ولا يبالي أن تجر في أذيالها ضررا يتعدى إلى غيره. "خ".
قلت: سيأتي بسط ذلك في التعليق على "ص364".(36/486)
ص -360-…أحدهما: من يسبق له امتثال أمر الله الحظ، فإذا أُمر أو نُهِي لبَّى قبل حضور الحظ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ، وأصحاب هذا الضرب على درجات، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء.
والثاني: من يسبق له الحظ الامتثال، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء، وسبق له الخوف أو الرجاء، فلبى داعي الله، فهو دون الأول، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا؛ إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه، من حيث لا يقدح في الإخلاص كما تقدم.
فصل:
وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا، فهو قسمان:
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة، وحسن الظن عند الناس، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله.
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا، وهذا ضربان:
أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل.
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك، فهذه ثلاثة أقسام.(36/487)
ص -361-…أحدها:
يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة.
فإن كان هذا القصد متبوعا، فلا إشكال في أنه رياء؛ لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله، وهذا بيِّن.
وإن كان تابعًا، فهو محل نظر واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل، فوقع في "العتبية"1 في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب2 أن يعلم، ويحب أن يلقى3 في طريق المسجد، ويكره أن يلقى3 في طريق غيره، فكره ربيعة هذا، وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان، أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير، فيقول له: إنك لمراءٍ وليس كذلك، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك، وقد قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
وقال عن إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وفي حديث ابن عمر: "وقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا"4.
وطلب العلم5 عبادة، قال ابن العربي: "سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "1/ 498- مع "البيان والتحصيل"، وكذا في "المقدمات" "ص30" لابن رشد، وفيه زيادة بيان وإيضاح.
2 في "العتبية": "يجب"، بالجيم.
3 في الموطنين: "يلفى"، بالفاء.
4 سيأتي تخريجه "3/ 146"، وهو في الصحيحين".
5 الذي هو موضوع حديث ابن عمر؛ لأنهم كانوا في مجلسه صلى الله عليه وسلم يسألهم في العلم، ومع كونه في مقام عبادة، قال: لأن تكون قلتها.... إلخ الذي يؤول إلى أن عمر لم يخشَ في عبادة ابنه بطلب العلم حظا هو اعتقاد الفضيلة فيه. "د".(36/488)
ص -362-…ما بينوا؟ قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات. قلت: ويلزم ذلك؟ قال: نعم؛ لتثبت أمانته، وتصح إمامته، وتقبل شهاداته"1.
قال ابن العربي: "ويقتدي به غيره، فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه2 العبادة".
والثاني:
ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه، مع الغفلة [عن مراءاة الغير]3، وله أمثلة:
أحدها: الصلاة في المسجد للأنس بالجيران، أو الصلاة بالليل لمراقبة، أو مراصدة، أو مطالعة أحوال.
والثاني: الصوم؛ توفيرًا للمال، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه، أو احتماء لألم يجده، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له.
والثالث: الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس.
والرابع: الحج؛ لرؤية البلاد، والاستراحة من الأنكاد، أو للتجارة، أو لتبرمه بأهله وولده، أو إلحاح الفقر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان كذلك لا يكون هذا الحظ إلا المصلحة العامة ونفع الخلق بالقصد الأول، ويكون ما يرجع إليه هو تابعا صرفا. "د".
وقال "خ": "كان عليه الصلاة والسلام يبين بالقول تارة وبالفعل أخرى، وكذلك العالم لو أوفى البيان بالقول حقه لخلصت ذمته من واجب التبليغ، فتفسير أبي منصور الشيرازي قوله تعالى: {وَبَيَّنُوا} بإظهار الفعل إنما هو بعض ما يتناوله اللفظ، وليس هو الطريق الوحيد للتبيين، والوجه الذي ينحصر فيه المراد من الآية بحيث لا يكفي التبيين بالأقوال الصريحة".
قلت: وكلام ابن العربي في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511"، وعنه القرطبي في "التفسير" "5/ 423-424" مع تعقب له، فانظره لزامًا.
2 في "ط": "به".
3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(36/489)
ص -363-…والخامس: الهجرة؛ مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال.
والسادس: تعلُّم العلم؛ ليحتمي به عن الظلم.
والسابع: الوضوء؛ تبردا.
والثامن: الاعتكاف؛ فرارا من الكراء.
والتاسع: عيادة المرضى والصلاة على الجنائز؛ ليُفعَل به ذلك.
والعاشر: تعليم العلم؛ ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث.
والحادي عشر: الحج ماشيا؛ ليتوفر له الكراء.
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة، وقد التزم الغزالي1 فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض، وأما ابن العربي، فذهب إلى خلاف ذلك، وكأن2 مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك، فيصحح العبادات، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والخلاف فيها واقع، ورأي أصبغ فيها البطلان3، فإذا كان كذلك، اتجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الاتجاه الأخلاقي" "ص53 وما بعدها"، وتابع الغزالي في رأيه هذا الحارث المحاسبي في "الرعاية" "ص150"، ونقله عن الحارث وأيده القرطبي في "تفسيره" "5/ 180-181 و9/ 14".
2 في الأصل و"خ": "كان".
3 أي: مع وجود الانفكاك كما هو رأي الغزالي، وقوله: "على أن" تأييد لرأي ابن العربي. "د".(36/490)
ص -364-…النظران، وظهر مغزى المذهبين.
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه1، لما جاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سر المسألة أن القائلين بعدم الانفكاك ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها مزاحم للقصد المتجه إلى الله، فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلما وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أُمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد.
ولا يفوتنا ونحن نبحث في أصل المسألة أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أن الشارع قصد في وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد قرر المصنف هذه المسألة بما لا مزيد عليها في أول هذا "كتاب المقاصد" فإذا كان هذا مقررا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصالح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟!
لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العباد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تُجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها، لكان هذا القول مرضيا ومقبولا؛ لأن المكلف مطالب بألا يتوجه ولا يقصد إلا ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أن الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة.(36/491)
ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة، فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف؛ لأنها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره ويحفظ عليه دنياه وأخراه، ويحسن أن نقرر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها، لا يضاد الإخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال.
ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين؛ لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم؛ إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال.
كيف نريد من الذي يريد طهارة وضوء أو غسلا- ألا يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى التنظف والتطيب؟ وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان ألا يقصد التبرد وإنعاش=(36/492)
ص -365-…....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نفسه؟ فإن قَصَد هذا القصد حكمنا على عمله بالبطلان والفساد، وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي تنصرف عما تحسه وتطلبه، فكيف السبيل إلا أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل؟ ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذاتها ثم يطيق ألا يقصد هذا النعيم؟ وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سد خلة الفقير وصلة الأرحام وتقديم الخير لبني الإنسان نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!
ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!
ألم يقرنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبه ونرضاه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} [الصف: 13].
وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها؟ فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التي شرعها، وأبتعد عما حرم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتي تحبها النفس وتتطلبها منها؟!
إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين، أطباء، ومهندسين، وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال.(36/493)
لا يجوز أن يحتج في هذا بأن الشارع لم يرتضِ أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية: بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا، وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله؛ لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع.
نعم؛ نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا، وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع، فنطلبه مع أنه واقع الأمر ليس بمطلوب ولا مقصود له.
وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلا المصالح التي نص الشارع عليها،=(36/494)
ص -366-…من الأدلة على ذلك، ففي القرآن الكريم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم} [البقرة: 198]، يعني: في مواسم الحج.
وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة: "إنه دأب المرسلين، فقد قال الخليل عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وقال الكليم: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينه في الصلاة1، فكان يستريح إليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(36/495)
= والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من الناس، وإنما هي شريعة عامة جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه، لننظر في هذه المرغبات التي يجليها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]. ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].(36/496)
هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها، فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه وايم الله العبودية الحقة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب}، نعم لو قالوا ما قرره المصنف سابقا بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله، لكان قولهم صوابا. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص398 وما بعدها".
1 مضى تخريجه "ص240".(36/497)
ص -367-…من تعب الدنيا1، وكان فيها نعيمه ولذته، أفيقال: إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها؟ كلا، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها".
في "الصحيح"2: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه لو وجاء"3.
ذكر ابن بشكوال عن أبي على الحداد، قال: حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه، على ما لم يكن يعهد من نفسه، وسأله عن الدواء، فقال: اسرد الصوم تصلح معدتك.
فقال: يا أبا عبد الله! على غير هذا دلني، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها. قال أبو علي: وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام -يعني: هذا الحديث- وجبنت عن إيراد ذلك عليه في [ذلك] المجلس، وأحسبني ذاكراته في ذلك في غير هذا المجلس، فسلم للحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أرحنا بها يا بلال"، ومضى تخريجه "ص240".
2 ومثله حديث: "إذن تكفى همك" لمن قال له عليه السلام: إني أحب الصلاة عليك أأجعل لك ربع صلاتي، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها. فإذا راعى ذلك في صلاته كان من هذا القبيل، ومنه ما ورد في الاستغفار {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} الآية فيها ترتب حظ دنيوي بل حظوظ على الاستغفار، وهو عبادة. "د".
قلت: وحديث "إذن تكفى همك" خرجته بإسهاب في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم، وفيه تعليق جيد عليه.
3 سيأتي تخريجه "3/ 143"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه.(36/498)
4 الفرق بين الواقعة المذكورة والحديث أن الواقعة تشير إلى قصد إصلاح المعدة، وهي معدودة من الحظوظ النفسية، أما الحديث، فيتضمن القصد بالعبادة إلى التعفف الذي هو واجب شرعي، ولكن المصنف سينبه إلى أن العلة في صحة العبادة التي قصد فيها إلى طاعة أخرى كون هذه الطاعة مأذونا فيها فيلحق بها ما كان غير عبادة من المأذون فيه، ومن يرى أن القصد إلى حظ دنيوي يكدر صفو العمل الخالص يذهب إلى أن العلة في صحة القصد إلى طاعة أخرى إنما هي كونها من جنس العبادة في طلب الشارع لها ووعده بالثواب عليها. "خ".
قلت: في الأصل: "أبا بكر بن زنب"، و"..... وذكرت ذلك في....."، وما بين المعقوفتين سقط منه.(36/499)
ص -368-…وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدًا في شعب، فقام يصلي ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا1 الحراسة والرصد2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يريد حقيقة الحصر كما هو ظاهر. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، 1/ 280" معلقا عن جابر، قال: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فرمي رجل بسهم فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته".
وأخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الوضوء من الدم، 1/ 50-51/ رقم 198"- ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "1/ 140"، وابن بشكوال في "الغوامض" "رقم 143"، والدارقطني في "السنن" "1/ 223-224"، وابن خزيمة في الصحيح "1/ 24-25/ رقم 36" ومن طريقه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 114، 115"، وأحمد في "المسند" "3/ 343-344، 359"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 156-157" ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ رقم 604- بتحقيقي"، و"السنن الكبرى" "1/ 140، 9/ 150"، و"الصغرى" "1/ 31/ رقم 40"-، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 375-376/ رقم 1096- الإحسان" من طرق عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار بن جابر وهو عقيل بن جابر، سماه سلمة الأبرش، عن جابر به مطولا جدا، قال الحاكم: "هذا الحديث صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بأحاديث محمد بن إسحاق، وأما عقيل بن جابر الأنصاري، فإنه أحسن حالا من أخويه محمد وعبد الرحمن".
قال ابن حجر في "الفتح": "وعقيل لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف- أي: البخاري- إما لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق"، وقال: "وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم".
قلت: أي بإخراجهم له في "الصحيح"، ونقل ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ =(36/500)
ص -369-…والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة، كانتظار الداخل1 ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث2، وما لم يعمل به مالك3 فقد عمل به غيره، وكالتخفيف لأجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 280" عن الدارقطني قوله: "إسناده صالح"، ولا يوجد ذلك في مطبوع "السنن"، وفي المطبوع نقص وتصحيف، أرجو الله أن ييسر له تحقيقا على وجه جيد.
قلت: والحق أن إسناده ضعيف، فعقيل لم يوثقه غير ابن حبان، بذكره له في "الثقات" "5/ 272"، ولم يرو عنه غير صدقة، انظر: "تهذيب الكمال" "20/ 134"، ولعله من أجله علقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض، ولم يشر لذلك ابن حجر فيما تقدم من النقل عنه، ولكنه قال في "تغليق التعليق" زيادة للاحتمالين المذكورين، أعني: الاختصار، والاختلاف في ابن إسحاق، قال: "وما انضاف إليه من عدم العلم بعدالة عقيل" وفي طريق أبي داود وغيره تصريح ابن إسحاق بالسماع له من صدقة، وصدقة وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود وابن سعد وغيرهم، وروى له مسلم في "الصحيح".
والرجل المذكور هو عباد بن بشر، كما في "الغوامض" "رقم 143"، والمستفاد" "ص80- ط الشيخ حماد الأنصاري"، وسمي في رواية عند البيهقي في "الدلائل" "3/ 378-379" من حديث صالح بن خوات عن أبيه، ولكن بإسناد واهٍ بمرة.
1 هل الانتظار لإدراك الداخل للركوع أمر دنيوي؟ أم هو لتكميل العبادة، ومثله يقال في التخفيف في المسائل بعده بدليل الحديث الآتي: "مخافة أن تفتن أمه" وفتنتها شغلها عن الصلاة. "د".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، 1/ 212-213/ رقم 802"، وأحمد في "المسند" "4/ 356"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 337" من طريق محمد بن جحادة عن رجل عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر في صلاته ما سمع وقع نعل.(37/1)
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 28-29": "والرجل لا يعرف، وسماه بعضهم طرفة الحضرمي، وهو مجهول، أخرجه البزار وسياقه أتم، وقال الأزدي: طرفة مجهول" انتهى، فالحديث ضعيف.
قال المزي في "تحفة الأشراف" "4/ 291" في زياداته: "رواه أبو إسحاق الحميسي عن =(37/2)
ص -370-…الشيخ والضعيف وذي الحاجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إني لأسمع بكاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن جحادة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى، وطوله".
وقد وصله البيهقي في "الكبرى" "2/ 66"، ولكن وقع عنده "عن طرفة الحضرمي" بدل "كثير" فليتأمل، ويترجح ما عند البيهقي بأن كثير الحضرمي لما ذكره المزي في "تهذيب الكمال" لم يذكر في شيوخه عبد الله بن أبي أوفى، ولا محمد بن جحادة فيمن روى عنه، وقد جزم الحافظ الضياء بأن الذي لم يسمَّ في هذه الرواية هو"طرفة"، وكذا ذكر ابن حبان في "ثقات التابعين" "4/ 398" طرفة، وأنه يروي عن عبد الله بن أبي أوفى، ويروي عنه محمد بن جحادة، أفاده ابن حجر في "النكت الظراف" "4/ 291" و"ترتيب مسند الإمام أحمد" "3/ 330".
واللفظ الذي أوردناه آنفا هو ما ساقه ابن حجر في "التلخيص"، ولفظ أبي داود وأحمد: "كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم"، وهو أيضا يدل على قول المصنف: "انتظار الداخل ليدرك الركوع معه"، فتأمل.
وينظر في فقه المسألة: "مختصر المزني" "1/ 113"، و"المجموع" "4/ 130"، و"تفسير القرطبي" "5/ 180"، و"نيل الأوطار" "3/ 147"- وفيها ما يدل على كراهية هذا الانتظار، وذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بسببه-، و"قواعد الأحكام" "1/ 151"، وفيه: ".... ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟!"
قلت: يتأكد قوله بما ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي"، فهل هذا النقصان يناقض النية الخالصة الصحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلل ذلك بقوله: "ما أعلم من شدة وجد أمه لبكائه".(37/3)
وهل مقصد مالك بن الحويرث رضي الله عنه كما ثبت عنه في "صحيح البخاري" "2/ 163- الفتح" عندما كان يصلي بالناس ما يريد بصلاته إلا أن يعلمهم الرياء والسمعة؟ وهل في ذلك ما يناقض النية الصحيحة؟
وأخيرا... عقد المجد ابن تيمية في كتابه "المنتقى" "باب إطالة الإمام الركعة الأولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة"، فانظره.
3 أي: وما يكره عند مالك من انتظار الداخل حال الركوع، فقد قال به غيره. "د".
قلت: وفي "ط": "وإن لم يعمل............"(37/4)
ص -371-…الصبي"1 الحديث.
وكرد السلام2 في الصلاة3، وحكاية المؤذن4، وما أشبه ذلك مما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص248".
2 وهل رد السلام وحكاية المؤذن أمر دنيوي؟ نعم، هو خارج عن حقيقة الصلاة إلا أنه ليس دنيويا، بل عبادة، وقوله: "بل لو كان شأن العبادة.... إلخ" يفيد أن ما ذكر قبله ليس عبادة، وأنه مما نحن فيه من مشاركة أمر دنيوي لقصد العبادة، وهو كما ترى. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، 1/ 243-244/ رقم 927"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 2/ 204/ رقم 368"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، 1/ 325/ رقم 1017"، و أحمد في "المسند" "2/ 30"، والدارمي في "السنن" "1/ 316" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه.
وبسط جعفر بن عون "أحد الرواة" كفه، و جعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق.
وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" "ص22": "قلت "يعني لأحمد": يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم. فذكر قصة بلال حين سألة ابن عمر، كيف كان يرد؟ قال: كان يشير. قال إسحاق: كما قال".(37/5)
واختار هذا بعض محققي المالكية، فقال القاضي أبو بكر بن العربي في "العارضة" "2/ 162": "قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام، ففيها الآثار الصحيحة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهيا لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب، على حسب ما بيناه في أصول الفقه"، أفاده شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 185".
4 وحكاية الأذان في الصلاة لا تشرع عند الشافعي، وقالوا: فإذا فرغ منها قال الأذان، وقال ابن قدامة في "المغني" "1/ 443- "الشرح الكبير": "دخل المسجد، فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله، وافتتح الصلاة، فلا بأس"، نص عليه أحمد.(37/6)
ص -372-…عمل خارج عن حقيقة الصلاة، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة، ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها.
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواها، لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه، وانتظار الصلاة، والكف عن إذاية الناس، واستغفار الملائكة له، فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره، وهذا غير صحيح باتفاق، بل كل قصد منها صحيح في نفسه وإن كان العمل واحدا؛ لأن الجميع محمود شرعا، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه، لاشتراكهما في الإذن الشرعي، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان1 لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيا لها، كالحديث2، والأكل، والشرب، والنوم، والرياء، وما أشبه ذلك، أما ما لا منافاة فيه، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى3، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه، كمن يقصد في صومه "الحمية"، وفي اغتساله "التبرد"، وفي حجه "التفسح".... وهذا مع وجود قصد التعبد أيضا، المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد، وهذا ما فصلناه آنفا، وهو الذي قرره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 151"، والقرافي في "الفروق" "3/ 22".
2 في الأصل و"ط" "كالحدث".
3 ودليله ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "13/ 51- شرح النووي" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تم لهم أجرهم".(37/7)
وهذا دليل آخر على صحة الانفكاك؛ إذ فيه قصد الغنيمة مع الجهاد، فينقص بذلك الأجر ولم يبطل بالكلية، كما قال ابن رجب. انظر: "الدين الخالص" "2/ 283" لصديق حسن خان، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "26/ 29-30".(37/8)
ص -373-…الحكم للغالب، فلم يعتد بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد.
والثالث:
ما يرجع إلى المراءات، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه، فهو الرياء المذموم شرعا، وادعى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا، وحكمه معلوم، فلا فائدة في الإطالة فيه.
فصل:
وأما الثاني، وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد، كالنكاح، والبيع، والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة، فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه1 في الأوامر والنواهي، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة [له]2، وإذا علم ذلك بإطلاق، فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع، فكان حقا وصحيحا، هذا وجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يأمر إلا بما فيه القيام بالمصلحة، ولا ينهى إلا عما يترتب عليه ضياع المصلحة، والقوانين التي وضعها لسائر المعاملات روعي فيها أنها تقوم بحفظ هذه المصالح والحظوظ العاجلة، وتدرأ المفاسد عنها، والنواهي عما نهى عنه إنما لحكمة أنه يجلب المفاسد ويضر باستقامة هذه الحظوظ. "د".
2 ليست في الأصل.(37/9)
ص -374-…ووجه ثانٍ: أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحًا في التماسه وطلبه، لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية، وهذا كافٍ في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه، أو ليعد من أهل العفاف، أو لغير ذلك، لصح تزوجه، من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا.
ووجه ثالث: أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67].
وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22].
وقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73].
وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].
إلى آخر الآيات، إلى غيبر ذلك مما لا يحصى.
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان؛ لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات1، وقطع للأهواء، كالصلاة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العادات".(37/10)
ص -375-…والصيام، والحج، والجهاد، إلا ما نحا نحو قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}1 [البقرة: 216] بعد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضي به الأوطار، وتفتح به أبواب التمتع واللذات النفسانية، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات، وأضراب ذلك، فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية، ولا نقصا من حق الربوبية، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر الذي امتن بها، وذلك صحيح.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا؛ إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق، لما تقدم.
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية؛ لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ؛ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل، ثم أتبعه آثارًا حسنة من التمتع باللذات، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع، فكان قصد هذا القاصد2 بريئا من الحظ، وقد انجر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(37/11)
1 أي: فهو امتنان عليهم بأن يجعل ما يكرهونه خيرا لهم، وأصل القتال من التكاليف المجردة عن الحظوظ، يعني: وهذا النوع قليل الوقوع أن يمتن في مقام مجرد التكليف، وقد يقال: إن هذا لا يحتاج إلى استثناء؛ لأن الامتنان بشيء آخر غير نفس المكلف به المجرد عن الحظ، فليس امتنانا بنفس القتال، بل بأنه سبحانه وتعالى تفضل علينا بأن يجعل من المكروه لنا أيا كان نوعه خيرا وفائدة عظمى حتى يصير ما نكرهه هو الخير الصرف. "د".
2 في الأصل: "القاصدين".(37/12)
ص -376-…في قصده الحظ، فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع، فلا مخالفة للشارع من جهة القصد، بل له موافقتان: موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول، وهو التمتع، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر، زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف.
وأيضا1 ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل، فهو بامتثال الأمر ملبٍ للشارع في هذا القصد، بخلاف طلب الحظ فقط، فليس له هذه المزية.
فإن قيل: فطالب الحظ على هذا الوجه ملوم؛ إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة.
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا، فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي.
وأيضا، فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد2، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد، كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها، لكن لا يستوي القصدان: قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن، فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موافقة ثالثة. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "لم يلد"، و كتب "د" بناء عليه: "اللائق بالمقام حذف "لم"، أي: فالذي يقصد التمتع فقط بالنكاح داخل ضمنا وبحسب العادة على أنه سيلد، ويتكلف تربية الأولاد، والإنفاق على الزوجات، فهو قاصد ضمنا لمقصد الشارع الأصلي من النكاح، وهو النسل".(37/13)
ص -377-…غير قادح في العمل.
فإن قيل: فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال، وإنما طلب حظه مجردا، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع، فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا؟
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا؛ لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع، فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [لو]1 يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه، فليس من الحق في شيء، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر.
فإن قيل: أما كونه عاملا على قصد المخالفة، فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق، فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق، وإذا وافق أمر الشرع جهلا، فسيأتي أنه يصح عمله على الجملة، فلا يكون عمله بالهوى أيضا، وإلى هذا، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول: إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر أنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا.
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة، فلا يستلزم أن يكون موافقا له، بل الحالات ثلاث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها، ومن "ط".(37/14)
ص -378-…حال يكون فيها قاصدا للموافقة، فلا يخلو أن يصيب بإطلاق، كالعالم يعمل على وفق ما علم، فلا إشكال، أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه، لم يقصد مخالفة، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل1، فيؤاخذ في الطريق، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا2، ويمضي عمله إن كان موافقا.
وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع، فسواء في العبادات وافق أو خالف [فإنه لا اعتبار بموافقته كما] لا اعتبار بما يخالف فيه3 لأنه مخالف القصد بإطلاق، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق4 دون ما خالف؛ لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته، كمن عقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "في ذلك"، وفي "ط": "على ذلك".
2 عقد القرافي الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه وبنى الفرق على قاعدة هي ما حكاه الإمام الشافعي في رسالته والإمام الغزالي في "إحيائه" أن الإجماع على أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، ثم عقد الفرق الرابع والتسعين بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وقاعدة ما يكون عذرا فيه، وخلاصة الفرق بينهما أن الجهل المعفو عنه ما يتعذر الاحتراز عنه.
عادة وغير المعفو عنه ما لا يتعذر الاحتراز عنه في العادة. "خ".
قلت: انظر أيضا في العذر بالجهل وحده: "طريق الهجرتين" "412-414"، و"تفسير الآلوسي" "1/ 154" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 21و 11/ 406-407 و20/ 59-61 و19/ 23، 219"، و"الإحكام" "5/ 111 -114" لابن حزم.
3 في الأصل: "بما وافق أو خالف فيه"، وفي "خ": "بما يخالف".(37/15)
4 أي: فما فعله على نية المخالفة، ولكنه صادف موافقة الطريق المشروع كان معتبرا، أي غير باطل، فتنسحب عليه أحكام الصحيح، وأما إذا صادف مخالفة المشروع، فهو باطل لا يأخذ حكم المشروع، وقوله: "لأن ما لا تشترط النية.... إلخ" توجيه لا عتبار ما وافق مع كونه ناويا المخالفة. "د".(37/16)
ص -379-…عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا، أو شرب جلابا يظنه خمرا، إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم.
وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة، فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة، كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل، أو يدري ولكنه إنما قصد1 مجرد العاجلة، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع، وحكمه في العبادات عدم الصحة، لعدم نية الامتثال، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع، وإلا، فعدم الصحة.
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال: إن المقصد2 هنا لما انتفى، فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة، وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور، كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا، وإن وافقت المصلحة، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها، على تفصيل أصله هذا النظر، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض، فهو بهذا القصد مخالف للشارع، وقد يقال: القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع، فصح.
فصل:
حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع، فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام، فكل ما خالف قصد الشارع، فهو باطل على الإطلاق، لكن بالتفسير المقدم3، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "قصده".
2 في "ط": "القصد".
3 وهو عدم ترتب الآثار الأخروية عليه من مرجو الثواب. "د".(37/17)
ص -380-…المسألة السابعة:
المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما:
ما كان من قبيل العادات الجارية بين الخلق، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية، التي هي طرق الحظوظ العاجلة، كالعقود على اختلافها، والتصاريف المالية على تنوعها.
والثاني:
ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود.
فأما الأول:
فالنيابة فيه صحيحة1، فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه2 فيما لا يختص به منها، فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه؛ لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه، كالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والإجارة والاستئجارة3، والخدمة، والقبض، والدفع، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا، كالأكل والشرب، واللبس، والسكنى، وغير ذلك مما جرت به العادات، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا، فإن مثل هذا مفروغ من النظر فيه؛ لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار؛ لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال، فإن النيابة فيه تصح، فإن كان دائرا بين الأمر المالي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 196": "تصح".
2 في الأصل: "ويقوم مقامه".
3 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص197": "والاستجارة".(37/18)
ص -381-…وغيره، فهو مجال نظر واجتهاد، كالحج1 والكفارات، فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد، فلا تصح النيابة فيه، أو المال، فتصح، والكفارة، بناء على أنها زجر فتختص، أو جبر فلا تختص، وكالتضحية2 في الذبح بناء على ما بنى عليه في الحج، وما أشبه هذه الأشياء.
فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف، فلا نيابة، وإلا، صحت النيابة، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة لوضوح الأمر فيه.
وأما الثاني:
فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلف غيره، وعمل العامل لا يجتزي به غيره3، ولا ينتقل بالقصد إليه، ولا يثبت إن وهب، ولا يحمل إن تحمل، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا4.
فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التمثيل بالحج هنا غير واضح؛ لأن تقدير كلامه إن كان الأمر العادي دائرا بين المال والعقوبة كالكفارات، فهو مجال نظر، وليس الحج كذلك، بل هو أمر عبادي وفيه نوع ارتباط بالمال، فإذا تغلب أحدهما روعي، ومثله يقال في الضحية، ولو أنه جعل التقسيم إلى ثلاثة أضرب، فأضاف إلى هذين الضربين ضربا يدور بين العبادة والأمور المالية لكان أوجه. "د".
2 في الأصل و"خ" و"ط": "الضحية".
3 فصل هذه المعاني وإن كانت متقاربة أو متلازمة لتأتي الأدلة في الآيات بعدها على طبقها صراحة، فعليك بتطبيق الأدلة على تلك المعاني. "د".
4 انظر في تفصيل ذلك: "المغني" "5/ 92"، و"المجموع" "3/ 15"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 142-143 و24/ 306-313"، و"الفروق" "3/ 188"، و"بداية المجتهد" "1/ 273"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 1442-1446"، و"فتح القدير" "3/ 144-145"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 355".(37/19)
ص -382-… {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
وفي القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] في مواضع.
وفي بعضها: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].
ثم قال: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه} [فاطر: 18].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12].
[وقال]1: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم} [القصص: 55].
وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 52].
وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا، كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19]، فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها.
وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الآية: [البقرة: 48].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(37/20)
ص -383-…إلى كثير من هذا المعنى.
وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين: "يا بني فلان! إني لا أملك لكم من الله شيئا"1.
والثاني:
المعنى، وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده2؛ لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه، فذلك الغير هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره، والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب، حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات، فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه، فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به، وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب، ولا نيابة إذ ذاك على حال.
والثالث:
أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية3 لصحت في الأعمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، 6/ 551/ رقم 3527"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 1/ 192-193/ رقم 204، 206" عن أبي هريرة وفيه طول، والمذكور نحوه.
2 نحوه في "الفروق" "2/ 205"، و"قواعد الأحكام" "1/ 135".
3 إنما جعلها هي الملزوم ومناط الاستدلال في هذا الوجه-وإن كان الأصل فيما سبق =(37/21)
ص -384-…القلبية، كالإيمان وغيره من الصبر والشكر، والرضى والتوكل، والخوف والرجاء، وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات، كالأكل والشرب، والوقاع واللباس وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة، فكذلك سائر التعبدات.
وما تقدم1 من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص؛ لأنها محكمات نزلت بمكة2 احتجاجا على الكفار، وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عاما- لأنها بقطع النظر عن الأدلة هي التي يتوهم فيها ذلك، ويظهر أثره فيها بالقيام بالنيابة وعدم القيام بها بخلاف القلبية، فلا يظهر ذلك فيها، ولا يعقل فيها النيابة رأسا، فلا يعقل أن يقوم أحد عن أحد بالإيمان مثلا، وقوله: "ولم تكن التكاليف..... إلخ"، أي: مطلقا بدنية أو قلبية، وقوله: "وكل ذلك باطل"، أي: اللوازم الثلاثة باطلة، أي: فالملزوم مثلها، وعليه يكون قوله: "من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة" راجعا لخصوص الدليل الثالث، أي أن التعبدات مختصة بالمكلف بها كما سبق بيانه، فتكون كالعاديات المختصة كالأكل والوقاع مثلا، فلما كانت هذه لا نيابة فيها كانت جميع التعبدات لا نيابة فيها، ويصح أن يعود قوله: "وكل ذلك باطل" إلى ما دخل تحت قوله: "ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة وفي الحدود وأشباهها"، ويكون حذف بطلان اللازم من الدليلين الأولين. "د".
قلت: انظر في معنى ما قرر المصنف: "حاشية الدسوقي" "2/ 18".(37/22)
1 لو قدم هذا على الثاني، وهو المعنى ليكون تكميلا للدليل الأول وهو النصوص، لكان أنسب وإن كان وجه تأخره ارتباطه بالإشكال بعده، حيث يقول فيه: "وتبين أن ما تقدم في الكلية ليست على العموم". "د".
2 أي: ما عدا الآية الأخيرة، فإنها من سورة البقرة. "د".(37/23)
ص -385-…المعنى، لم يكن فيها رد عليهم، ولما قامت عليهم بها حجة، أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي، فظاهر، وأما على قول غيرهم، فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها1 عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة، فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية، ولا ينصرف عنها.
فإن قيل: كيف هذا؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير، وعلى ما لم يعمل أشياء:
أحدها:
الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم، وهي جملة منها أن "الميت يعذب ببكاء الحي عليه"2.
وأن "من سن سنة حسنة أو سيئة، كان له أجرها أو عليه وزرها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لذلك في الأدلة مبحث واسع شاف، وقوله: "الأمور المعارضة"، أي: العشرة المشهورة التي منها الإضمار والحقيقة والمجاز..... إلخ، والكلام يحتاج إلى دقة في وزنه وتطبيقه، وسيأتي في محله. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، 3/ 152/ رقم 1290"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 638/ رقم 927"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز باب النياحة على الميت، 4/ 16-17"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت/ رقم 1002"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجنائز، باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه / رقم 1593" عن عمر موقوفا.
وانظر في معنى الحديث وتوجيهه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "24/ 369-378"، و"عمدة القاري" "4/ 79"، و"تهذيب السنن" "4/ 290-293" لابن القيم، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "2/ 209".(37/24)
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير رضي الله عنه، ومضى "1/ 222". قلت: وفي "خ" كان الحديث: "كان عليه وزرها وله أجرها".(37/25)
ص -386-…وأن "الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث"1
وأنه "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"2.
وفي القرآن: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].
وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم.
وفي الحديث: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم"3.
وفي رواية: "أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئه"؟ قالت: نعم: قال: "فدين الله أحق أن يقضى"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255/ رقم 1631"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، 6/ 251"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في الوقف،3/ 660/ رقم 1376"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117/ رقم 2880"، وأحمد في "المسند" "2/ 372"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 38" عن أبي هريرة مرفوعا، ولفظ مسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا في ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته- 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وتقدم "1/ 222".(37/26)
3 أخرج الرواية الأولى البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، 4/ 66/ رقم 1853، 1854"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، 2/ 973/ رقم 1334" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "ط": "فريضة الله الحج أدركت...".
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" نحو الرواية الثانية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا.(37/27)
ص -387-…"ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه"1.
وقيل: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه. قال: "فاقضه عنها"2.
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء، وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى، فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها، وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم، فلا تكون صحيحة.
والثاني:
أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها، وهي قاعدة الصدقة عن الغير، وهي عبادة؛ لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره، فإذا تصدق الرجل عن الرجل، أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192 / رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147"، وأبو داود في "السنن":"كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، 2/ 791-792/ رقم 2400"، وأحمد في "المسند" "6/ 69" والبيهقي في الكبرى" "4/ 255" وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، 11/ 583/ رقم 6698"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر، 3/ 1260 / رقم 1638" أن ابن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاقضه عنها".(37/28)
ص -388-…به، ولا سيما إن كان ميتا، فهذه عبادة حصلت فيها النيابة، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضا كالزكاة، فإن إخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير، والزكاة أُخَيَّةُ الصلاة1.
والثالث:
أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها2، وهي تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ، فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو، وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه، ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه، وكذلك الدعاء للغير، فإن حقيقته خضوع لله وتوجه إليه، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة، وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما، وقد استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه3 حتى نزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جملة خطابية، يقوى بها الإشكال ليجري فيما ليس فيه شائبة مالية. "د".
2 المخالف فيها قليل، راجع "إعلام الموقعين" "2/ 16-17" ط محمد عبد الحميد.
3 الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فلم يأذن له ربه عز وجل، وأما سبب النزول، فقيل: نزلت في ذلك كما عند الطبري في "التفسير" "11/ 43" من مرسل قتادة، وعن ابن عباس عنده أيضا "11/ 42" بإسناد ضعيف، فيه عطية العوفي.
والنهي عن الاستغفار ثابت في غير حديث، منها:(37/29)
ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "2/ 672 بعد 977/ 106" -ولم يسبق لفظه- والترمذي في "الجامع" "3/ 370/ رقم 1054" مختصرا، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 117"، وأحمد في "المسند" "5/ 355 و356"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 376"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76" و"الدلائل" "1/ 189"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 652 و653 و664"، والجورقاني في الأباطيل" "1/ 229-230"، والطبري في "التفسير" "11/ 42" وابن مردويه عن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتي رسم قبر فجلس عليه، فجعل =(37/30)
ص -389-…................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت، قال: "إني استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي، وأستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي".
وما أخرجه مسلم "كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، 2/ 671/ رقم 976 و977"، وأبو داود "كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، 3/ 218/ رقم 3235"، والنسائي "كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك، 4/ 90"، وعنه الجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 230"، وابن ماجه "كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501/ رقم 1572"، وأحمد في "المسند" "2/ 441"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 89"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76 و7/ 190"، و"دلائل النبوة" "1/ 190"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 463/ رقم 1554"، و"معالم التنزيل" "3/ 115" من طريقين عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه، فلم يؤذن له".
والصحيح في سبب النزول أنها نزلت في عمه أبي طالب.(37/31)
أخرج البخاري "كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، 8/ 341/ رقم 4675، وباب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، 8/ 506/ رقم 4772"، ومسلم "كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع -وهو الغرغرة-ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، 1/ 54/ رقم 24"، والنسائي في "السنن الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 561/ رقم 250 و2/ 144/ رقم 403"، وكما في "تحفة الأشراف" "8/ 387"، و"المجتبى" "4/ 90-91"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 14-15"، وأحمد في "المسند" "5/ 433"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 187"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 37"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 978- الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "11/ 30 و20/ 59"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 342-343"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 55-56"، وابن البناء في "فضل التهليل" "رقم 47"، والواحدي في "أسباب النزول" "177" من طرق عدة عن الزهدي عن سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن، قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الملك =(37/32)
ص -390-…وقال في ابن أبي: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك"1 حتى نزل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُم} [التوبة: 80]، [ونزل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية]2 [التوبة: 84].
وإن كان قد نهي عنه، فلم يُنه عن الاستغفار لمن كان حيا منهم، وقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"3.
وعلى الجملة، فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة.
والرابع:
إن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات4 صحيحة، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال: "أي عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجَّ لك بها عند الله؟" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله".
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء}. وهذا لفظ البخاري في الموطن الثاني.
1 بل قالها في عمه أبو طالب، كما تقدم في الحديث السابق.
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب منه، 6/ 514/ رقم 3477، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: منه 12/ 282/ رقم 6929"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417/ رقم 1792" عن ابن مسعود رضي الله عنه، والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "رب اغفر.....".(37/33)
4 ليس محل نزاع، ولكنه جاء به لتوسيع المجال في الإشكال، وأنها لكونها مشروعة جازت فيهم النيابة، فإذن كل ما كان مشروعا تجوز فيه النيابة، ومنه العبادات، ولا يخفى عنك أن أهم شيء في هذا الوجه ما يتعلق بالجهاد من جهة كونه عبادة، وأما مجرد مشروعيته التي جاء بها؛ ليجعلها كَعِلَّة للقياس، فهي ضعيفة. "د".(37/34)
ص -391-…بعض العبادات البدنية، وإن كانت واجبة على الإنسان عينا، وكذلك المالية، وأولها الجهاد، فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل، إذا أَذِنَ الإمام، والجهاد عبادة، فإذا جازت النيابة في مثل هذا، فلتجز في باقي الأعمال المشروعة؛ لأن الجميع مشروع.
والخامس:
أن مآل الأعمال التكليفية أن يجازى عليها، وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل، خيرا كان الجزاء أو شرًّا، وهو أصل متفق عليه في الجملة، وذلك ضربان:
أحدهما: المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه، فإنه إن كانت باكتساب1 كفر بها من سيئاته، وأُخِذ بها من أجر غيره، وحمل غيره وزره، و[لو] لم يعمل بذلك2، فضلا عن أن يجد ألمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المفلس يوم القيامة3، وإن كانت بغير اكتساب، فهي كفارات فقط، أو كفارات وأجور، وكما جاء فيمن "غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اكتساب الغير، وقوله: "بغير اكتساب"، أي: بأن كانت من الله محضا. "د".
2 لعل الأصل: "وإن لم يعلم بذلك" ليلتئم مع قوله: "فضلا عن أن يجد ألمه". "د".(37/35)
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1997/ رقم 2581"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/ 613/ رقم 2418"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند" "2/ 334"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 360/ رقم 4164"، وعبد الغني المقدسي في "ذكر النار" "رقم 6" عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما المفلس"؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".(37/36)
ص -392-…إنسان أو حيوان أنه له أجر"1 وفيمن "ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة، أو شرب في نهر، أو استنَّ شرفا أو شرفين، ولم يرد أن يكون ذلك، فهي له حسنات"2، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والضرب الثاني: النيات التي تتجاوز الأعمال3 كما جاء: "إن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عنه عذر"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
2 مضى تخريجه "ص340"، وهو قطعة من حديث في "الصحيحين"، قال "د": "لعلها رواية بالمعنى، وإلا، فما تقدم له في الفصل الثاني من المسألة الخامسة يقتضي أن قوله: "ولم يرد ذلك" راجع إلى خصوص الشرب، نعم، إن ذلك هو مناط الإشكال؛ لأنه لو قصد شيئا من ذلك لم يكن فيه ما يعترض به هنا".
3 انظر في تحقيق هذا النوع مع أمثلة عليه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 740-742 و6/ 575 و14/ 123 و35/ 52".
4 قلت: والعذر نصص عليه في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة 6/ 136/ رقم 2996" من حديث أبي موسى مرفوعا، "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا".(37/37)
والنوم عذر في حق من كان له نصيب من قيام الليل، ودليله ما أخرجه النسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1344"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص38"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 311"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 15" بسند صحيح عن أبي الدرداء مرفوعا: "من نام ونيته أن يقوم، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه".
وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 117" -ومن طريقه أبو داود في "السنن" "رقم 1314"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وأحمد في "المسند" "6/ 180"، وابن نصر في "قيام الليل"=(37/38)
ص -393-…وكذلك سائر الأعمال، حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمنِّي أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان: "فهما في الأجر سواء"، وفي الآخر: "فهما في الوزر سواء"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص78"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 15" من حديث عائشة مرفوعا: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل، يغلبه عليها نوم، إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة".
أما الجهاد، فدليله ما أخرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث جابر مرفوعا: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وفي رواية عند مسلم: "إلا شركوكم في الأجر".
وورد في المرض خاصة حديث عقبة بن عبار مرفوعا: "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا! عبدك فلان قد حبسته! فيقول الرب عز وجل: اختموا له على مثله عمله حتى يبرأ أو يموت" أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 146" بإسناد صحيح، وأخرج أحمد في "المسند" "4/ 123" من حديث شداد والحاكم في "المستدرك" "4/ 313" من حديث أبي أمامة، وأحمد "3/ 238" من حديث أنس ما يشهد له.(37/39)
1أخرج وكيع في "الزهد" "رقم 240" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية 2/ 1413/ 4228"، وأحمد في "المسند" "4/ 230"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 106"- بإسناد صحيح عن أبي كبشة الأنماري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله، ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤتِهِ الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الوزر سواء".
وأخرجه من طرق عن أبي كبشة هناد في "الزهد" "رقم 568"، والمروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 354"، وأحمد في "المسند" "4/ 230، 231"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الدنيا مثل أربعة نفر 4/ 562/ رقم 2325" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 105، 106"، وابن ماجه في "السنن" "2 1413-1414".
وصححه ابن كثير في "فضائل القرآن" "ص63".(37/40)
ص -394-…وحديث: "من هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة"1.
"والمسلمان يلتقيان بسيفهما"2 الحديث.
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر، فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره، فأولى3 أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة 11/ 323/ رقم 6491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ 117/ رقم 131" من ضمن حديث إلهي رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، 1/ 84-85/ رقم 31، وكتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} 12/ 192/ رقم 6875، وكتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفهما 13/ 31-32/ رقم 7083"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما 4 / 2213-2214/ رقم 2888"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل 7/ 125"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفتن، باب في النهي عن القتال في الفتنة 4/ 103/ رقم 4268، 4269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما 2/ 1311/ رقم 3965" عن أبي بكرة مرفوعا: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت "أو قيل": يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه" وفي رواية: "إذا التقى المسلمان.....".(37/41)
3 أي: لأن النية حينئذ حاصلة، وقد حصل المنوي بالفعل، وإن كان من غيره وهذا ظاهر إذا رجعنا قوله: "فإذا كان كالعامل.....إلخ" إلى الضرب الثاني فقط، إلا أنه لا يكون قد عمل للأول نتيجة، ولا بين وجه الاستدلال به، أما إذا رجعناه للضربين فيكون قد رتب على الأول أيضا نتيجته، لكن السياق في ذكره للأعمال في الثاني يشهد للتقرير الأول. "د".(37/42)
ص -395-…فالجواب: أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة1 النيابة، فإن للنظر فيها متسعا.
أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة، فليست من هذا الباب، فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية، ولا كلام فيها.
وأما قاعدة الدعاء، فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة؛ لأنه شفاعة للغير، فليس من هذا الباب.
وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية، فإنها مصالح معقولة المعنى، لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية، بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه، فله أجر ذلك، فإن العبادة منه صدرت لا من النائب، والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال، والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهي في الحقيقة معقولة المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح للدنيا، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله، فإن قصد الدنيا، فذلك حظه، مع أن المصلحة الجهادية قائمة، كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد شعبة منها، على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد [بالجعل]2، لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا، ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل، لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا، فهذا [الأصل]2 لا اعتراض به أيضا.
وأما قاعدة المصائب النازلة، فليست من باب النيابة في التعبد، وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ" و"ط": "في صحة".
2 ما بين المعقوفات في الموضعين ليست في الأصل.(37/43)
ص -396-…الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك، وكون حسنات الظالم تعطى المظلوم، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم، فمن باب الغرامات، فهي معاوضات؛ لأن1 الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار؛ إذ لا دينار هناك ولا درهم، وقد فات القضاء في الدنيا.
ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال، ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه.
ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلى الجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة؛ إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى، مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر، ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها، مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى، كما أنه لو تمنى2 أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر، كان له وزر من عمل، ولا يعد في الدنيا كمن عمل، حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة، فليست من النيابة في شيء، وإن فرضت النيابة، فالنائب هو المكتسب، فعمله عليه أو له، فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل3.
ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال، فإنه عمدة من خالف في المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لكن".
2 أي: عزم وصمم، ولكنه فاته غرضه بأمر خارج عن إرادته. "د".
3 وانظر تفصيل ما تقدم في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية: "التحفة العراقية"، و"مجموع الفتاوى" "6/ 575 و10/ 740-742 و14/ 123 و35/ 52"، و"فتح الباري" "11/ 327-328"، و"الأشباه والنظائر" "ص34" للسيوطي، و"تفسير القرطبي" "18/ 241 و12/ 35 و4 / 294"، و"مقاصد المكلفين" "ص142 وما بعدها" ورسالة الشوكاني "رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس". وهي مطبوعة.(37/44)
ص -397-…فحديث تعذيب الميت [ببكاء] الحي1 ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض -إذا ظن الموت- أهله على البكاء عليه، وأما "من سن سنة...."2، وحديث ابن آدم الأول3 وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث4، وما أشبه ذلك، فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور؛ لأنه الذي تسبب فيه أولا، فعلى جريان سببه تجري المسببات، والكفل الراجع إلى المتسبب "الأول" ناشئ عن عمله، لا عن عمل المتسبب الثاني، وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21]؛ لأن ولده كسب من كسبه، فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب، وبذلك فسر قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب} [المسد: 2] أن ولده من كسبه، فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به5، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة، وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء} [الطور: 21].
وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث، فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة -وذلك الصيام والحج- وأما النذر، فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام.
والذي يجاب به فيها أمور:
أحدها:
أن الأحاديث فيها مضطربة، نبه البخاري ومسلم على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385" وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385".
3 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص386".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان..... / رقم 3631" وغيره عن أبي هريرة.
5 لكن يبقى التوفيق بينه وبين آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن الذرية حازت منزلة عالية لم تستحقها بسعيها وإنما جاءت بسعي الآباء. "د".(37/45)
ص -398-…اضطرابها، فانظره في "الإكمال"، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا، فكيف إذا عارضته؟
وأيضا، فإن الطحاوي قال في حديث: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه"1: إنه لم يرو إلا من طريق عائشة، وقد تركته لم تعمل به وأفتت بخلافه، وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر: إنه لا يرويه إلا ابن عباس، وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد2.
والثاني:
أن الناس على أقوال3 في هذه الأحاديث: منهم من قبل ما صح منها بإطلاق، كأحمد بن حنبل، ومنهم من قال ببعضها، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من منع بإطلاق، كمالك بن أنس، فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر، ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي4، وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف؛ لأنها تبع، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره، كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت، وبيع العبد بماله، واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص387".
2 الحديث الذي يعمل راويه على خلافه وظهر أنه بما خالفه عن اجتهاد لا يسقط الاحتجاج به اتفاقا، وجرى الخلاف فيما إذا لم يعلم وجه عمله على خلافه، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى سقوط الاحتجاج به؛ مستندة إلى أن الراوي إنما خالفه لدليل يقضي بتعطيله، والراجح القول بأن العبرة بالرواية، وأن مذهب الراوي لا يؤثر عليها شيئا، لاحتمال أن يكون إنما خالفها عن اجتهاد منه. "خ".
قلت: ونقل المصنف عن الطحاوي من كتابه: "شرح مشكل الآثار" 6/ 176- ط المحققة" بتصرف.
3 في "ط": "على قولين".
4 في "أحكام القرآن" "1/ 228، 289".(37/46)
ص -399-…والثالث:
أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا، وذلك أنه قال: سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا، لا من جهة أنه جازٍ عن المنوب عنه1، وقال هذا القائل: لا يعمل أحد عن أحد شيئا: فإن عمله فهو لنفسه كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
والرابع:
أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال، كما إذا أمر بأن يحج عنه أو أوصى بذلك، أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وهو قول بعض العلماء.
والخامس:
أن قوله: "صام عنه وليه" محمول على ما تصح فيه النيابة، وهو الصدقة مجازا؛ لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره2، وذلك في الصيام الإطعام، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه، أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لكن هذا يبعده قوله عليه الصلاة والسلام،: "أرأيت لو كان على أبيك دين...." إلى أن قال: "فدين الله أحق أن يقضى". "د".
قلت: ونحو المذكور عند ابن العربي في "أحكامه" "1/ 289"،والقرطبي في "تفسيره "4/ 152".
ومما يبعده استحالة أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجوا وصوموا، ويجزئ ذلك عمن فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك، هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص276".(37/47)
2 مثله في "العناية شرح الهداية" "2/ 360"، والمذكور ضعيف؛ إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ومكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فهل يمكن بعد ذلك أن يعبر بالصيام عن الإطعام على سبيل المجاز، ولكل منهما مدلول شرعي ولغوي يغاير الآخر، فهل هذا يناسب الفصاحة، أم يناسب البيان؟ وهو تعبير يوقع المكلفين في حيرة وارتباك، ولذا قال النووي في "المجموع" "6/ 429" عقبه -ونقله عن بعض الشافعية المنتصرين للقول الجديد في مذهبهم: "تأويل باطل".(37/48)
ص -400-…ما أشبه ذلك.
والسادس:
أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة1، وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن2، وبالله التوفيق.
فصل:
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع، وهي مسألة هبة الثواب، وفيها نظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى المدنيون والمغاربة عن الإمام مالك أن الخبر مقدم على القاعدة، وروى عنه البغداديون تقديم القاعدة المقطوع بها إذا تعذر الجمع بينها وبين الحديث وسيأتي للمصنف في أوائل كتاب الأدلة ناقلا عن ابن العربي أن مشهور قول مالك والذي عليه المعول أن الحديث المعارض لقاعدة إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه. "خ".
2 الأحسن منه أن يقال: إن رد الأحاديث ليس بجيد، ويصار إلى ما ذكره المصنف وأبو العباس القرطبي قبله، فيما نقله عنه ابن حجر في "فتح الباري" "4/ 70" إذا لم يمكن التوفيق، وهنا يمكن التوفيق، كما تراه في "تهذيب السنن" "3/ 272" لابن القيم.(37/49)
ص -401-…فللمانع1 أن يمنع ذلك من وجهين2:
أحدهما:
أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص، وهو المال، وأما في ثواب الأعمال، فلا، وإذا لم يكن لها3 دليل، فلا يصح القول بها.
والثاني:
أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب، وقد نطق بذلك القرآن، كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13].
ثم قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]4} [النساء: 14].
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المانعون الشافعية والحنابلة، غير أنهم فرقوا بين ما تصح فيه النيابة فيجوز التبرع بثوابها، وما لا تصح فيه النيابة فلا يصح التبرع به، مع ميل متأخريهم إلى جواز التبرع بالكل، انظر في ذلك: "الروح" لابن القيم، و"حاشية قليوبي وعميرة" "3/ 175-176"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 10"، و"التذكرة" للقرطبي- مع تعليقنا عليه- و"الفروق" "3/ 194"، و"إفادة الطلاب بأحكام القراءة على الموتى ووصول الثواب"، وذكر فيه الجواز، وانظر المنع وأدلته القوية في "نيل الأوطار" "4/ 79"، و"فتاوى العز بن عبد السلام" "ص95-97"، و"تفسير المنار" "8/ 254-270"، و" أحكام الجنائز" "ص219 وما بعدها - ط المعارف".
2 وهنالك وجه ثالث، وهو قوي جدا، ولا سيما على قواعد المصنف، وهو قول ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" "ص54": "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرءوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل".
3 في "ط": "عليها".(37/50)
4 زيادة من الأصل، وفيه وفي "خ" و"ط": "ندخله" بالنون، أي: المواطنين، وهي قراءة نافع وابن عامر، كما في السبعة في القراءات" "ص228".(37/51)
ص -402-…{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [النحل: 32].
وهو كثير.
وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات، كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع، واستباحة البضع مع عقد النكاح، فلا خيرة للمكلف فيه، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل، وإذا كان كذلك، اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار، ولا في يده منه شيء، فإذن لا يصح فيه تصرف؛ لأن التصرف من توابع الملك الاختياري، وليس في الجزاء ذلك، فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك، كما لا يصح لغيره.
وللمجيز1 أن يستدل أيضا من وجهين:
أحدهما:
أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها، إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها، وإما بالقياس عليها؛ لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب2، لا يصح فيها غير ذلك، فإذا كان كذلك، صح وجود الدليل، فلم يبق للمنع وجه.
والثاني:
أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب، وكالتوابع مع المتبوعات، يقضي بصحة الملك لهذا العامل، كما يصح في الأمور الدنيوية، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة.
لا يقال: إن الثواب لا يملك كما يملك المال؛ لأنه إما أن يكون في الدار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا مذهب الحنفية، كما في "فتح القدير" "3/ 142"، والحنابلة، كما في "المغني" "2/ 567".
2 أين هذا؟ فالذي تقدم أنها من باب التصرف المالي، فكأنه أعطى المال للمتصدق عليه، وناب عنه في صرفه فقط، فقد ملكه المال نفسه، والثواب شيء آخر. "د".(37/52)
ص -403-…الآخرة فقط، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]، فذلك بمعنى1 الجزاء في الآخرة، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن.
لأنا نقول: هو وإن لم يملك نفس الجزاء، فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى، واستقر له ملكا بالتمليك، وإن لم يحزه الآن، ولا يلزم من الملك الحوز، وإذا صح مثل هذا المال، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها، صح فيما نحن فيه، فقد يقول القائل، ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان، ويقول: إن اشترى لي وكيلي عبدا، فهو حر أو هبة لأخي، وما أشبه ذلك، وإن لم يحصل شيء من ذلك في حوزه، وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله وإن لم يعلم به الموكل، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل، يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل2، فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي من بابه، وشبيه به. "د".
2 في كلامه هذا نظر؛ لأنه جعل ملك الحسنات كملك الأعيان، ولعل الأولى أن يقال: إن الثواب كما يكون ثمرة عمل الإنسان قد يكون ثمرة عمل غيره، إذا ناب عنه بعد إذن الشرع، على الرغم ما فيه!!(37/53)
ص -404-…المسألة الثامنة:
من مقصود الشارع في الأعمال1 دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح، كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُون} [المعارج: 22-23].
وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة: 3].
وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة، وجاء هذا كله في معرض المدح، وهو دليل على قصد الشارع إليه، وجاء الأمر به صريحا في مواضع [كثيرة]2، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [البقرة: 83].
وفي الحديث: "أحب العمل إلى الله ما داوم صاحبه وإن قل"3.
وقال: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أعمال العبادات التي تتكرر أسبابها، أما زكاة وجبت هذا العام لحصول النصاب ولم يحصل في العام بعده، فلا، وهكذا يقال في غيرها، فهو ظاهر في العبادات المذكورة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، 3/ 16/ رقم 1132، وكتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل 11/ 294/ رقم 6461، 6462" ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب في صلاة الليل، 1/ 511/ رقم 741" عن عائشة نحوه بألفاظ متقاربة، منها: "كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه".
وأخرج البخاري برقم "6464، 6467" عنها ضمن حديث: "وأن أحب الأعمال أدومها وإن قل".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.(37/54)
ص -405-…وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته، وكان عمله ديمة1.
وأيضا، فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات، من مفروضات ومسنونات، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب، ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار.
فصل:
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم، فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين:
أحدهما: من جهة شدة التكليف في نفسه، بكثرته أو ثقله في نفسه.
والثاني: من جهة المداومة عليه وإن كن في نفسه خفيفا.
وحسبك من ذلك الصلاة، فإنها من جهة حقيقتها خفيفة، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت، والشاهد لذلك قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها ضمن حديث طويل، وفيه: "وكان إذا صلى صلاة داوم عليها" ومضى لفظه في التعليق على "1/ 526".(37/55)
ص -406-…وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر، واستثنى الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة، لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق، والرجاء الذي هو حاد، وذلك ما تضمنه قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية: [البقرة: 46]، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار، والراجي لنيل مرغوبة يقصر عليه الطويل من المسافة، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج، ونهى عن التشديد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"1، وقال: "من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا يشمل التشديد بالدوام، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال، والأدلة على هذا المعنى كثيرة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه بإسهاب في "ص236".
2 مضى تخريجه 251".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 623".(37/56)
ص -407-…المسألة التاسعة:
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية1 بعض دون بعض، ولا يحاشي من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة؛ والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور:
أحدها:
النصوص المتضافرة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]2.
وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تغليب على الإباحة، وإلا، فهي حكم شرعي لا اختصاص فيه أيضا، ويبقى الكلام فيما يقابل الطلبية، وهو الوضعية، ولا يظهر أنه يقصد الاحتراز عنها؛ إذ كون الزوال سببا في وجوب الظهر عام لا يختص به مكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجودا، ومثله يقال في بقيتها، تراجع المسألة الأولى في خطاب الوضع. "د".
2 لأن المعنى على المشهور: وما أرسلناك بهذه الشريعة إلا للناس كافة، فالشريعة مأمور بتبليغها للناس كافة، وفي آية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} دلالة على وجوب تبليغ جميع الشريعة، فالجمع بين الآيتين يقتضي المطلوب في المسألة، أما الآيات هنا وحدها، فربما يتوقف في إفادتها للمطلوب؛ لأنه ما المانع من أن يكون مرسلا لجميع الناس، ولكن على توزيع المرسل به، فيكون البعض للبعض، وهذا إنما يمنع منه وجوب تبليغ جميع المرسل به للجميع، وإنما يؤخذ من الآيتين كما أشرنا إليه، فتأمل، وقد يقال: إن حذف المعمول يؤذن بالعموم، والمعمول هو قولنا: "بهذه الشريعة" فتكفي كل واحدة من هذه الآيات هنا في إفادة المطلوب. "د".(37/57)
3 قطعة من حديث أوله: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي...."، وفيه: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" أخرجه مسلم في "الصحيح "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(37/58)
ص -408-…وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره1، لم يكن مرسلا للناس جميعا؛ إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به، فلا يكون مرسلا2 بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن، فلا اعتراض به، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع، فظاهر الأمر فيه3.
والثاني:
أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة4، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه، فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِي} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بما لم يخاطب به غيره، أما تعبيره، ففيه نبو عن الغرض. "د".
قلت: انظر في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "إيضاح الدلالة على عموم الرسالة" لابن تيمية، ضمن "مجموع الفتاوى" "19/ 9-65"، و"الرسال المنيرية" "2/ 99-152"، و"الدلالة على عموم الرسالة" للسبكي، مضمن في "فتاويه" "2/ 594-625"، و"غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الملقن "ص259".
2 بالتأمل نراه يدخل في الدليل عموم المتعلق، وهو ما أشرنا إليه بقولنا: "بهذه الشريعة"، فدليله متوقف على هذا؛ إذ مجرد كون المرسل إليهم الناس جميعا لا يكفي إلا بمراعاة العموم أيضا فيما هو مرسل به. "د".
3 أي: فما فيه من الأحكام الطلبية متوجه إلى أوليائهم. "د".(37/59)
4 أي: تنطبع فيهم هذه المصالح على السواء؛ لأنهم مطبوعون بطابع النوع الإنساني المتحد في حاجياته وضرورياته وما يكملها. "د".(37/60)
ص -409-…وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية [الأحزاب: 51].
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة، فإنه راجع إليه1 عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه، كاختصاص2 أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لما شهد للرسول عليه الصلاة والسلام في حادثة الأعرابي في البيع وكان مستنده في الشهادة الإيمان بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، فلأن يكون صادقا في هذه الشئون الصغيرة من باب أولى، فاختصاص خزيمة في هذا رجوع إلى اختصاص الرسول عليه السلام بقبول شهادة واحد له في هذا العقد وصحته، يراجع "إعلام الموقعين" في هذا، وبيانه أن خزيمة تنبه لهذه الحكمة قبل أن يتفطن إليها غيره من الصحابة الحاضرين. "د".
قلت: وسيأتي تخريج شهادة خزيمة "ص469"، وهذا نص كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 83-84": "وأما قوله: وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه، فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره، لكان بمنزلة شاهدين اثنين، وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي، وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا، وهذا لا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك، استحق أن تجعل شهادته بشهادتين".(37/61)
2 بين ابن القيم الحكمة من هذا الاختصاص في كتابه" إعلام الموقعين" "2/ 246" بقوله: "وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده، فلموجب أيضا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاة لحم، أراد إعادة الأضحية، فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتي لحم، فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا، وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم، فلما استقر الحكم، لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وبالله التوفيق".(37/62)
ص -410-…الجذعة، وخصه بذلك بقوله: "ولن تجزئ عن أحد بعدك"1، فهذا لا نظر فيه؛ إذ هو راجع إلى جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه2 إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص.
والثالث:
إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،ولذلك صيروا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم، إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، 2/ 447-448/ رقم 955، وباب الخطبة بعد العيد، 2 / 453/ رقم 965، وباب التبكير إلى العيد، 2/ 456/ رقم 968، وباب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، 2/ 471/ رقم 983، وكتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، 10/ 3/ رقم 5545، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، 10/ 12/ 5556، 5557، وباب الذبح بعد الصلاة، 10/ 19/ رقم 5560، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد 10/ 20 / رقم 5563"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب وقتها، 3/ 1552/ رقم 1961"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة، 4/ 93/ رقم 1508"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يجوز من السن من الضحايا، 3/ 96/ رقم 2800"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأضاحي، باب ذبح الضحية قبل الإمام، 7/ 222" عن البراء بن عازب مرفوعا.(37/63)
2 وهي الآية والحديثان، والنص على التخصيص نفسه دليل على أن سائر الشريعة -مما لم ينص فيه على التخصيص- عام "د".(37/64)
ص -411-…لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37]، فقرر الحكم في مخصوص ليكون1 عاما في الناس، وتقرير2 صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة3.
والرابع:
أنه لو جاز خطاب البعض4 ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع، فما لزم عنه مثله، ولا أعني بذلك5 ما كان نحو الولايات وأشباهها، من القضاء، والإمامة، والشهادة، والفتيا في النوازل، والعرافة والنقابة، والكتابة، والتعليم للعلوم وغيرها، فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به، فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها، فالتكليف عام لا خاص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا أن في الآية النص على أن هذا الخاص أساس لحكم شرعي عام، فالآية وإن كانت صيغتها خاصة لا عامة، إلا أنها أُعْقِبَت بالنص على ما يفيد العموم، حتى تستفاد الحكمة فيما حصل، ولا يتوهم أنها خصوصية. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "وتقرر".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 82 و443 وما بعدها"، والمسألة الخامسة من كتاب "الأدلة الشرعية".
4 في "ط" زيادة بعدها: "دون البعض".(37/65)
5 أي: ولا أعني بذلك خروج ما كان موهما لتخصيص الخطابات، كالولايات.... إلخ، فإنها داخلة في القاعدة، وهو أنها مكلف بها كل من توفر فيه شرط التكليف بها، كغيرها من سائر التكاليف، فالزكاة مثلا مكلف بها على العموم،ولكن مع مراعاة النصاب مثلا وسائر الشروط كذلك الولايات وفروض الكفايات المتوقفة على شروط، فتعتبر عامة بهذا المعنى، ولو قال: "ولا يخرج عن ذلك ما كان.... إلخ"، لكان أوضح. "د".(37/66)
ص -412-…[وبسقوطه أيضا عام لا خاص] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى، بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص، كمراتب1 الإيغال في الأعمال، ومراتب الاحتياط على الدين، وغير ذلك.
فصل:
وهذا الأصل يتضم فوائد عظيمة:
- منها: أنه يعطي قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع، فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق- إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها، وهو معنى القياس، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم، فانشرح الصدر لقبوله، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله.
- ومنها: أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم، ويرشحون ذلك2 بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم له أن الناس في ذلك على ضربين: مسقط لحظوظه، وآخذ لها على وجهها الشرعي، أي، فليس الأول مخاطبا بما لم يخاطب به الثاني، حتى يعد من باب تخصيص الخطاب في الشريعة. "د".
2 أي: يصلحونه ويربونه".(37/67)
ص -413-…فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال: أمَّا على مذهبنا، فالكل لله، وأما على مذهبكم، فكذا وكذا، وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدِّق بهذا الظاهر، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى، والمخالفة للسنة، وكلا الفريقين في طرف، وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق، كما تبين آنفا، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة1، حتى يتبين ذلك، والله المستعان.
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم؛ لأنهم ترقَّوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات، إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها، فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور، فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه2، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها، واستجلاب النشاط في الطاعة، لا على قصد التلهي، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما تقدم له في مراتب الإيغال في الأعمال وأن الناس على ضربين، فيه فقه المسألة، وأنهم كغيرهم داخلون تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق. "د".
2 نقل المصنف عن مالك أنه سئل عن قوم يقال لهم: الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا أو صبيا. ثم قال المصنف: "إن ذلك من البدع المحرمات الموقعة في الضلالة المؤدية إلى النار والعياذ بالله".(37/68)
انظر: "المعيار المعرب" "11/ 39 وما بعدها"، و"منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية" "ص188"، و"فتاوى الشاطبي" "ص193"، و"ترتيب المدارك" "2/ 53-54".(37/69)
ص -414-…التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص1، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم، فليُعتَنَ به، وبالله التوفيق....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دس هذه المقالة بعض الزنادقة وسعى في ترويجها الفساق من المدعين للولاية، حتى يجدوا مسرح الشهوات واسع المجال بعيد ما بين الجوانب، وانطلت هذه الدسيسة على كثير من الأغبياء، فطرحوا من أيديهم أن يزنوا سيرة المدعي للولاية بميزان الشريعة، ومما ساعد على انتشار هذه الضلالة الهادمة لقانون الشرع أن بعض المنتسبين للعلم يهابون التعرض لكل من ادعى الولاية بحاله أو مقاله، وما هو إلا ضعف البصيرة، وقلة الرسوخ في العلم بحقائق الدين التي يضمحل أمامها كل باطل، وتسقط تجاهها كل دعوى مزيفة. "خ".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 432-446، 11/ 170-171، 225-227"، وتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إلى بسط ما أجمله المصنف في "درء تعارض العقل والنقل" و"منهاج السنة النبوية" و"الصفدية" وغيرها.(37/70)
ص -415-…المسألة العاشرة:
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما خص به، كذلك المزايا والمناقب1، فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا2، فهي عامة كعموم التكاليف، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المزايا: جمع مزية، وهي في كل شيء التمام والكمال، ويقال: له عندي مزية، أي: فضيلة ومنزلة ليست لغيره، والمناقب: جمع منقبة، وهي المفخرة ضد المثلبة. "ماء/ ص201".
2 ما من نبي إلا وهو سلالة قومه وخلاصة عنصرهم، كما تخرج زهرة من غصن شجرة، أو جوهرة من بطن حجر، فهو جامع لأشتات محاسنهم، طاهر من أدناسهم، فإن لكل قوم محاسن ومساوئ مختلفة كما ترى ذلك في أنواع خلق الله تعالى، وهذا هو أقرب من سنن الفطرة كما هو أولى بالحكمة، ولذلك ترى النبي سبق إليه من قومه أكرمهم وأطهرهم، ومن ههنا فضل السابقين من المؤمنين، كأن الله تعالى أطلع نورا من الأفق، فأشرق أولا على أعلى الشواهق ثم الأقرب فالأقرب، وأنزل ماء من السماء، فاخضرت من الأرض أولا أخصبها، فهكذا تتنبه الأمة في ذات نبيها، ثم في ذوات الصديقين والشهداء والصالحين منهم وأتباعهم، فإذا كمل وتم زمان النماء جمع الحب وأُلقِي العصف في النار.
ومن ههنا تبينت لك حكمة الصبر الشديد للنبي وأصحابه؛ لكيلا يبقى في الكافرين والمنافقين من فيه مثقال حبة من الإيمان، فإذا محَّص الله المؤمنين أهلك الكافرين، وفي هذا التمحيص أيضا يخرج من بين المؤمنين من دخل فيه بغير نور، وصرح بذلك القرآن في غير موضع، وتفصيل منه في باب المعجزات.(37/71)
فإذا كان النبي سلالة قومه كان هو وقومه كمرآتين على جانبيك، ترى بعضهم في بعض، فإن رأيت أن النبي على غاية علو الهمة وسعة التدبير تيقنت أن قومه أحرارٌ أذكياء، وهكذا إن علمت من قومه أحسن أخلاقه، تيقنت أن نبيهم جامع لها، وهذا يعطيك مفتاحًا لفهم سيرة أمة ونبيها، فتستدل من بعضهما إلى بعض، ثم تستدل بذلك في فهم شريعة أمة؛ لأنها تنزل حسب استعداد الأمة كما قال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر إنزال التوراة والإنجيل والقرآن: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] حسب عموم سنته كما جاء في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، فلا يبتلي الله الأمة إلا فيما آتاهم، فلذلك جعل شرائع كل أمة حسب حالها، ومن هذه الجهة اختلافهم، وجاءت أكمل الشرائع لأكمل الأمم، أفاده الفراهي في "القائد إلى العقائد" "ص133-134".(37/72)
ص -416-…جرت أنه إذا أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه، وأشركهم معه فيه، ثم ذكر من ذلك أمثلة؛
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء.
أما أولا؛ فالوراثة العامة1 في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون، ولكن الله منَّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} [النساء: 105].
وقال في الأمة: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وهذا واضح، فلا نطوِّل به.
وأما ثانيا: فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة، نقتصر منها على ثلاثين وجها:
أحدها:
الصلاة من الله تعالى، فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56].
وقال في الأمة: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} الآية [الأحزاب: 43].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص202" زيادة بعدها: "في الاستقراء".(37/73)
ص -417-…وقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157].
والثاني:
الإعطاء إلى الإرضاء، قال تعالى في النبي: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
وقال في الأمة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59].
وقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
والثالث:
غفران ما تقدم وما تأخر، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فنزل1: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5]، فعمَّ ما تقدم وما تأخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 7/ 450-451/ رقم 4172" ثني أحمد بن إسحاق ثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا}، قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار}.
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت، فذكرت له، فقال: أما {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} فعن أنس، وأما "هنيئا مريئا" فعن عكرمة.
وأخرجه هكذا من طريق عثمان بن عمر البيهقي في "الدلائل" "4/ 157".
وأخرجه مختصرا دون ذكر سبب النزول الذي أورده المصنف البخاري في "صحيحه"، كتاب التفسير، باب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 8/ 583/ رقم 4834"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية 3/ 1413/ رقم 1786" من طرق عن قتادة.(37/74)
وأخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، وجمع في الحديث بين أنس وعكرمة، وساقه مساقا واحدا، أفاده ابن حجر في "الفتح" "7/ 451". =(37/75)
ص -418-…والرابع:
وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2].
وقال في الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} الآية [المائدة: 6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: وساقه مساقا واحدا عن شعبة خالد الحذاء، كما عند النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 2/ 304/ رقم 522"، وحرمي بن عمارة، كما في "المستدرك" "2/ 459"، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "26/ 70" من طريق محمد بن جعفر غِندر، عن شعبة، وذكره كما عند المصنف عن عكرمة مرسلا، واختلف عليه فيه، فرواه بعضهم عنه بسياقة واحدة دون تفصيل، كما تراه عند ابن جرير "26/ 70"، واختلف على معمر فيه، فرواه ابن ثور عنه عن قتادة مرسلا، كما عند ابن جرير في "التفسير" "26/ 70"، وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "3/ 225"، ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الفتح، رقم 3263"، وأحمد في "المسند" "3/ 197"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 322/ رقم 6410- الإحسان" عن معمر عن قتادة عن أنس مساقا واحدا، فيه المذكور عند المصنف.
وكذا ساقه مطولا مع سبب النزول المذكور جماعة عن قتادة عن أنس، منهم: سعيد بن أبي عروبة كما عند أحمد في "المسند" "3/ 215"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 69"، والواحدي في "أسباب النزول" "256".
والحكم بن عبد الملك، كما عند "المستدرك" "2/ 460".
وهمام بن يحيى، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 134، 252"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 135-136"، و"أسباب النزول" "256"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 158".(37/76)
واختلف على هؤلاء فيه، وأخرجه مسلم في "صحيحه" عن بعضهم مختصرا دون ذكر سبب النزول، وما أرى الأمر إلا على النحو الذي فصله الإمام البخاري، وقد قدمناه، والتفصيل في الكتب التي أفردت عن المدرج مثل كتاب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني، كما ذكر هو في "الفتح" "7/ 451".(37/77)
ص -419-…والخامس:
الوحي وهو النبوة، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163]، وسائر ما في هذا المعنى، ولا يحتاج إلى شاهد، وفي الأمة: "الرؤيا الصالحة جزء1 من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان معنى الحديث أن الرؤيا كانت له عليه الصلاة والسلام قبل الوحي ستة أشهر، يري فيها رؤيا صادقة كفلق الصبح، ثم جاء الوحي بعدها، ومجموع ذلك مع الوحي ثلاث وعشرون سنة على قول، أو أن الوحي بعد الأشهر الستة ثلاث وعشرون سنة، فتكون نسبة الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من زمن النبوة والوحي، فعليه لا يكون في الحديث ما يدل على مُدَّعَاه؛ إذ ليس الغرض أن النبوة تتجزأ إلى هذه الأجزاء والرؤيا جزء منها، فهو غير معقول في ذاته أن تكون الرؤيا الصادقة جزء من نبوة الوحي مهما صغر هذا الجزء؛ لأن للنبوة ماهية شرعية لا يندرج فيها جزئي بمجرد الرؤيا الصادقة، وزعم ابن خلدون أن حمل الحديث على النسبة الزمانية بعيد عن التحقيق، ولكنه لم يأتِ في ذلك بمقنع، وما رده به من اختلاف العدد في بعض الروايات لا يفيد، فإن كلامنا في شرح هذه الرواية الصحيحة التي عدها بعضهم متواترة، وكونه لم يثبت أن رؤيا الأنبياء كذلك لا يضر؛ لأننا نحمل الحديث على رؤياه صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، وكانت كفلق الصبح، ودعواه أن الكلام في الرؤيا العامة التي يستوي فيها سائر الخلق لا يظهر. "د".(37/78)
قلت: اعتنى الزركشي في بيان مفردات الأجزاء المذكورة من النبوة، فقال في "البحر المحيط" "1/ 62": "وقد اجتهدت في تحصل الستة والأربعين ما هي، فبلغت منها إلى الآن اثنين وأربعين، وقد ذكرتها في كتاب "الوصف والصفة"، وأنا في طلب الباقي"، وهذا يدل على صحة ما ذكره المصنف، فتأمل، وردَّ ابن حجر في "فتح الباري" "12/ 364 وما بعدها"- وذكر فيه "12/ 366-367" الوجوه الستة والأربعين، فراجع كلامه فإنه كلامه فإنه مهم ومفيد- ما اعتمده "د"، فانظر كلامه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة 12/ 373/ رقم 6987"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب: منه 4/ 1774/ رقم 2264"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب في الرؤيا 4/ 304/ رقم 5018"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرؤيا، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة "4/ 532/ رقم 2271"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4/ 383"، وأحمد في "المسند" "5/ 316، 319" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(37/79)
ص -420-…والسادس:
نزول القرآن على وفق المراد، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144]، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة1، وقال تعالى أيضا: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف2 فيهن على عدد معلوم.
وفي الأمة قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث". قلت: يا رسول الله! لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/ 502/ رقم 399"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5 / 207-208/ رقم 2962"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القبلة 1/ 322-323/ رقم 1010"، وأحمد في "المسند" 4/ 274" عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
2 ليس موضوع الآية الإذن بعدم وقوفه عند الأربع التي أذن بها لسائر الأمة بل الكلام4 في موضوع القسم بين نسائه، وما إلى ذلك من تسريح من يشاء وإمساك من يشاء، كما يعلم من مراجعة كتب التفسير، وقد تابعه بعض الناظرين هنا أن الموضوع ما قاله، ولكنه خالفه فيما زعمه من السبب، وهو مصيب في هذه المخالفة لا في الموافقة على معنى الآية، وإن كانوا نسبوا إلى الحسن أنه قال: "تنكح من تشاء من نساء أمتك، وتترك نكاح من تشاء منهن"، وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب واحدة لا يخطبها غيره حتى يتركها، هكذا نسبوا إليه، ولكنه على ما ترى في عداد الإكثار من الاحتمالات والنقول. "د".(37/80)
وقال "خ": "ليس سبب الإذن له عليه الصلاة والسلام في التزوج بما فوق الأربعة هو محبته للنساء، وإنما أذن له بذلك لمقاصد أخرى كتأكيد الصلة بينه وبين أقاربهم وعشائرهن، وإن يتلقين عنه أحكام الشريعة ولا سيما الأحكام العائدة إلى النساء ما لا يطلع عليه إلا الأزواج، وتعدد زوجاته عليه السلام مما يقوم بها شاهد من شواهد صدقه، فإنهن مع كثرتهن لم يشهدن من حاله في السر إلا ما يطابق استقامته وإرشاداته العلنية، ونحن نرى من يدعي الصلاح كاذبا لا يلبث أن تنكشف سريرته ويفتضح أمره في الغالب على أيدي من يلابسه في بيته من الأزواج أو الخادمات".(37/81)
ص -421-…وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلت: "إنِ انتَهَيْتُنَّ أو لَيُبَدِّلَنَّ اللهُ رسولَهُ خيرًا منكُنَّ". فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية1 [التحريم: 5].
وحديث التي ظاهر منها زوجها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي ظاهر مني، وقد طالت صحبتي معه، وقد ولدت له أولادا، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد حرمت عليه". فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه، ثم عادت، فأجابها، ثم ذهبت لتعيد الثالثة، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}2 الآية: [المجادلة: 1].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} 8/ 168/ رقم 4483، وباب في سورة الأحزاب 8/ 527/ رقم 4790، وباب في سورة التحريم 8/ 660 / رقم 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1865/ رقم 2399" مختصرا عن عمر.
2 ذكر هذا البغوي في "معالم التنزيل" "5/ 323"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 259" من غير إسناد.
وأصله عند البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 13/ 372" معلقا عن عائشة مختصرا.
ووصله النسائي في "المجتبى" "6/ 168"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2063"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2063"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 481"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 5-6"، والواحدي في "أسباب النزول" "273" بسياق فيه تفصيل نحو المذكور وليس فيه: "قد حرمت عليه"، وإسناده صحيح.(37/82)
ولهذا التفصيل شواهد من حديث خويلة -أو خولة- بنت ثعلبة، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2214، 2215"، وأحمد في "المسند" "6/ 410-411"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 107-108"/ رقم 4279- الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 746"، وابن جرير في =(37/83)
ص -422-…ومن هذا كثير لمن تتبع.
ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت، إذ قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت1 أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "28/ 5"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 616"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 389، 391" بسند ضعيف، فيه معمر بن عبد الله، وهو مجهول.
وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار في "المسند" "رقم 1513- زوائده"، والطبراني في "الكبير" "11/ رقم 11689"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 3-4"، والبيهقي في الكبرى" "7/ 392"، وذكره مفصلا، وفيه أبو حمزة الثمالي، وزاد في متن الحديث ما خالف فيه الثقات، وهو لين.
وأخرجه من حديث ابن عباس مختصرا دون تعيين للرجل ولا للمرأة: أبو داود في "السنن" "رقم 2223"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 167"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1199"، وابن ماجه في "السنن" رقم "2065"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 747"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 204، والبيهقي في الكبرى" "7/ 386"، بسند حسن، وحسنه ابن حجر في "الفتح" "9/ 343"، وليس في هذه الروايات جميعا "قد حرمت عليه"، وفي بعضها نحو التفصيل الوارد.
وأخرجه باللفظة المذكورة عبد الرازق في "التفسير" "2/ 277" عن عكرمة مرسلا، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات "8/ 379"، عن عمران بن أبي أنس مرسلا، ولكن ورده فيه هذه اللفظة على لسان المظاهر، وكذا وردت في حديث ابن عباس من رواية أبي حمزة الثمالي عنه، وهو الأشبه والله أعلم.
1 في "ط": "ما كنت أظن.....".(37/84)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 8/ 454/ رقم 4750" في آخر حديث الإفك الطويل، وقد أفرده يوسف بن عبد الهادي في جزء مفرد، وهو مطبوع.(37/85)
ص -423-…وقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرِّئ ظهري من الحد. فنزل1: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} الآية [النور: 6] وهذا خاص بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بانقطاعه.
والسابع:
الشفاعة، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقد ثبتت2 شفاعة هذه الأمة، كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس: "يشفع في مثل ربيعة ومضر"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 8/ 449/ رقم 4747"، وغيره ضمن حديث طويل عن ابن عباس.
2 في "د": "ثبت".
3 الشفاعة لمثل ربيعة ومضر ثابتة في غير حديث، أحسنها وأصحها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب: منه 4/ 626/ رقم 2438" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، 2/ 1443-1444/ رقم 4316"، وأحمد في "المسند" "3/ 469، 470, 5/ 366"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "5/ 26"، والطيالسي في "المسند" "2/ 229- التحفة"، والدارمي في "السنن" "2/ 328"، وابن خزيمة في "التوحيد" "313"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 70، 71"، وابن حبان في "الصحيح" "16/ 376/ رقم 7376- الإحسان"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "3/ 196"، والمزي في "تهذيب الكمال" "14/ 359-360" عن عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا: "ليدخُلَنَّ الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"، وإسناده صحيح على شرط مسلم.(37/86)
وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 256، 261، 267"، والآجُرِّي في "الشريعة" "351"، والطبراني في "الكبير" "8/ 169"، عن أبي أمامة مرفوعا: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة، ومضر"، ورجاله رجال الصحيح، وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، وهو مقبول كما في "التقريب"، وقد توبع، تابعه أبو غالب حزور، أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 330"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 287"، فإسناد حسن، وكذا قال العراقي فيما نقل عنه المناوي في "فيض القدير" "4/ 130".(37/87)
ص -424-…"أئمتكم شفعاؤكم"1، وغير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا الرجل المبهم الثابتة له الشفاعة، قيل: إنه عثمان، وقيل: إنه أويس، ويدل على الثاني ما أخرجه علقمة بن مرثد في "زهد الثمانية من التابعين" "ص74" عن عمر مرفوعا: "يدخل الجنة بشفاعة أويس مثل ربيعة ومضر"، وإسناده متقطع.
وما أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 2533" عن ابن عباس مرفوعا: "سيكون في أمتي رجل يقال له: أويس بن عبد الله القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر"، وإسناده واهٍ، فيه وهب بن حفص، كل أحاديثه مناكير غير محفوظة، وهو متهم بالوضع، انظر: "تاريخ بغداد" "13/ 488، واللسان" "6/ 234".
وما أخرجه أحمد في "الزهد" "343، 344" عن الحسن مرفوعا: "ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر": قال الحسن: "وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس القرني رضي الله عنه"، وفي رواية أخرى: "قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن، قال: هو أويس القرني".
وأخرج الترمذي في "الجامع" "رقم 2439" من مرسل الحسن أنه عثمان أيضا، وترى ذلك مبسوطا في ترجمته في "تاريخ دمشق"، والله الموفق.
والخلاصة: الحديث صحيح من غير ذكر تعيين أويس والله أعلم.
1 قال العراقي "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 175- مع شرحه "إتحاف السادة": "أخرجه الدارقطني والبيهقي، وضعف إسناده من حديث ابن عمر، والبغوي وابن قانع والطبراني في "معاجمهم"، والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد نحوه، وهو منقطع، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف".
قلت: أورد العراقي هذا عند قول الغزالي: "قال صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله....".
وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 87-88"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 90" عن ابن عمر مرفوعا: "اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل".(37/88)
قال البيهقي: "إسناده ضعيف"، قلت: فيه حسين بن نصر لا يُعرَف، قاله ابن القطان، كما في "نصب الراية" "2/ 26"، وعمر بن يزيد منكر الحديث، كما في "الكامل" "5/ 1687" لابن عدي، وسلام بن سليمان ضعيف، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، وانظر: "الأحكام =(37/89)
ص -425-…والثامن:
شرح الصدر، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} الآية [الشرح: 1].
وقال في الأمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} [الزمر: 22].
والتاسع:
الاختصاص بالمحبة؛ لأن محمدا حبيب الله، ثبت ذلك في الحديث، إذ خرج عليه الصلاة والسلام، ونفر من أصحابه يتذاكرون، فقال بعضهم: عجبا! إن الله اتخذ من خلقه خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه الله تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم، فسلم، وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفَّع ولا فخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوسطى" "1/ 322-323" لابن القطان.
وحديث مرثد أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 244/ رقم 317"-ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 197/ أ"-والطبراني في "الكبير" "20/ 328/ رقم 777"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 222"، وابن منده في "المعرفة" "2/ ق 174/ ب" عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "إن سركم أن تُقبَل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفودكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل".
وإسناده ضعيف، قال الدارقطني: "إسناد غير ثابت، وعبد الله بن موسى ضعيف".(37/90)
قلت: وكذا من روى عنه وهو يحيى بن يعلى الأسلمى، وبه أعَلَّه العراقي كما تقدم، والهيثمي في "المجمع" "2/ 64"، والقاسم الشامي لم يدرك مرثد، على ما بسطه ابن حجر في "الإصابة"، وإليه أشار العراقي بقوله: "وهو منقطع"، فالحديث ضعيف غير صحيح، وقد تابع المصنف الغزاليَّّ في إيراده باللفظ المذكور، وهذا قصور منه، عفى الله عنا وعنه.(37/91)
ص -426-…وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر"1.
وفي الأمة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].
العاشر:
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك.
الحادي عشر:
وأنه أكرم الأولين والآخرين، وقد جاء في الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5/ 587-588/ رقم 3616"-وقال: "هذا حديث غريب"، والدارمي في "السنن" "1/ 26"، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 573"-عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فإنه من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة به، ورواية زمعة عن سلمة ضعيفة، ضعف زمعةَ أحمدُ ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، وقال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال البخاري: "يخالف في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرا".
انظر: "التاريخ الكبير" "3/ 451"، و"الجرح والتعديل" "3/ 624"، و"الضعفاء الكبير" "2/ 94"، و"تاريخ ابن معين" "رقم 301- رواية الدوري"، و"أسئلة ابن طهمان" "رقم 62"، و"الضعفاء والمتروكين" "2/ 759" لأبي زرعة، و"تهذيب الكمال" "9/ 386".(37/92)
ومع هذا، فقد وثقه ابن معين مرة، فقال في "تاريخه" "رقم 553"-رواية الدوري": "صويلح الحديث"، وقال ابن عدي: "ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه لا بأس به"، وروى له مسلم مقرونا بمحمد بن أبي حفصة، فهو بيِّن الأمر في الضعفاء، وروايته عن سلمة بن وهرام ضعيفة، قال عبد الله بن أحمد في "العلل" "رقم 3479" عن أبيه: "روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه حديثا ضعيفا"، وقال ابن عدي في ترجمة "سلمة": "أرجو أنه لا بأس بروايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة". وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 399"، وقال: "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه".
فالحديث ضعيف، ولبعضه شواهد في "الصحيح" وغيره.(37/93)
ص -427-…والثاني عشر:
أنه جُعِل شاهدا على أمته، اختص1 بذلك دون الأنبياء عليهم السلام.
وفي القرآن الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والثالث عشر: خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الأمة كرامات، وقد وقع الخلاف، هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا؟ وهذا الأصل شاهد له، وسيأتي بحول الله [وقدرته]2.
والرابع عشر: الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره3 من الفضائل، ففي القرآن: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6]، وسميت أمته الحمادين.
والخامس عشر: العلم مع الأمية4، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية [الأعراف: 158].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير ظاهر مع آية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد} قال المفسرون: هو نبيهم، إلا أن يكون مراده أنه وحده الذي يشهد على أمته بخلاف الأمم السابقة، فيشهد عليهم مع أنبيائهم كما تشهد أمته عليهم، وهو بعيد من كلامه. "د".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "وبغيرها".
4 العلم مع الأمية فيه صلى الله عليه وسلم واضح، وهو إحدى معجزاته، والآيات صريحة فيه، وأمية الأمة تصرح بها الآيات، لكن أين في الآيات والحديث الوصف للأمة بالعلم الذي لا يكون عادة مع الأمية والمدلول عليه في مثل آية: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ.....} إلخ العلم الذي هو الإيمان ولواحقه، التي لا يلزم منها الاتصاف بالعلم على الإطلاق كوصفه عليه السلام. "د".(37/94)
ص -428-…وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"1.
والسادس عشر2:
مناجاة الملائكة، ففي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر، وقد روي في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك، كعمران بن الحصين3، ونقل عن الأولياء من هذا.
والسابع عشر: العفو قبل السؤال، قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التوبة: 43].
وفي الأمة: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
والثامن عشر: رفع الذكر، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشرح: 4].
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان، وفي كلمة الأذان، فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير.
وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام، أنه قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ: "إنا أمة.... " بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 هذا الوجه كما ترى لم يُقِم عليه دليلا محدودا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب جواز التمتع 2/ 899/ رقم 1226 بعد 167" عن عمران، قال: "وقد كان يسلم عليَّ حتى اكتويت، فتركت، ثم تركت الكي فعاد".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" "9/ 11"، وابن أبي أسامة والدارمي، كما في "الإصابة" "3/ 26-27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "9/ 146-147/ رقم 103"، وعزاه للبخاري، ولم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "ورقم 10846".
4 لا يظهر هنا سؤال ولا عفو قبله، وعلى فرض أن هنا موضع سؤال وعتب على انصرافهم عنهم ومخالفتهم لأمره عليه السلام، فمن أين أن العفو كان قبل السؤال؟ "د".(37/95)
ص -429-…"اللهم اجعلني من أمة أحمد"1 لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم2.
والتاسع عشر:
أن معاداتهم معاداة لله، وموالاتهم موالاة لله3، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه} [الأحزاب: 57] [هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله].
وفي الحديث: "من آذاني، فقد آذى الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 54"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص30-31" عن الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مطولا، وفيه المذكور.
قال أبو نعيم عقبه: "وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذه الوجه، تفرد به الربيع بن النعمان وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين".
قلت: وله طرق كثيرة كما بينته بإسهاب في تعليقي على رسالة ابن قيم الجوزية "الفوائد الحديثة" وهي مطبوعة، وأصحها ما أخرجه أبو الحسين بن المنادي في "متشابه القرآن العظيم" "ص22" بسند حسن عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "الإتقان" "1/ 185"- بسندهما إلى قتادة، قال: حدثنا رجال من أهل العلم، وذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة.
2 كما تراه في "الجواب الصحيح" "3/ 313 وما بعدها"، و"هداية الحيارى" "61 وما بعدها"، و"أعلام النبوة" "ص128 وما بعدها" للماوردي، و"محمد نبي الإسلام" "ص7 وما بعدها" لمحمد عزت الطهطاوي، و"إظهار الحق"، و"نبوة محمد في الكتاب المقدس"، و"محمد في التوراة والإنجيل والقرآن"، و"الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها" "الفصل الأول، الباب الأول، ص50-89" لهدى مرعي.(37/96)
3 لم يذكر الموالاة في الأمة، وذكرها في الرسول عليه السلام، وسيأتي في السابع والعشرين ما يتضمنه، ولو قال: "ومفهوم من آذى لي وليا.... إلخ، أن من والى لي وليا...... إلخ"، لأكمل المطلوب. "د".
4 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب: منه 5/ 696 =(37/97)
ص -430-…وفي الحديث: "من آذى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة"1.
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80].
ومفهومه من لم يطعِ الرسول لم يطع الله.
وتمام العشرين:
الاجتباء، فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الأنعام: 87].
وفي الأمة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 3863" -وقال: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- وأحمد في "المسند" "4/ 87 و5 / 54، 57"، و"الفضائل" "رقم 1، 3"، وابنه عبد الله في "زياداته على الفضائل" "رقم 2، 4"، وابن أبي عاصم في "السنة "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "16م 244/ رقم 7256- الإحسان"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص321"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" والخطيب في "تاريخ بغداد" "9/ 123"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860"، والضياء المقدسي في "جزء النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب" "رقم 3، 4- بتحقيقي" عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الله بن عبد الرحمن -وفي بعض طرق عبد الرحمن بن زياد أو عبد الرحمن بن عبد الله- عن عبد الله بن المغفل مرفوعا، أوله: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي......".
وإسناده ضعيف، تابعيُّه مجهول، لم يروِ عنه عبيدة بن أبي رائطة، ولم يوثقه غير ابن حبان في "الثقات" "5/ 46".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" وغيره ضمن حديث إلهي.(37/98)
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782/ رقم 2276" وغيره عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وفي "مسند أحمد" "6/ 25" وغيره: "وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى".(37/99)
ص -431-…وقال في الأمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].
والحادي والعشرون:
التسليم من الله، ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام1.
وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
و: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54].
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة: "اقرأ عليها السلام من ربها ومنى"2.
والثاني والعشرون:
التثبيت عند توقع التفلت البشري، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في حديث عند أبي الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 610" عن سعيد المقبري، عن عائشة رفعته: "يا عائشة! لو شئت لسارت معي جبال الذهب؛ جاءني ملك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام...".
وإسناده ضعيف، فيه أبو معشر سيئ الحفظ، وسعيد لم يسمع من عائشة.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها 7/ 134/ رقم 3820"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 4/ 1887/ رقم 2432" عن أبي هريرة، قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
وأخرجه أيضا بنحوه في "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 465/ رقم 7497"، إلا أن فيه: "فأقرئها من ربها السلام".(37/100)
ص -432-…وفي الأمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
والثالث والعشرون:
العطاء من غير منة1، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون} [القلم: 3].
وقال في الأمة: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التين: 6].
والرابع والعشرون:
تيسير القرآن عليهم، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 17-19]، قال ابن عباس: علينا أن نجمعه في صدرك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 19]، علينا أن نبينه على لسانك.
وفي الأمة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} [القمر: 17].
والخامش والعشرون:
جعل السلام عليكم مشروعا في الصلاة؛ إذ يقال في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"2.
والسادس والعشرون:
أنه سمي نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرؤوف الرحيم، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم.
والسابع والعشرون:
أمر الله تعالى بالطاعة لهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر} [النساء: 59].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعلى التفسير الآخر وهو أن الممنون المقطوع يكون التشريك في هذا المعنى، فيحل وجه بدل وجه. "د".
2 وإن كان يشمل كل عبد لله صالح كما في الحديث، فالصالح من أمته مندرج من باب أولى. "د".(37/101)
ص -433-…وهم الأمراء والعلماء.
وفي الحديث: "من أطاع أميري، فقد أطاعني"1.
وقال: "من يطعِ الرسول، فقد أطاع الله"2.
والثامن والعشرون:
الخطاب الوارد ومورد الشفقة والحنان، كقوله تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2].
وقوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2].
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وفي الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
والتاسع والعشرون:
العصمة من الضلال بعد الهدى3، وغير ذلك من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 13/ 111/ رقم 7137"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/ 1466/ رقم 1835".
3 على هذا يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في "المصابيح" وصححه الترمذي: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل"، ثم قرأ هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون}، إلا أن أدلته غير واضحة الدلالة على المطلوب، فإن حديث: "لا تجتمع أمتي....." إنما هو في مجموعة الأمة لا في الأفراد ولو جماعة من الأمة، وآية: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} =(37/102)
ص -434-…وجوه الحفظ العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله.
وجاء في الأمة: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ليس المخلصون إلا الجزء القليل من المهتدين، وحديث: "احفظ الله" لا يخرج عن رسم طريق للحفظ من الغواية والضلال وغيرهما من الشرور الدنيوية والأخروية، وحديث: "ما أخاف عليكم أن تشركوا" متوجه لمجموع الأمة وجمهورها، وإلا، فقد ثبت على أشخاص الارتداد بعد الإيمان في عهده صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يستدعي خوفا من الجمهور المعني بذلك الحديث، فلعله يعني إثبات العصمة بعد الهدى لمجموع الأمة لا ما يشمل عصمة الإفراد، وعبارته مطلقة ومحتملة، والإفراد في قوله: "احفظ الله" لا يقتضي أن يكون شاملا للأفراد وإن كان الظاهر منه هذا المعنى، وبعيد أن يراد به خصوص المجموع من الأمة وإذا تمَّ ما قلناه، لا يحتاج الحديث إلى الصرف عن ظاهره. "د".
وقال "خ": "هذه حقيقة جلية، ومن نراه يتخبط في ريب الإلحاد وقد نبت في بيت إسلامي؛ فلأنه لم يأخذ عقائد الدين وآدابه على بينة وأسلوب حكيم، وإنما سمى نفسه أو سماه آباؤه مسلما، وليس المقلد في أصل الدين على بصيرة وهدى حتى يكون انحلال عقيدته شكا بعد يقين وضلالا بعد هدى".
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 2/ 1303/ رقم 3950"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 41/ رقم 84"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 105/ رقم 153"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 113"، وأفاد ابن حجر أن الدارقطني أخرجه في "الإفراد عن أنس مرفوعا بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة".
وإسناده واهٍ؛ فيه معان بن رفاعة، لين الحديث، كثير الإرسال، وأبو خلف الأعمى البصري متروك، ورماه ابن معين بالكذب.(37/103)
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116-117" من طريق آخر عن أنس، وفيه مبارك بن سحيم، قال الحاكم: "ممن لا يمشي في هذا الكتاب، لكن ذكرته اضطرارا".
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 83"، من طريق آخر عن أنس بلفظ: "إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة"، وإسناده ضعيف، فيه مصعب بن إبراهيم، وهو منكر الحديث.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/ 466/ رقم 2167"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 80"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 115- =(37/104)
ص -435-…ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 116"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص322"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 37"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 154"، والطبراني في الكبير" "رقم 13623"، وابن حزم في "الإحكام" "4/ 192"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 109" عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي -أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على ضلالة"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان".
قلت: وكذا قال الدارقطني في "علله"، وزاد: "ليس بالقوي، يتفرد بما لا يتابع عليه".
والراوي عنه هنا المعتمر بن سليمان، وقد اختلف عليه فيه من سبعة أوجه سردها الحاكم، وقال: "لا يسعنا أن نحكم عليها كلها بالخطأ ولا الصواب"، وقال: "وقد كنت أسمع أبا علي الحافظ يحكم بالصواب لقول من قال: عن المعتمر، عن سليمان بن سفيان المدني...." وهذا الذي صوبه البخاري والترمذي والدارقطني، وتبعهم ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 110-111"، وسليمان ضعيف كما قدمنا.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4233"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3440" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 106"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 92"، والداني في "الفتن" "ق 45/ ب" عن أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال...." آخرها: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة".(37/105)
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع؛ شريح بن عبيد لم يسمع من أبي مالك الأشعري، وبهذا أعله الزركشي في "المعتبر" "ص58"، وابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 35" بقوله: "في إسناد هذا الحديث نظر"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 141": "وفي إسناده انقطاع"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 82" من طريق آخر عن أبي مالك واسمه كعب بن عاصم بإسناد فيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث، وفيه عنعنة الحسن البصري، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يجمع الله أمتي -أو قال: هذه الأمة- على الضلالة أبدا".
وفيه إبراهيم بن ميمون، قد عدله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن، وتعديله حجة، ووثق ابن ميمون أيضا ابن معين.
وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 208" عن سمرة مرفوعا: "إن أمتي لا تجتمع =(37/106)
ص -436-…................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على ضلالة".
وإسناده ضعيف، فيه أبو عون الأنصاري: مقبول، وعتبة بن أبي حكيم صدوق يخطيء كثيرًا، وبقية مدلس وقد عنعن.
وأخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" -كما قال الزركشي في "المعتبر" "ص61"، وأحمد في "المسند" "6/ 396"، والطبراني في "الكبير" "رقم 2171"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 105-106"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 756/ رقم 1390" عن أبي بصرة الغفاري مرفوعا: "سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا، ومنعنى واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها"، وإسناده ضعيف فيه راوٍ مبهم، وسائر رجاله ثقات.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 13373" في سورة الأنعام عن الدورقي عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري مرسلا.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 85"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 244-245"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 647، 648، 649"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 506-507"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 167، واللالكائي في "السنة" رقم 162، 163"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 114-115" عن أبي مسعود البدري بألفاظ منها: "فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالته".
وإسناده صحيح موقوف، رجاله رجال الشيخين، وحسنه ابن حجر، وقال الزركشي في "المعتبر" "ص62": "وحديث أبي مسعود رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكرها من طريق وضعفها، والظاهر وقفه على أبي مسعود".(37/107)
ثم قال: "واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا يخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك؛ ليتقوى بعضها ببعض"، ثم قال: "ومن شواهده ما في "الصحيحين" -"صحيح البخاري" "رقم 1367، 2642"، و"صحيح مسلم" "رقم 949"- عن أنس، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا شرا، فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله! لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: "شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض"، وفي لفظ لمسلم: "من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتهم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "ثلاثا".(37/108)
ص -437-…وجاء: "احفظ الله يحفظك"1.
وفي القرآن: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] تفسيره في قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
وفي قوله: "وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"2.
وتمام الثلاثين:
إمامة الأنبياء، ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ بالأنبياء، قال: "وقد رأيتني [في] جماعة من الأنبياء....... فحانت الصلاة فأممتهم"3.
وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان: "إن إمام هذه الأمة منها، وإنه يصلي مؤتما بإمامها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 315".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها 11/ 243-244/ رقم 6426" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
3 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156-157/ رقم 172" عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه: "وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم".
قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل.
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام 6/ 491/ رقم 3449"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1/ 136-137/ رقم 155 بعد 244" عن أبي هريرة مرفوعا: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم فيكم؟" لفظ الشيخين. =(37/109)
ص -438-…ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا [مجموعه] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة، والحمد لله على ذلك.
فصل:
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:
- منها: أن جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن على مقدار الاتباع، فلا يظن ظانٌّ أنه حصل على خير بدون وساطة1 نبوية، كيف وهو السراج المنير الذي يستضيء به الجميع، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق.
ولعل قائلا يقول: قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم، كفرار الشيطان من ظل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي لفظ لمسلم "برقم 155 بعد 245": "وأمكم"، وفي لفظ "برقم 155 بعد 246": "فأمكم منكم"، وفيه: قال ابن أبي ذئب -بعض رواته: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: -الوليد بن مسلم: تخبرني؟. قال: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم".
فليس في هذا "وأنه يصلي مؤتما بإمامها".
نعم، ورد في "صحيح مسلم" "رقم 156" عن جابر مرفوعا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا. فيقول: لا، لا تكرمة الله هذه الأمة".
وهذا الأمير في هذه الرواية هو الإمام في الرواية الأولى، وهو المهدي بن عبد الله الحسيني، قال أبو ذر ابن سبط ابن العجمي في تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 137"، وانظر -لزاما- تعليقنا عليه.
1 في "ماء / ص203: "واسطة" وفي "ط": "وساطة النبوة".(37/110)
ص -439-…عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نازع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته الشيطان1وقال لعمر: "ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجًّا غير فجك"2.
وجاء في عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أن ملائكة السماء تستحي منه"3 ولم يرد مثل هذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر: "أنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فافترق النور معهما"4، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقال: كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء5 أو ينقل إلى يوم القيامة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه في التعليق على "ص441".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق 6/ 339/ رقم 3294، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 7/ 40/ رقم 3683، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك 10/ 503/ رقم 6085"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد بن أبي وقاص ضمن حديث طويل في آخره: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "غير ذلك".
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن عائشة، وذكرت قصته، وفي آخرها، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟"، وأخرجه أحمد في "المسند" بألفاظ "1/ 71 و6/ 62، 155، 288".(37/111)
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد ابن بشر رضي الله عنهما 7/ 124-125/ رقم 3805" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "إن رجلين خرجا من عند.....".
5 في "ط": "والعلماء".(37/112)
ص -440-…الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص1 بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي2، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي3؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته، فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته.
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتِّباع والاقتداء به4، ولو كان ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن جزئيات الكلى تمتاز بمشخصات تليق بهذه الجزئيات، فالجزئيات التي وجدت لبعض الصحابة من الكرامات -وإن ظهر ببادي الرأي أنها أمور غير داخلة في كلي كرامات الرسول- فالواقع ليس كذلك، بل هي جزئيات من كليته، وكليته أكمل كما سيصوره المؤلف في عصمته عليه الصلاة والسلام العصمة المطلقة من الشيطان، وفي فراره من عمر الذي لا يقتضي تمام العصمة، فكم يفر العدو ممن يراه أقوى منه، ولكنه قد يكر عليه فلا ينجو منه في بعض الغفلات؟ "د".
2 في نسخة "ماء/ ص203": "قلت: وانظر إلى أصل الشجرة وما يتفرع منه، وما يظهر في الفرع من ورق وشوك وثمر".
3 لعل الصواب: "لا يكون جزئيا إلا بكلي". "د".
قلت: المذكور متجه، ولا داعي للتصويب المذكور؛ إذ الكلي يتكون من مجموع الجزئيات، فتأمل.(37/113)
4 ليس هذا على إطلاقه، قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 283": "ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك؛ لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وقرر أيضا في "11/ 323" أن عدم الخوارق لا تضر المسلم في دينه، ولا ينقص ذلك من مرتبته عند الله بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه. وانظر -غير مأمور: "مجموع الفتاوى" "10/ 29-32 و499-500 و11/ 202، 204-208، 212-215، 275 وبعدها، 322 وما بعدها".(37/114)
ص -441-…لم تكن المتابعة شرطا فيها، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر.
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا، فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر.
وأيضا، فإن فرار الشيطان أو بُعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة، وقد زادت مزية النبي صلى الله عليه وسلم فيه خواص:
- منها: أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}1 [ص: 35] ولم يقدر عمر على شيء من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَان} 6/ 457/ رقم 3423، وكتاب التفسير، باب {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 8/ 546/ رقم 4808"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/ 384/ رقم 541" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فردَّه خاسئًا" لفظ البخاري.(37/115)
ص -442-…- ومنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام اطَّلع على ذلك من نفسه1 ومن عمر2 ولم يطَّلِع عمر على شيء منه.
- ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه، وعمر لم يكن آمنا وإن بعُد عنه.
وأما منقبة عثمان، فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل نقول: هو أولى بها، وإن لم يذكرها عن نفسه؛ إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها.
وأيضا، فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهي شدة حيائه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، وأشد3 حياء من العذارء في خدرها4، فإذا كان الحياء أصلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال.
وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه؛ لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء5، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة، فكان يرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: في شأنه صلى الله عليه وسلم وفي شأن عمر. "د".
3 في "ط": "أو أشد".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3562، وكتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513/ رقم 6102، وباب الحياء 10/ 521/ رقم 6119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4/ 1809/ رقم 2320" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.(37/116)
5 أخرج تمام في "الفوائد" "رقم 1430- تربيته"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1534" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 74-75"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 118/ رقم 266"، والخطيب في تاريخ بغداد" "4/ 271-272"، ومكي المؤذن في "حديثه" "1/ 236"، والضياء المقدسي في "المنتقى من حديث أبي علي الأوقي" "1/ 2"-كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 341"- من طريق زهير بن عباد الرواسي عن عبد الله بن المغيرة عن المعلي بن هلال =(37/117)
ص -443-…من خلفه كما يرى من أمامه1، وهذا أبلغ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [من]2 بعده وفي زمانه.
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه3، والأخذ لهذه الأمور من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء".
وإسناده ضعيف جدا، قال البيهقي: "هذا إسناد فيه ضعف"، وقال ابن الجوزي: "لا يصح".
المعلى بن هلال اتفق النقاد على تكذيبه، كما قال ابن حجر، والراوي عنه عبد الله بن محمد بن المغيرة، قال أبو حاتم: "ليس بقوي" وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "يحدث بما لا أصل له"، كذا في "اللسان" "3/ 332"، وأورد الذهبي في "الميزان "2/ 487-488" في ترجمته جملة من الأحاديث منها المذكور، ثم قال: "قلت: وهذه موضوعات"، وضعف هذا الحديث ابن دحية في كتابه "الآيات البينات"، قاله المناوي في "فيض القدير" "5/ 215".
قلت: ونقل تضعيفه فيه عن ابن بشكوال، كما قال ابن الملقن في "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم "ص299".
وعزاه السيوطي في "الخصائص الكبرى" "1/ 61" لابن عساكر، وهو في "تاريخه" مرسلا، وفيه بعض المجاهيل، أفاده شيخنا الألباني.
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 75" بسند فيه جماعة مجهولون عن مغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء". وقال: "ليس بالقوي".
ووردته قصة تدل على وهاء هذا الحديث، ولكنها من القصص التي لا تثبت، كما تراه في هامش "غاية السول" "ص472".
1 سيأتي تخريجه "ص274"، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم في الصلاة فحسب.
2 سقط من "ط".(37/118)
3 الأحسن من هذا الذي قرره المصنف ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 398": "ليس كل عمل أورث كشوفا أو تصرفا في الكون يكون أفضل من العمل =(37/119)
ص -444-…جهته لا على الجملة، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال، ولا إشكال فيها بحول الله. وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية.
فصل:
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته، فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل، فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة1، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك2.
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم3 والتقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي لا يورث كشفا وتصرفا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا، وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار، ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تُتَلقى من مثل هذا، وإنما تُتَلقى من دلالة الكتاب والسنة....".
وقال: إن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقا، مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدا، فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك".
1 في الأصل: "كرامة".
2 انظر نحوه في "النبوَّات"، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" "ص62 وما بعدها"، والموطن المذكورة آنفا من المجلد الحادي عشر من "مجموع الفتاوى"، و"مدارج السالكين" "1/ 47-48"، و"قطر الولي" "ص253"، و"التنكيل" "2/ 238-239".
3 في الأصل: "الهمة".(37/120)
ص -445-…بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها في كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران1 في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرَّى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه، معرِضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها؛ إذ قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2 الحديث، وإن تحرى وقتا أو دعا [إلى تحرِّيه]3، فلسبب بريء من هذا كله، كحديث التنزل4، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار5، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "قرار".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" في مواطن، منها "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذ سلم 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء 1/ 83-84/ رقم 71" من حديث زيد بن خالد، ومضى الحديث "1/ 201".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29/ رقم 1145، وكتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل 11/ 128-129/ رقم 6321، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 464/ رقم 7494"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعا: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُثُ الليل الآخرُ، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له".(37/121)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر 2/ 33/ رقم 55، وكتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/ 306/ رقم 3223، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} 13/ 415/ رقم 7429، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكةَ 13/ 461/ رقم 7486"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 439/ رقم 632" عن أبي هريرة مرفوعا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم؛ وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".(37/122)
ص -446-…والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص؛ أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم، وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره، ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، والتي روعى فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم، وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل، فذلك غير ثابت النقل، ولا تجد له أصلا، بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي؛ هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به، فليس بدليل على الصحة، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك، ولا يكون شاهدا على صحته؛ بل هو باطل صرف، وتعدٍ محض، وهذا الموضع مَزَلَّة قدم للعوام ولكثير من الخواص، فلْتُنَبَّهْ له.
فصل:
ومنها أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر وأنذر، وندب1، وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة، كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه صلى الله عليه وسلم رتب على فراسته ورؤياه وإلهاماته بشارة للبعض، ونذارة لآخر، وتصرفات في بعض الشئون، وهكذا؛ فمن فعل مثله صلى الله عليه وسلم كان على صواب في عمله، وقد علمت مما سبق أن صدق ذلك تابع لقوة المتابعة، ولذا قال: "فمن اختص بشيء.... إلخ" وقوله: "شرط ذلك"، أي: الآتي في المسألة التالية. "د".(37/123)
ص -447-…طريق من الصواب1، وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع، لكن مع مراعاة شرط ذلك، ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران:
أحدهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا، وتحذيرا وتبشيرا وإرشادًا، مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته، فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه، شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره، ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات، وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين2 وقولهما له: "نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسهب ابن القيم في الكلام على حجية "الفراسة"، وذكر أمثلة كثيرة على عمل الصحابة والتابعين بها، وذلك في أول كتابه "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا.
2 أي: فقد رتب على رؤيا عبد الله نفسه ما رتب، ويظهر أن مقالة الرسول لأبي ذر وثعلبة وأنس كلها من قبيل الفراسة، ولتراجع رواية البخاري في "كتاب الرؤيا، باب الأمن وذهاب الروع في المنام، ففيها أن ملكا ثالثا قال له: "لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فليست من كلام الملكين، كما أن لفظ الرسول في هذه الرواية "أن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة في الليل" وهو نص الرواية الأخرى التي رواها المؤلف، فليس بظاهر جعل قوله: "نعم.... إلخ" مقولا لقال ولا لقولهما إلا بتكليف. "د".
قلت: بل الأمر كما ذكر المصنف، كما في الموطنين الثاني والثالث في "صحيح البخاري" من الهامش الآتي.(37/124)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل 3/ 6/ رقم 1121، 1122، وباب فضل من تعارَّ من الليل، فصلى 3/ 40/ رقم 1157، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7 / 89-90/ رقم 3738، 3739"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927-1928/ رقم 2479" عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.(37/125)
ص -448-…وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل"1.
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: "إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم"2.
وقوله لثعلبة بن حاطب وسأله الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7/ 90/ رقم 3740، 3741، وكتاب التعبيرات، باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام 12/ 403/ رقم 7016، وباب الأمن وذهاب الروع في المنام 12/ 418/ رقم 7029، وباب الأخذ على اليمين في النوم 12/ 419/ 7031"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927/ رقم 2478" عن حفصة مرفوعا.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، ومضى تخريجه "1/ 177".(37/126)
3 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "8/ 260/ رقم 7873"، و"الأحاديث الطوال" "25/ 225- في "تفسيره" "2/ 312"، وأبو نعيم في "المعرفة" "3/ 272"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص252"، والبيهقي في "الدلائل" "5/ 289"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "1/ 204"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 284"، وابن حزم في "المحلى" "11/ 208" عن أبي أمامة الباهلي رفعه، فيه معان بن رفاعة لين الحديث، وعلى بن يزيد الألهاني متروك، فإسناده ضعيف جدا، كما قال ابن حجر في "الكافي الشاف" "ص77"، وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 372"، وقال ابن حجر في "الفتح" "3/ 266": "حديث ضعيف لا يحتج به"، وقال ابن حزم في "المحلى" "11/ 208": "وهذا باطل بلا شك"، وضعفها البيهقي بقوله: "في إسناده نظر" والقرطبي في "تفسيره" "8/ 210"، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" "1/ 66"، والهيثمي في "المجمع" "7/ 35"، وغيرهم.(37/127)
ص -449-…وقال لأنس: "اللهم كثر ماله وولده"1.
ودل عليه الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل وحد منهم، عملا بالفراسة الصادقة فيهم، وقال2: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه"3، فأعطاها عليا رضي الله عنه، ففتح الله على يديه.
وقال لعثمان بن عفان: إنه "لعل الله أن يقمصك قميصا: فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228/ رقم 1982، وكتاب الدعوات، باب قوله الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة 11/ 182/ رقم 6378"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب: منه 4/ 1928/ رقم 2480"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب لأنس بن مالك 5/ 682/ رقم 3829"، وأحمد في "المسند" "6/ 430" عن أم سليم "والدة أنس" وغيرهم.
2 هذا وما بعده للآخر يدخل تحت الاطلاع الغيبي، وهي عبارة مجملة تشمل ما كان من قبيل الوحي الملكي والإلهام، وأُتي بها كذلك؛ لتصح فيها المشاركة للأمة على ضرب من التسامح "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 70/ رقم 3701"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 4/ 1872/ رقم 2406" عن سهل بن سعد مرفوعا.
4 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 114" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "281، عثمان"- عن عائشة، وفي مسندها خلافا لما قاله ابن حجر في "أطراف مسند الإمام أحمد" =(37/128)
ص -450-…فرتب على الاطلاع الغيبي وصاياه النافعة، وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى، ثم قال آخر الحديث: "وأنتم اليوم خير منكم يومئذ"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "9/ 297/ رقم 12309": "وقع هذا في مسند عثمان"، ثنا محمد بن كناسة الأسدي ثنا إسحاق ابن سعيد عن أبيه، قال: بلغني أن عائشة قالت به، وهذا منقطع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 48-49"-ومن طريقه ابن أبي عاصم في "السنة "2/ 558-559/ رقم 1172"،وابن حبان في "الصحيح" "15/ 346/ رقم 6915- الإحسان" -ثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن عبد الله بن قيس عن النعمان بن بشير عن عائشة.
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 149" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "278- ترجمة عثمان"- عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية به، وفيه: "عبد الله بن أبي قيس".
وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم غير عبد الله بن قيس وهو اللخمي الشامي، وثقه ابن حبان في "الثقات" "5/ 45"، وروى عنه غير واحد، قال ابن حبان عقبه: "هذا عبد الله بن قيس اللخمي مات سنة أربع وعشرين ومئة، وليس هذا بعبد الله بن أبي قيس صاحب عائشة".(37/129)
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 628/ رقم 3705"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "277" من طرق عن معاوية بن صالح، وأحمد في "المسند" "6/ 86" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 276- ترجمة عثمان"- من طريق الوليد بن سليمان، كلاهما عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله -وتصحف في مطبوع "جامع الترمذي" إلى عبد الملك" فليصحح- ابن عامر عن النعمان بن بشير به، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وللحديث طرق أخرى، انظرها في "سنن ابن ماجه" "رقم 112"، و"المستدرك" "3/ 99-100"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 1174، 1179، 1180"، و"تاريخ دمشق" "ص276 وما بعدها-ترجمة عثمان".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 629/ رقم 3631، وكتاب النكاح، باب الأنماط ونحوها للنساء، 9/ 225/ رقم 5161"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب جواز اتخاذ الأنماط، 3/ رقم 3/ 1650/ رقم 2083" عن جابر مرفوعا: "هل لكم من أنماط؟" قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ قال: "أما وإنها ستكون لكم الأنماط"، =(37/130)
ص -451-….................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والتتمة المذكورة عند المصنف في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 647/ رقم 2476"-وقال: "هذا حديث حسن" من طريق هناد في "الزهد" "رقم 757" وإسناده ضعيف، كما في "الإصابة" "3/ 421"، وهو من طريق ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، وهو في القطعة المطبوعة من "سيرته" "174"، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "3/ 157" لأبي يعلى، وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 314": "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات".
قلت: إلا أن الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، منها: حديث واثلة بن الأسقع، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 23"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق 560"، وفي إسناده سليمان ابن حيان مترجم في الجرح والتعديل" "4/ 106"، و"التاريخ الكبير" "4/ 8"، و"تاريخ دمشق" "7/ ق 650-651"، ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ووقع في مطبوع "الحلية" تصحيف شنيع أوهم جامع "حديث خيثمة" "ص190" أنه من حديث خيثمة بن سليمان الأطرابلسين وكشفنا عن هذا الوهم في التعليق على "رجحان الكفة" "ص304" للسخاوي".
وحديث طلحة بن عمرو النصري، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 487"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 6684- الإحسان"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "رقم 1434، 1435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 277-278"، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص58"، والحاكم في "المستدرك" 3/ 15"، والبزار في "مسنده" "رقم 3673- زوائده"، والطيراني في "الكبير" "رقم 8160، 8161"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 524"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 374" من طرق كثيرة عن داود بن0 أبي هند به، وإسناده صحيح.(37/131)
وحديث سعد بن مسعود أخرجه هناد في "الزاهد" "رقم 759" وفيه الإفريقي عبد الرحمن بن أنعم وهو ضعيف،وسعد في صحبته اختلاف.
وحديث عروة بن الزبير أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 116"، ومن حديث أبيه الزبير أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 628-629"، وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذين وهو ضعيف.
وآخر من مرسل قتادة أخرجه أحمد في "الزهد" "37"، ومن مرسل سعد بن هشام أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 767".
ومن حديث إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه؛ أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 166"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 200"، وفي سنده الواقدي.
قلت: في الأصل: "يوضع".(37/132)
ص -452-…وأخبر بملك معاوية ووصاه1، وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية2، وبأمراء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المذكور عبارة القاضي عياض في "الشفا" "1/ 656"، ويعتمد المؤلف عليه كثيرا في نقل الأحاديث، وقال السيوطي في "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا" "رقم 733": "البيهقي من طرق عن معاوية".
قلت: أخرج أحمد في "المسند" "4/ 101" وابن أبي الدنيا وابن منده -كما في "البداية والنهاية" "8/ 123"- عن سعيد بن عمرو بن العاص يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة، فبينا هو يوضِّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين، فقال: "يا معاوية! إن وليت أمرًا، فاتق الله واعدل".
وهذا إسناد ضعيف؛ لأنه مرسل.
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" "13/ 370/ رقم 7380" ثنا سويد بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو بن العاص، عن معاوية به.
وهذا موصول، إلا أنه ضعيف؛ لضعف سويد بن سعيد، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 355-356": "رواه أحمد واللفظ له، وهو مرسل، ورواه أبو يعلى، فوصله، فقال فيه: عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباقي بنحوه، ورواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وقال في "الأوسط" ".... فأقبل، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
قلت: رواية أحمد مرسلة، وقد صرح الهيثمي بذلك "5/ 186"، ورواية أبي يعلى فيها سويد، فهي ضعييفة، وأفاد الهيثمي في "المجمع" "5/ 186" أن رواية الطبراني مختصرة عن عبد الملك بن عمير عن معاوية، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف، وقد وثق.
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 148- ط الهندوية و7/ 280- ط دار الفكر"، و" المسند" -كما في "المطالب العالية" "رقم 4085"، ومن طريقه قوام السنة في "الحجة" "2/ 376/ رقم 378"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 446" عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير به.(37/133)
قال البيهقي عقبه: "إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث" ثم =(37/134)
ص -453-…...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: "غير أن لهذا الحديث شواهد" وذكر مرسل سعيد بن عمرو بن العاص، وقال: "ومنها حديث راشد بن سعد عن معاوية مرفوعا: "إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم".
قلت: الحديث الأخير أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4888، 4889"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 248"، والطبراني في "الكبير" "19/ 890"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5760- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 333"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 118" بإسناد صحيح باللفظ المذكور، وهو بعيد في شهادته للفظ المصنف، ولا يستلزم من عدم تتبع عورات الناس الإمارة عليهم، إلا أن يستشهد بلفظ حديث المقدام بن معدي كرب وأبي أمامة مرفوعا: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم".
أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4889"، وأحمد في "المسند" "6/ 4"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 378" بإسناد حسن.
فبمجموع الحديثين يتأيد سياق البيهقي على أن المذكور أخيرا شاهد غير الحديث الذي أورده المصنف وهو صحيح، فتأمل، والله أعلم.
وأخرجه قوَّام السنة في "الحجة" "رقم 379" عن طريق الحسن عن معاوية رفعه: "أما إنك ستلى أمر أمتي من بعدي"، وفيه يحيى بن غلاب، عن أبيه، قال الذهبي في "المغني" "رقم 7030" وتبعه ابن حجر في "اللسان" "6/ 273": "ذكر خبرا موضوعا في فضائل معاوية".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد 1/ 541/ رقم 447، وكتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله 6/ 30/ رقم 2812"، وأحمد في "المسند" 3/ 5، 22، 28، 91" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية".(37/135)
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2235"، وأحمد في "المسند" 5/ 306، 306-307" من طريق أخرى عن أبي سعيد مرفوعا: "بؤس ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية". والحديث مشهور متواتر، كما نص عليه ابن عبد البر في "الاستيعاب" "2/ 481"، وابن حجر في "الإصابة" "2/ 512". وانظر: "تالي التلخيص" 254" للخطيب، وتعليقنا عليه.(37/136)
ص -454-…يؤخرون الصلاة عن وقتها1 ثم وصاهم كيف يصنعون، وأنهم سيلقون بعده أثرة، ثم أمرهم بالصبر2 إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق، والتحذير والتبشير، وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى.
والثاني:
عمل الصحابة رضي الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول أبي بكر: "إنما هما أخواك وأختاك"3.
وقول عمر: "يا ساريةُ! الجبلَ" 4، فأعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكَب في الركوع ونسخ التطبيق 1/ 378-379" عن ابن مسعود ضمن حديث طويل فيه: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها".
وأخرجه أحمد وابنه في "المسند" "1/ 399-400"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2865" عن ابن مسعود، وصرح برفعه، وإسناده قوي على شرط مسلم.
2 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" 7/ 117/ رقم 3792"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم 3/ 1474/ رقم 1845" عن أسيد بن حضير مرفوعا: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
3 قاله رضي الله عنه لابنته عائشة لما أبطل نحلته لها عشرين وسقا. أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484- رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 468- رواية يحيى الليثي وص236- رواية سويد بن سعيد- ط دار الغرب"، وإسناده صحيح، وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر.(37/137)
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286- ترجمة عمر و7/ ق 10-13 ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، وابن =(37/138)
ص -455-…ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس، وقال: "أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا"1
وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان، فقال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: "كنت مع الآية الممحوة، لا تلى [لي] عملا أبدا"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5" بأسانيد بعضها حسن، كما قال الحافظ ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضا".
وألف القطب الحلبي في صحته جزء قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461".
1 أخرج أحمد في "المسند" "1/ 18"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 10" نحوه بسند صحيح"، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "233"، والهيثمي في "المجمع" "1/ 189"، وأفاد السيوطي أن ابن عساكر أخرج نحوه أيضا "ص239"، والمذكور لفظ الإحياء" "3/ 326".(37/139)
2 حكاه أبو سعد الواعظ في كتابه "تفسير الأحلام الكبير" "ص262"، وأفاد صاحبه أن القصة وقعت لقاضي حمص مع عمر، وفي آخرها: "وصرفه عن عمل حمص، فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفين، فقتل"، ثم ظفرت به مسندا، فعزاه الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" إلى أبي يعلى، قال: حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عمر به، ثم ظفرت به من طريق حماد عند ابن أبي الدنيا في "الإشراف" "رقم 255". ورجال إسناده ثقات، إلا أن إسناده ضعيف، حماد سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعده ولم يتميز حديثه، فترك، وفي سماع محارب من عمر نظر، انظر ترجمة "محارب" في "تهذيب الكمال" "27/ 255"، وتابع حمادا ابنُ فضيل، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 241- ط دار الفكر"، ولكن فيه: "عن عطاء، قال: حدثني غير واحد أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب، فقال....." وذكر نحوه، ولم يعزه في "كنز العمال" "11/ 349/ رقم 21709" إلا له.
فائدة: طبع كتاب "تفسير الأحلام الكبير" منسوبا لابن سيرين وهو خطأ، وصوابه أنه لأبي سعد الواعظ، وكنت نفيت صحة نسبته لابن سيرين في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 275 وما بعدها"، وسردت أدلة على ذلك، ووقفت فيما بعد على اسم مؤلفه، وهو ممن يروي عن ابن جميع الصيداوي وطبقته.(37/140)
ص -456-…ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور، والكلام فيه يحتمل بسطا، فلنفرده بالكلام عليه، وهي:(37/141)
ص -457-…المسألة الحادية عشرة:
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتُعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية1، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطِّراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف، وإذا كان كذلك، فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة، فهو فاسد باطل.
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تحكم بهذه الشهادة، فإنها باطل"، فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي، ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة2، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تقعيد ذلك والأدلة عليه في: "الاعتصام" "2/ 153، وما بعدها" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 226، 227، 10/ 473-474 و13/ 73-176 و20/ 45 و11/ 77، 208-210، و20/ 42-47"، و"شرح العقيدة الطحاوية" "ص498، 500" و"مدارج السالكين" "3/ 228"، و"شرح مراقي السعود" "288"، وأضواء البيان" "4/ 159"، و"قطر الولي" "ص252"، و"الجامع لأخلاق الراوي" "1/ 80"، و"الفروق" "4/ 244"، و"فتح الباري" "12/ 388"، و"إرشاد الفحول" "249"، و"قواعد التحديث" "ص149"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 146" للأشقر، و"مشتهى الخارف الجاني" "ص268".(37/142)
2 انظر نص فتوى ابن رشد في "فتاويه" "1/ 611-612"، ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "10/ 217-218"، وانظر في المسألة أيضا: "البحر المحيط" "1/ 62-63" للزركشي، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 262-263"-ط رشيد رضا و1/ 334-335، ط ابن عفان"، وذكر فيه ما حكاه عن ابن رشد.(37/143)
ص -458-…وما روي "أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت"1، فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل.
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة2 بالمال لزيد على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك، لجاز نقض الأحكام3 بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال، فكذا ما نحن فيه.
وقد جاء في "الصحيح": "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقعت له هذه الرؤيا مع صهيب، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "7/ 240- ط دار الفكر"، وكذا أمضى عمر رؤيا في المنام، كما تراه في "مصنف عبد الرزاق" "9/ 242".
2 لعلها: ولا الحكم. "د".
3 أي: وإبطالها بعد صدورها من القاضي اعتبارا بأن الكشف أظهر الخطأ البين الذي ينقض به الحكم غير صحيح، فكذا ترك موجبات الحكم بحسب الظاهر على مقتضى قواعد الشريعة تعويلا على كشف أو غيره لا يكون صحيحا، وقد يقال: إن نقض الأحكام إنما يكون في جزئيات نادرة مقيدة بقيود كثيرة، فهو أبعد من ترك بعض موجبات الحكم إذا حصل تعارض بينها، فالملازمة ممنوعة؛ أي أنه لا يلزم من التنحي عن الأخذ بالشهادة المعتبرة شرعا إلى الأخذ بالكشف لزوم نقض الحكم الذي صدر بالفعل بناء على هذه الشهادة لحصول الكشف؛ وذلك لأن نقض الأحكام يترتب عليه فساد كبير وتعليل للأحكام، كما أشار إليه المؤلف في موضع آخر. "د".(37/144)
ص -459-…ألحنَ بحجته من بعض، فأحكم له على نحو ما أسمع منه"1 الحديث، فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يُطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم2، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه.
وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت3 عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور، والقائل4 بصحة حكم الحاكم بعلمه، فذلك بالنسبة إلى العلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 5/ 288/ رقم 2680، وكتاب الحيل، باب منه 12/ 339/ رقم 6967"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337/ رقم 1713" عن أم سلمة مرفوعا.
2 لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة، والحكم بطريق الباطن غير الحكم بما علمه من طريق الرؤية أو السماع، وهذا هو الذي يعد بعضهم الحكم به من خصائصه عليه السلام، ويرى آخرون أنه طريق مشروع لغيره من القضاة، إما بإطلاق، وإما في مواضع مخصوصة، ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: "فأقضي له على نحو ما أسمع"، فإن التنصيص على السماع* لا ينفي حكمه [على] بعض الوقائع على حسب ما علم فيها بالطرق المعهودة من رؤية أو سماع، والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ؛ لأنه حكم بما أمر الله. "خ".
3 في "ط": "شهد".(37/145)
4 قال ابن العربي في "كتاب الأحكام" "اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يَقتُل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، هل يحكم بعلمه أم لا؟" "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل: "إسماع".(37/146)
ص -460-…المستفاد من العادات، لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره1 رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، قال: "ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي2 جزء في الرد عليه"، هذا ما قاله، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما:
أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين، فهمَّ أن يأكل منها فنادته الشجرة: أن لا تأكل مني فإني ليهودي3.
وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة؛ فليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنوَّ منها زُجِرَ عنها، فامتنع وخرج، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد كان يطلع على ما في الأمر من حق وباطل، ومع ذلك كان يعول في حكمه على القانون الشرعي من اعتبار مقتضى الظواهر. "د".
2 هو محمد بن أحمد رئيس الشافعية في وقته، كان يلقب بالخبير لدينه وورعه وعلمه وزهده، توفي سنة "507هـ"، له ترجمة في "السير" "19/ 393"، وانظر مدح ابن العربي له واستفادته منه في كتابه "قانون التأويل" "ص111-113"، ونقله المزبور في "أحكام القرآن" "3/ 1131"، وعنه القرطبي في "التفسير" "10/ 44-45" "النحل: 75".
3 أي: مملوكة، وليست من أشجار البادية الخالية من الملكية، وأما كونها ليهودي بهذا الوصف، فلا تأثير له في أصل الحكم، ولكنه يفيد زيادة ورع حتى إنه تنحى عنها وهي لكافر. "د".
قلت: القصة في "رسالة القشيري" "ص173-174" -وليس فيها: "فإني ليهودي"- و" الاعتصام" "1/ 271- ط ابن عفان".(37/147)
4 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص167"، وعلق عليها بقوله: "هذه هي الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم.(37/148)
ص -461-…وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها، هل هذا المتناول حلام أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه1.
وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم. وقال: "ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة" ومات بشر بن البراء2 الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك القول، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار.
وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها، فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه الحكم3 بالقصاص، وفي قصة الخضر في خرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص12" والمصنف في "الاعتصام" "1/ 270- ط ابن عفان".
2 هذا لفظ أبي داود في "السنن" "كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ 4/ 174-175/ رقم 4512" عن أبي هريرة، ونقله المصنف من "الشفا" للقاضي عياض "1/ 607"؛ فإنه كثير المتابعة له في ذلك.
وأصل الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في سَم النبي صلى الله عليه وسلم 10/ 244/ رقم 5777، وكتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سُمَّت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر 7/ 497/ رقم 4249" عن أبي هريرة مطولا ومختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين 5/ 230 / رقم 2617"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب السم 4/ 1721/ رقم 2190" عن أنس رضي الله عنه.
3 في الأصل: "الحكم عليه".(37/149)
ص -462-…السفينة وقتل الغلام1، وهو ظاهر في هذا المعنى، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكرامات الأوليات رضي الله عنهم.
والثاني:
أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب، فكذلك ههنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره.
2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "11/ 65-66": "وأما خواص الناس، فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يَزِنُوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صديقه التابع له الآخذ عنه، الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه.(37/150)
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة، لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا، فهو كافر".
وأسهب رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "13/ 68-70" في ذكر الحجج والأدلة على الاستئناس بالمكاشفات التي لا تضاد الشريعة، وبين أنه لا يجوز الاعتماد عليهم بالكلية، وفي هذا يقول علي القاري رحمه الله تعالى في رسالته "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة" "ص16- بتحقيقي: "لا اعتبار لمكاشفات الأولياء ومحاضرات الأصفياء، بحيث يعتمد عليها بالكلية في الأمور الشرعية، أو في الأطوار الحقيقية، فإن الإنسان ما دام في هذه الدار المشوبة بالأكدار لا تصفى له الأسرار، ولا تتجلى له الأنوار، بخلاف الأنبياء الأبرار والرسل الكبار، ولذا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق: 22].
قلت: سيأتي في القسم الأخير من الكتاب إشارة من المصنف في الفرق بين إلهامات الأنبياء وغيرهم، فانظره هناك، تولى الله هداك.(37/151)
ص -463-…ومن فرق بينهما، فقد أبعد.
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا، وعملا بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:
أحدهما:
الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به في القياس ما كان في معناه، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم [من]1 حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به من حيث كان معجزا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ2 في شريعتنا، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه3 بعض العلماء، بناء على ما ثبت عنده من العادات، أما قتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه القصة في معناه، حتى يقاس عليه، فلا نعول إلا على ما كان قد صدر في معناه شيء في شرعنا، فنلحق به بطريق القياس. "د".
قلت: انظر تعليقنا على الهامش الآتي.
3 أي أنه إذا قامت القرائن المؤكدة أن المال لا ينجو من الغصب إلا بهذا العمل، فلا مانع منه، أي: وعليه فلا حاجة إلى دعوى النسخ. "د".
ومن الجدير بالذكر أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما كما قدمنا أن الخضر قال له: "يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه". وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في "الصحاح" من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء، قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج =(37/152)
ص -464-…...................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنى على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل، وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه.
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان قد يكون أفضل من الأول، مثل شخصين دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف، وذلك مباح في الشريعة، والآخرالذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف.
وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة إذا علموا ذلك أن يخرقوها؛ لئلا يأخذها الملك؛ لأن بقاءها مع الخرق فيها خير من انتزاعها منه.
وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه؛ لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال، ولهذا ثبت في "صحيح البخاري" أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان، قال: "إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام، فاقتلهم، وإلا، فلا تقتلهم".(37/153)
وكذلك في "الصحيحين"، أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد وكان مراهقا لما ظنه الدجال، فقال: "إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله"، فلم يقل: إن يكنه، فلا خير لك في قتله، بل قال: "فلن تسلط عليه" وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه؛ لقطع فساده لم يكن ذلك محذورا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم، كان الأخص عديم التأثير.
وأما بناء الجدار، فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بيَّن الخضر أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعا.=(37/154)
ص -465-….................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمقصود من هذا كله أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق، أفاده شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "11/ 420 وما بعدها".
ولله در أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله تعالى، فقد قال فيما نقله عنه تلميذه الإمام القرطبي المفسر في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن" "11/ 40-41" ما نصه: "ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم.
وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم كما كان عند موسى من تلك الفهوم.
وقد جاء فيما ينقلون: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون".
قال الإمام القرطبي: "قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول -أي: قول الزنادقة، هذه الأحكام....- زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسالة السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عن رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75].
وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124].(37/155)
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213].... إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريقة لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها، إلا من جهة الرسل. فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر يُقتَل ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب.
ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة" ا.هـ. ونحوه في "7/ 39".(37/156)
ص -466-…الغلام، فلا يمكن القول به، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند فلان.
والثاني:
على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى؛ إذ الجاري عليها العمل بالقياس ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي1 هو الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك"2، فإذن لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذ هو".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 193، 194، 194-195" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "22/ 219"/ رقم 585"، و"مسند الشاميين" "رقم 782" وأبو نعيم في "الحلية "2/ 30"- وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ ق 10" عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" وإسناده جيد، كما قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 95"، وورد نحو لفظ المصنف من حديث وابصة بن معبد الجهني، أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 228"، والدارمي في "السنن" "2/ 245-246"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1586-1587" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 292" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 703"- وإسناده ضعيف منقطع، فيه الزبير أبو عبد السلام وهو ضعيف، وبينه وبين أيوب بن عبد الله بن مكرز انقطاع، أفاده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94"، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ =(37/157)
ص -467-…من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه"1، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 227"، والطبراني في "الكبير" "22/ رقم 402"، والبزار في "مسنده" "رقم 183- زوائده"، والبيهقي في الدلائل" "6/ 292"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 702" بإسناد فيه أبو عبد الله الأسدي، وسماه بعضهم أبو عبد الرحمن السلمي، وهو مجهول، وقيل فيه أشد من ذلك.(37/158)
قال البزار: أبو عبد الله الأسدي لا نعلم أحدا سماه"، وقال فيه الهيثمي في "المجمع" "1/ 175": "ولم أجد من ترجمه"، وأفاد أن الرواة اختلفوا في كنيته، وهو هو، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94": "والسلمي هذا قال علي بن المديني: مجهول، وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال البزار: لا نعلم أحدا سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات "عند ابن عساكر" محمدا، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ: لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب لما دفعت ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة، وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 6/ 546/ رقم 3518" عن جابر ضمن قصة: "قال: عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لئن رجعنا =(37/159)
ص -468-…لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه [ظاهر]1 واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"2، ولم يستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر: ألا نقتُل يا نبي الله هذا الخبيث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه".
وأخرجه بنحوه البخاري أيضا "كتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم} 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} 8/ 653/ رقم 4905".
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني، عن الفريابي: ثنا سفيان، عن نافع، عن أبي مليكة، عن ابن عباس رفعه، بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي".(37/160)
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه/ رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود/ رقم 2668، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه / رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي".
وذكر "البينة....." من أخطاء سفيان أو الفريابي، فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث باللفظ المذكور: ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة"، ونحوه عند ابن القيم في "الطرق الحكمية" "87-88، 110-111".(37/161)
ص -469-…في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: "من يشهد لي؟"، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين1، فما ظنك بآحاد الآمة؟ فلو ادعى أكفر2 الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدُّوا أنه من الشيطان، وإذا ثبت هذا، فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة3.
وما ذكر من تكليم الشجرة، فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم، كما لو وجد في الفلاة صيدا، فقال له: إني مملوك، وما أشبه ذلك، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله، أو ظن طعام بموضع آخر، أو غير ذلك، وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحا له، فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به 3/ 308/ رقم 3607"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع 7/ 301-302"، وأحمد في "المسند" "5/ 215-216"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 115، 116/ رقم 2084، 2085"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 87"، والطبراني في "الكبير" "4/ 101/ رقم 3730"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17-18"، وإسناده صحيح.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "خص الله خزيمة بهذه المزية دون سائر الصحابة؛ مكافأة له؛ حيث بادر إلى الشهادة للنبي عليه الصلاة والسلام على مبايعة الأعرابي مستندا في تصديقه إلى البراهين القائمة على عصمته من أن يقول على الله أو يدعي على مخلوق ما ليس بحق".(37/162)
2 كذا في الأصل وفي "د"، وفي النسخ المطبوعة: "أكبر" بالباء. قال "د": "لعلها أكذب".
3 أي: لما يأتي بعدُ. "د".(37/163)
ص -470-…ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتفلا من جائز إلى مثله، فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر، واعتمادا على الشرع في معاملته به، فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض، كيف وهي نتائج عن اتِّباعه، فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع، أو يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون البتة.
وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "إن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان"1، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه، ومع ذلك، فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"2، فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين3 شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج، لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها.
والجواب على4 السؤال الثاني: أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور 8/ 449/ رقم 4747" من حديث ابن عباس، ولفظ آخره: "أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
وورد الحديث عن ابن مسعود وسهل بن سعد رضي الله عنهم بألفاظ متعددة.
2 انظر تخريج الحديث السابق.
3 في الأصل: "حينئذ"، وفي "ط": "مع".
4 في "ط": "عن".(37/164)
ص -471-…فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق، إذا1 لم يثبت ذلك شرعا معمولا به، وأيضا، فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق، كالرؤيا غير الموافقة، كمن يقال له: "لا تفعل كذا"، وهو مأمور شرعا بفعله، أو "افعل كذا"، وهو منهي عنه، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.
فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها.
قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها مع الموافقة، فليس بمنفي.
فصل:
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط، فأين يسوغ العمل على وفقها؟
فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم، وذلك على أوجه:
أحدها:
أن يكون في أمر مباح، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل، وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر، فهذا من الجائز له، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.
والثاني:
أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إذ".(37/165)
ص -472-…على نفسه ما لعله يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره، والكرامة كما أنها خصوصية، كذلك هي فتنة واختبار، لينظر كيف تعملون، وقد تقدم ذكره، فإذا عرضت حاجة، أو كان لذلك سبب يقتضيه، فلا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات1 للحاجة إلى ذلك، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه "يراهم من وراء ظهره" لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث2، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم شيئا من الغيب، إلا بما أظهره الله عليه، وهذا في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27].
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة 1/ 514/ رقم 418، وكتاب الأذان، باب الخشوع في الصلاة 2/ 225/ رقم 741"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها 1/ 319/ رقم 423"، وأحمد في "المسند" "2/ 303، 375"، وأبو عوانة في "صحيحه" "2/ 152"، جميعهم من طريق مالك في "الموطأ" "1/ 167" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: "إني لأراكم من وراء ظهري".(37/166)
وقد اختُلِف في معنى هذه الرؤية، فقيل: الوحي أو الإلهام، وقيل: تنطبع صور من خلفه في حائط قبلته، وقيل: يرى من عن يمينه ومن عن يساره، وقيل: يراهم من عينين كانا بين كتفيه، أو من وراء ظهره يبصر بهما، لا يحجبهما شيء، وهذا كله تكلف ظاهر، والصواب ما قاله الإمام أحمد فيما نقل عنه ابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 346"، قال: "أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن، قال: أخبرنا عبد الحميد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال: أخبرنا الخضر بن داود، قال: أخبرنا أبو بكر الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل رحمه الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أراكم من وراء ظهري"؟ فقال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله. فأنكر =(37/167)
ص -473-…كراماته ومعجزاته، فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى1 منه في الوجه الأول، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم، ولا يخلو إخباره من فوائد، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا.
والثالث:
أن يكون فيه تحذير أو تبشير؛ ليستعد لكل عدته، فهذا أيضا جائز، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا، فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا، كما روي عن أبي جعفر بن تركان، قال: كنت أجالس الفقراء، ففتح علي بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه، فهاج بي وجع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ذلك إنكارا شديدا".
قلت: ومن الجدير بالذكر أن هذه الرؤية محصورة وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولم يتم دليل على عمومها، وانظر حولها: "الشفا" "1/ 92"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "4/ 149"، و"فتح الباري" "1/ 514"، و"الخصائص الكبرى" "1/ 61" للسيوطي، و"غاية السول" "ص271-272"، و"الرسالة الناصرية" "ص34" للزاهدي.
قال الشيخ "خ": "هذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من حمل الرؤية في حديث: "إني لأراكم من وراء ظهري" على ظاهرها، أعني: الرؤية البصرية، وذهب فريق آخر إلى أنها رؤية القلب، وهي على كلا الوجهين آية صدق وعلم من أعلام النبوة، ولا يطعن في هذا الحديث سؤاله عليه الصلاة والسلام كما ورد في بعض الأحاديث عن أناس صدرت منهم أفعال أو أقوال في حال ائتمامهم به في الصلاة، فإنه كان عليه السلام يترقى في فضائله الخاصة ولا سيما ما كان من نوع المعجزة، فكانت تخلع فيه فضيلة بعد أخرى فيصح أن تكون هذه المزية ما أكرمه الله بها بعد وقائع السؤال".(37/168)
1 لأن الأول لم ينظر منه إلى الفائدة التي يرجو نجاحها، بل مجرد أمر جائز، أما هنا، فإنه وإن كان جائزا أو في حكمه خشية العوارض، إلا أنه مقيد بأن يكون لفائدة يرجو نجاحها. "د".(37/169)
ص -474-…الضرس فقلعت سنا، فوجعت الأخرى حتى قلعتها، فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة1.
وعن الروذباري2 قال: فيَّ استقصاء في أمر الطهارة، فضاق صدري ليلة؛ لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي، فقلت: يا رب! عفوك، فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك.
وعلى الجملة، فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في3 العمل بمقتضى الخَوارق، وهو المطلوب، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة؛ لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره القشيري في "رسالته" "ص168" وعلق عليه بقوله: "وهذا في باب الكرامة أتم من أن يضع عليه دنانير كثيرة ينقض العادة".
2 هو أحمد بن عطاء، والمنقول عنه عند القشيري في "رسالته" "ص163"، وفيها عنه: "كان لي استقضاء في أمر الطهارة.....".
3 في الأصل: "وفي"، وفي "ط": "كان بي......".(37/170)
ص -475-…المسألة الثانية عشرة:
إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل كل ما في الظاهر، والدليل على ذلك أشياء.
- منها: ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة.
- والثاني: أن الشريعة حكامة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر، أو ما أشبه ذلك، لكان غيرها حاكما عليها، وصارت هي محكوما عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
- والثالث: أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك، بل أعمالا من أعمال الشيطان، كما حكى عياض1 عن الفقيه أبي ميسرة المالكي2 أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر، وقال له: "تملأ من وجهي يا أبا ميسرة، فأنا ربك الأعلى"، فبصق فيه وقال له: اذهب يا لعين عليك لعنة الله.
وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة3: "يا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "3/ 359- ط بيروت".
2 اسمه أحمد بن بزار، يكنى بأبي جعفر، من الفقهاء العباد المتبتلين، وكان مجانبا لأهل الأهواء، توفي سنة 337هـ"، أفاد القاضي عياض.
3 في "ط": "السحابة".(37/171)
ص -476-…فلان! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات". فقال له: اذهب يا لعين. فاضمحلت السحابة. وقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: "قد أحللت لك المحرمات"1.
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية.
وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خوليد زوجه رضي الله عنها، فإنها قالت له: "أي ابن عم! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فلما جاء أخبرها، فقالت: قم يا ابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم. ثم حولته إلى فخذها اليمنى، ثم إلى حجرها، وفي كل ذلك تقول: هل تراه؟ فيقول: نعم. قال الراوي: فتحسرت، وألقت خمارها، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. وفي رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك فقالت: يا ابن عم! اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك، ما هذا بشيطان2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها ابن العماد في "شذرات الذهب" "4/ 200"، وانظر: "مشتهى الخارف الجاني" "ص65".
2 أخرجه ابن إسحاق- كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 192" - حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حُدِّثَ عن خديجة به، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 151- 152"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 172، 174".
وإسناده منقطع، وفي متنه نكرة، إلا أن يقال ما أورده البيهقي عقبه: "قلت: وهذا شيء كانت خديجة رضي الله عنها تصنعه، تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقها، فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى".(37/172)
قال ابن إسحاق عقبه: "فحدثت عبد الله بن الحسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: "أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.
قلت: وعبد الله بن الحسن هو ابن حسن بن على بن أبي طالب، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو حاتم: وفاطمة بنت الحسين هي أمه، كما قال الذهبي في "تراجم رجال روى محمد بن إسحاق عنهم" "ص36"، فهذه الرواية إسنادها صحيح.(37/173)
ص -477-…ولا يقال: إن ثم مدارك أخر يختص بها الوالي، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي لأنا نقول: إن كان كما قلت على فرض تسليمه، فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق؛ إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة، فلا بد إذا من حَكَمٍ يحكم بصحتها، وشاهد يشهد لها، وإذ ذاك يلزم التسلسل، وهو محال، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان، "[فإن الوجدان]1 من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحة ولا فساد2؛ لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر، ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله، ومذموما إذا كان لغير الله، ولا يفرق بينهما3 إلا النظر الشرعي؛ إذ لا يصح أن يقال: هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي؛ لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا؟ فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم؛ لأن البحث جارٍ فيه أيضا.
وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها؛ إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "صحته ولا فساده".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بينها".(37/174)
ص -478-…فإذا وردت على صاحبها، فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له، كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا، ولا يتعلق بها حكم شرعي، كذلك في مسألتنا، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير، كما إذا أتلف المجنون مالا، أو قتل نفسا، أو شرب خمرا في حال جنونه، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون1، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات، فلا يفون، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم2 إلى ما أشبه ذلك، فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة؟
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة، وما اعترض به لا اعتراض به، فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها، فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات3. وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما كان لأهل العلم أن يأخذوا مثل هذه الدعوى مسلمة، ويثقوا بأن تكون الغفلة عن بعض الواجبات الشرعية ناشئة عن حال هي أثر من آثار الارتقاء في مقام التقوى والولاية، ويكفي للتوقف في صحتها أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الذين هم أصفى الناس بصائر، وأشدهم صلة بالله، وأرفعهم لديه منزلة، أنه استغرق في حال من المكاشفات يقظة حتى مضى عليه وقت من أوقات الصلاة. "خ".
2 وهو محرم بحسب الشريعة، لكنهم مقهورون عليه ليس لهم فيه اختيار. "د".(37/175)
3 ليس هذا على إطلاقه، نعم، عدم تعرض المصنف للذي ليس له تعلق بقدرة المكلف حسن، فقد نقل المقري شيخ المصنف في كتابه "القواعد" "2/ 465-466" في "القاعدة الثالثة =(37/176)
ص -479-…......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعشرين بعد المئتين" عن المازري قوله: "تقدير خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء، أي: من عاداتهم لما فيه من تضييع الزمان بما لا يعني أو غيره"، ثم قال: أما الكلام على المحقق من ذلك، فقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي كسنة، أتجزئ فيه صلاة يوم؟ فقال: "لا، اقدروا له قدره" [والحديث في "صحيح مسلم" "4/ 2252].
قلت: على حسب الشتاء والصيف معتبرا أوله بالزمان الذي ابتدأ فيه. وقد نزل الشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعتذر عن الغزالي بأنه تكلم على ما يقتضيه الشرع غير ملتفت إلى الحساب، أو على ما يقتضيه الفقه لو تأتى، ورده المازري بالقاعدة" انتهى.
ونص كلام الشافعي في "الأم" "1/ 239- 240": وإن كسفت الشمس يوم الجمعة ووافق ذلك يوم الفطر بدأ بصلاة العيد، ثم صلى الكسوف إن لم تنجل الشمس قبل أن يدخل في الصلاة".
وكسوف الشمس لا يمكن أن يقع إلا في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، والعيد إنما يكون في اليوم الأول من الشهر في عيد الفطر، أو في عاشره في عيد الأضحى، فمن هنا استحال اجتماع عيد وكسوف.
انظر: "حاشية الدسوقي على شرح الكبير" "1/ 404"، و"التاج والإكليل" "2/ 204".
بقي بعد هذا أن يقال:
هل للمؤمن أن يعمل على حصول الكرامات الخارقة؟
الخارقة فعل اضطراري من الله تعالى، ولكن بيد النبي أو الولي أسباب بعض هذه المسببات، كرميه صلى الله عليه وسلم التراب في وجوه الكفار، فأوصله الله إلى أعينهم، وعندما عطش الجيش طلب النبي صلى الله عليه وسلم بقية ماء في قدح، فوضع يده فيه، فنبع الماء من بين أصابعه حتى ملأ الجيش كل ما عندهم من الآنية، فهذا الرمي منه صلى الله عليه وسلم، ووضع يده فيه، ودعاء الله هو سبب حصول المعجزة.(37/177)
فهل للمؤمن أن يقتدي بذلك؛ أن يحاول بالرياضة التوصل إلى التمكن من ذلك، وأن يفعل الأسباب الموصلة إلى الخوارق؟
ذهب الجويني في "الإرشاد" "ص316"، وعليش في "هداية المريد"، والسنوسي في "شرح هداية المريد" "ص177" إلى أن كرامة الولي لا تقع بقصد منه، بل تقع دون قصد.
وجوز المصنف وقوعها بالقصد، وتابع القشيري في "رسالته" "ص662- تحقيق عبد الحليم =(37/178)
ص -480-…المكلف بها أمرا أو نهيا، ومسبباتها خلق لله، فالخوارق من جملتها.
وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات، فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب، لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، والاعتدال والانحراف، فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة1، فكما أن يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها، كذلك ما نحن فيه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16].
وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52].
"إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمود" على ذلك، وبنى عليه في الوجه الثالث عشر من "المسألة العاشرة" المتقدمة قريبا جواز تحدي الولي بالخارق لإثبات ولايته، وانظر: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 258" للأشقر، ونقل ابن تيمية في "قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات" "ص25" عن أبي علي الجوزجاني قوله: "كن طالبا للاستقامة، وربك يطلب منك الاستقامة" وعلق عليه بكلام جيد، ثم قسم طالبي الكرامات "ص37" إلى أقسام، وقرر أن بعضهم أعذر من بعض في ذلك، فراجع كلامه إن أردت الاستزادة.
1 ليس هذا على إطلاقه كما سبق بيانه في التعليق على "440-441".(37/179)
2 قطعة من حديث إلهي طويل أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495"- وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "تاريخه" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213، 214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(37/180)
ص -481-…وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات، فالموضع مقطوع به في الجملة.
وإذا ثبت هذا، فما ظهر في الخارقة من استقامة او اعوجاج، فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك، فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها، فلا تسلم لصاحبها، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف، فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله، لكان منسوبا إليه، ولتوجه التكليف إليه، كالشكر1 ونحوه، فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها، لا يخرج عن حكمه شيء منها والله أعلم.
فصل:
ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك2، فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا، فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله السكر بالسين يدخله على نفسه بشرب المسكر مثلا فيكون معاملا بنتائجه. "د".
2 في الأصل: "هنالك".(37/181)
ص -482-…وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة1 من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا، كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف، وهو يقول: أنا ربك، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: أنا ربك، أو يرى ويسمع من يقول له: قد أحللت لك المحرمات، وما أشبه ذلك من الأمور لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على هذا ما سواه، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وارداة".(37/182)
ص -483-…المسألة الثالثة عشرة
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين1، وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما بنبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف.
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك، ولتعتبر2 بشريعتنا، فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد3، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه، ولو اختلفت العوائد في الموجودات، لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب، فلا تكون الشريعة على ما هي عليه، وذلك باطل.
والثاني:
أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة4 إلى قيام الساعة، كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكانت تابعة لفطر وغرائز فيهم، أم كانت تابعة للموجودات الأخرى التي لهم بها علاقة وارتباطا ما في هذه الحياة، كما يؤخذ من تقريره بعد. "د".
2 في "د" ولنعتبر".
3 فمثلا كل مكلف مطلوب بالصلوات الخمس جزما، والصبح ركعتان للجميع، والظهر أربع كذلك، وشرائطها وأركانها واحدة، ومبطلاتها واحدة، وآدابها واحدة، لا اختلاف في ذلك بين عصر متقدم ولا زمان متأخر؛ لأن العوائد التي بنى عليها الشارع تكليفه مستقرة، فلا تكون في قرن من القرون حرجة وفي قرن ميسورة، وقس على ذلك بقية التكاليف. "د".
4 في نسخة "ماء/ ص 208": "مختلة".(37/183)
ص -484-…فيهما من المنافع1 والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره2 بحال، فإن الخلاف بينهما "محال"3.
والثالث:
أنه لولا أن اطراد العادات معلوم، لما عرف الذين من أصله، فضلا عن تعرف فروعه؛ لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة4 المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة، علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق، فلو كانت العادة غير معلومة، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا5 لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم حاصل، فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمنافع الشمس والقمر وسائر الكواكب، والماء والنار، والأرض وما عليها، والبحار وما فيها، والتصاريف أي الأسباب والمسببات في هذه الأمور وفي أفعال الإنسان والحيوان، وما ينشأ عن ذلك، والأحوال، أي من الحياة والموت والصحة والمرض والملاذ والشهوات، إلى غير ذلك من السنن الكونية التي ربط بها الخالق هذه الكائنات. "د".
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص 209": "بخلاف غيره".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في "ط": "بوساطة".
5 لأن لا سبب للعلم بالمصدق إلا العلم باستقرار العادة، وأن خرقها لا يكون بدون الدعوة والتحدي، فقوله: لأن وقوع..... إلخ" تكميل لتوجيه الملازمة. "د".
قلت: في الأصل: "حصل العمل العلم" ولا محل لهذه الزيادة.(37/184)
ص -485-…فإن قيل: هذا معارض بما يدل على أن اطِّراد العوائد غير معلوم، بل إن كان فمظنون، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
أن استمرار أمر في العالم مساوٍ لابتداء وجوده؛ لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر، والإمداد ممكن أن لا يوجد، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن1 الأول كان ممكنا فلما وجد حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم، فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن، وعدمه كذلك، فإذا كان كذلك، فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده، هل هذا إلا عين المحال؟
والثاني:
أن خوارق العادات في الوجود غير قليل، بل ذلك كثير، ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات، والوقوع زائد على مجرد الإمكان، فهو أقوى في الدلالة، فإذن لا يصح أن أن يكون مجاري العادات معلومة البتة.
فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا، وإنما اندفع بالسمع القطعي، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة، لم يفد حكم الجواز العقلي.
ولا يقال: إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال.
لأنا نقول: إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد، وليس كذلك هنا، بل الجواز العقلي هنا باقٍ على حكمه في أصل الإمكان، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع، وكم من جائز غير واقع؟!
وكذلك نقول: "العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الزمان".(37/185)
ص -486-…ويمكن أن يوجد، فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد، فواجب وجوده، ومحال استمرار عدمه، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم، ولذلك1 قالوا: من الجائز تنعيم من مات على الكفر، وتعذيب من مات على الإسلام، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون، وأن المسلمين هم المنعمون، فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب2 على مرمى واحد، كذلك ههنا، فالجواز من حيث نفس الجائز، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج، فلا يتعارضان.
وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم3 به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا4 في العمل على مقتضى العادات البتة، ولولا استقرار العلم بالعادات، لما ظهرت الخوارق كما تقدم، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط، دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إن اقترنت بالتحدي، أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال، غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك".
2 في "ط": "أو الوجوب".
3 في "ط": "محكوم".
4 وإلا لما عمرت الدنيا؛ لأن عمارتها بأخذ الناس في أسباب ذلك مبنية على أن العوائد في ترتب المسببات مستمرة، وإن كانوا يشاهدون أحيانا شيئا من انخرام العادة. "د".(37/186)
ص -487-…وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، والعمل بخبر الواحد قطعي، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [به] ظنيا، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا، وكذلك سائر المسائل، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية، وهذا كله ظاهر.(37/187)
ص -488-…المسألة الرابعة عشرة:
العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما:
العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني:
هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
فأما الأول، فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة التأهب1 للمناجاة، وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها2، فلا يصح أن ينقلب الحسن [فيها]3 قبيحا ولا القبيح حسنا، حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن، فلنجزه4، أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح، فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وطهارات المتأهب".
2 لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكما شرعيا، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع عليها، بخلاف الضرب الثاني، فإنه ليس فيه من الشرع دليل على حسنه أو قبحه، لكنه ينبني على عرف الناس فيه حكم شرعي يختلف باختلاف عرفهم. "د". قلت: انظر في هذا "الأشباه والنظائر" "ص93" للسيوطي، و"مفهوم تجديد الدين" "ص263" لبسطامي محمد سعيد.
3 سقط من "ط".
4 في الأصل و"خ" في هذا الموضع والذي يليه: "فليجزه"، وفي "ماء/ ص209": "فليجز".(37/188)
ص -489-…نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل1.
وأما الثاني، فقد تكون تلك العوائد ثابتة، وقد تتبدل، ومع ذلك، فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب، والوقاع والنظر، والكلام، والبطش والمشي، وأشباه ذلك، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما.
والمتبدلة.
- منها: ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة2، وعند أهل المغرب غير قادح.
- ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد، فتنصرف العبارة عن معنى إلى3عبارة أخرى، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم، أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 43 وما بعدها"، و"إعلام الموقعين" "1/ 324"، و"العرف والعادة في رأي الفقهاء" "ص83".
2 وذلك بشروط بيناها وتكلمنا عليها في كتابنا "المروءة وخوارمها" "ص143-148- ط الأولى"، وانظر استحباب غطاء الرأس: "تمام المنة" "164-165"، و"الأجوبة النافعة" "110"، والدين الخالص" "3/ 214"، و"الأدلة الشرعية" "34 وما بعدها"، وكتابي: "القول المبين" "58-60".
3 لعل الأصل: "إلى معنى عبارة". "د".(37/189)
ص -499-…بالنسبة إلى الأمة والواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر، أو كان مشتركا فاختص، وما أشبه ذلك، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق، كناية وتصريحا1.
- ومنها: ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها، كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحكم أيضا جارٍ على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 44 و4 / 203"، و"الأشباه والنظائر" "ص83-84"، و"المدخل للفقه الإسلامي" "2/ 889" لمصطفى الزرقاء.
2 قال القرطبي في حديث: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف": "في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافا للشافعية، ورد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما* العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد إليه، والعرف عند من يقول به كالمالكية إنما يؤخذ به تخصيص العام أو تقييد المطلق، وأما أن يؤثر في إبطال واجب أو إباحة حرام يذهب إليه أحد من علماء المسلمين، قال ابن الغرسي عند قول تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعنى: اقض بكل ما عرفته مما لا يرده الشرع" "خ".
قلت: النوع الأخير الذي ذكره المصنف هو المعنى في قول الفقهاء "العادة محكمة"، وليس هو بحد ذاته حكما شرعيا، ولكنه متعلق ومناط الحكم الشرعي، فهو من جهة كونه حكما لا يتغير، ولكن الشرع أناطه بالعرف، وجعل الحكم يدور معه، وهذا ما سيذكره المصنف في الفصل الآتي.(37/190)
وانظر- غير مأمور: "الفروق" "1/ 45 و4/ 203"، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" "281-292"، و"تغير الفتوى" "ص50-53".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل سقطا وقع فيه، تقديره: "إنما نفوا العمل.......".(37/191)
ص -500-…خصوص مسألته قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطلاق: 3].
ووكالة الله أعظم من وكالة غيره، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} الآية [هود: 55]، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء، لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم} [النحل: 91].
وأيضا: فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا، فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه1، فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك2 أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا. قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة...... إلى آخر الحكاية.
وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم؛ إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه، فليس بجارٍ على غير الأصل الشرعي، ولذلك لما حكي ابن العربي3 الحكاية قال: "فهذا رجل عاهد الله، فوجد الوفاء على التمام والكمال، فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا".
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد، فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء، فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها، فمن كان هذا حاله، فالأسباب عنده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس 2/ 721/ رقم 1042"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 2/ 121/ رقم 1624"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلوات الخمس 1/ 229"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب البيعة رقم 2867"، وأحمد في "المسند" "6/ 27" عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
2 في "ط": "عاهدتك".
3 في "أحكام القرآن" "3/ 1111-1112".(37/192)
ص -501-…كعدمها؛ فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق، [ولا رجاء في مرجوِّ مخلوق]1؛ إذ لا مخوف ولا مرجوَّ إلا الله، فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك، وإن قارب السبع هلك، وأما إذا لم يحصل ذلك، فلا؛ على أنه قد شرط الغزالي2 في دخول البرية بلا زاد اعتياد3 الصبر والاقتيات بالنبات، وكل هذا راجع إلى حكم عادي.
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذين ثبتت ولايتهم، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية؛ بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك.
فصل:
وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي، كالمكاشفة، فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس، وإن كانت مخالفة في الظاهر؛ لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة.
والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسالة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما، وقد مر ما يستدل به على ذلك، ومن الدليل عليه أيضا أوجه:
أحدها:
أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "الإحياء" "4/ 266".
3 في الأصل: "اعتقاد".(37/193)
ص -502-…قاعدة، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت؛ لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة، فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد، فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب، ولا عقاب، ولا إكرام ولا إهانة، ولا حقن دم، [ولا إهداره]1، ولا إنفاذ حكم من حاكم، وما كان هكذا، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح2، وهو الذي انبنت الشريعة عليه.
والثاني:
أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه؛ لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم، فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم، ولا أيضا3 تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم؛ إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين، أعني في نصب أحكام العامة4؛ إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه، أو [كشف] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة، ولا أيضا للوليين إذا ترافعا إلى الحاكم في قضية.
الثالث:
وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم5 البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال، كيف وهو يقولون: إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه، فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان، فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشرع؛ لتطرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 إذ النظر العقلي الصحيح مساند للنظر الشرعي، وهذا ما وضحه بما لا مزيد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في موسوعة "درء تعارض العقل والنقل"، والشيخ مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين".
3 في "ماء/ ص212": "وأيضا لا....".
4 في "ط": "نصب الأحكام".
5 في "ط": "على خلاف ما تقدم".(37/194)
ص -503-…الاحتمالات.
والرابع:
أن أولى الخلق بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك، إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد1 إلى غيره وما سوى ذلك، فقد أنكر على من قال له: "يحل الله لنبيه ما شاء"، ومن قال: "إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر". فغضب وقال: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"2.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه3، ولم يثبت أنه مس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2/ 781/ رقم 1110" عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظه، وأخرج نحوه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104/ رقم 5063"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لم تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1401" عن أنس رضي الله عنه.(37/195)
2 أما الاستشفاء بدعائه، فقد ثبت في حديث المرأة السوداء التي كانت تصرع، وقد مضى "262"، وأما الاستشفاء به، فأحسن ما يستدل به عليه ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب: منه 5/ 569/ رقم 3678" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"- وابن ماجه في السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/ 441/ رقم 1385"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 659"، وأحمد في "المسند" "4/ 138"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 313 عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك". قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في" لفظ الترمذي. وإسناده حسن، وانظر له: "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 681"، و"التوسل" "68".
3 ضبطها ناسخ "ط": "يعد".(37/196)
ص -504-…بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين1، وكان النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط2، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها، وقد مر من هذا أشياء، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثنِ وليا من غيره، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق3، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو الأولياء حقا، والفضلاء صدقا.
وفي قصة الرُّبَيِّع بيان لهذا، حيث قال وليها أو من كان4: والله لا تكسر ثنيتها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كتاب الله القصاص"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث في التعليقة الآتية.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 5/ 312/ رقم 2713، وكتاب الأحكام باب بيعة النساء 13/ 203/ رقم 7214"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء 4/ 1489" / رقم 1866" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتنحة: 12]، قالت: وما مَسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم: "ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط".
3 من وجب عليه حد أو يتعلق بذمته حق وفر إلى ضريح ولي، فإنه يخرج منه كما يخرج من المسجد، والعامل على إخراج هذا الجاني مثاب على عمله، آمن من أن يلحقه ضرر، وإذا نزل به قضاء عقب هذا العمل، فمن الجهل اعتقاد أن ذلك من أثر غيرة الولي على حرمته كما تتوهم العامة، وإنما هو من بيان الصدفة وموافقة القدر، ومتى كانت العقيدة على أن صاحب الضريح ولي، فمن شرط ولايته عدم الترضي بتعطيل الحكم الشرعي واتخاذ حرمه ملجأ للفاسقين. "خ".(37/197)
4 القائل هو أنس بن النضر، كما صرح به البخاري في "صحيحه"، أو أم الربيع كما صرح به مسلم في "صحيحه"، وفيه: "إن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا......."، وما عند المصنف رواية البخاري.
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 8/ 177/ رقم 4500، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان 3/ 1302/ رقم 675" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(37/198)
ص -505-…ولم يكتفِ عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله، فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"1، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي2 وهو العفو، والعفو منتهض في ظاهر الحكم سببا لإسقاط القصاص.
والخامس:
أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية، فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر3، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات، ونقض لمصالحها الموضوعات، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار، فقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"4، فمثله يلغي في جريان أحكام الخوارق على أصحابها، حتى5 لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى6 رضي الله عنه، فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث السابق، أوله: "كتاب الله القصاص.....".
2 هكذا الأصل، وهو غير ظاهر، والصواب أثره وهو..... إلخ، ويدل عليه سياق الكلام المتقدم. ا.هـ. مصححة. "خ".
3 لعلها "كضرورة الشعر". "د".
4 مضى تخريجه "ص467".
5 في الأصل ونسخة "ماء/ ص213": "إذ يعتقد".
6 صوابه "أبو يزيد" يعني: النخشبي المتقدمة قصته في حديثه مع خادمه. "د".(37/199)
ص -506-…أمورًا1 يطلب بالتحرز منها شرعا، فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم، وهذا [كله] تعريض لهم إلى سوء المقالة.
وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا بُرءاء من هذه الخوارق المنخرقة، غير أن الكلام جرى2 إلى الخوص في هذا المعنى، فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي، المحافظون على اتباعها، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل، حتى يتقرر بحول الله ما يُفهم به عنهم مقاصدهم، وما تُوزَن به أحوالهم، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى، نفعهم الله ونفع بهم.
ثم نرجع إلى تمام المسألة3، فنقول:
وليس الاطِّلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية، والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما جرى عليه السلف الصالح، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة: 67]، ولا غاية وراء هذا، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر4، ويتوقى ما العادة أن يُتوقَّى، ولم يكن ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منها الاعتقاد المذكور بعدُ. "د".
2 في "ط": "جر".
3 مرتبط بأول الفصل. "د".
4 كما ثبت في أحاديث كثيرة، تجدها في "صحيح البخاري" "كتاب الجهاد، باب ومن يترس بترسي صاحبه 6/ 93، وباب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب 6/ 99".(37/200)
ص -507-…نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها، بل هي أعلى.
وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله، فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها.
وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكُّل، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب، ومع ذلك، فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي نُدِبوا إليها، ولم يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها؛ لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "قَيِّدْهَا وتَوَكَّلْ"1.
وقد كان المُكمَّلون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدُّبًا بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ونظرًا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره، وأما قصة الخضر عليه السلام وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، فيظهر به أنه نبي2، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال، وإن سلم؛ فهي قضية عين ولأمر ما3، وليست جارية على شرعنا، والدليل على ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 304"، وهو حديث حسن.
2 قال: ابن حجر في كتابه "الزهر النضر في نبأ الخضر" "2/ 234- مع الرسائل المنيرية"، و"الذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" وقال أيضا: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة، اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي". وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص463 وما بعدها" عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(37/201)
3 سيشير إليه بقوله: "وعلى مقتضى عتاب موسى.... إلخ".(37/202)
ص -508-…أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم، وإن علم أنه طبع كافرًا، وأنه لا يؤمن أبدًا، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وإن أُذِنَ له من عالم الغيب في ذلك؛ لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أُخر لا يعلمها هو1.
فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه، بل هو على ضربين:
أحدهما:
ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها، فهذا لا يصح العمل عليه البتة.
والثاني:
ما لم يخالف [العمل]2 به شيئا من الظواهر، أو إن ظهر منه خلاف، فيرجع بالنظر الصحيح إليها، فهذا يسوغ العمل عليه، وقد تقدم بيانه، فإذا تقرر هذا الطريق، فهو الصواب، وعليه يربى المربي، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ، وأولى برسوخ القدم، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدي به فيه، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما في تقرير هذا وتأكيده: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 420 وما بعدها"، و"مدرج السالكين" "2/ 475 و3/ 416، 431-433"، و"فتح الباري" "1/ 221"، و"عجالة المنتظر في شرح حال الخضر" لابن الجوزي، وكتابنا "من قصص الماضين" "ص33 وما بعدها"، و"فوائد حديثية" لابن القيم "ص81" مع تعليقي عليه.
قلت: والعبارة في الأصل: "ثم علماء أخر".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".(37/203)
ص -509-…المسألة السادسة عشرة:
العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود:
أحدهما:
العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى المُلائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المؤلمات والخبائث، وما أشبه ذلك.
والثاني:
العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال، كهيئات اللباس والمسكن، واللين في الشدة والشدة فيه، والبطء والسرعة في الأمور، والأناة والاستعجال، وما كان نحو ذلك.
فأما الأول: فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية، للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا، كانت العادة وجودية أو شرعية.
وأما الثاني، فلا يصح أن يقضى به على من تقدم البتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذا ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(37/204)
1 يحتاج إلى توفيق بينه وما سبق في أول المسالة الرابعة عشرة من أن العوائد الشرعية التي أمر بها الشارع أو نهى عنها أو أذن فيها لا تتبدل، بل هي دائمة ثابتة، وأن التي تتبدل إنما هي العوائد غير الشرعية، فإنها قابلة للتبدل في بعض أنواعها، إلا أن يقال: إنها ليست الشرعية بالمعنى المتقدم بل مثل اختلاف الهيئات والملابس، واختلاف التعبير والاصطلاحات بين الناس، فقد تكون في عهد الشرع على حال ثم تتبدل، فتعد شرعية بهذا المعنى بحصول الإذن بها على وجه عام، ثم تتغير العادة ويختلف حكم الشارع عليها لرجوعها إلى أصل شرعي آخر، فلا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية؛ فإنها غير مستقرة في ذاتها، على أنها لو كانت من قسم الشرعيات المطلوبة؛ فإنها حيث كانت متبدلة غير مستقرة لا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية الذي هو موضوع المسألة. "د".(37/205)
ص -510-…وإنما قلنا ذلك؛ لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضًا؛ فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة، وأما الضرب الثاني؛ فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية1، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم، فإذا كان كذلك؛ لم يصح أن يحكم بالثانية على من2 مضى لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى.
وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون؛ لتكون حجة في الآخرين، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها، ورد القضاء بالعلمية3 إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق، ولا فاسد بإطلاق؛ بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه: هل يلحق بالأول فيكون حجة، أم لا فلا يكون حجة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالعادة الكلية أنه لا بد للإنسان من الطعام والمسكن والملبس، وتحت كل أنواع وهيئات كثيرة، صالحة لوقوع ذلك الكلي في ضمنها. "د".
2 في الأصل: "ما".
3 كذا في الأصل و"خ" و"ط" و"م"، وفي "د": "بالعامة.(37/206)
ص -511-…المسألة السابعة عشرة1:
المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريانُ الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يَكِرُّ2 بالإخلال عليها.
والدليل علي ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها؛ كما في الكفر وقتلِ النفس وما يرجع إليه، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد3، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي؛ فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه؛ فإن كان كذلك؛ فهو راجع إلى أمر ضروري، والاستقراء يبين ذلك؛ فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه.
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان:
أحدهما:
ما به صلاح العالم أو فساده، كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.
والثاني:
ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب، وكذلك الأول على مراتب أيضًا، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما4، ثم النفس، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20-48-61".
2 أي: يرجع.
3 في نسخة "ماء/ ص215": "حدًّا ووعيدًا".
4 فالجهاد لحراسة الدين، ولتكون كلمة الله هي العليا تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأولاد. "د".(37/207)
ص -512-…والمال؛ فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به1 وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بُضعِها؛ جاز لها ذلك؛ وهكذا سائرها.
ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدنا المفسدة في العمل [به]2 على مراتب؛ فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة، وهو ممكن الرؤية من غير مشقة، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور، فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا؛ كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا؛ فالطاعة3 لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد؛ بل لكل منها مرتبة تليق بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا القول حكاه بعضهم على إطلاقه وأخذ به سحنون، ولكنه شرط أن يكون المكره به هو المرأة نفسها، وأن لا يكون لها زوج، ومن حجة هذا المذهب أن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} جعل الإكراه على القول عذرا ينبغي أن يلحق به الفعل، ويحكم له بحكمه؛ إما على الإطلاق، أو على شرط أن لا يتعلق به حق لمخلوق. "خ".
قلت: انظر تفصيل المسألة في: "تفسير القرطبي" "10/ 186"، و"أحكام القرآن" "3/ 1074"، لابن العربي، و"الطرق الحكمية" "47-49"و"بدائع الصنائع" "9/ 4484". و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" "ص124 وما بعدها".
2 سقطت من "ط".
3 في "د": "فطاعة".(37/208)
ص -513-…المسألة الثامنة عشرة:
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني1.
أما الأول، فيدل عليه أمور:
منها الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها2، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادات، ووجدنا الموجِبَات فيها تتحد مع اختلاف الموجَبَات3، وأن الذكر المخصوص4 في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تقرير هذه القاعدة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 385 وما بعدها".
وإعلام الموقعين" "1/ 299-301"، والاعتصام للمصنف "2/ 132-133"- ونقله عن مالك- والقواعد" لشيخ المصنف المقري "قاعدة" رقم 73، 74، 296"، ونقله عن الشافعي، ونقل عن أبي حنيفة "الأصل التعليل حتى يتعذر"، وقال: "والحق أن ما لا يعقل معناه تلزم صورته وصفته" و"البرهان" "2/ 926" للجويني، و"تخريج الفروع على الأصول" "ص38-40" للزنجاني، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص34".
وقرر المصنف فيما مضى "1/ 334" أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل.
2 هذا في الطهارة الحديثة بخلاف الثوب والبدن والمكان من الأخباث؛ فأنها لا تتعدى، بل تقف عند حد من أصيب بالنجاسة. "د".
3 فالحيض والنفاس يسقطان الصلاة، ولا يسقطان الصوم ولا سائر العبادات المفروضة من أركان الإسلام. "د".
4 هذا كثير؛ فالقنوت -وهو ذكر ودعاء- يطلب في بعض الصلوات دون بعض، والدعاء يطلب في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات وتمنع فيما بعد صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس مثلا، وهكذا من أوقات النهي، وكل هذا لا يعرف إلا بموقف من قبل الوحي، وليس للعقل فيه مجال الخروج عما حد. "د".(37/209)
ص -514-…طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النطافة بغيره، وأن التيمم -وليست فيه نظافة حسية- يقوم1 مقام الطهارة بالماء المطهر، وهكذا سائر العبادات؛ كالصوم والحج2، وغيرهما؛ وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة3 الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع، والتعظيم لجلاله والتوجه إليه، وهذا المقدار4 لا يعطي علة خاصة يُفهم منها حكم خاص؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد، ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذا كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا، وليس كذلك باتفاق، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود، وأن غيره غير مقصود شرعًا.
والثاني:
أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد؛ لنصب الشارع عليه دليلا واضحا، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة5 لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه، ولكان 6 ذلك يتسع في أبواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حيث لا يقوم الماء الطاهر غير المطهر الذي هو منقىً من كل أثر. "د".
2 أي: فهما من الأمور المحدودة التي لا يفهم تحديدها من غير الشرع، ولا يستقل العقل بإدراك حدودها وحكمها. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص216" بدل "العامة كلمة "بالجميع".
4 في نسخة ماء / ص216": "والتوجه إليه، لا غير ذلك؛ لأن هذا المقدار.....".
5 كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" إلى أن قال: "أجتهد رأيي ولا آلو"، فأقره على الاجتهاد برأيه في القضاء فيما لا نص فيه إذا جامع ما نص عليه في المعنى المفهوم منه". "د".
قلت: والحديث ضعيف، وسيأتي عند المصنف "4/ 298" وتخريجه هناك.(37/210)
6 مرتب على قوله: "لنصب"؛ أي: ولو نصب الأدلة لاتسع الأمر في العبادات، وقوله: ولما لم نجد.... إلخ" أي: ولما لم تقم الأدلة على التوسعة فيها، ولا وجدت فيها التوسعة؛ دل على المطلوب. "د".(37/211)
ص -515-…العبادات، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه؛ دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود؛ إلا أن يتبين بنص1 أو إجماع معنى مراد في بعض الصور، فلا لوم على من اتبعه، لكن ذلك قليل، فليس بأصل؛ وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في2 الموضع.
وأيضا؛ فإن المناسب فيها3 معدود عندهم فيما لا نظير له4، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك5.
وإلى هذا؛ فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام فيمن وقصته الدابة: "لا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" فقد نص على حكمته عدم مسه بالطيب، فإذا حمل عليه كل من مات قبل تمام حجه، وأنه لا يمس بطيب لهذا لمعنى المتبين بالنص؛ فلا مانع منه، وهكذا ما كان من قبيله، وهو كمحترز لقوله: "يتسع"؛ أي: بل هو قليل كهذا. "د".
قلت: الحديث في "صحيح البخاري" "كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/ 52/ رقم 1839"، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 في ط": "وغلب على....."
3 المناسب: هو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة، تدركها العقول، ويقر بها، وفيها؛ أي: في العبادات. وفي "ط": ما هو فيها".
4 أي: إن المناسب وهو الوصف الذي اعتبر علة للحكم في العبادات عدوه من أقسام ما لا نظير له، وهو قسم مما عدل به عن سنن القياس، فالمشقة لم يعتد بها في غير الصوم وقصر الصلاة في السفر، ولو كانت المشقة أضعاف ما يحصل في السفر، وأصل القياس مبني على تعدية حكمة العلة لكل فرع وجدت فيه، فكان ذلك خروجا عن سنن القياس، وسمي هذا النوع لا نظير له، يعني: وهذا مما يضعف معنى التعليل في العبادات، ويرجع بها إلى التعبد؛ لأنه حتى عند فرض وجود النظر للمعنى فيها؛ فإنه يكون بحالة قاصرة. "د".
5 ليكن على بالك ما قدمه في "ص42"؛ ففيه تعليل لبعض الطاعات.(37/212)
ص -516-…الخصوص، كقوله: "سها1 فسجد"2 وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"3، ونهيه عن الصلاة طرفي النهار"4، وعلل ذلك بأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الأمثلة من مسالك العلة الصريحة، فالترتيب بالفاء كزنى ماعز فرجم، والشرط في إذا، واللام في قوله: "أنها تطلع...... إلخ"، ولكنها كما يقول: لا يفهم منها الخصوص. "د".
2 ورد سهوه صلى الله عليه وسلم والسجود بسببه في كثير من الأحاديث، منها في "صحيح البخاري" "كتاب السهو 3/ 92 وما بعدها"، و"صحيح مسلم" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 398 وما بعدها".
وظفرت بعبارة فيها: "فسها، فسجد" ضمن حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 2/ 240-241/ رقم 395"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم 1/ 273/ رقم 1039"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26" عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ووَهِم من قال: إن مراد المصنف حديث ذي اليدين؛ إذ ليس فيه هذه اللفظة، قاله الزركشي في "المعتبر" "رقم 117".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور 1/ 234/ رقم 135، وكتاب الحيل، باب في الصلاة 12/ 329/ رقم 6954"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204/ رقم 225" عن أبي هريرة.
وورد نحوه عن غير واحد من الصحابة، وخرجتها في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 54-58".(37/213)
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 61/ رقم 588"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 566/ رقم 825" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس.
وفي الباب عن غير واحد من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، منها عن ابن عمر وسيأتي قريبا.(37/214)
ص -517-…الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان1.
وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها، فتجب فيها النية قياسا على التيمم، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع، بل هو من المسمى شبها2، بحيث لا يتفق على القول به القائلون، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة3؛ فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 2/ 58/ رقم 582، وباب لا يُتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 60/ رقم 585، وكتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء 3/ 68/ رقم 1192، وكتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر 3/ 488 / رقم 1629، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6/ 335/ رقم 3273"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 2/ 567" عن ابن عمر مرفوعا: "ولا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان" لفظ مسلم، ولفظ البخاري في آخر موطن مذكور: "ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان".
2 الراجح أن هذا النوع من القياس ليس بحجة؛ فإنه لخلوه من إدراك المناسبة لا يفيد ظن العلية ظنا يعتد به في تقرير أحكام الله، ثم إن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا به في حال. "خ".(37/215)
3 هي المناسبة، والنص بأنواعه، والإجماع، والسبر والتقسيم ثم الدوران، أما الشبه، فليس من المسالك عند الشافعية، قال السبكي: "وقد كثر التشاجر في تعريف هذه المنزلة، ولم أجد لأحد تعريفا صحيحا فيها"، ثم قال: "إنه يطلق على معانٍ، والمراد به هنا وصف مناسبته للحكم ليست بذاته، بل بسبب مشابهته للوصف المناسب لذاته شبها خاصا؛ أي: يشبهه فيما يظن كونه علة الحكم أو مستلزما لها، سواء أكانت المشابهة في الصورة أم المعنى، وذلك كالطهارة =(37/216)
ص -518-…الوقوف عند ما حد، دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات، فكان أصلا فيها.
والثالث:
أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتدِ إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات؛ فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها1، والمشي على غير طريق، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك، ولما كان الأمر كذلك عذر2 أهل الفترات في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(37/217)
= لاشتراط النية؛ فإنها تناسبه بواسطة كونها عبادة بخلاف الإسكار لحرمة الخمر؛ فإنه مناسب لها بذاته، بحيث يدرك العقل مناسبته لها وإن لم يرد به الشرع، وحينئذ؛ فالشبه -أي هذا النوع من المسالك- يحتاج في إثبات عليته إلى دليل مثبت للعلية، ولذلك قيل في تعريفه: وصف لم تثبت مناسبته للحكم إلا بدليل منفصل، مثاله أن يقال في إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث في تعين الماء لها: طهارة تراد للصلاة، فلا يجزي فيها غير الماء كالوضوء، فكون كل منهما طهارة تراد للصلاة هو الوصف الجامع بينهما لتعين الماء لهما، وهو وصف شبهي لا تظهر مناسبته لتعين الماء في إزالة الخبث، وقالوا: إنه إذا ثبت بأحد مسالك العلة المعتبرة أن وصف كون الطهارة تراد للصلاة يصح علة تعين الماء لإزالة الخبث لزم، وإلا، فلا يوجبه مجرد اعتبار الماء في الحدث"، ومثله أيضا مثال المؤلف، قال ابن الحاجب: "وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك"، وفي شرحه: وقد يقال: الشبه للوصف المجامع لآخر إذا تردد به الفرع بين أصلين، فالأشبه فيهما هو الشبه، كالنفسية والمالية في العبد المقتول تردد بين الحر والفرس مثلا، وهو بالحر أشبه؛ لأن مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر؛ فتتعارض مناسبتان، فترجع إحداهما، ولكنه ليس من الشبه الذي فيه كلام المؤلف بدليل مثاله. "د".
قلت: انظر عن مسالك العلة "3/ 136-137".
1 أي: الفترات، وانظر: "حجة الله البالغة" "2/ 146".
2 هذا مذهب الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، كما في "الحاوي" "2/ 353" للسيوطي، و"تعظيم المنة" "ص167"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 652"، ومذهب المعتزلة والماتريدية أنهم في النار؛ إذ عليهم أن يستدلوا بعقولهم؛ انظر: "جمع الجوامع" "1/ 62"=(37/218)
ص -519-…عدم اهتدائهم؛ فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165].
والحجة ها هنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق، والله أعلم، فإذا ثبت هذا؛ لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع، وهو معنى التعبد؛ ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب، وأجرى على طريقة السلف الصالح، وهو رأي مالك1 رحمه الله؛ إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق، وإن حصلت النظافة بغير ذلك، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات؛ إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله، فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى2 عليه، وركنا يُلجأ إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السبكي، و"المسامرة" "ص274-275/ مع نتائج المذاكرة"، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يدخله الله فيها، وعلى هذا أدلة كثيرة، انظرها في: "الجواب الصحيح" "1/ 312"، والا عتقاد" "ص91-92" للبيهقي -واختار هذا القول- و"طريق الهجرتين" "ص 689 وما بعدها" و"تفسير ابن كثير" "3/ 35"، وفتح الباري" "3/ 45-46"، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" "4/ 74"، و"أضواء البيان" "3/ 483".
1 الفروع المذكورة ليست من انفرادات مالك رحمه الله تعالى، بل قال بأغلبها الشافعي وأحمد أيضا، انظر مثلا: الفرع الأول في "الطهور" لأبي عبيد "ص 201 وما بعدها مع تعليقنا عليه".(37/219)
2 في "ط": ينبني".(37/220)
ص -520-…فصل:
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، فلأمور:
أولها:
الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية1 تدور [معه]2 حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمتنع في المبايعة3، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة4، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وفي الحديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"5.
وقال: "لا ضرر ولا ضرار"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الأحكام المتعلقة بالعادات نظير الأحكام العبادية.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لما فيها من المشاحة والمغالبة، وقصد الاستفادة المالية بخلاف القرض الذي هو لوجه الله خاصة، ففيه تزكية نفس المقرض كالصدقة، وفيه تنفيس كُرَب الناس، ويقع* الحرج إذا منع القرض أيضا. "د".
قلت: ويمكن التمثيل على ما ذكره المصنف سابقا بالتسعير.
4 كما في ثمر العرايا توسعة على الخلق، ولرفع الحرج والضرر على المعري، إذا تردد المعرى داخل بستانه ونخله، فكان منع ذلك مؤديا إلى ألا يعري أحد أحدا نخله. "د".
5 مضى تخريجه "ص231".
6 مضى تخريجه "ص72".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "ويرفع".(37/221)
ص -521-…وقال: "القاتل لا يرث"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج النسائي في "الكبرى" "كتاب الفرائض"-كما في "تحفة الأشراف" "6/ 220"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 220" من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس للقاتل من الميراث شيء".
ثم أخرجه ابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ويحيى بن سعيد، وزاد الدارقطني: "والمثنى بن الصباح عن عمرو به، إسناده ضعيف، إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذا منها، إلا أنه توبع، فقد أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 189-190/ رقم 4564"، والبيهقي من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب به، وذكر حديثا طويلا فيه: "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا" وإسناده فيه ضعف أيضا، سليمان صدوق، فقيه في حديثه بعض اللين، والراوي عنه ابن راشد صدوق يهم.
ولكن للحديث شواهد عديدة، منها حديث أبي هريرة بلفظ المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "2109"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2645، 2735"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 220"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 322" بسند ضعيف فيه إسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة قد تركه بعض أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل"، وقال البيهقي: "إسحاق بن عبيد الله لا يحتج به، إلا أن شواهده تقويه".(37/222)
قلت: نعم هو صحيح بشواهده، منها حديث عمر، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 49"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2646"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 219"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، ومنها حديث ابن عباس أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 404"/ رقم 17787"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "6/ 220".
وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 85"، و"نصب الراية" "4/ 428"، و"الإرواء" "رقم 1670-1672".(37/223)
ص -522-…"ونهى عن بيع الغرر"1.
وقال: "كل مسكر حرام"2.
وفي القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4/ 1153/ رقم 1513" عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، وبيع الحصاة فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها:
أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة.
والثاني:
أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة.
والثالث:
أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا.
وبيع الغرر: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن..... ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع، وعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسيب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة.
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر مرفوعا: "كل مسكر حرام".
وأخرج برقم "2003" عن ابن عمر مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".(37/224)
وأخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5585" ومسلم في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1585/ رقم 2001" عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ فقال: "كل شراب أسكر، فهو حرام".(37/225)
ص -523-…وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91].
إلى غير ذلك مما لا يحصى، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة1، فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
والثاني:
أن الشارع توسع2 في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول3، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف4 مع النصوص، بخلاف باب العبادات5، فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله، حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة6، وقال فيه بالاستحسان7، ونُقِلَ عنه أنه قال: "إنه تسعة أعشار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما ذكره من الأمثلة الثانية من باب مسلك التنبيه والإيماء الذي هو ترتيب الحكم على الوصف، فيفهم لغة أنه علة له؛ ولذا جعلوه من مسلك النص غير الصريح "د".
2 كمقابل لقوله في الوجه الثاني في العبادات: "ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات". "د".
3 هذا هو تعريف أبي زيد للمناسب، وعرفه غيره بأنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، وقالوا: إن تعريف أبي زيد لا يمكن إثباته في المناظرة؛ إذ يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول، وإن كان التعريفان متقاربين في المعنى "د".
4 في نسخة "ماء/ ص217": "بالوقوف".
5 ليكن على بالك ما قرره المصنف "1/ 111" أن تلمس "الحكم" في هذا الباب من ملح العلم لا من متنه عند المحققين، وهذا ما ذكره شيخ المصنف المقري في كتابه "القواعد" "2/ 406".
"6و 7" بيان المقام على وجه يشفي النفس يرجع فيه إلى كتاب "الاعتصام" "2/ 607وما بعدها -ط ابن عفان" للمؤلف في تحديدهما وتمثيلهما. "د". =(37/226)
ص -524-…العلم"، حسبما يأتي إن شاء الله1.
والثالث:
إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة، فاطردت لهم، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل، فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية، كالدية، والقسامة، والاجتماع2 يوم العروبة -وهي الجمعة- للوعظ والتذكير، والقراض، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول، وهي كثيرة، وإنما كان3 عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال "خ": "هي مصلحة يتلقاها العقل بالقبول، ولا يشهد أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإنما يتمسك بها الإمام مالك على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد لها الأصول، وقد اعترض القول بها إمام الحرمين من وجهين: أحدهما أنها تستلزم المفسدة من وجهين، أحدهما تحكيم العوام بحسب آرائهم في ملاءمتهم ومنافرتهم، والثاني اختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والبقاع والأوقات، وأجاب المالكية عن ذلك بأن الحكم في المصلحة منوط بالاجتهاد؛ لأنه دليل حكم لا حكم حتى يعمل بها العامي، وعن الثاني بالتزامه وهو معنى دوام الشريعة ومناسبتها لكل زمان" قلت: مقولة مالك في "العتبية" "4/ 155- مع الشرح"، وانظر: "الذخيرة" "1/ 152-153- ط دار الغرب" للقرافي، و"أساس القياس" "ص 98-99" للغزالي.
1 انظر: "5/ 198".
2 أي: باعتبار ما فيه من المصلحة العامة، حتى يكون مما نحن فيه، لا من جهة كون الصلاة وسماع الخطبة عبادة. "د".(37/227)
3 من تتمة الدليل الثالث. "د".(37/228)
ص -525-…فصل:
فإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص، كطلب الصداق1 في النكاح، والذبح في [المحل المخصوص2 في] الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى يقاس عليها غيرها، فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك، لتمييز النكاح عن السفاح، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه، ولكنها أمور جملية، كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال: إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك.
فإن قيل: وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع. على الخصوص أم لا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل، فإن فيه المعنى الذي أشارت إليه الآية: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، أي: فالصداق والنفقة مكملان لحق القيامة والرياسة للأزواج عليهن، وسيأتي للمؤلف تعليله بتمييز النكاح عن السفاح، وإن كان قد يقال: إن الزنا فيه دفع مال من الزاني للبغي. "د".
2 أي: مع أن تطهير الرحم من الدم الذي هو مسكن الجراثيم المرضية غالبا قد لا يتوقف على خروجه من الودجين والحلقوم، وليراجع أهل الذكر في هذا فقد يكون له علة ومعنى مقصود. "د".
قلت: وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(37/229)
ص -526-…فالجواب أن يقال: أما أمور التعبدات، فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد، من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، قالت للسائلة: "أحرورية أنت؟" إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا؛ إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة، ثم قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع: "هي السنة با ابن أخي"2، وهو كثير، ومعنى هذا التعليل أن لا علة.
وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا، فلها معنى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو ترك الناسُ والنظرَ لانتشر3 ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة،وأسباب معلومة لا تتعدي، كالثمانين في القذف، والمئة وتغريب العام في الزنا على غير إخصان، وخص قطع اليد بالكوع4 وفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1/ 265/ رقم 335".
وقولها رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟" أي: أنت تنتسبين إلى الحروريين، وهم جماعة خالفوا عليا رضي الله عنه من الخوارج، يبالغون في العبادات، ينتسبون إلى حروراء، قرية بالكوفة على ميلين منها. "ماء / ص218".
2 نحوه في "معالم السنن" للخطابي "4/ 28"، و"فقه الإمام سعيد بن المسيب" "4/ 67"، وسيأتي بتمامه في "5/ 387".
3 أي: لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق.
4 اختلف أهل اللغة فيه على أقوال:
الأول:
هو طرف الزند الذي يلي الإبهام، نقله الجوهري في "الصحاح" "3/ 1278"، وبه قال ابن السكيت، كما في "تهذيب اللغة" "3/ 41"، وكذا في "المحكم" "2/ 200" لابن سيده، و"الكليات" "5/ 124" للكفوي. =(37/230)
ص -527-…النصاب المعين1، وجعل مغيب الحشفة حدًّا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر، كالطهارة للصلاة، والصوم، والحيض والطهر، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر، فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه.
وإلى هذا المعنى2 يشير أصل سد الذارئع، لكن له نظران:
نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه، كما في مذهب مالك مثلا، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف، فعلى هذا لا ينبغي أن يُلتفت منه3 إلا إلى المنصوص عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني:
هو طرف الزند في الذراع مما يلي الرسغ، نقله الليث، وقال: "هكذا زعمه أبو الدفيش الأعرابي، وهما كوعان، كذا في "تاج العروس" "22/ 141-142"، واللسان" "8/ 316، و"تهذيب اللغة" "3/ 41".
والثالث:
من الأقوال: أنه أخفاهما وأشدهما درمة، وهذا نقله الصاغاني في "العباب"، وفسر "الدرم" بالتحريك بأن لا يظهر للعظم حجم، وكذا في "التاج" "22/ 142".
فهذه ثلاثة أقوال في تفسير "الكوع" ذكرها الزبيدي في "القول المسموع في الفرق بين الكوع والكرسوع" "ص19-21"، والمراد والله أعلم من كلام المصنف القول الثاني.
1 يعني: نصاب القطع في السرقة.
2 أي: فقاعدة سد الذرائع -التي هي منع الشارع لأشياء لجرِّها إلى منهي عنه، والتوسل بها إليه- هذه القاعدة تلتئم وتتناسب تمام المناسبة مع المعنى، وهو ضبط وجوه المصالح خشية الانتشار وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط في هذا أقرب إلى الانقياد، لكن السد الذرائع نظران..... إلخ، أي: فلا يؤخذ هكذا بطريق كلي بل لا بد فيه من إدخاله تحت هذا الضابط الذي قرره. "د".(37/231)
3 أي: من المعنى المذكور إلا ما نص عليه من الشارع بذكر ضوابطه؛ لأن كثيرا من التكاليف وَكَّلَها الشارع إلى أمانة المكلف، فلا نتوسع في ضبطها وتقييدها بحجة سد الذرائع وخوف الانتشار، والنظر الآخر أنه وإن انتشرت فروعه؛ لكن له ضوابط سهلة المأخذ يمكن التعويل عليها، فمتى أمكن إجراء الضوابط في مظانها أخذ بها وعول عليها، فيكون هذا توسطا بين الأمرين وإعمالا لكلا النظرين. "د".(37/232)
ص -528-…ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليِّه، فليجر بحسب الإمكان في مظانه، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتسول بها إليه، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح، فلا بد من اعتباره، ومن الناس من توسط بنظر ثالث، فخص هذا المختلف فيه بالظاهر1، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان النظرين السابقين لم يفرق فيهما بين الظواهر والسرائر لكن هذا الثالث فرق بينهما بما قاله. "د".(37/233)
ص -529-…المسألة التاسعة عشرة:
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد؛ فلا تفريع فيه1، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد2؛ فلا بد فيه من اعتبار التعبد؛ لأوجه:
أحدها:
أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف3 من حيث هو مكلف، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم، فإنه عبد مكلف، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء، بخلاف المصلحة؛ فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين، وإذا كان كذلك؛ فالتعبد لازم لا خيرة فيه، واعتبار المصلحة فيه الخيرة، [وما فيه الخيرة]4 يصح تخلفه عقلا، وإذا وقع الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يقاس فيه ولما كانت هذه الدعوى الأولى واضحة لم يستدل عليها، وإن كان يؤخذ التنبيه عليها أثناء الاستدلال على الدعوى الثانية، ولم يقل: "ففيه التفريع"؛ لأنه مع كونه متشعب الخلاف بين القائلين بالقياس، فإن الذي يعنيه هو إثبات أن فيه أيضا نوع من التعبد بمعنى من المعاني التي سيقررها. "د".
2 أي: دون أن يثبت التعبد، وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام، وقوله: "فلا بد فيه من اعتبار التعبد" ليس المراد به التعبد بالمعنى الخاص المتقدم الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد به أن يكون لله فيه حق، إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها، وينضم إليه معنى آخر وهو أنه لا بد لنا في كل مصلحة عرفناها من وقفة عندها: هل تعينت هذه العلة للمصلحة بحيث لا يكون للحكم علة ومصلحة إلا هذه؟ فهذا التوقف نوع من التعبد، بمعنى عدم معقولية المعنى تعقلا كاملا، وغير ذلك من المعاني الآتية التي يتقرر بها معنى التعبد في الأوجه المذكورة بعد، فالتعبد هنا بمعنى عام لا ينافي القياس والتفريع إذا وجدت شروطه. "د".(37/234)
3 أي: فعليه الانقياد ولا يخلص من التكليف إلا بالامتثال بخلاف تحقيق المصلحة وتحصيلها، فغير لازم بل نفس معرفة المصلحة في التكليف غير لازمة فضلا عن قصدها. "د".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(37/235)
ص -530-…والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا1 فإنه محال، فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق2، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق؛ خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح.
وأيضا؛ فإنه3 لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين؛ فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل، يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا، فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض، فالأمران على مذهبهم لازمان، ولا يقول أحد منهم: إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح، [بل هو قبيح]4 على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد.
والثاني:
أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم، فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم، فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن، لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا؛ إذ هو قطع على غيب بلا دليل، وذلك غير جائز، فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم، فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عما يقتضيان من اشتغال ذمة المأمور والمنهي حتى يؤدي. "د".
2 أي: سواء فيما ثبت فيه اعتبار التعبد وما ثبت فيه اعتبار المعاني، وكذا اعتبار المصالح غير لازم فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وهو ظاهر، ولا فيما ثبت فيه اعتبار المعاني كما قال. د"
3 أي: التعبد "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 وهو هنا بمعنى عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلا. "د".(37/236)
ص -531-…فإن قيل: لو جاز ذلك لم نقضِ بالتعدي1 على حال، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى، لم نجزم بأن الحكم لها2؛ فقط لجواز أن تكون جزء علة3، أو لجواز خلو الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها، فإذا أمكن ذلك، لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر، ولا سبيل إلى ذلك، فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة.
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز4 التعبد؛ لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم، ولم نكلف أن ننفي ما عداها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعدي الحكم لما ثبت فيه العلة كما هو الشأن في القياس في المسائل التي عرف فيها اعتبار المعاني والعلل. "د".
2 أي: للحكمة الموجودة الظاهرة في الأصل. "د".
3 أي: وجزء العلة لا يعدي الحكم للفرع، ولا يبني عليه قياس، وقوله: "أو لجواز... إلخ" عطف على سابقه تكميل لتعليل قوله: "لم نجزم بأن الحكم لها فقط" الذي يشمل صورتين: أن يكون لها مع غيرها بأن تكون جزء علة، أو يكون الحكم لها أو لغيرها بأن تكون هناك علة أخرى مستقلة، فقوله أولا: "لجواز" توجيه للاحتمال الأول، وقوله: "أو لجواز" توجيه للاحتمال الثاني، وقوله: "خلو النوع عن تلك الحكمة"، أي: المستقلة أيضا كما أن المعلومة مستقلة، وقوله: "فإذا امكن ذلك"، أي: احتمال أن تكون المعلومة جزء علة، واحتمال أن تكون ليست وحدها المعلل بها وإن كانت علة كاملة، وقوله: "سوى ما ظهر"، أي: لا يوجد جزء آخر متمم للعلة المعلومة، ولا علة أخرى كاملة يصح أن يبني عليها الحكم، وقوله في الجواب: "لكن غلبة الظن كافٍ" فيه جواب التجويز الأول، وقوله: "وأيضًا" فيه جواب التجويز الثاني. "د".(37/237)
4 جعله جوازا، فكأنه لا يلزم المجتهد أن يراعي إمكان حكمة أخرى، ويعتبر كأمر كمالي بخلاف الوجه الأول، وهو امتثال المأمورات على تفصيل في ذلك معروف في الفروع من جهة النية وعدمها. "د".(37/238)
ص -532-…فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلِّية، أو صالح لكونه علة، كافٍ في تعدي الحكم به.
وأيضا فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة1 وكل منها مستقل، وجميعها معلوم، فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر، فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر، فإذا ثبت هذا، لم يبقَ للسؤال مورد، فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه، ولا علينا.
والوجه الثالث2:
أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين:
أحدهما:
ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة، كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر3، والمناسبة، وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "المستصفى" "2/ 96"، و"الإحكام" "3/ 218" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 210-211"، و"البرهان" "2/ 832" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 167"، و"المسودة" "417"، و"صول الفقه وابن تيمية" "1/ 385-388"، و"كشف الأسرار" "4/ 45"، و"جمع الجوامع" "2/ 245-246 مع "شرح المحلي"، و"نشر البنود" "2/ 145-146"، و"إرشاد الفحول" "209".
2 هذا الوجه إنما يثبت اعتبار التعبد في نوع خاص مما اعتبر فيه المعاني دون التعبد، بخلاف الوجهين السابقين، فعامان في سائر فروعه، والوجه الرابع عام أيضا، وكذلك الخامس والسادس. "د".(37/239)
3 مثاله أن يقول: المستدل في علة ربا الفضل العلة، أما الطعم، أو الاقتيات، أو الادخار، أو التقدير بالكيل، أو الوزن، ثم يستدل على إبطال اثنين منتفين كون الثالث هو العة، والحق مع من أنكر عده في مسالك العلة كان الوصف المبقي أن اشتمل على مصلحة، فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط، فالأول المناسبة، والثاني الشبه، وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا، فهو الطرد. "خ".(37/240)
ص -533-…نعلل به، ونقول: إن شرعية الأحكام لأجله.
والثاني:
ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك1 المسالك المعهودة، ولا يُطَّلع عليه إلا بالوحي، كالأحكام2 التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو، وقذف الرعب، والقحط، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي.
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن3 ثم مصالح آخر غير ما يدركه المكَلف، لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر؛ إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل، فبقيت موقوفة على التعبد المحض؛ لأنها لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل4، وإذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لتلك".(37/241)
2 فمثلا ورد: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} الآية، هل يجعل الاستغفار علة أيضا في قوة الأبدان وسعة العلم، وغير ذلك فقياس على الأمداد بالأموال والبنين؟ وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم}، وهل يقاس على الفشل وذهاب القوة والعزة ذهاب القوة البدنية والأموال وغيرها؟ فهذه الأسباب ذكرها الشرع عللا لأحكام لكنها لا تعلم إلا من جهته، فهل يدخل فيها القياس والتفريع، يقول المؤلف: إنها مع كونها علل بها الشرع، ولا يصح أن يدخلها القياس والتفريع؛ لأنها وإن كانت أحكاما عادية إلا أن عللها ليست مما تدرك العقول ترتب هذه الأحكام عليها، فلا بد أن تكون تعبدية نقف فيها عند ما أثبت الشارع فقط؛ لأن التشابه الذي ندركه فيما نريد أن نجعله فرعا إنما هو في المطلقات والعمومات المعلل بها، وليس هذا القدر كافيا في صحة العلية حتى يتأتى الإلحاق والقياس. "د".
3 في الأصل و"خ": "وإن".
4 لعل فيه حذف كلمة "به". "د".(37/242)
ص -534-…ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان.
والرابع:
أن السائل إذا قال للحاكم: لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك، كان مصيبا، كما أنه إذا قال: لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم، كان مصيبا أيضا، والأول جواب التعبد المحض، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما، جاز القصد إلى التعبد، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا، وإلا لم يصح توجه القصد إلا ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد، فلما صح القصد مطلقا، صح المقصود له مطلقا، وذلك جهة التعبد، [وهو المطلوب]1.
والخامس:
أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال2 للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 هذا ظاهر فيما إذا كان مسلك العلة الإجماع أو النص بقسميه أو المناسبة أيضا؛ لأنه لا بد في المعتبر منها أن يكون مؤثرا أو ملائما، وكل منهما لا بد أن يستند إلى نص أو إجماع؛ أما المؤثر؛ فهو ما اعتبر عينه في عين الحكم بنص كما في الحدث بالمس لقوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ"* أو إجماع كولاية المال بالصغر، وأما الملائم فهو ما رتب الحكم على وفقه في الأصل مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع؛ وسمى ملائما لكونه مناسبا لما اعتبره الشارع، ومثاله الصغر في حمل نكاح الثيب الصغيرة على نكاح البكر الصغيرة في أن الولايات للأب عند الحنفية، ويبقى الكلام في السبر والتقسيم والدوران من أنواع المسالك، فعليك بالنظر فيها لتعرف هل يشملها كلامه، وأن المصالح فيها أيضًا بوضع الشرع. "د".(37/243)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه وطرقه في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "2/ 244، مسألة رقم 20".(37/244)
ص -535-…التحسين والتقبيح1، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحة، وإلا، فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إِذِ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح؛ فإذن كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات2، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا.
ومن هنا يقول العلماء3: إن من التكاليف "ما هو حق لله خاصة"، وهو راجع إلى التعبد، وما هو حق للعبد" ويقولون في هذا الثاني: إن فيه حقا لله، كما في قاتل العمد إذ عفي عنه ضُرِب مئة وسُجِن عامًا، وفي القاتل غيلة إنه لا عفوَ فيه، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة4، وإن كانت براءة رحمها حقا له وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقا لله، فإن ما هو لله، فهو لله، وما كان للعبد، فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله؛ إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى بهذا الصدد "1/ 125" مع التعليق عليه، وما سيأتي "3/ 28".
2 في الأصل: "تعبدات".
3 المذكور قول القرافي في كتابه "الفروق" "2/ 140، الفرق الثاني والعشرون"، وانظر أيضا: "المنار" "886- مع حواشيه"، و"شرح التلويح على التوضيح" "2/ 155".
4 لعل الأصل: "عن المرأة المطلقة". "د".(37/245)
5 وعليه، فالشريعة هي أساس الحقوق الخاصة، وليست الحقوق الخاصة هي أساس الشريعة، والحق ليس منحة من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، وليس هو حقا طبيعيا لصاحبه، بل هو منحة إلهية وهبها الله سبحانه للإنسان من أجل أن يتحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية.(37/246)
ص -536-…ومن هذا الموضع يقول كثير م العلماء: "إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق"1، علمت مفسدة النهي أم لا، انتفي السبب الذي لأجله نهي عن العمل أولا، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي، فإذا لم يحصل، فالعمل باطل بإطلاق، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد، وإذا لم يخل، فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات.
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد، كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة، ومنها ما لا يصح إلا بنية، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله؛ كالزكاة والذبائح والصيد، والتي تصح بدون نية إذا فُعِلت بغير نية لا يثاب عليها، فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد، أثيب عليها، وكذلك التروك إذا تُرِكت بنية، وهذا متفق عليه، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيها حق، [لما]2 حصل الثواب فيها أصلا؛ لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها، والمأمور به متقرب إلى الله به، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة، وكل عبادة مفتقرة إلى نية، فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تحرير هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299، 23/ 25، 29/ 281 وما بعدها، و32/ 88 و33/ 18، 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 108"، و"كشف الأسرار "4/ 134-135"، و"تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي، و"النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيمية" لصديقنا رعد عبد العزيز، و"النهي وأثره في الفقه الإسلامي" لمحمد سعود المعيني.
2 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(37/247)
ص -537-…فإن قيل: إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب؛ لا من كونها طاعة متقربا بها.
قيل: هذا غير صحيح؛ إذ لو كان كذلك؛ لصح الثواب بدون النية؛ لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية.
وأيضًا، فلو حصل الثواب بغير نية، لأثيب الغاصب إذا أُخِذَ منه المغصوب كرها، ليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد، فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك، ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة.
وهو دليل سادس في المسألة.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية، وأن لا يصح عمل من لم ينوِ، أو يكون عاصيا.
قيل: قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب، وقد يكون جهة التعبد هي المغلبة، فما كان المغلب فيه التعبد، فمسلَّم ذلك فيه، وما غلب فيه جهة العبد، فحق العبد يحصل بغير نية، فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله، فإن راعى جهة الأمر، فهو من تلك الجهة عبادة، فلا بد فيه من نية، أي: لا يصير عبادة إلا بالنية، لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة، كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم، أو اقرض بقصد دنيوي، وكذلك البيع والشراء، والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها، ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يثابرون على(37/248)
ص -538-…إحضار النيات في الأعمال، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم1.
فصل:
ويتبين بهذا أمور، منها أن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق2، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا3 فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية.
كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد، ولذلك قال في الحديث: "حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم"4 وعادتهم في تفسير "حق"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "قواعد الأحكام" "2/ 66 وما بعدها".
2 هذا هو التحقيق في التعبير عن حق الله خلافا للقرافي، حيث ذهب في الفرق الثاني والعشرين إلى أن حق الله أمره ونهيه لا نفس العبادة، وزعم أن هذا هو المحرر عند العلماء، وقد تعرض أبو القاسم بن الشاط إلى التنبيه على هذا الغلط، وأنكر أن يحرر العلماء ما يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا". "خ".
قلت: وانظر في تعريفه: "قواعد الأحكام" "1/ 103"، و"تيسير التحرير" "2/ 174-181"، و"شرح المنار" "886- مع حواشيه"، و"كشاف اصطلاحات الفنون" "1/ 329-330".
3 كالقصاص، فالعفو عنه حق للعبد، على معنى أنه إن عفا سقط الحق كله. "د".(37/249)
4 جزء من حديث، وفيه حق الله على العباد أيضا، وسيأتي عند المصنف "ص544"، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار رقم 2856، وكتاب اللباس، باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه رقم 5967، وكتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم 6267، وكتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه رقم 6500، وكتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى رقم 7373"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/ 58-59/ رقم 30" من حديث معاذ رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"خ": "لا".(37/250)
ص -539-…الله" أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، كان له معنى معقول أو غير معقول، "وحق العبد" ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية، فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله، ومعنى "التعبد" عندهم أنه ما لا يعقل معناه1 على الخصوص، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد.
فصل:
والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام2:
أحدها:
ما هو حق لله خالصا كالعبادات، وأصله التعبد كما تقدم، فإذا طابق الفعل الأمر، صح؛ وإلا؛ فلا.
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى، فإذا وقع3 طابق قصد الشارع وإن لا؛ خالف4، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل، فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا تعقل فيه الحكمة والمصلحة الخاصة التي يصح أن تكون أساسا للقياس، أما العلل العامة، فهي موجودة حتى في التعدي، كما سبقت الإشارة إليه. "د".
2 انظر: "الفروق" "2/ 140-141"، و"المجموع" "6/ 154"، و"المغني" "6/ 63".
3 أي: الوقوف المذكور. "د".
4 في الأصل: "أو خالف"، وفي "د": "أو لا خالف".(37/251)
ص -540-…وأيضًا؛ فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عند ما حده الشارع، فيكفي في ذلك عدم تحقيق البراءة منه [وإن لم تحصل البراءة]1 وعدم تحقق البراءة [منه إن لم تحصل المطابقة، وعدم تحقيق البراءة]1 موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق، لا بفعل غير مطابق.
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر، فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه؛ إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع، إما بأصله، كزيادة صلاة سادسة، أو ترك الصلاة، وإما بوصفه، كقراءة القرآن في الركوع والسجود، والصلاة في الأوقات المكروهة؛ إذ لو كان مقصودا لم ينهَ عنه، ولأمر به أو أذن فيه، فإن الإذن هو المعرِّف2 أولًا بقصد الشارع فلا تتعداه.
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع، أو المأمور به من غير المطابق؛ فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك، وإما لعد النازلة من باب المفهوم [و]3 المعنى المعلل بالمصالح، فيجري على حكمه، وقد مر أن هذا قليل، وأن التعبد هو العمدة.
والثاني:
ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد، والمغلب فيه حق الله، وحكمه راجع إلى الأول؛ لأن حق العبد إذا صار مطَّرَحًا شرعا، فهو كغير المعتبر؛ إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر، والفرض خلافه كقتل النفس؛ إذ ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفات زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة كلها.
2 في "د": "المعروف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".(37/252)
ص -541-…للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع؛ فذلك للأمور الثلاثة الأول1، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب.
والثالث:
ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب، وأصله معقولية المعنى، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة؛ لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر؛ أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد؛ فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ، أو لا؛ فإن فرض غير حاصل؛ فالعمل باطل؛ لأن مقصود الشارع لم يحصل، وإن حصل -ولا يكون2 حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف- صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد3 ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري؛ لأن النهي لأجل فوت العتق، فإذا حصل4، فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لِمَ لَمْ يعتبر الوجه الرابع السابق هنا؛ وهو عد النازلة من باب المعلل، فيجري على حكمه، مع أنه في هذا أقرب من سابقه؛ لأن سابقه كان في التعبد المحض الذي يبعد فيه الحمل على هذا الوجه، بخلاف هذا النوع الثاني الذي فيه الحقان؛ فإنه حمله على المعلل أقرب من سابقه، إلا أن يقال: إنه أهدر الرابع رأسا حيث قال: "وقد مر أن هذا قليل وأن التعبد هو العمدة" "فلذلك لم يلتفت إليه هنا. "د".
2 لأنه لا يتأتى أن ينهى الشارع عن فعلٍ؛ محافظةً على مصلحة العبد، ثم يكون هذا الفعل المنهي عنه بنفسه محصلا لهذه المصلحة. "د".
3 أي: وأما بالنسبة إلى حق الله وهو الإقدام على المخالفة؛ فلم يرتفع مقتضاه من الإثم، سواء من جهة البائع أو جهة المشتري، وفضل العتق شيء آخر. "د".(37/253)
4 أي: وقد حصل على وجه أبلغ؛ لأنه نجز عتقه، بخلاف المدبر؛ فإن عتقه مؤجل وقد لا يتم. "د".(37/254)
ص -542-…الغير إذا أسقط ذو الحق حقه؛ لأن النهي قد فرضناه لحق العبد، فإذا رضي بإسقاطه؛ فله ذلك، وأمثلة هذا القسم كثيرة، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع؛ فذلك لأحد الأمور الثلاثة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتطبيقه في مسألة العبد جارٍ على الوجه الثالث، وهو أن المخالفة راجعة إلى وصف منفك؛ فالعتق وقع على ذات العبد الذي يمكن انفكاكه عن كونه مدبرا إلى أن يكون قنًّا صرفًا مثلا، كما قالوه في الدار المغصوبة؛ فالصلاة منفكة عن المكان المغصوب، والمكان المغصوب ينفك عن أن تقع فيه الصلاة؛ لأن الوصف ليس من الأوصاف اللازمة. "د".(37/255)
ص -543-…المسألة العشرون:
لما كانت الدنيا مخلوقة؛ ليظهر فيها أثر القبضتين1، ومبنية على بذل النعم للعباد؛ لينالوها ويتمتعوا بها، وليشكروا2 الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى، حسبما بيَّن لنا الكتاب والسنة، اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة3، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا.
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد في ذلك أحاديث كثيرة جدا عن جمع غفير من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قال الشيخ صالح المقبلي في "الأبحاث المسددة" -كما في "فتح البيان" "3/ 406" لصديق حسن خان: "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك".
وتجد كثيرا من هذا الأحاديث في تفسير سورة الأعراف "آية 172" عند ابن جرير وابن كثير والسيوطي في "الدر المنثور" و"تفسير النسائي" "1/ 504-507"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 424-425"، وفي "السنة" لابن أبي عاصم "باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده 1/ 87 وما بعدها، والسلسلة الصحيحة" "الأرقام 47-50، 848، 1623".
2 في الأصل: "ويشكروا".(37/256)
3 وهو ما يشير إليه فيما بعد بقوله: "والثاني من جهة الوضع التفصيلي..... إلخ"، وقوله: وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا "أي: بوجه عام" سيشير إليه بقوله: "من جهة الوضع الكلي..... إلخ" والآيات من هذا النوع الثاني الكلي الإجمالي؛ أما التفصيل؛ فيكون بذكر تفاصيل الأحكام الشرعية وبيان ما يحل تناوله وما لا يحل..... إلخ. "د".(37/257)
ص -544-…وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونَ} [البقرة: 152].
وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
وقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآية [إبراهيم: 7].
والشكر هو صرف ما أُنعم عليك في مرضاة المنعم، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوه به شيئا"1.
ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات.
أما العبادات؛ فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة؛ فهي مصروفة إليه.
وأما العادات؛ فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات؛ فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87].
فنهى عن التحريم، وجعله تعديا على حق الله تعالى، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام: "من رغب عن سنتي، فليس مني"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الشيخان، وقد تقدم تخريجه ص"538".
2 مضى تخريجه "1/ 522".(37/258)
ص -545-…وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103].
وقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} الآية [الأنعام: 138].
فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها، منها مجرد التحريم، وهو المقصود ههنا.
وأيضا؛ ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع؛ لأن حق الغير محافظ عليه شرعا ايضا، ولا خيرة فيه للعبد، فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير، حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات1، لا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نستفيد من هذا أمورا مهمة؛ هي:
أولا:
أن ناحية التعبد موجودة في كل حكم، حتى في الإباحة والحقوق، سواء كان معقول المعنى، بيِّنَةٌ حكمتُهُ أم غير معقول.
ثانيا:
حق الله وحق الفرد متلازمان، إذا وجد أحدهما وُجِد الآخر؛ فهما دائمان مجتمعان.
ثالثا:
بهذا لا ينفصل المعنى الديني عن كل معاملة أو تصرف؛ أداء لحق الله في صدق العبودية.
رابعا:
أن طبيعة الحق الفردي في الإسلام ليس فرديا خالصًا؛ بل هو حق مشترك، وتثبت له صفة مزدوجة هي الفردية والجماعية في وقت معًا.
أما الفردية؛ فلأن الحق ليس بذاته وظيفة، بل هو ميزة تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه؛ فحق الفرد أصلا شخصي.
وأما الجماعية؛ فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الأضرار بغيره فردًا أو جماعة، قصدا أو بدون قصد، بالنظر إلى نتائج استعماله، كما سيأتي مفصلا عند المصنف.
وما يحسن إيراده هنا ما ذكره أستاذنا الشيخ محمد المبارك رحمه الله تعالى في كتابه "ذاتية الإسلام" "ص10"، قال بعد كلام: "فالتشريع الإسلامي بالإضافة إلى موضوعيته وتنظيمه على أسس ظاهرة وضوابط موضوعية له جذور خلقية في النفس، وأصول اعتقادية تغذية وتمده وتدعم =(37/259)
ص -546-…الأمر الكلي1، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق؛ إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف.
فإذن العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين:
أحدهما:
من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات.
والثاني:
من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة، فصار الجميع ثلاثة أقسام2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بناءه، فالتشريع غير منقطع الصلة بالأخلاق، وينفي عن التشريع الإسلامي صفة الفردية"، ويقول أيضا: "والإنسان الذي يؤمن هذا الإيمان ويعمل في الحياة في هذا الطريق ليس هو الإنسان الفرد المنعزل، بل هو الإنسان الموجود في إطار اجتماعي".
خامسا:
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 108": "والحقوق نوعان: حق الله، وحق الآدمي؛ فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكوات، والكفارات، ونحوها؛ وأما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعارضة عليها".
1 أيك فليس كل حق للعبد له إسقاطه؛ فالنفس للشخص حق المحافظة عليها ولله ذلك الحق أيضا، ولكنه لا يسقط إذا أسقطه العبد بتعريضها للتلف، بل يؤاخذ المعتدي والمعترض، وهكذا كل الضروريات العادية من عقل ونسل ومال، وهو ما يشير إليه قوله: "من جهة الوضع الكلي الداخل تحت الضروريات". "د".
قلت: انظر في هذا: "الفروق" "2/ 140 وما بعدها، الفرق الثاني والعشرون"، و"أصول الفقه" "ص46" لأبي زهرة.
2 لأن العادات فيها حق الله الصرف؛ وهو النظر الكلي، حتى لا يصح مثل تحريم ما أحل الله؛ وحق لله على العبد بالنسبة لغيره يسقط إذا أسقطه العبد، وحق له كذلك لا يسقط ولو أسقطه، فالأخيران حق لله على العباد يتعلق بهم بالنسبة لأشخاص آخرين كما هو ظاهر في الأمثلة بخلاف القسم الأول؛ فهو حق لله على العبد مباشرة ألا يحرم ما أحله ولا يفسد مال نفسه مثلا بقطع النظر عن عبد آخر. "د".(37/260)
ص -547-…وفيها1 أيضا حق للعبد من وجهين:
أحدهما:
جهة الدار الآخرة، وهو كونه مجازىً عليه بالنعيم2، موقَّىً بسببه عذاب الجحيم.
والثاني:
جهة أخذه للنعمة3 على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا؛ لكن يحسبه في خاصة نفسه، كما قال تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وبالله التوفيق.
[انتهى السفر الأول من كتاب [الموافقات]4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في العادات، والوجه الأول يتحقق إذا سار فيها على مقتضى مرضاته تعالى وأدى شكرها. "د".
2 في الأصل: "بالنعيم".
3 فانتفاع العبد بالطيبات من النعم جعله الله تعالى حقا من حقوقه بحسب ما هيأه له من ذلك كما قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف: 32]. فجعل ذلك حقا له؛ لكن لا مطلقا بل حسبما سن له ورسم حتى لا يكون فيه اعتداء على حق الغير، وكل شخص بحسب ما قسم له من ذلك؛ فليس الناس في ذلك سواء. "د".
4 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها ومن "ط".(37/261)
ص -549-…الاستدراكات:
استدراك 1:
وهو مأخوذ من "كشف علوم الآخرة" "ص76" للغزالي، وهو طافح بالموضوعات والأباطيل، وحذر من أحاديثه ابن حجر في "الفتح" "11/ 434" بقوله: "وقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها؛ فلا يغتر بشيء منها".
وورد زيادة على المذكور هنا أشياء آخر، ولكن في خبر لكعب الأحبار عند أبي نعيم في "الحلية" "5/ 372-374"، وفي سنده الفرات بن السائب وهو متروك.
استدراك 2:
1- كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "وقد".
2- في "نفائس الأصول": "الدخان، وزفر الأذهان، فيلزم...."
استدراك 3:
1- في"النفائس": "أو مفسدة".
2- في "النفائس": فإنه تعالى يتوعَّد على".(37/262)
ص -550-…5- في "النفائس": فإن المفيد هو....".
6- كذا في "ط" و"نفائس الأصول" وفي سائر النسخ: "أن".
استدراك 4:
وفي "ط": "التفصيل"، بالصاد المهملة مجودة، وفي "نفائس الأصول": "التفضل"، وهو الصواب، وبناء عليه تعلم ما في كلام "د" السابق.
استدراك 5:
قلت: قاله بسبب السقط الذي وقع عنده، وهو بين معقوفتين، وسبب النزول الآتي مضى تخريجه "1/ 93".
استدراك 6:
قلت: جاء في "ط" ما يصرح بذلك، ففيه: "صار صاحبه" [واليا]، على حظ [عام]....".
استدراك 7:
1- "الإحياء" "4/ 380"، وما بين المعقوفتين منه فقط، وفيه: "مرتبط بدل "منهمك"، و"لحظة بدل "خطرة" -وفي الأصل: "خطوة"- وفي النسخ كلها: "في عمره" و"باعث فيه"، والمثبت منه.
2- كذا في "الإحياء" وفي النسخ جميعها: "الحياة".
3- كذا في "الإحياء"، وفي النسخ جميعها: "ليريح نفسه ويقوي".
4- انظره في "الإحياء" "4/ 380".(37/263)
ص -551-…الموضوعات والمحتويات:
الموضوع الصفحة
كتاب المقاصد 7
المقاصد لغة 7
كتب أُلِّفَت في موضوع المقاصد 7
قسما المقاصد 7
ما يرجع إلى قصد الشارع 7
ما يرجع إلى قصد المكلف 8
الأنواع الأربعة لقصد الشارع 8
وضع الشريعة لمصالح العباد ووضعها على معهود الأميين 8
تفصيل للأنواع الأربعة لمقاصد الشارع 8
توضيح المقاصد المطروقة في هذاالكتاب
مقدمة كلامية مسلمة عند المصنف 9
توضيح حول قوله مسلمة، وتوجيهها بما يتفق أول الكلام بآخره 9
أحكام الله هل هي معللة؟ 9-12
من قال إنها غير معللة 9
من قال إنها معللة 11
موقف ابن القيم من القياس ومعارضيه 10
موقف المصنف من الظاهرية 10
قول الجويني في الظاهرية 10(37/264)
ص -552-…مناقشة المصنف في نسبة نفي التعليل للرازي من أوجه عديدة 10-11
التعليل الفلسفي عند الرازي 10
بين الأشاعرة والمعتزلة 10
هل الخلاف في المسألة لفظي؟ 10
الرازي كثير الاضطراب بخلاف الغزالي 11
العلل بمعنى العلامات 11
مراجع لتوضيح المسألة والمذاهب فيها 11
إثبات علل تنقض قول الرازي 12
الاعتماد على الاستقراء لإثبات القاعدة المسلمة عند المصنف 12
الاستقراء مفيد للعلم 13
ثبوت الاجتهاد والقياس بإثبات العلة 11-13
القسم الأول: مقاصد الشارع 15
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة 17
الشريعة والشرعة 17
المسألة الأولى 17
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهي: الضرورية والحاجية
والتحسينية 17
تفسير الضرورية 17-18
حفظ الضروريات بأمرين من جانب الوجود ومن جانب العدم وتوضيح
بعض ذلك في الحاشية 18
تمثيل الحفظ في أصول العبادات 18-19
التهارج ومعناه 18
الجهاد وحفظ الدين 18-19
تمثيل الحفظ في العادات والمعاملات والجنايات 18-20
مقصود المحافظة عند المصنف 18
البيوع هل مطلقها من الضروري؟ 19
الحرص على شرح كلام المصنف وتحريره 19-20(37/265)
ص -553-…مجموع الضروريات الخمس، وأنها في كل ملة وترتيبها في الحاشية والاختلاف فيها 20، 21
حكم تعريض الأمم السابقة الغنائم للنار 21
تفسير الحاجيات وتمثيلها في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات 21-22
تفريق المصنف بين العادات والمعاملات 21-22
تفسير التحسينات وتمثيلها من السابقتين 22-23
المسألة الثانية 24
انضمام ما هو كالتتمة والتكملة إلى هذه المراتب 24
تمثيل ذلك للضروريات والحاجيات والتحسينات 24-25
الاهتمام بالضروريات وأنها الأصل 25
المسألة الثالثة 26
شرط كل تكملة أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال 26
توضيح ذلك بوجهين 26
خرق التكملة لمصلحة الأصل 26-27
ذكر صور لموضوع واحد يكون فيه ضروري وحاجي أو قد يكون تحسينيا 26-27
فائدة مهمة عن الجهاد وإقامته على كل حال من المصنف ومن أحد المحشِّين 27
تخريج حديث الجهاد مع جميع ولاة الأمر 28
قولهم: راوٍ في معنى المجهول 28
فائدة فقهية مهمة في الاستدلال على الجهاد مع ولاة الجور 28
الاهتمام بالصلاة أيضا حتى خلف المبتدعة وأئمة الجور حرصا عليها وعلى
جماعة المسلمين 29
فوائد في الحاشية
إتمام أركان الصلاة 29
إحالة المصنف على مصنف للغزالي لشرح أكبر وتأصيل 30
المسألة الرابعة
المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية وباختلاله يختلان وبإخلالهما
يختل الضروري جزئيا 31(37/266)
ص -554-…وفيه مطالب خمسة: 31
الأول: أن الضروري أصل لما سواه 31
الثاني: اختلاله يؤدي إلى اختلال غيره 31
الثالث: اختلال الحاجي والتكميلي لا يلزم منه اختلال الضروري بإطلاق 31
الرابع: احتلالهما بإطلاق قد يلزم منه اختلال الضروري بوجه ما 31
الخامس: ينبغي المحافظة عليهما للمحافظة على الضروري 31-32
بيان المطلب الأول وأمثلة عليه 32-33
بيان المطلب الثاني وأمثلة عليه 33-35
حكم الوسائل مع المقاصد 34-35
تمثيل بأجزاء الصلاة 34
بيان المطلب الثالث 35-38
تمثيل بأنواع كثيرة منها العذر 36
بيان المطلب الرابع من أوجه 38
أحدها أن الضروريات آكد من غيرها 38
تخريج حديث الحلال بيِّن 38-39
التدرج في المعاصي بالأخف وهو أصل مقطوع به 39-40
تفسير حديث: لعن الله السارق يسرق البيضة 39
اقتصار المصلي على الفرض فيها 40
ثانيها: أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل إلى الفرض 40
والمندوب بالجزء ينتهض أن يكون واجبا بالكل 40
ثالثها: أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد
منهما كفرد من الضروريات 41
الضيق والسعة ومكارم الأخلاق ومعاني العادات 41
تخريج حديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 41
رابعها: الحاجي والتحسيني خادم للأصل الضروري 42
الخشوع في الصلاة 42-43
بيان المطلب الخامس: ويتضح بما تقدم 43(37/267)
ص -555-…فائدة البحث 43
المسألة الخامسة 44
النظر في المصالح المبثوثة للعباد في الدنيا من جهتين: مواقع الوجود، وتعلق
الخطاب الشرعي بها 44
المصالح في الدنيا غير محضة، بل تخالطها المفاسد والعكس صحيح 44-45
جريانها على التغليب والترجيح بينها 45
النظر الثاني تعلق الخطاب الشرعي بها 46
وأن الغالب في المصلحة هو المطلوب وقوعها والمفاسد الغالبة هي
المطلوب دفعها، والمغلوبةمدفوعة شرعا 46-47
الخلاف لفظي في المسألة وثمرتها معلومة عقلا 47
الأدلة على ما سبق من ترجيح المصالح والمفاسد 47-48
أولًا: أن الجهة المغلوبة لو كانت معتبرة عند الشارع لم يكن الفعل
مأمورا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق 47-48
والثاني: أنه التكليف بما لا يطاق 48
إشارة إلى مذهب المعتزلة أن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع 49-50
توجيه كلامهم في موضوع البحث، وأنه خارج البحث 50
المصالح في الشريعة 51
فصل: المصلحة أو المفسدة الخارجة عن حكم الاعتياد إذا انفردت 50
التمثيل عليها بأكل الميتة والنجاسات اضطرارا 51
الترجيح والتساوي في الأدلة المتعارضة 51-53
الحكم الشرعي للمجتهد وقاعدة مراعاة الخلاف 52
المسألة السادسة 54
المصالح والمفاسد في الآخرة على ضربين 54
ممتزجة وغير ممتزجة خالصة 54
الكلام على درجات النعيم والجحيم والعذاب 54-61
حرمان أهل الجنة من بعض ما استعجلوه مما حرم عليهم في الدنيا 58
مراتب العلماء والأنبياء 58 -59(37/268)
ص -556-…فضل الأنصار 59
التفضيل والخيرية 60 -61
أهمية البحث في التفضيل وفائدتها وثمرتها 61
التفضيل بين الأنبياء 61
المسألة السابعة 62
مقاصد التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية دون اختلال النظام 62
المسألة الثامنة 63
جلب المصالح ودفع المفاسد في الدنيا إنما هو بالنظر إلى الآخرة 63
أولا: إخراج المكلفين عن دواعي الهوى حتى يكونوا عبادا لله 63
ربط هذه المسألة بالمسألة الخامسة 63
ذم الشهوات 63
ثانيا: أن المنافع مشوبة بالمضار وكذلك العكس فليست محضة في الطرفين 64
التغليب فيها هو المعتمد والراجح 64
ثالثا: أن المنافع والمضار عامتها إضافية لا حقيقية 65
تفسير الإضافي هنا 65
رابعا: اختلاف الأغراض في الأمر الواحد
فصل 66
قواعد تنبني على ما سبق 66
عدم استمرار إطلاق أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع 66-68
محاولة التوفيق بين كلام المصنف وبين كلام الرازي 66
هل يجتمع الإذن والنهي على أمر واحد والعمل بالترجيح 67
التمثيل بالخمر 67
إيراد إشكال للقرافي ومحاولة الإجابة عليه في باب المصالح
والمفاسد واختلاطهما 68
ذكر مذهب المعتزلة في المصلحة والمفسدة والعلل 68
المباح والمصلحة والمفسدة 68
الوعيد والمصلحة والمفسدة 69
تفضيل مطلق المصلحة على مطلق المفسدة 69-70(37/269)
ص -557-…تزلزل قواعد الاعتزال 68-70
مذهب الأشاعرة في المصلحة والمفسدة 70
مذهب المعتزلة كذلك وتتمته 71
إدراك المصلحة عندهم 71
العزيمة والرخصة عند الرازي 72
إشكلات عليه 72
تخريج حديث "لا ضرر ولا ضرار" 72-75
مدار الفقه على أحاديث منها هذا الحديث 75
متابعة الإشكالات على تعريف الرازي للرخصة 75
الموانع 75
ومن الفوائد في أصل البحث: بفهمها يحصل فهم كثير من آيات
القرآن؛ أي التي في الموضوع 76
ومن الفوائد فهم كلام من قال: إن مصالح الآخرة تعرف بالشرع
ومصالح الدنيا تعرف بالعقل، وأوجه النظر فيه 77-78
مصالح الدنيا والآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع 78
المسألة التاسعة 79
أصول الشريعة وأصول أصولها قطعية، وأدلتها قطعية كذلك عقلية
كانت أو نقلية 79
والظنية لا تفيد القطع ولا يستند إليها 79
هل في النصوص ما يفيد القطع نقلا بالتواتر مع قطعية الدلالة؟ 79-80
هل إذا احتفت بها قرائن يختلف الأمر؟ 80
الإجماع وكفايته في الموضوع، والإشكالات عليه 80-81
إثبات المسألة بالاستقراء وهو من كل الأدلة 81-82
استناد الإجماع إلى قياس أو اجتهاد 81
خبر الواحد والتواتر وإفادة العلم 82
المسألة العاشرة
تخلف آحاد الجزئيات عن هذه الكليات لا يرفعها 83
التمثيل على ذلك 83-85(37/270)
ص -558-…الاستقراء 84
مناهج العلوم ومنهج الشريعة 84
تخلف جزئيات الأصول العقلية والشرعية 84
تنبيه على تخلف الجزئيات أنها قد تكون داخلة ومعارضة أو لم يظهر وجه
دخولها أو تخلفها لِحِكَمٍ خارجة عن مقتضى الكلي 84
المسألة الحادية عشرة 86
الأمر في المصالح مطَّرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها 86
الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض 86
تعدد الصواب والخلاف بين العلماء ومواطن الإجماع 86-89
المصالح والمفاسد وصفات الأعيان عند المعتزلة 89-90
المسألة الثانية عشرة 91
الشريعة والأمة تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم كلهم معصومون 91
الاستدلال على ذلك بالنصوص والتفسير للآيات ومعنى حفظ الذكر 91-93
تحريف الإنجيل والتوراة 92
الاستدلال الثاني بالاعتبار الوجودي الواقع من زمن النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الساعة من قيام العلماء في شتى المجالات 93-95
المسألة الثالثة عشرة
ثبوت قاعدة كلية في الأصول الثلاث لا يرفعها آحاد الجزئيات بل لا بد من
المحافظة على القاعدة والجزئيات التابعة لها والاستدلال على ذلك بأوجه 96
منها العتب على التارك في الجملة من غير عذر 96
ومنها: أن المعاتبة والوعيد مستثنيان في الأعذار 96
ومنها: لا يصح القصد إلى التكليف بالكلي إذا كانت جزئياته غير مقصودة 96
مناقشة المؤلف في ذلك
ومنها: مقصود الشارع جريان الأمور على نظام وترتيب بدون تفاوت واختلاف 97
توجيه المسألة هذه مع السابقة، وإيضاح عموم القاعدة
عدم العارض المعارض 98-99(37/271)
ص -559-…النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام 101
المسائل الخمس الأولى ضوابط لفهم مقاصد الشرع بالقرآن والسنة
المسألة الأولى 101
القرآن الكريم عربي لغة وأسلوبا، ونقل عن الإمام الشافعي 101-104
هل في القرآن ألفاظ أعجمية 101-102
هل ينبني على الخلاف ثمرة 103
فهم اللغة عن طريق أخرى 104
المسألة الثانية
تبيان ما تشترك فيه اللغة الغربية مع اللغات وما تنفرد به عنها
من الألفاظ 105-106
فصل: في ترجمة القرآن 106-107
فصل: توضيح لما سبق وتأكيد عليه 107-108
المسألة الثالثة 109
الشريعة والأمة أميان وتفسير ذلك 109
الحكمة في ذلك 109
الاستدلال على ذلك بـ:
1- النصوص المتواترة لفظا ومعنى 109-111
الخلاف في كتابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية 110-111
2- مناسبتها للأمة التي بعثت فيها 111
3- أنها لو لم تكن مناسبة لم تكن معجزة 111-112
زيادة توضيح لكلام المصنف وتمثيلها بالمواقيت 111-112
فصل: في ذكر العلوم التي عند العرب وما صحح وأبطل من الشارع 112
علم النجوم للاهتداء بها 112-113
تنبيه على أن هناك علوما وإشارات لا يفهمها العرب وتحتاج إلى ما يسمى الإعجاز
العلمي للقرآن 113-114
علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار 114
التحذير من الشرك في علم الأنواء 115
تخريج أحاديث في ذلك 116(37/272)
ص -560-…علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية 117-118
تنبيه على أن القرآن لا يجاري كل ما عند العرب 117-118
من العلوم التي أبطلها الشارع: العرافة والزجر والكهانة وخط الرمل
والضرب بالحصى والطيرة وإثبات الفأل وتفسير بعضٍ من هذه
المصطلحات 118-119
الإلهام والرؤية الصادقة والفراسة 119
الطب وذكر أصوله 120-121
علوم البلاغة والفصاحة 121
ضرب الأمثال 122
توضيح ذلك 122
الأخلاق ومكارمها وإبقاء ما كان عند العرب وإبطال ما يبطل 122-124
ومن الأخلاق ما كان غير مألوف وبعضها مألوف وبعضها محرف
عن الحق 124-125
والصواب 126
تحديثهم عن نعيم الجنة وخيرها 125-126
تضعيف حديث فضل قس بن ساعدة 126
الجدل والموعظة في القرآن وعند العرب 126
المسألة الرابعة: ما ينبني على ماسبق من قواعد: 127
الابتعاد عن إضافة علوم ليست مقصودة لكلام الله في
القرآن وذكر جملة منها 127-128
ذكر ما للمتصوفة منها 127
العلوم الكونية والجدل والجنة ونعيمها والجحيم وعذابها
ومعهودات العرب 128
التفسير العلمي للقرآن، الإسراء والمعراج 128
أدلة إضافة كل العلوم إلى القرآن ومناقشة ذلك 129
الحروف المقطعة في فواتح السور 129-130
أكثر من كذب عليه في هذه الأمة هو علي بن أبي طالب 130
علم الحيوان والتاريخ الطبيعي وعلوم العرب وما يصح
إضافته إلى علوم القرآن من علوم العرب 130-131
التفسير العلمي للقرآن 130
فصل: لا بد من اتباع معهود الأميين في فهم الشريعة 131(37/273)
ص -561-…الألفاظ والمعاني عند العرب وأن العرب تقصد المعاني لا ألفاظها 131
أدلة ذلك:
أولا: جريان العمل على عدم اطراد ذلك عندهم 131
ثانيا: الاستغناء عندهم ببعض الألفاظ بما يرادفها ويقاربها 32-133
حديث: نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر 132
تفسير الشخت والبؤس واليبس 133
ثالثا: قد تهمل العرب بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره في الجملة 134
تنبيه على تصحيف في بيت شعر ونسبته إلى مصادره وشرح غريبه 134
رابعا: مدح العرب الكلام البعيد عن تكلف الاصطناع 135
تفسير العواهن عند العرب في سياق قصة في ذم التكلف 135
استدراك على المصنف 135
فصل: عموم مسلك الفهم والإفهام في الشرع لجميع العرب
دون فرق 136
تفسير الأحرف السبعة للحديث 136، 137، 138
تفسير "منآدهم" 137
فصل: الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود
الأعظم للشرع 138
تمييز المعاني الإفرادية عن الإضافية التركيبية 138-139
ذكر قصة عن عمر تدل على ذلك 140
لطيفة عن النووي في فهم "إيلاج الحشفة" 140
فصل: سهولة التكاليف بما يسع الأمي تعقلها 140
التكاليف الاعتقادية سهلة الفهم للجميع 141
فائدة عن الأسماء والصفات من المصنف 141-142
ذم السؤال والخوض فيما لا يعني 142
ذم التعمق 143
التكليف في العمليات بالتقريبات في الأمور وبالجلائل في الأعمال 143
لم يطالبوا بالحساب الدقيق 143-144
الورع استحضار النيات 145(37/274)
ص -562-…المتشابه في الشرع 145
التعمق في الشرع 146
الورع وأنواعه 147
التفاوت في الشريعة في الأمور المطلقة 147
فهم الأمية على العوام والعلماء 147
التدرج في تنفيذ الأحكام 148-149
اعتياد الخير وتخريج حديث "الخير عادة" 150
المسألة الخامسة
الدلالة على المعاني الأصلية والتابعة والتردد بينها 151
دلالتها على الأحكام لفهم معان زائدة في المعاني
التابعة عن المعنى الأصلي 151
أثبتها فريق واستدل لها 151
تخريج حديث "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي" 152
نجاسة الماء 153
أقل مدة الحمل 154
أمثلة أخرى 154-156
تبدل السماوات والأرض 158
خلود الكفار بالنار وما نسب لابن تيمية فيها 158-159
فصل: التنبيه على تعارض الأدلة وترجيح المصنف لمذهب المانعين163
إيراد إشكال فيه أمثلة سبعة 163
منها النداء والدعاء 163-164
الكناية فيما يستحيا من الألفاظ 165
الالتفات في الكلام 165-166
منها: الأدب في ترك التنصيص في نسبة الشر لله 166
منها: الأدب في المناظرة 167
ومنها: الآداب في إجراء الأمور على العادات 167-169
المنافقون ودخولهم في جملة المسلمين!! 168(37/275)
ص -563-…النوع الثالث: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة
للتكليف بمقتضاها 171
المسألة الأولى:
القدرة سبب أو شرط التكليف، والاعتراض على السببية
هنا ومذهب المعتزلة والحنفيه فيه 171
التكليف بما يظهر أنه فوق قدرة العبد وتوجيه آيات وأحاديث في ذلك 171-174
تخريج حديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل" 172-173
تخريج حديث: "لا تمت وأنت ظالمٌ" 172-173
المسألة الثانية:
الأوصاف الطبيعية كالشهوات المختلفة في الإنسان
لا يطالب برفعها أصلا 175
المسألة الثالثة: 176
ما كان كالأوصاف الطبيعية فحكمها مثلها سواء أكانت خفية أو ظاهرة 176
تخريج أحاديث في الجبلة والغرائز كالجبن والشجاعة والخيانة والكذب 176-177
أقسام تعلق الطلب الظاهر من الإنسان 178
الأول: ما لا يكون داخل تحت كسبه 178
الثاني: ما يدخل تحت كسبه 178
الثالث: ما يشتبه الأمر فيه كالحب والبغض، وتخريج أحاديث في ذلك 178-181
ومنها: الشهوات والمثيرات لها 180-181
النظر إلى المحرمات أو النساء 180-181
الغضب 181
فصل [مهم]: فقه الأوصاف الباطنة السيئة كالكبر والحسد....
واليقين والخوف أي المقصود اكتسابها 182-183
المسألة الرابعة 184
قسما الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها
ما كان نتيجة عمل وما كان فطريا 184
تعلق الجزاء بها 184
الفطري منها ما هو محبوب أو مبغوض للشارع والنظر فيه 184-190
فصل: ويصح تعلق الحب والبغض بالأفعال كما هو في الذوات والصفات190(37/276)
ص -564-…تنبيه على كتب أبي الليث السمرقندي ومن على شاكلته 191
تعلق الثواب والعقاب على الصفات المطبوعة والأوجه في ذلك مع الأدلة 193
الكلام في الصفات 194
- فما بعد الأجور على المصائب 201
المسألة الخامسة: 204
الكلام على التكليف الشاق وبما لا يطاق
مذاهب العلماء والفرق فيها 204-206
نقل عن ابن القيم في الموضوع 204-206
النظر في معنى الشاق من أربعة أوجه اصطلاحية 207
أحدها: أن يكون في مقدور المكلف 207
الثاني: أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد
ومنها ما يكون خاصا بأعيان الأفعال المكلف بها ومنها ما لا يكون خاصا 207-208
الثالث: أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في
تعب النفس 209
الرابع: أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله 209
توضيح في المسائل التالية:
المسألة السادسة 210
لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق الإعنات 210
الاستدلال على ذلك:
أولا: بالنصوص 210-212
ثانيا: ما ثبت من مشروعية الرخص 212
ثالثا: الإجماع على عدم وقوعه 212-213
المسألة السابعة: 214
قصد الشارع للتكليف بما فيه كلفة ومشقة وإن كان لا يسمى
في العادة المستمرة كذلك 214
أقسام المشاق: قسم لا تنفك عنه العبادة وقسم تنفك 214
تفرعات القسم الثاني 214
لفظ التكليف جاء في معرض النفي 215-216(37/277)
ص -565-…مناقشة هذا القول 215
الجواب على المناقشة 216
توضيح حول ما يقصد به المكلف المشقة لا الأجر والثواب 217-221
فصل: توضيح قصد المكلف المشقة، وهل الأجر على قدرها؟ 222-229
فصل: الأفعال المأذون فيها وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها
مشقة معتادة أو غير معتادة وقصد الشارع إلى المشقة فيها 229
من كان يخشى على نفسه الفساد من الدخول في العمل 230
من لم يخش على نفسه وظن خلاف ذلك 231
اعتياد المشقة التي هي في الأصل غير معتادة 232
فصل: أسباب رفع الحرج عن المكلفين 233
أولا: الخوف للانقطاع عن العبادة
ثانيا: خوف التقصير عند مزاحمة الأعمال 233
تخريج حديث: "إن هذا الدين متينٌ" 236-239
احتمال المشقة في الصالحات وأمثلة من اجتهاد السلف 242-244
فصل: المكلف مطلوب بأعمال ووظائف لا بد منها.... فإذا أوغل في
عمل شاق فربما قطعه عن الوظائف التي هي إما حقوق لله
أو حقوق للعبيد 247
تأكيد علة النهي عن الإيغال في العمل 250
أقسام الناس في الحظوظ
أحدها: أرباب الحظوظ 251
عدم الترخص في موضع الترخص 251-252
السير مع الحظوظ مطلقا 252
الثاني: أهل إسقاط الحظوظ 255
فصل: المنهي عنه المسبب عنه مشقة أولى بالنهي 255
الكلام في الصفات 257-260
فصل: المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه
ولا بسبب دخوله في عمل 260
الإذن إلى دفعها ومراتبه 260(37/278)
ص -566-…المسألة الثامنة:
مخالفة الهوى شاق، وقصد الشارع إخراج المكلف عن اتباع هواه 264
المسألة التاسعة:
انقسام المشقات إلى دنيوية وأخروية، والمشقات إذا أدت
إلى تعطيل عمل شرعي آخر 265
المسألة العاشرة:
المشقات الخاصة والعامة 266
تعارض المشقات والترجيح بينها 267
المسألة الحادية عشرة 268
العرف والمشقة 268
رفع الاعمال التي ترافقها مشقة غير معتادة 268-269
اختلاف المشقات 269-271
مشقات الإيمان 270
الحرج في الدين 272-273
فصل: الحرج العام والحرج الخاص ومناقشة ابن العربي 273
المسألة الثانية عشرة: 279
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق
الأوسط الأعدل وتقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال 279
تدرج خطاب الشرع في التكليف وأمثلة على ذلك 279
سبب نزول قول الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم على لاتقنطوا...} 283
ذم الدنيا، والدعاء بكثرة المال لبعض الصحابة 284
جزاء المؤمنين في الآخرة 284
فصل: الشريعة حاملة على التوسط والميل عن التوسط
لأحد الطرفين إنما هو لمعنى مقصود 286-287
كيفية معرفة التوسط 287
النوع الرابع:
في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة 289(37/279)
ص -567-…المسألة الأولى: 289
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه 289
أدلة ذلك:
أولا: النص الصريح على أن العباد خلقوا للعبادة 289
ثانيا: ما دل على ذم مخالفة هذا القصد 290
كل موضع ذكر فيه الهوى في القرآن فهو في موضع الذم 291-292
ثالثا: ما علم أن الاسترسال مع الهوى لا يحصل بسببه المصالح 292
إرجاع انهيار الحضارات إلى الأهواء 292
هل يمكن تصور وضع الشرائع للعبث 293-294
فصل: قواعد ينبني عليها ما سبق 295
منها: بطلان العمل المبني على الهوى دون التفات لأمر أو
لنهي أو تخيير في المعاملات والعبادات 295-296
علامة الفرق بين العمل المبني على الهوى دون الالتفات
للأمر وغيره وبين ما هو متبع للأمر أو ما ينوب مكانه 297
فصل: منها اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن
المحمود، لأسباب 298
أنه سبب تعطيل الأحكام 298
اعتياد النفس على الهوى
التذاد النفس بالهوى 298
فصل: اتباع الهوى مظنة للاحتيال بالأحكام الشرعية على أغراضه 299
أصل ابتداع الفرق الضالة، إنما هو الهوى 299
المسألة الثانية
المقاصد الشرعية: مقاصد أصلية ومقصاد تابعة 300
المقاصد الأصلية: لا حظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرة
في كل ملة 300
كونها عينية على كل مكلف 300
أو كفائية 301
المقاصد التابعة وهي التي روعي فيها حظ المكلف 302 -303
حكمة الشرع في خلق الشهوات ووضع الفطر في الإنسان 303(37/280)
ص -568-…المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية 303
المسألة الثالثة: 305
أقسام الضروريات:
ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود 305
ما ليس في حظ عاجل مقصود 305
أمثلة عليها وتوضيح لها 305-306
الصناعات والحرف من فروض الكفاية 306
القيام بالمصالح لحظ النفس وبواسطة الحظ في الغير 307
فروض الكفاية وحظوظ النفس 308
فروض الأعيان وحظوظ النفس 309
فصل: ما ليس للمكلف حظ بالقصد يحصل له فيه حظه
بالقصد الثاني، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل
فيه العمل المبرأ من الحظ 310-311
بيان ذلك 311-312
فصل: بالنظر إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف
بالنسبة إلى قسم
الكفاية نجد الاعمال أقساما ثلاثة:
الأول: لا حظ فيه للمكلف معتبر بالقصد الأول 312
الثاني اعتبار حظوظ المكلف 312
الثالث: قسم متوسط بينهما يتجاذبه الطرفان كولاية أموال الأيتام 312-313
المسألة الرابعة:
المباح المأذون فيه وصيرورته عبادة وعملا لله خالصا إذا خلصه
العبد من الحظوظ 314
الاعتراض على المصنف في إيراد المسألة هنا وحقه إيرادها
في قسم مقاصد الشرع بالتكليف والإجابة عن الإشكال 314
هل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا بالقصد؟ يحتمل وجهين 314
الأول: أن يقال إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في
القصد؛ وهو القيام بعبادة من العبادات المختصة بالخلق
في إصلاح أقواتهم ومعايشهم 315
صور من أفعال السلف في هذا الوجه 315
الثاني: أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ 319(37/281)
ص -569-…أمثلة على هذا الوجه من افعال السلف 319
المسألة الخامسة: 328
العمل على وفق المقاصد الشرعية يقع إما على
المقاصد الأصلية؛ وهي هذه المسألة، وإما
على وفق المقاصد التابعة؛ وهي المسألة التالية 328
ما كان على المقاصد الأصلية فلا إشكال في صحته
وسلامته مطلقا 328
ينبني عليه قواعد وفقه كثير حصول الإخلاص في العمل
وصيرورته عبادة وبيان ذلك 328
مناقشات حول ذلك كعمل الرهبان والفرق الضالة حكم
أهل الأهواء 335-336
فصل: به تصير تصرفات المكلف كلها عبادات 337
كنحو مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 337-338
فصل: بنقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب 339
فصل: تحريه من المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده
الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة 340
فصل: يصير الطاعة أعظم ومعصيتها أعظم 343
فصل: قاعدة أصول الطاعة وجوامعها راجعة إلى اعتبار
المقاصد الأصلية وكبائرالذنوب وجدت في مخالفتها 343
المسألة السادسة:
قد تصاحب المقاصد الأصلية العمل الواقع على وفق المقاصد
التابعة وقد لا يصاحب والمصاحب بالامتثال وإلا فالهوى 344
المصاحب بالفعل 344
بيان كون المكلف عاقلا بالحظ والامتثال، أمران: 344
أحدهما: أنه لو لم يكن كذلك لم يجز لأحد أن يتصرف أمر
عادي حتى يكون القصد مجرد الامتثال 345
حكم الذبح للجن والذبح للسلطان وتخريج حديث في ذلك
وإثبات وجود الجن 346-347
النهي عن معاقرة الأعراب ومعنى الحديث 347-348
النهي عن طعام المتباريين 348-349(37/282)
ص -570-…ثانيهما: إذا كان القصد إلى الحظ ينافي الأعمال
العادية لكان العمل بالطاعات رجاء دخول الجنة أو
الخوف من النار؛ كان عملا بغير الحق، وبيان بطلان
ذلك بالأمثلة 350
مناقشة هذا وإبطال الأعمال بهذا القصد 353
الجواب عن الإيرادات وتقسيم العبادات 357
فصل: قسما الحظ المطلوب بالعبادات: 360
الأول: يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند
الناس وتفصيل فيما إذا كان تابعا أو متبوعا 360
الثاني: يرجع إلى نيل حظه من الدنيا
هذا قد يكون مراءاة، وقد يكون لحظ نفسه دون
مراءاة 361-362
الثاني: ما يرجع إلى حظ نفسه دون مراءاة
وأمثلة عنه، وذكر موطن الخلاف فيه وهي ما
يسمى بمسألة الانفكاك 364
قصد العبادة مع العبادة 372
من حظوظ النفس قصد المراءات وهو باطل 373
فصل: العمل يكون إصلاحا للعادات الجارية بين
الناس وهو حظ مراعىً من الشارع 373
وهو لا يستوي مع العبادات في اشتراط النية 374
قد صح الامتنان به في القرآن 374
الاعتراض بأن التجرد للحظ هنا قادح، ومناقشة ذلك 375
فصل: المقصود بالصحة والبطلان هنا 379
المسألة السابعة: 380
ضربا المطلوب الشرعي والنيابة فيهما
الأول: العادات الجارية بين الخلق
الثاني: العبادات اللازمة إن اختصت حكمتها بالمكلف 380
النيابة في الأول صحيحة إلا إذا اختصت حكمتها بالمكلف 380-381
الثاني: لا تصح النيابة فيه 381
الأدلة على ذلك:
الأول: النصوص الدالة على ذلك 381-382(37/283)
ص -571-…الثاني: المقصود من العبادات الخضوع لله 383
الثالث: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في
الأعمال القلبية 383-384
فإن قيل: جاءت نصوص تدل على خلاف ما أصلتم 385
ثانيا: قاعدة الصدقة على الغير 387
ثالثا: تحمل العاقلة الدية في قتل الخطأ 388
استغفار النبي لأبويه 388-389
الاستغفار لأموات المشركين وأحيائهم 390
رابعا: النيابة في الأعمال الدبنية -غير العبادات-
صحيحة، وكذلك بعض العبادات البدنية 390-391
خامسا: قد يجازى الإنسان على ما لم يعمل
أ- كالمصائب النازلة 391
ب- النيات التي تتجاوز الأعمال 392
الجواب على هذه الإيرادات إجمالا 395
ثم بالتفصيل 396-397
التنبيه على أن المشكل هو الأحاديث التي هي معارضة للقاعدة والإجابة عنها:
أولا: الأحاديث فيها مضطربة وتوضيح ذلك 397
ثانيا: اختلاف العلماء في تفسيرها 398
ثالثا: هناك من تأولها بترك اعتبارها مطلقا 399
رابعا: احتمال الخصوصية 399
خامسا: حمل بعض الأحاديث على ما تصح النيابة فيه 399
سادسا: مع قلة هذه الأحاديث فهي معارضة لأصل ثابت 400
فصل: مسألة هبة الثواب 400
أدلة من منع هبة الثواب 401
الأول: الهبة صحت في شيء مخصوص في المال 401
الثاني: العقاب والثواب وضعها الشارع كالمسببات
إلى الأسباب 401
أدلة من أجاز:
الأول: إذا جاز بالمال فالقياس يدخلها أو العموم 402(37/284)
ص -572-…ثانيا: إذا كانت كالمسببات مع الأسباب صح الملك فيها
والتصدق فيها 402
مناقشة حول الموضوع 402-403
المسألة الثامنة: 404
من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها 404
فصل: حكم إلزام الصوفية أنفسهم من الأوراد وغيرها 405
المشقة قسمان: قسم يدخل من شدة التكليف وقسم من
جهة المداومة عليه 405
المسألة التاسعة 407
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة لا يختص بحكم من
أحكامها بعض دون بعض 407
الاستدلال: أولا: بالنصوص المتضافرة 407
ثانيا: وضع الأحكام ومصالح العباد يقتضي هذا وإلا لم
تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق: 408
الاستثناءات لا تضر 409
ثالثا: الإجماع 410
رابعا: لو جاز خروج بعض المكلفين في الأحكام لجاز في
قواعد الإسلام 411
فصل: فوائد المسألة 412
أولا: إثبات القياس: 412
ثانيا: حسن الظن بالصوفية 412-413
مناقشات للمصنف في هذه الدعوى 413-414
المسألة العاشرة:
كل مزية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فقد
أعطيت أمته بعضا منها 415
توضيح ذلك:
أولا: بالوراثة العامة 416
ثانيا: ذكر ثلاثين مثلا يوضح المقصود.... سردها 416-438
فصل: ما ينبني على ما سبق من قواعد 438
جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات
والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما
هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه
وسلم لكن على مقدار الاتباع 438(37/285)
ص -573-…ذكر كرامات لصالحي الأمة وصحابتها وإظهار أنها من
مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم 438
فصل: تبيان أن كل كرامة أو خارقة ليس لها أصل في
كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم فهي غير صحيحة 444
تبيان ذلك بالأدلة والتمثيل من خوارق أهل الفلك
والأحكام النجومية 444-445
الدعاء عبادة 446
طبائع الأحرف 446
فصل: تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى
الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح
والكشف الواضح والرؤيا الصالحة 446
إثبات ذلك بالأحاديث 447
ومن عمل الصحابة 454
نسبة كتاب تفسير الأحلام المشهور 456
المسألة الحادية عشرة 457
مراعاة ما سبق تكون إلا أن تخرم حكما شرعيا
أو قاعدة دينية 457
الحكم بالشهادة والعلم أو الرؤيا 457
أمثلة من السلف إثباتا ونفيا 458
الخوارق والمكاشفات عند الأولياء 462
قياس الخوارق بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم 463
الخضر وموسى 463-466
استناد الحكايات عن الأولياء نص شرعي وهو طلب
اجتناب حزاز القلب 466
أين يجوز العمل بالمكاشفات على الشرط السابق؟ 471
أحدها: العمل في أمر مباح 471
الثاني: أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها 471
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في
الصلاة من وراء ظهره 472-473
الثالث: أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد بكل عدته 473
المسألة الثانية عشرة: 475
عموم الشريعة إلى المكلفين جميعا، في كل
أحوالهم، وفي عالم الغيب والشهادة(37/286)
ص -574-…وحكم الظاهر والباطن يرد إلى الشريعة 475
الدليل على ذلك أمور: 475
أولا: ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة 475
ثانيا: الشريعة حاكمة لا محكوم عليها
ثالثا: مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها 475
الخوارق مواهب من الله لا قدرة للإنسان على كسبها ولا
على دفعها 477
فصل: كل خارقة إلى يوم القيامة لا يصح ردها ولا قبولها إلا
بعد عرضها على أحكام الشريعة 481
تبيان ذلك 482
المسألة الثالثة عشرة: 483
التكليف مبني على استقراء عوائد المكلفين 483
مجاري العادات في الوجود أمر معلوم في الكليات لا مظنون،
وأدلة ذلك: 483
أولا: الاستقراء في الشرائع إنما جيء بها على ذلك 483
ثانيا: الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها
دائمة غير مختلفة 483
ثالثا: لولا إطراد العادات لما عرف الدين من أصله 484
قيل: بل الإطراد مظنون في أفضل أحواله، وأدلته 485
الإجابة على هذا 485
المسألة الرابعة عشرة
ضربا العوائد المستمرة 488
أولا: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي 488
ثانيا: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل 488
ثبوت العوائد الشرعية كسائر الأمور الشرعية 488
قد تتبدل العوائد الثابتة وذكر أمثلة للثابتة والمستبدلة 489
المستبدل: كغطاء الرأس من حسن إلى قبيح 489
أو تغير التعبير عن المقاصد 489 -490
أو تغير الأفعال في المعاملات كالنكاح 490
أو أمور خارجة عن المكلف كالبلوغ 491(37/287)
ص -575-…أو أمور خارقة للعادة 491
فصل: اختلاف العوائد وأصل الخطاب وثبات الشريعة 491
المسألة الخامسة عشرة:
العوائد الجارية في الضربين السابقين ضرورية الاعتبار شرعا 493
التدليل عليها من أربعة أوجه 493-495
فصل: انخراق العوائد المعتبرة شرعا لا يقدح في انخراقها،
ذكر أمثلة متنوعة عنها 495
فصل: المكاشفات وأهلها وحكم الرجوع إلى أحكام العموم
والإحالة على المسألة الثانية عشرة 501
الاستدلال على ردهم إلى حكم أهل العوائد الظاهرة: 501
أولا: أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم
تنتظم لها قاعدة 501-502
ثانيا: أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه 502
ثالثا: عموم الشريعة، لا يجوز للوالي مخالفة الشريعة؛
لأنه داخل في عمومها 502-503
رابعا: أن أولى الخلق بالخروج عن أحكام العموم النبي
صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولم يقع منهم ذلك 503-504
خامسا: أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة
للضوابط الشرعية فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر 505
الاطلاع على المغيبات لا يمنع من الجريان على مقتضى
الأحكام العادية 506
الدخول في الأسباب تأدبا بآداب النبي صلى الله عليه وسلم 507
الخضر هل هو نبي؟ 507
كل ما اطلع عليه من أمور الغيب، فهو على ضربين: 508
إما مخالف لظواهر الشريعة، وإما غير مخالف، وتنبيه
على حكم العمل بهما 508
المسألة السادسة عشرة: 509
العوائد بالنسبة إلى وقوعها في الوجود ضربان: 509
الأول: العوائد العامة التي لا تختلف باختلاف الأعصار
والأمصار والأحوال 509
الثاني: العوائد التي تختلف 509
يقضى بالأول على جميع الأعصار متقدمها ومتأخرها،
والثاني لا يقضى به على من تقدم البتة حتى يأتي دليل
على الموافقة من خارج 509(37/288)
ص -576-…الاعتراض على المصنف بتعارضها مع المسألة الرابعة عشرة 509-510
فائدة المسألة 510
المسألة السابعة عشرة: 511
وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظمان بحسب عظم
المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها الاستدلال على ذلك
بالوعيد على انتهاك الضروري بخلاف التكميلي والحاجي 511
أقسام المصالح والمفاسد:
الأول: ما به صلاح العالم وفساده
الثاني: ما به كمال الصلاح أو الفساد 511
التمثيل على ذلك 512
المسألة الثامنة عشرة: 513
الأصل في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإنما
هو التعبد، والعادات الأصل فيها المعاني 513
الاستدلال على العبادات وأن الأصل فيها ما ذكر:
أولا: استقراء الادلة 513
ثانيا: لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما
حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا واضحا كما
نصب على العادات 514
ثالثا: عدم اهتداء العقول في أزمنة الفترات لأوجه
التعبدات كنحو اهتدائهم لأوجه معاني العادات 518
فصل: أدلة الالتفات إلى المعاني في العادات: 520
أولا: استقراء أدلة الشرع 520
ثانيا: التوسع في تبيان العلل والحكم في هذا الباب 523
ثالثا: علم أهل الفترات بمعاني العادات والالتفات إليها 524
فصل: لا بد من وجود عادات فيها تعبد ولا بد من
التسليم لها 525
علة بعض العادات مجرد الانقياد 526
الكوع وتفسيره 526-527
أصل سد الذرائع والنظر فيه 527(37/289)
ص -577-…الأول: من جهة تشعبه 527
الثاني: من جهة ضوابطه 528
المسألة التاسعة عشرة: 529
كل ما ثبت اعتبار التعبد فيه فلا تفريع "قياس" عليه،
وكل ما ثبت فيه اعتبار المعنى دون التعبد فلا بد فيه من
اعتبار التعبد لأوجه: 529
الأول: معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث
هو مكلف، عرف المعنى الذي شرع لأجله الحكم أو لم يعرف 529
هو لازم على رأي من قال بالحسن والقبح العقليين!! 530
الثاني: فَهْمُ حكمة من حكم شرع الحكم لا يمنع أن تكون
ثَمَّ حكمة أخرى 530
الثالث: انقسام المصالح في التكليف على قسمين:
الأول منهما: ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة
كالإجماع 532
الثاني: ما لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالوحي فقط 533
الرابع من الأوجه: إذا جاز القصد إلى التعبد مع جواز اجتماع
التعبد والالتفات إلى المعاني 534
الخامس: كون المصلحة تقصد بالحكم والمفسدة كذلك
مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة
نفي التحسين والتقبيح 534-535
- حق الله في التكاليف وحق العباد 535
- قاعدة النهي يقتضي الفساد 536
السادس: لو حصل الثواب بغير نية لأثيب الغاصب إذا أخذ
منه المغصوب كرها 537
هل يلزم أن يفتقر كل عمل إلى نية؟ 537
فصل: نتيجة ما سبق أن الفعل غير خالٍ من حق لله
وحق العبيد معا 538
فصل: الأقسام الثلاثة للأفعال بالنسبة إلى حق الله
وحق الآدمي 539
الأول: حق الله الخالص 539
الثاني: ما هو حق لله وحق العبيد -مشتمل عليهما-
والمغلب فيه حق لله 540
الثالث: ما اشتركا أيضا ولكن حق العبيد هو المغلب 541
فائدة هذا القسم معرفة سبب من صحح العمل
المخالف بعد الوقوع 542(37/290)
ص -578-…المسألة العشرون: شكر النعم والاستمتاع بها 543
خلقت الدنيا ليظهر فيها أثر القبضتين ومبنية على بذل
النعم للعباد 543
تواتر أحاديث القبتضتين 543
اقتضاء ذلك أن تكون الشريعة عرفتنا بيان وجه الشكر
في كل نعمة، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا 543
وضوح ذلك في الاستدلال 543
تفسير الشكر 544
تعلق حق الله في العاديات ثلاثة أقسام: 546
الأول: من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات 546
الثاني: من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق
الثالث: وهو تتمة الثاني: إجراء المصلحة على وفق
الحكمة البالغة 546
حق العبيد أيضا له نظران:
من جهة الدار الآخرة والثواب عليه
ومن جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها 547
الاستدراكات 549(37/291)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الثالث
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(38/1)
ص -7-…[بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]1
[القسم الثاني من الكتاب]2:
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف وفيه مسائل
المسألة الأولى3:
إن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات، والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وأثبتناه من "ط".
3 تعرض المصنف هنا لنظرية "الباعث" أو"الدافع"، وهذا ما ركز عليه ابن تيمية في فقهه عموما، وترى ذلك في "الفتاوى الكبرى" "3/ 227"، و"مجموع الفتاوى" "18/ 256 وما بعدها 26/ 23 وما بعدها" له، وفي ترجمة أبي زهرة له أيضا "ص50 وما بعدها"، وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم، ويستطيع الباحث أن يقرر أن الذي أصله المصنف هنا هو عين ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية قبله؛ إذ جعل الباعث أو الدافع أصلا معنويا عاما تنهض به أدلة لا تحصى كثرة، حيث يقول في "إعلام الموقعين" "3/ 95-96": "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن "المقاصد" والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما [في الأفعال]، وصحيحا أو فاسدا [في العقود]، وطاعة أو محرمة [في العبادات]، أو صحيحه أو فاسدة"، ثم يشير إلى عين ما أشار إليه المصنف من أن الأدلة على هذا الأصل تفوت الحصر، ويأتي بالأدلة التفصيلية من القرآن والسنة في موضوعات شتى، تفيد بمجموعها إقامة هذا الأصل المعنوي العام على سبيل القطع.
هذا ويؤكد الإمام ابن القيم هذا المعنى في غير ما موضع من موسوعته الفقهية "إعلام =(38/2)
ص -8-…ويكفيك منها أن المقاصد1 تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب، وفي العادات بين الواجب والمندوب، والمباح والمكروه والمحرم، والصحيبح والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة2، ويقصد به شيء آخر، فلا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الموقعين" حيث يقول "3/ 109-110": "وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده [قضاء]، وفي حله وحرمته [ديانة]، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد، تحليلا وتحريما؛ فيصير حلالا تارة، وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافهما"، ويأتي بالأمثلة التطبيقية من أحكام الشريعة المستقاة من النصوص التفصيلية على ما يقول؛ كالذبيح الذي أهل ذبحه لغير الله، وكذلك الحلال "غير المحرم" يصيد الصيد للمحرم، فيحرم عليه، ويصيده للحلال؛ فلا يحرم عليه، وصورة الفعل واحدة، وإنما اختلفت "النية والقصد"؛ أي: الباعث.
ويقول أيضا "3/ 82": "القصد روح العقد ومصححه ومبطله؛ فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ...."، ويقول "2/ 111": "النية روح العمل وقوامه، هو تابع لها في الحكم؛ يصح بصحتها، ويفسد بفسادها"، ويظهر هذا في كلامه على إبطال الحيل، وسيأتي بيان ذلك في موطنه من هذا الكتاب في القسم الخامس منه. انظر التعليق على المسألة "المسألة العاشرة" من الطرف الأول منه.
1 انظر في الذي سيذكره المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 207"، و"الذخيرة" "1/ 236- ط مصر"، و"الحطاب على خليل" "1/ 234"، و"الأشباه والنظائر" "ص12" للسيوطي.(38/3)
2 كما تقدم في العادات المغلب فيها حق العبد، تكون عبادة بالنية، فإذا فقدت النية خرجت عن كونها عبادة؛ كالمباحات يأخذها من جهة الإذن الشرعي أو من جهة الحظ الصرف، والصلاة والعبادات يقصد بها الامتثال تكون عبادة، والرياء والجاه فتكون معصية. "د".
قلت: ومن الأمثلة على أن النية تؤثر في الفعل؛ تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة الذبح؛ فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لله، ويحرمه إذا ذبح لغيره، والصورة واحدة.
والرجل يشترى الجارية لموكله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحدة، وقال ابن القيم في كتاب "الروح": "الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجا والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأديب، وحب الدعوة إلى الله وحب الرياسة، وعلو أمر الله والعلو في الأرض، والعفو والذل، والتواضع والمهانة، والموجدة والحقد، والاحتراز وسوء الظن، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، والتحدث بالنعم شكرا والفخر بها، فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد".
انظر: "منتهى الآمال" "ص117-118" للسيوطي، و"مقاصد المكلفين" "ص71".(38/4)
ص -9-…كذلك، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا، كالسجود لله أو للصنم.
وأيضا؛ فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها؛ كفعل النائم والغافل والمجنون.
وقد قال تعالى1: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ} [النحل: 106].
وقال: {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
[وقال]2: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [لِتَعْتَدُوا]3} [البقرة: 231] بعد قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].
[وقال]2: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]
[وقال]2: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [الآية]2. إلى قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع لأصل الدعوى، وبيان اعتبار النية في العبادات والعادات. "د".
2 في جميع المواضع المعقوفات زيادة من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(38/5)
ص -10-…{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمريء ما نوى......" إلى آخره1.
وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله"2.
وفيه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك [معي] فيه شريكا؛ تركت نصيبي لشريكي"3.
وتصديقه قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وأباح عليه الصلاة والسلام4 للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 355"
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، 1/ 222/ رقم 123، وكتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 6/ 27-28/ رقم 2810، وكتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، 6/ 226/ رقم 3126، وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، 13/ 441/ رقم 7458"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، 3/ 1512-1513/ رقم 1904" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله/ رقم 2985" بلفظ: "تركته وشركه"، وما بين المعكوفتين سقط من الأصل.(38/6)
4 وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم، ما لم يصيدوه أو يصد لكم"، وعند بعضهم: "لحم صيد البر..." أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، 3/ 203-204/ رقم 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، 5/ 187"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، 2/ 428/ رقم 1851"، والشافعي في "المسند" "رقم 839 – ترتيبه"، وأحمد =(38/7)
ص -11-…....................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "المسند" "3/ 362"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 180"، والطحاوي في "شرح ومعاني الآثار "2/ 171"، وابن حبان في "صحيحه" "9/ 283/ رقم 3971 – الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 452، 476"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 190"، وابن عبد البر في "التمهيد" "9/ 62"، والبغوي في "شرح السنة" "7/ 263 – 264/ رقم 1989" من طرق عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب عن جابر به مرفوعا.
وإسناده ضعيف، وفيه علل:
الأولى: الانقطاع بين المطلب وجابر.
قال الترمذي عقبه: "المطلب لا نعرف له سماعا من جابر".
وقال أبو حاتم في "المراسيل" "ص210": "عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من جابر"، وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل"، وقال البخاري: ""لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الدارمي: "لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة"، كذا في "التلخيص الحبير" "2/ 276".
الثانية: ضعف عمرو بن أبي عمرو.
قال النسائي عقبه: "عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان هو روى عنه مالك"، وقال ابن حزم في "المحلى" "7/ 253": "خبر ساقط؛ لأنه عن عمرو بن أبي عمرو، وهو ضعيف".
الثالثة: اضطراب عمرو بن أبي عمرو فيه.
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 191" "فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه".
قلت: واضطراب عمرو بن أبي عمرو في هذا الحديث على النحو الآتي:
- أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 189" ثنا سريج ثنا ابن أبي الزناد عن عمرو بن أبيي عمرو أخبراني رجل ثقة من بني سلمة عن جابر.(38/8)
- وأخرجه الشافعي في "المسند" "1/ 323"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290 – 291" من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن =(38/9)
ص -12-…يصد له1، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه.
لا يقال: إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة؛ فليست معتبرة بإطلاق2، وفي كل حال، والدليل على ذلك أشياء:
- منها: الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع؛ إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه؛ فهو غير قاصد لفعل ما أمر به؛ لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح، وإذا لم يصح، كان وجوده وعدمه سواء، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول، ويتسلسل أو يكون الإكراه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أبي عمرو عن رجل من بني سلمة "وفي روايات: عن رجل من الأنصار" عن جابر.
وأخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 290" من طريق الدراوردي عن سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171" عن ابن أبي داود ثنا ابن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد ثني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
الرابعة: الكلام في المطلب؛ فهو مختلف فيه، وإن كان من رجال "الصحيحين"، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "2/ 276".
وأقوى العلل الأولى، وأضعفها الأخيرة، وقد أجيب عن الثانية بكلام ضعيف، وعن الثالثة بكلام فيه نوع قوة؛ إذ أقام بعض الثقات ممن روى عن عمرو إسناده، وإليه أشار الشافعي وتبعه البيهقي.
وعلى آية حال، الإسناد ضعيف، وقد عزاه ابن حجر في "التلخيص" ل "أصحاب السنن" وهو ليس عند ابن ماجه، والله الموفق.
1 أي: فللقصد دخل في الحل والحرمة. "د".
2 في الأصل: "على الإطلاق"، وفي "ط": "بمعتبرة بإطلاق.(38/10)
ص -13-…عبثًا1: وكلاهما محال، أو يصح2 العمل بلا نية، وهو المطلوب.
- ومنها أن الأعمال ضربان: عادات، وعبادات، فأما العادات؛ فقد قال الفقهاء: إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية، بل مجرد وقوعها كاف؛ كرد الودائع والغصوب3، والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها؛ فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات؟ وأما العبادات؛ فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها؛ فقد قال جماعة من العلماء4 بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن الإكراه إما أن يتسلسل، وإما أن يقف عند حد دون أن يحصل غرض الشارع من الفعل امتثالا؛ فيكون الإكراه الذي حصل عبئا لم يفد مقصود الشارع، والعبث من الشارع محال؛ كما أن التسلسل في ذاته محال؛ فلم يبق إلا أن يكون العمل صحيحا مؤديا غرض الشارع بدون النية؛ فلا يتم الأصل المدعى. "د".
2 في الأصل: "فيصح".
3 في "د": "والمغضوب".
4 هم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية، وكذلك الغسل، وزاد الأوزاعي والحسن: التيمم، قاله العيني في "عمدة القاري" "1/ 36"، واختلف على الأوزاعي فيه اختلافا شديدا، انظره عند ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370".
انظر في المسألة: "المبسوط" "1/ 72"، و"أحكام القرآن" "3/ 23"، و"معالم التنزيل" "2/ 218 - ط دار الفكر"، وانظر في الرد على من لم يشترط النية للوضوء والغسل: "الطهور" "ص201 – 207 بتحقيقي" لأبي عبيد، و"الخلافيات" "1/ مسألة رقم 7 – بتحقيقي" للبيهقي، و"المحلى" ""1/ 73"، و"المجموع" "1/ 312"، و"المغني" "1/ 91"، و"الأوسط" "1/ 369 وما بعدها"، و"بدائع الفوائد" "3/ 186-193"، و"إعلام الموقعين" "1/ 274-275، 2.293/ 287-3.288/ 122-124"، و"تهذيب السنن" "1/ 48".(38/11)
بقي بعد هذا تحرير مذهب مالك، نقل القرطبي في "تفسيره" "5/ 213 و15/ 233" عن الوليد بن مسلم عن مالك أنه كان لا يشترط النية في الوضوء، وحكى هذه الرواية عنه العيني في "العمدة" "1/ 36"، والباجي في "المنتقى" "1/ 52"، وابن العربي في "الأحكام" "2/ 559"، وأفاد ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370" أن الوليد حكاه عن مالك والثوري، وعقب عليه بقوله: : أما حكايته عن الثوري، فكما حكى لموافقته حكاية الأشجعي والعدني وعبد الرزاق والفريابيي عنه، وأما ما حكاه عن مالك؛ فما رواه أصحاب مالك عنه: وابن وهب وابن القاسم [في "المدونة" "1/ 32"] أصح، والله أعلم.(38/12)
ص -14-…الصوم1 والزكاة2، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة.
وفي الحديث: "ثلاث جدهن وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما سيأتي في التعليق على "ص19".
2 هو مذهب الأوزاعي، نظر إلى أن الزكاة عبادة مالية؛ فقاسها على إعادة الدين ورد العارية والمغضوب، هذا ونقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه"أصول الفقة" "ص324" أن مذهب جمهور الفقهاء: أن الزكاة لا يحتاج أداؤها إلى نية، وهو خطأ، انظر: "المجموع" "6/ 184".
نعم، تستثنى النية عند بعضهم كالحنفية استحسانا فيما إذا تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، وعللوا هذا الاستحسان بقولهم: "إن النية وجدت دلالة؛ لأن الظاهر أن من عليه زكاة لا يتصدق بجميع ماله، ويغفل عن الزكاة"، قاله الكاساني في "البدائع" "2/ 40"، وفي الهداية "2/ 492"، "الواجب عليه جزء منه، فكان متعينا فيه؛ فلا حاجة إلى التعيين"، وكذا زكاة الصبي والمجنون والمعتوه، وكذا ما قرره الفقهاء أن الممتنع من أداء الزكاة يكره على أدائها وتجزئ عنه.
انظر: "الأم" "1/ 18، 19"، "والمجموع" "6/ 190"، و"الأشباه والنظائر" "ص22" لابن نجيم، و"الإنصاف" "3/ 196" للمرداوي، و"إبراز الحكم من حديث رفع القلم" "ص84" للسبكي، و"مقاصد المكلفين" "ص325-328".
3 أخرجه أو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، 2/ 664/ رقم 2194"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 3/ 490/ 1184" وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا، 1/ 658/ رقم 2039"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1603"، والدارقطني في =(38/13)
ص -15-…وفي حديث آخر: "من نكح لاعبًا، أو طلق لاعبًا، أو أعتق لاعبًا؛ فقد جاز"1.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذز1"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "السنن" "3/ 256، 4.257/ 18-19"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 712"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "4/ رقم 54"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 219" من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين"، وتعقبه الذهبي؛ فقال: "فيه لين".
قلت: قال النسائي فيه: "منكر الحديث" ووثقه ابن حبان، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 210" عن عبد الرحمن بن حبيب: "وهو مختلف فيه، قال النسائي: "منكر الحديث"، ووثقه غيره؛ فهو على هذا حسن.
قلت: قوله "غيره" المراد به هو ابن حبان، وهو متساهل كما هو معروف؛ فإسناد الحديث ضعيف؛ إلا أنه صالح للشواهد، والحديث له شواهد كثيرة يجبر بها، ويصل إن شاء الله تعالى إلى درجة الحسن.
وانظر: الحديث الآتي، و"نصب الراية" "3/ 293 – 294"، و"التلخيص الحبير" "3/ 209"، و"الإرواء" "1826".
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 135/ رقم 10250" عن ابن جريج؛ قال: أخبرت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "من طلق أو نكح لاعبا؛ فقد أجاز"، وإسناده معضل.
وأخرجه أيضا برقم "10249" عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم؛ أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق وهو لاعب؛ فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب؛ فعتاقه جائز، ومن أنكح وهو لاعب؛ فنكاحه جائز"، وإسناده واه بمرة، إبراهيم هو الأسلمي، متروك، وفيه انقطاع.(38/14)
2 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1609، 1610"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 81- ط دار الفكر" من طريق الحجاج بن أرطأة عن سليمان بن سحيم عن سعيد بن المسيب به.
ورجاله ثقات؛ إلا أن الحجاج مدلس، وقد عنعن.
والأثر صحيح، له طرق عند عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 134/ رقم 10248"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 341".(38/15)
ص -16-…ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل1 به، وفي مذهب مالك2 فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أن صومه صحيح3، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام؛ فتنفل بعدها بركعتين، ثم تذكر أنه لم يتم أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة، وأصل مسألة الرفض مختلف فيها4؛ فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة5.
- ومنها: أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا، وهو النظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفتاوي الكبرى" "3/ 149".
2 نقل القرافي في "الذخيرة" "1/ 511 – ط مصر" البطلان عن مالك، وعند الشافعية قولان مشهوران، أصحهما لا يبطل، انظر: "المجموع" "6/ 331"، وما مضى "1/ 344" مع التعليق عليه.
3 هو وإن كان قولا ضعيفا يكفي في ترويج السؤال. "د".
4 انظر بسط الخلاف في "المجموع" 1/ 388، 3/ 250 و6/ 331-332"، و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"الحطاب على خليل" "1/ 240" و"الفروق" "1/ 204 و2/ 27" و"الذخيرة" "1/ 244، 511 – ط المصرية و1/ 217 و2/ 520- ط دار الغرب"، و"المحلى" "6/ 174"، و"مقاصد المكلفين" "ص239–242، وما مضى "1/ 344".
5 فالمدة التي وقع عليها الرفض عريت عن قصائد العبادة، وكذا الركعتان لم ينو فيهما الفرضية، ونية النفل لا تجزي عن نية الفرض عنده. "د".
قلت: عدم الإجزاء هو مذهب الجمهور، انظر: "المغني" "1/ 468"، و"المجموع" "3/ 251"، و"فتح الباري" "12/ 328"، و"المحلى" "3/ 232 و4/ 50".(38/16)
ص -17-…الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع، والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به؛ فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء؛ فكيف يقال: إن كل عمل لا يصح بدون نية؟ وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا.
لأنا نجيب عن ذلك بأمرين:
أحدهما أن نقول: إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان:
ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار، وهنا يصح أن يقال: إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا، قصد به امتثال أمر الشارع أو لا، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة؛ فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض، حسنا كان أو قبيحا، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك؛ فهؤلاء غير مكلفين؛ فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة؛ فليس هذا النمط بمقصود للشارع؛ فبقي ما كان مفعولا بالاختيار لا بد فيه من القصد، وإذ ذلك تعلقت به الأحكام، ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة، وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين؛ فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل أو غير ذلك؛ فيتنزل على ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار [وعدمه، وإما غير مقصود؛ فلا يتعلق به حكم على حال، وإن تعلق به حكم؛ فمن باب خطاب] الوضع لا من باب خطاب التكليف؛ فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن1 صححنا صومه؛ فمن جهة خطاب الوضع، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا، وكذلك ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وإن" بزيادة واو.(38/17)
ص -18-…في معناه.
والضرب الثاني: ليس من ضرورة كل فعل، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات؛ كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما؛ فلا إشكال فيه، وأما العادايات، فلا تكون تعبديات إلا بالنيات، ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه؛ فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة، بناء على منع التكليف بما لا يطاق، أما تعلق الوجوب بنفس العمل1؛ فلا إشكال في صحته لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله، بخلاف قصد التعبد بالعمل؛ فإنه محال، فصار في عداد ما لا قدرة عليه؛ فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا.
والثاني: من وجهي الجواب بالكلام على تفاصيل ما اعترض به.
فأما الإكراه على الواجبات؛ فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر؛ فلا يصح في عبادة2، إلا أنه قد حصلت فائدته فتسقط المطالبة به شرعا؛ كأخذ3 الأموال من أيدي الغصاب، وما افتقر منها إلى نية التعبد؛ فلا يجزيء فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة4 كالإكراه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي هو النظر؛ فهنا عمل وهو النظر الموصل للمعرفة وهو ممكن؛ فيتوجه التكليف به، وأما قصد الامتثال بهذا النظر؛ فغير ممكن لأنه لا يكون قصد الامتثال لأمر الله إلا بعد معرفة الله بهذا بالنظر؛ فصار القصد غير ممكن؛ فلا يخاطب به. "د".
2 في الأصل و"ط": "عادة".
3 في الأصل: "لأخذ".
4 قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "26/ 30" الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه.(38/18)
ص -19-…على الصلاة، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم؛ فلا يطالبه الحاكم بإعادتها لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد، فلم يطلبوا بالشق عن القلوب.
وأما الأعمال العادية –وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية-؛ فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال، وإلا كانت باطلة1، وبيان بطلانها في كتاب الأحكام، وما ذكر من الأعمال التعبدية؛ فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى؛ فالطهارة والزكاة من ذلك، وأما الصوم2؛ فبناء على أن الكف3 قد استحقه الوقت؛ فلا ينعقد لغيره، ولا يصرفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالمعنى الثاني المتقدم في مبحث البطلان، وهو عدم ترتب الثواب عليه في الآخرة. "د".
وقال"خ": "صرح القرافي في الفرق الخامس والستين بما أشار إليه المصنف هنا من أن أداء الديون وما يشابهه ليس فيه ثواب حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى، ووافقه أبو القاسم بن الشاط في حال ما إذا نوى المكلف سببا للأداء غير الامتثال؛ كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء، ثم قال: وإن عري عن نية الامتثال ونية غيره، ولم ينو إلا مجرد أداء دينه؛ فلقائل أن يقول: لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بسعة بابه، وهذا الوجه غير متين؛ فإن رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الدلائل قامت على أن ثواب العمل مرتبط بالتوجه إليه من حيث إنه مطلوب للشارع، والعمل الذي لا يصاحبه هذا القصد، فلا يصح أن نثبت لصاحبه ثوابا إلا بدليل خاص". قلت: في "ط": "باطلا".
2 مذهب الحنفية أن ما كان وقته معينا كرمضان والنذر المعين لا يشترط فيه التبييت ولا التعيين؛ حتى إذا قصد غيره كأن نوى برمضان قضاء رمضان الفائت، أو نوى بالنذر المعين قضاء رمضان أو نفلا؛ فإن الصوم لا ينصرف إلا لصاحب الوقت، ويصح. "د".(38/19)
قلت: ما ذكره المصنف هو مذهب عطاء ومجاهد وزفر من الحنفية، ذكر الكاساني في "بدائع الصنائع" "2/ 83" ما يمكن أن يحتج به لزفر؛ فقال: "النية إنما تشترط للتعيين، والحاجة إلى التعيين إنما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم، وهو صوم رمضان؛ فلا حاجة إلى التعيين بالنية". انتهى.(38/20)
ص -20-…قصد سواه، ولهذا نظائر في العاديات؛ كنكاح الشغار، فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقرر ابن رشد في "بداية المجتهد" "1/ 300" أن سبب الاختلاف في هذه المسألة ما ذكره المصنف، وهو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى كما قرر المصنف أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى؛ قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينوِ.
وما مضى من نقل يوضح المثال الذي ذكره المصنف، بقي بعد هذا أمران:
الأول: الجمهور يردون على الرأي السابق بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عموما، وأولى الشافعي في "الأم" "2/ 83" هذه المسألة اهتماما جيدا، وألزمهم بصورة قد تقع في الصلاة، ورد حجتهم في أن الصوم لا يحتاج إلى نية، لأنه معين بصورته؛ إذ له وقت محصور محدود، بأن هذا يمكن أن يقع في الصلاة؛ فوقت الصلاة قد يتضيق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بد للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيق من نية.
الثاني: أنكر الكرخي أن زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادعى أن مذهب زفر كمذهب مالك، جواز الصوم بنية واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إن زفر رجع عن ذلك لما كبر. انظر: "الهداية" "2/ 92".
انظر في المسألة: "المجموع" "6/ 336"، و"المحلى"" "6/ 161" و"غمز عيون البصائر" "2/ 78"، و"شرح ميارة على ابن كاشر" "ص341"، و"السيل الجرار" "1/ 20"، و"مقاصد المكلفين" "ص339-341"، وفيه اعتراض على توجيه المسألة على سبب الاختلاف الذي ذكره ابن رشد، وفي صنيعه هذا نظر، والله الموفق.
3 في الأصل: "التكلف".(38/21)
1 مذهب أبي حنيفة أن الوليين لو صرحا بأن يكون بضع كل صداقا للأخرى؛ صح العقد ووجب مهر المثل لهما، وهذا مبني على أن العقد يصح ولو مع نفي المهر عنده؛ فإن الشغار آيل إلى نفي المهر، ويظهر أن الأصل: "وإن قصدوه"؛ أي: قصدوا الشغار، أي: فقد قصدوا ضد النكاح الشرعي، ومع ذلك لم يبطل؛ لأن العقد يصرفه إلى الحقيقة الشرعية، فيصح ويلزم مهر المثل، ويكون الشرط باطلا وقد يقال قوله: "وإن لم يقصدوه"؛ أي: الوجه الذي يصح العقد، بل قصدوا ما ينافيه؛ فتكون العبارة صحيحة، إلا أنه يبقى الكلام مع المؤلف في التمثيل به لأنه إذا كان المهر غير ركن ولا شرط في صحة العقد، بل مع نفيه في صلب العقد يصح؛ فقصده وعدم قصده لا يفيد في موضوعنا. "د".(38/22)
ص -21-…وأما النذر والعتق وما ذكر معهما؛ فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه، والهازل كذلك؛ لأنه قاصد لإيقاع السبب1 بلا شك، وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات، وإما قاصد [أن لا يقع، وعلى كل تقدير؛ فيلزمه المسبب شاء أم أبى، وإذا قلنا بعدم اللزوم؛ فبناء] على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه2، وإنما3 قصد مجرد الهزل باللفظ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل وهو الإباحة أو غيرها، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن4؛ فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله، أو يقال5: إنه قاصد بالعقد –الذي هو جد شرعي- اللعب؛ فناقض مقصود الشارع؛ فبطل حكم الهزل فيه، فصار إلى الجد.
ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة؛ فالنية الأولى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مجرد اللفظ. "د".
2 إن كان مراده بغير قاصد لمعناه أنه غير قاصد لحصول المسبب عنه وهو الطلاق والعتق؛ فغير وجيه لما ذكره آنفا، وإن كان مراده غير قاصد لنفس المعنى الموضوع له اللفظ؛ فغير واضح ونية الهزل باللفظ لا تخرجه عن كونه فاهما معناه وملاحظا له، غايته أنه لا يكون قاصدا به حصول المسبب هذا ما يقتضيه الهزل؛ فهذا القول كما ترى. "د".
3 في الأصل: "وأما".
4 أي: وهي مسائل كما ترى لها آثار عظمى في النسب والحرية والالتزامات، يحافظ الشارع عليها أشد المحافظة؛ فيعمل أسبابها الظاهرة كما هي، ولا يقبل فيها محاولة الهزل لأنه أمر باطن؛ فيجب أن يحمل على الجد، وإلا لانفتح باب واسع يفسد العصم، ويضيع الحربة والالتزامات التي يلتزمها المكلف بالنذر، حتى تكون دعواه الهزل كأنها ندم على ما حصل. "د".
5 لا ينافي الوجه قبله، ويصح ضمه إليه وإعمالها معا. "د".(38/23)
ص -22-…مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي، وهو لم يكن1؛ فيصح الصوم، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة؛ لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنقل لغوا لم يصادف محلا وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض.
وأما النظر الأول؛ فقصد التعبد فيه محال، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "لم يقع".(38/24)
ص -23-…المسألة الثانية:
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع1، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة؛ إذ قد مر أنها موضوعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذا منع مالك في "المدونة" "4/ 253، 254" بيع الخشبة لمن يستعملها صليبًا، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا؛ كما يحرم بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد به قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وكذا لا يجوز في مذهب مالك بيع الجارية المملوكة من قوم عاصين يتسامحون في الفساد وعدم الغيرة، وهم آكلون للحرام ويطعمونها منه، ونص ابن فرحون في "التبصرة" "2/ 147" على حرمة بيع الدار لمن يعملها كنيسة، وفي "الشرح الكبير" للدردير مع "حاشية الدسوقي" عليه: "ويمنع بيع كل شيء علم أن المشتري قصد به أمرًا لا يجوز"، وذكر الأمثلة المتقدمة، وزاد: "وبيع أرض لتتخذ كنيسة أو خمارة"، و"النحاس لمن يتخذه ناقوسا"، وقيد ابن رشد أن الخلاف في هذا مقيَّد بما إذا علم البائع أن المشتري يفعل ذلك.
ويستفاد من كلام المصنف في هذه المسألة والتي تليها التوسع في تطبيق مبدأ الذرائع، وهو مبدأ يتجه اتجاهين: الأول اتجاه إلى الباحث على التصرف، والثاني اتجاه إلى مآل التصرف.
ومن الجدير بالذكر أن اعتبار القصد والباعث في العبادات والعادات أمر مجمع عليه ديانة؛ غير أن الخلاف بين الشافعية والحنفية من جهة، والحنابلة والمالكية من جهة أخرى في الطريقة التي يستدل بها على هذا؛ فذهب الأولون إلى أنه لا عبرة به إلا إذا دل دليل مادي ظاهر من العبارة تدرج في صيغة العقد، وأضاف الحنفية إلى ذلك أنه يعتبر أيضا إذا أمكن استخلاصه من طبيعة محل العقد، وتعينه طريقا إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، أما الآخرون؛ فيكتفون بكل ما يدل عليه من ظروف وقرائن.(38/25)
انظر: "الأم" "3/ 65 و6/ 198"، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص236 - ط الإفتاء" و"إعلام الموقعين" "3/ 92"، و"المغني" "9/ 331"، و"تبيين الحقائق" "4/ 190"، و"تبصرة الحكام" "2/ 14"، و"حاشية ابن عابدين" "5/ 250"، و"السيل الجرار" "3/ 23"، وكتابنا "المال الحرام وأحكامه" يسر الله إتمامه.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن نظرية الباعث التي فصل المصنف فيها القول لم يكتشفها التشريع الوضعي إلا في العصر الحديث، وقد سماها "نظرية السبب الحديثة"، والاجتهاد بالرأي في التشريع =(38/26)
ص -24-…لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع، ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة –هذا محصول العبادة-؛ فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأيضا؛ فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد؛ فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة؛ لأن الأعمال بالنيات، وحقيقة ذلك1 أن يكون خليفة الله في2 إقامة هذه المصالح بحسب طاقته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الإسلامي كان له فضل السبق في استنباطها على نحو كلي واسع، جعلها تنبسط بظلها على جزئيات وقوعية، ومعاملات جارية في المجتمع لا تحصى كثرة، مما يقيم الدليل البين على اعتبار الجزئي بالكلي، واعتبار الكلي بالجزئي كيلا يقع التخالف المحظور شرعا كما قدمنا، فضلا عن أنها نظرية جاءت توثيقًا وحماية لمقاصد التشريع.
هذا بالنسبة للتطبيق الذي ينهض به المكلفون عامة؛ امتثالا لأحكام التشريع، وتنفيذًا لها، أما بالنسبة للمجتهد بوجه خاص؛ فإن عليه أن يحدد "المقصد الشرعي" في حكم كل مسألة على حدة ليتمكن من تبين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتبارا للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي.
1 أي: حقيقة كون العبد مكلفا بالمحافظة على الضروريات، وما يرجع إليها أن يكون خليفة الله في إقامتها بمباشرته الأسباب الظاهرة التي رسمها الله تعالى في الشرائع وأودع في العقول إدراكها. "د".(38/27)
2 انظر في استخدام هذا اللفظ: "زاد المعاد" "2/ 37"، و"مفتاح دار السعادة" "ص165" -كلاهما لابن القيم- وقرر فيهما: إن أريد بإضافة "الخليفة" إلى الله سبحانه وتعالى أنه خليفة عنه؛ فالصواب منعه لأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأنه شاهد غير غائب، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله؛ فهذا لا يمتنع فيه الإضافة. وانظر: "معجم المناهي اللفظية" "ص156-157 - ط الأولى".(38/28)
ص -25-…ومقدار وسعه، وأقل ذلك خلافته على نفسه، ثم على أهله، ثم على كل من تعلقت له به مصلحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"1.
وفي القرآن الكريم: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
وإليه يرجع قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
وقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].
والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال: "الأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"2، وإنما أتى بأمثلة3 تبين أن الحكم كلي عام غير مختص؛ فلا يختلف عنه فرد من أفراد الولاية، عامة كانت أو خاصة؛ فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه قريبا.(38/29)
2 أخرجه البخاري في "صحيحة" "كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، 2/ 380/ رقم 893، وكتاب الاستقراض، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، 5/ 69/ رقم 2409، وكتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد، 5/ 181/ رقم 2558، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، 5/ 377/ رقم 2751، وكتاب الأحكام، باب قوله الله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، 13/ 111/ رقم 7138"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، 3/ 1459/ رقم 1829" عن ابن عمر رضي الله عنهما بألفاظ متقاربة، وفي الباب عن أنس وابن عباس والمقدام بن معدي كرب وأبي لبابة وأبي موسى وأبي هريرة وعائشة وابن مسعود قوله تكلمت على تخريجها في تحقيقي لـ"فضيلة العادلين" لأبي نعيم مع "تخريجه" للسخاوي "رقم 1".
وفي الأصل: والمرأة راعية في بيت".
3 أي: فليس الغرض الحصر فيما ذكره؛ لأنه لم يذكر أعم الولايات وهي ولاية الشخص ورعايته لما رسم بالنسبة لنفسه، ولم يذكر في هذه الرواية أيضا ولاية العبد في مال سيده التي ذكرت في طريق آخر؛ فهذا يدل على ما قال، وهو أنه إنما ذكر أمثلة فقط. "د".(38/30)
ص -26-…مختص؛ فلا يختلف عنه فرد من أفراد الولاية، عامة كانت أو خاصة؛ فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.
فصل:
وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام1، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب2؛ إذ مر هنالك خمسة أوجه منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف؛ فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة السادسة هناك أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد. "د".
2 في المسألة السادسة من النوع الرابع، وهو دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، حيث جعل ما تعبد الله به العباد نوعين: دينيًا، ودنيويًا، ثم جعل الديني من حيث قصد المكلف نوعين، وجعل الدنيوي من حيث قصده ثلاثة أقسام. "د".
قلت: غلط الشيخ دراز في إحالة المصنف، والصواب أنه أحال على المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 321 وما بعد".
3 سبق أن قرر المصنف في المسألة الثالثة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 308" "أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها"؛ أي: أن المكلف يكفيه أن يأتي بالأسباب على وجهها الصحيح المشروع، وليس مكلفا بالقصد إلى مسبباتها =(38/31)
ص -27-…المسألة الثالثة:
كل1 من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لأنه غير مكلف بالمسببات "النتائج"؛ فالله تعالى هو الذي يتولى أمر المسببات ويرتبها على أسبابها، قال هنالك "1/ 316-317": "فإذًا: قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط بها بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه؛ إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه"، وقال "1/ 315": "فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب".
وقرر في بداية هذه المسألة "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"؛ فهذا يقتضي أن يقصد المكلف بالأسباب ما شرعت لأجله من المسببات، فالقصد إلى المسببات -وعلى وفق ما قصده الشارع بها- مطلوب إذًا من فاعل الأسباب، بينما الذي سبق تقريره أن المكلف غير ملزم بهذا؟!
والمصنف لم يكن غافلًا عن هذا "التناقض"، والذي أحالنا عليه فيه تعرض بتفصيل وتقعيد لرفعه، ومفاده أنه على أقسام ومراتب، فمنه ما يلتفت فيه إلى المقاصد والمسببات، ومنه ما لا يلتفت.
1 دليل منطقي مؤلف من صغرى وكبرى، ثم النتيجة، وقال: إن الكبرى ظاهرة، ولم يترك التنبيه عليها؛ فقال: "فإن المشروعات إنما وضعت... إلخ"، ودلل على الصغرى بالأدلة الستة، إلا أنه بالتأمل يرى أن الدليل الأول منها جميعه ما عدا قوله أخيرًا: "فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار... إلخ"، هو في الواقع بيان وشرح للتنبيه على المقدمة الكبرى، وبسط للكلام فيما ينبني عليه قوله: "فإذا خولفت لم يكن... إلخ"؛ فهذا الكلام في الدليل الأول مرتبط ارتباطا تاما ببيان المقدمة الكبرى، وليس بنا حاجة إليه في الاستدلال على المقدمة الصغرى، ويكفي في الدليل الأول أن يقول: لأنه إذا قصد المكلف غير ما قصده الشارع؛ فقد جعل ما قصده الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل... إلخ، ولا حاجة لما قبل ذلك من المقدمات. "د".(38/32)
قلت: لئن كان المطلوب من المكلف بصفة إجمالية أن يجعل قصده في العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع؛ فإن عامة المكلفين قد لا يعرفون بالتفصيل مقاصد الشارع في كثير من أحكامه وتكاليفه؛ فكيف يفعلون حتى يكون قصدهم في كل عمل موافقًا غير مخالف لقصد الشارع في ذلك العمل، ويكونوا على اطمئنان من ذلك؟ والجواب على هذا السؤال نجده في المسألة الثامنة؛ فانظره هناك.
ومما ينبغي ذكره أن الاجتهاد تكليف من تكاليف الشريعة لأنه فرض كفائي؛ فيدخل في مضمون هذا الأصل وحكمه، ولذا اشترط المصنف في كتابه الاجتهاد "القسم الخامس" في المسألة الثانية من الطرف الأول منه أن العالم لا يبلغ درجة الاجتهاد؛ إلا إن فهم مقاصد الشريعة.(38/33)
ص -28-…الشريعة، و[كل]1 ما ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له؛ فعمله باطل.
أما أن العمل المناقض باطل؛ فظاهر، فإن2 المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة.
وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له؛ فهو مناقض لها؛ فالدليل عليه أوجه:
أحدها:
أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح3، فإذا جاء الشارع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
2 في نسخة "ماء/ ص227": "لأن".
3 يسلم الأشاعرة أن للفعل حسنا وقبحا، بمعنى أنه منشأ للمصلحة أو المفسدة، وإنما ينكرون الحسن والقبح على معنى أن يكون الثواب والعقاب مرتبط بذلك الوجه، بحيث لا يصح في العقل أن يتخلف الثواب والمدح عما فيه مصلحة، والعقاب والذم عام فيه مفسدة؛ إذ لا يرون أن الأمر بما فيه فساد والنهي عما فيه صلاح يخل بوصف الحكمة؛ لأن الحكمة في صفات الباري ليست في مذهبهم رعاية المصالح والمفاسد، بل هي اتصافه بصفات العلم والإرادة وغيرها من صفات الكمال. "خ".
قلت: انظر مناقشة الأشاعرة في "مجموع الفتاوى" "8/ 90 وما بعدها، وما مضى "1/ 125".(38/34)
ص -29-…بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة؛ فقد بين الوجه الذي منه تحصيل المصلحة فأمر به أو أذن فيه، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة؛ فنهى عنه رحمة بالعباد، فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن؛ فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه؛ فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد؛ لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا؛ فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة.
والثاني1:
أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا، فهو عند هذا القاصد ليس بحسن، وما لم يره في الشارع حسنا؛ فهو عنده حسن، وهذه مضادة أيضا.
والثالث:
أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115].
وقال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"2، والأخذ في خلاف مآخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قريب مما قبله؛ لأن إهمال ما قصده الشارع وقصد ما أهمله إنما يكون غالبا لتوهم أن المصلحة والحسن فيما قصد. "د".
2 أخرجه الآجري في "الشريعة" "48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" -ومن طريقه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 134"- وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326" من طريقين عنه، أحدهما فيها انقطاع بين مالك وعمرو بن عبد العزيز، والآخر فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وله طرق به يصح، وانظر: "4/ 461".(38/35)
وكان مالك رحمه الله يعجبه هذا الأثر، ويستدل به على المبتدعة، قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 172 - ط بيروت": "قال مطرف: سمعت مالكا إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز "وذكره"، قال: "وكان مالك إذا حدث بها ارتج سرورًا"، وسيأتي نحوه عند المصنف "4/ 460، 461".(38/36)
ص -30-…الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة.
والرابع:
أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة؛ لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض، فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم؛ فلم يأت بذلك المشروع أصلا، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ، من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به [والتارك لما أمر به]1.
والخامس:
[أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ومن نسخة "ماء/ ص227".
2 فالنكاح مثلا طلبه الشارع للنسل ولغيره من لواحقه، فإذا قصد به تحليل الزوجة لغيره؛ كان النكاح وسيلة لما قصد من التحليل، ولم يكن مقصودا بقصد الشارع، فما كان مقصودا عند الشارع؛ صار وسيلة عنده، وهذا مناقضة للشريعة، وقد يقال: هو عند الشارع أيضا وسيلة؛ إلا أنها لمقصود آخر هو النسل وما معه إلا للتحليل؛ فلا يخرج هذا الدليل عن مآل الدليل الأول، وهو أن ما قصده الشارع مهمل الاعتبار عنده، وما أهمله الشارع اعتبره، أما محاولة جعله دليلًا مستقلًا من حيث كان مقصودًا في نظر الشرع، فجعله هو وسيلة فغير واضح؛ لأنه وسيلة على كل حال، إلا أن المقصد مختلف.
وجوابه أن ذلك جار في بعض التكاليف، كما إذا مثل بالصلاة والصوم والحج، وهكذا من العبادات المحضة إذا قصد بها الرياء مثلا؛ فقد جعلها وسيلة لنيل دنيا أو جاه، أو إسقاط عقوبات تركها في الدنيا كإسقاط القتل عن تارك الصلاة؛ فالشارع اعتبر هذه العبادة مقاصد تطلب لذاتها، لكن الشخص جعلها وسيلة إلى غرض من أغراضه، وبهذا يتجه كلام المؤلف ويتبين استقلال هذا الدليل، ويؤيده ما يذكره في المسألة الرابعة تمثيلا للضرب الثاني من القسم الثالث بمن يصلي رياء لينال دنيا... إلخ. "د".(38/37)
ص -31-…في الأمر والنهي، فإذا قصد]1 بها غير ذلك؛ كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة، بل قصد قصدا آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له؛ فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع، وهدم لما بناه.
والسادس:
أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله، لأن من آياته أحكامه التي شرعها، [وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها]1: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها، ولذلك قيل للمنافقين حيث2 قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة، والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
وللمسألة أمثلة كثيرة؛ كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال، لا لإقرار3 للواحد الحق بالوحدانية، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح، والذبح لغير الله، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، والجهاد للعصبية أو ينال شرف الذكر في الدنيا، والسلف ليجربه نفعا، والوصية بقصد المضارة للورثة، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها، وما أشبه ذلك.
وقد يعترض هذا الإطلاق4 بأشياء:
- منها: ما تقدم في المسألة الأولى؛ كنكاح الهازل وطلاقه وما ذكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "حين".
3 في "ط": "للإقرار".
4 وهو الكلية في رأس المسألة، وبعبارة أخرى نتيجة القياس المشار إليه سابقا. "د".(38/38)
ص -32-…معهما؛ فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما، وقد تقدم جوابه ومن ذلك المكره بباطل؛ فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار؛ كالنكاح، والطلاق والعتق، واليمين، والنذر1، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه، إلى مسائل من هذا النحو.
- ومنها: أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك مقصود به خلاف ما قصده الشارع مع أنها عند القائل بها صحيحة، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر، وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع؛ فلا يلزم أن يكون باطلا.
والجواب: أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية، ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ثم يصححه2، لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء؛ فكيف يقال: إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع؟ هل هذا إلا عين المحال؟ وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقصد الشارع بهذه العقود أن تحصل باختيار عاقدها، ومع كونها وقعت على غير ما شرعت ووقعت مناقضة للشريعة؛ لم تبطل، بل وقعت صحيحة. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في: "المبسوط" "24/ 64"، و"بدائع الصنائع" "9/ 4500"، و"أحكام القرآن" "3/ 193" للجصاص، ووردت نصوص تبطل الزواج بالإكراه، انظر: "نيل الأوطار" "7/ 286-287"، و"تفسير القرطبي" "10/ 185، 614"، و"المحلى" "8/ 387"، و"بداية المجتهد" "2/ 4-7"، و"المغني" "7/ 382"، و"كشاف القناع" "3/ 141".
2 في "ط": "يصح".(38/39)
ص -33-…وضعت، فإذا صحح مثلا نكاح المحلل؛ فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب [مصلحة الزوجين فيه، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف]1 القتل أو التعذيب، وفي سائر المصالح العامة والخاصة؛ إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة؛ فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة، ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(38/40)
ص -34-…المسألة الرابعة:
فاعل الفعل أو تاركه؛ إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون موافقا وقصده الموافقة؛ كالصلاة، والصيام، والصدقة، والحج وغيرها، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى، وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه، وكذلك ترك الزنى والخمر وسائر المنكرات، يقصد بذلك الامتثال؛ فلا إشكال في صحة هذا العمل.
والثاني: أن يكون مخالفا وقصده المخالفة؛ كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك؛ فهذا أيضا ظاهر الحكم.
والثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده المخالفة، وهو ضربان:
أحدهما: أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا.
والآخر: أن يعلم بذلك.
فالأول: كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية، وشارب الجلاب1 ظانا أنه خمر، وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته، وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر؛ فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة "من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل"، وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل؛ لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله، فحصلت المفسدة؛ فشارب الجلاب لم يذهب عقله، وواطئ زوجته لم يختلط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ماء الورد. "ماء/ ص229".(38/41)
ص -35-…نسب من خلق من مائة، ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة1، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل؛ فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة.
فإن قيل: فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة؟ فإن وقع على الموافقة؛ فمأذون فيه، وإذا كان مأذونا فيه؛ فلا عصيان في حقه، لكنه عاص باتفاق، هذا خلف، وإن وقع مخالفا؛ فهو غير مأذون فيه، ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر؛ فكان يجب الحد على الواطئ، والزجر على الشارب، وشبه ذلك، لكنه غير واجب باتفاق أيضا، هذا خُلْف.
فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين؛ فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل، فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي؛ فهو عاص في مجرد القصد2 غير عاص بمجرد العمل، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله، غير آثم من جهة حق الآدمي3، كالغاصب لما يظن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وينظر فيمن وطء زوجته وهو يتخيَّل غيرها في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي "7/ 252-253".(38/42)
2 وجهت الشريعة نظرها إلى عمل الطاعات وتنظيم شئون المعاملات؛ محافظة على جلب المصالح ودر المفاسد المترتبة عليها، وأفرغت مع ذلك عنايتها في الغاية التي عني بها علم الأخلاق، والمحور الذي تدور عليه قوانينه وهي الإرادة؛ فكان من أهم تعاليم الإسلام تنظيم تلك المحكمة التي إمامها الله في الضمير الإنساني والسير بها في سبيل العدالة ليكون سلطانها الغالب وكلمتها النافذة، ومن وسائل هذا التنظيم تمرين النفس على الإصغاء إلى ذلك الصوت الذي ينبعث من صميم القلب؛ فيحثها على العمل أو يزجرها ويحدها عليه أو يوبخها، وهذا ما اقتضى أن يكون للعزم على الفسوق والمآثم نصيب من الوعيد والإنذار. "خ".
3 أي: حقه نفسه؛ فإنه مأذون له في التمتع بزوجته وبشرب الجلاب مثلا، وليس مطلبا بصلاة بعد أن أداها؛ إلا أنه انتهك حرمة الأمر والنهي ولم يبال بهما، فمن جهة أنه فعل حقا له مأذونا فيه لا يتوجه عليه حد ولا غيره كالغاصب في مثاله؛ لا يعقل أن نطالبه بمتاع للشخص الذي ظن أنه اغتصب متاعه، والواقع أنه مال نفسه، فكذلك لا يتوجه عليه حد ولا غيره؛ فيبقى حق الله في الأمر والنهي وقد انتهكه. "د".(38/43)
ص -36-…أنه متاع المغصوب منه، فإذا هو متاع الغاصب نفسه؛ فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه؛ وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي، والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد.
ولا يقال: إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب؛ فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله، أو زنى فلم يتخلق1 ماؤه في الرحم بعزل أو غيره؛ لأن المتوقع من ذلك غير موجود؛ فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد، ولا يكون آثما إلا من جهة قصده خاصة.
لأنا نقول: لا يصح ذلك؛ لأن [هذا]2 العامل قد تعاطى3 السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل، ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو4 اختلاط الأنساب، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب، وإنما هي من فعل الله تعالى؛ فالله هو خالق الولد من الماء، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل، والري مع الماء، والإحراق مع النار، كما تبين في موضعه، وإذ كان كذلك؛ فالمولج والشارب قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يختلقه".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: بخلاف من فعل الموافق بقصد المخالفة في هذا القسم؛ فإنه لم يتعاط السبب في الواقع وإن كان قصد السبب المخالف، لكنه أخطأه. "د".
4 في الأصل: "واختلاط".(38/44)
ص -37-…تعاطيا السبب على كماله؛ فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم، وأما الإثم؛ فعلى وفق ذلك، وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا؟ هذا نظر آخر، لا حاجة إلى ذكره ههنا.
والثاني: أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة، ومع ذلك فقصده المخالفة، ومثاله أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس، أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك؛ فهذا القسم أشد من الذي قبله، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد، وسائل لأمور أخرى لم يقصد الشارع جعلها لها؛ فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى، وذلك كله باطل؛ لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا؛ فلا يصح جملة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقد تقدم1 بيان هذا المعنى.
والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا؛ فهو أيضا ضربان:
أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة.
والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك.
فإن كان مع العلم بالمخالفة2؛ فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الأولى.
2 أي: فيكون الفعل مخالفا في الواقع لما شرعه الشارع، وهو يعلم أنه لم يشرعه، ولكنه يقصد به الطاعة والعبادة، متأولا غالبا أن هذا الفعل يعد طاعة؛ فهذا هو معنى مخالفة الفعل -أي في الواقع- وموافقة القصد -أي لما يزعمه- طاعة وعبادة، وإن كان يعلم أنه لم يرد في الشرع جعله عبادة؛ فلا يقال: إن هذا القسم الأول من قسمي الرابع لا يتصور حصوله من العاقل لأنه كيف يعلم أنه مخالف ويقصد به الموافقة لقصد الشارع؟ فمحصل هذا الضرب أن الفعل موافق في زعمه، وإن لم يكن جهلا صرفا كالضرب الثاني. "د".(38/45)
ص -38-…المستأنفة والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك؛ فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة، والموضع مستغن عن إيراده ههنا، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا [إن شاء الله، والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك؛ كقوله تعالى]1: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وفي الحديث: "كل بدعة ضلالة"2.
وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر.
فإن قيل: إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم، وأما المكروه؛ فليس الذم3 فيه بإطلاق، وما عدا ذلك؛ فغير قبيح شرعا، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق، وممدوح فاعله ومستنبطه، والمباح حسن باعتبار؛ فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول: إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع، بل هي موافقة أي موافقة؛ كجمع الناس على المصحف العثماني، والتجميع في قيام رمضان في المسجد، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة كلها: "فهو الذم"، وكتب "د" في الهامش: "لعل الأصل: "فليس الذم"، وما احتمله هو الصواب.(38/46)
ص -39-…حسنها أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة "وما رآه المسلمون حسنا؛ فهو عند الله حسن"1؛ فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة؛ إذ هي أفعال مخالفة للشارع لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح، وإذا كان كذلك؛ وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعى.
فالجواب أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع، وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال، بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه2 بالحفظ في الصدور، ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة؛ كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه "ص41".
2 أي لا لأنه نهي عنه حتى يكون للشارع فيه وضع مخصوص يعد من فعله مخالفا لما وضعه الشارع من النهي، بل كان الترك للاستغناء عنه. "د".(38/47)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، 5/ 73/ رقم 2419، وكتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، 9/ 23/ رقم 4992، وباب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، 9/ 87/ رقم 5041، وكتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6936، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، 13/ 520، رقم 7550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، 1/ 560/ رقم 818" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لبَّبته بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأ".
فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: "اقرأ" فقرأت؛ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرءوا ما تيسر منه". لفظ مسلم.(38/48)
ص -40-…وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما1، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: "لا تماروا في القرآن؛ فإن المرء فيه كفر"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، 1/ 561-562/ رقم 820" عن أبي بن كعب؛ قال كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه؛ فلما قضينا الصلاة؛ دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه؛ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما؛ فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري؛ ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا؛ فقال لي: "يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إلي الثانية: "اقرأه على حرفين"، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إليّ الثالثة: "اقرأه على سبعة أحرف؛ فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم؛ حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم".
فالرجل الذي وقع اختلاف أبي معه لم يسمه مسلم، وقال أبو ذر بن سبط بن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 328 - بتحقيقي": "لا أعرفه"، وأفاد "برقم 329" عند قوله: "فقرأ قراءة أنكرتها"؛ فقال: "وفي "عشرة ابن خليل" أن هذه السورة هي النحل".
قلت وعين المبهم بابن مسعود بن جرير في "تفسيره"، أفاده الديوبندي في "فتح الملهم" "2/ 363".(38/49)
2 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 258 و286 و300 و424 و475 و478 و494 و503 و4/ 205"، ومن طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، 4/ 199/ رقم 4603"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 223"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 59 و1780 - موارد الظمآن"، وأبو نعيم في "الحلية الأولياء" "5/ 192 و6/ 215"، والدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 16"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 11"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 303 و410"، والحديث صحيح.(38/50)
ص -41-…فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام، ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه: أنا كافر بما تقرأ به؛ صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد؛ فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة، وهو باطل باتفاق، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة، وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل، لا يتخلف عنه بوجه، وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا، كيف وهو يقول: "ما رآه المسلمون حسنا؛ فهو عند الله حسن"1، "ولا تجتمع أمتي على ضلالة"2؛ فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع؛ فقد خرج هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطيالسي في "المسند" "رقم 246"، وأحمد في "المسند" "رقم 3600 - ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "9/ 18/ رقم 8582، 8583، 8593"، والبزار في "مسنده" "رقم 130- زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 78-79"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 377-378"، والبيهقي في "المدخل" "ص8"، و"الاعتقاد" "ص162"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 150" بأسانيد بعضها حسن عن ابن مسعود موقوفا، قال الزركشي في "المعتبر" "رقم 294": "لم يرد مرفوعا، والمحفوظ وقفه على ابن مسعود".
قلت: أخرج الخطيب في "تاريخه" "4/ 165" نحوه مرفوعا، وفيه سليمان بن عمرو النخعي كذاب.
قال ابن القيم في "الفروسية" "ص298 - بتحقيقي" عنه: "إن هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفا عليه".
2 مضى تخريجه "2/ 434".(38/51)
ص -42-…الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع، وأما البدعة المذمومة؛ [فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك، وسيأتي تقرير هذا]1 المعنى بعد إن شاء الله2.
وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة؛ فله وجهان3:
أحدهما: كون القص موافقا؛ فليس بمخالف من هذا الوجه، والعمل وإن كان مخالفا؛ فالأعمال بالنيات، ونية هذا العمل على الموافقة، لكن الجهل أوقعه في المخالفة، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا؛ فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق.
والثاني: كون العمل مخالفا؛ فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال، فإذا لم يمتثل؛ فقد خولف قصده، ولا يعارض المخالفة موافقة القصد4 الباعث على العمل؛ لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه5، ولا طابق القصد العمل؛ فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معًا؛ فلا يحصل الامتثال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 وانظر تفصيلا حسنا للمصنف في "الاعتصام" "1/ 36 وما بعدها"، وآخر لابن تيمية في "اقتضاء الصراد المستقيم" "ص276".
3 أي من النظر، نظر يفيد صحته واعتباره، ونظر يفيد بطلانه واطراحه. "د".
4 أي: قصد المكلف الذي حمله على العمل وهو الامتثال، وقوله: "ولا طابق القصد العمل"؛ أي: قصد المكلف الامتثال لم يطابق العمل؛ لأن العمل ليس فيه امتثال، وإنما يكون الامتثال بالمشروع والفرض أنه ليس بمشروع؛ فالمخالفة حاصلة لم يعارضها قصده الامتثال الذي لم يصادف محلا، وقوله: "فصار المجموع مخالفا؛ أي: العمل وهو ظاهر والقصد أيضا، لأنه لم يصادف محلا، وصار كأنه قصد المخالفة في عمل المخالف. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وجه".(38/52)
ص -43-…وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه1، ويعارضه في الترجيح؛ لأنك إن رجحت أحدهما عراضك في الآخر وجه مرجح؛ فيتعارضان أيضا، ولذلك صار هذا المحل2 غامضا في الشريعة، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه.
وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة، ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد؛ عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته، وإن كان مقيدًا؛ فقصد المكلف لم يصادف محلا فهو كالعبث، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق؛ لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد3.
فإن قلت: إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع، كما ذكر عمن آمن4 في الفترات وأدرك التوحيد، وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهي غير معتبرة؛ إذ لم تثبت في شرع بعد5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما قرره في بيان الوجهين، وقوله: "في الترجيح"؛ أي: كما سيقرره في قوله: "ويتبين ذلك... إلخ" الذي ذكر فيه ثلاثة مباحث في ترجيح اعتبار القصد ومعارضتها من جانب من يهمل القصد ما لم يوافق العمل أيضا. "د".
2 في الأصل: "العمل".
3 أي: بل لا بد من وقوعه على عمل مشروع؛ فالمشروع هو المجموع. "د".
4 كزيد بن عمرو بن نفيل وصل إلى توحيد الله بعقله، وخالف المشركين في ذبائحهم وفي كثير في أعمالهم؛ فكان يحيي الموءودة، وكان يقول: الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض النبات، وأنتم تذبحونها لغير الله. "د".
5 أي: عند تمسكه بها لم تكن ثبتت في شرع؛ فقد عمل بها قبل أن يرد الشرع باعتبارها وعدمه، وليس بلازم في المعارضة أنه بعد ورود الشرع لم يعتبرها، بل إذا اعتبرها بعد ورده أيضا يكون تقرير الكلام صحيحا. "د".
قلت: وانظر "الاعتصام" "1/ 215- ط ابن عفان".(38/53)
ص -44-…قيل لك: إن فُرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة؛ فالمقاصد الموجودة لهم منازع1 في اعتبارها بإطلاق، فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد؛ فإن قلت باعتبار القصد كيف كان؛ لزم ذلك في الأعمال، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال؛ لزم ذلك في القصد2.
وأيضا؛ فكلامنها فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين3 ببعض الشرائع المتقدمة؛ فذلك واضح.
فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات"4 يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تعتبر؛ فإن المقاصد أرواح الأعمال؛ فقد صار العمل ذا روح على الجملة، وإذا كان كذلك؛ اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل، أو خالفا معا؛ فإنه جسد بلا روح5؛ فلا يصدق عليه مقتضى قوله: "الأعمال بالنيات"4 لعدم النية في العمل.
قيل: إن سلم؛ فمعارض بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: للمجتهدين أنظار مختلفة؛ فمنهم من يصححها، ومنهم من لا يصححها، وهي كأعمالهم المقصود بها التعبد، لا فرق بين مقاصدهم وأعمالهم في ذلك؛ فالمصحح لمقاصدهم مصحح لأعمالهم، وبالعكس. "د".
2 في الأصل: "الأصل".
3 أي: كما ورد عن زيد بن عمرو أنه قال: "اللهم! إني أشهدك أني على ملة إبراهيم"، وقوله: "فذلك واضح"؛ أي: لخروجه عن فرض المسألة، فإن عمله يكون موافقا كما أن قصده كذلك. "د".
4 مضى تخريجه "2/ 355".
5 أي: في صورة العمل الموافق والقصد المخالف، أما فيما خولفا معا؛ فلا روح ولا جسد. "د".(38/54)
ص -45-…عليه أمرنا؛ فهو رد"1، وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة والسلام، فلم يكن معتبرا بل كان مردودا.
وأيضا؛ فإذا لم ينتفع [بجسد بلا روح، كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد؛ لأن الأعمال هنا قد فرضت]2 مخالفة؛ فهي في حكم العدم، فبقيت النية منفردة في حكم عملي؛ فلا اعتبار بها، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين؛ فكانت المسألة مشكلة جدا.
ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد؛ فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه، وصححوا المعاملات، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق، وأبطلوا كل عبادة أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف3، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة، لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه، [ويعمل مقتضى الفعل في وجه]2 آخر، والذي يدل على إعمال الجانبيين أمور:
أحدها:
أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 5/ 301/ رقم 2697"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1343/ رقم 1718" بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل، 13/ 317"، ووصله مسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، 3/ 1343-1344".
وانظر: "فتح الباري" "5/ 302"، و"تغليق التعليق" "3/ 396 و5/ 326".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: ميلا منهم إلى أن العمل متى كان مخالفا بطل ولو كان القصد موافقا. "د".(38/55)
ص -46-…القصد -إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته- ومخالفة الفعل لأنه فاعل ما نهي عنه؛ فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة، وأعمل مقتضى المخالفة1 في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه، حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف، ميلا [فيه]2 إلى جهة القصد أيضا، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه.
فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما؛ كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها؛ فقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(38/56)
1 أي على الجملة، بدليل قوله: "حتى صحح... إلخ"؛ فمقتضى موافقة القصد انبنى عليه عدم الحد في الدنيا وعدم العقوبة في الآخرة، ومقتضى المخالفة فصل فيه، فما لا تلافي فيه أهمل وما فيه التلافي صحح، مراعى فيه جانب القصد، وقوله: "يتزوجها" أي: يعقد عليها "رجلان"، ودخل بها الثاني ثم علم بعقد الأول؛ فتفوت على الأول، وصحح الثاني الذي يجب أن يصحح لترجحه بالدخول بدون علم ميلا إلى جانب القصد الموافق، وأما مسألة المفقود؛ ففيها الأمران معًا: البناء على الفعل المخالف، وتصحيحه إذا قدم زوجها، أي علمت حياته بعد البناء ميلاً إلى صحة القصد وإلى الترجح بالدخول مع عدم علمه بحياته، وعدم البناء عليه وإهماله إذا قدم قبل البناء كما هو أحد القولين، والفرض الأول في كلامه في مسألة المفقود غير ظاهر مع قوله: "تزوجت"؛ لأنه إن كان المراد بالنكاح في قوله: "قبل نكاحها" العقد فقط؛ فخلاف أصل المسألة، وإن كان المراد به البناء؛ فهو عين الفرض الثالث الذي في قوله: "وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان"؛ إلا أن يقال: إن معنى قوله: "تزوجت" حلت للأزواج بحكم الحاكم، ثم رأيت في "الاعتصام" "2/ 147-148" ما نصه: "في امرأة المفقود إذا قدم قبل نكاحها؛ فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها..." إلخ ما قال هنا، ثم قال: "فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته؛ فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو ليس بقاطع للعصمة؛ فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود؟"، وبهذا تعلم أن قوله: "تزوجت" التي استشكلناها ليست في كتابه "الاعتصام"، وما ورد فيه واضح لا إشكال عليه. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(38/57)
ص -47-…فاتت1 بمقتضى فتوى عمر2 ومعاوية3 والحسن4، وروي مثله عن علي5. رضي الله عنهم، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم؛ فالأول أولى بها قبل نكاحها، والثاني أولى بعد دخوله بها، وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان6، وفي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها؛ فنكاحها باطل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي "الاعتصام" "2/ 147": "فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم... إنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول؛ فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلًا ومبطلًا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما، ومنع زوجها عنها" انتهى.
2 كما في "سنن سعيد بن منصور" "رقم 1314، 1316"، و"مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 238"، و"مصنف عبد الرزاق" "6/ 313/ رقم 10979 و10980"، و"السنن الكبرى" "7/ 446" للبيهقي، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 314"، و"الاعتصام" "2/ 147" وهو صحيح.
3 كما في "الاعتصام" للمؤلف "2/ 147" أيضا.
4 كما في "المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 316"، و"الاعتصام" "2/ 147".
5 كما في "مصنف عبد الرزاق" "6/ 313-314، 314/ رقم 10979، 10981"، و"سنن البيهقي" "7/ 446-447"، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 315-316، 317".(38/58)
6 القولان مرويان عن الإمام مالك، والذي أخذ به أصحابه أن زوجة المفقود لا يفيتها عليه إلا دخول الثاني، ومذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المفقود إن قدم بعد تزوج امرأته يخير بينها وبين مهرها، وهو يرجع إلى تخييره بين إجازة ما فعله الحاكم ورده، فإن اختار المهر؛ كان مجيزا لما فعله الحاكم، وإجازته تجعل التفريق مأذونا فيه؛ فيكون نكاح الثاني صحيحا، وإن اختار زوجته؛ كان غير مجيز لما فعله الحاكم؛ فيكون التفريق باطلا. "خ".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "منح الجليل" "4/ 320".(38/59)
ص -48-…باطل باطل1، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما أصاب منها"2، وعلى هذا يجري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيفسخ النكاح لمخالفته للمشروع، ويكون لها المهر، ويسقط الحد والعقوبة، وصحح ما أمكن تلافيه من ثبوت المهر، ويبقى الكلام في أن هذا إنما يكون من مسألتنا إذا حصل النكاح بقصد الموافقة والجهل بركنية الولي، أما إذا حصل مع العلم بالركنية فلا يكون منها؛ فهل حكمه كذلك؟ وإذا كان الحكم في العلم كالحكم في حال الجهل لا تكون المسألة مما يدل على موضوعنا من إعمال الجانبين كما يقول المؤلف، ولا تكون المسألة مبنية على هذه القاعدة، بل لها مبنى آخر، وسيأتي في فصل مراعاة الخلاف في أواخر الكتاب ما ينحو هذا النحو في البناء بعد الوقوع، ومراعاة الحالة الحاصلة وإن لم يكن أصل النكاح صحيحا؛ فيثبت استحقاق الميراث مثلا، إلى غير ذلك مما له علاقة بموضوعنا، وإن لم يبحثوا هناك عن القصد مخالفة وموافقة، بل بنوه هناك على قاعدة أخرى. "د".
قلت: انظر "4/ 370 و5/ 106 وما بعد".(38/60)
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في الولي، 2/ 229/ رقم 2083"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، 3/ 407-408/ رقم 1102" - وقال: هذا حديث حسن"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، 1/ 605/ رقم 1879"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "12/ 43"- وأحمد في "المسند" "6/ 47، 165"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1463"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 128"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 195، رقم 10472"، والدارمي في "السنن" "2/ 137"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 700"، والشافعي في "الأم" "2/ 11"، والحميدي في "المسند" "1/ 112-113/ رقم 228"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 698، 699"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، وابن حبان في "الصحيح" "9/ 384/ رقم 4074- الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "3/ 221، 225-226"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 168"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 105، 113، 124-125، 125، 138"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1115-1116"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 39/ رقم 2262"، والخطيب في "الكفاية" "ص380" والسهمي في : "تاريخ جرجان" "1/ 8" وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 188" من طرق كثيرة عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عورة عن عائشة مرفوعا.(38/61)
ص -49-…........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين".
قلت: بل هو حسن؛ فسليمان بن موسى لم يخرج له البخاري وأخرج له مسلم في "المقدمة"، وقال ابن حجر في "التقريب": "صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل".
وقد أعله أحمد بن صالح بقوله: "أخبرني من رأى هذا الحديث في كتاب ذاك الخبيث محمد بن سعيد -أي: المصلوب- عن الزهري، وأنا أظن أنه ألقاه إلى سليمان بن موسى وألقاه سليمان إلى ابن جريج"، كذا أسنده عنه أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "1/ 290".
قلت: ولا يستلزم من وجوده في كتاب ذاك الخبيث أنه تفرد به، والمشهور أن من ضعف هذا الحديث يستدل بما ذكره أحمد في "مسنده" "6/ 27" عقبه؛ فقال: "قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث؛ فلم يعرفه".
وتعقبه الترمدي بقوله: "وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يذكر هذا الحرف عن ابن جريج إلا إسماعيل بن إبراهيم، قال يحيى بن معين: وسماع إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج ليس بذلك، إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ما سمع من ابن جريج، وضعف يحيى رواية إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج".
قال الترمذي: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم".
وقال الحاكم بعد أن صحح الحديث: "فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض؛ فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه؛ فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث".(38/62)
وذكره الحافظ في "التلخيص" "3/ 157"، وقال: "وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية، وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه.
وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي "7/ 107"، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي "3/ =(38/63)
ص -50-…باب السهو في الصلاة، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها.
والثاني:
أن عمدة مذهب مالك، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة؛ فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلا على حكم الناسي، ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق؛ لعاملوه معاملة العامد؛ كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه، وليس الأمر كذلك؛ فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام1 والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك في كثير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1115-1116".
على أن سليمان بن موسى لم يتفرد به؛ فقد تابعه جعفر بن ربيعة عند أحمد في "المسند" "6/ 66"، وأبي داود في "السنن" "رقم 2084"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106"، وعبيد الله بن أبي جعفر عند الطحاوي "3/ 7"، وحجاج بن أرطأة عند ابن ماجه في "السنن" "رقم 1886"، وأحمد في "المسند" "1/ 250 و6/ 260"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 130"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106 و106-107".
وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير" "1/ 430" من طريق زمعة بن صالح، والدارقطني في "السنن" 3/ 227" من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، كلاهما عن الزهري به، وزمعة بن صالح ومحمد بن يزيد بن سنان وأبوه فيهم ضعف؛ فبمجموع هذه الطرق يتقوى الحديث ويصح.
وصححه ابن حبان وابن الجارود وأبو عوانة وغيرهم، وأعله الطحاوي بالحكاية الباطلة عن ابن جريج، وللحديث شواهد جمعها الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه المطبوع "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي"، وانظر: "نصب الراية" "3/ 185".(38/64)
1 عاملوا الجاهل بحرمة الشهر أبو بحرمة الفطر معاملة الناسي؛ فلا كفارة، وكذا كل ما ذكروه في التأويل القريب هو من باب الجهل، وعدوه كالناسي لا كفارة عليه، وكذا في الأطعمة والأشربة لا حرمة في تعاطي المحرمات منها عند جهله بأنها من المحرم؛ كشارب الخمر معتقدا أنه جلاب مثلا، وآكل المتنجس معتقدا طهارته لا شيء عليه، وعليك باستيفاء البحث في الفروع. "د".(38/65)
ص -51-…من العادات؛ كالنكاح، والطلاق، والأطعمة، والأشربة، وغيرها.
ولا يقال: إن هذا ينكسر في الأمور المالية؛ فإنها تضمن في الجهل والعمد.
لأنا نقول: الحكم في التضمين في الأموال آخر؛ لأن الخطأ فيها مساوٍ للعمد في ترتب الغرم في إتلافها.
والثالث:
الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة؛ ففي الكتاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 268].
وفي الحديث: "قال: قد فعلت"1.
وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وفي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"2. وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه، وإن اختلفوا فيما يتعلق3 به رفع المؤاخذة، هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا؛ فلم يختلفوا4 أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح، فإذا كان كذلك؛ ظهر أن كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومضى "2/ 210".
2 مضى تخريجه "1/ 236"، وكتب "خ" ما نصه: "قال الإمام أحمد: من زعم أن الخطأ مرفوع؛ فقد خالف الكتاب، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة، والجواب عن هذا أن المراد من الحديث رفع المؤاخذة بالخطأ في الآخرة دون الحقوق الواقعة بين الناس".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعلق".
4 أي: بل أجمعوا على أنه لا بد من نوع من المؤاخذة، وهو مع اتفاقهم على رفع المؤاخذة في الجملة يدل على اعتبار الطرفين. "د".(38/66)
قلت: هذه المسألة هي المسماة "عموم المقتضى"، ونشأ عنه خلاف في كثير من المسائل، انظر: "أصول السرخسي" "2/ 251-252"، و"الإزميري على المرآة" "2/ 75-76"، و"تسهيل الوصول" "ص106"، و"إبراز الحِكَم" للسبكي، و"المناهج الأصولية" "ص379 وما بعدها".(38/67)
ص -52-…واحد من الطرفين معتبر على الجملة، ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك، والله أعلم.(38/68)
ص -53-…المسألة الخامسة1:
جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين:
أحدهما:
أن لا يلزم عنه إضرار الغير.
والثاني:
أن يلزم عنه ذلك.
وهذا الثاني ضربان:
أحدهما:
أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار؛ كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير.
والثاني:
أن لا يقصد إضرارا بأحد، وهو قسمان:
أحدهما:
أن يكون الإضرار عاما؛ كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره أو فدانه، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره2.
والثاني:
أن يكون خاصا، وهو نوعان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يمكن تسمية هذا المسألة "قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم"، والمراد من تقسيم المصنف للمصالح والذرائع هنا إرساء قواعد أصوليه تحكم استعمال الحقوق.
وانظر في هذا: "قواعد الأحكام" "1/ 98 وما بعدها"، و"الحسبة" "ص64" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "ص310"، و"مفتاح السعادة" "2/ 14 وما بعدها"، و"الأشباه والنظائر" "87" للسيوطي، و"ضوابط المصلحة" "249 وما بعدها".
2 نصصت كتب الفقه الحنفي مثل "الاختيار" "3/ 383"، و"فتاوى قاضي خان" "4/ 293" على المثل الأخير، وهو مذهب المالكية، وترى كلاما حسنا حوله في "المدخل الفقهي" "1/ 227"، "ونزع ملكية العقار للمصلحة العامة" "ص437 وما بعدها" لعبد العزيز بن عبد المنعم، و"قيود الملكية الخاصة" "ص493 وما بعدها" لعبد الله بن عبد العزيز المصلح، و"المثامنة في العقار" للشيخ بكر أبو زيد.(38/69)
ص -54-…أحدهما:
أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر؛ فهو محتاج إلى فعله؛ كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره، عالما أنه1 إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر2.
والثاني:
أن لا يلحقه بذلك ضرر، وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا، أعني القطع العادي3؛ كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك.
والثاني:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا؛ كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها4 أن لا تضر أحدا، وما أشبه ذلك.
والثالث:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا، وهو على وجهين:
أحدهما:
أن يكون غالبا كبيع السلاح5 من أهل الحرب، والعنب من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بأنه".
2 بعدها في نسخة "ماء/ ص232": "وهذا فيه خلاف".
3 يقصد بالقطع العادي ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله "القطع العقلي" وهو ما يستحيل تخلفه أبدا، فإن تخلف؛ لم يعتبر قطعيا.
4 أي: وقد تضر بعض الناس ندورا؛ فاستعمال الشخص لها مع ندور الضرر سيأتي حكمه أنه باق على الإذن. "د".
5 الفرض أن يكون الضرر خاصا لا عاما، وهل بيع السلاح من أهل الحرب يكون ضرره خاصا مع أن تلقي السلع ضرره عام؟ وكذا يقال في بيع العنب ممن يصنعه خمرا، وبيع ما يمكن أن يغش به لمن لا يؤمن على الغش به: هل كان هذا من الخاص؟ وسيأتي له أمثله في إعطاء المال للمحاربين وللكفار فداء الأسرى. "د".(38/70)
ص -55-…الخمار، وما يغش به1 ممن شأنه الغش، ونحو ذلك.
والثاني:
أن يكون كثيرا لا غالبا، كمسائل بيوع الآجال2؛ فهذه ثمانية أقسام3.
فأما الأول؛ فباق على أصله من الإذن، ولا إشكال فيه، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء.
وأما الثاني؛ فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار؛ لثبوت الدليل على أن "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"4، لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير؛ هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه، أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن، ويكون عليه إثم ما قصد؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة، وهو جار على مسألة5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص232": "يعيش به".
2 كمثاله الآتي في بيع الجارية لزيد بن أرقم. "د".
3 وفي حاشية الأصل: "قوله ثمانية أقسام بيانها وترتيبها ما تقتضيه تلك التقسيمات هكذا:
الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير.
الثاني: ما يلزم عليه الإضرار، ويقصد الفاعل الإضرار.
الثالث: ما لا يقصد فيه الإضرار، وكان الإضرار اللازم فيه عاما.
الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه.
الخامس: ما كان كذلك، والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا.
والسادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور.
السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي.
الثامن: ما لزومها غير أغلبي.
وبترجمتها هكذا يسهل فهمها ونشرها واستخراج أحكامها، والله تعالى أعلم".
4 مضى تخريجه "2/ 72".
5 مما كان فيه النهي لوصف منفك؛ ففي صحته خلاف. "د".(38/71)
ص -56-…الصلاة في الدار المغصوبة، ومع ذلك؛ فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا1:
وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل، وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة؛ حصل له ما أراد أولا، فإن كان كذلك؛ فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار؛ فلينقل عنه ولا ضرر عليه؛ كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار2، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتأمل في كلام المصنف السابق واللاحق نستخلص ما يلي:
أولا: كلامه هذا هو بعينه النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق، إن لم يكن أرقى منها في بعض الجوانب من حيث دقة التفصيل والتعليل، ولا سيما إذا نظر إليها بالقياس إلى العصر الذي كتبت فيه.
ثانيا: أقام المصنف هذه النظرية على المقصد الكلي للشريعة؛ فالتعسف عنده في استعمال الحق من باب "التعدي بطريق التسبب"، وقد يرد على ذلك اعتراضات تفطن لها المصنف فيما مضى "1/ 376 وما بعدها".
ثالثا: إن عناصر التعدي عند المصنف هي ما يلي:
أولا: تمحض قصد الإضرار بالفعل، وهو يعتبر تعديا من الطراز الأول.
ثانيا: مظنة قصد الإضرار التي تستفاد من القرائن.
ثالثا: الإهمال للمعنى الاجتماعي الذي أمر به الإسلام، ومفاده اتخاذ الاحتياط للحيلولة دون الإضرار بالغير، أو بعبارة أخرى: التقصير في إدراك الأمور على وجهها الصحيح وإهمال المقاصد الشرعية منها,.
رابعا: أن المصنف يكيف التعسف بأنه تعد بطريق التسبب، ولا يلتزم في ذلك ضابط التعدي عند جماهير الفقهاء الأقدمين.
انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص55 وما بعدها"، و"النظرية العامة للموجبات والعقود" "1/ 53" لصبحي المحمصاني.(38/72)
2 ذكر مثله ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "ص265" عند شرح "لا ضرر ولا ضرار" ويمثل عليه بمن أراد أن يحفر بئرا في ملكه، ويضر بجدار جاره، قال صاحب "البهجة شرح التحفة "2/ 336": "وأما إن وجد عنه مندوحة ولم يتضرر بترك حفره؛ فلا يمكن من حفره لتمحض قصد إضراره بجاره".(38/73)
ص -57-…فحق الجالب أو الدافع مقدم، وهو ممنوع من قصد الإضرار، ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق؛ فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار، وهو داخل تحت الكسب، لا ينفي الإضرار بعينه.
وأما الثالث:
فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر1 أو لا؛ فإن لزم قدم حقه على الإطلاق، على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل2 أهل الإسلام، وإن أمكن3 انجبار الإضرار ورفعه جملة؛ فاعتبار الضرر العام أولى؛ فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة4، بدليل النهي عن تلقي السلع، وعن بيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كفقد الحياة أو عضو من أعضائه وما ماثل ذلك. "د".
2 وقد يقال: إن الفرض إنه يلحقه ضرر لا ينجبر إذا منع من استعمال حقه، وإذا استعمل حقه لحق غيره ضرر؛ فالضرر إما ان يلحقه وحده، وإما أن يلحق كثيرا من الناس؛ كبيع الحاضر للبادي، أما مسألة الترس؛ فيقول: إنه يلزم من الأخذ بحقه وعدم قتله استئصال أهل الإسلام، يعني هو وغيره من سائر المسلمين أو جميع الجيش على الأقل؛ فالضرر لاحق به على كل حال، فلذلك قصر الضرر على الترس واستبقى سائر المسلمين أو سائر الجيش؛ فالفرق بين المسألتين واضح على هذا التصوير، إما إذا صورت المسألة بأنه إما أن يفقد الترس أو يفقد الجيش الإسلامي في هذه الجهة مثلا؛ فإنه يتناسب مع الفرض. "د". قلت: في "ط": "إن لم يقتل استؤصل".
3 بأن يكون في أمور مالية مثلا. "د".
4 ولو لحق الفرد من جراء ذلك ضرر؛ لأنه ينجبر بالتعويض، ولأن في رعاية المصلحة العامة وتقديمها رعاية للمصلحة الخاصة ضمنا، كما أشار إلى ذلك الحديث: "نجوا جميعا".(38/74)
وانظر: "قواعد الأحكام" "2/ 162" للعز بن عبد السلام، و"المستصفى" "1/ 303"، و"الأشباه والنظائر" "1/ 122 - مع شرحه"، و"الاعتصام" "2/ 121-122" للمصنف، و"الطرق الحكمية" "ص289".(38/75)
ص -58-…الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع1 مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة2.
وأما الرابع:
فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ؛ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض، والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية، للحاجة الماسة في طريق المواساة، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا؛ فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا، بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع؛ فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو لم يقع تضمينهم لادعى بعضهم التلف، فضاعت حقوق الناس، وانظر النقولات عن السلف في: "مصنف عبد الرزاق" "8/ 216-223"، و"مسائل الكوسج".
2 أي: مضرة لا تنجبر أما أصلها؛ فهو الفرض". "د".(38/76)
قلت: ومثله منع التجار من احتكار ما يحتاج إليه الناس، ويؤمرون ببيعه بثمن المثل، وإلا بيع عليهم جبرا، والحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس أو المتعهد بتأجير المواصلات وغيرها، ومنع الأفراد من إقامة فرن للخبز في سوق البزازين، على ما ذكر ابن نجيم ونحوه إقامة مصنع للإسمنت في وسط حي للسكان. انظر هذه الأمثلة وغيرها في "إعلام الموقعين" "3/ 138-139"، و"الطرق الحكمية" "302-307"، و"فتاوى ابن رشد" "1/ 262-265"، و"المعيار المعرب" "1/ 243-246"، و"غمز عيون البصائر" "1/ 122"، و"تبصرة الحكام" "2/ 347"، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص236-237".(38/77)
ص -59-…يتعين عليه حق نفسه في الضروريات؛ فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة، ومن حق غيره على ظن أو شك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به.
وقد سئل الداودي1: "هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غُرمِ هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بدلة وأخذهم بمال معلوم يؤدونه2 على أموالهم؛ هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل؟ وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم. قال: ذلك له. قال: ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها3 نصاب: إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه، لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء. قال: ولست بآخذ4 في هذا بما روي عن سحنون؛ لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ5 عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 24]". هذا ما قال6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الأموال" للداودي "ص153": "وقيل له -أي: لأحمد بن نصر وهو الداودي-"، وساق المذكور هنا بحرفه.
2 هكذا وقع في مطبوع "الأموال" و"ط": "يؤدونه"، وفي باقي النسخ: "يردونه".
3 أي: ليس في مجموع غنم الخلطاء شاة، بأن كان المجموع أقل من أربعين، وبذلك صح أنه مظلمة من باب الغصب. "د".
4 في الأصل و"ط": "آخذ".
5 فقد حصر السبيل والمؤاخذة في نفس الظالم، أما غيره؛ فلا سبيل عليه، ولو كلف غير الظالم بمشاركته للمظلوم في حمل بعض ما ظلم فيه يكون السبيل حينئذ على غير الظالم. "د".
6 ونقله صاحب "المعيار المعرب" "5/ 150، 151 و9، 565" أيضا.(38/78)
ص -60-…ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه، مع العلم بأنه يطرحه على غيره، إذا كان المطروح جورا بينا.
وذكر عبد الغني في "المؤتلف والمختلف"1 عن جماد2 بن أبي أيوب؛ قال: قلت لحماد بن أبي سليمان: إني أتكلم فترفع عني النوبة، فإذا رفعت عني وضعت على غيري. فقال: إنما عليك أن تتكلم في نفسك، فإذا رفعت عنك؛ فلا تبالي على من وضعت.
ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى، ولمانعي3 الحاج حتى يؤدوا خراجا، كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر، أو قتل الكافر المسلم، بل قال عليه الصلاة والسلام: "وددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل"4 الحديث.
ولازم ذلك دخول قاتله النار، وقول أحد ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، بل العقوبات كلها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها5 إضرار الغير، إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة؛ لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام، ولأن جانب الجالب والدافع أولى6،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ص21".
2 ضبطه عبد الغني بن سعيد بالجيم في أوله، وكذا في نسخة "ط"، وفي النسخ المطبوعة بالحاء!!
3 في "ط": "ولمانع".
4 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، 1/ 92/ رقم 36"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، 3/ 1495-1496/ رقم 1876" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 في الأصل: "عمليها".
6 انظر أمثلة أخرى غير المتقدمة مع تعليق عليها بنحو ما عند المصنف في "الفروق" "2/ 33"، و"تنقيح الفصول" "ص201"، و"الإمام مالك" "415" لأبي زهرة.(38/79)
ص -61-…وقد تقدم الكلام على هذا قبل.
فإن قيل: هذا يشكل في كثير من المسائل، فإن القاعدة المقررة أن "لا ضرر ولا ضرار"1، وما تقدم واقع فيه الضرر؛ فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر، إما بعوض وإما مجانا، مع أن صاحب الطعام محتاج إليه، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤيدا2 إلى إضرار المضطر، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا؛ لما صار منعه مؤديا2 لإضرار الغير، وما أشبه ذلك3.
فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ودفع الدافع، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن.
وأيضا؛ فقد تعارض4 هنالك إضراران: إضرار صاحب اليد والملك، [وإضرار من لا يد له ولا ملك، والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك]5، ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق، والحاصل أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72".
2 في الأصل: "مؤيدا لأضرار... مؤيدا".
3 انظر في هذا: "الحسبة" "ص14-25" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "286 وما بعدها"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "3/ 8"، "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"بدائع الصنائع" "5/ 129"، و"الاختيار" "3/ 116"، و"المنتقى" "5/ 17 للباجي، و"الاعتصام" "2/ 120" للمصنف.
4 في الأصل: "تعرض".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/80)
ص -62-…الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار، وكيف1 ومن شأن الشارع أن ينهي عنه؟ ألا ترى أنه إذا قصد الجالب أو الدافع الإضرار أثم، وإن كان محتاجا إلى ما فعل؛ فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار، بل عن الإضرار نهى، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك.
وأما مسألة المضطر؛ فهي شاهد لنا؛ لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها، وإلا فلو فرضته كذلك؛ لم يصح إكراهه، وهو عين مسألة النزاع، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه، وأما المحتكر؛ فإنه خاطئ باحتكاره، مرتكب للنهي، مضر بالناس؛ فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به.
وأيضا؛ فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة، هذا كله مع اعتبار الحظوظ.
وإن لم نعتبرها؛ فيتصور هنا وجهان:
أحدهما:
إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو محمود جدًا، قد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد؛ فهم مني وأنا منهم"2، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه، وكأنه [هو]3 أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فكيف".
2 مضى تخريجه "2/ 324"، وهو في "الصحيحين".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل فقط، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".(38/81)
ص -63-…وأنه1 قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد؛ فهو على ذلك واحد منهم، فإذا صار كذلك؛ لم يقدر على الاحتجان2 لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه، كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده؛ فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "فهم مني وأنا منهم"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر؛ إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته.
وفي مسلم عن أبي سعيد، [قال]: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء رجل على راحلة له -قال- فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر؛ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد؛ فليعد به على من لا زاد له". قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وكأنه".
2 الاحتجان: الإصلاح والجمع وضم ما انتشر، والحجنة: ما اختزنت من شيء واختصصت به نفسك، قال الأزهري: "ومن ذلك يقال للرجل إذا اختص بشيء لنفسه: قد احتجنه لنفسه دون أصحابه". انظر: "اللسان" "مادة ح ج ن، 3/ 108، 109".
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة بفضول المال، 3/ 1354/ رقم 1728"، وأبو دود "في السنن" "كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، 2/ 125-126/ رقم 1663"، وأحمد في "المسند" "3/ 34"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 182"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2685" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي هذا لحديث دليل على أن لولي الأمر أن يجعل التبرع واجبا عند الحاجة، ومثله النهي عن ادخار لحوم الأضاحي والنهي عن كراء الأرض؛ وانظر تفصيلا مستطابا في "القواعد النورانية" "176-177" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(38/82)
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "حتى رئينا أنه...".(38/83)
ص -64-…وفي الحديث أيضا: "إن في المال حقا سوى الزكاة"1، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجمعيه جار على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقتضي استبدادا2، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل، ولا يكون موقعا على نفسه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة، 3/ 48-49/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385"، والدارقطني في "السنن" "2/ 125"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1328" عن فاطمة بنت قيس.
وإسناده ضعيف، فيه أبو حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح".
وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "1/ 107": "وبالجملة؛ فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي، وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف، ومن تابعه أضعف منه"، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده".
قلت: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 789/ رقم 1365"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 156، 191"، وأبو عبيد في "الأموال" "445" عن ابن عمر قوله: "في مالك حق سوى الزكاة"، وإسناده صحيح.
وأثر الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 191"، وابن زنجويه في "الأموال" "2/ 792/ رقم 1370"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 212" عنه بإسناد حسن.(38/84)
2 فالمصنف ينفي صراحة أن يكون الحق سلطة مطلقة أو استبدادا مطلقا بمنافعه وثمراته، وبذلك ينتفي معنى الفردية المطلقة في الحق، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك المعنى الاجتماعي في أقوى صوره من التسوية والمشاركة، لا على سبيل الجواز أو الندب، بل وعلى سبيل الوجوب أيضا إذا اقتضى الأمر في ظروف الضرورة والحاجة، وفيما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يصور أنه أسوة في ذلك؛ لأن في درء المفسدة عن الجماعة وجلب المصلحة لهم هو الأصل العام الذي قامت عليه الشريعة، بل هو المسوغ الأكبر لإلقاء مقاليد السلطة العامة بيد ولي الأمر. انظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص159".(38/85)
ص -65-…ضررا ناجزا. وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"1.
وقوله: "المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"2.
وقوله: "المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 565/ رقم 481، وكتاب المظالم، باب نصر المظلوم، 5/ 99 رقم 2446"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 1999/ رقم 2585" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وكتب "خ" هنا ما نصه: بالاتحاد والتناصر البالغ إلى هذا الحد ارتفعت أعلام الإسلام من أقاصي الشرق إلى منتهى الغرب، وما تقلص ظل عز المسلمين وسيادتهم إلا حين دب التخاذل في جامعتهم؛ حتى أصبحنا نرى فريقًا منهم يدخلون في حساب المسلمين بزيهم وأسمائهم؛ إلا أن قلوبهم هواء كأنها بين أصبعين من أصابع العدو يقلبها كيف يشاء؛ فكانوا كالسهام الصائبة يرمي بهم في نحور أقوامهم وهم لا يشعرون بأنهم يهدمون صروح مجدهم ويلقون بأنفسهم وأبنائهم من بعدهم في عذاب الهون ومعرة الاستعباد" وسقط من "ط": "المرصوص".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6011، ومسلم في "صحيحه "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 2000/ رقم 2586" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.(38/86)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 1/ 56-57/ رقم 13"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، 1/ 67-68/ رقم 45" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب..."، وفي رواية مسلم: "لأخيه أو قال: لجاره"، وفي بعض الروايات الصحيحة: "من الخير ما يحب لنفسه"، واللفظ الذي أورده المصنف هو لفظ الغزالي في "الإحياء" 2/ 207"، وبضاعته في الحديث مزجاة، كما كان يقول هو عن نفسه، رحمه الله تعالى، ولذا قال ابن السبكي في "طبقاته" "6/ 317" عن الحديث بلفظ المصنف: "لم أجد له إسنادا".(38/87)
ص -66-…وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء، كل واحد بما يليق به؛ كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قِسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخد بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل؛ لخرج1 عن اعتداله، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض، وما أمروا به من اجتماع الكلمة، والأخوة وترك الفرقة، وهو كثير؛ إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.
والوجه الثاني:
الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره، اعتمادا على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله، وهو من محامد الأخلاق، وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام "أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"2.
وقالت له خديجة: "إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فخرج".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، 4/ 116/ رقم 1902" عن ابن عباس؛ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي "ط": "خلقه الرضي، فقد كان...".(38/88)
ص -67-…نوائب الحق"1، وحمل إليه تسعون ألف درهم؛ فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله؛ فقال: "ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء؛ قضيناه". فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه. فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم [وعرف البشر في وجهه وقال: "بهذا أمرت"2. ذكره الترمذي. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم] لا يدخر شيئا لغد3. وهذا كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب منه، 1/ 22/ رقم 22، وكتاب التفسير، باب تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، 8/ 715/ رقم 4953"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بدء الوحي/ رقم 160"، وأحمد في "المسند" "6/ 233" وغيرهم.
2 أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 338"- والشاشي في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 180/ رقم 88"- والبغوي في "الشمائل" "رقم 367"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "ص96-97" بسند ضعيف، فيه موسى بن أبي علقمة المديني، وهو مجهول، كما قال ابن حجر في "التقريب".
وأخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 101"، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو واه ويحيى بن محمد بن حكيم لم أظفر به.
وأخرجه البزار في "البحر الزخار" "1/ 396/ رقم 273" وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ضعيف، وفي طرقها كلها هشام بن سعد، صدوق له أوهام.
والحديث ضعيف، وضعفه شيخنا الألباني في "مختصر الشمائل" "رقم 305".(38/89)
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، 4/ 580/ رقم 2362"-وقال: "هذا حديث غريب"- و"الشمائل" "رقم 304"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 270، 291/ رقم 6356، 6378 - الإحسان"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 572"، والبغوي في "الشمائل "رقم 361"، و"شرح السنة" "13/ 253/ رقم 3690" والخطيب في "تاريخه" "7/ 98" عن أنس بإسناد حسن على شرط مسلم.
وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص89-99": "المراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها".
قلت: لأنه ثبت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم.
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/90)
ص -68-…وهكذا كان الصحابة، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وما جاء في "الصحيح"1 في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وما روي عن عائشة2، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام، عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ.
وهو ضربان:
"إيثار بالملك"3 من المال، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر، كما في حديث المؤاخاة المذكور في "الصحيح"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، 18/ 631/ رقم 4889"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إكرم الضيف وفضل إيثاره، 3/ 1624/ رقم 2054" عن أبي هريرة؛ قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟". فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله؛ فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}". لفظ البخاري.
2 كما تقدم "2/ 323" وتخريجه هناك.
3 في الأصل: "المكلف".
4 تقدم "2/ 325".(38/91)
ص -69-…وإيثار بالنفس؛ كما في "الصحيح" أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم؛ فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك1، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت.
وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان في غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول [الله صلى الله عليه وسلم راجعا، قد سبقهم إلى الصوت، وقد] استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا"2، وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 174" دون "ووقى بيده رسول الله فشلت"، وهذه الزيادة ثابتة عن طلحة بن عبيد الله، وليس عن أبي طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر طلحة بن عبيد الله "7/ 82/ رقم 3724" بسنده إلى قيس بن أبي حازم؛ قال: "رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن، 6/ 35/ رقم 2820، وباب ركوب الفرس العري، 6/ 70/ رقم 2866، وباب الفرس القطوف، 6/ 70، رقم 2867، وباب الحمائل وتعليق السيف بالعنق، 6/ 95/ رقم 2908"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام، وتقدمه للحرب، 4/ 1802-1083/ رقم 2307" عن أنس رضي الله عنه.(38/92)
3 أخرج ذلك أحمد في "مسنده" "1/ 348 و2/ 279 - الفتح الرباني"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 4"، وابن جرير في "التاريخ" "2/ 372، 373"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص64"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 389"، والطبراني كما في "المجمع" "6/ 52-53"، والبزار في "المسند" "2/ 299-300/ رقم 1741 - زوائده"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه؛ كما في "فتح القدير" "2/ 304"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 473" بأسانيد وألفاظ مختلفة فيها نحو المذكور عند المصنف مما يشهد أن للقسم المذكور أصلا، والله أعلم.
وقد حسن بعض طرقه ابن حجر في "الفتح" "7/ 236"، وابن كثير في "السيرة" "2/ 239"، وفيه نسيج العنكبوت على الغار، وما ذكر عند المصنف فيه له شواهد، والله الموفق.(38/93)
ص -70-…وفي المثل السائر1:
.......................................…والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار، ويدل على ذلك قوله امرأة العزيز في يوسف عليه السلام: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51]؛ فآثرته بالبراءة على نفسها.
قال النووي: "أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس2، بخلاف القربات؛ فإن الحق فيها لله".
وهذا مع ما قبله3 على مراتب، والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله4، ومن عمر النصف5، ورد أبا لبابة6 وكعب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عجز بيت لمسلم بن الوليد في "ديوانه" "164" وأوله:
يجود بالنفس إذا ضن الجواد بها….........................................
وانظر: "ديوان المعاني" "1/ 103-104"، و"الأمثال" "1/ 95" كلاهما للعسكري، و"الفروسية" "ص499- بتحقيقي" لابن القيم.
2 عبارته في "شرح صحيح مسلم" "14/ 12": "... وحظوظ النفس، أما القربات، فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالى".
3 وهو الإيثار بالمال.
4، 5 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب الرخصة في جواز التصرف بجميع المال، 2/ 129/ رقم 1678"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزكاة، باب في مناقب أبي بكر، 4/ 614-615/ رقم 3675"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والبزار في "البحر الزخار" =(38/94)
ص -71-…ابن مالك إلى الثلث1، قال ابن العربي: "لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر". هذا ما قال.
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة، فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي، فإن أخل بمقصد شرعي؛ فلا يعد ذلك إسقاطًا للحظ، ولا هو محمود شرعا، أما أنه ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "1/ 394/ رقم 270"، والدارمي في "السنن" "1/ 391" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي؛ فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده على فضائل الصحابة" "رقم 527" من طريق آخر ضعيف.
6 حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه أراد أن يتصدق بجميع ماله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث"، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 481"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله. 3/ 613/ رقم 3320"، وأحمد في "المسند" "3/ 452-453"، والدارمي في "السنن" "1/ 391"، وهو صحيح.
1 ورد ذلك في قصة توبة كعب بن مالك؛ فإنه قال: "قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113-116/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".(38/95)
فالثابت قوله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تحديد بالثلث، وقول كعب: "أمسك سهمي الذي بخيبر" لا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من ذلك أو أقل، قاله ابن العربي في "أحكامه" "2/ 1010".(38/96)
ص -72-…بمحمود شرعا؛ فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر، وإما لأمر آخر، أو لغير شيء؛ فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، وإذا لم يكن كذلك؛ فهو مخالف له، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له؛ فثبت أنه لأمر ثالث، وهو الحظ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ، هذا تمام الكلام في القسم الرابع، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ.
وأما القسم الخامس:
وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ضرر، ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة؛ فله نظران:
نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا، من غير قصد إضرار بأحد؛ فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه.
ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود، مع عدم استضراره بتركه؛ فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار؛ لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي؛ فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة، مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة، وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر.
وعلى كلا التقديرين؛ فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع1 العلم بالمضرة لا بد فيه [من أحد أمرين: إما تقصير2 في]3 النظر المأمور به وذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "ومع".(38/97)
2 وذلك في تقدير أنه فاعل لمأمور به، وقوله: "وإما قصد إلى نفس الإضرار"، وذلك يكون في التقديرين محتملا؛ إلا أنه يقال: إن قصد الإضرار في التقديرين خلاف فرض القسم الخامس، كما صرح به قوله: "فله نظران، نظر... إلخ"، وكما هو أصل المقسم في أول المسألة حيث قال: "والثاني ألا يقصد إضرارًا... إلخ"، وقد يجاب بأن قوله: "وأما قصد"؛ أي: مظنة قصد؛ فعومل بهذه المظنة، وإن لم يحصل القصد بالفعل كما صرح به في قوله: "فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد... إلخ"؛ إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "ولا يعد قاصدا له ألبتة" الذي معناه أنه لا يعامل حتى بمظنة القصد، ولعله زيد أنه يعامل معاملة المخطئ في التضمين للمتلف وفي الدية؛ فعليك باستيفاء المبحث. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/98)
ص -73-…ممنوع، وإما قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع أيضا؛ فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة، وينظر في الضمان بحسب1 النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة، ولا يعد قاصدا له ألبته، إذا لم يتحقق قصده للتعدي، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوبة، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ويلزم عنها إضرار الغير، ولأجل هذا2 تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة3، والعمل الأصلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "نحسب".
2 أي: لوجود النظرين السالفين، وأن أحدهما جائز لا محظور فيه، ويمكن انفكاكه عن الآخر. "د".
3 نقل بعضهم هنا عن القرافي دعواه أن صحة العبادة وإجزاءها لا تستلزم الثواب عليها وقبولها عند المحققين، وقال: إن الفقهاء قديما وحديثا على خلاف هذه الدعوى. ا. هـ. ولا يخفى عليك أن هذا الموضع ليس محل تحقيق هذا البحث، وإنما محله المسألة الأولى في الصحة والبطلان؛ فليراجع، على أنه تقدم للشاطبي هناك أنه تطلق الصحة بمعنى رجاء حصول الثواب، والبطلان بمعنى عدم رجائه، كما إذا دخل الصلاة رياء أو نحوه؛ فمع كونها لا تقضى لا ثواب عليها كما صرحوا به في الفروح. "د". قلت: مراده "خ" حيث قال: "ادعى القرافي في الفرق الخامس والستين أن القبول غير الإجزاء والصحة؛ فالمجزي عنده ما اجتمعت شروطه وأركانه وانتفت موانعه، ولا يقتضي سوى براءة الذمة، أما الثواب عليه الذي هو معنى القبول؛ فعزا إلى المحققين عدم لزومه، وقد تصدى الفقهاء قديما وحديثا لإبطال هذه الدعوى، وقرروا أن العبادة الواقعة على الوجه المشروع من استيفاء الشروط والأركان تكون صحيحة مجزئة، ويترتب على ذلك قبولها واستحقاق الثواب عليها".(38/99)
ص -74-…صحيحا، ويكون عاصيا بالطرف الآخر، وضامنا إن كان ثم ضمان، ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها، ومن قال هنالك بالفساد يقول به هنا، وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى1، هذا من جهة إثبات الحظوظ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة.
وأما السادس:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا؛ فهو على أصله من الإذن، لأن المصلحة إذا كانت غالبة؛ فلا اعتبار بالندور في انخرامها، إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة؛ إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود، ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة -مع معرفته بندور المضرة عن ذلك- تقصيرا في النظر، ولا قصدا إلى وقوع الضرر، فالعمل إذًا باق على أصل المشروعية.
والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها؛ كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط، وإباحة القصر في المسافة المحدودة، مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة2، وكذلك إعمال الخير الواحد3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي هو النظر الثاني، وهو علمه بالضرر ومظنة أن يقصده، وهو من هذا الوجه ممنوع، والفعل مخالف مناقض لقصد الشارع وما ناقض الشريعة باطل. "د".
2 أي: فلما كان أصحابه الذين اعتادوها يندر أن تحصل لهم المشقة الخارجة عن العادة في هذه الصنعة كما تقدم في بيان المشقة المعتادة وغير المعتادة؛ لم يعتبر هذا النادر. "د".(38/100)
3 أي: في الجزئيات، كما قيد به في الأقيسة؛ كالعمل برواية فلان وهي تحتمل الخطأ والكذب... إلخ، وكقياس النباش على السارق مثلا، وهو قياس جزئي عمل به مع احتماله الخطأ من وجوه عدة تعرف من مبحث الاعتراضات على الأقيسة التي تتجاوز خمسة وعشرين، وقيد الجزئيات ضروري فيهما؛ لأن التعبد بأصل القياس، وكذا برواية الآحاد من الأصول القطيعة في الدين، كما سبق له إشارة إلى ذلك. "د".(38/101)
ص -75-…والأقيسة الجزئية في التكاليف، مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه، لكن ذلك نادر؛ فلم يعتبر، واعتبرت المصلحة الغالبة، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب.
وأما السابع:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا؛ فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل الإباحة والإذن؛ فظاهر، كما تقدم في السادس، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا؛ فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين1، أم لا لجواز تخلفهما؟ وإن كان التخلف نادرا، ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور:
أحدها: أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم؛ فالظاهر جريانه هنا.
والثاني: أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل2 في هذا القسم؛ كقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الوجه الخامس، وهما التقصير في النظر إلى المأمور به، وقصد نفس الإضرار، وقوله: "لجواز تخلفهما" إبداء فرق بيه وبين الخامس الذي قيل فيه: إن أداءه للمفسدة قطعي عادة. "د".
2 ظاهره أنه نوع منه؛ فلا يتم به الاستلال عليه بتمامه، ولكن بالتأمل يرى أن هذا القسم كله ذريعة إلى ما يظن جلبه مفسدة، ولعل غرضه أن ما نص عليه بالفعل من جزئياته في الآيات والأحاديث داخل فيه؛ فتكون بقية جزئياته محمولة عليه قياسا؛ فيتم الدليل، ويظهر قوله "داخل في هذا القسم". "د".(38/102)
ص -76-…عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فإنهم قالوا: لتكفن عن سب آلهتنا، أو لنسبن إلهك. فنزلت1.
وفي الصحيح: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه". قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"2.
وكان عليه الصلاة والسلام يكف عن قتل المنافقين؛ لأنه ذريعة إلى قول الكفار: إن محمدا يقتل أصحابه3.
ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] مع قصدهم الحسن، لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شمته عليه الصلاة والسلام، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله4، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه.
والثالث: أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرازق في "التفسير" "2/ 215" عن معمر عن قتادة بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، رقم 1903"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، رقم 5141"، وغيرهم.
3 مضى تخريجه "2/ 467"، وهو في "صحيح البخاري".
4 من إذن أو خلافه كما في مسألة السب المذكورة في الحديث، فإن أصله بدون المتذرع إليه ممنوع، فحكم الأصل المنع، والذريعة كذلك، بخلاف بقية الأمثلة؛ فإن الأصل مأذون فيه، ولكنه أخذ حكم ما ترتب عليه. "د".(38/103)
ص -77-…فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية1؛ إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل أو من باب التعاون؛ منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه، فإن حمل محمل المتعدي2؛ فمن جهة أنه مظنة [للقصد أو مظنة] للتقصير3، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس، ولذلك وقع الخلاف فيه؛ هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء، أم لا؟ هذا نظر إثبات الحظوظ، وأما نظر إسقاطها؛ فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس؛ فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة.
وأما الثامن:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا؛ فهو موضع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة4 ترجح أحد الجانبين على الآخر، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه، لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة.
وأيضًا؛ فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن؛ لأنه ليس حمله على القصد إليهما5 أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما، وإذا كان كذلك؛ فالتسبب المأذون فيه قوي جدًا، إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنة، لكن له مجال6 هنا وهو كثرة الوقوع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: واقعات الضرر المادية التي تلزم عن الأفعال المشروعة.
2 كذا في "ط" وفي غيره: "التعدي".
3 العبارة في الأصل: "فوق جهة أنه مظنة للقصد أو هو"
4 في "ط": "ولا مزية".
5 أي: إلى المفسدة كالمعصية مثلا، وإن لم يتضرر بها أحد، والإضرار أي للغير. "د".(38/104)
6 في الأصل: "لكنه مجال".(38/105)
ص -78-…الوجود أو هو مظنة1 ذلك؛ فكما اعتبرت المظنة2 وإن صح التخلف؛ كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد، ولهذا أصل وهو حديث3 أم ولد زيد بن أرقم.
وأيضا؛ فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا؛ كحد الخمر؛ فإنه مشروع للزجر، والازدجار به كثير لا غالب4 فاعتبرنا5 الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل؛ فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر، وخروج عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 توسع زائد عما بني عليه الثامن، وهو كثرة الوقوع؛ فقد اعتبر في هذا مظنة الكثرة أيضا وإن لم تعرف الكثرة بالفعل. "د".
قلت: ولا تعدو أن تكون "الأكثرية" قرينة جريا على اعتبار الشارع لها فيما ضرب المصنف فيما بعد من تطبيقات، واكتفى فيها بمظنة القصد لا بمئنة أو بحقيقة القصد، وهذا أدنى إلى أخذ الحيطة في مراعاة مقاصد الشريعة، وتحقيق مصالح العباد.
2 أي: في السابع، وقوله: "لأنه مجال للقصد: تعليل غير واضح، لم يدفع حجة الأولين بأنه لا يعدو أن يكون احتمالا لا يبلغ علما ولا ظنا. "د".
قلت: والواقع أن عدم الوضوح آت من تأصيله على فكرة التعدي، أما لو أقيم على ضابط آخر من الموازنة للنتائج الواقعية؛ لكان أبين. انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص69".(38/106)
3 هو حديث أم يونس، قالت ما معناه أنها بعات أم ولد زيد جارية له بثمانمائة درهم إلى العطاء، وشرطت عليه أنه إذا باعها لا يبيعها إلا لها ثم اشترتها منه قبل الأجل بستمائة، فاستفتت عائشة؛ فقالت: بئس ما شريت -أي: لوجود الشرط الذي يخالف عقد البيع من أنه لا يبيعها إلا بها- وبئسما اشتريت... إلخ، وبالغت في الزجر عن هذا، أي: فكثيرا ما يكون القصد من هذا البيع التوصل إلى دفع قليل كالستمائة في كثير هو الثمانمائة، وتوسط الجارية حيلة، والأجل له فرق المائتين، فهذا كثير أن يقصد ولكنه ليس غالبا، هذا غرضه، ولكن ذلك بحسب زمانهم، أما اليوم؛ فإنه الغالب في القصد قطعا. "د".
قلت: وقد مضى تخريج أثر عائشة "1/ 456".
4 قد لا يسلم. "د".
5 في "ط": "فاعتبرت".(38/107)
ص -79-…الأصل هنا من الإباحة، لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع.
وأيضا؛ فإن [هذا] القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة1، فكما اعتبرت في المنع [هناك؛ فلتعتبر]2 هنا كذلك.
وأيضا؛ فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير؛ فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الخليطين3.
وعن شرب النبيذ4 بعد ثلاث5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجرد الاشتراك في التعبير عنه بلفظ: "كثرة" لا يفيد في الاشتراك في الحكم بعد ثبوت الفرق بأن هذا مجرد احتمال، وأما ذلك؛ ففيه ظن حصول المضرة أو المفسدة؛ فهذا يشبه المغالطة في الاستدلال. "د". وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574"، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".
4 ينظر في جعل هذا من الكثير لا الغالب؛ فالظاهر أن تأديته لمفسدة الإسكار غالبة لا سيما في البلاد الحارة، بل وبعد اثنين فيها، ومن هذا يعلم أن قوله بعد "ووقوع المفسدة... إلخ". في حيز المنع. "د".
5 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1589/ رقم 2004 بعد 82" عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه؛ فإن فضل شيء أهراقه".(38/108)
وانظر "فتح الباري" "10/ 56-57، باب الانتباذ في الأوعية والتور".(38/109)
ص -80-…وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها1.
وبين عليه الصلاة والسلام أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة؛ فقال: "لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه"2، يعني: أن النفوس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5587"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا، 3/ 1557"، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نتنبذوا في الدباء ولا في المزفت"، وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير، لفظ البخاري.
وانظر الحديث الآتي.
2 أخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب الإذن في الانتباذ، 8/ 309" بسند صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حين قدموا عليه عن الدباء، وعن النقير وعن المزفت والمزاد والمجبوبة، وقال: "انتبذ في سقائك أوكه واشربه حلوا. قال بعضهم: ائذن لي يا رسول الله في مثل هذا. قال: "إذًا، نجعلها مثل هذه"، وأشار بيده يصف ذلك.
وأصله في "صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت، 3/ 1577-1578/ رقم 1993" دون ذكر الإشارة.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 226-227" بألفاظ في بعضها: "فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه؟ وأشار بيده وفرج بينهما؛ فقال: "إذًا، تجعلها مثل هذه" وأشار بيديه أكثر من ذلك.(38/110)
وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 222-223/ رقم 5401 - الإحسان"، وفي آخره: "فقال رجل: يا رسول الله! ائذن لي في مثل هذه -وأشار النضر بن شميل "أحد رواته" بكفه-. فقالك: "إذًا، تجعلها مثل هذه". وأشار النضر بباعه، قال ابن حبان عقبه: "قول السائل: "ائذن لي في مثل هذا" أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها؛ فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتعدى ذلك باعا، فيرتقي إلى المسكر فيشربه".(38/111)
ص -81-…لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة وإن كثر وقوعها.
وحرم1 عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم2.
ونهى عن بناء المساجد على القبور3، وعن الصلاة إليها4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتأمل في هذه الأمثلة التي ذكرها يعلم أن بعضها مقطوع فيه بحصول المفسدة قطعا عاديا كقطع الرحم في مسالة الجمع، وبعضها مظنون كسفر المرأة مع غير ذي محرم، وكالخلوة بالأجنبية، وليس بلازم في المفسدة خصوص الزنا، بل يكفي في التحريم ما يكون من مقدماته، وهو مظنون في غالب الناس فيطرد الباب، وكالبيع والسلف؛ فالغالب فيه المفسدة، ومثله هدية المديان، وعليك بالنظر في الباقي؛ فقد يسلم في مثل الطيب للمحرم؛ فالغالب أن مجرده لا يكون سببا في إفساد الحج بالنكاح. "د".
2 ورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش المسلمين، 6/ 142-143/ رقم 3006، وكتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، 9/ 330-331/ رقم 5233"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 978/ رقم 1341" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" لفظ مسلم.
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377-378/ رقم 532" ضمن حديث جندب بن عبد الله البجلي مرفوعا: "... وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".(38/112)
وأخرج البخاري في "صحيح" "كتاب الصلاة، باب منه، 1/ 532/ رقم 435، 436، وكتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، 3/ 200/ رقم 1330، وباب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، 3/ 255/ رقم 1390، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6/ 494-495/ رقم 3453، 3454، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444، وكتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، 10/ 277 / رقم 5815، 5816"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377/ رقم 531" عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر مما صنعوا".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائر، باب النهي عن الجلوس إلى القبر والصلاة عليه، 2/ 668/ رقم 972" عن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها".(38/113)
ص -82-…وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتهم ذلك قطعتم أرحامكم"1.
وحرم نكاح ما فوق الأربع؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160، رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها، 6/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 465"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 165" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
والحديث متواتر؛ فإنه يروى عن جمع كبير من الصحابة، انظر: السنن الكبرى" "7/ 166"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 134".
2 وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234-235].(38/114)
قال ابن عطية في "تفسيره" "1/ 315": "وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وجوزوا ما عدا ذلك".
قلت: وما بين المعقوفتين بعدها من "د".(38/115)
ص -83-…و[حرم]1 على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح2، وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"خ" و"ط".
2 وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا؛ إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار".
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، 2/ 1127/ رقم 938"، عن أم عطية رضي الله عنها.
و"القسط" و"الأظفار" نوعان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، و"النبذة": القطعة والشيء اليسير.
3 وذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 9/ رقم 4985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، 2/ 837/ رقم 1180" عن عطاء أن صفوان بن يعلى ابن أمية أخبره أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. قال: فلما كان بالجعرانة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، معه ناس من أصحابه منهم عمر؛ إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخا بطيب؛ فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه؛ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فأتي به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك؛ فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة؛ فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك".(38/116)
ومنها ما أخرجه مسلم في "صحيحه "كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، 2/ 1030/ رقم 1409" عن عثمان بن عفان مرفوعا: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يَخْطُب".(38/117)
ص -84-…ونهى عن البيع والسلف1.
وعن هدية المديان2.
وعن ميراث القاتل3.
وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين4.
وحرم صوم يوم عيد الفطر5، وندب إلى تعجيل الفطر6 وتأخير السحور7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 469".
2 سيأتي تخريجه "ص117"، وهو ضعيف.
3 مضى تخريجه "2/ 521".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم"، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام"، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه".
5 سيأتي تخريجه "ص469".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعا: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
7 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 147" عن أبي ذر مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور"، وإسناده ضعيف، فيه سلميان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة، ويدل على استحباب تأخير السحور أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر، 4/ 138/ رقم 1921"، عن زيد بن ثابت؛ قال: "تسحرنا مع النبي صلى لله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت "أنس بن مالك": كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية". وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب.(38/118)
ص -85-…إلى غير ذلك مما هو ذريعة، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة، وليس بغالب ولا أكثري1، والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة2، فإذا كان هذا معلومًا على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني، ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يكون الشيء أكثر في الوقوع من مقابله، ولكنه لا يصل إلى أن يكون هو الغالب ومقابله نادر. "د".
2 وقع بعض الفقهاء عند إجراء قاعدة الذرائع في أغلاط فادحة كتصريح بعضهم بالمنع من تعلم الطبيعيات بناء على أنها تفسد الاعتقاد بالخالق وتجر إلى هاوية الإلحاد غالبا، ولم ينظر إلى أن تعلمها قد أصبح الوسيلة الضرورية للنجاة من السلطة القاتلة وهي سلطة الاستعمار، ثم إن المفسدة التي تنشأ عنها وهي تزلزل العقيدة يمكن التقصي عنها بتعليم أصول الدين على الطريق المحكم، والوجه الذي يتجلى به أن الشريعة والعلم الصحيح على وفاق متين. "خ".(38/119)
ص -86-…المسألة السادسة:
كل من كلف بمصالح نفسه؛ فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار1، والدليل على ذلك أوجه:
أحدها: أن المصالح؛ إما دينية أخروية، وإما دنيوية، أما الدينية؛ فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها؛ إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها، فإذا فرضنا أنه مكلف بها؛ فقد تعينت عليه، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين؛ فلم يكن غيره ملكفًا بها أصلا.
والثاني: أنه لو كان الغير مكلفًا بها أيضًا؛ لما كانت متعينة على هذا المكلف، ولا كان مطلوبًا بها ألبتة؛ لأن المقصود حصول المصلحة أو درء المفسدة، وقد قام بها الغير بحك التكليف؛ فلزم أن لا يكون هو مكلفًا بها، وقد فرضناه مكلفًا بها إلى التعيين، هذا خلف لا يصح.
والثالث: أنه لو كان الغير مكلفًا بها؛ فإما على التعيين، وإما على الكفاية، وعلى كل تقدير؛ فغير صحيح، أما كونه على التعيين فكما تقدم، وأما على الكفاية؛ فالفرض أنه على المكلف عينًا لا كفاية، فيلزم أن يكون واجبًا عليه عينا2، غير واجب عليه عينًا3 في حالة واحدة، وهو محال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يأتي له محترزه في قوله: "اللهم إلا أن تلحقه ضرورة، فإنه عند ذلك... إلخ"، وفي الحقيقة هذا القيد مستغنًى عنه؛ لأنه لا يتحقق التكليف بمصالح نفسه إلا مع اختيار؛ فلم يفد أمرًا زائدًا على ما تضمنه التكليف؛ لأنه أحد شروطه. "د".
2 بالفرض الأصلي. "د".
3 بفرض أن الغير مكلف به كفاية، الذي يلزمه أن الشخص نفسه يكون أيضا مكلفًا به كفاية؛ لأنه لا يتأتى أن يكون الشيء الواحد يكلف به البعض كفاية والبعض كفايةً وعينًا. "د".(38/120)
ص -87-…اللهم إلا أن تلحقه ضرورة، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح أو ببعضها مع اضطراره إليها؛ فيجب على الغير القيام بها، ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض، والتعاون، وغسل الموتى ودفنهم، والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها، والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها؛ فعلى هذا يقال كل من لم يكلف بمصالح نفسه؛ فعلى غيره القيام بمصالحه، بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر؛ فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده؛ كان سيده مطلوبًا بالقيام بمصالحه؛ والزوجة كذلك صيرها الشارع [للزوج]1 كالأسير تحت يده؛ فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع، والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته؛ فكان مكلفًا بالقيام عليها؛ فقال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية2 [النساء: 34].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 لأنه يدخل في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} نفقات الزوجة غير المهر كما هو أحد التفسيرين، ولذلك إذا عجز عن النفقة زالت عنه صفة القيامة على الزوجة فكان من حقها أن تطالبه بطلاقها كما هو مذهب مالك والشافعي. "د".(38/121)
ص -88-…المسألة السابعة:
كل مكلف بمصالح غيره؛ فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا "أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها"، فإن كان قادرًا على ذلك من غير مشقة؛ فليس على الغير القيام بمصالحه، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرًا على الجميع، وقد وقع عليه التكليف بذلك؛ فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، وهو محال.
وأيضا؛ فما تقدم1 في المسألة قبلها جارٍ هنا، ومثال ذلك السيد، والزوج، والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد، والزوجة، والأولاد، فإنه لما كان قادرًا على القيام بمصالحه ومصالح من تحت حكمه؛ لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره؛ سقط عنه الطلب بها، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة، ينظر فيه من جهة أخرى2 لا تقدح في هذا التقدير.
وإن لم يقدر على ذلك ألبتة، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف؛ فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة أو عامة، فإن كانت خاصة سقطت، وكانت مصالحه هي المتقدمة؛ لأن حقه مقدم على حق غيره شرعًا، كما تقدم في القسم الرابع، من المسألة الخامسة، فإن معناه جارٍ هنا على استقامة، إلا إذا أسقط حظه؛ فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من الأدلة الثلاثة، كما أن هذا الدليل جار في تلك المسألة أيضا بتغيير بسيط في المقدمة الأولى، فيقال: "إذا كان قادرا على مصالح نفسه وقد وقع عليه التكليف بذلك... إلخ". "د".
2 كأن يحكم بالفراق للزوجة للعسر بالنفقة، ويجري في الرقيق حكمه أيضا. "د".(38/122)
ص -89-…وإن كانت المصلحة عامة؛ فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه، على وجه لا يخل بأصل مصالحهم، ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف: لا بد لك من القيام بما يخصك وما يعم غيرك، أو بما يخصك فقط، أو بم يعم غيرك فقط، والأول لا يصح؛ فإنا قد فرضناه مما لا يطاق، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف، فليس بمكلف بهما معًا أصلا.
والثاني أيضا لا يصح؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا؛ إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه؛ فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع1 في المسألة، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2 في المسألة، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2؛ لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة، وهو باطل بما تقدم من الأدلة3، وإذا وجب عليهم تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة، وهو الثالث من الأقسام المفروضة.
فصل:
إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه؛ فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما تقدم نظيره في مسألة الترس، وإن كان موضوعها فيما لا يمكن أن يقوم بالمصلحة غيره. "د".
2 أي: وإلا نقل أنه لا يصح، بل قلنا إنه يقدم المصلحة الخاصة ولو لم يدخل عليه مفسدة في القيام بالعامة، لزم تقديم الخاصة على العامة بإطلاق وبدون القيد المذكور وهو باطل. "د".
3 التي هي النهي عن تلقي السلع، والاتفاق على تضمين الصناع، إلى غير ذلك. "د".(38/123)
ص -90-…وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح؛ إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين، لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت، وهو "مال بيت المال"؛ فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه، ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصًا بمثل هذه الوجوه؛ فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين، ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين؛ إذ لو فرض على غير ذلك الوجه؛ لكان فيه ضرر على القائم، وضرر على المقوم لهم.
أما مضرة القائم؛ فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح، والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة، ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول1، وقالت جماعة: إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة؛ لم يلزمه قبوله، وجاز له التيمم إلى غير ذلك، وأصله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]؛ فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة، وما ذاك2 إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب، هذا وجه، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة، والتهمة اللاحقة3 عند القبول من المعين، ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام أن يأخذوا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(38/124)
1 ينقسم التصرف في الأملاك بغير عوض إلى نقل وإسقاط، فما كان من باب النقل كالهبات والواصايا يتوقف على القبول لما فيه من المنعة، وهي مما يصعب على أرباب المروءات احتماله، ولا سيما من أصحاب الأخلاق السافلة، وأما ما كان من باب الإسقاط كالعتق؛ فلا يفتقر إلى قبول؛ لأن الحق فيه لمسقطه، فإذا أسقطه سقط، وقد يقع في بعض المسائل اختلاف فيلحقها بعض العلماء بالنقل ويحلقها آخر بالإسقاط كما جرى الخلاف في الإبراء من الدين؛ هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والراجح أنه من قبيل تمليك ما في الذمة فيفتقر في نفاذه إلى قبول الدين. "خ".
2 في "ط": "ذلك".
3 في "ط": "اللاصقة".(38/125)
ص -91-…الخصمين أو من أحدهما أجرة على فصل الخصومة بينهما، [وامتنع قبول هدايا الناس للعمال]1، وجعلها عليه الصلاة والسلام من الغلول2 الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب.
وأما مضرة الدافع؛ فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت، أو في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، ولا ضابط في ذلك يرجع إليه، ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية، التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها؛ إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة، فيكون سببًا في إبطال الحق وإحقاق الباطل، وذلك ضد المصلحة، ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى:
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109].
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47].
{مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
إلى سائر ما في هذا المعنى، وبالوجه الآخر3 علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين، وهذا كله في غاية الظهور، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من نسخة "ماء/ ص236".
2 كما سيأتي "ص118"، وتخرجيه هناك.
3 وهو كونه ذريعة إلى الميل... إلخ، وقد تقدم في كلامه تعليل آخر لهذا وهو ما يلحقه من الظنون والتهم، فيكون فيه ضرر على القائم والمقوم لهم معا، وقد يقال: إن الإجماع علته هذه الذريعة فقط كما يظهر من كلامه، والأول لا يقتضي هذا الإجماع؛ إلا أن يقال: ضمه إليه يقوي سند الإجماع. "د".(38/126)
ص -92-…فصل:
هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره.
فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره؛ فهي مسألة الترس وما أشبهها؛ فيجري فيها خلاف كما مر، ولكن قاعدة "منع التكليف بما لا يطاق" شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا، وقاعدة "تقديم المصلحة العامة على الخاصة"1 شاهدة بالتكليف به؛ فيتواردان على هذا المكلف من جهتين، ولا تناقض فيه؛ فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف.
وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ؛ فقد يترجح جانب المصلحة العامة، ويدل عليه أمران:
أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها؛ فمثل هذا داخل تحت حكمها.
والثاني: ما جاء في خصوص الإيثار في قصة2 أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقوله: "نحري دون نحرك"، ووقايته له حتى شلت يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم3، وإيثار4 النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي قاعدة متعارفة عند أهل العلم؛ حتى لا يكاد ينكرها إلا من لا خبرة له بأصول الفقه، والقول بها مذكور مشهور. "ماء/ ص237".
2 وظاهر أنها في الموضوع، وأنها مصلحة عامة في مقابلة مصلحته الخاصة وحياة أبي طلحة حياة شخص، وحياة الرسول حياة أمة. "د".
3 مضى تخريجه "2/ 174 و3/ 69"، والذي شلت يده هو طلحة بن عبيد الله وليس بأبي طلحة، كما قال المصنف.
4 انظر ماذا يقال في هذا؛ هل يقال: إنها من الموضوع وإن ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم خاص في مقابلة عام لأهل المدينة؟ إذا قيل هذا؛ فإنه يتنافى مع ما تقدم في قصة أبي طلحة، أما المؤلف؛ فوجه القصتين باختلاف الاعتبار؛ فجعل إيثاره عليه السلام لأهل المدينة من الموضوع حقيقة، وأنه خاص في مقابلة عام، وجعل إيثار أبي طلحة خاصًا لعام باعتبار أن حياة الرسول مصلحة للدين وأهله؛ فعليك بالنظر في الجميع. "د".(38/127)
ص -93-…مبادرته للقاء العدو دون الناس، حتى يكون متقى به1؛ فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته صلى الله عليه وسلم بنفسه ظاهر؛ لأنه كان كالجنة للمسلمين.
وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله2، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عدمه؛ فتعم مفسدته الدين وأهله، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين3 النوري حين تقدم إلى السياف، وقال: "أوثر أصحابي بحياة الساعة" في القصة4 المشهورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم "ص69"، ويدل عليه أيضا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين، 3/ 1041/ رقم 1776 بعد 79" عن البراء؛ قال: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم".
2 في نسخة "ماء/ ص237" و"ط": "... بقاؤه الدين وأهله مصالح".
3 في النسخ المطبوعة و"ط": "أبو الحسن"، وهو خطأ، والنوري اسمه أحمد بن محمد الخراساني البغوي، له عبارات دقيقة، يتعلق بها من انحرف من الصوفية، نسأل الله العفو، مات سنة "295هـ". انظر: "السير" "14/ 70".(38/128)
4 ذكرها القشيري في "رسالته" "ص112" في "باب الجود والسخاء، ص112"؛ قال: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليفة؛ أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد؛ فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والنوري وجماعة فقبض عليهم فتبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم النوري، فقال السياف: تدري إلى ماذا تبادر؟ فقال: نعم. فقال: وما يعجلك؟ قال: أوثر على أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الخبر إلى الخليفة؛ فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم، فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية فأجابه عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإن لله تعالى عبادًا إذا قاموا أقاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظًا أبكى القاضي؛ فأرسل القاضي إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم".
وذكرها أبو نعيم في "الحلية" "10/ 250-251"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "5/ 134"، والذهبي في "السير" "14/ 71"، والهجويري في "كشف المحجوب" "ص421"، والطوسي في "اللمع" "ص492".(38/129)
ص -94-…وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا، والنواهي اللازمة اجتنابها عينا؛ فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلًا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا، أو لا.
فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير؛ لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق، ولا أظن هذا القسم واقعًا؛ لأن الحرج وتكليف ما لا يطاق مرفوع، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع.
وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصًا ما بحيث يعد خلافه كمالا؛ فهذا من جهة المندوبات، ولا تعارض المندوبات الواجبات، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه وتعارضه، حتى يحكم فيها بقلبه وينظر فيها بحكم الغلبة1، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش وهو في الصلاة2، ومن نحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "إني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فنظره فيها واشتغاله بها حتى يبت فيها رأيا وهو في الصلاة لم يكن باختياره، بل غلب عليه الفكر في المصلحة العامة، وهو في الحديث جولان الفكر في حالة الأم حتى قضى بالتخفيف عليه الصلاة والسلام. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة 3/ 89" معلقا: "قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة".
ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ ق60/ ب"، وصالح بن أحمد في "مسائله" بإسناد صحيح، وصححه ابن حجر في "الفتح" "3/ 90"، والعيني في "عمدة القاري" "6/ 330"، ونحوه عند عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 123-124".
وانظر: "تغليق التعليق" "2/ 448"، و"مسند الفاروق" "1/ 184" لابن كثير، و"المحلى" "3/ 100 و4/ 179".(38/130)
ص -95-…لأسمع بكاء الصبي"1 الحديث.
وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع؛ فإنه2 يحل محل مفاسد تدخل عليه، وعوارض تطرقه؛ فهل يعد ذلك من قبيل المفسد الواقعة في الدين أم لا؟ كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب وحب الرياسة، وكذلك السلطان أو الولي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف، والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفًا من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة، وكان ذلك الترك مؤيدًا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة؛ فالقول هنا بتقديم العموم أولى لأنه لا سبيل لتعطيل3 مصالح الخلق ألبتة؛ فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبًا بها؛ فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس4 خاصة، لا سيما في المنهيات؛ لأنها مجرد ترك، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب، وهو يسير؛ فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية؛ فليس بعذر لأنه أمر قد تعين عليه فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى؛ إذ ليس من المشقات، كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة أو الجهاد عينا، أو الزكاة؛ فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب وما أشبه ذلك وإن فرض أن يقع به؛ بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع.
فإن قيل: كيف هذا، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك؛ فصار كالمتسبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 248".
2 أي: فإن التوقع والترقب لحصول مفاسد تدخل عليه قد يحل محل الحصول بالفعل؛ أي: فالمقام في ذاته كما يحتمل أن يحصل لمن يقوم بالوظائف العامة دخول المفاسد بالفعل يحتمل ألا يحصل بالفعل، بل يتوقع له ذلك، وقد لا يحصل التوقع ولا الحصول بالفعل، بل يسلم منهما، أي: والتوقع احتما قوي؛ فهل يعامل معاملة الحصول بالفعل، أم لا؟ "د".(38/131)
3 في "ط": "إلى تعطيل".
4 في "ط": "النفوس".(38/132)
ص -96-…لنفسه في الهلكة، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه؟
فالجواب أنه لو كان كذلك -وقد تعين عليه القيام بذلك العام- لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات، وذلك باطل باتفاق، نعم، قد يقال: إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم أو غصب أو تعد؛ فهذا أمر خارج عن المسألة؛ فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف، وإنما حاصل هذا أنه واقع1 في مخالفة أسقطت عدالته؛ فلم تصح إقامته وهو على تلك الحال.
وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصحلة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها؛ فهو موضع نظر، قد يرجح جانب السلامة من العارض، وقد يرجح جانب المصلحة العامة، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء؛ فلا ينحتم عليه طلب، وبين من له قوة في إقامة المصلحة وغناء ليس لغيره -وإن كان لغيره غناء أيضا- فينحتم أو يترجح الطلب، والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة، فما رجح منها غلب، وإن استويا كان محل إشكال وخلاف بين العلماء، قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية.
فصل:
وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها، ولذلك مثال واقع:
حكى عياض في "المدارك"2 أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وقع".
2 "2/ 589-590 - ط بيروت".(38/133)
ص -97-…فلما وصل كتابه إليهما؛ قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة -لأن الديلم كانوا روافض- لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصًا لله لنهضت. قال القاضي ابن الطيب: فقلت لهم: كذا قال1 المحاسبيّ وفلان ومن في عصرهم: "إن المأمون فاسق لا نحضر2 مجلسه"؛ حتى ساق3 أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه4 ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم؛ حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: "إذ شرح الله صدرك لهذا؛ فاخرج" إلى آخر الحكاية.
فمثل هذا إذا اتفق يلغى5 في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد؛ فلا يكون لها اعتبار6، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 590": "كذا قال ابن كلاب والمحاسبي...".
2 كذا في "الترتيب" و"ط": "نحضر" بالنون، وفي غيره: "يحضر".
3 في "الترتيب": "سبق".
4 في "الترتيب" زيادة: "بعده".
5 في الأصل و"ط": "تلغى".(38/134)
6 من واجب العلماء أن يقوموا بالذب عن الحق ولا يستخفوا بشأن من تصدوا لمحاربته من شيعة الباطل، ولا سيما حيث أصبح الجهل بحقائق الشريعة ضاربا أطنابه؛ فلا ينعق أخو ضلالة أو هوى إلا وجد حوله طائفة تلقي إليه السمع وتتلقى ما يوحيه إليه وساوسه بتقليد أعمى، ولا يزال الملحدون ينصبون المكايد للإسلام منذ نشأ وبلغ أشده، ولكن علماؤه كانوا ذوي بصائر نيرة وعزائم متقدة؛ فلا يغفلون عن تفقد الحالة الاجتماعية، حتى إذا أبصروا بخارًا سامًا يتصاعد من روح خبيثة بادروا إلى قطع أثره بما استطاعوا من تحذير بالغ أو مناظرة ترد المبطل على عقبه خاسئًا، وقد انتهز ملحدوا هذا العصر خمول العلماء فرصة؛ فأخذوا يتجشئون بوساوسهم في كل ناد، وحق على الذين أوتوا الحكمة أن يتقصوا أثرهم ويسدوا المنافذ في وجه مكايدهم؛ فإن الله لا يهدي كيد الخائنين. "خ".(38/135)
ص -98-…المسألة الثامنة:
التكاليف إذا علم قصد المصحلة فيها؛ فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال:
أحدها:
أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها؛ فهذا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد؛ لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد؛ إذ ليست بعقلية، حسبما تقرر في موضعه1، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف؛ فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها؛ فغاب عن أمر الآمر بها؟ وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة، بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد.
وأيضا؛ فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر، إلا دليل ناص على الحصر، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي2؛ إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا: "لم أشرع هذا الحكم إلا لهذا الحكم"3، فإذا لم يثبت الحصر، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد؛ كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم، فنقص عن كمال غيره.
والثاني:
أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع، مما اطلع عليه أو لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة الحسن والقبح في كتب الأصول، وتقدم للمؤلف فيه كلام في جملة مواضع. "د". قلت: انظر ما قدمناه في التعليق على "1/ 125-129".
2 لأنه الدليل الذي يؤخذ به في ذلك. "د".
3 في الأصل: "الحكمة".(38/136)
ص -99-…يطلع عليه، وهذا أكمل من الأول؛ إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد، والقصد إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أنه هذا العمل شرع لمصلحة كذا، ثم عمل لذلك القصد؛ فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة، غافلا عن امتثال الأمر فيها؛ فيشبه مَنْ عملها مِنْ غير ورود أمر1، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق، أو الوجاهة2 عنده، أو نيل شيء من الدنيا، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه؛ فلا يكمل3 أجره كمال من يقصد التعبد.
والثالث:
أن يقصد مجرد امتثال الأمر، فهم قصد المصلحة أو لم يفهم؛ فهذا أكمل وأسلم.
أما كونه أكمل؛ فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرًا، ومملوكًا ملبيًا؛ إذ لم يعتبر [إلا مجرد الأمر]4.
أيضا، فإنه لما امتثل الأمر؛ فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا، ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل؛ فصار مؤتمرًا في5 تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل بمجرد هواه، وهذا مذموم؛ فيكون فعل ما يشبه المذموم. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص239": "والوجاهة".
3 تقدم أن من يأخذ في السبب المأذون فيه على أنه مأذون فيه، وكان تصرفه لقصد مصلحة نفسه يكون عاملا لمجرد الحظ، ولكنه لا يخلو من الأجر؛ لأنه لم يأخذه على أنه أمر عادي بمجرد الهوى الذي هو الحظ المذموم. "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 في "خ": "للمؤتمر".(38/137)
ص -100-…وأما كونه أسلم؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية، واقف على مركز الخدمة1، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد2 التعبد، بل لا يدخل عليه في الأكثر، إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء، بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح؛ فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم، وإن كان واسطة لنفسه أيضا؛ فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة؛ فتقوم لذلك نفسه.
وأيضا؛ فإن حظه هنا ممحو من جهته، بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها، ولهذا بسط في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: موضوعها الذي فيه الفائدة. "ماء/ ص239".
2 في نسخة "ماء/ ص239": "وقصد".(38/138)
ص -101-…المسألة التاسعة:
كل ما كان من حقوق الله؛ فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه؛ فله فيه الخيرة.
أما حقوق الله تعالى؛ فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها؛ كالطهارة على أنواعها، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد1، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات، والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو2 حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان، جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة، فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاة من الصلوات المفروضات، أو زكاةً أو صومًا أو حجًا أو غير ذلك؛ لم يكن له ذلك، وبقي مطلوبًا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلًا من غير3 ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق، أو الربا، أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنى أو الخمر أو الحرابة، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك؛ لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جدًا في مجموع الشريعة؛ حتى إذا كان الحكم دائرًا بين حق الله وحق العبد؛ لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه نهى عن المنكر، بل عن أنكر المنكرات، وتغيير له باليد؛ فإن الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، فمن وقف في طريق ذلك؛ حق على المسلمين حربه حتى يذعن ويترك العناد. "د".
2 في الأصل: "وحق".
3 في "ط": "مثلا بغير".(38/139)
ص -102-…فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه؛ فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت "لا" وهو الفقه؛ كان نقضًا لما أصلت لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: "نعم" خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يفوت عضوا من أعضائه، ولا مالًا من ماله؛ فقد قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ثم توعد عليه، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188].
وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة؛ فما ظنك بتفويته جملة؟ وحجر على مبذر المال، ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال1؛ فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة.
لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذي2 به يحصل [له]3 ما طلب به من القيام بما كلف به؛ فلا يصح للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك ضمن حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"عن المغيرة رضي الله عنه.
2 يصح رجوعه للثلاثة جملة وتفصيلا. "د".
3 زيادة من الأصل و"ط".(38/140)
ص -103-…ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه؛ فهنالك يتمحض حق العبد؛ إذ ما وقع مما لا يمكن رفعه؛ فله الخيرة فيمن تعدى عليه لأنه قد صار حقا مستوفًى في العير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي؛ قال الله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده؛ فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع المظالم عنك غير واجب1 على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال؛ فجار على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع؛ فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب.
وأما تحريم الحلال وتحليل2 الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به أو تحرم؛ فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة.
فإن قيل: فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق؛ فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ينظر ليطبق على ما ذكره قبل؛ حتى لا يعد مخالفًا له. "د". وفي "ط": "ودفع المظالم"، وفي غيره: "الظالم"!
2 في "ط": أو تحليل".(38/141)
ص -104-…فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرًا؛ فقسم العبد إذا ذاهب، ولم يبق إلا قسم واحد.
فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقًا له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقًا لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم1 هذا المعنى مبسوطًا في الكتاب، وإذا كان كذلك؛ فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق.
فأما ما هو لله صرفًا2؛ فلا مقال فيه للعبد.
وأما ما هو للعبد؛ فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار، وقد ظهر بما تقدم آنفًا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق؛ فله إسقاطها وله الاعتياض3 منها والتصرف فيما بيده من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المسألة التاسعة عشرة من النوع الرابع، والفصل الذي بعدها في تقسيم الأفعال إلى ثلاثة أقسام؛ فقوله بعد: "في آخر النوع الثالث" غير ظاهر. "د".
2 أي: أو كان حقه تعالى مغلبًا، وقوله: "وما هو للعبد"؛ أي: ما كان حقه فيه مغلبًا؛ كحق المدبر ألا يباع مثلًا، وكالأمور المالية وغيرها مما ذكر في هذه المسألة قبل هذا وما ذكره هنا؛ فكل هذا حق العبد فيه مغلب فله إسقاطه، وعلى هذا يفهم قوله: "تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة"، أي: وإن كان فيه حق لله ولكنه غلب حق العبد؛ فاجتمع كلام المؤلف أولًا وآخرًا، وقوله: "في أنواع المتناولات"؛ أي: لا في جنسها؛ فليس له أن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو اللباس أو المسكن وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله ومن الضروريات التي بها إقامة الحياة. "د".
3 أي: طلب العوض. "ماء/ 240".(38/142)
ص -105-…غير حجر عليه، إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العبادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله، وما هو حق للعباد، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب1، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتعرض المصنف في "الاعتصام" "2/ 570 - ط ابن عفان" إلى هذا المعنى أيضا، وأحال على هذا الكتاب.(38/143)
ص -106-…المسألة العاشرة1:
التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود، مع العلم بكونها لم تشرع له؛ فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين:
إحداهما: قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر.
والأخرى: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام؛ هل2 يصح شرعًا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا؟
وهو3 محل يجب الاعتناء به، وقبل النظر في الصحة أو عدمها4 لا بد من شرح هذا الاحتيال.
وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرم أشياء؛ إما مطلقًا من غير قيد ولا ترتيب على سبب؛ كما أوجب الصلاة، والصيام، والحج وأشباه ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام على الحيل في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وهو في "الفتاوى الكبرى" "3/ 98-285"، وكذا تلميذه ابن القيم في المجلد الثالث من "إعلام الموقعين" والمجلد الرابع إلى صفحة "63" منه.
وانظر: "مقاصد الشرعية الإسلامية" "ص115 وما بعدها" لابن عاشور، و"الحيل" لأبي حاتم القزويني، نشر شاخت، و"الحيل الفقهية في المعاملات المالية" محمد بن إبراهيم، ولا سيما "ص21 وما بعدها"، و"كشف النقاب عن موقع الحيل من السنة والكتاب" لمحمد عبد الوهاب البحيري، نشر سنة "1974م"، و"الحيل المحظور منها والمشروع" لعبد السلام ذهني، نشر سنة "1946م".
2 الجملة الاستفهامية خبر عن قوله: "التحيل بوجه... إلخ". "د".
3 في نسخة "ماء/ ص240" و"ط": "هو".
4 في "ط": "وعدمها".(38/144)
ص -107-…و[كما]1 حرم الزنى والربا والقتل ونحوها، وأوجب أيضا أشياء مرتبة2 على أسباب، وحرم أخر كذلك؛ كإيجاب الزكاة والكفارات، والوفاء بالنذور، والشفعة للشريك، وكتحريم المطلقة، والانتفاع بالمغصوب أو المسروق، وما أشبه ذلك، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه، بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالًا في الظاهر أيضا.
فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلا، كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر؛ فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر أو دواء مسبت3، حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه، أو قصرها فأنشأ سفرًا ليقصر الصلاة، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها قضى الحاكم بذلك ثم وطئها4، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدًا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"خ" و"ماء/ ص241" و"ط".
2 في الأصل: "مترتبة".
3 أي: منوم "ماء/ ص241".
4 أجاز قوم هذه المسألة بناء على ما فصلوه من أن حكم الحاكم المخالف لما في الواقع إن كان في مال لم يكن موجبا للمحكوم له، وإن كان في مثل نكاح أو طلاق؛ فإنه يكون نافذًا ظاهرًا وباطًنا، ووقف هؤلاء في حديث: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا؛ فلا يأخذه"، على ما يدل عليه بظاهره وهو المال خاصة، والتحقيق أن حكم الحاكم إنما يجري على الظاهر، ولا نفاذ له في الباطن بحال، وحرمة الإبضاع فوق حرمة الأموال؛ فهي أحق بالاحتياط وأولى بأن لا يرفع حقها الثابت شهادة باطلة أو حكم قام على غير بينة عادلة. "خ".(38/145)
ص -108-…ثمنًا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببًا مجهزًا كإشراع الرمح1 وحفر البئر ونحو ذلك، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام وإسقاط الواجب2، ومثله جارٍ في تحريم الحلال؛ كالزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه، أو إثبات حق لا يثبت؛ كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين، وعلى الجملة؛ فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن، كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الزمل".
2 حرر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أن الممنوع من التحيل ما يقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه أو إسقاط الواجب مع قيام سببه، وذكر في إنكار أن يكون من الشريعة الحكيمة وجوهًا كثيرة أشدها أنه مخادعة لله كما يخادع المخلوق، ثم ما يتضمنه من المكر والتلبيس والإغراء به، وتعليمه لمن لا يحسبه، ثم تسليط أعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه، ويكفي من هذه الوجوه أنه إجهاد الفكر في نقض ما أبرمه الرسول وإبطال ما أوجبه أو تحليل ما حرمه. "خ".(38/146)
ص -109-…المسألة الحادية عشرة:
لحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة1، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات2 يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع.
فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] إلى آخر الآيات؛ فذمهم وتوعدهم وشنع عليهم، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم وأموالهم، لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار وتصديق قلبي، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار.
وقيل فيهم: إنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9].
وقالوا عن أنفسهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]؛ لأنهم تحيلوا بملابسة الدين وأهله إلى أغراضهم الفاسدة.
وقال تعالى في المرائين بأعمالهم: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الآية [البقرة: 264].
وقال: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 38].
وقال: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]؛ فذم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في الفصل التالي للمسألة الثانية عشرة أن بعض ما يصدق عليه حيلة بالمعنى المذكور يكون صحيحًا مشروعًا؛ فلذا قال: "في الجملة". "د".
2 سيأتي له حديث: "لا ترتكبوا"، وهو عام؛ فلعله لعدم قوته لم يعتد به دليلاً مستقلًا كافيًا للعموم. "د". قلت: سيأتي "ص112" أنه حسن في أقل أحواله.(38/147)
ص -110-…وتوعد1 لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي2 يتوصل بها إليه.
وقال تعالى في أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ...} الآية إلى قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17-20]؛ لما احتالوا على إمساك حق المساكين بما قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم3؛ عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم.
وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية [البقرة: 65]. وأشباهها؛ لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة4 الاصطياد في غيره.
وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا...} إلى قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التوعد في الآية الثانية؛ إما بناء على عطف {وَالَّذِين} على لفظ {الْكَافِرِين} قبله أو على أنه مبتدأ، وقوله بعد {فَسَاءَ قَرِينا} توعد بأن الشيطان يكون قرينه في النار فيتلاعنان. "د".
2 في آيات المنافقين المقدمتان السابقتان موجودتان؛ ففيها قلب الأحكام من عدم عصمة دمائهم وأموالهم إلى عصمتها، وفيها جعل ما قصد به الدخول تحت طاعة الله اختيارًا لما قصدوا إليه من الإحراز المذكور، أما في آيات الرياء؛ فتوجد مقدمة جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معنى وسيلة لغيره، ولكن ما هو الحكم الذي أسقطوه أو قلبوه؟ تأمل. "د".
3 كأنه كان في شرعهم أن من لا يحضر الجذاذ يسقط حقه؛ فاحتالوا بهذه الحيلة لسقوط حق المساكين. "د".(38/148)
4 بأن حفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول؛ فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج، فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء، فيصطادونها يوم الأحد وكانت الحيتان لا تظهر إلا يوم السبت؛ ففي الحقيقة اصطيادها يوم السبت في صورة أنه في يوم الأحد، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام. "د".(38/149)
ص -111-…بأن يطلقها، ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها.
وقد جاء في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا...} إلى قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 228] إن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد؛ فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ثم يطلقها، ثم يرتجعها كذلك قصدًا؛ فنزلت1: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ونزل مع ذلك: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} الآية [البقرة: 229] فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه، وهذه كلها حيل على بلوغ غرض2 لم يشرع ذلك الحكم لأجله.
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يوصي لوارث احتيالًا على حرمان بعض الورثة.
وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا3 أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6].
وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النساء: 19].
إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نحوه في "سنن أبي داود" "كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 259/ رقم 2195"، و"تفسير ابن جرير" "4/ 539"، وهو صحيح.
وانظر: "تفسير الثوري" "ص67"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 272"، و"أحكام القرآن" "1/ 189"، و"فتح القدير" "1/ 239"، و"الدر المنثور" "1/ 278".
2 أي: من إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بفعل سائغ أو غير سائغ. "د".
3 أي: بناء على أنهما مفعولان لأجله. "د".(38/150)
ص -112-…ومن الأحاديث: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بن مجتمع خشية الصدقة"1؛ فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب أو تقليله.
وقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى، يستحلون محارم الله بأدنى الحيل"2.
وقال: "من أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن3 أن تسبق؛ فهو قمار"4.
وقال: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها5 وباعوها وأكلوا أثمانها"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر، وتقدم تخريجه "1/ 424"، وسعد وغيرهما.
قلت: وفي الأصل: "مفترق".
2 أخرجه ابن بطة في كتابه "إبطال الحيل" "ص46-47"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إبطال الحيل" "3/ 23-24 - من مجموع الفتاوى": "وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة"، وحسنه أيضا "3/ 287"، وجوّده ابن كثير في تفسيره" "1/ 111 و2/ 268 - ط دار المعرفة"، وكذا ابن القيم في "إغاثة اللهفان" "1/ 348".
وانظر: "غاية المرام" "رقم 11"، و"إرواء الغليل" "5/ 375/ رقم 1535".
3 أي: فهو عالم بأن الرهان على مسابقة، ومع ذلك يدخل في صورة أن الأمر محتمل كما هو الشأن في عمل المسابقة. "د".
4 مضى تخريجه بإسهاب في "1/ 425-427"، وهو ضعيف.
5 أذابوها فصارت في صورة غير صورة الشحم، ولم يأكلوها هي، بل أخذوا أثمانها فانتفعوا بها. "د".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، 8/ 295/ رقم 633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وقد تقدم "1/ 447" ومضى تخريجه مسهبًا هناك.(38/151)
ص -113-…وقال: "ليشربنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف1 الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ط2.
ويروى موقوفًا على ابن عباس ومرفوعًا: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظره مع ما تقرر من أمن أمته صلى الله عليه وسلم من المسخ والخسف ويكفي أنه موقوف، وإنما يستشهد المؤلف بأمثاله من باب الاستئناس وضمه إلى القوي فيقوى، وقد ورد في "المصابيح" عن أنس في شأن البصرة: "أنه يكون بها خسف وقذف ورجم ومسخ إلى قردة وخنازير، وقد أوصاه صلى الله عليه وسلم أن يكون بضواحيها لا في داخلها وأسواقها"؛ فعليك باستكمال المقام، ومعروف أنهم يقولون: إن الأمن فيما عدا ما بين يدي الساعة؛ فالتوفيق ميسور. "د".
2 أخرجه أبو دواد في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في الداذي -وهو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر- 3/ 329/ رقم 3688"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1333/ رقم 4020"، وأحمد في "المسند" "5/ 432"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 305 و7/ 222"، ابن حبان في "الصحيح" "15/ 160/ رقم 6758- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3419"، البيهقي في "الكبرى" "8/ 295 و10/ 231" من طرق عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري به.
وإسناده ضعيف، رجاله ثقات؛ غير مالك بن أبي مريم، لم يروِ عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته المشهورة، قال ابن حزم: "لا يُدْرَى من هو"، وقال الذهبي: "لا يعرف"، ولأوله شواهد عديدة، تقدم منها "1/ 447" حديث عبادة بن الصامت، وهو صحيح.
وانظر تعليق المصنف على الحديث في كتابه" الاعتصام" "2/ 579-581 - ط دار ابن عفان".(38/152)
ص -114-…بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالبيع"1.
وقال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم2، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" بإسناد معضل؛ فهو ضعيف، وتقدم بيان ذلك في "1/ 488".
وقال المصنف في "الاعتصام" "2/ 583 - ط ابن عفان" شارحا بعض ما في الحديث: "وأما استحلال السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية؛ فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم "سياسة" و"أبهة الملك"، ونحو ذلك؛ فظاهر أيضا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة".
ثم فصل القتل في شريعة "المهدي المغربي"، وأنه جعله عقابا في ثمانية عشر صنفا، وذكر منها أشياء، ثم فصل فساد شريعته في أشياء أخر، فلتنظر.
2 أي: بخلو بإنفاقهما في سبيل الله، وقوله: "وتبايعوا بالعينة" فسرت بأن تبيع الشيء بثمن لأجل ثم تشتريه نقدا بثمن أقل؛ فآلت المسألة إلى نقد عاجل قليل في نقد آجل كثير، وهو الربا بعينه، وذلك هو الواقع في قصة زيد بن أرقم. "د".
3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "المسند" "2/ 28"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13583"من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي عمر عن ابن عمر مرفوعا.
ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي" "3/ 316-317"، والزيلعي في "نصب الراية" "4/ 17" عن ابن القطان قوله في هذا الطريق -وعزاه لأحمد في "الزهد"-: "وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات".(38/153)
وتعقب ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 19" ابن القطان بقوله: "قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني؛ فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر؛ فرجع الحديث إلى الإسناد =(38/154)
ص -115-…..................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأول، وهو المشهور".
قلت: العجب من الحافظ فإنه القائل عنه في "بلوغ المرام" "رقم 860": "رجاله ثقات"، وقد جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين "الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم وتجاوزوا لهم عنه"، ولم يقل أحد إن الأعمش يدلس تدليس التسوية، ولماذا يفعل ذلك وهو قد رواه عن نافع أيضا؟ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" وفي آخر كلام ابن حجر السابق إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274-275/ رقم 4362"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "2/ 65"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 316"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 208-209"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1998" من طريق إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر.
وإسناده ضعيف، قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 102-103": "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني، وفيه مقال".
وتابع عطاءً الخراساني فضالةُ بن حصين عن أيوب عن نافع؛ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "3/ 319"، ومتابعته هذه أخرجها ابن شاهين "في "الأفراد" "1/ 1"؛ كما قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 11".
وفضالة لا يصلح للمتاعبة، قال أبو حاتم عنه: "مضطرب الحديث".
وللحديث طرق أخرى يتقوى بها، منها:
ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 42، 84" من طريق شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر حديثه حسن، ولا سيما في الشواهد.(38/155)
وما أخرجه أبو يعلى في "المسند" "10/ 29/ رقم 5659"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13585"، والروياني في "المسند" "ق247/ ب"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق79/ أ"- كما في "الصحيحة "رقم 11"-، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 313-314 و3/ 318-319" من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، وبعضهم أسقط ابن أبي سليمان.
وليث ضعيف.(38/156)
ص -116-…وقال: "لعن الله المحلل والمحلل له"1.
وقال: "لعن الله الراشي والمرتشي"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 103-104"؛ فقال بعد أن سرد بعض طرقه: "وهذا يبين أن للحديث أصلا، وأنه محفوظ"، وساق له المصنف في "الاعتصام" "2/ 576- ط ابن عفان" شاهدًا مرفوعًا، وهو حديث: "وإذا تبايعتم بالعينة..."، وأثرا لعلي عند أبي داود في "السنن" "3382"، و"مسند أحمد" "1/ 116" وقال: "وهذه الأحاديث الثلاثة -وإن كانت أسانيدها ليست هناك- مما يعضد بعضه بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع".
وكتب "خ" ما نصه: "قد وقع المسلمون في هذه العلل؛ حتى أفضت بهم إلى أشد بلاء يصبه الله على رءوس الأمم، وهو استيلاء العدو على أوطانهم والقبض على زمام أمورهم؛ فهل لهم أن يغيروا ما بهم ويعطفوا على تعاليم دينهم؟ فنراهم كيف ينهضون لإعادة شرفهم المسلوب وحقهم المغتصب بنفوس سخية وعزائم لا تغتر.
شعور فعلم فاتحاد فقوة…فعزم فإقدام فإحراز آمال"
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والسنائي في "المجتبى" "6/ 149"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، ومضى تخريجه أيضا "1/ 429".(38/157)
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، 3/ 623/ رقم 1337"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب كراهية الرشوة، 3/ 300/ رقم 3580"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، 2/ 775/ رقم 2313"، وأحمد في "المسند" "2/ 164، 190، 194، 212"، والطيالسي في: "المسند" "رقم 2276"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 102-103"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، والطبراني في "الصغير" "1/ 28"، والدارقطني في "العلل" "4/ 275"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 138-139"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 87-88 / رقم 2493" من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح.
وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "3/ 622/ رقم 1336"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 103"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1196- موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، وعن أم سلمة عند الطبراني بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وإسناده جيد؛ كما في "الترغيب والترهيب" "3/ 143".(38/158)
ص -117-…ونهى عن هدية المَدْيَان؛ فقال: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدي إليه أو حمله على الدابة؛ فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الصدقات، باب القرض، 2/ 813/ رقم 2432"، والبيهقي في الكبرى" "5/ 350" من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي؛ قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذكره".
وعند البيهقي في أحد روايته: "يزيد بن أبي يحيى" بدلا من "يحيى"، وقال: "قال المعمري: قال هشام في هذا الحديث: "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي"، ولا أراه إلا وهم، وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس". ثم قال: "ورواه شعبة ومحمد بن دينار؛ فوقفاه".
ويحيى بن يزيد من رجال مسلم، ورجح ابن التركماني أن يكون "ابن أبي إسحاق"، وهو مجهول، وعلى كل حال؛ الحديث ضعيف، وله علل:
الأولى: ضعف إسماعيل بن عياش؛ فهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه عتبة في هذا الحديث بصري.
الثانية: ضعف عتبة بن حميد.
قال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف".
الثالثة: الاضطراب في سنده.
الرابعة: جهالة ابن أبي يحيى.
الخامسة: روايته موقوفًا، وانظر: "السلسة الضعيفة" "رقم 1162".(38/159)
ص -118-…وقال: "القاتل لا يرث"1.
وجعل هدايا الأمراء غلولا2، ونهى3 عن البيع والسلف4.
وقالت عائشة: أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.
2 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 425"، والبزار في "مسنده" "2/ 236-237/ رقم 1599- زوائده"، وأبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "4/ 118/ رقم 1797"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 295"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 59"، والتنوخي في "الفوائد العوالي المؤرخة من الصحاح والغرائب" "ص121/ رقم 6"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 138" من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي مرفوعا: "هدايا الأمراء غلول".
وإسناده ضعيف، مداره على إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد، ورواية إسماعيل عن غير الشاميين ضعيفة، ويحيى بن سعيد مدني، وقد فصل في ذلك البيهقي في "الخلافيات" "رقم 150، 151 - بتحقيقي"، قال التنوخي عقبه: "هذا حديث غريب من حديث أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي عبد الله عروة بن الزبير، لا أعلم حدث به عنه غير إسماعيل بن عياش بهذا اللفظ".
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 189" بعد عزوه للبيهقي وابن عدي: "وإسناده ضعيف"، وضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 151، 200 و5/ 249"، ولكن للحديث شواهد عن جابر وأبي هريرة وابن عباس، خرجها شيخنا الألباني في "الإرواء" "8/ 246-250/ رقم 2622"، وقال: "وفيما تقدم من الطرق والشواهد السالمة من الضعف الشديد كفاية، ومجموعها يعطي أن الحديث صحيح، وهو الذي اطمأن إليه قلبي، وانشرح له صدري، وفي كلام ابن عبد الهادي إشارة إلى ذلك، والله أعلم".
3 لأنه تحيل على أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ إن اقتران البيع بالسلف يجعل الثمن أقل من ثمن المثل في مقابلة القرض الذي لا يكون إلا لله. "د".(38/160)
4 جزء من حديث بلفظ "لا يحل سلف وبيع" مضى تخريجه "1/ 469".(38/161)
ص -119-…إن لم يتب1.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرًا غير جائز.
وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى لفظه وتخريجه في "1/ 456"، وهو حسن.
وقع في الأصل: "أبلغ".(38/162)
ص -120-…المسألة الثانية عشرة1:
ما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية؛ فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والمصلحة مخالفة؛ فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية2 ليست مقصودة [لأنفسها]3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تفصيل وافٍ لما أجمل في المسألة قبلها. "د".
قلت: وهو تفصيل وتقييد لما اتسمت به المسألة الرابعة من القسم الثاني من قسمي الأحكام "1/ 311 وما بعدها" من إجمال وإطلاق.
2 وكذا الحقوق، وهي مجرد وسائل شرعت لتحقيق غايات معينة قصد الشارع تحقيقها فكانت وسائل أو مقدمات لنتائج المصالح، وليست مقصودة لذاتها حتى تكون مصدرا لسلطة مطلقة يتصرف بها صاحبها كما يشاء، لأن هذا يؤدي إلى اعتبار الحق غاية في ذاته، وذلك يتنافى، والقاعدة المجمع عليها -وذكرها المصنف مرارًا- وهي أن المصالح المعتبرة في الأحكام؛ لأن التصرف المطلق قد يؤدي إلى مناقضة الشارع، ومناقضة الشرع عينا باطلة؛ فما يؤدي إليها باطل.
هذا وثمرة اعتبار الحق مجرد وسيلة إلى تحقيق مصلحة شرع من أجلها، أنه مقيد في استعماله بما يحقق هذه المصلحة، وإلا اعتبر المستعمل معتسفًا كأن يتخذه ذريعة إلى مجرد الإضرار بغيره، أو لتحقيق نتائج ضارة بغيره، ترجح على ما يجنيه من مصلحة وهذان الوجهان من الاعتساف يقتضيان النظر في البواعث النفسية أو النتائج المادية التي تنجم عن استعمال الحقوق؛ كمعيارين يعرف بهما التعسف، أما النظر إلى النتائج؛ فهو معنى النظر في مآلات الأفعال الذي يقرر المصنف أنه أصل معتبر مقصود في الشريعة؛ كما سيأتي "5/ 177 وما بعدها".(38/163)
ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يكفي توخي المصلحة التي شرع العمل من أجلها، بل لا بد فيها من امتثال نية امتثال أمر الله، وبيان ذلك أن العمل -وهو وسيلة تنفيذ الحق- بوجه عام إذا كان تعبديا؛ أي: يقصد به امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وهو حق الله فيه كما بينا؛ فإن المصلحة التي تقصد به تعبدية أيضا لأمرين:
الأول: لأنها من وضع الشارع الحكيم، وذلك آية حق الله في المصلحة؛ فلا يجوز للعباد ابتداع المصالح لأنه تشريع مبتدأ، وذلك محرم بالضرورة. =(38/164)
ص -121-…وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع1؛ فليس على وضع المشروعات.
فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله، والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع أو نفع؛ كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه وماله لا لغير2 ذلك، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به رتبة في الدنيا؛ فهذا العمل ليس من المشروع في شيء؛ لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل، بل المقصود به ضد تلك المصلحة.
وعلى هذا نقول3 في الزكاة مثلا: إن المقصود بشمروعيتها رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين، وإحياء النفوس المعرضة للتلف، فمن وهب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: أن المكلف إذا كان عليه أن يتوخى المصلحة التي قصدها الشرع، حتى يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع؛ فإن توخيه لمحض المصلحة ولذاتها لا يجعل عمله تعبديًّا؛ لأنه لا يختلف عن ابتغاء أي إنسان لحظوظه المجردة في الحياة؛ فلا بد ليؤدي حق الله في عمله أن تتجه نيته إلى امتثال أمر الله جل وعلا، وفي هذا تقديم قول المصنف "3/ 99": "فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا... فقد يعمل العمل قاصدًا للمصلحة غافلًا عن امتثال الأمر فيها...".
وإذا ثبت أن المصلحة تعبدية، سواء كانت معقولة المعنى أم غير معقولة؛ فما انبنى عليها وهو التصرفات والأعمال تعبدية أيضا.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
1 حيث تحايل على الحكم الشرعي؛ فحافظ على ظاهره، ولم يحافظ على جوهره ومقصوده، بل سعى به لغاية أخرى. انظر: "الفروق" "2/ 32": "الفرق الثامن والخمسون".
2 في نسخة "ماء/ ص243": "غير".
3 في نسخة "ماء/ ص243": "فنقول".(38/165)
ص -122-…في آخر الحول1 ماله هروبًا2 من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه؛ فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين3؛ فمعلوم أن صورة هذه الهبة [ليست هي الهبة]4 التي ندب الشرع إليها؛ لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه، غنيًا كان أو فقيرًا، وجلب لمودته وموآلفته، وهذه الهبة على الضد من ذلك، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقًا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعًا لرذيلة الشح، فلم يكن هروبًا عن أداء الزكاة؛ فتأمل4 كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدًا شرعيًا5، والقصد غير الشرعي6 هادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصول المعتمدة في التحقيق، والصواب "قرب نهاية الحول"، وإلا لو كانت الهبة في آخر الحول؛ لما وسعه الهرب لأن الزكاة تكون حينئذ قد وجبت، وشغلت بها الذمة؛ فتأمل.
2 سيأتي له بلفظ: "هربا"، وهو الصحيح لغة. "د".
3 أن مصلحة "إرفاق المساكين" ليست هي المصلحة الوحيدة في إخراج الزكاة؛ فإن مصارف الزكاة متعددة، و"إرفاق المساكين" واحد منها؛ فيكون بالتحيل على إسقاط هذه الفريضة قد عطل كافة المصارف الأخرى التي تصرف فيها الزكاة، فأثر التحيل في أيلولته إلى المفسدة أعظم مما ذكر المصنف، أفاده الأستاذ الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 420".
4 فالهبة المشروعة لا تنافي قصد الشارع من الزكاة، وهو رفع الشح، والإرفاق بالناس والإحسان إليهم، أما الهبة الصورية كالصورة التي فرضها؛ فإنها تنافي قصد الشارع في رفع الشح عن النفوس والإحسان إلى عباده. "د".(38/166)
قلت: ثمة فرق آخر بينهما، أشار إليه المصنف بقوله السابق: "ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه"؛ أي: رجع إلى الموهوب له ليسترجع ما وهبه إياه، وفي هذا إشارة إلى التواطؤ بينهما، ومعلوم أن العقد إذا فقد الإرادة أو الرضا؛ لم ينعقد، وهو باطل شرعًا، فما ذكره "د" من الفرق بينهما فمن حيث المقصد والمآل، وما ذكرناه؛ فمن حيث التكوين أو التكييف الفقهي.
5 بل جاء توثيقا لمقاصد الشريعة وتحقيقا لها، وليست وظيفته سلبية فقط، أي: لعدم هدمها، بل وإيجابية أيضا، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 422".
6 هو الباعث غير المشروع بعينه.(38/167)
ص -123-…للقصد الشرعي.
ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربًا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها، خوفًا من الوقوع في المحظور؛ فهذه بذلت ما لها طلبًا لصلاح الحال بينها وبين زوجها، وهو التسريح بإحسان، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة، لا فساد فيه حالًا ولا مآلًا، فإذا أضر بها لتفتدي منه؛ فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب، مع القدرة1 على الوصول إلى الفراق من غير إضرار، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحًا بإحسان، ولا خوفًا من أن لا يقيما حدود الله؛ لأنه فداء مضطر وإن كان جائزًا لها فمن2 جهة الاضطرار والخروج من الإضرار، وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع.
وكذلك نقول: إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص، أما الجزئية؛ فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته، وأما الكلية؛ فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته؛ فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها، حتى يرتاض بلجام الشرع، وقد مر بيان هذا فيما تقدم، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت3 له يتبع رخص4 المذاهب، وكل قول وافق فيها هواه؛ فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع5 وأخر ما قدمه، وأمثال ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن ذلك في يده دائما. "د". وفي الأصل وقعت: "إلى الوصول".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من".
3 أي: طرأت.
4 في موضوعنا هي الحيل في تلك المذاهب. "د".
5 أي: ولم يكن داخلا مع سائر المكلفين تحت القانون العام المعين في هذا التكليف. "د". قلت: في "ط": "الشرع".(38/168)
ص -124-…فصل:
إذا ثبت هذا1 فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيًا وناقض مصلحة شرعية2، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام:
أحدها:
لا خلاف في بطلانه، كحيل المنافقين والمرائين.
والثاني:
لا خلاف في جوازه؛ كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة3 التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك؛ إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بخلاف الأول؛ فإنه غير مأذون فيه، لكونه مفسدة أخروية4 بإطلاق، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع؛ فكان باطلًا، ومن هنا جاء في ذم النفاق وأهله ما جاء، وهكذا سائر ما يجري مجراه، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لهذا".
2 مراده من "الأصل الشرعي": "المصلحة الكلية أو القانون العام المعين، ومن "المصلحة الشرعية": "المصلحة الجزئية، انظر هامش "د" السابق.
3 أي: في أن كلا منهما نطق بكلمة من غير اعتقاد لمعناها توصلا إلى غرض دينوي. "د".
4 لما تقدم أنه استهزاء ومخادعة لله ولرسوله لا دنيوية؛ لأن في ذلك مصلحة المنافق الدنيوية من إحراز دمه وماله، لكنه إذا عارضت المصلحة الأخروية أهملت وكانت باطلة. "د".(38/169)
ص -125-…وأما الثالث:
هو محل الإشكال والغموض، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني، ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له، ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه؛ فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعًا فيه، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة؛ فالتحيل جائز، أو مخالف؛ فالتحيل ممنوع، ولا يصح أن يقال: إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع، بل إنما أجازه بناء1 على تحري قصده وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه؛ لأن مصادمة الشارع صراحًا علمًا أو ظنًا لا تصدر2 من عوام المسلمين، فضلًا عن أئمة الهدى وعلماء الدين، نفعنا الله بهم، كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح، ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها، وبالله التوفيق.
فمن ذلك نكاح المحلل؛ فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول، بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ فقد نكحت المرأة هذا المحلل؛ فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقًا، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط" بعد "بناء" كلمة غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى "منه".
2 في "ط": "يصدر".(38/170)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433" وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، ومضى تخريجه "1/ 430".(38/171)
ص -126-…ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني ذوق العسيلة، وقد صحل في المحلل، ولو كان قصد التحيل معتبرًا في فساد هذا النكاح لبينه عليه الصلاة والسلام، ولأن كونه حيلة لا يمنعه، وإلا لزم ذلك في كل حيلة؛ كالنطق بكلمة الكفر للإكراه، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق، فإذا ثبت هذا وكان موافقًا للمنقول؛ دل على صحة موافقته لقصد الشارع1.
وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة؛ فمصلحة هذا النكاح ظاهرة لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين، إذ كان تسببًا في التآلف بينهما على وجه صحيح، ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد، لأن هذا هو التضييق2 الذي تأباه الشريعة، ولأجله شرع الطلاق، وهو كنكاح النصارى، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها، إلى غير ذلك.
وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينًا حسبما تقدم، كما في نكاح حل اليمين، والقائل: إن تزوجت فلانة فهي طالق، على رأي مالك فيهما وفي نكاح المسافر وغير ذلك.
هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال بجواز الاحتيال هنا، وأما تقرير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 250-251" عن ابن حزم وأبي ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ أن الساعي في "التحليل" مأجور غير مأزور، وذكر أن هؤلاء حملوا أحدايث التحريم على إذا ما شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل، ثم رد هذا وناقشه مناقشة قوية، وكذلك فعل شيخه ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "30/ 73 وما بعدها".
ورد المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" نكاح المتعة بترك الصحابة له مع وجود الدواعي، وسيأتي تنبيه المصنف عليه في آخر "المقاصد".
2 في الأصل: "التضمين".(38/172)
ص -127-…الدليل على المنع؛ فأظهر1، فلا نطول بذكره، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في "شرح الرسالة"؛ فإليك النظر فيه.
ومن ذلك مسائل بيوع الآجال؛ فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدًا بدرهمين إلى أجل، لكن بعقدين كل واحد منهما مقصود في نفسه، وإن كان الأول ذريعة؛ فالثاني غير مانع لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة؛ فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح، وإلا كان قادحًا في جميع الوجوه المشروعة، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد، وإنما مقصوده الثاني؛ فالأول إذًا منزل منزلة الوسائل، والوسائل مقصودة شرعًا من حيث هي وسائل، وهذا منها، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل؛ فليجز ما نحن فيه، وإن منع ما نحن فيه؛ فلتمنع الوسائل على الإطلاق، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجع المصنف هذا، وأدخل "نكاح التحليل" في "مناط التحيل" لقطعه كما سيأتي بأن قصد الشرع الأصلي من "النكاح" هو التناسل؛ فكان "نكاح التحليل" غير مشروع؛ لمنافاته لهذا المقصد الأصلي، ولا سبيل إلى التوفيق؛ فتعين أن يكون القصد في "نكاح التحليل" غير شرعي، والقصد غير الشرعي على حد تعبيره هادم للقصد الشرعي، ومن هنا كان "البطلان" الحتمي.(38/173)
2 هذا النوع من التعامل مشهور هذه الأيام، ولا سيما في "البنوك الإسلامية"! وكلام المصنف السابق فيه نوع تساهل، يظهر ذلك من خلال التمعن والتأمل في كلام ابن القيم، فإنه أولى هذه المسألة أهمية كبرى، ولذا آثرت أن أنقله على الرغم مما فيه من طول؛ إلا أنه مما تشد اليد به، قال رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين" "3/ 148": "فإن أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل؛ فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما بالسلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة "يعني: ابن عباس": دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة؛ لا في شرع، ولا في عقل، ولا في عرف. =(38/174)
ص -128-…...............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال؛ فلم تذهب ولم تنقص، فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله، ويعده أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه، مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله.
هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل، وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه". انتهى.
وهذه الحيلة التي أجازها المصنف داخلة تحت صور العينة التي يمنعها الأئمة، وإن أجازها بعضهم بناء على ظواهر العقود وتوفر شروطها وأركانها، وبناء على ما جرت به عادة المسلمين من سلامة عقودهم من التحيل والخداع والغش والتلاعب بآيات الله.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 397" في مسألة العينة والتورق: "ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها".
وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "3/ 188" في بيان مسألة التورق وحكمها: "إن باعها إلى غيره "البائع الأول" بيعا ثابتا ولم تعد إلى الأول بحال؛ فقد اختلف الأئمة في كراهته، ويسمونه التورق؛ لأن مقصوده الورق" انتهى.(38/175)
وهذه الصورة التي ذكر ابن تيمية أن السلف اختلفوا في كراهتها، قال عنها تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 220": "وعن أحمد فيه "التورق" روايتان: الحرمة والكراهة"، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه "المتعامل بالتورق" مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه؛ فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا ابن تيمية يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر؛ فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيع ما هو أعلى... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، رواه الخمسة عدا ابن ماجه، وقوله: "من باع بيعتين؛ فله أوكسهما أو الربا"، رواه أبو داود، وإن ذلك لا يمكن وقوعه إلى على العينة انتهى.
قلت: الحديث الأول مضى تخريجه "1/ 469"، والثاني في "السلسلة الصحيحة" برقم "2326"؛ فلعل الذي يقول بجواز التورق وحرمة العينة للضرورة كما قال أحمد، وعلق عليه ابن =(38/176)
ص -129-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القيم بقوله: "وهذا من فقهه رضي الله عنه، وارتكاب أخذ الضررين، أو بناء على أصله من أن البيع الأول صحيح لوجود القبض والرضا، وعدم اشتراط رجوع المبيع إلى البائع الأول".
أما مالك رحمه الله؛ فيمنع العينة بناء على عدم القبض في البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا، وقد سد مالك باب الذرائع سدا محكما -كما عبر ابن القيم-، وقد عقد لها بابا في "الموطأ" بعنوان: "العينة وما يشبهها"، وأبطل كل صورها؛ كما تراه في "تنوير الحوالك" "2/ 63".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 294" تعليقا على الخلاف في مسألة العينة بكل صورها وبيان علله وأسبابه: "وإنما تردد من تردد من الأصحاب الحنابلة في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها إلى العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح.
وعلى هذا التقدير؛ فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسألة الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة، وهو أن الثمن إذا لم يستوفِ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مبينا عليه، وهو تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع؛ فصار للمسألة ثلاثة مآخذ...
قال شيخنا ابن تيمية: والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران...". انتهى.(38/177)
ويرى ابن القيم أن الحيل لا تمشي على أصول الأئمة بل تناقضها أعظم مناقضة، وبيان ذلك أن الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مُدّ عجوة "نوع من التمر" ودرهم بمد ودرهم، ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفًا أن يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل؛ فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟
وأبو حنيفة يحرم مسألة العينة، وتحريمه يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد العجوة بأن يبيعه أحد عشر درهما بعشرة في خرقة: دراهم بدراهم بينهما حريرة كما قال ابن عباس.
فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم =(38/178)
ص -130-…بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه، في قوله عليه الصلاة والسلام: "بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"1؛ فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع2، لكن على وجه مباح، ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد وعاقدين، إذ لم يفصل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقول القائل3: إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إبطال الحيلة في الباب الآخر.
وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم.
انظر: "إعلام الموقعين" "3/ 241-242".
وهذه المناقشة العليمة القوية تدل دلالة راجحة إن لم تكن قاطعة على تحريم المسألتين، كما تدل على ما يتحلى به ابن القيم رحمه الله من نزاهة علمية وسعة علم وقوة حجة في مناقشة هاتين المسألتين على مذهب إمامين جليلين اشتهرا بقوة العارضة والحجة البالغة والمكانة العملية المسلم بها لهما من علماء العالم الإسلامي كله تقريبا. وانظر: "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" "ص144 وما بعدها".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، 4/ 399-400/ رقم/ 2201، 2202، وكتاب الوكالة، باب الوكالة في الصرف والميزان، 4/ 481/ رقم 2302، 2303"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، 3/ 1215/ رقم 1593 بعد 95" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
و"الجمع" -بفتح الجيم وسكون الميم-: التمر المختلط، و"الجنيب" -بجيم ونون وتحتانية وموحدة، وزن عظيم- قال مالك: "هو الكبيس"، وقال الطحاوي: "هو الطيب"، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قاله ابن حجر في "الفتح" "4/ 400".(38/179)
2 قلت: وقد وقعت في الأصل: "بع الجميع"، وكذا جميع الكلمات بعدها جميع، ووافقت الأصل نسخة "خ" في الموطن الأخير، وفي الأصل أيضا: "التوصل" لا "التوسل".
3 أي المانع. "د".(38/180)
ص -131-…فإن الذرائع على ثلاثة أقسام:
- منها: ما يسد باتفاق؛ كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤدٍ إلى سبِّ الله تعالى، وكَسَبِّ أبوي الرجل إذا كان مؤديًا إلى سبّ أبوي السابّ؛ فإنه عد في الحديث1 سبًّا من الساب لأبوي نفسه، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها.
- ومنها: ما لا يسد باتفاق، كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه أو أدنى من جنسه؛ فيتحيل ببيع متابعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده، بل كسائر التجارات؛ فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها.
- ومنها: ما هو مختلف فيه، ومسألتنا من هذا القسم؛ فلم نخرج عن حكمه بعد، والمنازعة باقية فيه.
وهذه جملة ما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة؛ فطالعها في مواضعها2، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب3 لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله؛ إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب، وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورًا وإنكارًا لمذهب غير مذهبه، من غير اطلاع على مأخذه؛ فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد تقدم "ص76".
2 في كتاب "إعلام الموقعين" "المجلد الثالث" بسط عظيم في هذا الموضع. "د".
3 لعل الأصل: "للغريب" يعني في مقابلة الشهير الذي للمانعين. "د".(38/181)
ص -132-…الدين، واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتفِ بهذين المثالين؛ فهما من أشهر المسائل في باب الحيل، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما.
فصل:
هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا، وقد مر منها فيما تقدم تفريعًا على المسائل المقررة كثير، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعًا أيضًا، ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله.
فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟
والجواب أن النظر ههنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:
أحدها أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به، وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردًا1 عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي؛ إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح، وإن وقعت في بعض2؛ فوجهها غير معروف لنا على التمام، أو غير معروف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالمعاني والحكم والأسرار والمصالح التي تؤخذ من استقراء مصادر الشريعة ما لم تدل عليها الألفاظ بوضعها اللغوي لا يعول عليها في هذا النظر، ولا تعتبر من مقاصد الشارع. "د".
2 أي: فالمصالح غير مطردة ولا ملتزمة ولا معروف سرها؛ فالنسل مثلا في النكاح ما وجه كونه مقصودا للشارع؟ وهكذا، وقوله: "ويبالغ في ذلك حتى يمنع القول بالقياس" منع القول بالقياس مبني على هذا بناء ظاهرا، سواء أجرى على عدم مراعاة المصالح رأسا أو على أنها إن وقعت في البعض فسرها غير معروف؛ لأنه لا يتأتى القياس على كلا القولين، فقوله: "ويبالغ"؛ أي: يؤكد صحة ما يقول؛ فيلزم عليه عدم القول بالقياس، ويلتزم هذا اللازم. "د".(38/182)
ص -133-…ألبتة، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، ولعله يشار إليه1 في كتاب القياس إن شال الله؛ فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا.
والثاني في الطرف الآخر من هذا؛ إلا أنه ضربان:
الأول: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة؛ حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم الباطنية؛ فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله، والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء؛ فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول، وهو:
الضرب الثاني: بأن يقال: إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ2، بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق، فإن خالف النص المعنى النظري اطّرح وقدم المعنى النظري، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق، أو على عدم الوجوب، لكن مع تحكيم المعنى جدًا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية، وهو رأي "المتعمقين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "عليه".
2 لعل الأصل: "إلى المعاني النظرية" ليتسق الكلام مع ما يليه, وليكون هذا مقابلا للنظر الأول، أما على هذه النسخة؛ فإنه لا يوافق ما بعده، ولا يكون مقابلا للأول. "د".(38/183)
ص -134-…في القياس"، المقدمين له على النصوص، وهذا في طرف آخر من القسم الأول.
والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض1، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع؛ فنقول وبالله التوفيق: إنه يعرف من جهات:
إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرًا لاقتضائه الفعل؛ فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه؛ فعدم وقوعه مقصود له، وإيقاعه مخالف لمقصوده، كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده؛ فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة، ولمن اعتبر العلل والمصالح، وهو الأصل الشرعي.
وإنما قيد بالابتدائي تحرزًا من الأمر أو النهي الذي قصد به غيره2؛ كقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي؛ فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيًّا عنه بالقصد الأول، كما نهي عن الربى والزنى مثلًا، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به، وما شأنه هذا؛ ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف، منشؤه3 من أصل المسألة المترجمة "بالصلاة في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص246" زيادة بعدها: "وهو أولى الحمل بالوجهين؛ أي: عليهما".
2 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 290-292".
3 فأصل البيع مباح، ولكنه اقترن به وصف باعتبار الزمان، وهو أنه يكون معطلا عن السعي إلى الجمعة الذي هو واجب، وهو وصف منفك فيأتي فيه الخلاف. "د".(38/184)
ص -135-…الدار المغصوبة".
وإنما قيد بالتصريحي تحرزًا من الأمر أو النهي الضمني الذي ليس بمصرح به؛ كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر1، والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء، فإن النهي والأمر ههنا إن قيل بهما؛ فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول؛ إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر أو النهي المصرح به، فأما إن قيل بالنفي2؛ فالأمر أوضح في عدم القصد، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور3 إلا به المذكور في مسألة "ما لا يتم الواجب إلا به"؛ فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه؛ فليس داخلًا فيما نحن فيه، ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي.
الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر بهذا الفعل؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر؟ والعلة إما أن تكون معلومة أو لا، فإن كانت معلومة اتبعت؛ فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه؛ كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة4 في أصول الفقه، فإذا تعينت؛ علم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها زيادة في الأصل: "والأمر الذي تضمنه الأمر".
2 كما هو رأي الإمام الغزالي، وهو المختار، يقولون: ليس الأمر بالشيء هو النهي عن ضده ولا يتضمنه عقلا، والأول رأي القاضي ومن تابعه. "د".
قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "2/ 199"، و"المنهاج" "1/ 76-80- بشرحي ابن السبكي والإسنوي".
3 في "ط": "المأمور به إلا به".(38/185)
4 بعد أن عد الرازي في "المحصول" "5/ 137" المسالك المشهورة منها، وهي النص، والإجماع، والمناسبة، والدوران، والسبر، والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط؛ قال: "وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة، لا ينبغي تفصيل حكم الله بمجرد الاستناد إليه كالطرد الذي هو مقارنة الحكم للوصف من غير مناسبة؛ إذ المقارنة لا تدل على العلية؛ فإن الحد مع المحدود، والأبوة مع البنوة، والجوهر مع العرض قد حصلت بينها المقارنة مع عدم العلية". "خ". وفي "ط": "العلة ههنا...".
انظر مسالك العلة في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 168-184"، و"الرد على المنطقيين" "210"، و"شفاء الغليل" و"أساس القياس" "ص31-32، 37، 61، 74"، كلاهما للغزالي، و"نبراس العقول: "ص209-387"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "ص369 وما بعدها".(38/186)
ص -136-…مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه1، وإن كانت غير معلومة؛ فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا أو كذا2؛ إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر:
أحدهما:
أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين؛ لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل، وضلال على غير سبيل، ولا يصح3 الحكم على زيد بما وضع حكمًا على عمرو، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا؛ لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكمًا عليه، فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع؛ فالتوقف هنا لعدم الدليل.
والثاني:
أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعًا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي؛ لأن عدم نصبه دليلًا على التعدي دليل على عدم التعدي إذ لوكان عند الشارع متعديًا لنصب عليه دليلًا، ووضع له مسلكًا، ومسالك العلة معروفة، وقد خبر4 بها محل الحكم؛ فلم توجد له علة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأحكام الوضعية، وما قبله في الأحكام التكليفية؛ كما يرشد إليه تمثيله للقسمين وما يأتي بعد أيضا. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وكذا".
3 في الأصل ونسخة "ماء/ ص248" و"ط": "فلا يصح".
4 في الأصل: "جبر".(38/187)
ص -137-…يشهد لها مسلك من المسالك؛ فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع.
فهذان المسلكان كلاهما متجه في الموضع1؛ إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد؛ فيبقى الناظر باحثًا حتى يجد مخلصًا؛ إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع، ويمكن أن لا يكون مقصودًا له، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد؛ فينبني عليه2 نفي التعدي من غير توقف، ويحكم به علمًا أو ظنًا بأنه غير مقصود له، إذ لو كان مقصودًا لنصب عليه دليلًا، ولما لم نجد ذلك دلّ على أنه غير مقصود، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه، كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ثم يطلع بعد على دليل ينسخ حزمه3 إلى خلافه.
فإن قيل: فهما مسلكان متعارضان؛ لأن أحدهما يقتضي التوقف، والآخر لا يقتضيه، وهما في النظر سواء4، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما؛ فلا يبقى إلا التوقف وحده؛ فكيف يتجهان معًا؟
فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل؛ فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر، فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين أو مجتهد واحد في وقتين أو مسألتين؛ فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة، ومسلك النفي في مسألة أخرى؛ فلا تعارض على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص248": "الوضع" من غير ميم.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "على".
3 في الأصل و"ط": "جزمه".
4 أي: وحينئذ؛ فلا يبنى عليهما حكم، ولا يكون لها ثمرة؛ لأنهما متعارضان مع التساوي، فلا يتأتى ترجيح؛ فيسقطان؛ فكيف يتأتى الانتفاع بهما والعمل بمقتضاهما؟ "د".(38/188)
ص -138-…وأيضا؛ فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل، ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق، وفي رفع الأحداث النية وإن حصلت النظافة دون ذلك، وأمتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات، إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله، وغلب في باب العادات المعنى؛ فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه: "إنه تسعة أعشار العلم"1 إلى ما يتبع ذلك، وقد مر2 الكلام في هذا والدليل عليه، وإذا ثبت هذا؛ فمسلك النفي متمكن في العبادات، ومسلك التوقف متمكن في العادات.
وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريقة "الحنفية"، والتعبدات في باب العادات3، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريق الظاهرية، ولكن العمدة ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك، وعلق عليه المصنف في "الاعتصام" "2/ 138" بقوله: "وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة".
2 في المسألة الثامنة عشرة: "الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات الالفتات إلى المعاني". "د".
قلت: والعبارة في الأصل: "مر من الكلام" بزيادة "من".(38/189)
3 ما ذكره المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "قاعدة 73، 74، 296"، والفروع المنقولة آنفا في الطهارة والزكاة وقيم الزكاة ليس مما انفرد به مالك، بل هو مذهب جماهير الفقهاء.(38/190)
ص -139-…تقدم، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة.
والجهة الثالثة:
أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.
مثال ذلك النكاح؛ فإنه مشروع للتناسل على المقصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية؛ من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة، أو قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله1 على العبد، وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح؛ فمنه منصوص عليه أو مشار إليه، ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطبه وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف، الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل؛ فاستدللنا بذلك2 على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا، كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبًا لشرف النسب، ومواصلة أرفع البيوتات، وما أشبه ذلك؛ فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ، وأن قصد التسبب له حسن.
وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمزيد نعم الله...".
2 وهو مسلك المناسبة التي تتلقاها العقول السليمة بالتسليم، ويبقى النظر في عد هذا جهة ثالثة مستقلة عن الجهة الثانية التي قال فيها: وتعرف المناسبة هنا بمسالك العلة المعلومة"، ومعلوم أن منها المناسبة، فإذا كان هذا من المناسبة كما قلنا؛ احتيج إلى بيان سبب جعل هذا جهة ثالثة. "د".(38/191)
ص -140-…من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة، كما إذا نكحها ليحلها1 لمن طلقها ثلاثًا؛ فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط؛ إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع2 على دوام المواصلة، حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك.
وهكذا العبادات؛ فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرًّا وجهرًا، بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده؛ كالتعبد بقصد حفظ المال والدم، أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم؛ كفعل المنافقين والمرائين، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام، بل هو مقوٍ للترك ومكسل عن الفعل، ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلى ريثما يترصد به مطلوبه، فإن بعد عليه تركه، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11].
فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ليحللها".
2 لعل الأصل: "في مضادة قصد الشارع"؛ أي: أن نكاح المتعة الذي تعين له مدة مخصوصة أشد من سائر ما ذكر من التحليل وغيره في مضادة المواصلة التي يحافظ عليها الشارع؛ لأن التحليل لم يدخلا فيه على مدة، وقد لا يفارقها، نعم، إن المعنيين متلازمان، فمتى كان نكاح المتعة أشد مضارة لقصد الشارع لورود النهي عنه؛ كان أظهر دلالة على أن مقصد الشارع دوام المواصلة. "د".(38/192)
ص -141-…مقتضاه حاصلًا بالتبعية1 من غير قصد؛ فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له2 الفراق؛ فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل، والمتعبد لله على القصد المؤكد يحصل له حفظ الدم والمال ونيل المراتب والتعظيم، فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة، ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع.
فإن قيل: هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي المخالفة عينًا، أم يكتفي فيها بكونها لا تقتضي الموافقة؟ وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينًا؛ فلا يصح لأن مخالفته لقصد الشارع عينية، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة أو لأخذ مالها أو ليوقع بها وما أشبه ذلك مما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة؛ مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح، ولكنه لا يقتضي المخالفة عينًا؛ إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها، ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح، أو الحكم على الزوج، أو زوال ذلك الخاطر السببي، وإن كان القصد الأول مقتضيًا؛ فليس اقتضاؤه عينيًّا.
فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها وبطلان مقتضاها مطلقًا في العبادات والعادات معًا؛ فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد وإن أمكن كونه مشروعًا في نفس الأمر، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينًا كالنكاح بقصد المضارة، وكنكاح التحليل عند من يصححه؛ فإن هنا وجهين من النظر، فإن القصد وإن كان غير موافق؛ لم يظهر فيه عين المخالفة، فمن ترجح عنده جانب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قد يحصل بالتبعية. "د".
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص250": "به"، وفي "ط": "فيه".(38/193)
ص -142-…عدم الموافقة منع، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين1 المخالفة لم يمنع ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة؛ فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع؛ فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه، وهو في البقاء أو الفرقة ممكن، إلا أن المضارة مظنة للتفرق، فمن اعتبر هذا المقدار منع، ومن لم يعتبره أجاز.
فصل:
وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معًا، أما في العادات؛ فهو ظاهر، وقد مر منه أمثلة، وأما في العبادات؛ فقد ثبت [ذلك] فيها.
فالصلاة مثلًا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ2 أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
وفي الحديث: "إن المصلي يناجي ربه"3.
ثم إن لها مقاصد تابعة؛ كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "عدم التعين في...".
2 هذا هو المقصود هنا للدلالة على أصل المشروعية، بدليل جعله النهي عن الفحشاء من التوابع. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عز وجل، 2/ 14/ رقم 531" عن أنس مرفوعا: "إن أحدكم إذا صلى ينادي ربه؛ فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى".(38/194)
ص -143-…من أنكاد الدنيا في الخبر: "أرحنا بها يا بلال"1، وفي الصحيح: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"2، وطلب الرزق بها، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وفي الحديث3 تفسير هذا المعنى، وإنجاح الحاجات؛ كصلاة الاستخارة4 وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله، في الحديث: "من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله"5، ونيل أشرف المنازل، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]؛ فأعطى بقيام الليل المقام المحمود.
وفي الصيام سد مسالك الشيطان، والدخول من باب الريان، والاستعانة على التحصين في العزبة في الحديث: "من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج"، ثم قال: "ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم فإنه له وجاء"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.
2 قطعة من حديث أوله: "حبب إلي..." مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.
3 سيأتي قريبا "ص146"، ومضى أيضا "1/ 333"، وهو ضعيف.
4 لم يكن السلف الصالح يعملون بغير هذه الاستخارة المأثورة في الحديث الصحيح؛ حتى قامت طائفة ممن ألصقوا بجوهر الشريعة بدعًا سيئة؛ فوضعوا الاستخارة المنامية، ثم الاستخارة بالمصحف والسبحة ونحوها، وتفننوا في أوصافها، وذلك كله من المحدثات المكروهة، ولا ينبغي لعاقل أن يعتمد عليها في فعل شيء أو تركه، وقد نص على المنع من الاستفتاح بالمصحف أبو بكر الطرطوشي وأبو بكر بن العربي وعداه من قبيل الأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان. "خ".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلة العشاء والصبح في جماعة، 1/ 454/ رقم 657" عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.(38/195)
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 4/ 119/ رقم 1905 - والمذكور لفظه- وكتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع الباءة؛ فليتزوج"، 9/ 106/ رقم 5065، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، 9/ 112/ رقم 5066"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1018/ رقم 1400" عن ابن مسعود رضي الله عنه.(38/196)
ص -144-…وقال: "الصيام جنة"1.
وقال: "ومن كان من أهل الصيام؛ دعي من باب الريان"2.
وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة3 للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها وسواها، وهي تابعة؛ فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم؛ فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام أو الخاص، وضده كطلب المال والجاه؛ فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي، بل هو على خلاف ذلك، والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام، وسائر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب فضل الصوم، 4/ 103/ رقم 1894، وباب هل يقول إني صائم إذا شُتم، 4/ 118/ رقم 1904"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 806" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، 4/ 111/ رقم 1896"، مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 808/ رقم 1152" من حديث سهل بن سعد مرفوعا: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم؛ أغلق فلم يدخل منه أحد".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا..."، رقم 3666"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم 1027" من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أنفق زوجين في سبيل الله..."، وفيه: "ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".
3 في "ط": "كلها توابع".(38/197)
ص -145-…ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ، وينبغي تحقيق النظر فيها، وفي الثاني المقتضي لعدم التأكد، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينًا، وما لا يقتضيه عينًا.
وأيضا؛ فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع وحلًى يحليه بها، وأول ذلك الثواب في الآخرة، من الفوز بالجنة والدرجات العلى، ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته؛ كان التعبد لله من جهته صحيحًا، لا دخل فيه ولا شوب؛ لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء؛ فقد مر الكلام عليه.
ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد أو يعظم أو يعطى؛ فهذا عامل1 على الرياء، ولا يثبت فيه كما تقدم.
وأيضا؛ فإن عمله على غير أصالة؛ إذ لا إخلاص فيه فهو عبث، وإن فرض خالصا لله لكن قصد به حصول هذه النتيجة؛ فليس هذا القصد بمقوٍ للإخلاص لله، بل هو مقو لترك الإخلاص.
اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء؛ فيسأل من الله العطاء، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس؛ فلا إشكال في صحة هذا؛ فإنه عمل مقتضٍ لما شرع له التعبد2 ومقوٍ له، وأصله قول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الخصوع لله والانتصاب على قدم الذلة بين يديه. "د".
2 في الأصل: "الحامل".(38/198)
ص -146-…وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه؛ أمرهم بالصلاة"1 لأجل هذه الآية؛ فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله.
وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي2 وشيخه فيمن أظهر علمه لتثبت عدالته، وتصح إمامته، وليقتدى به إذا كان مأمورًا شرعًا بذلك لتوفر شروطه فيه وعدم من يقوم ذلك3 المقام؛ فلا بأس به عندهما؛ لأنه قائم بما أمر به، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة، بخلاف من يقصد4 [نفس] ثبوت العدالة عند الناس أو الإمامة أو نحو ذلك؛ فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة؛ لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة.
ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية أو العلم أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران5، ودليل الجواز قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله: "لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث ضعيف، ومضى تخريجه "1/ 333".
2 في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511" وغيره.
3 في الأصل و"ط": "تلك".
4 أي: ولم يكن مأمورا شرعا بذلك، بحيث فقد شرطا من الشروط السالفة. "د".
5 وهما قصد أن يحمد أو يعظم أو يعطى، والقصد الذي قبله الذي لا مانع منه، وقوله: "ودليل الجواز"؛ أي: جواز أحد القصدين وهو السابق، أما الثاني؛ فلا يختلف في منعه. "د".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء من العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر رضي الله عنهما.(38/199)
ص -147-…وانظر في مسألة "العتبية"1 فأرى أن اختلاف مالك وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين.
ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ونيل الكرامات، والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك؛ فلقائل أن يقول: إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز وسائغ؛ لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية، وأن يكون من خواص الله ومن المصطفين من الناس، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا، ولا فرق، وقد يقال: إنه خارج عن نمظ ما تقدم، فإنه تخرص على علم الغيب2، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة؛ لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11].
كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به، وصار هو قصده من التعبد؛ فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة، وإن لم يصل رمى بالعبادة، وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين، وقد روى أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المتقدمة "2/ 361"، وانظرها في "البيان والتحصيل" "1/ 498".(38/200)
2 خرق العادة باطلاع أحد الأصفياء على بعض المغيبات هو من الجائزات الداخلة تحت متعلق القدرة، ولكن الناس أكثروا من دعوى وقوعها، وتسارعوا إلى تصديق من يزعم أنه حظي بها أو يحكيها عن غيره، مع أن العناية بهذا الشأن لا تعود على الأفراد ولا الجماعات بفائدة ذات بال، وقد تعدى بعضهم في هذا الأمر حتى ادعى العلم بما ورد الحديث الصحيح مصرحا بأن معرفته تختص بالخالق، وهي الخمس المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. "خ".(38/201)
ص -148-…بعض الناس سمع بحديث: من أخلص لله أربعين صباحًا؛ ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"1؛ فتعرض لذلك لينال الحكمة، فلم يفتح له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث سئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فأجاب في "أحاديث القصاص" "رقم 35" بقوله: "هذا قد رواه الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروي مسندا من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف لا يجوز الاحتجاج بحديثه".
وصدق شيخ الإسلام؛ فإن يوسف بن عطية مجمع على ضعفه كما في "الميزان" "4/ 470"، وقال عنه البخاري: "منكر الحديث".
والحديث روي مرفوعا عن طريق مكحول عن أبي أيوب مرفوعا، رواه أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144"، وقال: "فيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن، قال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم خالف الثقات في الرويات، ولا يصح لقاء مكحول بأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في روايته عن مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث".
والحديث روي من طريق آخر مرفوعا ذكره القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 285/ رقم 325"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 145".
وفيه سوار من مصعب متروك، وقال يحيى عنه: "ليس بثقة ولا يكتب حديثه".
وله شاهد مرفوع آخر ذكره ابن عدي في "الكامل" "5/ 307" عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة؛ أخرج الله تعالى على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه".
ومن طريق ابن عدي أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144".
قال ابن عدي: "متنه منكر، وعبد الملك له غير ما ذكرت وهو مجهول ليس بالمعروف".(38/202)
قلت: عبد الملك هذا هو ابن مهران الرفاعي، قال عنه العقيلي في كتابه "الضعفاء" "3/ 134": "صاحب مناكير، غلب عليه الوهم، لا يقيم شيئا من الحديث"، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ 370"، وقال: "مجهول الحديث".
وذكره ابن حبان في "الثقات" كما في "لسان الميزان" "4/ 69".
والحديث روي مرسلا كما أشار لذلك أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189" وقال: رواه ابن =(38/203)
ص -149-…بابها، فلبغت القصة بعض الفضلاء؛ فقال: "هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله"، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ونحوها، ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك؛ فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه، ولا حض على الوصول إليه.
وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا، ثم يصير إلى حالته الأولى؟ فنزلت1:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هارون ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله "أي: من طريق مكحول"، وكذا روي مرسلا كما في "الزهد" لهناد "678"، والمروزي في "زوائد الزهد" "359"، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 231"، وقال: عن مكحول: بلغني أن النبي "وذكره".
والحديث ذكره موضوعا ابن الجوزي كما مر وتبعه الصاغاني في "الدر الملتقط" "رقم 26".
ورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة" "2/ 327"؛ فضعفه وهو الحق، وعلى هذا حكم ابن تيمية والسخاوي في "المقاصد" "395"، والسيوطي في "الدرر المنتثرة" "242"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "243"، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" "2/ 305"، والزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 8، 9/ 329، 10/ 45"، والألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 38"، وهو الصواب، لذا قال المنذري في "الترغيب": "لم أقف له على إسناد صحيح ولا حسن، وإنما ذكر في كتب الضعفاء؛ كـ"الكامل" وغيره".
وذكر الزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 7"؛ أن عبد الحق الإشبيلي صحح معنى الحديث كما في "شرح الأحكام"، والله أعلم.
1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد".
قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269"، من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به.(38/204)
وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490".
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ" عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت.
وفيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.
وأخرجه نحوه ابن جرير عن قتادة بسند رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.
وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي" "1/ 118، 119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".(38/205)
ص -150-…{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189]؛ فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال؛ لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه.
ولا يقال: إن المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته، ومن جملتها العوالم الروحانية، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس، واتساع في درجة العلم بالله تعالى.
لأنا نقول: إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات، وما في عالم الشهادة كافٍ وفوق الكفاية؛ فالزيادة على ذلك فضل، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]؛ فإن الجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها:
أن طلب الخوارق بالدعاء، وطلب فتح البصيرة للعلم به1 لا نكير فيه، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء؛ فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعًا ما لم يدعُ بمعصية، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله وإخلاص العمل له، والخضوع بين يديه؛ فلا تحتمل الشركة، ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالدعاء، يعني أن طلب ذلك بالدعاء لا نكير فيه، إنما النكير في أن يقصد هذا بالعبادة، وسيدنا إبراهيم طلب ذلك بالدعاء لا بعبادة أخرى من العبادات؛ فليس طلب الخوارق بالدعاء كطلبها بالعبادة. "د".(38/206)
ص -151-…لله في العبادة؛ لما ساغ القصد إليه بالعبادة، مع أن كثيرًا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد؛ فكيف يجعلان مثلين؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل!
والثاني:
أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله1؛ لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب؛ فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ، السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية، لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار، ولو نظر العاقل في أقل الآيات2، وأذل المخلوقات، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب؛ لقضى العجب، وانتهى إلى العجز في إدراكه3، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه؛ كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 17-18] إلى آخرها.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] إلى تمام الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على كمالات الله وتنزيهه، وقدرته الشاملة، إلى آخر ما أشار إليه، وبالتأمل يدرك الفرق بين الجوابين. "د".
2 كالنخلة، والنملة، والفراشة، وما يسمى بالمكيروبات، وغير ذلك؛ فقد ألفت المجلدات الضخمة فيما عرف لها من الخواص، واعترف علماؤها بأنهم لا يزالون في أوائل البحث. "د".
3 ينظر جملة حسنة من هذه الحكم والعجائب في "مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" كلاهما لابن القيم، و"النحلة تسبح لله"، للحمصي، و"الطلب محراب الإيمان" لخالص جلبي كنجو.(38/207)
ص -152-…ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه، ولا مأمورًا بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها؛ فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعًا، وإذا لم يكن مطلوبًا؛ لم ينبغ أن يطلب.
والثالث:
أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي؛ فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالي التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث، من المتألهين منهم ومن غيرهم، ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية، من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان، أو ما يخرج من الحيوان، إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة، ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر، كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب، كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى.
والرابع:
أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات؛ كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية؛ كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية، والمغيبات تحت أطباق الثرى؛ لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى، فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد وخراسان وأقصى بلاد الصين؛ فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات.
والخامس:
أنه لو فرض كون هذا سائغًا؛ فهو محفوف بعوارض كثيرة، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ومقصوده، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها(38/208)
ص -153-…عباده لينظر كيف يعملون1، فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء وبين مفسدة ما يعترض2 صاحبها كانت جهة العوارض أرجح؛ فيصير طلبها مرجوحًا، ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون3 من الصوفية، ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر، حتى بالغ بعضهم؛ فقال في طلب الثواب4 ما تقدم، وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ونحوها مما يقتضي وضعها5 الإخلاص التام فلا يليق به طلب الحظوظ، فإن طالب العلم بالروحانيات؛ إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها، وهذا لا يوجد، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه؛ فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية، والعجائب المبثوثة في الأرض، لا لغير ذلك، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل، من التحقق بمحض العبودية.
فإن قيل: فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ؛ فقال: ترك المعاصي، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير؛ كما في الحديث6، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر؛ فهل للإنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ" و"ط": "تعملون".
2 في نسخة "ماء/ ص252": "يتعرض".
3 في نسخة "ماء/ ص252"، و"ط": "المحقون".
4 العبارة في نسخة "ماء/ ص252": "فقال بنفي طلب الثواب، وأشد...".
5 في "ط": "وضعه".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، 6/ 48-49/ رقم 2842"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا" عن أبي سعيد الخدري ضمن حديث طويل، فيه: "فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: "كيف قلت؟". قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير رسول الله صلى الله عبالشر؟ فقال له ليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو".(38/209)
ص -154-…أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا؟ فإن قلت لا؛ كان على خلاف هذه القاعدة، وإن قلت نعم؛ خالفت ما أصلت.
فالجواب أن هذا نمط آخر، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر، فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك؛ فهذا عون بالطاعة على الطاعة، ولا إشكال فيه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45].
وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2].
ومسألة الحفظ من هذا، وأما ما وقع الكلام فيه؛ فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص.
فالحاصل1 لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويًّا ومعينًا على أصل العبادة وغير قادح في الإخلاص؛ فهو المقصود التبعي السائغ، وما لا؛ فلا، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية، وربطها، والوثوق بها، وحصول الرغبة فيها؛ فلا إشكال2 أنه مقصود للشارع؛ فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح.
والثاني3:
ما يقتضي زوالها عينًا؛ [فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينًا]4؛ فلا يصح التسبب بإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا حاصل الفصل فيما يتعلق بتوابع العبادة، وقوله: "وأن المقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام..." إلى قوله: "الجهة الرابعة" حاصل للجهة الثالثة برمتها؛ عبادتها، وعادتها. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا شك".
3 أي: ولا فرق في القسمين بين العبادات والعادات. "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/210)
ص -155-…والثالث:
ما لا يقتضي تأكيدًا ولا ربطًا، ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينًا؛ فيصح في العادات دون العبادات1، أما عدم صحته في العبادات؛ فظاهر، وأما صحته في العادات؛ فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب، ويحتمل الخلاف؛ فإنه قد يقال: إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي، وقصد الشارع التأكيد، فلا يكون ذلك التسبب موافقًا لمقصد الشارع؛ فلا يصح، وقد يقال: هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف، إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه، وإنما قصد في التسبب أمرًا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب؛ فلذلك شرع في النكاح الطلاق، وفي البيع الإقالة، وفي القصاص العفو، وأباح العزل2، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع3 لما كان كل منها غير مخالف له عينًا، ومثله4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كطلب الاطلاع على عالم الروحانيات بالعبادات على ما حققه، أما مثل قطع الشهوة بالصيام؛ فمع كونه من هذا قد أحاله على ما تقدم من طلب الحظوظ في العبادة؛ فليراجع. "د".
2 أخذ الجمهور بالأحدايث الواردة بإباجة العزل، ولكن شرطوا رضا الزوجة وإذنها بذلك؛ لأن الجماع من حقوقها، وهو لا يتم بغير إنزال، ورجح طائفة منهم ابن حزم حرمته بإطلاق متمسكين بحديث جذامة المروي في "صحيح مسلم" وهو من قوله عليه السلام حين سئل عن العزل: "ذلك الوأد الخفي"، وجروا في هذا الترجيح على قاعدة أن النص الناقل عن البراءة الأصلية يقدم على ما يوافقها، وما يستعمل في هذا العصر من وضع غلاف رقيق على عضو التناسل ليمنع من نفوذ الماء إلى الرحم يجري على هذا الخلاف، والتحقيق ما ذهب إليه الجمهور، وتسميته في حديث جذامة بالوأد الخفي يكفي في وجهها أنه مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يتهافت عليه الناس فيحرم كما لو تتابعوا على ترك النكاح من أصله. "خ".(38/211)
3 أي: فلا يعول على ما ظهر ببادئ الرأي لما كان غير مخالف عينا؛ فيكون حينئذ صحيحا. "د".
4 أي: وهذا مثل ما إذا قصد... إلخ، فمع كونه لم يقصد قصد الشارع بل قصد أمرا =(38/212)
ص -156-…ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة، ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل؛ فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم؛ فكذلك غيره مما مضى تمثيله.
وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال1 بالتسبب على تحصيل أمر، على وجه يكون التسبب فيه عبثًا لا محصول تحته شرعًا إلا التوصل إلى ما وراءه، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله، ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعًا في أصل التسبب، وأما إذا أمكن أن لا ينخرم أو أمكن أن لا يكون منخرمًا من أصله؛ فليس بمخالف للمقصد الشرعي من [كل] وجه؛ فهو محل اجتهاد، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا2، وقد تقدم الكلام فيه، والله أعلم.
والجهة الرابعة:
مما يعرف به مقصد الشارع: السكوت عن شرع التسبب3، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل أصل العبارة هكذا: "وليس من هذا المخالف لقصد الشارع بلا بد، وهو الاحتيال... إلخ"، أي: ليس من هذا النوع الذي أكد جوازه بما قرره ما يكون فيه التسبب حيلة للوصول به إلى غرض آخر، بحيث يزول ما تسبب فيه بمجرد وصوله إلى غرضه، كما تقدم في بيوع الآجال، وكالهبة للفرار من الزكاة؛ فإنه لا يعد من هذا النوع الذي فيه الكلام هنا، وهو ما لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ولا رفعه؛ لأن هذا في الحقيقة يؤدي إلى رفعه وانخرامه، وقوله: "وأما إذا أمكن" يعني: وهو القسم الثالث هنا. "د".
2 وهو ما أشار إليه كثيرا بترجمة الصلاة في الدار المغصوبة. "د".
3 أي: في الأعمال العادية؛ كتضمين الصناع، وقوله: "أو عن شرعية العمل"؛ أي: في الأعمال العبادية، كتدوين المصحف. "د".(38/213)
ص -157-…أحدهما:
أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقدر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك؛ فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم؛ كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين1 الصناع، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها؛ فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعًا بلا إشكال؛ فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل2.
والثاني:
أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان؛ فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص3؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودًا ثم لم يشرع الحكم دلالة4 عليه؛ كان ذلك صريحًا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم صناع؟ بل كان؛ فالتمثيل به غير واضح لأن الموجب إذا كان موجودا؛ فإما أن يكون قد أخذ حكما من الشارع غير ما كان جاريًا قبل، أو لا، وعلى كل؛ فهو حكم إما بإقرار ما كان موجودا أو بتعديله، فلا يظهر عده فيما نحن فيه إلا إذا كان خلا زمانه عليه السلام عما يتعلق بذلك، وهو بعيد. "د".
2 أي: في الجهة الثالثة، وهي ما لم ينص عليه وعلم بمسلك استقرى من النصوص. "د".
3 أي: فهو تقرير لنفس ما كان جاريًا واعتبار له، وأنت ترى أصل الكلام عامًا في العادي والعبادي، ولكنه ساق الكلام في هذا القسم مساق الخاص بقسم العبادة، وهو الذي يقال فيه: بدعة وغير بدعة. "د".
4 في الأصل: "ولا له"، وفي "ط": "ولا نية".(38/214)
ص -158-…الشارع؛ إذا فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه1.
ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرر هذا المعنى2 في "العتبية"3 من سماع أشهب وابن نافع، قال فيها: "وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا. فقال: لا يفعل، ليس هذا مما مضى من أمر الناس. قيل له: إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله4؛ أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم أسمع له خلافًا. فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به. فقال: نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني: قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده؛ أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا؟ إذا جاءك5 مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء؛ فعليك بذلك فإنه6 لو كان لذكر؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه"، هذا تمام الرواية، وقد احتوت على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل هذا في "الاعتصام" "1/ 360 وما بعدها، ط- رشيد رضا و1/ 468 - ط ابن عفان".
2 وهو الجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع. "د".
3 "1/ 392 - مع شرحها "البيان والتحصيل"".
4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "2/ 367 - ط دار الفكر"، والبيهقي في "سننه" "2/ 371" بسند ضعيف فيه راوٍ مبهم.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "3/ 358/ رقم 5963" -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 288/ رقم 2882"- بإسناد منقطع.(38/215)
5 هذا إلى آخر الكلام هو الزائد عن مضمون ما أجاب به أولا، وبه يظهر قوله: "بشيء آخر لم تسمعه منه"، راجع "الاعتصام" "1/ 468 - ط ابن عفان" في فصل: "ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال... إلخ"؛ تجد اختلافًا في اللفظ يؤدي إلى بعض الاختلاف في المعنى.
6 كذا في "ط" و"العتبية"، وفي غيره: "لأنه".(38/216)
ص -159-…فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم.
وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا: إنها "فعل ما سكت الشارع عن فعله، أو ترك ما أذن في فعله"، أو تقول: "فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه، أو ترك ما أذن في فعله، أو أمر خارج عن ذلك"1؛ فالأول كسجود الشكر عند مالك، حيث لم يكن ثم دليل على فعله2، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات3، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات4، والثاني كالصيام من ترك الكلام، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة، والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة.
وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي، فلا يصح بحال5؛ فكونه بدعة قبيحة بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإشارة لفعل ما سكت عنه وترك ما أذن فيه؛ فإن إيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ليس مما سكت عنه الشارع، بل هو ضد لما نص عليه الشارع، وقوله: "أو أمر خارج عن ذلك"، هذا ما زادت به العبارة عن سابقتها. "د".
2 استحب الإمام الشافعي سجدة الشكر، وقال أحمد: "لا بأس بها"، وقال إسحاق وأبو ثور: "هي سنة"، وكره النخعي ذلك، وزعم أنه بدعة، وكره ذلك مالك والنعمان، قاله أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص189 - بتحقيقي". وانظر لزاما: "الأوسط" "5/ 287-289" لابن المنذر.
3 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي "1/ 473-475 - ط ابن عفان".
4 انظر في بدعية ذلك: "السنن الكبرى" "5/ 118" للبيهقي، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص149"، و"مجموع الفتاوى" "11/ 298، 576، 629"، و"منية المصلي" "573"، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي "ص115-117"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص117-119 - بتحقيقي"، و"البدع والنهي عنها" "ص46-47"، و"الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" "ص181-185 - بتحقيقي"، و"حجة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص128".
5 انظر في ذلك: "الاعتصام" "2/ 610-611 - ط دار ابن عفان".(38/217)
ص -160-…وأما الضربان الأولان -وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه-؛ فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع؟ وهما لم يتواردا1 مع المشروع على محل واحد، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة2، والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع، ولا لوضع الأعمال، أما القصد؛ فمسلم بالفرض3، وأما الفعل؛ فلم يشرع الشارع4 فعلا نوقض بهذا العمل المحدث، ولا تركًا لشيء فعله هذا المحدث؛ كترك الصلاة، وشرب الخمر، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع، والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة [ولا موافقة]، ولا يفهم5 للشارع قصدًا معينًا دون ضده وخلافه، فإذا كان كذلك؛ رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح؛ فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا؛ فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لا مشروع في هذه الفرض، وهو توجيه لإنكار الأمرين معا. "د".
2 أي: التي لم يرد من الشارع فيها نص أو دليل بخصوصها، فهي مرسلة عن الدليل. "د".
3 لأن فرض الكلام أنه وجد المقتضى للفعل مثلا أو للترك، كحصول النعمة المستحقة للشكر في سجوده؛ فلا مخالفة للقصد، لما علمناه سابقا في "الجهة الثانية مما يدل على قصد الشارع". "د".
4 أي: وهو أصل الفرض أيضا. "د".
5 هذه الزيادة لا حاجة إليها هنا؛ لأنه وإن كان المسكوت لا يفهم للشارع قصد معين فيه، ولكن أصل الموضوع أن قصد الشارع في هذه المسائل مسلم أنه يوافق البدعة؛ كشكر النعم المطلوب بوجه عام في موضوع سجود الشكر، وأن المقتضى موجود ولكنه لما لم يشرع له الحكم؛ دل على أنه لا زائد عما هو مقرر فيه، ولا يعزب عنك أن المصالح المرسلة إنما تجري في غير العبادات. "د".(38/218)
ص -161-…أيضا؛ فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى1؛ فما وجه ذم هذه ومدح هذه؟ ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص.
وتقرير الجواب ما ذكره مالك، وأما السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا -إذا وجد المعنى المتقضي للفعل أو الترك- إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان، وهو غاية في [تحصيل] هذا المعنى.
قال ابن رشد2: "الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين -يعني سجود الشكر- لا فرضا ولا نفلا؛ إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله3، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المصلحة والحكمة؛ لأن الفرض أن الجميع فيه المصلحة التي عرف اعتبار الشاع لها، وأي فرق بين سجود الشكر وجمع المصحف، أو بين الاجتماع للدعاء أدبار الصلوات وتدوين العلم؟ وكلاهما عون على الخير. "د".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 393".
3 في هذا الإطلاق نظر كبير؛ إذ أخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، 3/ 89/ رقم 2774"، والترمذي في "جامعه" أبواب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر، 4/ 141/ رقم 1578"- وقال: "هذا حديث حسن غريب" و"العمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا سجدة الشكر"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، 1/ 446/ رقم 1394"، وأحمد في "المسند" "5/ 45"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 291"، وابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287/ رقم 2880"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 34" عن أبي بكرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شيء يسره، أو جاءه سرور خر ساجدا لله.(38/219)
وهو حديث حسن، وله شواهد عديدة وكثيرة، وقد أثر عن علي وكعب بن مالك كما سيأتي عند المصنف "ص270"، ولذا قال ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287" بعد أن سرد الأقوال: "وبالقول الأول - أي: مشروعية سجود الشكر- أقول؛ لأن ذلك قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك؛ فليس لكراهية من كره ذلك معنى".
وقال شيخنا الألباني في "الإرواء" "2/ 226-232" بعد أن خرج الأحاديث والآثار في ذلك: "وبالجملة؛ فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذا الأحاديث، لا سيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح رضي الله عنهم".
قلت: وتفصيل المشروعية تجده في "الخلافيات" للبيهقي "مسألة رقم 116"، يسر الله إتمام تحقيقه بخير.(38/220)
ص -162-…أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه".
قال: "واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لوكان لنقل صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمروا بالتبليغ".
قال: "وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول، مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر"1 لأنا نزلنا2 ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها؛ فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها"3، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه، والمقصود4 من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 155"، وهو صحيح.
2 في "البيان والتحصيل": "أنزلنا".
3 ولكن المقدمة الأولى غير صحيحة؛ كما بيناه ولله الحمد. وفي "ط": "فيها:، وفي غيره: "فيه".
4 أي: مقصود المؤلف من نقل ما ذكر عنه في السؤال والجواب معرفة طريقته في توجيه وبيان معنى كونها بدعة، يعني ليأخذ منه القاعدة العامة التي يريد تأصيلها هنا، وهو أن البدعة ما كان المقتضى لها موجودا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع لها حكما زائدا؛ فيعلم أن السكوت دليل على أن قصده الوقوف عند هذا الحد، وليس غرض المؤلف العناية ببيان أن سجود الشكر بدعة، بل الذي يعنيه هو طريقة مالك في بيان بدعيتها، وكأن هذا شبه تبرؤ من تأييد كونها بدعة للأحاديث الواردة في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرا، راجع "المنتقى" في باب السهو. "د".
قلت: ونحوه في "الاعتصام" "1/ 466-471/ ط ابن عفان".(38/221)
ص -163-…وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل أنها بدعة منكرة، من حيث وجد في زمانه عليه الصلاة والسلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين، بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة1 على رجوعها إليه؛ دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها2، وهو أصل صحيح، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها، ودل على أن وجود المعنى المتقضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع؛ فبطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم "1/ 431".
2 صرح الشيخ ابن تيمية في "فتاويه" بأن التحليل بدعة مستندا إلى هذا الوجه الذي لوح إليه المصنف، وهو أن التحليل لو كان جائزا، لدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم بمياسير الأمور، وقال: "من علم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعًا أنه ليس من الدين، وهذه قاعدة محكمة لو تحراها علماء الإسلام؛ لما وجدت البدع المكروهة وكثير من الفتاوى السخيفة إلى تلويث جانب الشريعة سبيلا". "خ".
قلت: وصرح بهذا المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" أيضا.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 98-285".(38/222)
ص -164-…[بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم]1
كتاب الأدلة2 الشرعية:
والنظر فيه [فيما]3 يتعلق بها على الجملة، وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس4؛ فالنظر إذا يتعلق بطرفين5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م" و"ط".
2 قال ماء: "الأدلة جمع دليل، وهو ما يتوصل به إلى المقصود -أي: المنسوب- إلى الشرع".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م"، وسقطت "فيه" من "ط".
4 هذه أدلة شرعية من حيث ما صدقاتها "كذا" الجزئية المتعلقة بالأحكام، والأصولي يبحث عنها من حيث الإجمال، ولا تذكر في"فالنظر إ ها بخصوصها إلا على ضرب من التمثيل والإيضاح. "ف".
5 في "ط": فالنظر إذًا في طرفين".(38/223)
ص -167-…الطرف الأول: في الأدلة على الجملة
النظر الأول: في كليات الأدلة على الجملة
والكلام فيها "أ" في كليات1 تتعلق بها، و"ب" في العوارض اللاحقة لها.
والأول يحتوي على مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسيذكرها في أربع عشرة مسألة، وقوله: "وفي العوارض"، وسيذكرها في خمسة فصول: الإحكام والتشابه، الإحكام والنسخ، الأمر والنهي، العموم والخصوص، البيان والإجمال. "د".(38/224)
ص -171-…المسألة الأولى1:
لما انبنت الشرعية على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة2 في أبواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة تعتبر أُمًّا لجميع المسائل الأصولية المتعلقة بالأدلة الشرعية، بين بها شدة ارتباط هذه المسائل الأصولية بالأدلة الشرعية التفصيلية والقواعد الشرعية، بحيث لا يمكن استغناء المستنبط للأحكام عن النظر للأمرين معا؛ فلا يستغنى بالنظر في الجزئيات -أي الأدلة التفصيلية- عن النظر في الوقت نفسه للقاعدة الأصولية التي تعتبر كلية لها ليعرف بها هذا الجزئي من أي مرتبة هو، وما مقصد الشارع في مثله؟ كما أنه لا يستغنى بالكلية فيجريها في الجزئيات دون أن ينظر في الدليل الخاص بهذه الجزئية الوارد من الكتاب والسنة وما معهما، وقد ساق المصنف تمهيدا لذلك أول المسألة، ثم بين وجه حاجة الجزئيات إلى الكليات بقوله: "وإذا كان كذلك... إلخ"، ثم بين عدم استغناء الكليات عن الجزئيات بقوله: "وكما أن... إلخ"، ومد النفس في هذا الجانب؛ لأنه موضع التوهم لمخالفته المألوف في مثله. "د".
2 "وذلك أن الله تعالى لما اقتضت حكمته الأزلية سعادة الخلق في الأولى والآخرة، ناطها بأحكام معقولة التناسب، ورتب عليها مصالح كفيلة بذلك". "ف".(38/225)
وكتب "د" ما نصه: "أي: إن المراتب الثلاثة لا تخلو منها جزئية من مسائل الشريعة وفروعها، وأدلتها الشرعية التفصيلية مستغرقة لهذه الفروع والجزئيات، لا فرق بين ضروريات الدين وحاجياته وتحسيناته، ولا بين الأمور العادية والعبادية؛ فلا فرق في ذلك بين الصلاة والبيع والقضاء وغيرها، ولا بين قاعدة الغرر وقاعدة الربا مثلا، والغرض التعميم، وأن الأدلة التفصيلية عامة شاملة، إن لم تكن من الكتاب؛ فمن السنة أو الإجماع أو غيرهما من الاستحسان والمصالح المرسلة باعتبار الجزئيات في تلك الأدلة؛ فهذه كلها أدلة تفصيلية تتعلق بجزئيات المراتب الثلاث المذكورة، وكما أن الأمر هكذا في الأدلة التفصيلية؛ فهو كذلك أيضا في كلياتها التي أخذت من استقرائها، هي أيضا عامة لكل ما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، لا تخص أدلة تفصيلية تتعلق ببعض المراتب دون بعض، ولا بعض القواعد الشرعية دون بعض، بل إنها كليات عامة تقع على جميع الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المسماة جزئيا إضافيا؛ فتضبط مقاصدها ويتزن بها طريق إجرائها والعمل بها، فكما أن الجزئيات التي هي الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المذكورة مبثوثة في جميع فروع =(38/226)
ص -172-…الشريعة وأدلتها، غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، ولا بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر الشرعي فيها أيضا عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كليات تقضي على كل جزئي1 تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا2 أم حقيقيا3؛ إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة، وقد تمت؛ فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره؛ فهي الكافية في مصالح الخلق عموما وخصوصا؛ لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}4 [المائدة: 3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المراتب الثلاث؛ كذلك هذه الكليات المأخوذة من استقرائها قاضية على كل الجزئيات وعلى أفراد الأدلة التفصيلية التي تندرح تحتها؛ فلا يتأتى أن يفقد بعض تلك الكليات حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره لأن ذلك إنما يعقل في فروع الأحكام لا في أصولها، وإلا؛ لما كانت الشرعية تامة. وهنا يخطر السؤال الذي يريد المؤلف أن يجعل هذه المسألة لتحقيقه، وهو أنه هل يصح إذًا للمجتهد ألا ينظر في الجزئيات والأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام ويكتفي بالكليات، كما هو الشأن في قواعد اللغة مثلا، يجري التطبيق في كل فاعل على أنه مرفوع عند قراءة كلام العرب، بدون نظر إلى أن هذا الفاعل بخصوصه ورد عن العربي المتكلم به مرفوعا؟ وهكذا يكون الشأن هنا؛ فيقال مثلا: إن هذا الجزئي إن كان ضروريا قدم على الحاجي، وإن كان حاجيا قدم على ما بعده، والضروريات نفسها ما كان منها متعلقا بالدين قدم على المتعلق بالنفس، وهذا يقدم على ما بعده منها، وهكذا؛ فيستغنى بالنظر في الكليات عن النظر في الدليل الشرعي الخاص على طبق قواعد النحو مثلا، وكذلك يستغنى عن النظر في الجزئيات الإضافية اكتفاء بالكليات؟(38/227)
فكان الجواب عن السؤال أن الأمر ليس على ما يظن، بل لا بد منهما معا كما بسطه، ولما كانت هذه المسألة كأصل عام في كتاب الأدلة جعلها فاتحة مسائل هذا الباب؛ فلله درّه ما أسد نظره، ولقد صدق فيما يقول بعد: "إن النظر في هذه الأطراف فيه جملة الفقه"، وسيأتي لهذا المبحث بقية في كتاب الاجتهاد في المسألة الثالثة عشرة".
1 في "ط": "جزء".
2 أي كما قال: "ولا بقاعدة دون قاعدة". "د".
3 كذا في "د"، وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط": "أو حقيقيا".
4 المراد بذلك بيان ما لزم بيانه وما يستنبط منه غيره، كالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد؛ فكل ما يستنبطه المجتهدون ويخرجه العلماء الراسخون من أحكام الوقائع مأخوذ من الكتاب والسنة، وإليهما يرجع الإجماع. "ف".
قلت: انظر في تفسير الآية: "الاعتصام" للمصنف "2/ 816-817 - ط دار ابن عفان".(38/228)
ص -173-…وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وفي الحديث: "تركتكم على الجادة"1 الحديث.
وقوله: "لا يهلك على الله إلا هالك"2.
ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر وإيضاح السبيل.
وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات3 وهي أصول الشريعة؛ فما تحتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه رزين في "جامعه" المسمى "التجريد للصحاح الستة"، كما في "جامع الأصول" "1/ 293" لابن الأثير -وقد نقل هذا الكتاب مفرقا على أبوابه، كما صرح "1/ 55"- عن علي رضي الله عنه قوله، وتتمته: "منهج عليه أم الكتاب"، وانفرادات رزين من مظان الضعف، وورد حديث فيه: "تركتكم على البيضاء"، سيأتي تخريجه "4/ 133، 135"، وهو صحيح.
قال "ماء": "الجادة: معظم الطريق، وقيل: وسطه، وقيل: هي الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق ولا بد من المرور عليه".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، 1/ 118/ رقم 131 بعد 208" عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، وأوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات..."، وأصل الحديث -دون القطعة المذكورة- في "صحيح البخاري" "رقم 6491".
ومعنى: "لا يهلك على الله إلى هالك" أي: من أصر على التحري على السيئة عزمًا وقولًا وفعلًا، وأعرض عن الحسنات همًّا وقولًا وفعلًا، قاله ابن حجر في "الفتح"، وفي "م": "إلا الهالك".
3 أي: الحقيقة؛ كنصوص الأدلة التفصيلية، أو الإضافية؛ كالقواعد الكلية التي تندرج تحت كليات المراتب الثلاث الأعم منها؛ فلذا قال: "وهي أصول الشريعة فما تحتها". "د".(38/229)
ص -174-…مستمدة1 من تلك الأصول الكلية، شأن2 الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجوادات؛ فمن الواجب اعتبار3 تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي4 معرضا عن كليه؛ فقد أخطأ5.
وكما أن من أخذ بالجزئي6 معرضا عن كليه؛ فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه.
وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما7 هو من عرض الجزئيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الأدلة الشرعية وما أخذ عنها من القواعد إنما جاء تقريرًا وتفصيلًا للمقاصد الشرعية العامة في المراتب الثلاث، وكل ما جاء من ذلك لاحظ فيه الشارع المحافظة على هذه المراتب، التي بحفظها ينتظم أمر المعاش والمعاد. "د".
2 أي: أن تكون متفرعه عنها، داخلًا في قوامها ما اعتبر مقومًا لهذه الأنواع. "د".
3 أي: بالتحقق من اندراجها تحتها، بحيث لا يحصل اشتباه ما يدخل تحت الضروري بما يدخل تحت المرتبتين الأخريين، وإلا؛ لما صح الحكم على الجزئي. "د".
4 حقيقي أو إضافي؛ أي: سواء أكان دليلًا خاصًا من الكتاب وما معه، أم كان قاعدة مما يندرج تحت كلي أعم منه؟ "د".
5 أي: قد يدركه الخطأ، وإلا فقد يصادف الثواب؛ فكثيرًا ما يستدل الشخص بحديث على جزئي، ولا يلتفت لكليه ويصادف الصواب، أو يقال: أخطأ في طريق الاجتهاد، وإن لم يخطئ النتيجة. "د".
6 في الأصل و"ف": "أخذها لجزئي"، وقال "ف": "لعل المناسب: كما أن من أخذ به في جزئي معرضًا إلخ...".
قلت: وما في "د" هو الصواب.
7 هذا بالنسبة لنفس المستقرئ المثبت للكلي، أما بالنسبة لغيره الذي أخذ العلم بالكلي بعد ما تم استقراؤه من غيره؛ فلا يقال فيه ذلك، إلا بواسطة من أخذ عنه الكلي، أما بالنسبة إليه هو؛ فلا توقف. "د".(38/230)
ص -175-…واستقرائها؛ [وإلا] فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات؛ فإذًا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف1 مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي2 هو مظهر العلم به.
وأيضا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئيا؛ إلا لكون3 الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض4، ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته5 للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما6 نأخذه من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي7 لم يأخذه المعتبر جزءًا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع إلى الوجه الأول من البيان. "د".
2 راجع إلى الوجه الثاني منه، وكلاهما لا يخلو من نظر. "د".
3 ظاهر بالنسبة للجزئي الإضافي. "د".
4 أي: الإعراض عن الجزئي مع اعتبار الكلي تناقض؛ لأن الإعراض عن الجزئي إعراض عن الكلي بمقتضى تقريره؛ فيكون اعتبارا للكلي وإعراضا عنه معا، وهو تناقض. "د".
5 بحيث لا يرد إليه بالطريق المؤدي إلى تعرف أنه جزئيه ويندرج فيه. "د".
6 بما قدمناه لا يذهب عليك صحة عباراته المتبادر منها التناقض، حيث يقول تارة: "الجزئي مستمد من الكلي شأن الجزئيات مع أنواعها"، وتارة يقول: "الكلي مأخوذ من الجزئي"، وكل صحيح بالمعنى المتقدم في كل منها. "د".(38/231)
7 أي: من كليه الحقيقي، وقوله: "لم يأخذه المعتبر جزء منه"؛ أي: مما ادعى أنه كليه، يعني: فلا يكون هو كليه. "د".(38/232)
ص -176-…لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك1، الجزئي كذلك أيضا؛ فلا بد من اعتبارهما معا2 في كل مسألة.
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، [إذ كلية]2 هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع3، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي. فإن قيل: الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها أو أكثرها، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي لأن الاستقراء قطعي إذا تم4 فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء5، وفرض مخالفته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأن اعتبار الكلي وملاحظته عند النظر في الجزئيات إنما يقصد منه المحافظة على مقاصد الشارع، ولا يكون ذلك دون النظر للجزئي أيضا. "د".
2 سقطت من "ط".
3 أي: مما تضمنته القواعد، وإذًا؛ فالقواعد معتبرة لم يهدمها هذا النص في هذا الجزئي، ولكن هذا لا يقضي باعتبار الكلي وحده مطردًا ويلغي الجزئي؛ فلا بد من اعتبار الكلي في غير موضع المعارضة حتى لا يهدر الكلي ولا الجزئي، وسيأتي له بيان وتمثيل. "د".
4 قال بعضهم: "وتمامه بالنظر في الأدلة الجزئية، وما انطوت عليه من الوجوه العامة على حد التواتر المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة ينضاف بعضها إلى بعض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، وتقدم أن الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي العام، وأن تخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا؛ لأنه إذا خرج عن ضروري مثلا، فإنما يخرج لحاجي أو كمالي لعارض لا لذاته، ولا يتجاوز الأصول الثلاثة" ا. هـ. "د".
قلت: قوله: "قال بعضهم..." هو "ف".
5 في "ط": "عماء".(38/233)
ص -177-…غير صحيح، كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية؛ لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان؛ فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف، وجد أو لم يوجد؛ فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلي من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات؛ فليس بجزئي له كالتماثيل وأشباهها، فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين أو النفس أو النسل1 أو المال أو العقل في الضروريات معتبر2 شرعا، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة؛ حصل لنا القطع بحفظ ذلك، وأنه المعتبر حيثما وجدناه؛ فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان، لا يخالفه على حال؛ إذ لا يوجد بخلاف ما وضع، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا3 كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي؟
فالجواب: أن هذا صحيح على الجملة، وأما في التفصيل؛ فغير صحيح، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر، فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة؛ فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها؛ فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة؛ فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة4 نفسها، كما قالوا في القتل بالمثقل: إنه لو لم يكن فيه قصاص؛ لم ينسد باب القتل بالقصاص، إذا اقتصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النسب".
2 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "معتبرا".
3 بحيث تكون الأشياء يجمعها كلي واحد، وتكون من وادٍ واحد، ومع ذلك تتعارض أحكامها وتتنافى، وذلك غير واقع في الشريعة قطعًا. "د".
4 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "للعادة"، وقال: "ف": "لعله للقاعدة"، وفي "ط": "الإطلاق وهو إما للقاعدة...".(38/234)
ص -178-…به على حالة واحدة وهو القتل بالمحدد، وكذلك الحكم في اشتراك1 الجماعة في قتل الواحد، ومثله2 القيام في الصلاة مثلا مع المراض وسائر الرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قاد عمر من خمسة أو سبعة في رجل واحد قتلوه غيلة؛ لأنه رضي الله عنه أدرك جهة حفظ النفس بالقصاص، وأنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لم ينسد باب القتل بحكم القصاص، وهذه قد يقف العقل دونها؛ فيفهم أن قتل سبعة بشخص واحد ليس حفظًا للنفس؛ فهذا اجتهاد عمر حيث قال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا" لأنه فهم جهة الحفظ التي قد يقف فيها غيره، على أنه رضي الله عنه كان مترددًا فيه حتى قال له علي: أرأيت لو اشترك جماعة في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال: نعم. قال: فكذا هنا"؛ فحكم بالقتل، أما القتل بالمثقل فقد ورد فيه قصة اليهودي الذي قتل الجارية على أوضاح لها بحجر، فرضخ رسول الله رأسه بحجرين قتل بهما؛ فانظر وجه ذكره مع أنه منصوص، ثم لا يتوهم فيه عدم القصاص لمانع يرجع لحفظ النفس، وكذلك قال ابن الحاجب: "إنه ثبت بالقياس على المحدد"، وكأنه لم يكتفِ بالنص الذي أشرنا إليه في الحديث لمانع في الحديث، ولا يعترض بأنه من باب القياس في الأسباب، وهو ممنوع؛ لأن السبب الواحد وهو القتل العمد العدوان؛ فلا قياس في السبب. "د".
قلت: أثر عمر أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟ 12/ 227/ رقم 6896" بسنده عن نافع عن ابن عمر؛ أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم"، ثم قال: "وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه، إن أربعة قتلوا صبيًّا؛ فقال عمر.... مثله".(38/235)
قلت: وصل نحوه عبد الرزاق في "المصنف" "18075، 18077"، والخطابي في "الغريب" 2/ 83-84"، ومالك "2/ 192"، والبيهقي "8/ 40-41"، وانظر: "تغليق التعليق" "5/ 252"، و"تحفة الطالب" "ص435"، والمعتبر" "ص218-219"، و"موافقة الخبر الخبر" "2/ 419-421"، و"فتح الباري" "12/ 227-228"، و"الاعتصام" للمصنف "2/ 623-624 - ط ابن عفان"، أما قصة اليهودي؛ فسيأت تخريجها.
2 فالمحافظة على الضروري وهو الدين هنا في الصلاة مثلًا إذا جرى الأمر فيها لنهايتها، ولو أدى إلى المشقة الفادحة محافظة على هذا الضروري ما كان يرخص في القعود مثلا للمريض، ومثله يقال في فطر رمضان للمريض القادر بمشقة، فلو لم ينص الشارع على هذه الجزئيات ويلتفت إليها في الاستنباط، وأكتفي بأصل الحفظ للضروري لما كان هذا الترخص، ولو لم يكن لأدى إلى الضيق والحرج المرفوع قطعًا؛ فقد نظر إلى قاعدة الحاجيات في هذه المسائل مع أنها في موضوع الضروريات. "د". وفي "ط": "ومثله القائم...".(38/236)
ص -179-…الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي؛ إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات، ومثل ذلك المستثنيات1 من القوعد المانعة؛ كالعرايا، والقراض، والمساقاة، والسلم، والقرض، وأشباه ذلك، فلو اعتبرنا الضروريات كلها2؛ لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات3 أيضا، فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها؛ كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات؛ فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضها ويخصص بعضها بعضا، فإذا كان كذلك؛ فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها.
وأيضا؛ فقد يعتبر الشارع من ذلك4 ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا بناء على أن البيع والإجارة من الضروري، ولم يجر المحافظة على الضروري فيهما للنهاية، بل أعملت قاعدة رفع الحرج التي هي الخاصية للحاجيات؛ فاستثنيت من القواعد التي تقتضي منعها كالغرر في القراض والمساقاة، وهكذا. "د".
2 أي: بحيث نلتزم الوفاء بها في كل جزئياتها لأجل ذلك بالحاجيات في كثير من جزئياتها؛ فيقع الحرج المنبوذ في الشريعة، وقد يخل ذلك بالضروري نفسه. "د".
وكتب "ف": "لعله "في كلها"؛ أي: كل الجزئيات". وفي "ط": "فلو اعتبرت الضروريات بكلياتها"، وهو الصحيح.
3 أي قد يؤدي الأخذ بالمحافظة على ضروري إلى الإخلال به نفسه أبو بضروري آخر مثال الأول إذا لم نبح التيمم للمريض خشية المرض أو زيادته؛ فقد يؤدي الوضوء إلى شدة المرض حتى لا يستطيع الصلاة رأسًا، أو لا يستطيعها بالمقدار الذي يستطيعه لو تيمم، ومثال الثاني ظاهر. "د".
وكتب "ف": "لعله "بل بالضروريات"؛ فأو بمعنى بل".
4 أي: من المحافظة على المراتب في جزئياتها ومواردها ما يشتبه أمره على العقل ولا يعرف جهة الحفظ فيه إلا بالنص. "د".(38/237)
ص -180-…وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات؛ لأن العقلاء في الفترات1 قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء2 بمقتضى أنظار عقولهم، لكن على وجه لم يتجهوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعًا، والمصلح تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد؛ فجاء الشارع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين [وفي كل حال]، وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة، كما في استثناء العرايا ونحوه، فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق؛ لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع، ولأنه من جملة المحافظة على الكليات؛ لأنها يخدم بعضها بعضًا، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح، والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن3 هذا على الكمال.
فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وهو منتهى4 نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم5 في مرامي الاجتهاد.
وما قرر في السؤال على الجملة صحيح؛ إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأزمنة بين بعثة الرسل. "ف".
2 الضروريات ومكملاتها. "د".
3 فإذن لا بد من الرجوع لجزئيات الأدلة، وهي النصوص والأقيسة، ولا يمكنه الاستغناء عنها بالكليات كما يستغنى بكل فاعل مرفوع عما جاء في رواية تفاصيل كلام العرب مثلا. "د".
4 إذ يجمعون بين النظر للدليل الخاص وبين كليه المندرج تحت المراتب الثلاثة، فيصلون بذلك لمعرفة مقصد الشارع في مثله على العموم؛ فينضبط به قصده بهذا الدليل الخاص على وجه الخصوص. "د".
5 بفتح الطاء واللام؛ أي: سيرهم. "ف".(38/238)
ص -181-…والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة؛ فإن1 الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات، وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره؛ فالكلي صحيح في نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج، ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي أو عدم جريانه، وينظر2 في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما3 لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب، وكذلك4 بالعكس؛ فالشارع هو الطبيب الأعظم، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس، وتبين للأطباء5 أنه شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه، حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار؛ فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة، بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره، مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط؛ فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية، وحكموا6 بها على الجزئي، واعتبروا الجزئي7 أيضا في غير الموضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بأن"، وفي "ط": "كما أن".
2 فالطبيب يعرف أن مرض كذا مشخصاته كذا ودواؤه كذا، ولكن هل الشخص الذي يعالجه توجد فيه الخواص اللازمة لهذا المرض، هذا نظره الأول، فإذا وجدها كذلك وعرف أن الكلي متحقق فيه، لا بد له من النظر للجزئي أيضا نظرة ثانية: أليس عنده من المقارنات لهذا المرض ما يمنع من هذا الدواء؛ فيخفف، أو يمزج بغيره، وهكذا ينظر فيما يرد هذا الجزئي الخاص إلى ما يناسبه من كلي الأدوية؛ فلا يجري عليه الدواء المعروف لكلي المرض بمجرد أنه دواء لكلي مرضه، بل لا بد من النظر في حالة الشخص أو لا؛ فكذا الأمر هنا، وقد أحسن كل الإحسان في التمثيل. "د".
3 في "ط": "فكلما".(38/239)
4 في "ف" و"م": "فكذلك".
5 في "ط": "للأطباء فيه".
6 فقالوا: إنه شفاء قطعًا. "د".
7 فبهذا الجزئي من التجرية في بعض الأشخاص وإحداثه الضرر، قالوا: إن الكلي لا يجري اطراده على استقامة؛ فيستثني موضع المعارضة وهو أصحاب الصفراء مثلا؛ فقد أعملوا كلا منهما. "د".(38/240)
ص -182-…المعارض1؛ لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء، فمن لم يكن كذلك؛ فهو له شفاء، أو فيه له شفاء.
ولا يقال: إن هذا تناقض لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي وعدم اعتباره معا؛ لأنا نقول: إن ذلك من جهتين2، ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل3 جزئي وفي كل حال4، بل المراد بذلك أنه يعتبر5 الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه كالعرايا وسائر المستثنيات، ويعتبر الكلي6 في تخصيصه للعام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العارض".
2 فعدم اعتباره من حيث ذاته مع ذات الكلي؛ لأنه لا يتأتى وهو جزئي أن يخالف حكم الكلي، ولكن من حيث أمر خارج عنه قد يخالف حكمه، كما قيل في المرض المقترن به علة أخرى؛ فإنها تجعله ينظر فيه بنظر آخر كالصفراء في المثال. "د".
3 أي: بل بعض الجزئيات في بعض الأحوال قد يأخذ حكمًا غير حكم الكلي. "د".
4 لعله: "أو في كل حال" بدليل ما بعده. "ف".(38/241)
5 معنى اعتبار الجزئي الأخذ بالدليل الخاص وإن خرج عن حكم الكلي الذي هو القاعدة الأصولية التي أخذت من الاستقراء للأدلة، ومعنى اعتبار الكلي تخصيصه للدليل الشرعي التفصيلي العام أو تقييده لمطلقه، كما في المثال السابق، حيث أعملت القاعدة الكلية وهي امتناع أن يأتي في الشرعية خبر بخلاف مخبره؛ فقيدوا بها المطلق الوارد في نفع العسل من مرض الإسهال، بحيث لا يكون إخلالًا بالدليل المطلق أو العام الوارد في هذا الجزئي، وهو جزئي نفع العسل في الإسهال، ولا يشتبه عليك الأمر فتفهم أن كلمة العام تنافي كلمة الجزئي المجعول صفة له؛ لأن عمومه جاء له من كون الدليل الشرعي التفصيلي الوارد فيه من آية أو حديث ورد بلفظ عام، وجزئيته جاءت له من كونه متعلقا بجزئي؛ كصلاة، أو زكاة، أو بيع، أو نكاح، أو داوء مرض كمثاله، بخلاف أصل القاعدة الأصولية؛ فإنها لا تخص بابًا دون باب؛ كقاعدة "الأمر بالشيء ليس أمرًا بالتوابع" مثلا، وبه يتبين أن العبارة كلها محررة. "د".
6 تحريره: "يعتبر الجزئي في تخصيصه للعام الكلي"! "ف".
قلت: هامش "د" السابق فيه رد على هذا، وفي الأصل: "... في تخصيصه للعالم -كذا- الجزئي".(38/242)
ص -183-…الجزئي، أو تقييده لمطلقه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يكون إخلالًا بالجزئي على الإطلاق، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل؛ فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ مَن أخطأ، وحقيقته1 نظر مطلق في مقاصد الشارع، وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب؛ فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا بد من النظر المطلق في مقاصد الشرع بواسطة الكليات، ولا بد من تتبع النصوص أيضا مع ذلك وهي الجزئيات، وبالأمرين معًا تصدر من الناظر صور صحيحة الاعتبار عند الشارع، وما أصعب هذا العمل! وبه يعرف المدعون للاجتهاد من هؤلاء أشباه العوام قيمة دعواهم. "د".(38/243)
ص -184-…المسألة الثانية:
كل دليل شرعي؛ إما أن يكون قطعيًّا1 أو ظنيًّا، فإن كان قطعيًّا؛ فلا إشكال في اعتباره؛ كأدلة وجوب الطهارة من الحدث، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتماع الكلمة، والعدل، وأشباه ذلك، وإن كان ظنيًّا؛ فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي؛ فهو معتبر أيضا، وإن لم يرجع؛ وجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول بقبوله، ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلا [قطعيا]، وقسم لا يضاده ولا يوافقه؛ فالجميع أربع أقسام.
فأما الأول:
فلا يفتقر إلى بيان.
وأما الثاني:
وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي؛ فإعماله أيضا ظاهر، وعليه عامة [إعمال]2 أخبار الآحاد؛ فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
ومثل3 ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى، والصلاة، والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يكون قطعي الدلالة، سواء أكان قطعي السند بأن كان لفظه متواترا أم كان متواترا تواترا معنويا بحيث تعاضدت عليه الروايات وموارد الشريعة حتى صار مما لا شك فيه، ولا يكفي في ذلك مجرد تواتر اللفظ إذا كان ظني الدلالة والظني ما يقابل ذلك، وهذا في الكتاب والسنة ظاهر، والإجماع أيضا منه ظني وقطعي، أم القياس؛ فكله ظني، ولا يتأتى فيه القطع مع احتمال الاعتراضات الخمسة والعشرين؛ فقوله: "كل دليل" ليس على عمومه لأنه لا يجيء هذا التقسيم في القياس كما عرفت. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
3 في "ط": "ومثال".(38/244)
ص -185-…وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة1 من البيوع والربا وغيره، من حيث هي راجعة إلى قوله [تعالى]: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275].
وقوله: {ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188].
إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر2؛ إلا أن دلالتها ظنية.
ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"3؛ فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات4، وقواعد كليات5؛ كقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية [البقرة: 233].
ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار6 أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي كثيرة؛ كالمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، وغيرها. "د".
قلت: للشيخ صالح الفوزان رسالة في البيوع المنهي عنها، وكتبت رسائل عدة في "بيع الغرر"، أجمعها رسالة أستاذنا ياسين درادكة: "نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية"، وهي مطبوعة في مجلدين.
2 في "ط": "بالتواتر".
3 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
4 كما في الآيات الثلاث. "د".
5 كما في التعدي على النفوس وما بعده؛ فإنه كما قال: معنى في غاية العموم في الشريعة لا شك فيه؛ فهو قطعي في قواعد كليات، وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" راجع له؛ فهو من الظني الراجع إلى قطعي. "د".
6 في الأصل: "ضرر".(38/245)
ص -186-…النفس أو العقل أو النسل أو المال؛ فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك1.
وأما الثالث:
وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي2؛ فمردود بلا إشكال.
ومن الدليل على ذلك أمران.
أحدهما: أنه مخالف لأصول الشرعية، ومخالف أصولها لا يصح؛ لأنه ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يعدّ منها؟
والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط الاعتبار، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب3 بمن أفتى4 بإيجاب شهرين متتابعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا النادر الذي يكون غالبا في الأخبار، كما في القصص عن بني إسرائيل مثلا، وأحاديث الملاحم والفتن، وأشراط الساعة ونحوها؛ كأحاديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود"، و"لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزًا وكرمان من الأعاجم"، وسيأتي له حديث: "القاتل لا يرث"، وأنه لا يرجع لأصل قطعي. "د".
2 ظاهره ولو شهد له أصل ظني، وعليه يكون قوله: "ليس له ما يشهد له بصحته"؛ أي: قطعي لأنه الذي يتأتى فرضه مع فرض أنه معارض لقطعي؛ فإنه لا يعقل تعارض قطعيين، فإن وجد ما ظاهره ذلك أُوِّل كما سيأتي له في مسألة رؤية الباري.(38/246)
3 الغريب نوعان: نوع هو قسم مقابل للمؤثر والملائم والمرسل؛ فهو أربع أربعة أقسام المناسب، ونوع آخر هو قسم من أقسام ثلاثة المرسل: الغريب، ومعلوم الإلغاء، والملائم؛ فالغريب ومعلوم الإلغاء اللذان هما من أقسام المرسل مردودان باتفاق، وفي الملائم منه خلاف، أما الغريب الذي هو قسم رابع للمناسب؛ فلا يقال فيه: دل الدليل على إلغائه، فإن ذلك إنما هو في أقسام المرسل، وسيأتي للمؤلف في الكلام عن القسم الرابع أنه أعمله العلماء في باب القياس؛ فالمراد بالغريب هنا أحد أقسام المرسل الثلاثة، الذي قالوا فيه وفي معلوم الإلغاء: إنهما مردودان اتفاقا، إلا أنهم جعلوا مثاله المذكور -وهو إيجاب الشهرين- مثالا لمعلوم الإلغاء، لا للغريب؛ =(38/247)
ص -187-…..............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فليراجع المقام في كتب الأصول. "د".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "المناسب هو الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقودا للشارع، والغريب ما دل الدليل على إلغائه وعدم اعتباره؛ فلا يعلل به".
4 أفتى بعض العلماء ملكا جامع في رمضان بصيام شر عين؛ فأنكر عليه؛ فقال: لو أمرته بالعتق لسهل عليه بذل ماله في شهوة فرجه؛ فو مناسب تترتب عليه مصلحة الزجر التي يقصدها الشارع، لكنه ضد الدليل الشرعي في تأخر الصيام عن العتق ولم يشهد له أصل آخر، وقوله: "فلا بد من رده"؛ أي: كمثاله هذا. "د".
قلت: نقل المصنف في "الاعتصام" "2/ 610" نحوه عن الغزالي، ولكنه جعل المسألة عن الوقاع في نهار رمضان، وليست عن الظهار، وقال: "فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام"، ثم قال:
"وهذه الفتيا باطلة؛ لأن العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق عن الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به"، ثم ذكر نقلا عن ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان، وعين أن الذي أفتاه يحيى بن يحيى الليثي! ثم قال: "فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفا للإجماع".(38/248)
قال أبو عبيدة: عندي نظر في صحة هذه القصة عن الإمام يحيى رحمه الله تعالى، وذكرها بإبهام إمام الحرمين في كتابه "الغياثي" "ص222-223"؛ فأحسن، وعلق عليها بعبارات قوية فيها نصرة للحق إن شاء الله تعالى؛ فأجاد؛ قال: "وأنا أقول: إن صح هذا من معتز إلى العلماء؛ فقد كذب على دين الله وافترى، وظلم نفسه واعتدى، وتبوأ مقعده من النار في هذه الفتوى، ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمد الأقصى، ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا، وقولا وازعا فاجعا؛ لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله، وأليم عقابه، وحاق عذابه، وأبان له أن الكفارات وإن أتت على ذخائر الدنيا، واستوعبت خزائن من غبر ومضى؛ لما قابلت همًّا بخطيئة في شهر الله المعظم وحماه المحرم، وذكر له أن الكفارات لم تثبت ممحصات للسيئات وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف.
ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله تعالى بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح؛ فإنه قد يشيع في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم؛ فلا يعتمدونهم، وإن صدقوهم؛ فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب على الله، وعلى رسوله، والسقوط عن مراتب الصادقين، والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين".(38/249)
ص -188-…ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة.
وهذا القسم على ضربين:
أحدهما:
أن تكون مخالفته للأصل قطعية؛ فلا بد من رده.
والآخر:
أن تكون ظنية؛ إما بأن يتطرق الظن1 من جهة الدليل الظني، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين، ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق، وهو مما لا يختلف فيه.
والظاهري وإن ظهر [من]2 أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه3، فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وإذا ثبت هذا؛ فالظاهري لا تناقض4 عنده في ورود نص مخالف لنص آخر أو لقاعدة أخرى، أما على اعتبار المصالح؛ فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر، علمناها أو جهلناها، وأما على عدم اعتبارها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأنه ليس مخالفا للقطعي، وهذا التقسيم واضح من أن الفرض عدم مخالفته لقطعي مخالفة قطعية؛ فالنفي منصب على القيد، أو عليه والمقيد جميعًا، وسيأتي له ما يصح أن يكون أمثلة له، وتطرق الظن إلى الظني يكون بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 سقط من "ط".
4 أي: فكل منهما صحيح، ولا تعارض. "د".(38/250)
ص -189-…فأوضح، فإن للشارع أن يأمر وينهى كيف يشاء؛ فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير.
فإذا تقرر هذا؛ فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفًا فيها، تر جع إلى الوفاق في هذا المعنى؛ فقالوا: خبر الواحد إذا كملت شروط صحته؛ هل يجب عرضه على الكتاب، أم لا؟ فقال الشافعي1: "لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه إلى وهو غير مخالف للكتاب". وعند عيسى بن أبان2 يجب، محتجا بحديث في هذا المعنى، وهو قوله: "إذا روي لكم حديث؛ فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه، وإلا؛ فردّوه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه العظيم: "الرسالة" "رقم 1108".
2 وكذا قال الرازي في "المحصول" "4/ 438"، وانظر في المسألة "البحر المحيط" للزركشي "4/ 351-352".
3 أخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1387"، والخطيب في "الكفاية" "430"، والهروي في "ذم الكلام" "ص155" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "سيأتيكم عني أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي؛ فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي؛ فليس مني".
قال الدراقطني: "صالح بن موسى ضعيف، ولا يحتج بحديثه"، وقال ابن عدي عقبه -وساق أحاديث أخر-: "وهذه الأحاديث عن عبد العزيز غير محفوظات، إنما يرويها عنه صالح بن موسى".
وأخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208-209"، والهروي في "ذم الكلام" "ص170" عن علي مرفوعًا بلفظ: "إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث؛ فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن؛ فخذوا به، وما لم يوافق القرآن؛ فلا تأخذوا به".
وقال الدراقطني: "هذا وهم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وأبو بكر بن عياش لما كبر ساء حفظه، وقد خولف؛ كما يفهم من كلام الدراقطني.(38/251)
وفي الباب أحاديث كثيرة كلها فيها مقال، انظر: "ذم الكلام" "ص170-171"، و"السلسلة الضعيفة" "رقم 1083-1090"، وما عند المصنف "4/ 329 وما بعدها".
قال "ف": "هذا العرض إنما يعتد به إذا كان من العلماء الراسخين، وهم الأئمة المجتهدون ومن على قدمهم من الفقهاء والمحدثين".(38/252)
ص -190-…فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق1، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى.
وللمسألة2 أصل في السلف الصالح؛ فقد ردت عائشة [رضي الله تعالى عنها] حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"3 بهذا الأصل نفسه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من حيث إنه لا يقبل إلا ما كان موافقًا، ويرد ما كان مخالفًا، والخلاف بينهما في الطريق لمعرفة ذلك. "د".
2 وهي أن مخالفة الظني لأصل قطعي تسقط اعتبار الظني. "د".
قلت: وتوسع المتأخرون؛ فخرجوا كثيرا من الأمثلة الآتية على "عرض أخبار الآحاد على القياس" مثل: "الدبوسيّ في "تأسيس النظر" "65-67"، وأبو زهرة في كتابه "مالك" "298-300"، ورد ذلك عبد العزيز البخاري؛ فقال في كتابه "كشف الأسرار" "2/ 697": "وقد حكي عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، ولا يدرى ثبوته منه"، وقال ابن تيمية في "صحة أصول مذهب أهل المدينة" "ص24": "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره؛ فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصحِّحوه".
وانظر: "شرح تنقيح الفصول" "387"، "وتوثيق السنة في القرن الثاني الهجري" "ص391-413" لرفعت فوزي عبد المطلب؛ ففيها رد على هذا القول.
3 مضى تخريجه من حديث عمر رضي الله عنه "2/ 385"، وهو في "الصحيحين" وغيرها.(38/253)
ويشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، 3/ 151-152/ رقم 1288"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 642/ رقم 929" ضمن حديث فيه قال: ابن عباس قال: "لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"، ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وانظر لزامًا: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للزركشي "ص67-68، 91-92، 107".(38/254)
ص -191-…لقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39].
وردَّتْ حديث1 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين، 6/ 313/ رقم 3234، 3235"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن مسروق؛ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن؛ فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية، قال وكنت متكئًا فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا(38/255)
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]. لفظ مسلم.
وانظر "الإجابة "84-89".(38/256)
ص -192-…الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وإن كان عند غيرها غير مردود؛ لاستناده1 إلى أصل آخر لا يناقض الآية، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع، ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة.
وردَّتْ هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء2؛ استنادًا إلى أصل مقطوع به، وهو رفع الحرج وما لا طاقة به3 عن الدين؛ فلذلك قالا: "فكيف يصنع بالمهراس"4؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن عارض أصلًا قطعيا؛ إلا أنه يشهد له أصل قطعي، على أنه قد ينازع في قطعية الدلالة في آية: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}؛ فلا يكون مما نحن فيه. "د".
2 ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن عثمان وعلي وغيرهما، جمعها أبو عبيد في كتابه "الطهور" "باب السنة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، ص325-330"، وقد خرجتها ولله الحمد في التعليق عليه، وقال أبو عبيد عقبها: "هذا عندنا هو سنة الوضوء، أنه لا يدخل المتوضئ يده الإناء حتى يغسلها، وإن كانت نظيفة إنما هذا الاتباع، فإن ترك ذلك تارك، ولم يكن على يده قذر؛ فإنه لا ينجس الماء غير أنه جفاء في الدين". وقال: "والذي نختار الأخذ بالآثار الأولى، فنرى غسل اليد على كل حال". وفي "ط": "إدخالهما الإناء".(38/257)
3 تقدم في المشقات تقييدها بأن تكون غير معتادة في مثل العمل المفروض، ومثل إمالة الإناء لا يظهر فيها ذلك؛ فإنها قد تكون أقل من البحث عن الماء للوضوء مثلا، واستخراجه من البئر العميقة بأدوات ومشقات؛ فقد يقال: إن هذا من القسم الثاني الذي لم يتحقق كونه قطعيًّا؛ لأن ذلك إنما يثبت بكون هذا من الخروج قطعا، وقد علمت ما فيه، وقولهما: فكيف يصنع بالمهراس؟ إذا كان هو ما يسع ماء كثيرا فليس إناء وضوء؛ فلا تظهر شبهة اقتضائه للحرج لأن الحديث في الإناء المعتاد للوضوء، وهو الذي يسع ماء قليلا يمكن أن يحصل له التغير من قليل ما يحل فيه، وقد قال الحافظ: لا وجود لردهما عليه في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قاله له رجل يقال له قين الأشجعي، راجع "شرح التحرير" في مسألة "معارضة القياس لخبر الواحد". "د".
4 المهراس: حجر مستطيل، ينقر ويدق فيه، ويتوضأ منه، وكتب "ف": "في النهاية" [5/ 259]: "هو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء" انتهى.
قلت: لم يذكر الزركشي في "الإجابة" رد عائشة رضي الله عنها واستدراكها على أبي هريرة =(38/258)
ص -193-….................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا الخبر، وقال في "المعتبر" "رقم 82": "لم أقف على مخالفتهما"، وتذكره كتب الأصول، انظر مثلا: "مختصر المنتهى" ص88" لابن الحاجب، قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 126، 127": "وأما مخالفة ابن عباس وعائشة لأبي هريرة في ذلك؛ فلا يحضرني الآن نقله"، ثم قال: "وإنما روى البيهقي ["1/ 47، 48"] من حديث الأعمش عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله بن مسعود قالوا: "فكيف يصنع أبو هريرة بالمهراس؟".
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه" "1/ 99"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 461": "تبع المصنف -أي: ابن الحاجب- في ذلك كلام الآمدي، ولا وجود لذلك في شيء من كتب الحديث"، قال الزركشي وابن حجر: "ذكر أبو إسماعيل الهروي في كتاب "ذم الكلام" "رقم 299 - المحققة" بعد أن ساق قصة قين مع أبي هريرة -وسيأتي بيان ذلك- ما نصه: "وروي أن ابن عباس قال لأبي هريرة: أرأيت إن كان حوضا؟ فقال: لا يضرب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال". زاد ابن حجر: "ولم يقع لي هذا الأثر موصولا إلى الآن".
قلت: ظفرت بحديث يُنمى إليها مرفوعًا بلفظ: "إذا استيقظ أحدكم من النوم فليغرف على يده ثلاث غرفات قبل أن يدخلها في وضوئه، فإنه لا يدري حيث باتت يده"، والصواب فيه: "عن أبي هريرة"، أفاده أبو زرعة كما في "العلل" "1/ 62/ رقم 162" لابن أبي حاتم، ونقله ابن حجر في "التخليص الحبير" "1/ 62" -وتبعه الشوكاني في "النيل"- عن أبي حاتم وليس عن أبي زرعة، ووهم، كما أفاده المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "1/ 111"، وقد فصلت الوهم الواقع في الحديث -وهو من قِبَلِ ابن أبي ذئب- في تعليقي على كتاب "الطهور" "ص326-327" لأبي عبيد، ولله الحمد.(38/259)
نعم، وقع نحو المذكور عند المصنف عن قين الأشجعي، أخرج أبو عبيد في "الطهور" "رقم 279" و"الغريب" "2/ 274"، وأحمد في "المسند" "2/ 348، 382"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 377-378/ رقم 5973"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 22"، والبيهقي "1/ 47"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 298" عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قام أحدكم من النوم؛ فليفرغ على يديه من وضوئه؛ فإنه لا يدري أين باتت يداه".
فقال قين الأشجعي: فإذا جاء مهراسكم هذا؛ فكيف نصنع؟ قال: أعوذ بالله من شركم.
إسناده حسن: من أجل محمد بن عمرو.(38/260)
ص -194-…وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم، وقالت: "إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية"1؛ لمعارضته الأصل القطعي، أن الأمر كله لله، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا، ولا طيرة ولا عدوى.
وقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام، فأخبر أن الوباء قد وقع بها، فاستشار المهاجرين والأنصار؛ فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح، فإنهم اتفقوا على رجوعه؛ فقال أبو عبيده: أَفِرارًا من قدر الله؟"؛ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي، قال عمر: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"2؛ فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضًا، وهو أن الأسباب من قدر الله، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة، وأن الجميع بقدر الله، ثم أخبر بحديث2 الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ردت عائشة خبر أبي هريرة في الشؤم، وليس خبر ابن عمر، كما قال المصنف، أخرج ذلك أحمد في "المسند" "6/ 150، 240، 246"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 822 - مسند عائشة"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 341"، و"شرح معاني الآثار" "4/ 314"، وابن جرير في "تهذيب الآثار" "رقم 37"، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" "1/ 146" بإسناد حسن عن أبي حسان -وهو الأعرج الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله- قال: جاء رجل إلى عائشة؛ فقال: إن أبا هريرة يقول: الطيرة في الفرس والدار والمرأة. فغضبت غضبًا شديدًا، حتى صارت منها شقة في السماء وشقة في الأرض، وقالت: ما قاله، إنما قال: "كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك".
وأخرج الطيالسي في "المسند" "رقم 1537"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 479"، وابن خزيمة -كما في "الفتح" "6/ 236"- عن مكحول: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول "وذكر نحوه".(38/261)
وإسناده منقطع، لم يسمع مكحول من عائشة، وانظر: "الإجابة" "ص103-106"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 777، 780، 789، 799، 993، 1897".
نعم، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم 5093"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، رقم 2225" عن ابن عمر مرفوعًا: "الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار"، ولكن لا يوجد لعائشة رضي الله عنها ذكر فيه.
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في =(38/262)
ص -195-…وفي الشريعة من هذا كثير جدا، وفي اعتبار السلف له نقل كثير.
ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار، ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا1: "جاء الحديث ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة، ونحوها، 4/ 1740-1741/ رقم 2219" عن عبد الله بن عباس؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعاهم؛ فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم؛ فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديًا له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه".(38/263)
قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف". لفظ البخاري.
وقال "د" في هذا الموطن ما نصه: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد؛ ففي نفيه إشارة إلى رد معتقد الجاهلية من استقلال الأسباب بالتأثير، وفي إثباته إشارة إلى أن الجذام من الأسباب التي أجرى الله العادة بإفضائها إلى المسببات".
1 ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، أوردها الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه القيم "الطهور" "رقم 201-204"، وخرجتها بتفصيل ولله الحمد في التعليق عليه، وكذا في مسألة رقم "38" من "الخلافيات"، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الماء الذي =(38/264)
ص -196-…أدري ما حقيقته؟"، وكان يضعفه ويقول: "يؤكل صيده؛ فكيف نكره لعابه؟"1.
وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس2؛ حيث قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يغسل به شعر الإنسان، 1/ 274/ رقم 172"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، 1/ 234/ رقم 279" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات".
قال أبو عبيد في كتابه "الطهور" "ص270 - بتحقيقي" بعد أن ساق الأحاديث: "وقد اختلف القول فيه على مالك في الكلاب؛ فحكى بعضهم عنه: إنه كان لا يجعل معنى هذا الحديث لكلاب الصيد والماشية، يقول: إنما هذه مثل الهرة التي يقتنيها الناس".
قال أبو عبيد: "وروي عنه قول آخر: إنه كان يعم به الكلاب كلها". قال: "وكذلك القول عندنا على العموم بجميعها؛ لأنا لا نخص إلا ما خصت السنة، ولم يأتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خصوصية شيء منها دون شيء؛ فهي عندنا على كل الكلاب".
وانظر تفصيل مذهب مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، و"الإشراف" "1/ 41-42" للقاضي عبد الوهاب، و"الاستذكار" "1/ 262"، و"المنتقى" "1/ 73" للباجي، و"المقدمات" "1/ 91" لابن رشد، و"بداية المجتهد" "1/ 21"، و"حاشية الدسوقي" "1/ 83"، و"تفسير القرطبي" "6916"، و"أحكام القرآن" "3/ 1422-1423" لابن العربي، و"الكافي" "1/ 161"، و"بذل الإحسان" الجويني "2/ 177-178"، و"الشرح الصغير" "1/ 43"، و"القوانين الفقهية" "45"، و"انتصار الفقير السالك" "ص286"، و"الذخيرة" 1/ 183 - ط دار الغرب"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 242".(38/265)
1 فكان يضعف الحديث لمعارضته للقطعي، وهو طهارة فمه، ومع ذلك؛ فما بال العدد، وما بال التراب، مع أنهما لا يراعيان في غسل النجس؟ هذا وقد ظهر الوجه، وهو اكتشاف المادة السمية في لعاب الكلب بسبب لعقه لدبره بلسانه كثيرا، وفي برازه الجرثومة المرضية "الميكروب" الذي متى انتقل من حيوان إلى آخر أضر به. "د". "استدارك 1".
2 يشير إلى حديث مضى لفظه "1/ 425"، وهو في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(38/266)
ص -197-…بعد ذكره: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه"1 إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا؛ فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطًا بالشرع؟2 فقد رجع إلى أصل إجماعي.
وأيضا؛ فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية، وهي تعارض هذا الحديث3 الظني.
فإن قيل: فقد4 أثبت مالك خيار المجلس في التمليك5 قيل: الطلاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموطأ" "2/ 671 - رواية يحيى". وانظر -لزاما-: "ترتيب المدارك" "1/ 72"، و"تنقيح الفصول" "2/ 214" مع حاشية الشيخ علي جعيط عليه، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف" "ص10" للدهلوي، و"أربع رسائل في علوم الحديث" ص"25-26" مع التعليق عليه، وترجمة "الفضل بن زياد البغدادي" في "تاريخ بغداد" "2/ 302"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 251".
2 ولو كان جائزا أصله؛ لكان جائزا شرطه، كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو رد. "د".
3 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر: اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع خيار" أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 425"، والكلام مستوفى في هذا المقام في "الاستذكار" "20/ 219-225"، و"التمهيد" "14/ 11 وما بعدها"، و"الذخيرة" "5/ 20-23 - ط دار الغرب" للقرافي، والتفريع" "2/ 171" لابن الجلاب، و"الإشراف" "1/ 249-250" للقاضي عبد الوهاب، و"انتصار الفقير السالك" "ص222-225" للراعي، و"إعلام الموقعين" "2/ 197-198 و4/ 22-23"، و"المعلم" للمازري "2/ 167-168"، و"أحكام القرآن" "2/ 175" للجصاص، و"القبس" "2/ 844-845"، و"فتح الباري "4/ 330"، و"بداية المجتهد" "2/ 169"، و"حاشية الدسوقي" "3/ 81"، و"البيوع والمعاملات المالية المعاصرة" "ص60" لمحمد يوسف موسى، ط دار الكتاب العربي -مصر، ط الثانية، سنة 1954م.
4 في "ط": "قد".
5 تمليك الزوج لزوجته عصمتها؛ فله الرجوع ما دام في المجلس. "د".(38/267)
ص -198-…يعلق على الغرر، ويثبت في المجهول1؛ فلا منافاة بينهما، بخلاف البيع.
ومن ذلك أن مالكًا أهمل اعتبار حديث: "من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه"2، وقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟"3 الحديث؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي4، نحو قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39]، كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر5.
وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم6 تعويلًا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة؛ فأجاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإنه يصح أن يطلقها على ما في قبضة يدها وهو مجهول، بخلاف البيع؛ فالجهل فيه ضار، وما قاله المصنف هو جواب ابن العربي في "القبس" "2/ 845"، وقال عقبه: "ولو لم يكن في هذا "القبس" إلا هذه المشكاة؛ لكفاه".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192/ رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147" عن عائشة رضي الله عنها.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" عن ابن عباس رضي الله عنهما.
4 الشامل للصيام وغيره من أنواع العبادات، وهو قطعي أيضا مبثوث في الشريعة. "د".
5 مضى تخريجه "ص190".(38/268)
6 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، 5/ 131/ رقم 2488، وكتاب الذبائح، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، 9/ 638/ رقم 5509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر، 3/ 1758/ رقم 1968" عن رافع بن خديج؛ قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصبنا غنما وإبلا، فعجل القوم، فأغلوا بها القدور، فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور". لفظ مسلم.(38/269)
ص -199-…أكل الطعام1 قبل القسم2 لمن احتاج إليه، قاله ابن العربي3.
ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث4 فيه؛ تعويلًا على أصل5 سد الذرائع6.
ولم يعتبر في الرضاع خمسًا ولا عشرًا؛ للأصل7 القرآني في قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطعام نوعان: إبل ذبحت أو غنم ذبحت من الغنيمة قبل قسمها، وهذه هي التي ورد فيها الأمر بإكفاء القدور، وأنه صلى الله عليه وسلم جعل يمرغ اللحم في التراب، وهذا هو محل الخلاف بين مالك وغيره؛ فأجازه مالك تعويلا على الأصول المرعية، ولم يعول على هذا الخبر لمخالفته تلك الأصول، أما الطعام الآخر؛ كالشحم والزيت، والعسل؛ فإنه مباح بالنص المؤيد بالقواعد، فقد وجد عبد الله بن المغفل جرابا من الشحم في غزوة خيبر، واختص به بمحضره صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عن ذلك. "د".
قلت: وفعل ابن المغفل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، 6/ 255/ رقم 3153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772".
2 أي: قسم الغنيمة بين الجيش. "ف".
3 في كتابه: "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 605-606".
4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ كان كصيام الدهر"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وانظر ما سيأتي "4/ 106" وتعليقنا عليه.
5 أي: وسد الذرائع أصل مقطوع به في بعض أنواعه، وتقدم أنه ثلاثة أنواع. "د".(38/270)
6 أي: الوسائل إلى المنهي عنه، وهو هنا ظن وجوبها، وقد شنع الشوكاني في هذا تشنيعا شنيعا على مالك وأبي حنيفة؛ حتى قال: "إن قولهما باطل، لا يصدر عن عاقل" ا. هـ. وما أجدره بأن يقال له هذا القول، كما يعلم ذلك من مراجعة "الزرقاني على الموطأ"، وكتاب "مجموع الأمير في فقه مالك". "د".
7 ليس هذا معارضا، إنما هو بيان للمجمل، أو تقييد للمطلق؛ فلعل له وجها غير =(38/271)
ص -200-…{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
وفي مذهبه من هذا كثير.
وهو أيضا رأي أبي حنيفة؛ فإنه قدم خبر1 القهقهة في الصلاة على القياس، إذ لا إجماع في المسألة.
ورد خبر2 القرعة؛ لأنه يخالف الأصول، لأن الأصول قطعية وخبر الواحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا. "د".
قلت: نعم، له وجه آخر، بينه القرافي في "الذخيرة" "4/ 274- ط دار الغرب"، قال في الرد على الشافعية المحتجين بقول عائشة: "كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات؛ فتوفي عليه السلام وهو فيما يقرأ من القرآن"، قال: "إن إحالته على القرآن الباقي بعده عليه السلام يقتضي عدم اعتباره؛ لأنه لو كان قرآنا لتلي الآن لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]"، ثم قال: "إذا ظهر ذلك بطل قول الشافعية: إن القرآن مطلق والسنة مقيدة؛ فيحمل المطلق على المقيد".
1 وهو أن أعمى تردى في بئر والنبي عليه السلام يصلي بأصحابه؛ فضحك بعضهم؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، قدم أبو حنيفة هذا الخبر على القياس، قياس القهقهة في الصلاة عليها خارج الصلاة، وهي لا تنقض الوضوء خارجها، وأيضا ليست حدثا؛ لأنه ما يخرج من أحد السبيلين، قال الأحناف: لأن القياس لا يصار إليه مع الدليل الخبري، وبعد؛ فهذا ليس من موضع المسألة، وهو رد الظني لمخالفته القطعي، بل من العمل بظني هو الخبر في مقابلة ظني هو القياس؛ لما أن رتبة القياس متأخرة عن الخبر. "د".
قلت: وحديث القهقهة ضعيف؛ فهو من مرسل أبي العالية، وقد خرجته ولله الحمد على وجه مستوعب في تعليقي على كتاب "الخلافيات" للإمام البيهقي "المجلد الثاني، مسألة رقم 22، حديث رقم 683 وما بعده".(38/272)
2 الذي تضمن أنه صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مماليك أعتقهم سيدهم عند موته ولا مال له سواهم، فخرجت القرعة لاثنين؛ فأجاز عتقهما وأبقى الأربعة أرقاء، ووردت القرعة في غير حديث، وقد جمعها وتكلم عليها بكلام علمي محرر الإمام ابن القيم في "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا وهناك تخريجها، وانظر مذهب الحنفية في "تبيين الحقائق" "5/ 271"، و"المبسوط" "15/ 7"، ومذهب المالكية في "الذخيرة" "11/ 170 وما بعدها - ط دار الغرب".(38/273)
ص -201-…ظني، والعتق حل في هؤلاء العبيد، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده؛ فلذلك رده. كذا قالوا1.
وقال ابن العربي2: "إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من قواعد الشرع؛ هل يجوز العمل به، أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في المسألة".
قال: "ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه".
ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب؛ قال3: "لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين"
أحدهما:
قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
الثاني:
أن علة الطهارة هي الحياة، وهي قائمة في الكلب.
وحديث العرايا4 إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المبسوط" "7/ 75-76"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 13"، وانظر للرد عليهم: "المغني" "12/ 275-277 - مع الشرح الكبير"، و"الفروق" "4/ 112".
2 في كتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 812-813".
3 أي: تعليلا لقول مالك السابق: "جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته؟". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، 5/ 50/ رقم 2381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، 3/ 1174/ رقم 1536" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وأن لا تباع إلا بالدينار =(38/274)
ص -202-…وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر1 لتلك العلة أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدرهم؛ إلا العرايا". لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم في آخره: "ورخص في العرايا".
والعرايا: جمع "عرية"، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم باقي البستان، يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها، انظر "تحرير ألفاظ التنبيه" "180" للنووي.
وذكر المصنف هذا الحديث كمثال تطبيقي على قوله: "إن عضدته قاعدة أخر عمل به".
وانظر في المسألة: "الكافي" "2/ 654" لابن عبد البر، و"التفريع" "2/ 150" لابن الجلاب.(38/275)
1 أخرج مالك في "الموطأ" "2/ 624"، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" 2/ 159" وفي "الرسالة" "ص331-332"، والطيالسي في "مسنده" "رقم 214"، وعبد الرزاق في "المصنف" "8/ 32"، وأحمد في "مسنده" "1/ 279"، وأبو دواد السجستاني في "سننه" "كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر/ رقم 3359"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب في النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم 1225"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، 7/ 269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر، رقم 2284"، والحميدي في "مسنده" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "6/ 182 و14/ 204" وفي "مسنده" "ورقة 64 أ"، وأبو يعلى في "مسنده" "2/ 68 و141"، والبزار في "مسنده" "ق208"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 6"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "ورقة 69ب"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 657"، والدارقطني في "سننه" "3/ 49"، والخطابي في "غريب الحديث" "2/ 225"، وابن جميع في "معجمه" "ص201"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 38 و43"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 211"، والبيهقي في "السنن" "5/ 294"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 78"، والضياء المقدسي في "المختارة" "قسم 2/ 218" من طريق عبد الله بن يزيد بن زيد أبي عياش؛ أن سعدا سئل عن البيضاء بالسلت؛ فكرهه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرطب بالتمر، فقال: "أينقص التمر إذا يبس؟". قالوا: نعم. قال: "فلا إذا". وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد في "المسائل" "ص275 - رواية ابنه عبد الله" من طريق ابن عيينة عن =(38/276)
ص -203-…قال ابن عبد البر1: "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول"، قال: "لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن؛ فما شذ من ذلك ردّه وسماه شاذا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد به.
قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث؛ إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصا في حديث أهل المدينة"، ثم قال: "والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش"، وقال الخطابي في "معالم السنن" "5/ 35": "قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص"، وقال: "زيد أبو عياش راويه ضعيف"، ثم قال: "وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في "الموطأ"، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم" ا. هـ.
وفي الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الكبير" "2/ 216"، وفي "الدر المنثور" "2/ 112"، وعزاه لمالك، وابن أبي شيبة، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، والشافعي، والبيهقي.
وقوله: "بالسلت" هو نوع من الشعير، رقيق القشر، صغار الحب، وقوله: "أينقص الرطب؟"، قال الخطابي في "معالم السنن": "هذا لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير والتنبيه بكنه الحكم وعلته لكي يكون معتبرا في نظائره، وإلا؛ لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه؛ فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام" ا. هـ.(38/277)
وقال البغوي في "شرح السنة" "8/ 79": "وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وجوزه أبو حنيفة وحده، وأما بيع الرطب بالرطب، وبيع العنب بالعنب؛ فلم يجوزه الشافعي وجوزه الآخرون".
1 في كتابه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" "ص149".(38/278)
ص -204-…وقد رد أهل العراق مقتضى حديث1 المُصَرَّاة وهو قول مالك؛ لما رآه2 مخالفا للأصول، فإنه قد خالف أصل3: "الخراج بالضمان"4، ولأن متلف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما ثبت عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر، 4/ 361/ رقم 2150"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، 3/ 1155/ رقم 1515، وباب حكم بيع المصراة، 3/ 1158-1159/ رقم 1524".
2 في الأصل و"ط": "لما رأياه"، ولا معنى لها.
3 فكان مقتضى هذا الأصل ألا يدفع شيئا ما؛ لأنه ضامن، والغلة بالضمان، والأصل الآخر أن متلف الشيء... إلخ، وهو يقتضي ألا يدفع في اللبن قل أو كثر صاعا، بل يدفع إما لبنا بمقداره، أو يدفع القيمة بالغة ما بلغت، ولا يتقيد بالصاع ولا بالتمر. "د".(38/279)
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا، 3/ 777-779/ رقم 3508-3510"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا، 3/ 581-582/ رقم 1285"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، 7/ 254-255"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، 2/ 754/ رقم 2242 و2243"، وأحمد في "المسند" "6/ 49، 161، 208، 237"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1464"، والشافعي في "المسند" "رقم 479"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1125، 1126 - موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 626، 627"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 21-22"، والدارقطني في "السنن" "3/ 53"، الحاكم في "المستدرك" "2/ 15"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 321"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 162-163"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1702"، والخطيب في "التاريخ" "8/ 297-298" عن عائشة، والحديث صحيح.
وكتب "د" هنا ما نصه:
وفسره الترمذي بأن يشتري الرجل العبد يستغله ثم يظهر به عيب فيرده؛ فالغلة للمشتري لأن العبد لو هلك هلك في ضمانه، ونحو هذا يكون فيه الخراج بالضمان. ا. هـ. يعني: وهو يقتضي أن =(38/280)
ص -205-…الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته، وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض؛ فلا1.
وقد قال مالك فيه: "إنه ليس بالموطأ ولا الثابت"2، وقال به في القول الآخر شهادة بأنه له أصلًا متفقًا عليه يصح رده إليه، بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر، وإذا ثبت هذا كله؛ ظهر وجه3 المسألة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اللبن للمشتري؛ فكيف يرد عنه الصاع من التمر؟ وقد أجيب عنه أولا بأن حديث المصراة أقوى من حديث الخراج بالضمان، وثانيا بأن اللبن المصرَّى كان حاصلًا قبل الشراء في ضرعها؛ فليس من الغلة التي إنما تحدث عند المشتري، فلا يستحقه المشتري بالضمان؛ فلا بد من قيمته، وإنما كانت صاعًا محددًا، ومن تمر لما يعلم من مراجعة شرحه "نيل الأوطار" "5/ 245" للشوكاني مبسوطا، ومن "إعلام الموقعين" "1/ 367" موجزا مضبوطا؛ فلذلك قال بأن له أصلا متفقا عليه لا يضاد هذه الأصول الأخر، والمعول عليه عند المالكية أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد، وقالوا إن التمر في الحديث لأنه كان غالب قوت المدينة، وسيأتي للمصنف كلام على شرح الحديث، انظر: "ص437".
1 ذكر الحنفية ثمانية أوجه في مخالفة الحديث أصول الشريعة، ذكرها العيني في "عمدة القاري" "11/ 270"، وصاحب "إعلاء السنن" "13/ 60"، وانظر في مناقشتها: "فتح الباري" "4/ 364-365"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "10/ 162"، و"شرح السنة" "8/ 125" للبغوي، و"إعلام الموقعين" "1/ 367 وما بعدها".(38/281)
2 قال ابن العربي في "القبس" "2/ 852-853": "ومن غرائب مذهبنا أن أشهب ذكر عنه في "العتبية" أنه "أي مالك" قال: إن ردها لم يرد معها شيئا لأن الخراج بالضمان"، ثم قال: "وهذا قول باطل"، وقال: وأشهب أجل قدرا من هذا فهما ودينا، وإنما هي من مسائل "العتبية" التي لم تثبت فيها رواية، وإنما هي منقولة من صحف ملفقة من البيوت، وفي مثلها قال مالك: لا يجوز بيع كتب الفقه، يعني: القراطيس والأوراق التي كانت تكتب عنه، فأما كتاب محصل مروي مضبوط بالفصول والأصول؛ فإنه يجوز بيعه إجماعا". وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 10 - ط دار الحديث".
3 في "ط": "ظاهر وجوه".(38/282)
ص -206-…وأما الرابع1، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلًا قطعيًّا؛ فهو في محل النظر، وبابه2 باب المناسب الغريب؛ فقد يقال: لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله، والاستقراء يدل على أنه غير موجود، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق؛ لأنه في محل الريبة؛ فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع؛ إذ3 كان عدم الموافقة مخالفة، وكل ما خالف أصلًا قطعيًّا مردود؛ فهذا مردود.
ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقًا لأصل؛ فلا مخالفة فيه أيضا، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة؛ فيتعارضان ويسلم أصل العمل بالظن، وقد وجد منه في الحديث قوله عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا كالمناسب المرسل الذي لم يدل الدليل على اعتباره ولا على إلغائه؛ فقد علل به مالك ومن تبعه، ورده الأكثرون. "ف".(38/283)
2 أي أن شبيه به، وهو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه، لكن لم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وإلا؛ لكان ملائما، وإنما ثبت بالقياس، ومثاله أن يقال في البات في مرض الموت لئلا ترث زوجته: يعارض بنقيض قصده؛ فترث قياسًا على القاتل ليرث؛ فحكم بعدم إرثه، والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد؛ فهو مناسب غريب في ترتيب الحكم عليه مصلحة، وهو زجرهما عن الفعل الحرام، لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار على الوجه المتقدم، بل إنما ثبت بالقياس المشار إليه، وبهذا البيان تفهم أن معنى قوله: "وقد وجد منه في الحديث... إلخ"؛ أي: وجد من القسم الرابع حديث: "القاتل لا يرث"؛ فإنه ظني، لم يشهد له ولم يرده أصل قطعي، وليس الغرض أن الحديث من باب المناسب الغريب، يعني: وحيث كان ما هنا شبيها به في وجهي الإعمال والإهمال وأدلة كل، وقد اعتبر العلماء المشبه به في باب القياس؛ فليكن شبهه هنا معتبرا في الأدلة. "د".
3 في "ط": "إذا".(38/284)
ص -207-…والسلام: "القاتل لا يرث"1، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس، وإن كان قليلا في بابه، فذلك غير ضائر إذا دلّ الدليل على صحته.
فصل:
واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة2 الدليل القطعي على صحة العمل به؛ كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أبو بالقياس واجب مثلا، بل المراد ما هو أخص3 من ذلك؛ كما تقدم في حديث: "لا ضرر ولا ضرار"4 والمسائل المذكورة معه، وهو5 معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.
2 في "ط": إقامة".
3 لأن الغرض هنا أن يتفق في معناه مع مقطوع به، وهذا أخص مما عناه الأصوليون؛ لأنه قد يكون معنى الخبر غير متفق مع مقطوع بخصوص معناه، ولكنه من حيث العمل به يعد مقطوعًا به لدخوله تحت قاعدة مقطوع بها، وهي العمل بخبر الواحد؛ فخبر القاتل لا يرث يقال: إنه راجع إلى قطعي بالمعنى الذي عناه الأصوليون لا بالمعنى المراد هنا؛ لأنه لم يتفق في معناه مع مقطوع به يؤيده؛ فلذا كان ما هنا أخص. "د".
4 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو حديث صحيح بشواهده.
5 في "ف": "وهي".(38/285)
ص -208-…المسألة الثالثة:
الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول1، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها2:
أنها لو نافتها؛ لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء؛ فدل [على]3 أنها جارية على قضايا العقول، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين؛ حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها؛ لم تتلقها فضلا [عن]4 أن تعمل بمقتضاها، وهذا معنى كونها خارجة5 عن حكم الأدلة، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
والثاني6:
أنها لو نافتها؛ لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أحكام العقول السليمة الراجحة دون السقيمة المدخولة؛ فإنه لا عبرة بها. "ف".
قلت: انظر بسط ما عند المصنف وأدلة أخرى في هذا المعنى: "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية، و"الصواعق المرسلة" "3/ 796 وما بعدها"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 52"، و"العبادي على شرح الورقات" "48"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 124"، و"الإحكام" "1/ 9"، و"العضد على ابن الحاجب" "1/ 36"، و"المسودة" "573"، و"إرشاد الفحول". "5".
2 هكذا في الأصل و"م" و"ف"، وفي "د": "أحدهما".
3 و4 الزيادتان من "م" و"ط" فقط.
5 أي: الذي هو التالي في الشرطية، وهو قوله: "لم تكن أدلة". "د".
6 هذا ظاهر في أدلة الأحكام الإلهية والاعتقادات، أما الأحكام العملية؛ فليس المطلوب بها التصديق، بل مجرد العمل، وبقية الوجوه يمكن أن تكون كالأول يستوي فيها أدلة الاعتقادات والعمليات. "د".(38/286)
ص -209-…خلافه ويصدقه، فإذا كان كذلك؛ امتنع على العقل التصديق ضرورة، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.
والثالث:
أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام؛ حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسًا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق1 العقل بالأدلة في لزوم التكليف، فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه؛ لكان لزوم التكليف على العاقل أشد2 من لزومه على المعتوه والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطًا عن هؤلاء؛ لزم أن يكون ساقطًا عن العقلاء أيضا، وذلك مناف لوضع الشريعة؛ فكان ما يؤدي إليه باطلًا.
والرابع:
أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به3 لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا يفترون عليه وعليها؛ فتارة يقولون: ساحر، وتارة: مجنون، وتارة يكذبونه، كما كانوا يقولون في القرآن: سحر، وشعر، وافتراء، وإنما يعلمه بشر، وأساطير الأولين، بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يعقل، أو هو مخالف للعقول، أو ما أشبه ذلك، فلما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اعتبار تمكن العقل من التصديق بالأدلة؛ أي: ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأدلة في ذاتها صالحة لأن يصدق العقل بها بألا تتنافى مع قضاياه، هذا، أما التصديق بالفعل؛ فظاهر أنه لا يعتبر. "د".
2 لأن العاقل عنده نفس العقل يضاد التكليف ويمنعه؛ لأنه يصادمه ويعقل خلافه، بخلاف المجنون مثلا؛ فليس عنده تعقل له ولا لخلافه؛ فالذي عنده أنه غير مستعد للتكليف، أما العاقل؛ فمستعد لخلافه، وفرق بين من فقد آلة الشيء ومن تسلح بآلة ضده؛ فبعد الثاني عنه آكد وأقوى. "د".
3 في "ط": "الكفار أولى... بهم".(38/287)
ص -210-…لم يكن من ذلك شيء؛ دلَّ على أنهم عقلوا ما فيه، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول؛ إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدعى؛ فكان قاطعا في نفيه عنه.
والخامس:
أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول، [بحيث تصدقها العقول]1 الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة2، ولا كلام في عناد معاند، ولا في تجاهل متعام، وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها، ولا محسنة فيها ولا مقبحة، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد3 في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
فإن قيل: هذه دعوى عريضة، يصد عن القول بها غير ما وجه:
أحدها:
أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا؛ كفواتح السور، فإن الناس قالوا: إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، [وفيه ما لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة]4، وفيه ما لا يعلمه إلا الله5؛ فأين جريان هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: راغبة في ذلك بدون سبق عناد، أو مع سبقه، والكره غير الإكراه الذي لا يتأتى معه التصديق والانقياد العقلي، وقوله: "تصدقها" ظاهر في الاعتقاديات، وقوله: "وتنقاد لها" ظاهر في العمليات على رأي أهل السنة، أما على مذهب المعتزلة؛ فيجريان فيها معا بوضوح، وتكون العقول مصدقة لحسن مقتضى هذه الأدلة، بحيث تكون الأدلة ملائمة لما يدركه العقل من الحسن، وعلى رأي أهل السنة يمكن أن يكون انقياد العقول جاريا في أدلة العمليات أيضا على معنى أنها تدرك بوجه عام أن الشريعة على وجه مطرد لم تجئ إلا لمصلحة العباد الدنيوية أو الأخروية، سواء أدركت خصوص المصلحة في الحكم الخاص أو لم تدركها؛ فهذا معنى انقيادها، وقوله: "لا أن... إلخ"؛ أي: على خلاف للمعتزلة في ذلك. "د".
3 انظر: تعليقنا على "1/ 127-130".(38/288)
4 ما بين المقعوفتين سقط من الأصل.
5 ومنه فواتح السور، وهذا القسم غير قسم المتشابهات؛ لأن المتشابهات تدرك بوجه إلا أنها تشتبه، أما هذا فلا يدرك معناه أصلا؛ فظهر وجه كون الثاني وجهًا مغايرًا للأول، وقوله: "كالمتشابهات... إلخ" على ترتيب اللف، وقوله: "فلا تفهمها أصلا" راجع للأصولية على رأي، وقوله: "أو لا يفهمها... إلخ" راجع للفروعية على الرأي المتقدم أو للمتشابهات مطلقا على الرأي الآخر. "د". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "ما لا يعرفه..."!!(38/289)
ص -211-…القسم على مقتضى العقول؟
والثاني:
أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، أو لا1 يعلمها إلى الله تعالى؛ كالمتشابهات الفروعية، وكالمتشابهات الأصولية، ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول؛ فلا تفهمها أصلًا، أو لا1 يفهمها إلا القليل، والمعظم مصدودون عن فهمها؛ فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول؟
والثالث:
أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا، وتحزبوا أحزابا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار2 عقله ودينه؛ فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة؛ كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث؛ قول الله تعالى: {فَعَلْنَا}، و{قَضَيْنَا}، و{خَلَقْنَا}3، ثم [من]4 بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام، الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به5 العقل كما هو الواقع، فلو كانت الأدلة جارية على تعلقات6 العقول؛ لما وقع في الاعتياد هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "ولا".
2 في "ط": "قدر".
3 انظر: "الاعتصام" "2/ 739 - ط دار ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 276"، وسيأتي تفصيل ذلك مع تخريجه "ص316".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
5 أي: يضعف عن فهمه. "د". وفي "ط": "يزل فيه".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعقلات".(38/290)
ص -212-…الاختلاف، فلما وقع؛ فهم أنه من جهة ماله خروج عن المعقول ولو بوجه ما.
فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال1 بناء على أنه مما يعلمه العلماء، وإن قلنا: إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة؛ فليس مما يتعلق به تكليف على حال، فإذا خرج عن ذلك؛ خرج عن كونه دليلًا على شيء من الأعمال، فليس مما نحن فيه، وإن سلم؛ فالقسم الذي2 لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا؛ لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه، وليس كلامنها فيه، إنما الكلام على ما يؤدي مفهومًا لكن على خلاف المعقول، وفواتح السور خارجة عن ذلك؛ لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها؛ لم تكن إلا على مقتضى العقول، وهو المطلوب.
وعن الثاني3 أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك؛ فبناء على اتباع هواه، كما نصت عليه الآية قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي مما يعقل معناه، وقوله: "ليس مما يتعلق به تكليف على حال"؛ أي: لا بأمر عملي ولا بأمر اعتقادي، وقوله: "على شيء من الأعمال"؛ أي: القلبية أو البدنية، وقوله: "وإن سلم"؛ أي: إن سلم كونها من الأدلة، فمع كونها نادرة لا تنافي هذا الأصل لأنها ليست مؤدية لمعنى يفهم العقل أنه على خلاف قضاياه؛ فقوله: "ولا تنخرم... إلخ" هو روح الجواب بالتسليم. "د".
2 هكذا في "د" و"ف" و"ط"، وهي ليست في الأصل، وفي "م": "الثاني الذي".(38/291)
3 أدمج فيه الجواب عن الثالث؛ لأن مبنى الاعتراضيين متقارب، فإن اختلاف الإخبار بالمعاني المتعددة واختلاف العقول فيها إنما جاء من تشابهها على العقول حتى تفرقت فيها؛ فلذلك قال: "وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة... إلخ"، وهو تمهيد للجواب عن الثالث، وإن لم يعنون له بعنوان خاص؛ إلا أن الاشتباه الذي يكون بين الإخبار بالمعاني المتعددة كما سيذكر أمثلته لا يتناوله الفرض الثاني في كلامه؛ فلا يدخل فيما لا يعلمه إلا الله؛ فقوله: "وهذا كما لا يأتي... إلخ" ليس المراد به كل ما تقدم، بل ما يصلح لذلك، وهو خصوص أن التأويل فيها يرجع بها إلى معقول موافق بخلاف قوله: "وإن فرض أنها... إلخ". "د".(38/292)
ص -213-…مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] لا أنه بناء على أمر صحيح، فإنه إن كان كذلك؛ فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر1 خارجي لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة؛ فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف، وكذلك الأعجمي الطبع2 الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه؛ فتاهوا، فإن القرآن والسنة لما كان عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما؛ إذًا لا يصح له نظر حتى يكون عالمًا بهما، فإنه إذا كان كذلك؛ لم يختلف عليه شيء3 من الشريعة.
ولذلك مثال يتبين به المقصود، وهو أن نافع بن الأزرق4 سأل ابن عباس؛ فقال له:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لمعنى".
2 قيد به لأن نصارى نجران كانوا عربا لا عجما، ولكن غلبت عليهم تعابير الأعاجم المجاورين لهم حتى لم يفهموا أن لفظ "نا" كما يكون للجماعة يكون للواحد المعظم نفسه. "د".
3 أي؛ فالاختلاف منشؤه أحد أمرين: ضعف في اللغة العربية واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة، أو هما معا. "د".(38/293)
4 "مسائل نافع بن الأزرق" لابن عباس، أوردها السيوطي في كتابه "الإتقان" "1/ 120-133"، قال في أولها بعد أن ساق الإسناد من طريق الطستي إلى عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه؛ قال: بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن؛ فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه؛ فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله؛ فتفسرها لنا، وتأتينا =(38/294)
ص -214-…"إني أجد في القرآن أشياء تختلف1 علي. قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بمصادفة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما..." وذكرها.
قال السيوطي بعد ذلك "1/ 133": "هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، وقد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، وهي أسئلة مشهورة، أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس"، ثم بين أن هذه المسائل قد أودعها بعضهم قديما في مصنفاتهم؛ فقال: "وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء" ["1/ 76-98"] منها قطعة، قال: حدثنا بشر بن أنس أنبأ محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أنبأنا أبو صالح هدبة بن مجاهد أبنأنا مجاهد بن شجاع أنبأنا محمد بن زيد اليشكري عن ميمون بن مهران؛ قال: دخل نافع بن الأزرق المسجد..."؛ فذكره.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير" ["10/ 304-312/ رقم 10597"] منها قطعة، من طريق جويبر عن الضحاك عن مزاحم؛ قال: "خرج نافع بن الأزرق... فذكره".
قلت: وانظرها في "مجموع الزوائد" "6/ 303-310 و9/ 278-284"، وقد أفردها محمد فؤاد عبد الباقي ورتبها على حروف المعجم، وألحقها بآخر كتابه "معجم غريب القرآن" "ص238-292"، وقام بدراستها اعتمادا على النص الوارد في "الإتقان" كل من أبي تراب الظاهري في "شواهد القرآن" وعائشة عبد الرحمن في "الإعجاز البياني للقرآن" "القسم الثاني"، ومن هذه المسائل نسخة عتيقة مصورة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، تحت رقم "3849" تحتوي على روايتين لها، وتختلف عما أورده السيوطي في "الإتقان".
والمذكور من الأسئلة أخرجه البخاري في "صحيحه" "8/ 555-556 - مع الفتح" معلقا، ثم وصله بقوله: "حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا".(38/295)
وانظر: "فتح الباري" "8/ 559"، و"الاعتصام" "2/ 825 وما بعدها - ط دار ابن عفان".
1 هذا المثال ظاهر فيه أن الاختلاف جاء من السبب الثاني، وهو عدم معرفة مقاصد القرآن؛ فاختلفت عليه الآيات، ويبقى الكلام في أن نافعا؛ هل كان من الطاعنين، أم طلب أن يزيل شبها طرأت عليه بسبب عدم فهمه المقاصد؟ فيدخل سؤاله في قسم ما أشكل على الطالبين، وظاهر قوله: "وهكذا سائر ما ذكره الطاعنون... إلخ" أنه من القسم الأول؛ فلينظر: هل كان نافع من الخوارج؟ ولين ابن عباس معه لا يدل على الواقع من ذلك، ثم رأيت المؤلف في "الاعتصام" ["2/ 727 - ط دار ابن عفان"] يحكي عن الخوارج إلى أن قال: "ثم رجع عبادة بن قرط من القتال يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة وهم صنف من الخوارج"، هذا وقد عبر البخاري عن السائل برجل؛ فاتفق الشراح على أنه نافع بن الأزرق، وفي "شرح القسطلاني" لأحاديث السجدة أنه صار بعد أسئلته لابن عباس رئيس الأزارقة من الخوارج"؛ فاجتمع الكلام أوله وآخره. "د".(38/296)
ص -215-…{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42].
{رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؛ فقد كتموا في هذه الآية.
وقال: {بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا...} إلى قوله {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 28-30]؛ فذكر خلق السماء قبل [خلق] الأرض.
ثم قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ...} إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية [فصلت: 9-11]؛ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء.
وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، {عَزِيزًا حَكِيمًا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا}؛ فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى ينفخ1 في الصور؛ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]؛ فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]؛ فإن الله يغفر لأهل الأخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تعالوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".(38/297)
ص -216-…نقول: "ما كنا مشركين"؛ فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42].
وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض؛ أي: أخرج الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين؛ فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك، وذلك قوله؛ أني1 لم أزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله".
هذا تمام ما قال في الجواب.
وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته، وأتى من بابه، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما وقف فيه الراسخون، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كافٍ والحمد لله، وقد ألف الناس2 في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا، فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل؛ طلبه في مظانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" وفي غيره: "أي".
2 من المؤلفات في ذلك "مشكل الآثار"، و"شرح معاني الآثار"، كلاهما للطحاوي، وهما في الأحاديث والآثار، ودفع إيهام الاضطراب، للشنقيطي، وهو في الآيات التي في ظاهرها اضطراب، وهو مطبوع آخر" أضواء البيان"، ومفردًا وهو من نفائس الكتب.(38/298)
ص -217-…المسألة الرابعة1:
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها، وهذا لا نزاع فيه؛ إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة ترتبط بمسألة: "يستحيل كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا من جهة واحدة"، وبمسألة: "إذا أمر بفعل مطلق؛ فالمطلوب... إلخ" المذكورتين في الأصول، راجع ابن الحاجب وما كتب عليه، يريد المؤلف أن يبسط المقام ويبين سبب اختلافهم في مثل صحة الصلاة في الدار المغصوبة؛ فمهد أولا ببيان الاعتبارين: العقلي والخارجي، ثم ردد الكلام في أن متعلق التكليف الجهة العقلية أو الخارجية، ولا يعني أن المطلوب تحصيله هو نفس الأمر العقلي لأن هذا وإن قيل به، فله معنى آخر غير ما يتبادر منه، وإلا؛ لكان تكليفًا بالمحال، بل غرضه ما صرح به بعد بقوله: "إذا أوقعنا الفعل في الخارج عرضناه على المعقول الذهني؛ فإن صدق عليه صح، وإلا فلا".(38/299)
وقوله أيضا في أثناء الأدلة، وهو: "دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة"، ولما تم له التمهيد ببيان الاعتبارين؛ قال: "إن هذا هو منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة"، يعني فيمن قال: إن قصد الشارع بالأمر مثلا منصرف إلى المعقول الذهني، يبني عليه أنه إذا فعل المأمور به مستوفيًا لشرائطه وأركانه التي اعتبرت له في الذهن؛ كان صحيحًا بقطع النظر عما يلابسه من الصفات الخارجية، وسواء أكانت الصفات الخارجيه الزائدة عن المقعول من الحقيقة الشرعية فيها مفسدة تقتضي النهي أم ليس فيها؛ صح المأمور به لأن قصد الشارع قد حصل بهذا المقدار، وكفى، وذلك لأن هذا المقدار الذهني الذي قصد إليه الشارع واحد بالشخص لا تعدد فيه، وذو جهة واحدة لا تعدد فيها؛ لأن التعدد إنما يجيء من اعتبار الكيفيات والأحوال الخارجية، والشارع إنما ينظر إليه من جهة حقيقته العقلية الشرعية، وهي شيء واحد، وحينئذ يستحيل -بناء على القاعدة الأصولية- أن يتعلق بها وجوب وحرمة معًا؛ فمثلا الصلاة في المكان المغصوب صحيحة متى استوفت ما راعاه الشارع في حقيقتها من أركان وشروط ولا نظر إلا ما تعلق بها في الخارج من وصف هو مفسدة تقتضي النهي؛ لأنه إنما جاء من الكيفيات والأحوال الخارجية الزائدة عن الحقيقة الشرعية؛ فلا يعتبر جزءًا من المأمور به حتى يكون العمل تكوّن من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فيقتضي فساد المجموع هذا، وأما إذا قلنا: إن منصرف الأدلة إلى الأفراد الخارجية لهذا المعقول الذهني، ومعروف أنها لا تتحقق إلا بهيئات وكيفيات تكون داخلة في حقيقة تلك الأفراد، =(38/300)
ص -218-…اعتبار من جهة معقوليتها.
واعتبار من جهة وقوعها في الخارج.
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها؛ كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمة، وهذا هو الاعتبار العقلي، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج1، لازمة أو غير لازمة، وهو الاعتبار الخارجي؛ فالصلاة المأمور بها مثلًا يتصور فيها هذان الاعتباران، وكذلك الطهارة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات وغيرها، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها، وكذلك سائر الأفعال.
فإذا صح الاعتباران عقلا؛ فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو، ألجهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو لازمة لوجودها؛ كما يقولون في جزئي أي نوع، كما في زيد مثلا: كل مشخصاته الزائدة عن حقيقته النوعية معتبرة جزءًا منه أو كجزء -إذا قلنا ذلك- لزم أن كل ما اقترن به المأمور به في الخارج من كيفيات وأحوال، معتبرة فيه جزءًا له أو كجزء؛ ففي مثل الصلاة في مكان مغصوب يعتبر الشرع الانتفاع بالمغصوب كجزء من الصلاة، فتكون قد تكونت من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فتكون فاسدة، وهكذا كل مأمور به اقترن به في الخارج ما فيه مفسدة يكون فاسدًا، على ما سيفصله المؤلف في الفصل التالي من الكلام في الأوصاف السلبية والوجودية. وبهذا البيان تتضح المسألة، ويظهر انسجام أدلتها على كل من هذين النظرين، وتظهر غزارة مادة المؤلف وعلو كعبه في هذا الفن رحمه الله، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة في الأوامر والنواهي ما يساعدك على فهم ما قررنا به كلامه هنا، وقد ذكر الآمدي في هذه المسألة في الأوامر، وصحح أن الأمر بالمطلق أمر بالمقيد؛ فراجعه إن شئت. "د".(38/301)
قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-306".
1 في الأصل: "الخارجة".(38/302)
ص -219-…المعقولية أم لجهة الحصول [في]1 الخارج؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف2، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، وأدلة المذاهب3 منصوص عليها مبينة في علم الأصول، ولكن نذكر من ذلك طرفًا يتحرى منه مقصد4 الشارع في أحد الاعتبارين.
فمما يدل على الأول أمور5:
أحدها:
أن المأمور به أو المنهي عنه أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء، وهذا أمر ذهني في الاعتبار؛ لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك في المعقول الذهني، فإن صدق عليه صح، وإلا؛ فلا.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها؛ حتى تكون له أفعالًا خارجية لا أمورًا ذهنية، بل الأمور الذهنية هي مفهومات6 الخطاب، ومقصود7 الخطاب ليس نفس التعقل، بل الانقياد، وذلك الأفعال الخارجية؛ سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية، وعند ذلك؛ فلا بد أن تقع موصوفة، فيكون الحكم عليها كذلك8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 لا نزاع في أن الأوامر والنواهي متعلقة بالمطلق ظاهرا وهو الماهية بلا قيد، وأما المطلوب تحصيله؛ فهو الماهية من حيث اتحادها بالفرد الخارجي أو وجودها فيه على خلاف في ذلك، ولا قائل بأن المطلوب هو الماهية المجردة فيما أظن، وإنما ذلك مقول في معنى المطلق الذي تتعلق به الأوامر والنواهي ظاهرا، وبذلك تعلم ما في الأدلة المسوقة عليه. "ق".
3 في "ط": "المذهب".
4 في "ط": "مقاصد".
5 ذكر له ثلاثة أدلة، عبر عنها بالأول والثاني والثالث، وذكر في مقابل كل منها معارضته من طرف المذهب الآخر بقوله: "ولصاحب الثاني". "د".
6 في "ط": "مفهومة".
7 في "ط": "ومفهوم".(38/303)
8 أي: ملاحظا فيها وقوعها في الخارج، لا مجرد المقدار الذي يطابق ما في الذهن، وإذا كان الحكم عليها إنما يكون باعتبار الوقوع في الخارج؛ فلا بد فيه من مراعاة الأوصاف من الكيفيات الأحوال التي تكون عليها في الخارج، فإن اقترن بها موجب للفساد أفسدها، والدليل لكل منهما -كما ترى- كأنه مجرد دعوى كلام في مقابلة كلام. "د".(38/304)
ص -220-…والثاني:
أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال؛ لزمت1 شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام؛ لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام، ويلقى فيه جميع ما تقدم، وقد مر بطلانه.
ولصاحب الثاني أن يقول: لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردًا عن الأوصاف الخارجية؛ لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق، وذلك باطل باتفاق؛ فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة، وهو من هذا النمط2 وكذلك3 كل فعل سائغ في نفسه وفيه تعاون4 على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان، إلى ما أشبه ذلك، ولم يصح5 النهي عن صيام يوم العيد، ولا عن الصلاة عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لو اعتبرنا الخارج في المباح، ومعلوم أنه يلزمه أن يكون فيه ترك حرام؛ لزم أن يكون كل مباح واجبًا كما يقول الكعبي، يعني: وأنتم متفقون معنا على وجود المباح المستوي الطرفين ضمن الأحكام الشرعية. "د".
2 أي: لوحظت فيه الأوصاف الخارجية قطعا، وإلا؛ لما صح منعه. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "كذلك"، وكتب "ف": "لعله "وكذلك"؛ أي أنه منظور فيه للأوصاف الخارجية.
4 كالأكل يقصد به التقوي على الطاعة أو التقوي على الإثم؛ فالأصل مباح، وبالقصد المذكور تحصل الطاعة أو المعصية، وهذا نوع آخر غير سد الذرائع التي هي أمر سائغ يتحيل به إلى ممنوع؛ كبيوع الآجال كما سبق، وقد ذكر ثلاثة أنواع مما اعتبر الشارع فيه الأوصاف الخارجية وبنى حكمه عليها هذان النوعان، وصحة النهي عن صوم يوم العيد والصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، والأنواع الثلاثة يستدل بها على بطلان اعتبار المعقول الذهني مجردًا؛ فقوله: "ولم يصح النهي" داخل تحت مضمون قوله: "لزم ألا تعتبر الأوصاف" وليس مقابلا له، وإنما هو نوع مغاير لسد الذرائع والتعاون الذي اعتبر فيهما كما اعتبر فيه الأوصاف الخارجية. "د".
5 عطف على قوله: "لزم أن لا تعتبر". "ف".(38/305)
ص -221-…طلوع الشمس أو عند غروبها، وهذا الباب واسع جدا.
والثالث:
أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط؛ لم يصح للمكلف1 عمل إلا في النادر؛ إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا2 بعضها ببعض، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة؛ لأنه ترك بها واجبا، وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر سيئا؛ فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما3 في الخارج، وهو على خلاف قول الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما كالوصف للثاني4؛ لم يكن العمل الصالح صالحا5، فلم يكن ثم خلط عملين، بل صارا6 عملا واحدا؛ إما صالحًا، وإما سيئًا7، ونص الآية يبطل هذا، وكذلك جريان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "المكلف".
2 كما تقدم في المسألة السابعة من النوع الثالث من مقاصد الشارع، حيث يقول: "إن الحقوق متزاحمة، وإن بعضها يضاد بعضا؛ كالحج والجهاد مثلا في وقت واحد، وبعضها يؤدي إلى نقض في غيره... "إلخ ما ذكر هناك. "د".
3 أي: بحيث يكون وجدوه الخارجي مما يلزمه العمل السيء؛ فيكون من الموضوع المتكلم فيه؛ أي: فإذا اعتبر العمل السيء وصفا للعمل الصالح لأنه مقترن بوجوده الخارجي؛ فلا يكون هناك عملان، بل عمل واحد، والآية تسميهما عملين، وتبقي وصف كل منهما بالصلاح ومقابله. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "للوصف الثاني"، وكتب "د": "لعل الأصل: "كالوصف الثاني"، يعني كما هو مقتضى القول الثاني، ويؤيد هذا التصحيح قوله الآتي في جواب الإشكال عن الآية: "كالوصف للآخر".
5 لو زاد هنا جملة "أو السيء سيئا"؛ لناسب قوله بعد: "إما صالحا، وإما سيئا". "د".
6 في "د": "صار"، المثبت من الأصل و"م" و"ف".
7 نوسع في البيان، وإلا؛ فسابقه يقتضي أنه سيء فقط. "ف".(38/306)
ص -222-…العوائد1 في المكلفين؛ فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن الأمور الذهنية مجردة من2 الأمور الخارجية تعقل3، وما لا تعقل3 لا يكلف به، أما أن ما لا يعقل3 لا يكلف به؛ فواضح، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل3 مجردة؛ فهو ظاهر أيضا، في4 المحسوسات؛ فكالإنسان مثلا، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج؛ لأنها كلية حتى تتخصص، ولا تتخصص5 حتى تتشخص، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر؛ فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف؛ كالضحك، وانتصاب القامة، وعرض الأظفار، ونحوها وخواص شخصية وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر، ولولا ذلك؛ لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة.
فقد صارت إذًا الأمور الخارجية العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج، وأما في الشرعيات؛ فكالصلاة مثلا؛ فإن حقيقتها المركبة من القيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما يجري في الأمور العبادية يجري في العاديات كما سيقول بعد في الذبح بالسكين والبيوع الفاسدة. "د".
وكتب "ف": "المراد بـ"العوائد" هنا العادات، جمع "عادة"، وهي الديون يعاد إليها".
2 في الأصل "عن"، والمثبت من "ف" و"د" و"م" و"ط".
3 في "د" و"م" في جميع المواطن: "تفعل" أو "يفعل"، وفي "ف": "لا يفعل"، وفي هامشها: "في الأصل: لا يعقل، وهكذا ما بعده".
قلت: وهكذا في الأصل و"ط" و"ماء"، ثم قال "ف": "وهو غير ظاهر؛ فتنبه"، وكتب "ف" ما نصه: "وهذا يشبه أن يكون مغالطة؛ لأنه أخذ ظاهر الدعوى من أن الحقيقة الذهنية هي المكلف بها، واعترض بما قال، ولكنه لو نظر غلى غرضه الذي قاله وسيقوله؛ لم يتوجه هذا، وسيتضح ذلك بعد". قلت: الكلام مستقيم على النحو الذي ضبطناه، ولله الحمد.
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "أما في".
5 في "ط": "حتى تختص، ولا تختص".(38/307)
ص -223-…والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلى على كيفيات وأحوال وهيئات شتى، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة أو1 البطلان، وهي متشخصات، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك، إذ هي في الذهن كالمعدوم، وإذا كان كذلك؛ فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج2، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها؛ فهو إذا مخاطب بما يصح له ان يحصله في الخارج، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية؛ فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها، وهو المطلوب، فإن حصلت بزيادة وصف أو نقصانه؛ فلم تحصل إذا على حقيقتها، بل على حقيقة أخرى، والتي خوطب بها لم تحصل بعد.
فإن قيل: فيشكل معنى الآية إذا، وهو قوله: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان3 وتصح مع ذلك، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة، وهو الاعتبار الذهني.
قيل: أما الآية؛ فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين وفي حالين، وفي مثله نزلت الآية، وإذا تلازمت حتى صار أحدها كالوصف للآخر، فإن كان كالوصف السلبي؛ فلا إشكال في عدم التلازم لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية، وأما إن كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "والبطلان".
2 الخصم يقول له: إننا متفقون في هذا، ولكن نحن نقول بما وقع في الخارج منطبقا عليه الحقيقة الكلية فقط؛ لأنها هي المرعية في التكليف، أما الزيادات الخارجية التي يقترن بها؛ فلا شأن لها في قصد الشارع، وأنت تقول: لها شأن، وتتحكم في صحة المأمور به وعدمها. "د".
3 في "ط": "بنقصان".(38/308)
ص -224-…صفة وجودية أو كالصفة الوجودية1، فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج، ولا يدخل مثله تحت الآية2، وأما الزيادة غير المبطلة أو النقصان؛ فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به؛ فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها، لا أنه3 اعتبر فيها الاعتبار الذهني في الجملة، والبحث في هذه المسألة يتشعب وينبني عليه مسائل فقهية.
فصل:
ويتصدى النظر4 هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران، وما لا يصير كذلك؛ فلا يجريان فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي في ترك الطهارة للصلاة؛ فإنها وإن كانت سلبية، لكن لما ثبت اعتبارها شرعا؛ كانت كأنها وجودية. "د".
2 لأن الآية في جمعهم بين أعمال صالحة وتركهم الجهاد في هذه الغزوة، والترك هنا وصف سلبي صرف ليس كالطهارة للصلاة مثلا. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "نزلت على ما رواه البيهقي [في "الدلائل" "5/ 272"] في عشرة من المسلمين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، والواو في الآية بمعنى الباء؛ كما في قولك: "خلطت الماء واللبن"، ومعنى خلط العمل الصالح بالسيء وعكسه: استعقاب آخرهما الآخر، بحيث يقعان في زمانين".
قلت: أخرج سبب النزول المذكور ابن جرير في "التفسير" "11/ 16"، وابن مردويه من طريقين عن ابن عباس، في أحدهما عبد الله بن صالح، كاتب الليث وهو ضعيف، وفي الآخر محمد بن سعد العوفي وآباؤه، وهم ضعفاء.
وانظر "الدر المنثور" "4/ 275"، و"لباب النقول" "ص123-124"، و"الفتح السماوي" "2/ 697-698"، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" "ص271"، و"الكافي الشافي" "ص80" لابن حجر.
3 في "ط": "أنها".(38/309)
4 إنما يحتاج إلى ضبط هذا الموضع ومعرفة الأفعال التي تعتبر وصف لما اقترن بها والتي لا تعتبر كذلك، بناء على النظر الثاني، أما إذا نظر إلى الأمر الذهني المعقول، وأنه إذا صدق على ما في الخارج صح بقطع النظر عن الأوصاف التي تقترن به في الخارج؛ فلا حاجة له بهذا الضابط وتفصيله لأن الضابط عنده مجرد صدق الحقيقة الذهنية عليه باستيفائه أركانها وشروطها. "د".(38/310)
ص -225-…وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة؛ إما أن يصير أحدها وصفًا للآخر أو لا، فإن كان الثاني؛ فلا تلازم؛ كترك الصلاة مع ترك الزنى أو السرقة، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر؛ لعدم التزاحم في العمل، إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع أو غير مشروع، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين1 على المكلف وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي والسلبيات اعتباريات لا حقيقية، وإن كان الأول؛ فإما أن يكون وصفا سلبيا أو وجوديا، فإن كان سلبيا؛ فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعًا على الخصوص، أو لا، فإن كان الأول؛ فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية2؛ كترك الطهارة في الصلاة، وترك الاستقبال، وإن كان الثاني؛ فلا اعتداد بالوصف السلبي؛ كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة، [فإن الصلاة]3 وإن وصفت بأنها فرار من واجب؛ فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا، لا حقيقة له في الخارج، وإن كان الوصف وجوديا؛ فهذا هو محل النظر؛ كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوبة، والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمتزاحمين".
2 نقول: ولا إشكال في اعتبار المعقول الذهني أيضا متى لوحظ تقييد المعقول المذكور بالشروط مع الأركان، على ما سقناه في تقرير الكلام من أوله؛ فإنه إذا لم تعتبر الشروط أشكل عليه الأمر، واضطر إلى اعتبار بعض الأمور الخارجية دون بعض؛ فلا يكون اعتباره لمجرد الأمر المعقول مقبولا بإطلاق. "د".
3 سقط من "ط".(38/311)
ص -226-…الأفعال مع التروك؛ إلا أن يثبت تلازمها شرعا، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي؛ كالطهارة للصلاة، وأما الأفعال مع الأفعال؛ فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج، فيحدث منها فعل واحد موصوف؛ فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم، والله أعلم.
ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي.(38/312)
ص -227-…المسألة الخامسة:
الأدلة الشرعية ضربان:
أحدهما:
ما يرجع إلى النقل المحض.
والثاني:
ما يرجع إلى الرأي المحض.
وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا؛ فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول؛ فالكتاب والسنة، وأما الثاني؛ فالقياس والاستدلال1، ويلحق بكل واحد منهما وجوه؛ إما باتفاق، وإما باختلاف؛ فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه2 قيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس شرعي، وإن كان راجعًا إلى النص؛ إذ الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل شرعي. "ف".
قلت: انظر "الإحكام" "7/ 53"، و"النبذ" "37-51، 120-135" كلاهما لابن حزم، و"الوجيز في أصول الفقه" "148-149".
2 أي: سواء جرينا على أنه يختص بالصحابة كما روي عن أحمد أو لا، وسواء قلنا: إجماع أهل المدينة حجة كما يقول مالك أو لا، وسواء قلنا: يشترط عدد التواتر في حجية الإجماع أو لا، وسواء قلنا: يصح أن يكون مستند الإجماع قياسًا كما هو الحق أو لا كما يقول الظاهرية، وهكذا مما يدور حول الإجماع من الخلاف المقتضي لتوسيع مجال الإجماع أو تضييقه؛ إلا أنه يقال إذا كان مستنده قياسا: لا يكون ملحقًا بالضرب الأول بل بالثاني. "د".
وكتب "ف": ما نصه: "أما الإجماع؛ فلأنه لا بد له من سند من كتاب أو سنة، فيعتد به من هذه الجهة، ولا يلزمنا البحث عن سنده لحديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، ومذهب الصحابي محمول على الرواية والنقل ما لم يثبت أنه رأي له واجتهاد؛ فيجري الخلاف في حجيته، وأما شرع من قبلنا؛ فلإقراره في شرعنا".(38/313)
ص -228-…به ومذهب1 الصحابي وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية، حسبما يتبين في موضعه2 من هذا الكتاب بحول الله.
فصل:
ثم نقول: إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول؛ لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل، وإنما أثبتناه بالأول؛ إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه، وإذا كان كذلك؛ فالأول هو العمدة، وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين:
إحداهما:
جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية.
والأخرى:
جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية.
فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، والصيد، والذبائح، والبيوع، والحدود، وأشباه ذلك، والثانية3 كدلالته على أن الإجماع حجة، وعلى أن القياس حجة، وأن قول الصحابي حجة، وشرع من قبلنا حجة، وما كان نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظاهر إذا لم يكن اجتهادًا منه، وإلا؛ رجع لما يناسبه من الضربين. "د".
2 في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد أن مآلات الأفعال معتبرة. "د".
3 في الأصل: "الثاني".(38/314)
ص -229-…فصل:
ثم نقول: إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب، وذلك من وجهين:
أحدهما:
أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب؛ لأن الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي"1، هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا، بعضه يؤمن على مثله البشر2، ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله.
وأيضا؛ فإن الله قد قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} في مواضع كثيرة.
وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. إلى ما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 جاء معنى هذا الكلام في حديث صحيح، يأتي نصه وتخريجه "4/ 180".(38/315)
ص -230-…والوجه الثاني:
أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، ولذلك قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وذلك التبليغ من وجهين:
تبليغ الرسالة، وهو الكتاب.
وبيان معانيه.
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم [وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله]؛ فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب، هذا هو الأمر العام فيها.
وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد1 إن شاء الله، فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى؛ فإنه كلام الله القديم: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وبيان هذا مذكور بعد2 إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثانية من الدليل الثاني وهو السنة. "د".
2 في المسألة الرابعة من السنة؛ فسيشرح فيها كيف أن الكتاب تضمن ما في السنة. "د".
وفي "ط": "أنه مذكور".(38/316)
ص -231-…المسألة السادسة1:
كل دليل شرعي؛ فمبني على مقدمتين:
إحداهما:
راجعة إلى تحقيق مناط2 الحكم.
والأخرى:
ترجع إلى نفس الحكم الشرعي.
فالأولى نظرية وأعني بالنظرية هنا3 ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر، ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية، والثانية نقلية، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي، بل هذا4 جار في كل مطلب عقلي أو نقلي؛ فيصح أن نقول: الأولى راجعة إلى تحقيق المناط، والثانية راجعة إلى الحكم، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية، فإذا قلت: إن كل مسكر حرام؛ فلا يتم القضاء عليه5 حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تفصيل ذلك "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254-255 و22/ 329-330".
2 "المناط هو الوصف الذي نيط به الحكم، وتحقيقه إثبات العلة في إحدى صورها التي خفيت فيها العلة؛ كتحقيق أن النباش سارق، بأنه وجد فيه أخذ المال خفية وهو السرقة، فتقطع، ولكن المؤلف هنا أراد بتحقيق المناط إثبات الوصف الذي نيط به الحكم مطلقًا؛ ففي حرمة السكر كونه خمرًا، وفي جواز الوضوء بالماء كونه مطلقا، وفي رفع زيد ونصب عمرو كونه فاعلًا، وفي حدوث العالم كونه متغيرًا". "ف".
3 في "م": "ههنا".
4 أي: حاجة الدليل إلى مقدمتين بحيث ترجع إحداهما إلى تحقيق المناط... إلخ لا بقيد أن تكون الثانية نقلية؛ إذ قد تكون المقدمتان عقليتين، وسيأتي له توجيه اطراد ذلك في العقليات أيضا بأنه يجب أن تكون إحدى المقدمتين العقليتين جارية مجرى النقليات في خاصيتها وهي أن تكون مسلمة. "د".(38/317)
5 أي: على الجزئي بهذا الدليل الشرعي حتى يكون الجزئي بهذه الحيثية ليستعمل هذا المشروب المشار إليه إذا لم يتحقق فيه المناط، ولم يندرج في موضوع الكبرى أو يجتنب، ولا يستعمل إذا لم يتحقق فيه ذلك، كما يقولون: إن الأصغر في مقدمة الدليل المنطقي يجب أن يكون مندرجًا في الأوسط حتى ينتقل حكمه إليه؛ فتحقيق المناط يرجع إلى تحقيق اندراج الأصغر في الأوسط. "د".(38/318)
ص -232-…منه ليستعمل أو لا يستعمل، لأن الشرائع إنما جاءن لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا؛ قيل له: أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر؛ قال: نعم، هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال. فيجتنبه، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء؛ فلا بد من النظر إليه: هل هو مطلق أم لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم وشم الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته؛ فقد تحقق مناطه عنده، وأنه مطلق، وهي المقدمة النظرية، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية، وهي أن كل ماء مطلق؛ فالوضوء به جائز، وكذلك إذا نظر: هل هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ فينظر: هل هو محدث أم لا؟ فإن تحقق الحدث؛ فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء، [وإن تحقق فقده؛ فكذلك؛ فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء]1، وهي المقدمة النقلية.
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة2 ومقيدة3، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلى على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "... مطلوب بالرضى"؟!
2 في البعض؛ كالقاعدة القائلة: "المرتد يقتل". "د".
3 وهو الأكثر، كما في قاعدة "القاتل يقتل"؛ أي: إذا لم يكن أبا أو إذا لم يعف أولياء الدم مثلا: وعلى هذا يكون معنى الإطلاق والتقييد وغيرهما في المسألة السابعة، ويظهر أنه لا مانع من جعلهما بالمعنى الآتي في المسألة المذكورة. "د".(38/319)
ص -233-…تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد، وهو مقتضى المقدمة النظرية، والمسألة ظاهرة في الشرعيات.
نعم، وفي اللغويات والعقليات؛ فإنا إذا قلنا: ضرب زيد عمرا، وأردنا أن نعرف [ما] الذي يرفع من الاسمين وما الذي ينصب؛ فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا حققنا الفاعل وميزناه؛ حكمنا عليه بمقتضى [المقدمة]1 النقلية، وهي أن كل فاعل مرفوع، ونصبنا المفعول كذلك؛ لأن كل مفعول منصوب، وإذا أردنا أن نصغر عقربًا حققنا أنه رباعي؛ فيستحق من أبنية التصغير بنية "فعيعل"2 لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية، وهكذا في سائر علوم اللغة، وأما العقليات؛ فكما إذا نظرنا في العالم؛ هل هو حادث أم لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم3 وهو العالم، فنجده متغيرًا، وهي المقدمة الأولى، ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا: كل متغير حادث.
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات: إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية، وهي المفيدة لتحقيق المناط -وذلك مطرد في العقليات أيضا-، والأخرى نقلية؛ فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات؟ هذا لا بد من تأمله.
والذي يقال فيه4 أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "فعيل".
3 مناط الحكم هو الوصف الذي به يندرج في موضوع الكبرى، وهو هنا التغير. "د". وكتب "ف": "المناسب وهو تغير العالم كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه".
4 هذا يشير غلى أن المقدمة المعتبرة لتحقيق المناط في كل من الشرعيات والعقليات هي المقدمة النظرية، وأما المقدمة الثانية الراجعة إلى الحكم؛ فهي إلى الشرعيات نقلية، وفي العقليات عقلية، وكلتاهما تؤخذ مسلمة. "ف".(38/320)
ص -234-…أنها نقلية؛ فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلًا، ونظير هذا1 في العقليات المقدمات المسلمة، وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع مسلمًا عند الخصم؛ فهذه خاصية إحدى المقدمتين، وهي أن تكون مسلمة، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه، ولا حاجة إلى البسط هنا؛ فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "د" و"م"، وفي الأصل: "وينظر في هذا"، وفي "ف" و"ط": "وينظر إلى هذا"، وقال "ف": "لعله "ونظير هذا".(38/321)
ص -235-…المسألة السابعة:
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب1 مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص؛ فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى؛ كالعدل، والإحسان، والعفو، والصبر، والشكر في المأمورات، والظلم، والفحشاء، والمنكر، والبغي، ونقض العهد في المنهيات.
وكل دليل ثبت فيها2 مقيدا غير مطلق، وجعل له قانون وضابط؛ فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكِّلَ إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها3، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية4؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ومثله السنة؛ لأن الكلام في هذه المباحث يتعلق بالأدلة على وجه العموم، بل الأدلة الواردة مقيدة. "د".
2 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "المناسب ثبت فيه أي الكتاب"، زاد "د": "أي الكتاب بمعنى الشريعة على هذا الوجه أكثر ما توجد في السنة كتابا وسنة"، كما أشرنا إليه آنفا. "د".
3 في "ط": "كيفيتها".
4 أي: التي شرعت بالمدينة النبوية ويقابلها الأصول المكية، وستأتي أمثلة ذلك في كلام المصنف. "ف" ونحوه عند "م".(38/322)
ص -236-…المسألة الثامنة1:
فنقول: إذا رأيت2 في المدنيات أصلًا كليًّا فتأمله تجده جزئيا3 بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا4 لأصل كلي، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل5، والمال.
أما الدين؛ فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما، وهو أول ما نزل بمكة.
وأما النفس؛ فظاهر إنزال حفظها بمكة؛ كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8],.
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}6 [الأنعام: 119].
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا أيضا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126".
2 في "ط": "أردت".
3 كالجهاد؛ فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيقرره قريبا، لم يفرض إلا في المدينة بعد الإذن به أولا بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...} إلخ [الحج: 39]، ثم لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، ثم قال المشركين كافة، خلافا لمن قال: إنه فرض بمكة؛ فإنه غلط لوجوه ستة ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" [3/ 70-71]. "د". وانظره: "5/ 235-236".
4 كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما سيقول. "د".
5 في الأصل: "والنسب" وتكرر ذلك.
6 ومحل الدليل قوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}؛ أي: من محرمات الأكل لحفظ النفس؛ فواجب تناوله. "د".(38/323)
ص -237-…وأما العقل، فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة1؛ فقد ورد في المكيات مجملا، إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء، ومنافعها2 من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعها3؛ فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء [وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله] ساعة أو لحظة4، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فآية التحريم البات: في المائدة، وآيات التمهيد: في النساء والبقرة، وكلها مدنية. "د".
2 لعله زائد يستغنى عنه بقوله: "وكذلك منافعها". "د".
3 في "ف": "منافعهما"، وقال: "المناسب "منافعها" ليشمل منافع السمع والبصر وغيرهما من بقية الأعضاء".
4 قال بعضهم: لعل الأصل: "لا ساعة أو لحظة" كما يدل عليه السياق.
[قلت: هذا نص عبارة "ف"]. والظاهر أن الأصل: "أو ساعة أو لحظة"*، ويكون حاصل كلامه أنه وإن لم يرد في المكي نص في مفسد العقل وهو الخمر تفصيلا؛ إلا أنه ورد إجمالا لأن حفظ العقل ومنفعته داخل ضمنا في حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها؛ فما يزيل العقل رأسًا يعد مزيلًا لجزء من الإنسان، وما يزيل منفعته دوامًا أو زمنًا ما يعد مزيلًا لمنفعته؛ فحرمة حفظ النفس كلي يندرج فيه إجمالا حفظ العقل نفسه، وكذا حفظ منفعته؛ فما يزيل منفعته ولو لحظة منهي عنه، كمزيل منفعة أي عضو دائما أو لحظة، هذا وجه، ويرجع إلى الأول في صدر المسألة، ثم قال: "وأيضا؛ فإن حفظه على هذا الوجه"؛ أي: بحيث لا يزول ولو لحظة يعد مكملا، "أي لحفظ النفس والدين والنسل والمال والعرض، وإن كان في ذاته من ضروري حفظ العقل؛ فالنهي عن الخمر المذهب للعقل رأسا أو لمنفعته وقتا ما من ضروري حفظ العقل الداخل ضمنا في ضروري حفظ النفس والأعضاء ومنافعها، وهو أيضا مكمل لحفظ الضروريات الأخرى؛ كالدين وغيرها، فلذلك قال: إن حفظه على هذا الوجه من المكملات".(38/324)
وعليه؛ فيرجع النهي عن الخمر على هذا الوجه إلى القسم الثاني في صدر المسألة، هذا إذا قدرنا الساقط من العبارة لفظ "أو" وأما إذا قدرناه لفظ: "لا" كما يقول بعضهم؛ فيكون المعنى أن ما يزيل العقل رأسا من الضروري الداخل في حفظ النفس إجمالا، وأما حفظه على وجه أنه يزول ساعة ثم يعود؛ فيكون من المكملات إنما هو شرب القليل الذي لا يسكر عادة، كما عد النظر =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بل الصواب ما جاء في "ط" فقط، وهو بين معقوفتين.(38/325)
ص -238-…وأيضا؛ فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات؛ لأن شرب الخمر1 قد بين الله مثالبها في القرآن، حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] إلى آخر الآية، فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان.
وأم النسل2؛ فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى، والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وأما المال؛ فورد فيه3 تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم، والإسراف، والبغي ونقص المكيال والميزان4، والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى.
وأما العرض الملحق بها؛ فداخل تحت النهي عن إذايات5 النفوس.
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم6 إلا وحفظها من جانب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للأجنبية مكملا لحرمة الزنا، وأما ثانيا، فلو كان الغرض أن ما يزيله رأسا هو الذي يعد فقط من الضروري وما عداه مكمل؛ لكان ذكر المؤلف منافع الأعضاء حشوا مفسدا لأنه يقتضي أن إذهاب منافع العقل بحيث يغطي وينكشف معدود من نفس الضروري الداخل إجمالا في حفظ النفس، وأما ثالثا؛ فإنه كان المناسب إذا في التعبير بدل قوله: "وأيضا؛ فإن حفظه... إلخ" أن يقول المؤلف: "أما حفظه على هذا الوجه؛ فإنه من المكمل لحفظ العقل"؛ لأن قوله "وأيضا" يفيد أنه وجه آخر غير السابق لا أنه تكميل للكلام المتقدم، وإنما أطلنا الكلام ليتم فهم المقام. "د".
1 قال "ف": "الأنسب: لأن الخمر".
2 في الأصل: "النسب".
3 في الأصل و"ف" و"ط": "فيها"، وقال "ف": "المناسب: "ورد فيه"".
4 في "د": "أو الميزان".
5 قال "ف": "لعله: أذيات النفوس، جمع أذية، وهي ما يتأذى به".
6 أي: من جهة ما يقضي بهدمها وإفسادها، من الظلم ونقص الكيل وما معها، وقوله: "من جانب الوجود"؛ أي: الأسباب التي تحفظها وتستبقي وجودها؛ كالأكل والشرب في حفظ النفس مثلا. "د".(38/326)
ص -239-…الوجود حاصل؛ ففي الأربع الأواخر ظاهر، وأم الدين؛ فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح1، والتصديق بالقلب آتٍ بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ ليتفرع2 عن ذلك كل ما جاء3 مفصلا في المدني؛ فالأصل وارد في المكي، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد4، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا.
وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد، وأما الصوم والحج؛ فمدنيان من باب التكميل5، على أن6 الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم؛ فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا7، وردهم فيه إلى مشاعرهم8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هنا كلمة غير واضحة في الأصل لعلها: فقط.
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيره: "ليفرع".
3 أي: من شعب الإيمان ومحبة الله ورسوله، وما إلى ذلك، وقوله: "فالأصل"؛ أي: الإيماني. "د".
4 أي: متى وجد تكليف واحد بدني؛ فإنه يتحقق به معنى كلي الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين. "د".
5 ولم نقل: إنهما داخلان في كلي الانقياد بالجوارح؛ فيرجعان للوجه الأول في صدر المسألة، حيث اكتفى فيه بالدخول إجمالا في مسألة الخمر؛ لأن هذا يستدعي التوسع في معنى الإجمال، والكلية هنا أكثر مما يحتاج حفظ العقل عند دخوله إجمالا في حفظ النفس والأعضاء؛ فتصير القاعدة بعد ذلك أشبه بالأمور الاعتبارية، وإنما كانا تكميليين للدين؛ لأن الحج اجتماع يظهر فيه اتحاد وجهة المسلمين وتآلفهم وأبهة الإسلام، وهكذا من كل ما فيه تعزيز لشأنه، وفي الصوم تكميل لتهذيب النفس وانقيادها لامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ فهما من مكملات ضروري الدين.
6 هذا الترقي لا يفيد شيئا في أصل الدعوى، وهي أن كل مدني لا نجد فيه كليا إلا وهو جزئي أو تكميلي لما شرع في مكة؛ لأن إصلاح ما أفسدوه لم يجئ إلا في المدينة. "د".
7 في "م": "أفسدوه".(38/327)
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "مشارعهم".(38/328)
ص -240-…وكذلك الصيام أيضا؛ فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا، حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء1؛ فأحكمهما التشريع المدني، وأقرهما عل ما أراد2 الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه3؛ حين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؛ فلهما أصل في المكي على الجملة4.
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع5 من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة؛ كقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17]، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفظه عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء؛ فمن شاء صامه، ومن شاء تركه". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، 4/ 244" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2/ 792/ رقم 1125".
قال "د": "المؤلف يريد أن أصل مشروعية الصيام كانت بمكة، ويكفي في إثبات هذا صيامه صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء فيها؛ لأنه بعد الرسالة إنما كان يتعبد بالشرع قطعًا، وكونه كان خاصًا به لا يمنع أن أصل المشروعية للصيام كان بمكة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أقر".(38/329)
3 يشير إلى أن سنة الله في التشريع كسنته في التكوين، يرى المتأمل فيها من الحكم البالغة ما يبهر النظر؛ فإنه سبحانه بدأ في إنزال أوضاع الشريعة بالضروري الذي لا تصلح الأمة بدونه، ولا تخرج من ظلمة الجاهلية بغيره؛ فشرع لها بمكة ما يكفل ذلك، ثم لما صلب عودها، وبلغت أشدها، واستعدت العقول لما يكمل ذلك من الأوضاع الشرعية؛ شرع لها بالمدينة ما أكمل به الدين وأتم به النعمة، ولولا ذلك التدرج؛ لنأت الأمة بالتكاليف، وشرد عن قبولها كثير؛ فلله الحمد والمنة. "ف".
4 علمت أنه وإن أفاد في الصوم لكنه لا يفيد في الحج. "د".
5 بل هو أعلى فروعه كما سبق لنا بيانه. "د".(38/330)
ص -241-…المسألة التاسعة1:
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا، وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا2 إلا ما خصه الدليل؛ كقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}3 [الأحزاب: 50]، وأشباه ذلك، والدليل على ذلك أن المستند؛ إما أن يكون كليا، أو جزئيا، فإن كان [كليا؛ فهو المطلوب، وإن كان جزئيا، فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة التاسعة تقدمت له نظيرتها في النوع الرابع من المقاصد المسألة التاسعة أيضا، ولا فرق بينهما إلا من جهة أن تلك في أن الشريعة بحسب المكلفين عامة، وهذه تقول: إن الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة، وظاهر أن هذه مرتبة على تلك ولازمة لها؛ لأنه متى كانت الشريعة عامة لا تخص مكلفًا دون مكلف؛ فكل دليل ولو كان لفظه غير عام كأن ورد على جزئي؛ فإنه يعتبر عاما، ولذا تجد الأدلة هنا بعضا من الأدلة هناك، وقد توسع هناك بأدلة عقلية، ثم فرع على المسألة فوائد جليلة، وكان يمكنه هنا أن يذكر المسألة ويجعلها مفرعة على تلك، ويحيل في الاستدلال عليها، لكنه زاد هنا قوله: "وقد بين ذلك بقوله وفعله... إلخ"؛ فهذا من إيجازه فيه هو محل الفائدة الجديدة. "د".
2 أي: في صيغته ولفظه، وكذلك يقال في أوله: "المستند"؛ أي: اللفظ الوارد عن الشارع في الموضوع. "د".
قلت: "انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339 و15/ 82، 364، 444-445، 451 و16/ 148-149".
3 علم من الآية أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتا، وإلا؛ فما معنى تخصيص هذا الموضع الاختصاص؟ ويتأكد ذلك أن ما أجله الله له من الأزواج والمملوكات أطلق، وفي الواهبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أنه حيث سكت عن التقييد؛ فذلك دليل الاشتراك، أفاده ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "4/ 444".
4 أي: وذلك بأدلة، أي: كون جزئيته لا بحسب التشريع بأدلة، وأما كونها بحسب النازلة؛ فظاهر. "ف".(38/331)
ص -242-…- منها]1 عموم التشريع في الأصل؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وهذا معنى مقطوع به، لا يخرم2 القطع به ما جاء3 من شهادة خزيمة4 وعناق أبي بردة5، وقد جاء في الحديث: "بعثت للأحمر والأسود"6.
- ومنها أصل شرعية7 القياس؛ إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة كالعام الصيغة في المعنى8، وهو معنى متفق عليه، ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق؛ لما ساغ ذلك.
- ومنها أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]؛ فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره، ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي؛ فقال: {لِكَيْ لا}، ولذلك قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 بالخاء والراء: أي لا يخل ولا يبطل القطع به ما جاء... إلخ. "ف".
3 في الاجتزاء في الشهادة على المال بشاهد واحد، وعناق أبي بردة كانت صغيرة غير مستوفية للشرط؛ فقال له: لا تجزئ عن أحد غيرك. "د".
4 مضى لفظه وتخريجه "2/ 469".
5 مضى لفظه وتخريجه "2/ 410".
6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
7 في "ط": "أصل شرعي في".
8 فآية تحريم الخمر صيغتها باعتبار الدلالة الوضعية خاصة بتحريم ما يسمى خمرا، وباعتبار الدلالة المعنوية؛ أي: دلالة العلة عامة لكل ما يشارك الخمر فيما نيط به حكمه؛ فالقياس تعميم في دلالة النصوص مختص بنظر المجتهد. "ف". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "الصيغة عام".(38/332)
ص -243-…{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء؛ كهبة المرأة نفسها له1، وتحريم نكاح أزواجه من بعده2، والزيادة على أربع، فذلك3 لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستنثى؛ فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم، وإن لم يكن لها صيغ عموم، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة.
- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله وفعله؛ فالقول كقوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"4، وقوله في قضايا خاصة سئل فيها؛ أهي لنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في [الأحزاب: 50]: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وفي "ط": "بنفسها له".
2 كما في [الأحزاب: 53]: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي "3/ 1579".
3 في "د": "فلذلك".
4 قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 180": "لم أر لهذا قط سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحجاج "أي: المزي" وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا؛ فلم يعرفاه بالكلية"، وقال الزركشي في "المعتبر" "رقم 123": "لا يعرف بهذا اللفظ"، وقال ابن الملقن في "غاية الراغب" "ق19/ 2": "مشهور متكرر في كتب الأصول، ولا يعرف مخرجه بعد البحث عنه"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث المنهاج" "رقم 25": "ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي؛ فأنكراه".(38/333)
ونقل كلام العراقي وأقره جماعة منهم: السخاوي في "المقاصد" "416"، والقاري في "المصنوع" "125" و"الأسرار" المرفوعة" "430"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "ص200" - وزاد: "وقد ذكره أهل الأصول؛ فاستدلوا به فأخطئوا"- والعجلوني في "كشف الخفاء" "11161"، والحوت في "أسنى المطالب" "566".
وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 527": "هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين، ولم نره في كتب الحديث"، ونقل كلام ابن كثير السابق، وزاد: "وكذا قال السبكي: إنه سأل الذهبي عنه؛ فلم يعرفه"، قال الزركشي: "لكن معناه ثابت"، وقال ابن حجر: "وقد جاء ما يؤدي معناه" وساقا حديث أميمة بنت رقيقة، وفيه: "وإنما قولي لمائة امرأة كقولي -أو مثل قولي- =(38/334)
ص -244-…خاصة، أم للناس عامة: "بل للناس عامة"1، كما في قضية الذي نزلت فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لامرأة واحدة".
أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 982-983"، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 357"، والنسائي في "عشرة النساء"، والدارقطني في "السنن" "4/ 147"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 471"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 417/ رقم 4553 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 146" -عن محمد بن المنكدر- عن أميمة به، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب بيعة النساء، 7/ 149"، الترمذي في "الجامع" "أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، 4/ 152/ رقم 1597"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، 2/ 959/ رقم 2874"، وأحمد في "المسند" "6/ 357"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1621"، والحميدي في "المسند" "رقم 341"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 470، 472، 473، 475، 476"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 71"، والدارقطني في "السنن" "4/ 146" من طرق عن ابن المنكدر به.
والحديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما. انظر: "الإلزامات والتتبع" "ص154".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، 2/ 8/ رقم 526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، 4/ 2115-2116/ رقم 2763" عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؛ فقال الرجل: يا رسول الله؟ ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم". لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم: "بل للناس كافة".(38/335)
واللفظ الذي أورده المصنف وقع نحوه في حديث معاذ، وفيه انقطاع؛ كما قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 325"، وقد خرجته وتكلمت عليه بإسهاب ولله الحمد في تحقيقي لـ"الخلافيات" للبيهقي "رقم 434"، وفيه زيادة لذكر الوضوء والصلاة.
وما أورده المصنف هو لفظ الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود، 5/ 292/ رقم 3115" عن أبي اليسر، وإسناده فيه قيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره.(38/336)
ص -245-…{أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] وأشباهها.
وقد جعل نفسه عليه الصلاة والسلام قدوة للناس؛ كما ظهر في حديث الإصباح جنبا وهو يريد أن يصوم1، والغسل من التقاء الختانين2.
وقوله: "إني لأنسى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ"3.
وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه "4/ 93".
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 100 و339 - رواية محمد بن الحسن"- ولفظه ابن الحسن: "إني أنس لأسن"- بلاغا.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "24/ 375": "أما هذا الحديث بهذا اللفظ؛ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه، والله أعلم، وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، والله أعلم".
وقال: "ومعناه صحيح في الأصول، وقد مضت آثار في باب نومه عن الصلاة، تدل على هذا المعنى، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، وبعث صلى الله عليه وسلم معلما؛ فما سن لنا اتبعناه، وقد بلغ ما أمر به، ولم يتوفاه الله حتى أكمل دينه سننا وفرائض، والحمد لله".(38/337)
قال ابن الصلاح في "الرسالة التي وصل فيها البلاغات الأربع في الموطأ" "ص14-15": "وأما حديث النسيان؛ فرويناه من وجوه كثيرة صحيحة"، ذكر منها حديث عثمان بن أبي شيب عن جرير عن ابن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ قال صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث السهو، وأنه عليه السلام قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني"، قال: "وأخرجه الشيخان في "صحيحهما"، وإنما به من حديث مالك طرف منه". وانظر: "الاستذكار" "4/ 402-403".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.(38/338)
ص -246-…و"خذوا عني مناسككم"1.
وهو كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، 2/ 943/ رقم 1297"، وأحمد في "المسند" "3/ 318" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: "لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المناسك، باب الركوب إلى الجمال واستظلال المحرم، 5 270"، وفيه: "يا أيها الناس! خذوا مناسككم".
وفي "مسند أحمد" "3/ 366": "... ألا فخذوا مناسككم".(38/339)
ص -247-…المسألة العاشرة:
الأدلة الشرعية ضربان1:
أحدهما:
أن يكون على طريقة البرهان العقلي؛ فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين، وهو في أول2 الأمر موضوع لذلك، ويدخل هنا جميع البراهين العقلية وما جرى مجراها؛ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44].
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81].
وقوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ...} إلى قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40].
وهذا الضرب يستدل به على الموالف3 والمخالف؛ لأنه أمر معلوم عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "المسودة" "ص496"، و"مجموع الفتاوى" "2/ 7-14 و17/ 437 و19/ 228-234".
2 في "ط": "الأول".
3 في "م": "الموافق".(38/340)
ص -248-…من له عقل؛ فلا يقتصر به على الموافق [في النحلة]1.
والثاني:
مبني على الموافقة في النحلة، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية؛ كدلالاة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف، ودلالة2 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [البقرة: 183]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187]؛ فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين، ولا أتي بها في محل استدلال، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها، فإذا3 ثبت برهان المعجزة؛ ثبت الصدق وإذا ثبت الصدق؛ ثبت التكليف على المكلف.
فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه هو واضعه، وإذا استدل بالضرب الثاني أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما والتزاما، فإذا أطلق لفظ الدليل على الضربين؛ فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني؛ فهو بالمعنى الأول جارٍ على الاصطلاح المشهور عند العلماء، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 زاده لأن هذه ليس أوامر ونواه لفظا، بل هي أخبار في معنى الطلب. "د".
3 في "م": "إذا".(38/341)
ص -249-…المسألة الحادية عشرة:
إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ؛ لم يستدل به على المعنى المجازي إلا على القول بتعميم1 اللفظ المشترك، بشرط2 أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ، وإلا، فلا.
فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31]؛ فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]، وربما ادعى قوم أن الجميع3 مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحنفية وبعض الشافعية وبعض المعتزلة: "لا يستعمل اللفظ في الحقيقة والمجاز مقصودين معا بالحكم، وأجازه الشافعية والقاضي وبعض المتعزلة مطلقا، إلا إذا لم يمكن الجمع؛ كافعل أمرا وتهديدا؛ لأن الأمر يقتضي الإيجاب، والتهديد يقتضي الترك؛ فلا يصح اجتماعهما، وقال الغزالي وأبو الحسين: إنما يجوز عقلا لا لغة؛ إلا في غير المفرد من المثنى والمجموع؛ فيجوز لغة أيضا، فيكون حينئذ كل لفظ مستعملا في معنى. "د".
قلت: انظر في هذا: "جلاء الأفهام" "ص85"، و"البحر المحيط" "2/ 127، 139 وما بعدها" للزركشي، و"المحصول" "1/ 278".
2 أي: بشرط أن يكون هذا المعنى مما يستعمل فيه مثل هذا اللفظ عند العرب، وهذا هو محل الزيادة في كلامه على كلام المجيزين، يقيد به هذا الجواز، ولا يخفى أن استعمال ألفاظ الكتاب في المجاز فقط محتاج أيضا إلى هذا القيد. "د".(38/342)
3 هذا هو محل التمثيل، وقوله: "أو سكر النوم... إلخ"؛ أي: فيصح أن يكون من موضوع المسألة مما تحقق فيه الشرط. "د".(38/343)
ص -250-…ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر النوم، وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته، فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع1 سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وأن الجنابة المراد بها التضمخ2 بدنس الذنوب، والاغتسال هو التوبة؛ لكان هذا التفسير غير معتبر لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم3 من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى خلق الكونين4؛ فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها، وربما نقل في [معنى] قوله صلى الله عليه وسلم: "تداوَوا؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء"5 أن فيه إشارة6 إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب، وكل ذلك غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون مما استعمل فيهما بدون تحقق الشرط. "د".
2 أي: مجازا مرادا مع الحقيقة؛ لأن أرباب الإشارة من الصوفية لا يقصرون المعنى المراد على المجاز في مثل هذا. "د".
3 أي: ولا تفهم من السكر سكر الغفلة والشهوة لا مجازا ولا حقيقة. "د".
4 كما في "لطائف الإشارات" "2/ 448" للقشيري، وانظر: "4/ 250".
5 مضى تخريجه "1/ 217"، وهو حديث صحيح.(38/344)
6 ليست الإشارة في كلامهم مما يراد منه استعمال اللفظ في المعنى المذكور، وحاشاهم أن يقولوا ذلك، بل معناه أن الألفاظ مستعملة في معناها الوضعي العربي، وإنما يخطر المعنى الإشاري على قلوب العارفين عند ذكر الآية أو الحديث، بعد فهمه على الطريق العربي الصحيح، كما أفاده ابن عطاء الله في كتابه "لطائف المنن". "د".(38/345)
ص -251-…معتبر1؛ فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه، ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا الكتاب، وهذا الاستعمال خارج عنه، ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا الكتاب، والحمد لله، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم؛ فالقول فيه مبسوط بعد هذا3 بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما: "الاعتصام" "1/ 322 - ط ابن عفان" للمصنف، و"فضائح الباطنية" أو "المستظهري" "الباب الخامس، ص35 وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 37"، كلاهما للغزالي.
2 سبق في المسألة الرابعة من النوع الثاني من المقاصد، وسيأتي أيضا في المسألة التاسعة من مباحث الكتاب العزيز. "د".
3 أي: في الفصل الثاني من المسألة التاسعة المذكورة، فيما روى عن سهل بن عبد الله من تفسير آيات على هذا النحو. "د".(38/346)
ص -252-…المسألة الثانية عشرة1:
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما أو أكثريا، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما، أو لا يثبت به عمل؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا؛ فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم، كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو غير ذلك من الأحكام؛ كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل، والزكاة بشروطها، والضحايا والعقيقة، والنكاح والطلاق، والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة، وبيَّنها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره، ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه؛ فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق، فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون؛ جرى فيه ما تقدم2 في كتاب الأحكام من اعتبار3 الكلية والجزئية، فلا معنى للإعادة.
والثاني:
أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت4 من الأوقات أو حال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في المسألة: "تيسير التحرير" "1/ 255"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 461-464، 2/ 180-181" للأشقر.
2 في "ف" و"ط": "جرى ما تقدم في"، وأثبت الصواب في الهامش.
3 لم يظهر معنى اعتبار الكلية والجزئية في هذا، إنما يظهر ما تقدم في فصل ما يدخل تحت العفو وهو في موضوع الخروج عن الدليل، حيث قسمه إلى أقسام ثلاثة، فليراجع. "د".(38/347)
4 هو وما بعده بيان وتفصيل لقوله: "قليلا"؛ فقوله: "في وقت" أي: كما يأتي في صلاته عليه السلام آخر الوقت المختار لمن طلب منه معرفة الأوقات، وقوله: "أو حال"؛ أي: كتأخيره عليه السلام الظهر للإبراد والجمع بين الصلاتين في السفر كما سيأتي له. "د".(38/348)
ص -253-…من الأحوال، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما1 أو أكثريا؛ فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة2، وأما3 ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا؛ فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر؛ فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل؛ إما أن يكون لمعنى شرعي، أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي؛ فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك؛ فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة4؛ فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه.
وأيضا؛ فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفرض أنه وقع العمل بدليل قليلا؛ فكيف يتأتى معه أن يكون العمل بالدليل المقابل له دائما؟ "د". قلت: "وفي "ط": "والعمل عليه دائما".
2 أي: المسلوكة والطريق: السبيل؛ تذكر وتؤنث، نقول: الطريق المستقيمة، والطريق العظمى. "ف".
3 هذا نوع من الترجيح غير ما ذكره الأصوليون في مباحث الترجيح بالأمر الخارج كعمل أهل المدينة أو الخلفاء الأربعة، أو بعمل أكثر السلف، فما هنا ترجيح وإن كان بخارج أيضا؛ إلا أنه يكون عمله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه وبعده كان عليه ولم يخالفوه إلا لأسباب اقتضت المخالفة يأتي ذكرها، ولا ينافي أنه من الترجيح بخارج جعله المعارضة بين العمل والمعنى الذي تحروه؛ لأن الواقع أن المعارضة إنما هي بين الخبرين، ومعارضة العمل تابعة، يرشدك إلى هذا قوله: "فإن فرض أن هذا... إلخ"؛ فقد عقد المعارضة بين نفس الخبرين حتى اقتضى ذلك التخيير في العمل بأيهما. "د".
4 أي: لضعفه بإزاء ما كثر العمل على وفقه. "د".(38/349)
ص -254-…يقتضيان1 التخيير؛ فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه، كما نقول في المباح مع المندوب: إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه؛ إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة2؛ فصار المكلف كالمخير فيهما، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة؛ فكذلك ما نحن فيه.
وإلى هذا3؛ فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر؛ لاحتمالها في أنفسها، وإمكان4 أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر، ومن ذلك في كتاب5 الأحكام وما بعده، فإذا كان كذلك؛ ترجح العمل على خلاف ذلك القليل، ولهذا القسم أمثلة كثيرة، ولكنها على ضربين:
أحدهما: أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببًا للقلة، حتى إذا عدم السبب عدم المسبب، وله مواضع؛ كوقوعه بيانًا لحدود حدت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأنهما دليلان متعارضان ولا مرجح؛ فالحكم إما الوقف، وإما التخيير على الخلاف بينهم في ذلك. "د".
2 وإن كان في ترك المندوب كليا حرج، كما سبق أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل. "د".
3 يعني: ويضاف إلى ما ذكرناه من أدلة الأخذ بما عليه العمل في الأعم الأكثر أن قضايا الأعيان... إلخ، ولا يخفى أن العمل إذا كان قليلا عد من قضايا الأعيان التي لا يحتج بها، وهذا يوهن الأخذ بما كان العمل عليه قليلا. "د".
4 عطف تفسير لقوله: "احتمالها في أنفسها". "د".
5 كما تقدم في ترك بعض الصحابة ومن بعدهم لبعض المباحات؛ حتى كان يظن بهم أنهم لا يرونها مباحة. "د".
قال "ف": "ولعله: ومن ذلك ما في كتاب..." إلخ.(38/350)
ص -255-…أو أوقات عينت، أو نحو1 ذلك.
كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين2، وبيان رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وأوقات عينت ونحو".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، 1/ 281-283/ رقم 150"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب آخر وقت العصر، 1/ 255"، وأحمد في "المسند" "3/ 330"، والدارقطني في "السنن" "1/ 257"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 195"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 368" عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام؛ فقال له: "قم فصله. فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب؛ فقال: قم فصله. فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاء العشاء؛ فقال: قم فصله. فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاء الفجر؛ فقال: قم فصله. فصلى الفجر حين برق الفجر "أو قال: سطع الفجر"، ثم جاءه من الغد للظهر؛ فقال: فصله. فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله. فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل "أو قال: ثلث الليل"؛ فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر جدا، فقال: قم فصله. فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت". لفظ أحمد.(38/351)
قال الترمذي: "حديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر"، وقال: "وقال محمد -يعني: البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح مشهور"، وقال ابن القطان -كما في "نصب الراية" "1/ 222" -: "هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا؛ لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل من قول النبي صلى الله عليه وسلم".
وتعقبه ابن دقيق العيد في "الإمام" -كما في "نصب الراية" "1/ 223"- فقال: "وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة". =(38/352)
ص -256-…صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة؛ فقال: "صل معنا هذين اليومين"1؛ فصلاته في اليوم2 في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختياري الذي لا يتعدى، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض؛ كالإبراد في شدة الحر3 والجمع بين الصلاتين في السفر4، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: والأقوى من جواب ابن دقيق العيد ما وقع في لفظ الترمذي في حديث جابر هذا: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل...".
فإذن؛ رواه جابر من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشاهد أبو هريرة وابن عباس وغيرهما ممن روى هذا الحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستووا مع جابر في ذلك؛ وهذه علة غير قادحة، والحديث صحيح، وله شواهد عديدة وكثيرة وشهيرة؛ حتى عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص22" وغيره من الأحاديث المتواترة. وانظر "نصب الراية" "4/ 221-226".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، 1/ 428/ رقم 613" عن بريدة رضي الله عنه.
2 لعل فيه سقط كلمة "الثاني" كما يدل عليه الحديث في باب مواقيت الصلاة. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، 2/ 15/ رقم 533، 534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، 1/ 410/ رقم 615" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا اشتد الحر؛ فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وقد عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14" متواترا.(38/353)
4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، 2/ 582/ رقم 112"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين، 1/ 489/ رقم 704" عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب".
وفي رواية لمسلم: "كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما".(38/354)
ص -257-…وكذلك قوله: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح"1، إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا؛ فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "أسفروا بالفجر"2 مرجوح بالنسبة إلى العمل3 على وفقه، وإن لم يصح؛ فالأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، 2/ 56/ رقم 579"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أدرك من الصلاة، 1/ 424/ رقم 608" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب الإسفار، 1/ 372"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، 1/ 289/ رقم 154"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح، 1/ 249/ رقم 424" -بلفظ: "أصبحوا بالصبح"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، 1/ 221/ رقم 672"، وأحمد في "المسند" "3/ 465 و4/ 140"، والشافعي في "المسند" "1/ 50، 51"، والحميدي في "المسند" "رقم 408"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 2159"، والطيالسي في "المسند" "رقم 959"، والدرامي في "السنن" "1/ 277" والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 178"، والطبراني في "الكبير" "رقم 4283-4290"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 357، 358/ رقم 1490، 1491- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" 1/ 457"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 94"، و"ذكر أخبار أصبهان" "2/ 329"، والحازمي في "الاعتبار" "ص75"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 458"، والخطيب في "التاريخ" "13/ 45" عن رافع بن خديج مرفوعا، وهو صحيح.(38/355)
والعجب من السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14"؛ فإنه عده متواترا؛ فقال: "أخرجه الأربعة عن رافع بن خديج، وأحمد عن محمود بن لبيد، والطبراني عن بلال وابن مسعود وأبي هريرة وحواء، والبزار عن أنس وقتادة، والعدني في "مسنده" عن رجل من الصحابة".
ولم يتفطن رحمه الله أن زيد بن أسلم اضطرب في طرقه؛ فجعله تارة من مسند رافع، وتارة من مسند أنس، وتارة عن محمود بن لبيد، وتارة عن رجل من الأنصار، وتارة عن حواء؛ فهؤلاء خمسة يرجع حديثهم إلى اضطراب زيد بن أسلم، وحكم ابن حبان في "المجروحين" "1/ 324-325" على حديث أبي هريرة بالوهم، وحديث بلال وابن مسعود ضعيفان، ورواه عاصم بن عمر بن قتادة، واختلف عليه فيه؛ فجعله مرة عن رافع، ومرة عن قتادة بن النعمان؛ فلم يسلم من هذه الأحاديث إلا حديث رافع، وهو صحيح.
وانظر: "الخلافيات" للبيهقي "4/ مسألة رقم 67" وتعليقنا عليه.
3 أي: لقلة العمل على الإسفار، والمرجوحية أخذ بها مالك، وقوله: "وإن لم يصح؛ فالأمر واضح"، الأوضحية بالنسبة لمساعدة مالك فقط، وإلا؛ فهو خروج عن الموضوع لأن الكلام في دليلين صحيحين ترجح أحدهما بأن العمل به أكثري. "د".(38/356)
ص -258-…واضح.
وبه أيضا يفهم1 وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك2، واحتجاج عروة بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"3، ولفظ: "كان يفعل" يقتضي الكثرة4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن لم يذكر أبو مسعود هذا الوجه في احتجاجه، بل ذكر قوله: "بهذا أمرت" كما يجيء بعد. "د".
2 وسيأتي تخريج ذلك قريبا.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 6/ رقم 522 - وهذا لفظه-، وباب وقت العصر، 2/ 25/ رقم 544، 545، 546" عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرج نحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 433-434/ رقم 621" عن أنس رضي الله عنه.
ولفظ البخاري في "545": "والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها".
قال "ف": "لم يظهر: لم يزل، وقيل: لم يصعد، ولم يعل على الحيطان والأول أظهر، تأمل. اهـ"، وفي لفظ البخاري: "الشمس لم تخرج من حجرتها"، قال "د": "والمعنى قبل أن تزول الشمس عن وسط الدار".
4 ولذلك أفرد بعض المصنفين في الحديث بابا لـ"كان"، وسموه "باب الشمائل"، وقال =(38/357)
ص -259-…بحسب العرف؛ فكأنه احتج عليه في مخالفة ما دوام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال: "بهذا أمرت"1 وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على المنبر: "أية ساعة هذه؟"2، وأشباهه.
وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد، ثم ترك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أهل الأصول: إن لفظ "كان يفعل" يفيد عرفا ذلك. "د".
قلت: في جميع النسخ المطبوعة: "كان فعل يقتضي الكثرة"، وما أثبتناه من الأصل و"ط"، وهو الصواب.
وقال المصنف في "الاعتصام" "1/ 456 - ط ابن عفان": "يأتي في بعض الأحاديث: "كان يفعل" فيما لم يفعله إلا مرة واحدة، نص عليه أهل الحديث".
وانظر: إحكام الأحكام" "1/ 90"، و"جمع الجوامع" "1/ 425" مع "شروحه"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص115"، و"شرح الورقات" "ص155" لابن القاسم.
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 3/ رقم 521" عن ابن شهاب؛ أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما؛ فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري؛ فقال: "ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بهذا أمرت". فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث، أو: إن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، 2/ 356/ رقم 878".(38/358)
وهذا الداخل هو عثمان، كما وقع التصريح به في رواية عند مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، 2/ 580/ رقم 845"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 125/ رقم 1748"، وابن المنذر في "الأوسط" "4/ 42/ رقم 1777".(38/359)
ص -260-…مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم1، ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر؛ حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب؛ فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك2؛ فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام، واستحبه مالك لمن قدر عليه3.
وإلى هذا الأصل4 ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى؛ فعملت بها لزوال العلة بموته، فقالت: "ما رأيت5 رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي [سبحة] الضحى قط، وإني لأسبحها"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التروايح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، ومضى لفظه عند المصنف "2/ 137".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 250/ رقم 2010"، ومالك في "الموطأ" "1/ 114-115".
3 انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 393"، و"الاستذكار" "5/ 158-159"، و"التمهيد" "8/ 119"، وقد اختار التفرد على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، وإلا؛ فلا.
4 الأصل الخاص، وهو ترك العمل خشية أن يفرض لا الأصل الذي فيه الكلام، وهو ترجيح الدليل باستدامة أو أكثرية العمل به. "د".
5 لا ينافي ما جاء عنها في أحاديث أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها أربعا؛ لأن وقت صلاة الضحى ليس من الأوقات التي يكون فيها عادة بين نسائه، وقد ثبت لها فعله صلى الله عليه وسلم للضحى وإن لم تره؛ فلذلك كانت تصليها، ولو كان داوم عليها لاتفق له رؤيته يصليها؛ فلذلك حكمت بأنه ما كان يداوم عليها. "د".(38/360)
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب من لم يصل الضحى ورآه واسعا، 3/ 55/ رقم 1177" بلفظ: "ما رأيت رسول صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها". أي: ما رأيته داوم عليها، وإني أداوم عليها، أفاده ابن حجر، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/ رقم 718" باللفظ المذكور، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول كلها بدلا: من "لأسبحها": "لأستحبها"، وما أثبتناه من "الصحيح" وما بين المعقوفتين استدركناه من "الصحيح" أيضا.(38/361)
ص -261-…وفي رواية: "وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"1.
وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: "لو نشر لي أبواي2 ما تركتها"3.
فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، 3/ 10/ رقم 1128"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/ رقم 718" -والمذكور لفظه- وأحمد في "المسند" "6/ 169"، ومالك في "الموطأ" "1/ 152-153"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ 78"، والطيالسي في "المسند" "1/ 121"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 406"، والنسائي في "الكبرى" "رقم 402"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 49-50".
2 أي: ما كان فرحها بهما عند خروجهما من القبر بِمُلْهٍ لها عن صلاة الضحى، وذلك دليل على تأكدها من رأيها. "د".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 153- رواية يحيى، ورقم 405 - رواية أبي مصعب" من طريق زيد بن أسلم عن عائشة، وفي سماع زيد بن أسلم من عائشة نظر. انظر: "جامع التحصيل" "رقم 211".
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 138" من حديث أبان بن صالح عن أم حكيم عن عائشة به.
وأخرجه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 763"، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" "ق1683" من طريق محمد بن المنكدر، وال
نسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "12/ 390" من طريق عاصم بن عمر بن قتادة؛ كلاهما عن رميثة عن عائشة عنها.(38/362)
ص -262-…فلا حرج على من فعلها1.
ونظير ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يواصل الصيام ثم نهى عن الوصال2، وفهم الصحابة من ذلك -عائشة وغيرها- أن النهي للرفق؛ فواصلوا3، ولم يواصلوا كلهم، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال، ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات.
وأمثلة هذا الضرب كثيرة، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنًا ما كان، وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه، أما فيما كان4 تعريفا بحد وما أشبهه؛ فقد استمر العمل الأول5 على ما هو الأولى؛ فكذلك يكون بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المداومة. "د".
2 مضى تخريج ذلك. "2/ 239".
3 ينظر في تفصيل ذلك: "الاستذكار" "10/ 151 وما بعدها"، و"التمهيد" 14/ 363"، و"القبس" "2/ 478"؛ ففيها كلام جيد على هذه المسألة.
ومن اللطائف ما قاله ابن العربي في "القبس" "2/ 478": "ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث -أي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا... فقد أفطر الصائم"- وذلك أن رجلا قال -وهو صائم-: امرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى بارد، فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصباغ -إمام الشافعية بالجانب الغربي- فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفطر على أحد هذين. ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي بالمدرسة؛ فقال: لا حنث عليه؛ فأنه قد أفطر بدخولها على غير هذين، وهو دخول الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم... وساق الحديث إلى قوله: "فقد أفطر الصائم"، وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك رضي الله عنه".
4 وهو النوع الأول من هذا الضرب المذكور في كلامه آنفا. "د".(38/363)
5 أي: في عهده صلى الله عليه وسلم، وقوله: "فكذلك يكون... إلخ"؛ أي يكون الشأن فيما جاء من الصحابة والسلف موافقتهم فيه له صلى الله عليه وسلم، أي الحكم فيه للعمل الغالب قطعا بدون توهم؛ فقوله: "بعد" بالضم، وقوله: "موافقته" فاعل، ولعل فيه تحريف كلمة موافقتهم له بموافقته لهم كما هو الأنسب، أي: وأما إذا حصل اختلاف بعد لترخيص منهم بسبب اقتضاه؛ فسيأتي أنه وإن كان طريقًا يصح سلوكه؛ إلا أن الأصل هو الأولى، وهذا معنى قوله: "وأما غيره... إلخ"؛ أي: فغير ما وافقوا عليه فربما يفهم فيه أن الحكم ليس للعمل الغالب الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع أن الأمر فيه مثل ما وافقوا عليه؛ كما يتبين ذلك من إرجاع الأمثلة التي حصلت فيها المخالفة إلى أن الأولى فيها أيضا ما كان العمل جاريًا فيه على عهده صلى الله عليه وسلم، وغيره يعتبر مرجوحًا، مع كونه صح في ذاته لسبب اقتضاه. "د".(38/364)
ص -263-…ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك، وأما غيره؛ فكذلك أيضا، ويظهر ذلك بالنظر في الأمثرة المذكورة.
فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم؛ فإن هؤلاء منتصبون1، لأن يقتد بهم فيما يفعلون، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا2 بيان؛ فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداومًا عليه أنه واجب، وسد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع، وفي هذا الكتاب له ذكر، اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان؛ فلا بأس، وسنتهم [سنة] ماضية، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب، مع أنهم لم يجتمعوا3 على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل، ويتحرونه أيضا؛ فكان على قولهم وعملهم القيام في البيوت أولى4، ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي، فكانت أولويته لعذر كالرخصة، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى5؛ فعلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منصوبون".
2 سقطت من "ط".
3 في "ط": "يجمعوا".
4 أي: فهم وإن أقاموها في المسجد بإمام واحد على خلاف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم لهذا العذر ولارتفاع المانع الذي هو خوف الافتراض؛ إلا أن عملهم وقولهم جار على أن الأفضل الموافقة للعمل الغالب في عهده. "د".
5 انظر أيهما الأفضل صلاة قيام رمضان في المساجد أم في البيوت: "الاستذكار" "5/ 158 وما بعدها"، و"التمهيد" "8/ 119"، و"تفسير القرطبي" "8/ 372".(38/365)
ص -264-…تقدير ما دوام عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا، ولذلك يقول بعضهم: لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة؛ لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة.
وأما1 صلاة الضحى؛ فشاهدة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها، وإنما دوام من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت؛ عملا2 بقاعدة الدوام على الأعمال، ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم؛ إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء.
ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق، بل في بعض مؤكداتها؛ كالعيدين، والخسوف، ونحوها وما سوى ذلك؛ فقد بين عليه الصلاة والسلام أن النوافل في البيوت أفضل، حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث3 أفضل من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقابل لقوله: "فقيام رمضان"؛ فالمثالان وكذا مثال الوصال بيان لقوله: "وأما غيره؛ فكذلك أيضا" على ما سبق شرحه. "د".
2 أي: فهم لم يبتدعوا، بل عملوا بقاعدة شرعية لا يعارضها ما خشيه صلى الله عليه وسلم من الإيجاب، ولا ظن الوجوب بفعلهم لأنهم كانوا يخفونها كما قال المؤلف: "إلا أن ضميمة إخفائها... إلخ". "د".(38/366)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 280"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في التطوع في البيت، 1/ 439/ رقم 1378"، وأحمد في "المسند" "4/ 342"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 145/ رقم 865"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 210/ رقم 1202"، والمزي في "تهذيب الكمال" "15/ 22" عن عبد الله بن سعد رضي الله عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد؛ فقال: "قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولإن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة". إسناده صحيح. =(38/367)
ص -265-…صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يُصلى فيها؛ فلذلك صلى عليه الصلاة والسلام في بيت مليكة ركعتين في جماعة1، وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة2، ولم يظهر ذلك في الناس، ولا أمرهم به ولا شهره فيهم، ولا أكثر من ذلك، بل كان [عامة] عمله في النوافل على حال الانفراد؛ فدلت هذه القرائن كلها -مع ما انضاف إليها من أن ذلك3 أيضا لم يشتهر4 في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا- أنه مرجوح، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا؛ فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي هذا الحديث بيان أفضلية صلاة النافلة على الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح به أيضا في حديث زيد بن ثابت الصحيح، أخرج أبو داود في "سننه" "1/ 274/ رقم 1024"بإسناد صحيح عنه مرفوعا: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا؛ إلا المكتوبة".
وأما عموم أفضلية صلاة المرء النافلة في بيته؛ فقد وردت في أحاديث كثيرة، أصحها ما في "الصحيحين": "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة". وانظر: "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 177-178".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، 1/ 488/ رقم 380"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير، 1/ 457/ رقم 266"، ومالك في "الموطأ" "رقم 406 - رواية أبي مصعب و1/ 153- رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "3/ 131، 149، 164".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب الذوائب، 10/ 363/ رقم 5919"، وخرجته في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 83" بتفصيل وإسهاب، ولله الحمد والمنة.
3 في "ط": "ذاك".(38/368)
4 فيكون ما يتعلق بصلاة النافلة جماعة مما حصلت فيه الموافقة لفعله تماما، بحيث لم يوجد ما يقتضي رخصة لمخالفة البعض مثلا، ولا يكون هذا من أمثلة قوله: "وأما غيره". "د".(38/369)
ص -266-…في الرجلين والثلاثة ونحو ذلك، وحيث لا يكون مظنة اشتهار، وما سوى ذلك؛ فهو يكرهه1.
وأما مسألة الوصال2؛ فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم، ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له؛ لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله عليه الصلاة والسلام: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"3، مع أن بعض4 من كاد يسرد الصيام قال بعد ما ضعف: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
وأيضا؛ فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع -وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب6 الأحكام- فكان الأحرى الحمل على التوسط، وليس إلا ما كان عليه العامة وما واظبوا عليه، وعلى هذا؛ فاحمل نظائر هذا الضرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا كره ابن تيمية للإمام الراتب أن يقيم في المسجد جماعة يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل. انظر: "مجموع الفتاوى" له "23/ 113-114".
2 الوصال صوم يومين أو أكثر دون فصل بينهما بفطر في الليل، والسرد أن يتابع صوم الأيام مع الفطر بالليل، ومنه يفهم أن قوله: "مع أن بعض من كان يسرد... إلخ" كلام فيما يشبه الوصال من جهة أن كلا غير ما هو الأولى في نظر الشارع. "د".
قلت: الوصال من المندوب فيما اختص به صلى الله عليه وسلم على ما ذكر الجويني؛ كما في "الخصائص الكبرى" للسيوطي "3/ 284"، وانظر: "المحقق من علم الأصول" "ص53" لأبي شامة، و"أفعال الرسول" "1/ 273" للأشقر.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964" عن عائشة رضي الله عنها، ومضى "2/ 239".
4 هو عبد الله بن عمرو.
5 مضى تخريجه "2/ 240".
6 في باب الرخصة، وأن مقصد الشارع بها الرفق بالمكلف.(38/370)
ص -267-…والضرب الثاني: ما كان على خلاف ذلك1، ولكنه يأتي على وجوه:
- منها: أن يكون محتملا في2 نفسه؛ فيختلفوا3 فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه أو يختلف في أصله4، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب.
كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا، فإن العمل المتصل تركه؛ فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم5، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس6، ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل؛ حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس؛ فقال: "إن تقوموا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة. "ف".
2 أي: يكون وقوعه متفقا عليه، ولكنه يكون محتملا للمعنى المستدل عليه ولغيره كما في القيام للقادم. "د".
3 في "ط": "فيختلف".
4 أي: يكون ثبوته محل خلاف؛ كما في تقييد اليد، وسجود الشكر. "د".
5 بل كان ينهاهم عن ذلك، أخرج البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 946، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل/ رقم 2755"، و"الشمائل" "رقم 328"، وأحمد في "المسند" "3/ 132، 250-251"، والطحاوي في "المشكل" 2/ 39"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 418/ رقم 3784"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 127"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 294/ رقم 3329"، و"الشمائل" "رقم 392" بإسناد صحيح عن أنس؛ قال: "ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا له لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك".(38/371)
6 أخرج أبو داود في "السنن" "رقم 4698"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 140"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "50"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 393" بإسناد صحيح عن أبي هريرة وأبي ذر؛ قالا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب ولا يدري أيهم هو حتى يسأل؛ فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين؛ فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه".(38/372)
ص -268-…نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين"1؛ فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه2 وقوله: "قوموا لسيدكم"3 إن حملناه على ظاهره؛ فالأولى خلافه لما تقدم، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون4 القيام على وجه الاحترام والتعظيم5، أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص39"، وأشار إليه ابن حجر في "الفتح" "11/ 51".
وأسند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ 170/ ب" إلى الأوزاعي؛ قال: "حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز؛ قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا".
2 الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لأخيه من الرضاعة، وأجسله بين يديه، أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 5145" بسند معضل، وفي بعض رواته كلام. انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1120".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "قوموا إلى سيدكم"، 11/ 49/ رقم 6262"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، 3/ 1388-1389/ رقم 1768" عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "قوموا إلى سيدكم". وفيه قصة.(38/373)
والاستدلال بهذا الحديث على القيام فيه نظر، أفاده ابن حجر في "الفتح" "11/ 51"، وزاد: "وقد وقع في "مسند عائشة" عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا، وفيه: "قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم؛ فأنزلوه"، وسنده حسن". قال: وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه". ثم نقل أجوبة حسنة لابن الحاج على المستدلين بهذا الحديث على مشروعية القيام للقادم، ومما ينبغي أن ينتبه له أن الحديث في "الصحيحين" بلفظ: "قوموا إلى"، وليس "قوموا لسيدكم" كما أورده المصنف.
4 في الأصل: "يقوم".
5 وهذا هو الذي كانوا يتحاشونه ويرونه موجبا لكراهيته، كما أشار إليه بقوله: "وإنما يقوم الناس لرب العالمين". "د".(38/374)
ص -269-…له، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود، أو للإعانة على معنى من المعاني، أو لغير ذلك مما يحتمل.
وإذا احتمل الموضع؛ طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير1 معارض له، فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل؛ لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجهًا للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر، وذلك لا يقوى قوة معارضه2.
ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة؛ فإن مالكا قال له: "كان ذلك خاصًّا بجعفر". فقال سفيان: ما يخصه يخصنا، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين3، فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل؛ فجعل معانقة النبي عليه الصلاة والسلام أمرًا خاصًا، أي: ليس عليه العمل؛ فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه.
وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا أو سلمنا صحة ما روي فيه4 فإنه لم يقع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سبق أن قضايا الأعيان لا تقوم حجة إلا إذا عضدها دليل آخر؛ لاحتمال ألا تكون مخالفة... إلخ. "د".
2 أي: لأنه مع كونه قليلا محتمل لغير المعنى المستدل عليه في مقابلة الكثير الذي لا احتمال فيه. "د".
وفي الأصل: "تعارضه".
3 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1663"، وعنه القرطبي في "تفسيره" "15/ 361".
وانظر: جزء "القبل والمعانقة" لابن الأعرابي.
4 ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة، تراها في جزء ابن المقرئ "الرخصة في تقبيل اليد"، وكذا في جزء الغماري "إعلام النبيل"، وكلاهما مطبوع وقال ابن تيمية في "الفتاوى المصرية" "ص563"، ونقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 271": "تقبيل اليد لم يكن يعتادونه إلا قليلا"؛ فالكراهة أن يتخذ التقبيل شعارا، أو أن يكون ذلك لدينا أو لظالم أو مبتدع، أو على وجه الملق. انظر: "شرح السنة" "12/ 293" للبغوي.(38/375)
ص -270-…تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين؛ فدل على مرجوحيته.
ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم1؛ فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه، والنعم التي أفرغت عليه إفراغا؛ فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك، ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك؛ إذ نزلت توبته2؛ فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم.
ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل3 مقدما على الأحاديث؛ إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر4 ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث، وكان ممن أدرك التابعين وراقب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ثبت في غير حديث، مضى تخريج واحد منها "ص163"، وانظر لزاما كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 297-298، 320 - ط دار الحديث".
2 كما في "صحيح البخاري" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك, 8/ 113-116/ رقم 4418"، و"صحيح مسلم" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".
3 المستند إلى الديل الشرعي لا مجرد العمل؛ فالعمل المستمر عنده يرجح الدليل على سائر الأدلة التي لم يصاحبها العمل المستمر، هكذا ينبغي أن يفهم؛ كما ذكره الأصوليون، قالوا: يرجح الخبر على معارضه بعمل أكثر السلف وعمل أهل المدينة، وسيأتي عن مالك أنه قال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه". "د".
قلت: ينظر عن حجية عمل أهل المدينة: رسالة ابن تيمية "صحة أصول أهل المدينة"، ورسالة أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين".
4 في الأصل و"ط": "الأكثري".(38/376)
ص -271-…أعمالهم، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذًا عن العمل المستمر في الصحابة، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قوة المستمر.
وقد قيل لمالك: إن قوما يقولون: إن التشهد فرض. فقال: "أما كان أحد يعرف التشهد؟". فأشار إلى الإنكار عليه1 بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه ما تقدم.
وسأله أبو يوسف عن الأذان؛ فقال مالك: "وما حاجتك إلى ذلك؟ فعجبًا من فقيه يسأل عن الأذان"، ثم قال له مالك: "وكيف الأذان عندكم؟". فذكر مذهبهم فيه؛ فقال: "من أين لكم هذا؟". فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم، فأذن لهم كما ذكر عنهم. فقال له مالك: "ما أدري ما أذان يوم؟ وما صلاة يوم؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده من بعد يؤذنون في حياته وعند قبره، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده"2.
فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في الاتباع وأولى أن يرجع إليه3.
وقد بين في "العتبية"4 أصلا لهذا المعنى عظيمًا يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتيه5 الأمر يحبه فيسجد لله شكرا؛ فقال: "لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس". فقيل له: إن أبا بكر الصديق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "عليهم".
2 المذكور عند عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 50 - ط المغرب"، وعنه الراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص218".
3 تجد قائمة طويلة في كتاب أحمد نور سيف "عمل أهل المدينة" "ص323-359" فيها احتجاج مالك بعمل أهل المدينة، جمعها من "الموطأ" و"المدونة" وكتب العلماء الأقدمين.
4 "1/ 392 - مع "البيان والتحصيل"".
5 كذا في "العتبية" و"ط"، وفي غيره: "يأتي إليه".(38/377)
ص -272-…-فيما يذكرون- سجد يوم اليمامة شكرا1؛ أفسمعت ذلك؟ قال: "ما سمعت ذلك، و[أنا] أرى أن [قد] كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم نسمع له خلافا". ثم قال: "قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده؛ أفسمعت أن أحدا منهم سجد؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء؛ فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك الأمر لا تعرفه؛ فدعه"2.
هذا ما قال.
وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان، وفي أي محل وقع، ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل، ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير.
- ومنها: أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به، أو خاص بحال من الأحوال؛ فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به؛ كما قالوا في مسحه عليه الصلاة والسلام على ناصيته وعلى العمامة في الوضوء: إنه كان به مرض3، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص158".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 468-471 - ط ابن عفان"، وما علقناه على "ص158-159".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، 1/ 308/ رقم 204، 205" عن عمرو بن أمية الضمري؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمح على عمامته وخفيه.(38/378)
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، 1/ 230/ رقم 274 بعد 81" عن المغيرة ضمن حديث فيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفية"، وفي لفظ برقم "274 بعد 82": "يمسح على الخفين، ومقدم رأسه، وعلى عمامته". وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن أبي بكر وعمر في المسح على العمامة؛ حتى قال الإمام أحمد: "المسح على العمامة من خمس وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وانظر بسط المسألة في: "المغني" "1/ 300"، و"المجموع" "1/ 406"، و"الأوسط" "1/ 466-472"، و"مسائل أحمد" "ص8" لأبي داود، والحجة على أهل المدينة" "1/ 16"، و"الموطأ" "1/ 43"، و"الأم" "1/ 26".(38/379)
ص -273-…بعد ثلاثٍ بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخًا، وهو قوله: "إنما نهيتكم لأجل الدافة"1.
- ومنها: أن يكون مما فعل فلتة2؛ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره، ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأذن فيه ابتداء لأحد؛ فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره؛ كما في قصة الرجل3 الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله؛ فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنه لو جاءني لاستغفرت له"4، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد رضي الله عنه مرفوعا.
قلت: وقد جاء في الأصل و"ف": "الرأفة"، وهو خطأ.
2 بدون سبق تشريع فيه. "د".
3 هو أبو لبابة الأنصاري في قصة بني قريظة؛ لما استشاروه أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم: نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ يعني: الذبح، وسيأتي تخريج القصة.
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "21/ 151-152" هكذا مطولا.
وأخرج القصة مختصرة ضمن قصة مطولة أخرى أحمد في "المسند"، وفيه محمد بن عمرو ابن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 138".
وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" "21/ 81-83": "أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه""، ثم قال: "هذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة". وانظر "سيرة ابن كثير" "3/ 238"، و"تفسير القرطبي" "14/ 139-140".
5 بقبول توبته، وقد أبره صلى الله عليه وسلم في يمينه؛ فأطلقه بيده الكريمة. "د".(38/380)
ص -274-…فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دوامًا، أما الابتداء؛ فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما دوامًا؛ فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه، وهذا خاص بزمانه؛ إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي، وقد انقطع بعده؛ فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر1 الحكم فيه.
وأيضا؛ فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله، لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده؛ فإذا العمل بمثله أشد غررًا؛ إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له، ولو كان [قبله]2 تشريع؛ لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته.
- ومنها: أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم يتابع عليه؛ إذ كان في زمانه عليه الصلاة والسلام ولم يعلم به فيجيزه أو يمنعه؛ لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردًا وهو صائم في رمضان؛ فقيل له: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال: "إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا، وإنه ليس بطعام ولا شراب"3.
قال الطحاوي: "ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة والسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "ينظر".
2 سقط من "ط".
3 أخرحه أحمد في "المسند" "3/ 279"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 348"، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83"، وأخرجه البزار في "مسنده" "رقم 1022 - زوائده" أيضا، وزاد: "فذكرت ذلك لسيعد بن المسيب؛ فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ"، وقال: "لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة". انظر "مجمع الزوائد" "3/ 171-172".(38/381)
ص -275-…عليه1؛ فيعلّمه الواجب عليه فيه". قال2: "وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يرَ ذلك عمر شيئا، إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره"3.
فكذلك ما روي عن أبي طلحة؛ قال: "والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع؛ قال: كنت عن يمين عمر بن الخطاب؛ إذ جاءه رجل، فقال: زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل4 من الجنابة برأيه. فقال: اعجل5 به علي! فجاء زيد، فقال عمر: قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي عليه الصلاة والسام برأيك؟ فقال زيد: والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي، ولكني6 سمعت من أعمامي شيئا فقلت به. فقال: من أي أعمامك؟ فقال: من أبي بن كعب، وأبي أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إليّ عمر، فقال: ما يقول هذا الفتى؟ فقلت: إنا كنا نفعله7 على عهد رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد جاء في رواية فيها عقب نحو الأثر السابق وفيها زيادة عن أنس: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال: "خذها عن عمك". أي: أبو طلحة في أكله البرد، وقوله عنه ما قال.
أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 347"، والبزار في "المسند" "رقم 1021 - زوائده"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 15/ رقم 1424 و7/ 73-74/ رقم 3999" بإسناد ضعيف فيه علي بن زيد، وهو ضعيف، قال عنه شعبة: "حدثنا علي بن زيد، وكان رفاعا"، ورفعه منكر؛ فقد رووه الثقات عن أنس ووقفوه على أبي طلحة.
2 في "مشكل الآثار" "2/ 348-349"، ونقل المصنف عنه بتصرف.
وفي نسخة الأصل: "قال: فقد...".
3 إذ لو أخبر بذلك؛ لكان مما يصلح العمل على وفقه. "ف".
4 في "المشكل": "يفتي الناس بعدم الغسل".
5 في "ط": "اعجلوا".
6 في "المشكل": "ولكن".
7 أي: الجماع بغير إنزال. "د".(38/382)
وقال "ف": يشير إلى أنهم كانوا لا يغتسلون عند عدم الإنزال، والعمل الكثير الذي استمر الاغتسال مطلقا أنزل أو لا من التقاء الختانين".(38/383)
ص -276-…صلى الله عليه وسلم ثم لا نغتسل. قال: أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقلت: لا". ثم قال في آخر الحديث: "لئن أُخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة"1.
فهذا أيضا من ذلك القبيل2، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال؛ فكفى بمثله حجة على الترك.
- ومنها: [إمكان] أن يكون عمل به قليلا ثم نسخ، فترك العمل به جملة؛ فلا يكون حجة بإطلاق، فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام.
ومثاله حديث الصيام عن الميت3؛ فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس4،]وهما أول من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 348-349" و"شرح معاني الآثار" "1/ 58-59"، وأحمد في "المسند" "5/ 115"، والطبراني في "الكبير" "5/ 34-35/ رقم 4536" بسند رجاله رجال الصحيح؛ غير ابن إسحاق، وهو مدلس؛ وقد عنعن.
2 المعروف فيه أنه مما عمل به قليلا ثم نسخ، أو تخصص حديثه الذي هو قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" بالحلم، وقد ورد في الحديث: "لعلنا أعجلناك؟". فقال: نعم يا رسول الله. قال: "فإذ أعجلت أو أقحطت؛ فلا غسل عليك". وهذا لفظ البخاري ومسلم، والإقحاط عدم الإنزال، وعن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها"، أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي. "د".
3 مضى لفظه وتخريجه "ص198".
4 لفظ حديث عائشة مضى "ص198" ووقع في رواية إسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 900" عنها: "من مات وعليه صوم نذر؛ فليصم عنه وليه". قال إسحاق عقبه: "السنة هذا".
وتقدم ايضا عن ابن عباس في قضاء صوم النذر، وهو في "الصحيحين"؛ فالقول بقضاء صيام الولي مقيد بصيام النذر لأسباب:
الأول: الرواي المطلقة تحمل على المقيدة إن اتحد السبب، وهذا باتفاق.(38/384)
الثاني: ورد التقييد بالنذر في رواية إسحاق، وهو الذي أجاب عنه ابن عباس. وانظر: "شرح السنة" "6/ 324". =(38/385)
ص -277-…خالفاه1 فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، فقالت: "أطعموا عنها"2، وعن ابن عباس]3؛ أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد"4.
قال مالك: "ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثالث: من روى حديث عائشة: "من مات وعليه صيام"، قال: "هذا في النذر"، كما قال أبو داود، انظر: "مسائل أحمد" لأبي داود "ص69"، و"الاستذكار" "10/ 170".
الرابع: "ثبت عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان؛ فقال: يطعم، وفي النذر: يصام عنه؛ كما في "مصنف عبد الرزاق" "4/ 236، 237، 240"، و"سنن البيهقي" "4/ 253"، و"المحلى" "6/ 263"، و"أحكام القرآن" "1/ 211" للجصاص، و"الاستذكار" "1/ 171-172"، و"المجموع" "6/ 431".
ويحمل قول ابن عباس: "لا يصومن أحد عن أحد" على من شهد رمضان، أما صيام النذر؛ فإن المرء أوجبه على نفسه، فإذا مات ولم يصمه؛ انتقل إلى أوليائه، فيصومون عنه كما ينتقل الدين إلى تركته التي أصبحت بعد موته من حق أوليائه، فيخرج منها.
الخامس: إعمال الأدلة كلها خير من إهمالها أو إهمال بعضها، وفي التوجيه السابق إعمال بالمرفوع والموقوف، وما أحسن قول ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 173": "لولا الأثر المذكور؛ لكان الأصل القياس على الأصل المجتمع عليه في الصلاة، وهو عمل بدن لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يصلي أحد عن أحد". وانظر: "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 279-282".
1 في "ط": "خالفهما".
2 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 142"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 4" بإسناد صحيح.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "4/ 257"، وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 202 - رواية يحيى، ورقم 835 - رواية أبي مصعب عن ابن عمر مثله.(38/386)
5 "الموطأ" "1/ 323/ رقم 837 - رواية أبي مصعب".(38/387)
ص -278-…فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم، وهو الذي عول عليه في المسألة1، كما أنه عول عليه في جملة عمله.
وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل، وقيل له: أتسجد أنت فيه؟ فقال: "لا". وقيل2 له: إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز. فقال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من حديث الناس، وأعظم من ذلك القرآن، يقول الله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]؛ فالقرآن أعظم خطرا وفيه الناسخ والمنسوخ3؛ فكيف بالأحاديث؟ وهذا مما لم يجتمع عليه"4.
وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر؛ إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانتصر لهذا ودافع عنه دفاعا قويا ابن العربي في "القبس" "2/ 517-519"، قال في آخر مسألة الصيام عن الميت: "فأنت إن اتبعت حديثا واحدا دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث وتستخلص الحق من بينها؛ فأنت ممن في قلبه زيغ، أو عليه رين، والذي تفطن له مالك رضي الله عنه تلقفه من عبد الله بن عمر تعليمًا لا تقليدًا".
قلت: وقد سبق استخلاص الحق في مسألة الصيام عن الميت بالتفرقة بين صيام النذر وغيره، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
2 في "ط": "فقيل".
3 هذا بناء على تفسير المحكم بالناسخ والمتشابه بالمنسوخ، أما على ما هو مشهور من أن المحكمات الواضحات؛ فلا يأتي استشهاد الإمام بالآية. "د".
4 انظر مذهب مالك والخلاف عليه في هذه المسألة أو مناقشته فيها في: "الموطأ" "1/ 207- رواية يحيى"، و"المنتقى" "1/ 349" للباجي، و"شرح الزرقاني على الموطأ" "1/ 371"، "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 308"، و"الأم" "7/ 187، 188".(38/388)
وانظر أدلة المسألة في: "نصب الراية" "2/ 182"، و"فتح الباري" "2/ 377"، و"الدراية" "1/ 211"، و"شرح معاني الآثار" "1/ 353"، و"عمدة القاري" "7/ 96"، و"التلخيص الحبير" "2/ 8".
5 أصله من كلام لابن عباس تذكره كتب الأصول غالبا. وهو قوله: "كنا نأخذ بالأحدث =(38/389)
ص -279-…وروي عن ابن شهاب؛ أنه قال: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه"1، وهذا صحيح، ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه؛ انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر، والحمد لله.
وثم أقسام أخر يستل على الحكم فيها بما تقدم ذكره.
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين؛ فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل؛ إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى2 معنى التخيير، ولم يخف3 نسخ العمل، أو عدم 4 صحة في الدليل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالأحدث". انظر مثلا: "مختصر المنتهى" "ص133" لابن الحاجب، و"اللمع" للشيرازي "ص239".
أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، 2/ 784-785" عن ابن عباس: "خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره".
وقصر ابن كثير في تخريجه في "تحفة الطالب" "رقم 204"؛ إذ اقتصر على إيراد ما عند البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان على حديث في آخره: "وإنما يؤخد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر".
والأشد منه قصورا ما فعله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع" "رقم 70"؛ إذ أورد تحته: "كان آخر الأمرين..."، و"أكل آخر أمريه..."، ولم يخرج الأثر المذكور، والله الموفق.
1 أخرجه الحازمي في "الاعتبار" "ص3-4"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 3".
2 الضمير للقليل في قوله: "العمل بالقليل"؛ أي: بأن كان الدليل الذي أخذ به يصلح معارضًا لما عمل به الأكثر، ولا يكون ذلك إلا حيث يحتج به وإن ترجح الآخر بكثرة العمل به. "د".
3 الضمير للعامل؛ فهو مبني للفاعل، وقوله: "أو احتمالا" معطوف على مفعول. "د".(38/390)
قلت: لأنه ضبطها بفتحتين، أما "ف"؛ فقد قال: "بضم الياء، وفتح الخاء".
وفي "م": "يُخْفَف".
4 في الأصل: "وعدم".(38/391)
ص -280-…أو احتمالًا1 لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك.
أما لو عمل بالقليل دائما؛ للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها.
والثاني2: استلزام ترك ما داوموا عليه؛ إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث3: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه؛ إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به؛ كان أشد.
الحذرَ الحذرَ4 من مخالفة الأولين! فلو كان ثم فضل [ما]5؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان.
والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال؛ فهو أشد مما قبله، والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة؛ إذ لو كان دليلا عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل6؛ فما عمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله: "أو احتمال" بالعطف على ما قبله، أي: أمن ذلك كله، تأمل "ف".
2 لازم لما قبله؛ أي: خالفهم فعلا وتركا، وهما متلازمان في مثله. "د".
3 الأول والثاني عامان، وهذا الثالث خاص بما إذا كان من مقتدى به. "د".
4 منصوب على التحذير. "ف".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
6 أي: ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه، تأمل "ف".(38/392)
ص -281-…المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة1، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ2، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى3.
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما4 مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما5 في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم بما هو شهير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما جاء في الحديث الصحيح بشواهده، ومضى تخريجه "2/ 434".
2 هذه قاعدة بديعة، ركز عليها المصنف كثيرا فيما سبق وفيما سيأتي، وعليها مدار نجاة المرء، وتكلم عليها الفقهاء المحققون كثيرا، مثل: الشافعي في "رسالته" البغدادية، ونقل عنها ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 80 و1/ 69- ط دار الحديث"، وأولاها عناية تامة ابن تيمية؛ كما تراه في "مجموع الفتاوى" "3/ 157 و4/ 91-94 و132 وما بعدها، و157-158 و5/ 7، 8 و13/ 24"، و"شرح العقيدة الأصفهانية" "ص128"، و"نقض المنطق" "7، 8"، و"الإيمان" "ص417"، وكذلك تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 79 وما بعدها و4/ 118 وما بعدها و147-155"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 345-349".
3 فهو مصادم بعمل السلف الأولين. "ف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "يحملونها"، قال "ف": "الأنسب يحملونها، وكذا قوله بمشتبهاتها، الأنسب فيه التثنية".
5 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "بمشتبهاتها".(38/393)
ص -282-…في النقل عنهم، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8].
وكثير من فرق الاعتقادات1 تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه؛ مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك.
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة2، وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع3 بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسُونه فيما بينهم"4 الحديث، والحديث الآخر: "ما اجتمع قوم يذكرون الله..."5 إلخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ف": "تعلق -أي: تمسك به- كعمل ملحدي زماننا ومتفلسفة عصرنا، وفقنا الله للهدى".
2 في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الأسكندرية؛ فكره ذلك، وأنكر أن يكون من عمل الناس، قال في "الاعتصام" "2/ 31 و1/ 509 - ط ابن عفان" بعد ذكر ما تقدم: "وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده"، وقال قبل ذلك: "ومن أمثلة ذلك قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد؛ فإن هذه الهيئة زائدة على مشروعية القراءة". وانظر في بدعية ذلك أيضا: "الحوادث والبدع" "ص161"، وما سيأتي "ص497".
3 انظر ما سيأتي "ص497".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، 4/ 2074/ رقم 2699" عن أبي هريرة مرفوعا ضمن حديث طويل، مما فيه: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".(38/394)
5 أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20577"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 94"، والبغوي في "شرح السنة" 4/ 64-65/ رقم 947"- وإسناده صحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعا، وتتمته: "إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"، وله تتمة في "الصحيحين".(38/395)
ص -283-…وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية [الأنعام: 52].
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم: "دونكم يا بني أرفدة"1.
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة2؛ فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 950، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94-95/ رقم 2907"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 609/ رقم 892 بعد 19" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
وقال "ف" على "بني أرفدة": "هو لقب لجنس من الحبشة: يرفضون، أو هو اسم أبيهم الأقدم".
2 وكتاب "الاعتصام" للمؤلف قد أوضح الطريق لتمييز المصالح المرسلة عن البدع على وجه محكم متين، وعالج المسائل المذكورة وبين أنها ليست من البدع في أي وجه من الوجوه؛ فانظره غير مأمور، وكتب "ف" ما نصه: "وقد أسهب المؤلف في ذلك وفي معنى البدعة وأقسامها وما يرتبط بها في كتابه "الاعتصام"، وأنه لكتاب قيم جليل ينبغي الاطلاع عليه ليميز الإنسان بين البدع والمصالح المرسلة؛ فإنه مما اشتبه على كثير من الناس فخلطوا".(38/396)
ص -284-…تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين؛ فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على1 هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا2 عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالاتهم3 وعملهم مخطئون ومخالفون4 للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛ قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على5 زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المُتَقَوِّل، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصلاح؛ فهو الضلال بعينه.
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين، وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ؛ فلا مخالفة، إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "من".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو حادوا".
3 كذا في "ط" وفي غيره: "استدلالهم".
4 في "ط": "مخطئون مخالفون".
5 في "م": "عن".(38/397)
ص -285-…المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده، وهو البدعة المنكرة، قيل له: بل هو مخالف؛ لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين:
أحدهما:
أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه؛ فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له، فمن استلحقه صار مخالفا للسنة، حسبما تبين في كتاب المقاصد.
والثاني:
أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد؛ فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله، وهي المصالح1 المرسلة، وهي من أصول الشريعة المبني عليها؛ إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع، حسبما تبين في علم الأصول؛ فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع.
وأيضا؛ فالمصالح2 المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل؛ فلا مزيد عليه، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه؛ لم يكن حجة في غيره3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المصلحة".
2 في "ط": "فالمسائل".
3 قال الآمدي في "الإحكام" [المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول، 2/ 480]: "أثبته الأكثرون"، ثم قال في [باب المطلق، 3/ 3]: "كل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار، فهو بعينه جارٍ في تقييد المطلق". نقول: ولا شك أن المطلق ليس حدة في غير ما قيد به، والمسألة في ابن الحاجب أيضا في باب التخصيص. "د".(38/398)
ص -286-…فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق؛ فرأيت الأولين قد عنوا1 به على وجه واستمر عليه عملهم؛ فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر، بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب، لكن على وجه آخر؛ فإذًا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه، ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة؛ فلم يبق إذًا أن يكون إلا من2 قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين، وكفى بذلك مزلة قدم، وبالله التوفيق.
فصل
واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة بل فيها ما هو3 خفيف، ومنها ما هو شديد، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا؛ فلنَكِلْهُ إلى نظر المجتهدين، ولكن المخالف على ضربين:
أحدهما:
أن يكون من أهل الاجتهاد؛ فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع4 أو لا، فإن كان كذلك؛ فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه؛ فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول.
والثاني:
أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"ط": "عملوا".
2 في "ط": "فلم يبق إلا أن يكون من...".
3 قال "ف": "لعله منها ما هو... إلخ" بدليل ما بعده، وهو ظاهر.
4 كما سبق في مسألة الوصال في الصيام من بعض الصحابة بعد ورود النهي عنه. "د".(38/399)
ص -287-…مغالطة إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة، ولا رأوه أهلا للدخول معهم؛ فهذا مذموم.
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم1؛ لأن المجتهدين وإن اختلفوا فالأمر العام في المسائل أن يختلفوا إلا فيما اختلف فيه الأولون2، أو في مسألة [من] موارد الظنون لا ذكر لهم فيها؛ فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه العمل.
أما القسم الثاني3؛ فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان؛ فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع؛ فإنه نوع من الإجماع فعلي، بخلاف4 ما إذا خالفه؛ فإن المخالفة موهنة له أو مكذبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لوجود التزكية والهدي الحسن في حقهم، وبعدهم عن ركوب ما لا يرتضى.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون"!! وعلق "د" على "اختلف" بقوله: "أي: مذهبا ورأيا، وكان عمل كل منهم جاريا على مقتضى مذهبه، هذه صورة، أو في مسألة لم تظهر للمتقدمين؛ أي: الصحابة مثلا اختلاف في المذهب، ولم يحصل استدلال كل على مذهبه، ولكن روي عنهم الاختلاف في العمل، فإذا اختلف المجتهدون بعد ذلك يكون رأي كل منهم موافقا لرأي البعض وعمله في الصورة الأولى، وموافقا للعمل في الصورة الثانية، لكن بقيت صورة ثالثة، وهي أنه قد يختلف المجتهدون في أمر لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه، فضلا عن الرأي؛ فلا يأتي فيه قوله: "والثاني يلزم منه الجريان... إلخ"؛ لأن ذلك إنما يكون فيما حصل فيه منهم عمل؛ إلا أن يقال: إنه قيد كلامه أولا بقوله: "في الأمر العام"؛ أي: إن هذا في الجملة والأغلب".
3 وهم ممن ليسوا أهلا للاجتهاد وأدخلوا أنفسهم فيه غلطا. "د".(38/400)
4 هكذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "الفعلي"، ثم ذكر في الحاشية أنه في نسخته: "فعلي".(38/401)
ص -288-…وأيضا؛ فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل1 المقدرة الموهنة2؛ لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة، لا يستقيم إعمال الدليل دونها، والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها [حتما]3، ومعين لناسخها من منسوخها، ومبين لمجملها، إلى غير ذلك؛ فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم، ولذلك اعتمده مالك بن أنس ومن قال بقوله، وقد تقدم منه أمثلة.
وأيضا؛ فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها.
ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها4 في الافتئات على الشريعة، وانظر في مسألة التداوي من الخمار في "درة الغواص"5 للحريري وأشباهها، بل قد استدل بعض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الاحتمالات العشرة؛ من المجاز، والنسخ، والتعارض العقلي... إلخ. "د".
2 في الأصل: "المكدرة".
3 سقط من "د".
4 في "ف": "ما أشنعهما".
5 جاء فيه "ص122-123 - ط ليدن" ما نصه: "حكي أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار وقد علق به؛ فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله عن ذلك؛ فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال النبي عليه السلام: "استعينوا في الصناعات بأهلها"، والأعشى هو المشهور بهذه =(38/402)
ص -289-…النصارى1 على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيل؛ فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد، {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43].
فلهذا2 كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل، ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذة…وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام؛ فقال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء…وداوني بالتي كانت هي الداء
فأسفر حينئذ وجه حامد بالجواب، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟".
وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله عز وجل أولا، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبين الفتيا، وأدى المعنى وتقصى من العهدة؛ فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة.
قال "د": "ولا شك أن هذا مجون مرذول من قاضي القضاة لا يصدر إلى عن الفساق المستهترين".
قلت: وحديث: "استعينوا في الصناعات بأهلها" ذكره الثعالبي في كتاب "اللطائف واللطف"، وابن النجار في "تاريخه" ضمن القصة المذكورة، وهو مما لا سند له. انظر: "الدرر المنتثرة" "رقم 81"، و"التمييز" "127"، و"كشف الخفاء" "رقم 340"، و"أسنى المطالب" "178".
1 وما زالوا يفعلون، وكتب ردا عليهم الشيخ عبد الله القلقيلي رحمه الله تعالى بعنوان: "ليس في كتاب الله ما يدل على أن المسيح ابن إله أو أنه إله"، وهو مطبوع في رسالة لطيفة.
2 هكذا في الأصول و"ط"، وفي "ف": "فهذا كله"، قال: "الأنسب: فلهذا كله".(38/403)
ص -290-…المسألة الثالثة عشرة1:
فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما:
أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن2 توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
والثاني:
أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر [في]3 بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة.
ويظهر هذا المعنى من4 الآية الكريمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها، وغنما مرادجهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الادلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 203-220".
2 في الأصل: "فإن هذا".
3 هكذا هي في الأصل، و"ط"، وفي "د" و"ف" و"م": "أن يظهر بادئ"، قال "د": "لعل الأصل بأن يظهر"، وكتب "ف": "لعله إن ظهر في بادئ الرأي الموافقة؛ أي: وبعد النظر والتمحيص يظهر نبو الدليل عن الغرض".
4 في "م": "في".(38/404)
ص -291-…مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، ويقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى.(38/405)
ص -292-…المسألة الرابعة عشرة:
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين1:
أحدهما:
الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة، وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.
والثاني:
الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع2 الأخبثان، وبالجمة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي.
فإذا تبين المعنى المراد؛ فهل يصح الاقتصار في الاستدلال على3 الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد4 دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها؟ هذا مما فيه نظر وتفصيل.
فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أو لا؛ فإن أخذه مجردا صح الاستدلال، وإن أخذه5 بقيد الوقوع فلا يصح6، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيقول في آخر المسألة: "وإذا اعتبرت الأقضية والفتاوى في القرآن والحديث؛ وجدتها على هذا الأصل"، يعني: فالمسالة تساعدك على تنزيل ما ورد فيها من ذلك على ما تعلمه من هذا الأصل. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ويدافعه".
3 في "د": "عن".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يتقيد".
5 في الأصل: "يأخذه".
6 ليس كل ما اعتبر فيه الوقوع ينضم إليه توابع تخرجه عن الحكم الأصلي، وعليك بالنظر =(38/406)
ص -293-…المعين، وتعيين المناط موجب -في كثير من النوازل- إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها؛ إذ ليس موضع الحاجة، بخلاف [ما]1 إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال؛ فلا بد من اعتباره.
فقول الله تعالى: {يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 95]، لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط [أصلي]1 من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابع؛ فلم يتنزل2 حكم أولي الضرر، ولما اشتبه3 ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء، يستوي4 فيه ذو الضرر وغيره، فخاف من ذلك وسأل الرخصة؛ فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر}.
ولما قال عليه الصلاة والسلام: "من نُوقش الحساب؛ عُذب"5 بناء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أمثلته السابقة لتعلم منها صحة هذا، وأيضا سيقول بعد: "موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم"؛ أي: إن هناك نوازل أيضا لا ضمائم لها، وعليه، فلو أخذ الدليل معتبرا فيه الواقع الذي لا ضمائم فيه، وجعل الدليل مفردًا؛ فهو صحيح لأنه لم يختلف حكمه عن الحكم الأصلي، ولم يقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره كما قال؛ فإطلاقه عدم الصحة غير ظاهر، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} نازل على المناط ملاحظ فيه الواقع المعتاد، وانظر قوله بعد: "فأما إن لم يكن ثم تعيين... إلخ"، وقوله أيضا: "فإن سأل عن مناط غير معين... إلخ". "د".
1 سقطت من "ط".
2 في "ط": "ولم ينزل".
3 في "ف": "ولما شبه"، قال: "ولعله: ولما اشتبه"، وفي "ط": "ولما تنبه".(38/407)
4 هذا مبني على أن الآية بعد نزول الاستثناء أفادت أن ذوي الضرر يستوون مع المجاهدين، وليس كذلك؛ لأن الآية إنما تفيد أنهم خارجون عن هذه المقارنة، وأنهم أفضل فقط من القاعدين بغير عذر، وهذا ما فهمه ابن أم مكتوم السائل؛ فلذلك كان يذهب إلى الجهاد بعد ذلك ويقف في الصفوف. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876" عن عائشة رضي الله عنها، وهو قطعة من حديث.(38/408)
ص -294-…تأصيل قاعدة أخروي، سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]؛ لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث؛ فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"1 إلخ؛ فسألته عائشة عن هذه الكراهية: هل هي الطبيعية2 أم لا؟ فأخبرها أن "لا" وتبين مناط الكراهية المرادة.
وقال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] تنزيلا على المناط المعتاد، فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد وهو المرض؛ بيَّنه عليه الصلاة والسلام بقوله وفعله3 حين جُحِش شِقُّه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا وكافل اليتيم كهاتين"4، ثم لما تعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقائق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، 11/ 357/ رقم 6507"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، 4/ 2065/ رقم 2683" عن عبادة بن الصامت مرفوعا.
2 فهمت أنه من أحب الموت أحبه الله، ومن كره الموت كرهه الله، ومعلوم أن النفس بمقتضى الفطرة تكره الموت؛ فخافت وقالت: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته؛ فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته؛ فليس شيء أكره إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه".
3 فقد قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به..." إلى أن قال: "وإذا قعد فاقعدوا، وصلى بهم قاعدا" الحديث متفق عليه، ومضى تخريجه "1/ 467، 523".
قال "ف": "جحش: بالنباء للمجهول؛ أي: انخدش جلده، وفي الحديث أنه سقط من فرس فجحش شقه"، وقال "ماء": "جرح شقه".
قلت: مضى تخريج سقوطه صلى الله عليه وسلم عن فرسه في "1/ 523".(38/409)
4 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب اللعان، 9/ 439/ رقم 5304، وكتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، 10/ 436/ رقم 6005" عن سهل بن سعد مرفوعا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا.(38/410)
ص -295-…مناط فيه نظر؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: "لا تولين مال يتيم"1.
والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى، واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل، فلو فرض نزول حكم عام، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه؛ لكان الجواب على وفق هذه القاعدة، نظير وصيته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر؛ كما قال: "قل ربي الله ثم استقم"2، وقال لآخر: "لا تغضب"3، وكما قَبِلَ من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا، رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" عن أبي ذر.
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، 4/ 607/ رقم 2410" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "4/ 20"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، 2/ 1314/ رقم 3972"، وأحمد في "المسند" "3م 413 و4/ 384-385"، والدارمي في "السنن" "2/ 296"، والطبراني في "الكبير" "7/ 78/ رقم 6396"، وابن حبان في "الصحيح" "13/ 5/ رقم 5698، 5699"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 323/ رقم 1585"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 1، 6"، الخطيب في "التاريخ" "2/ 370 و9/ 234 و454" عن سفيان بن عبد الله الثقفي به، وهو صحيح.(38/411)
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، 1/ 65/ رقم 38"، وأحمد في "المسند"3/ 413"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 222/ رقم 1584"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 16"عن سفيان بن عبد الله الثقفي؛ قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 519 / رقم 6116" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: "لا تغضب"، فردد مرارا؛ قال: "لا تغضب".
وفي "مسند أحمد" "2/ 175" ما يدل على أن السائل هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإسناده حسن.(38/412)
ص -296-…بعضهم جميع ماله1، ومن بعضهم شطره2، ورد على بعضهم ما أتى به3 بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله، إلى سائر الأمثال.
فصل
ولتعين المناط مواضع:
- منها: الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام، كما إذا نزلت آية أو جاء حديث على سبب؛ فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق البيان التمام فيه؛ فقد قال تعالى4: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [فَتَابَ عَلَيْكُمْ]} الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أبو بكر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70".
2 وهو عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70".
3 كما حصل مع أبي لباباة وكعب بن مالك رضي الله عنهما، ومضى تخريج ذلك "ص70".
4 ليست الآيتان والحديثان من المناط الخاص المفروض فيه أنه يختلف حكمه عن العام بسبب طروء عوارض؛ حتى يكون من الاقتضاء التبعي الذي يخالف حكم الأصل، ويكون الحكم فيه مقصورا عليه بحسب هذه العوارض؛ فإن إباحة مباشرة النساء ليلة الصيام ليست قاصرة علىحالة من كان يختان نفسه، بل ذلك عام، وكذا إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ليست خاصة بمن يخافون عدم العدل في اليتامى، وكذا كون الأعمال بالنيات ليس قاصرا على مسألة الهجرة، وكذا الوعيد في عدم استيعاب الغسل للأعضاء ليس قاصرا على الأعقاب، كما قال المؤلف؛ فالأحكام فيها ليست قاصرة على المناط وهو السبب، بل حكمه حكم غيره، وسيأتي له أنهما إذا لم يختلفا؛ فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص؛ فهذه الأمثلة منه، أما المناطات الخاصة المخالفة لحكم العام فقد ذكر أمثلتها قبل هذا الفصل؛ فلا يشتبه عليك المقام. "د".(38/413)
ص -297-…[البقرة: 187]؛ إذ كان ناس يختانون أنفسهم؛ فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعًا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ1} الآية [النساء: 3]؛ إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا، وما أشبه ذلك.
وفي الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله..."2 الحديث، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب، وقال: "ويل للأعقاب من النار"3 مع أن غير الأعقاب يساويها حكما، لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومع ذلك كثير.
- ومنها: أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم [عام]، أو خارجًا عنه، ولا يكون كذلك في الحكم4؛ فمثال الأول ما تقدم في قوله عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب؛ عذب"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة منها "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 91/ رقم 1"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907" عن عمر رضي الله عنه.
3 وردت في هذا الباب أحاديث عديدة، سردها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الطهور" "ص374-384" تحت "باب غسل القدمين ووجوب ذلك مع العقبين، رقم 371-381"، وقد خرجتها بتفصيل وإسهاب في التعليق عليه، ولله الحمد والمنة.
ومما ورد في ذلك حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 60، 69، 163"، ومسلم في "الصحيح" "1/ 214/ رقم 241" وغيرهما.
4 أي: فبين الشارع المناط، ويزيل اللبس. "د".
5 مضى تخريجه "ص293"، وهو في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها.(38/414)
ص -298-…وقوله: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه"1.
ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل عليّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [إِذَا دَعَاكُمْ]} الآية [الأنفال: 24]؟"2.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية.
- ومنها: أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء؛ فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين، وقد يقع لبعضهم دون بعض؛ فمثال العام قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]؛ فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة؛ فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله مبينة لذلك.
ومثال الخاص3 قصة عدي بن حاتم4 في فهم الخيط الأبيض من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص294" وهو في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، هو تتمة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ...}، 8/ 307/ رقم 4647" عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه؛ قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني؛ فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته؛ فقال: "ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ...}...".(38/415)
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 450 و4/ 211"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2م 139"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب، 2/ 150/ رقم 1458"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، 2/ 1244/ رقم 3785".
3 فإن الإجمال كان عنده خاصة، ولم يكن مجملا عند الصحابة في الآيتين. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ =(38/416)
ص -299-…الخيط الأسود؛ حتى نزل بسببه: {مِنَ الْفَجْر} [البقرة: 187].
وقصته1 في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لَكُمُ}، 8/ 182/ رقم 4509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، 2/ 766-767/ رقم 1090" عن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]؛ قال له عدي ين حاتم: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار". لفظ مسلم.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 4511"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1091" عن سهل بن سعد؛ قال: أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما؛ فأنزل الله بعده: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ فعلموا أنما يعني الليل من النهار.(38/417)
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة التوبة، 5/ 278/ رقم 3059"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 81"، والطبراني في "الكبير" "17/ 92/ رقم 218"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 490-491"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 116" و"المدخل" "رقم 261"، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "2/ 230"- المزي في "تهذيب الكمال" "ق1090" من طرق عن عدي بن حاتم؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي! اطرح عنك هذ الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه".
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 365" في تخريجه: "أخرجه الترمذي وحسنه"، ولم يحسنه الترمذي. وانظر: "تحفة الأشراف" "7/ 284"، =(38/418)
ص -300-…وقصة ابن عمر1 في طلاق زوجته، إلى أمثال من ذلك كثيرة.
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة.
فأما إن لم يكن ثم تعيين2؛ فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و"العارضة" "11/ 246".
قلت: غضيف ضعيف، ضعفه الدارقطني. انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 430"، و"اللسان" "4/ 240".
وللحديث شاهد أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 272"، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "السنن" "10/ 116"عن حذيفة موقوفا، وله حكم الرفع؛ كما هو مقرر في علم المصطلح، وله شاهد آخر جيد من حديث أبي العالية أخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 81".
فالحديث حسن بطرقه المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه" الإيمان" "64"، وعزاه ابن كثير في "التفسير" "2/ 348" للإمام أحمد من حديث عدي، ولم أظفر به في "مسنده" "4/ 256، 377" "مسند عدي".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، 9/ 351/ رقم 5252"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093" عن ابن عمر؛ أنه طلق أمرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلق لها النساء". لفظ مسلم.
2 وفي هذه الحالة لا يظهر فرق بين الأخذين؛ لأن فرض الوقوع المعتاد لا يغير شيئا. "د".(38/419)
ص -301-…بد من اعتبار توابعه، وعند ذلك نقول: لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف1 يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك؛ أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه، لأنه سئل عن مناط معين؛ فأجاب عن مناط غير معين.
لا يقال: إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من أفراد عام، أو مقيد من مطلق؛ لأنا نقول: ليس الفرض هكذا2، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله، فإن فرض عدم اختلافهما؛ فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص.
وما مثل هذا إلا مثل من سأل: هل يجوز بيع الدرهم3 من سكة كذا بدرهم3 في وزنه من سكة أخرى، أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه؟ فأجابه المسئول بأن الدرهم3 بالدرهم3 سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد؛ فقد أربى، فإنه لا يحصل4 له جواب مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عن أمر له كيفية وتوابع خاصة في وقوعه، بحيث يكون مما له مناط معين. "د".
2 أي: ليس الفرض الذي نحكم فيه بالخطأ إذا لم يلاحظه في الجواب هكذا؛ اي: أي مناط خاص كائنا ما كان. "د".
3 في "ط": "الدراهم"بالجمع في الموطنين.(38/420)
4 أما بالنسبة إلى الجزء الأول من السؤال؛ فإنه جواب بالعام في موضع يتعين فيه الخاص لأن قوله: "فمن زاد... إلخ" يحتمل زاد في عدد الدراهم مع تساويها في الوزن ولو كانا من سكتين، ويحتمل أن يفهم أن اختلاف السكتين لا يقال فيه الدرهم بالدرهم؛ لأنه نوع آخر، وعلى هذين الاحتمالين لا يكون الجواب صحيحا لأنه قد يفهم منه أن اختلاف السكة أو العدد مع اتحاد الوزن يكون ربا، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة في الوزن؛ فيكون الجواب صحيحا، ومع بقاء هذه الاحتمالات يكون الجواب غير مطابق للسؤال ولا يفيد لأنه يبقى أن يقول: ومسألتنا ما حكمها؟ وأما بالنسبة إلى الجزء الثاني؛ فهو جواب بالمباين لأن المسئول عنه غير داخل في الجواب؛ إذ غير المسكوك لا يعد درهما، فلو حذفه كان أولى، وقوله: "لكان مصيبا" يقال عليه: إن الجواب حينئذ يكون أخص من السؤال؛ لأن الدرهم أخص من مطلق الفضة، هذا إذا كان الدرهم ما هو المعروف أنه المسكوك من الفضة للتعامل به، فإذا كان المراد بالدرهم نوعا من الصنج؛ فلا يناسب كلامه. "د".(38/421)
ص -302-…ما سألتك عنه من قبيل الربا، أم لا؟ أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه؟ فأجابه كذلك؛ لحصل المقصود، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه.
فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام؛ لكان مصيبًا، لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق، فأجابه بمقتضى الأصل، ولو فصّل له الأمر بحسب الواقع لجاز، ويحتمل فرض صور كثيرة، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين، وكثرت أعداد المسائل؛ غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله، فإن سأل عن مناط غير معين؛ أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي، وإن سأل عن معين؛ فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة، وجدها على وفق هذا الأصل، وبالله التوفيق.(38/422)
ص -305-…النظر الثاني: في عوارض الأدلة
[فينحصر القول فيه في خمسة فصول]1
الفصل الأول: في الإحكام والتشابه
وله مسائل:
[المسألة الأولى]2
المحكم يطلق بإطلاقين: عام، وخاص، فأما الخاص؛ فالذي يراد به خلاف المنسوخ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ، سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا؛ فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة، وأما العام؛ فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره3؛ فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ، وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه، كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا، وعلى هذا الثاني مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]} [آل عمران: 7].
ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى [الثاني]4 ما نبه عليه الحديث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مكانه بياض في الأصل.
2 مكانه بياض في الأصل.
3 فهو كالمفسر في أحد استعماليه عند الأصوليين. انظر: "الحدود" "ص46، 47"، للباجي، و"تفسير القرطبي" "4/ 11"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 59-63 و13/ 143، 274، 275 و17/ 307 وما بعدها".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/423)
ص -306-…من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"1؛ فالبين هو المحكم، وإن كانت وجوه التشابه تختلف2 بحسب الآية والحديث؛ فالمعنى واحد لأن ذلك راجع إلى فهم3 المخاطب، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه، كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة4 تحت معنى المحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
2 سيأتي أن الآية في التشابه الحقيقي صراحة، وظاهر أن الحديث في التشابه الإضافي، وقد يندرج فيه أيضا التشابه الواقع في المناط. "د".
3 أي: فكل منهما لا يتبين المراد به من لفظه عند المخاطب. "د".
4 أي: بعد معرفة أنه الناسخ... إلخ، فإنه صار واضحا لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. "د".(38/424)
ص -307-…المسألة الثانية1:
التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات، لكن النظر في مقدار الواقع منه: [هل هو]2 قليل أم كثير؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة؛ لأمور:
أحدها:
النص الصريح، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]؛ فقوله في المحكمات: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يدل أنها المعظم والجمهور، وأم الشيء معظمه وعامه، كما قالوا: "أم الطريق" بمعنى معظمه، و"أم الدماغ" بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه، و"الأم" أيضا الأصل، ولذلك قيل لمكة: "أم القرى"؛ لأن الأرض دُحيت من تحتها، والمعنى يرجع3 إلى الأول، فإذا كان كذلك؛ فقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إنما يراد بها القليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لهذه المسألة والتي تليها فوائد كثيرة؛ فالغاية منها اطمئنان القلب بالقرآن، وحينئذ تسد أبواب الاحتمالات الباطلة المتناقضة حوله؛ فللمفسر أن يرد الكلام إلى أصله الأول، ويبين حكمه صرفه عن الأصل، وعليه أن يعلم الأصول الراسخة ولا يعول على غيرها، ويذكرها بقدر الحاجة، وكذلك ربما يكون التأويل الواضح الصحيح خفيا بعيدا عن الناس؛ إما لتمكن خطأ منهم، أو لعدم علمهم ببعض ما يتوقف عليه التأويل؛ فيضطر المفسر إلى دفع هذه الأمور وهو كاره، فإنه يشمئز عن ذكر الحماقات، ولكنه إن تركها لم يحسم جراثيم الباطل! مع أن ذلك متعب ومضيع للوقت؛ فإن أبواب الجهل والكذب لا تحصى.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(38/425)
3 لا يظهر رجوعه للأول الذي هو المعظم؛ لأن المعنى الثاني يرجع إلى أنه المنشأ الذي تفرع عليه غيره كما يؤخذ من التمثيل بأم القرى، وتعليلها بأن الأرض دحيت من تحتها، ولا يخفى أن الفرع قد يكون أكثر من الأصل، ولو قال: "والأم أيضا الأصل والعماد" كما في "القاموس"؛ لظهر رجوعه للأول، فإن الذي عليه المعتمد والمعول هو معظم الشيء وجمهوره، والنادر لا حكم له. "د".(38/426)
ص -308-…والثاني:
أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى؛ كقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ1 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال2 وحيرة لا بيان وهدى، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى؛ فدل على أنه ليس بكثير، ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها؛ لم يصح القول به، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق3 بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء، وهذا واضح.
والثالث:
الاستقراء؛ فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر، واتسقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1].
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، يعني: يشبه بضعه بعضا، ويصدق أوله آخره وآخره أوله، أعني: أوله وآخره في النزول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقتضي الاستدلال أن معنى "لتبين"؛ أي: به، فيكون بينا، ويؤكد أن غرضه ذلك سابق الكلام ولاحقه، وهو خلاف ما فسرت به الآية من أنه بيان السنة للقرآن. "د".
2 في "ف": "إشكالا"، قال: "المناسب إنما هو إشكال وخيرة لا بيان وهدى، أو إنما هو ورد إشكالا... إلخ".
3 لعله: "لم يتعلق"، والجملة خبر، والمبتدأ قبله. "ف".(38/427)
ص -309-…فإن قيل: كيف يكون المتشابه قليلا؟ وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا؛ فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول1 كثير، وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال: "لا عام إلا مخصص؛ إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [البقرة: 282]"2.
وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد؛ فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى وأنحاء لا تنحصر، وهكذا سائر ما ذكر مع العام.
ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل، ومعلوم أن المتفق عليه واضح، وأن المختلف فيه غير واضح؛ لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه، وإلى هذا؛ فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي، وقد اختلف فيه أولا في معناه3، ثم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قبل معرفة ما يقتضي تأويله، وإلا؛ فبعدها يكون محكما. "د".
وقال "ف": "سبق إدخاله في المحكم؛ فتأمل".
2 لم أظفر به، وهو من كلام الأصوليين، وليس بمسلم لهم؛ كما تراه في "إجابة السائل" "ص309 وما بعدها"، بل قال عنه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442": "من أكذب الكلام وأفسده"، وفي "6/ 444": "في غاية الجهل، وإما في غاية التقصير في العبارة"، ولذا شكك المصنف في ثبوت هذا الأثر عن ابن عباس، انظر "ص312، 4/ 48".(38/428)
3 أي: هل هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء، أم هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به؟ وقوله: "في صيغته"؛ أي: هل له صيغة تخصه أم لا؟ وقوله: "فيما تقتضيه"؛ أي: الوجوب، أم الندب، أم الأمر المشترك، وهل تقتضي التكرار أم لا تقتضيه، وهل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، والنهي عنه يقتضي الأمر بضده أم لا؟ "د".(38/429)
ص -310-…صيغته، ثم إذا تعينت له صيغة "افعل" أو "لا تفعل" فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة؛ فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه أو مختلف فيه مختلف1 فيه أيضا، إلا أن يثبت فيه تعينه2 إلى جهة بإجماع، وما أعز ذلك؟
وأيضا؛ فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم [من]3 القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب، وذلك عسير جدا، وأما الإجماع؛ فمتنازع فيه أولا، ثم إذا ثبت؛ ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط4 كثيرة جدا، إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة أو اختلف فيه، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء؛ هل له صيغة5 موجودة أم لا؟ وإذا قلنا بوجودها؛ فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط، وأوصاف تعتبر، وإلا؛ لم يعتبر، أو اختلف في اعتباره، وكذلك المطلق مع مقيده، وأيضا، فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص بل محتملة للتأويل؛ لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حقيقة أو حكما، حيث بنى على مختلف فيه. "د".
قلت: في الأصل: "مختلفا".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "إلى أن يثبت تعيينه".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 فاشترط بعضهم فيه انقراض العصر، وبعضهم أن يكون المجمعون عدد التواتر، وهل لا بد له من مستند أم لا، وهل يجوز أن يكون مستنده القياس أم لا؟ وهكذا. "د".
قلت: انظر ذلك في مبحث الإجماع في كتب الأصول، منها: "المحصول" "4/ 17 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "4/ 511 وما بعدها" للزركشي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 38-39، 19/ 167-168"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص316، 320 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 450- ط الرشد"، و"المستصفى" "1/ 182"، و"الإحكام" "1/ 226" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "241".
5 أي: هل الألفاظ والصيغ التي قيل إنها للعموم؛ كمن، والذي، والنكرة في سياق النفي، وهكذا؛ هل هي موضوعة للعموم، أم هي للخصوص، أم نقول بالوقف؟(38/430)
ص -311-…ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة، وهي أكثر الأدلة، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف؛ حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا، وإذا كانت حجة؛ فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل أو اختلف في إعمالها، ومن جملة ما يقتنص1 منه الأحكام "المفهوم"، وكله مختلف فيه؛ فلا مسألة تتفرع عنه متفقا2 عليه.
ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه3 على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا، ثم في أصنافه، ثم في مسالك علله، ثم في شروط صحته، ولا بد مع ذلك أن يسلم عن4 خمسة وعشرين اعتراضا، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا.
وأيضا؛ فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين:
إحداهما شرعية، وفيها من النظر ما فيها.
ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط، وليس كل مناط معلوما بالضرورة، وبل الغالب أنه نظري؛ فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة، وهو رأي القاضي أيضا، والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها؛ فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا، بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه.
فالجواب أن هذا كله5 لا دليل فيه، أما المتشابه بحسب التفسير المذكور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ف "ط": "يقتص".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "منه متفق".
3 يقال: طم السيل القرى؛ علاها وغلب عليها. "ف".
4 في "د": "من".
5 الوجوه التي ذكرها ترجع إلى وجهين فقط، فصل ثانيهما بثمانية مسالك للاختلاف، وقوله: "بحسب التفسير المذكور"؛ أي: وهو الذي لا يتبين معناه من لفظه، بل يحتاج إلى غيره، يعني: وأما على ما سيأتي في المسألة الثالثة في معنى المتشابه الحقيقي؛ فلا تدخل تلك الأنواع، وهذا الجواب خاص بالوجه الأول من وجهي الإشكال، وسيأتي جواب الثاني في المسألة التالية حيث يقول: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت... إلخ". "د".(38/431)
ص -312-…وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها؛ فلا تشابه فيها بحسب الواقع إذ هي قد فسرت، فالعموم1 المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه، وبين المراد به، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس: "لا عام إلا مخصص"2؛ فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه؟ ومثله سائر الأنواع، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه، والبرهان قائم على البيان وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا؛ إذ كان حقيقة البيان3 مع الجمع بينهما؛ فالعام مع خاصه هو الدليل، فإن فقد الخاص؛ صار العام مع إرادة4 الخصوص فيه من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه5 زيغا وانحرافا عن الصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالعموم".
2 في صحته عن ابن عباس نظر، ولم أظفر به مسندا عنه، وانظر ما علقناه على "ص309".
3 الأنسب حذف كلمة مع "ف".
4 أي: وهذا غير موجود في الشريعة؛ فلا عام أريد به الخصوص وفقد فيه مخصصه، بل لا بد من قيام دليل الخصوص. "د".
5 أي: إهمال المخصص وعدم الأخذ به مع وجوده في الشريعة؛ لأن الدليل الشرعي هو مجموع العام ومخصصه؛ فالأخذ بالعام وحده زيغ. "د".
قلت: قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 245-246": "من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه؛ فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد؛ صار واضحا".(38/432)
ص -313-…ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ؛ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40].
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وتركوا مبينه وهو1 [قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، واتبع الخوارج نحو قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} [يوسف: 40]، وتركوا مبينه وهو] قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95].
وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].
واتبع الجبرية نحو قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96],
وتركوا بيانه وهو قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82 و95] وما أشبهه.
وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها، ولو جمعوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير مفهوم أن تكون الآيتان في التحكيم بيانا لآيتي نسبة الفعل للخلق مربوطا بمشيئتهم، وفي "الاعتصام [1/ 303 - ط ابن عفان] في نفس هذا الموضوع أن الآيتين في التحكيم يردان على الخوارج في إنكارهم التحكيم على علي رضي الله عنه، استدلالا منهم بآية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه}، أما آيتا نسبة الفعل؛ ففي تهذيب الكلام أن مما يرد على المعتزلة في ذلك آية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، وعليه؛ فيتعين أن يكون قد سقط من الكلام.
1- الآية التي بينت آيتي نسبة الفعل. و2- رأي الخوارج، و3- استدلالهم بآية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه}.(38/433)
فتكون آيتا التحكيم المذكورتان في الكتاب مبينتين لما في هذه الآية الأخيرة، وسيأتي في المسألة الثامنة من الطرف الثاني من الأدلة ما يؤيد ما كتبناه هنا، وسيأتي أيضا في المسألة الثالثة من فصل الأحكام والنسخ ما لو انضم إلى هذا عين الجمل الساقطة هنا، وانظر قوله في المسألة بعد هذه: "ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة الخوارج وغيرهم"، مع أن النسخة هنا ليس فيها ذكر الخوارج. "د". قلت: وانفردت "ط" بذكرهم، وما بين المعقوفتين منها فقط.(38/434)
ص -314-…بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل؛ لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبت هذا؛ فالبيان مقترن بالمبين، فإذا أخذ المبين من غير بيان؛ صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم؛ فضلوا عن الصراط المستقيم، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة، وهي:(38/435)
ص -315-…المسألة الثالثة:
وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين1:
أحدهما حقيقي.
والآخر إضافي.
وهذا فيما يختص بها نفسها، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل2 عليه الأحكام.
فالأول هو المراد بالآية، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه، ولا نصب لنا دليل على المراد منه، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها؛ لم يجد فيها ما يُحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا شك في أنه قليل لا كثير، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 143-147 و17/ 307-308، 372-373، 380، 418-426"، و"الاعتصام" "1/ 221"، و"إيثار الحق" "ص93-101"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 62-63"، و"التكميل في أصول التأويل" للفراهي "ص23-29"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص195 وما بعدها" للكافيجي.
2 في "ط": "تنزل".
3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "3/ 177" بإسناد ضعيف، وضعفه ابن حجر في "الفتح" "8/ 210"؛ إذ ذكر قولا آخر في سبب نزولها ورجحه.
وأورد الزمخشري في "الكشاف" نحوه، وقال الزيلعي في "تخريجه" "1/ 369": "عزاه الواحدي في "أسباب النزول" للكلبي". وانظر ما مضى "ص211".
وانظر الثابت عنه -صلى الله عليه وسلم- في وفد نجران في "تاريخ المدينة" لابن شبة "2/ 580 وما بعدها". وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(38/436)
ص -316-…قال ابن إسحاق1 بعد ما ذكر منهم جملة ووصف من شأنهم، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم -يريد في شأن عيسى-: "يقولون: هو الله؛ لأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، ويقولون: هو ولد الله؛ لأنه لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد2 آدم قبله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة؛ لقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، ولو3 كان واحدا؛ لما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ، ولكنه هو وعيسى ومريم".
قال: "ففي كل ذلك من أمرهم4 قد نزل القرآن، يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]؛ ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم5 ما قدروا الله حق قدره إذ قاسوه بالعبيد؛ فنسبوا له الصاحبة والولد، وأثبتوا للمخلوق ما لا يصلح إلا للخالق، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله وتنزيهه عما لا يليق به فيم يفعلوا، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "سيرته" "2/ 164 - مع "سيرة ابن هشام - ط دار الخير".
2 في "سيرة ابن هشام": "... يصنعه أحد من ولد...".
3 في "ط": "فيقولون: لو...".
4 في "سيرة ابن هشام": "من قولهم".
5 أي: فليس الفرض أن ما تكلموا فيه من المتشابه؛ لأن المباحث المذكورة عنهم في عيسى، إنما هي من المحكم في آياتها التي وردت فيها؛ لا يوجد فيها اشتباه، ولكن في الموضوع اتباع أهوائهم مبررين لها بهذه الخيالات الفاسدة، وهي أشبه بما يصنعه الذين يتبعون أهواءهم في تفسير الآيات المتشابهة، ولذلك قال: "وفي نحو من هذا نزلت آية... إلخ"، ولم يقل: وفيه نزلت. "د".(38/437)
ص -317-…آرائهم، فزاغوا عن الصراط المستقيم.
والثاني: وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية، وإن كان في المعنى داخلا فيه لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة1 من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر، ولكن الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى؛ فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة2، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة؛ فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنه إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان؛ فما ظنك بهم مع عدمه؟ فلهذا قيل إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية.
ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان؛ قال: "سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]؛ فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب؛ فلا يخرج -يعني مع من خرج من ولده- حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد3 عليًا أنه ينادي-: اخرجوا مع فلان! يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف"4.
فهذه الآية أمرها واضح، ومعناه ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها، كما دل الخاص على معنى العام، ودل المقيد على معنى المطلق، فلما قطع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الشرع".
2 وإن كان الاشتباه حصل فيها بأحد هذين السببين، بخلاف القسم الثالث؛ فالدليل فيه مفهوم لا أثر للاشتباه فيه، وإنما الاشتباه في التطبيق. "د".
3 في الأصول كلها و"ط": "تريد"، وما أثبتناه من مصدر تخريجه.
4 أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه" "1/ 20-21".(38/438)
ص -318-…جابر الآية عما قبلها ما بعدها، كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق؛ صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه؛ فكان من حقه التوقف، لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية.
وأما الثالث؛ فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، وإنما هو عائد على مناط الأدلة؛ فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك، فإذا اختلطت الميتة بالذكية؛ حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع، مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل؛ فلا مدخل له في المسألة1.
فصل
فإذا ثبت هذا؛ فلنرجع إلى الجواب عن باقي2 السؤال، فنقول:
قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص وما ذكر معه قليل، وأن ما عد منه غير معدود منه، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة.
وأما مسائل الخلاف وإن كثرت؛ فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر؛ كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسختي "ف" و"م" زيادة: "أ. هـ"! ولم يسبق أن المصنف أشار إلى نقل حتى تثبت إشارة الانتهاء، وفي "ط": "مقتضي حكمه في اشتباهه...".
2 وهو الخاص بمسائل الخلاف، وقوله: "ظهر مما تقدم" هذا كتمهيد لربط أطراف المقام بعضها ببعض، وكفذلكته على الجواب عن الشق الأول من السؤال لإحضار المقام كله لدى السامع. "د".(38/439)
ص -319-…يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء، والنزول، والضحك، واليد، والقدم، والوجه، وأشباه ذلك.
وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها1؛ دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن؛ لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها؛ فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها2 ومناطاتها، والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر3، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه، والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة؛ فلكل مأخذ يجري عليه، وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب4 ما في نفس الأمر؛ فخرج المنصوص5 من الأدلة عن أن يكون متشابها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل أثبتوا معانيها، وتركوا الخوض في كيفياتها، وانظر لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 54-59 و6/ 35 و16/ 390-401"، و"الرسالة التدمرية" "2/ 144 وما بعدها - مع التحفة المهدية"، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص77"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص67 وما بعدها".
نعم، من أطلق التشابه عليها مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها؛ فهذا قد يسوغ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، انظر: "منهج ودراسات لآيات الصفات" "ص23، 24" للشنقيطي، وتعليقنا المتقدم "2/ 195، 257"، والآتي على "ص323-326".
2 أي: فيما يخرج عليه الدليل ويحمل عليه معناه؛ فعطف المناطات عليه مغاير ليصح قوله: "وإنما قصاراه... إلخ"، ويكون قوله: "إلى التشابه الإضافي وهو الثاني" راجعا إلى قوله مخارجها، وقوله: "أو إلى التشابه الثالث" راجعا إلى قوله ومناطاتها. "د".
3 أي: إن قلنا: إن لله حكما في نفس الأمر في كل مسألة، وهو رأي المخطئة، فإن قلنا: إن حكم الله في كل مسالة هو ما وصل إليه المجتهد بعد بذل وسعه؛ فيكون الأمر أظهر. "د".(38/440)
4 في الأصل: "لا في حسب".
5 قد يفهم من التقييد أن هذا الجواب إنما يفيد في أدلة الكتاب والسنة وقد يلحق بهما الإجماع الناشئ عنهما، أما القياس وما ينشأ عنه من إجماع؛ فلا يخرج عن التشابه، وربما أيد ذلك قوله فيما سبق: "ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى... إلخ"، ولكنا لا نأخذ بهذا الفهم؛ لأنه مهما كانت إشكالات القياس لا تزيد عن أن تصير إلى التشابه الإضافي أو الضر الثالث كغيره من الأدلة الشرعية. "د".(38/441)
ص -320-…بهذا الاعتبار، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني، أو إلى التشابه الثالث.
ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه وما حصل له من علم الشريعة؛ فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل1 لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه، واستمرت أدلتها على استقامة، ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها؛ لتشابهت على أكثر الناس، ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل، والأمر على ضد ذلك، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها، ومعترف بأن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] على ظاهره من غير شك فيه؛ فيستقرئ من هذا إجماع على أن المتشابه في الشريعة قليل؛ وإن اعترفوا بكثرة الخلاف.
وأيضا؛ فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف، أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع2 بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت، وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه؛ فخلافها لا يعد خلاف، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة، وإلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهذا النوع من المتشابه نسبي؛ فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، كما أن الملائكة يعلمون من أخبار الغيب ما يكون متشابها عند بني آدم، أفاده ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 380".
2 في "ط": "تجتمع".(38/442)
ص -321-…ذلك؛ فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق، وهذا مذكور1 في كتاب الاجتهاد؛ فيسقط2 بسببه كثير مما يعد في الخلاف، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد، ووجه آخر، وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم3 الشريعة قد أدخل4 فيها وصار من مسائلها، ولو فرض رفعه من الوجود رأسا؛ لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شيء بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها -دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم-، وبل من ولد بعد ما فسد اللسان فأحتاج إلى علم كلام العرب؛ كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ومن قبلهم أو بعدهم من أمثالهم5؛ فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها، ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف6.
ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده، فإذا جمعت هذه الأطراف؛ تبين منها أن المتشابه قليل، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في المسألة الحادية عشرة وما بعدها مباحث ذاخرة بالفوائد في هذا الموضوع. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فسقط".
3 في "ط": "علوم".
4 أي: قد أدخل في علم الشريعة -بعدما احتاج إليه هؤلاء المجتهدون وأمثالهم- شيء كثير وقع فيه خلاف، لا حاجة إلى علم الشريعة به، وقد حسب عليها وعد من الخلاف فيها، وأنت إذا رجعت لمسالك الخلاف الثمانية التي أشار إليها سابقا تحققت صحة ما يقول. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وأمثالهم".
6 قال الشافعي: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، نقله السيوطي في "صون المنطق" "ص15"، وقال "ص22": "وقد وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع الجهل بلسان العرب".(38/443)
قلت: "من ذلك قول الحسن البصري في بعض المبتدعة: "أهلكتهم العجمة" كما في "التاريخ الكبير" "5/ 93" للبخاري.(38/444)
ص -322-…المسألة الرابعة:
التشابه1 لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك2.
والثاني: أن الأصول لو دخلها التشابه؛ لكان أكثر الشريعة من المتشابه، وهذا باطل.
وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله؛ يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح باتضاحه، ويخفى بخفائه، وبالجملة؛ فكل وصف في الأصل مثبت3 في الفرع؛ إذ كل فرع فيه ما في الأصل، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها4 ببعض في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الحقيقي الذي ظهر من تحقيقه في المسألة قبلها أنه قليل، وكما سيشير إليه في آخر المسألة، وعلى كل حال؛ هذا بحث آخر غير تشابه نفس الآيات. "د".
2 قال "ف": "الأنسب: استقراء أن الأمر كذلك".
3 هكذا في "د"، وفي الأصل وفي "ف": "مثبوت"، وفي "ط": مبثوث".
4 أي: فكثيرا ما يتوقف التفريع على أصل على ملاحظة أصل آخر، فإذا كان في هذه الأصول متشابه؛ فكل ما تفرع عليه مباشرة أو بتوقف أصل عليه؛ فإنه يكون متشابها، فيسري التشابه إلى الفروع التي انبنت على المتشابه أو إلى الأصول الأخرى التي ترتبط بهذا الأصل المتشابه، ومعلوم أن هذا كثير جدا؛ فيكون أكثر الفروع متشابها، فقوله: "لزم سريانه في جميعها"؛ أي: جميع فروع الأصول التي نيط التفريع عليها بهذا الأصل المتشابه، وليس المراد جميع فروع الشريعة؛ لأنه:
أولا: لا يوافق مدعاه من أن الأكثر يكون متشابهًا.
وثانيًا: لأنه ليس من المسلم أن جميع الفروع يلزم أن تبنى على أصل متشابه مباشرة أو بالواسطة. "د".(38/445)
ص -323-…التفريع عليها، فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في سائرها1؛ فلا يكون المحكم أم الكتاب، لكنه كذلك؛ فدل2 على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب.
فإن قيل: فقد وقع في الأصول أيضا؛ فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع، ولو كان زيغهم في الفروع؛ لكان الأمر أسهل عليهم.
فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية، كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة، وإنما [وقع]3 في فروعها؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها4 فروع عن أصل التنزيه الذي هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "جميعها".
2 لا يخفى ما في هذا البيان من الخطابة. "ف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
4 دندن المصنف على المتشابه، ثم تكلم على الصفات، ثم ألمح في قوله هذا أن آيات وأحاديث الصفات من المتشابه.
وصرح الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" "16/ 218" أن الصفات من باب المتشابه، ونقل ذلك عن الغزالي في "المستصفى، وأقره عليه؛ فقال في مبحث المتشابه: "ويطلق على ما ورد في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى تأويل".
وهذا هو القول بتفويض المعنى الذي جنح إليه، بل صرح به النووي في "شرحه" أكثر من مرة، وسبق أن أشرنا إلى أن السلف الصالح كفوا عن الخوض في البحث في كيفية الصفة الواردة في الآية القرآنية أو الحديث النبوي، وقالوا كلمات في معانيها لها معان مفهومة وصحيحة، ولا يليق أن يكون مذهبهم فيها أن تكون آيات الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم أحد معناه؛ فإنهم رحمهم الله تكلموا في جميع آيات الصفات، وفسروها بما يوافق معناها ودلالتها، ولم يسكتوا عن بيان معنى آية ما، سواء في ذلك المحكم والمتشابه.(38/446)
وهنا لا بد لنا من كلمة عن المحكم والمتشابه، وهل الراسخون في العلم يعلمون معنى =(38/447)
ص -324-…..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المتشابه أم يفوضون العلم فيه إلى الله؟ وبمعنى آخر: هل الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] لازم، وما معنى التأويل فيها؟
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن التأويل المذكور في الآية هو معرفة الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ورأى آخرون أن التأويل الوارد فيها بمعنى المآل والعاقبة، وشاركوا شيخ الإسلام في القول بالوقف المذكور؛ لأن الراسخين في العلم لا يعلمون مآل أخبار القرآن وعواقب أمره على سبيل التفصيل والتحديد والكنه والحقيقة، وهذا قريب من قول شيخ الإسلام؛ إذ هذه الأمور من الغيب الذي استأثر الله به، بينما رأى فريق ثالث أن التأويل مستعمل عند السلف بمعنى التفسير والبيان؛ فقال هؤلاء بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وكلا الفريقين مصيب فيما ذهب إليه؛ لأن أصحاب القول بالوقف على لفظ الجلالة يستبعدون أن يكون هناك بشر يشارك الله في علم غيوبه، وأصحاب القول بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يستبعدون أن يكون تفسير القرآن وبيان معناه لا يعلمه إلا الله، في الوقت الذي أنزل فيه ليفهم ويتدبر.(38/448)
ولم يقف فريق آخر من علماء الكلام والفقه والتفسير على مأخذ كل رأي من الآراء المذكورة، وعلى الأصل الذي بنوا عليه رأيهم، ووجدوا بين أيديهم روايات مختلفة عن السلف، كل يختار رأيًا في الوقف؛ فصوروا أن في المسألة نزاعًا وخلافًا بين السلف، وليس الأمر على التحقيق كذلك، وكان عليهم أن يمعنوا النظر أكثر وأكثر؛ فإن المسألة ليست محل نزاع لو عرف مأخذ كل رأي وأصل كل قول؛ فإن جميع الأقوال التي رويت على أن الوقف على لفظ الجلالة محمولة على أن المراد بالتأويل في الآية عواقب أخبار القرآن ومصائرها، وجميع ما روي على أن الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} محمول على أن التأويل المذكور هو التفسير والبيان.
وبهذا يزول الإشكال والاشتباه الذي نشأ بين المتأخرين لعدم تفرقتهم بين معنى الآية وبين تأويلها، وعدم إدراكهم ما قد يترتب على إهمال التفرقة بين المعنيين من آراء ربما قد احتجموا عنها لو تنبهوا إلى ذلك.
تعرض السلفيون -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لهذه المشكلة التي فرقت كلمة العلماء، ووضعوا أيديهم على بدايتها متعمقين في أسبابها، باحثين عن نتائجها، =(38/449)
ص -325-….......................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= متسائلين: هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب، وهل يجوز كذلك أن يقول الرسول لأمته: إن ربكم قد خاطبكم بكلام لا يعلم معناه إلا هو، وهل يجوز أن يقول لهم: إن القرآن أنزل ليتدبر في الوقت الذي لا يعلم معناه إلا الله؟
إن المشكلة تزداد خطورة خصوصًا في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية حين يرى أن وظيفة الرسول هي البلاغ الموصوف بأنه {بَلاغٌ مُبِينٌ}، وأن وظيفة القرآن أنه أنزل: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً}، ثم يكون الرسول نفسه لا يفهم معنى ما تكلم به بدعوى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وبدعوى أن الصفات من المتشابه.
لعل هذه المشكلة كانت سببًا في أن ابن تيمية قد خصص حياته لخدمتها من قريب ومن بعيد؛ فهو إن خاض غمار الفلسفة أو علم الكلام، أو ناقش الفقهاء والصوفية؛ فسلاحه في كل ميدان هو آيات الكتاب، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح؛ لأنه ليس هناك آية لا معنى لها، أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها، وليس هناك لبس ولا خفاء، ولقد تتبع ابن تيمية أقوال السلف تتبع الخبير بمصادرها، واضعًا أدلة هؤلاء وهؤلاء أمام النصوص؛ فظهر له الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، والسليم من السقيم.
وفي القول السابق ادعاء أنه يوجد في ظاهر النصوص ما يوهم التشبيه، وهذا ليس بصحيح،(38/450)
والخلاصة أنه ما من قول يدعي أن هذه الآية أو تلك من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله؛ إلا وقد تكلم السلف في بيان معناها، حتى من أطلق المتشابه على نصوص الصفات مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها التي هي عليها، فهذا يسوغ أن يسمى متشابها؛ لأن حقائق الصفات وما هي عليه من الكيفيات لا يعلمه إلا الله، وهذا هو تفويض الكيفية الذي يقول به السلف؛ إلا أننا على الرغم من ذلك نعلم معنى الاسم والصفة؛ فنعلم معنى سميع وبصير وعليم، ومعنى السمع والبصر والعلم، ونعلم معنى أن له يدين ووجها، كل هذا ونحوه نعلم معناه بمقتضى لغة التخاطب، ولا يقتضي علمنا بمعاني هذه النصوص أن تكون مثل ما في الشاهد من سمع المخلوق وبصره وعلمه ويديه ووجهه، ومع هذا كله؛ فلا ينبغي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات لأجل هذا إلا به، ولهذا لم يؤثر عن السلف إطلاقه عليها.
وكذا إذا تتبعنا أقوال العلماء في معنى المتشابه؛ فلا نجد رأيًا إلا وقد بين السلف معناه ووضحوه، فإذا جعلنا المتشابه هو المنسوخ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي =(38/451)
ص -326-…قاعدة من قواعد العلم الإلهي، كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط؛ فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتبر هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وغيرهم؛ علمنا يقينا أن العلماء يعلمون معنى المتشابه لأنهم يعلمون معنى المنسوخ، سواء كان منسوخا لفظه أو لفظه ومعناه، وهذا يدل على كذب من قال عن ابن عباس وابن مسعود أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه.
وإذا جعلنا المتشابه أخبار القيامة وما فيها؛ فمعلوم بين المسلمين أن وقت قيام الساعة وحقيقة أمرها لا يعلمه إلا الله، لكن ذلك لا يدل على أننا لم نفهم معنى الخطاب الذي خوطبنا به في ذلك، والفرق واضح بين معرفة الخبر وبين حقيقة المخبر عنه.
وإذا جعلنا المتشابهات أوائل السور المفتتحة بحروف المعجم؛ فهذه الحروف ليست كلاما تاما مكونا من الجمل الاسمية والفعلية، ولهذا؛ فلا تعرف لأن الإعراب جزء من المعنى، بل ينطق بها موقوفة كما يقال: أ ب ت، ولهذا تكتب في صورة الحروف المقطعة لا بصورة اسم الحرف.
يقول ابن تيمية: "فإذا كان على هذا كل ما سوى هذه محكمًا حصل المقصود؛ فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله.
وانظر موقف شيخ الإسلام من المتشابه ورده على مفوضة المعنى في: "تفسير سورة الإخلاص" "ص143 وما بعدها"، و"الحموية" "160-163"، "مجموعة الرسائل "1/ 189"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 54-67 و5/ 35-37، 234، 347-439 و10/ 560 و13/ 279-280، 374-375، 384-385 و16/ 173، 407-422"، و"الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل" "ص164 وما بعدها"، وقد أخطأ رشيد رضا في "تفسير المنار" "3/ 165" عندما نقل عن ابن تيمية أن المتشابه عنده آيات الصفات خاصة، ومثلها أحاديث الصفات.(38/452)
وانظر في المسألة: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة "ص62، 73"، و"منهج ودراسات" "ص23-24" للشنقيطي، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 472-500"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص77-82"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص188 وما بعده" للكافيجي.(38/453)
ص -327-…المعنى؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي؛ فعند ذلك [لا]1 فرق بين الأصول والفروع في ذلك، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال، وليس هو المقصود2 ههنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وإن كان مقصودا بالمعنى، والله أعلم؛ لأنه تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية [آل عمران: 7]؛ فأثبت فيه متشابها، وما هو راجع لغلط3 الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة، وإن نسب إليه؛ فبالمجاز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت إلا من "ط"، ولذا قال "د": "لعله سقط منه لفظ "لا"؛ أي: فعند ملاحظة التشابه الإضافي لا يوجد فرق بين الأصول والفروع، وقوله: "ومن تلك الجهة"؛ أي: وبسبب التشابه الإضافي في الأصول جاء الزيغ في العقائد؛ كما تقدم له أمثلته". ونحوه عند "م".
2 أي: إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، وليس الإضافي مقصودا في هذا المبحث، كما أنه ليس مقصودا بلفظ الآية وإن كان داخلا فيها بالمعنى كما ذكره سابقا. "د".
3 الناشئ من عدم ضمه لأطراف الأدلة بعضها إلى بعض كما سبق؛ فليس في نفس الأدلة اشتباه، إنما هو من تقصيره أو اتباع هواه. "د".(38/454)