ص -288-…والثاني: أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة في جنب المصلحة المجتلبة، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه، فما نحن فيه من ذلك النوع؛ فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية.
والثالث: أنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها؛ لأدى ذلك إلى رفع الإباحة1 رأسا، وذلك غير صحيح، كما سيأتي في كتاب "المقاصد" من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره2، واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب؛ فإن البيع والشراء حلال في الأصل، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه؛ ففقد الموانع من المكملات، كاستجماع الشرائط، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل؛ فما نحن فيه مثله.
والقسم الثاني:
أن لا يضطر إليه، ولكن يلحقه بالترك حرج، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ؛ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج، كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام3، وكما إذا كثرت المناكر في الطرق4 والأسواق؛ فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة هنا بمعنى الإذن؛ كما هو ظاهر "د".
2 انظر: "2/ 302 وما بعدها".
3 انظر: "3/ 527".
4 في الأصل: "الطريق".(34/403)
ص -289-…وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج؛ كالقرض الذي فيه بيع الفضة بالفضة ليس يدا بيد، وإباحة العرايا، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح1، وعوارض مخالطة الناس، وما أشبه ذلك، وهو كثير، هذا وإن ظهر ببادئ الرأي2 الخلاف ههنا؛ فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم، وهم أهل علم يقتدى بهم، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض؛ فهؤلاء إنما بتّوا في المسألة على أحد وجهين:
- إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم، وأنه مما هو معتاد في التكاليف، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام3.
- وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع4 في الرخص، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان، وإن لم يطرق في طريقه عارض؛ فما ظنك به إذا طرق العارض؟ والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا ترتب على النكاح دخول في كسب الشبهات وارتكاب بعض الممنوعات؛ قالوا: إن هذا لا يمنع النكاح، ويعرض للمخالطة وقوع -أو توقع سماع- المنكرات ورؤيتها، ومع ذلك لم تمنع. "د".
2 وعليه يكون خلافا في حال لا خلافا حقيقيا؛ فلذا قال: "ظهر ببادئ الرأي"؛ أي: إن هؤلاء لو بنوا على أن فيه حرجا لقالوا بعدم اعتبار العوارض. "د".
3 انظر: "2/ 214".
4 في الأصل و"ط": "الرابع" ولا معنى لها.
5 وانظر: "4/ 543".(34/404)
ص -290-…وربما اعترضت1 في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح، وأن الحرج فيها أعظم منه في تركه، وهذا أيضا مجال اجتهاد؛ إلا أنه يقال: هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا؟ وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى، وهي:
المسألة الثالثة عشرة: سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل
فنقول: لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه، أو من باب آخر هو أصل في نفسه، فإن كان هذا الثاني؛ فإما أن يكون واقعا أو متوقعا، فإن2 كان متوقعا؛ فلا أثر له مع وجود الحرج؛ لأن الحرج بالترك واقع وهو مفسدة، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة؛ فلا تعارض الواقع ألبتة، وأما إن كان واقعا؛ فهو محل الاجتهاد في الحقيقة3، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة الترك المباح, وقد يكون الأمر بالعكس، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح، وإن كان الأول؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيذكر القسم الثالث أثناء المسألة الآتية، بعد أن يتكلم في صدرها ما يشرح فيه ما يعترض طريق المباح من مفاسد, قد تكون أرجح من فوت الأصل المحتاج إليه الذي فرض فيه أن يلحقه بالترك له حرج ومشقة، ولكنه صنيع غير مناسب؛ إذ إنه عقد مسألة خاصة ليبين فيها تفاصيل لبعض أحكام القسم الثاني، وأدرج فيها حكم القسم الثالث وتفاصيل أحكامه، وكان الأجدر به أن يسوق ما يتعلق بالقسم الثاني لاحقا لبيانه هنا، دون عقد مسألة خاصة به؛ لأن ما ذكره بالنسبة إلى القسم الثاني في المسألة التالية ليس بأكثر ولا بأهم مما ذكره في بيانه في مسألته الثانية عشرة، وأيضا؛ فإنه مع كونه فرض المسألة في تتميم هذا القسم كما قال هنا جاء فيها بالقسم الثالث برمته في جمل أوسع مما يخص القسم الثاني؛ فالصنيع غير وجيه. "د".
2 في "م": "فإذا".(34/405)
3 في الأصل: "بالحقيقة".(34/406)
ص -291-…يصح التعارض، ولا تُساوَى المفسدتان، بل مفسدة فقد الأصل أعظم، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف، وقد مر بيان ذلك في موضعه، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق1 -بخلاف العكس- كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم، وفي المصلحة والمفسدة؛ فكذا ما كان مثل ذلك.
والثاني: أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي، وقد علم2 أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمِّل في مقابلة وجود مصلحة المكمَّل.
والثالث: أن المكمِّل من حيث هو مكمِّل إنما هو مقوٍّ لأصل المصلحة ومؤكد لها؛ ففوته إنما هو فوت بعض المكملات، مع أن أصل المصلحة باقٍ، وإذا كان باقيا؛ لم يعارضه ما ليس في مقابلته، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل، وهو ظاهر.
والقسم الثالث من القسم3 الأول:
وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج- فهو محل اجتهاد، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية؛ فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد يعود إذا كانت صفة لازمة لتحقيق الماهية. "د".
2 وسيأتي في أول باب الأدلة؛ فراجعه لتعرف معنى عدم أثر الجزئي في مقابلة الكلي. "د".
انظر: "3/ 172 وما بعد".
3 لعله من التقسيم الأول؛ أي: التقسيم في أول المسألة السابقة. "د".
قلت: بل هو كذلك.(34/407)
ص -292-…ومنه1 ما فيه خلاف، كالذرائع في البيوع وأشباهها2، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب، والخلاف فيه شهير.
ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما؛ فإن أصل التعاون على البر والتقوى، أو الإثم والعدوان مكمِّل لما هو عون عليه، وكذلك أصل الذرائع، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمَّل لا مكمِّل.
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري؛ إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات, وهي أصول المصالح؛ فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها؛ فاعتبار المعارض في المباح3 اعتبار لمعارض الضروري في الجملة، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا، وإذا كان كذلك؛ صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله، وهو خلاف الدليل.
وأيضا، إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه4 المكمِّل، وأطلق هذا النظر، أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته؛ إذ عوارض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من فروعه. "د".
2 هي البيوع التي ظاهرها الصحة، ولكن يقصد به التوسل لاستباحة الربا، وقد ذهب إلى منعها فريق من أهل العلم؛ كالمالكية نظرًا إلى أن المنهي عنه كالربا يتضمن مفسدة كان من قصد الشارع درؤها وسد الطريق دونها؛ فالوسيلة الموصلة إلى المنهي عنه تعد عملا مناقضا لقصد الشارع عند هؤلاء، وسيوافيك كتاب المقاصد بتحرير الفرق بين الوسيلة التي تعد حيلة باطلة والوسيلة التي تتخذ مخلصا من الوقوع في محظور. "خ".
3 في الأصل: "للمباح".
4 أي: لأجل معارضه؛ فاللام للتعليل. "د".(34/408)
ص -293-…المباح كثيرة، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج؛ فيصار إلى القسم الذي قبله، وقد مر ما فيه1.
ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك؛ لم يَسُغِ الميل إليه ولا التعريج عليه.
وأيضا، فإن كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه؛ لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل؛ فيجب الوقوف إذًا، إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم2، وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة وإما العفو، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن؛ فكان هو الراجح.
ولمرجح3 جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات، وهي كذلك أبدا؛ لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها، وقد فرضت كذلك هذا خلف، وإذا تخير المكلف فيها؛ فذلك قاضٍ بعدم المفسدة في تحصيلها, وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها، وكلاهما صادّ عن سبيل التخيير؛ فلا يصح -والحالة هذه- أن تكون مخيرا فيها، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة.
وأيضا؛ فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل؛ لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة، غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع؛ فنهى عن ملابستها، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله: "وإن كان الأول؛ فلا يصح التعارض... إلخ". "د".
2 لا يتم الدليل الثالث إلا به. "د"
3 حججه متينة، أما الأول؛ فخطابيات لا تثبت عند بحثها. "د".(34/409)
ص -294-…هذه المطالب، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة.
وأيضا؛ فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت، فإن المسألة مختلف فيها, فمن قال: إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر؛ فلا نظر1 في اعتبار العوارض؛ لأنها ترد الأشياء إلى أصولها، فجانبها أرجح، ومن قال: الأصل2 الإباحة أو العفو؛ فليس ذلك على عمومه باتفاق، بل له مخصصات، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض, ولا يقال: إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر، كما لا يصح أن يقال: إن قوله, عليه السلام: "لا يرث المسلم الكافر"3 معارض لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تحتاج إلى نظر في ذلك، بل لا بد من اعتبارها. "د".
2 في الأصل: "إن أصل".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، 12/ 50/ رقم 6764", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفرائض باب منه، 3/ 1233/ رقم 1614", وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر، 3/ 326/ رقم 2909", والترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر، 4/ 423/ رقم 2107"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض, باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، 2/ 911/ رقم 2729"، وأحمد في "المسند" "5/ 200"، ومالك في "الموطأ" "2/ 519"، وغيرهم من حديث أسامة بن زيد, رضي الله عنه.
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 84"، وعزاه للبخاري ومسلم وأصحاب "السنن" الأربعة: "وأغرب ابن تيمية في "المنتقى" فادعى أن مسلما لم يخرجه, وكذلك ابن الأثير في "الجامع" ادعى أن النسائي لم يخرجه".(34/410)
قلت: نعم، هو ليس في "المجتبى" وهو من الكتب الستة، والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي؛ كما في "تحفة الأشراف" "1/ 56، 57, 58"؛ فابن الأثير مصيب، وتعقب ابن حجر للمجد ابن تيمية صحيح، والله الموفق.(34/411)
ص -295-…حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم، والله أعلم.(34/412)
ص -297-…القسم الثاني من قسمي الأحكام: خطاب الوضع
وهو يرجع1 إلى خطاب الوضع2، وهو ينحصر3 في الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة والبطلان، والعزائم والرخص؛ فهذه خمسة أنواع، فالأول ينظر فيه في مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "القسم الثاني الذي يرجع...".
2 بدل ما بين المعقوفتين بياض في الأصل.
3 لم يحصره الآمدي فيها وإن اقتصر في بيانه عليها، أما "تحرير الكمال" فقد زاد فيها كثيرا فراجعه، وقال ابن الحاجب: "إن الصحة والبطلان أمر عقلي لا حكم شرعي؛ فنفى أن يكونا حكمين وضعيين، ونفي بعضهم أن يكون هناك أحكام وضعية ورجعها إلى الأحكام التكليفية؛ لأن خطاب الوضع يرجع إلى الاقتضاء أو التخيير؛ إذ معنى جعل الزنى سببا لوجوب الحد وجوب الحد إذا حصل الزنى، وجعل الطهارة شرطا لصحة البيع جواز الانتفاع به عند تحقق الطهارة وحرمته دونها؛ فالاقتضاء والتخيير إما صريح أو ضمني, وفي الحقيقة هو خلاف لا تظهر له ثمرة عملية. "د".(34/413)
ص -298-…النوع الأول في الأسباب:
المسألة الأولى:
الأفعال الواقعة في الوجود، المقتضية لأمور تشرع لأجلها، أو توضع فتقتضيها1 على الجملة ضربان:
أحدهما: خارج عن مقدور المكلف.
والآخر: ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فالأول قد يكون سببا، ويكون شرطا، ويكون مانعا.
فالسبب2 مثل3 كون الاضطرار سببا في إباحة الميتة, وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء، والسلس سببا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات، وما أشبه ذلك.
والشرط ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع, والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب، وما كان نحو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "فيقتضيها" بالتحتية بعد الفاء.
2
فسبب منه الوجود والعدم…لذاته مثل الزوال منحتم
أعني أن السبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته؛ كزوال الشمس لوجوب الظهر مثلا. "ماء".
3 ذكر في السبب أمثلة لما يشرع من أجله وما يوضع من أجله كالسلس، ولم يذكر ما يوضع من أجله في الشرط والمانع، إلا أن يقال: إن الحيض مثلا مانع مسقط لحق الوطء ووجوب الصلاة، وعدم الرشد مسقط لحقه في التصرفات. "د".(34/414)
ص -299-…ذلك1.
والمانع ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام، والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك.
وأما الضرب الثاني؛ فله نظران:
نظر من حيث هو مما يدخل2 تحت خطاب التكليف، مأمورا به أو منهيا عنه، أو مأذونا فيه3، من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا؛ كالبيع4 والشراء للانتفاع، والنكاح للنسل، والانقياد5 للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك، وهو بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتحد السبب والشرط في أن كلًّا منهما يتوقف الحكم الشرعي على تحققه، ويتمايزان بأن مناسبة السبب في ذاته ومناسبة الشرط لغيره، فملك النصاب يتحقق به الغنى الذي يقتضي إنفاق قسط من المال على وجه الشكر للنعمة، وأما مرور الحول؛ فإنما هو مكمل لوصف الغنى، إذ في مدة الحول يتمكن مالك النصاب من تنميته غالبا, فمعنى الشرطية في الحول بالنسبة لوجوب الزكاة واضح، وقد استشكل بعض الأصوليين جعل الأوقات الخمسة أسبابا للصلوات حيث لم يتضح له وجه المناسبة بينها؛ فكان جوابه من بعض الفقهاء بأنها تشتمل على حكمة خفية، وتصدى آخرون لبيان تلك الحكمة بتفصيل لا يسعه هذا المقام. "خ".
2 و4 أي: بقطع النظر عن كونه يترتب عليه مشروعية حكم أو وضعه، وبهذا الاعتبار لا يكون داخلا معنا في بحثنا؛ لأن بحثنا خاص بالأفعال من حيث كونها يشرع الحكم أو يوضع لأجلها؛ فالبيع والشراء وضعا سببًا شرعيًّا في حل الانتفاع، لا لنفس الانتفاع، وكذا النكاح لم يكن سببا شرعيا أو شرطا للنسل. "د".
3 في الأصل و"م": "مأمور به، أو منهي عنه، أو مأذون فيه".
5 أي: فإن الانقياد لفعل الطاعة الذي وإن ترتب عليه مصلحة الفوز في الآخرة؛ إلا أنه لا يعد حصول الفوز حكما شرعيا حتى يكون مما دخل تحت النظر الثاني، ومثله يقال في الانقياد بالنسبة للوصف بالطاعة والعد من الطائعين. "د".(34/415)
ص -300-…ونظر من جهة ما يدخل1 تحت خطاب الوضع؛ إما سببا، أو شرطا، أو مانعا.
أما السبب؛ فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببا للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات، وما أشبه ذلك؛ فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات.
وأما الشرط؛ فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا، والإحصان شرطا في رجم الزاني، والطهارة شرطا في صحة الصلاة، والنية شرطا في صحة العبادات؛ فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب، ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات.
وأما المانع؛ فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى، ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعا من القصاص للكافر2، والكفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه في النظر الأول لوحظ فيه أنه داخل تحت خطاب التكليف بقطع النظر عن كونه سببا أو شرطا مثلا، أما الثاني؛ فالنظر فيه إلى جهة كونه شرطا... إلخ، مع كونه في كل من النظرين داخلا تحت خطاب التكليف، كما ترشد إليه الأمثلة في كليهما، والضرب الثاني أمثلته جميعها واضحة؛ لأنها أفعال داخلة تحت مقدور المكلف، وشرع أو وضع لأجلها أحكام أخرى؛ فكانت سببا لها أو شرطا أو مانعا. "د".
2 هذا متفق عليه في حكم الكافر الحربي، وأما من دخل في ذمة الإسلام؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى إلى أنه يقتص له من المسلم في كل حال، واستندوا في ذلك إلى أحاديث أيدوها بالقياس على ما انعقد عليه الإجماع من قطع يد المسلم متى سرق مالًا لبعض أهل الذمة، وقالوا, حيث كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم: فلتكن حرمة دمه مساوية لحرمة دمه. "خ".(34/416)
ص -301-…مانعا من قبول الطاعات، وما أشبه ذلك، وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا؛ كالإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه للكافر، ومثله كثير.
غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا وقع سببا لحكم شرعي؛ فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببا لحكم، وشرطا لآخر، ومانعا لآخر، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة، كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف.
المسألة الثانية:
مشروعية الأسباب1 لا تستلزم مشروعية المسبَّبات، وإن صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي؛ من إباحة, أو ندب، أو منع, أو غيرها من أحكام التكليف؛ فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبَّباتها، فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهى عنه لم يستلزم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(34/417)
1 محصل المسألة أن المسببات عن الأمور التكليفية لا يلزم أن تأخذ حكمها من إباحة أو منع مثلا، بل قد تكون المسببات غير داخلة في مقدور العبد؛ كإزهاق الروح، ونفس الإحراق، ووجود الرزق؛ فهذه لا يعقل فيها تعلق حكم شرعي بها فضلا عن نفس الحكم الذي تعلق بسببها، وقد تكون في مقدوره ولكنها تأخذ حكما آخر؛ كأكل لحم الخنزير المسبب عن ذبحه؛ فذبحه ليس بحرام، ولكن مسببه وهو أكل لحمه حرام، ومشتري الحيوان مباح، ولكن مسببه وهو النفقة عليه واجبة، وقد يكون المسبب مقدورا عليه وآخذا حكم السبب، وذلك كتحريم الربا وتحريم ما تسبب عنه، وهو الانتفاع بمال الربا، والذكاة مباحة، ولازمها وهو الأكل من المذبوح مباح، وهكذا؛ فالذي يقرره هنا هو أنه لا استلزام بين حكم السبب وحكم المسبب، بل قد لا يكون للمسبب حكم شرعي رأسا؛ فعليك بتطبيق ما يذكره في المسألة على هذا, والتوفيق بين ما يظهر ببادئ الرأي مخالفا له. "د".(34/418)
ص -302-…النهي عن المسبب، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه.
مثال ذلك الأمر بالبيع مثلا، لا يستلزم1 الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البُضْع، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق، ومن ذلك كثير.
والدليل على ذلك: ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه، لا كسب فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان عليه؛ فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق؛ كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
وقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] إلى آخر الآية.
وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الآية [الطلاق: 2].
إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق، وليس المراد نفس التسبب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالبيع سبب في حل الانتفاع بالمبيع، وليس الأمر بالبيع سببا في الأمر بحل الانتفاع؛ لأن الحل المسبب ليس إلا حكما لله؛ فلا يتعلق به الحكم الشرعي الذي في السبب، وهو الأمر، ومثله يقال في النكاح؛ ليتم له أن هذه الأمثلة الستة لا يوجد فيها أن الحكم الذي في السبب أخذه المسبب، بل لا حكم في المسبب؛ لأنه ليس من كسب العبد، إلا أنه يبقى أن المناسب أن يقول: زهوق الروح واحتراق الثوب. "د".(34/419)
ص -303-…الرزق، بل الرزق المتسبب إليه.
ولو كان المراد نفس التسبب؛ لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها، أو ازدراع1 الحب، أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة، لكن ذلك باطل باتفاق؛ فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه. وفي الحديث: "لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير"2 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ازدرع القوم: اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا، أو احترثوا؛ كما في "لسان العرب" "ز ر ع".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 559" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب في التوكل على الله، 4/ 573/ رقم 2344", والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 79", والطيالسي في "المسند" "ص50"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 1"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69"، والبغوي في شرح السنة" "14/ 301/ رقم 4108"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1444" عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن عمر بن الخطاب مرفوعا.
وتابع حيوة عبد الله بن يزيد المقرئ؛ كما عند أبي يعلى في "المسند" "1/ 212/ رقم 247", وعنه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 509/ رقم 730- الإحسان"، وأحمد في "المسند" "1/ 30", و"الزهد" "ص18"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 318"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69".
وإسناده جيد، رجاله رجال الصحيح؛ سوى بكر بن عمرو، روى له البخاري حديثا واحدا متابعة، واحتج به الباقون سوى ابن ماجه، وقال الدارقطني: "يعتبر به"، وقال أبو حاتم: "شيخ"، وقال أحمد: "يروى له"، وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 103"، وقال الذهبي في "الميزان" "1/ 347": "كان ذا فضل وتعبد, محله الصدق".(34/420)
ومع هذا؛ فقد تابعه ابن لهيعة، ورواه عنه عبد الله بن وهب، وهو ممن روى عنه قديما قبل احتراق كتبه، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 52"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد, باب التوكل واليقين/ رقم 4164"؛ فإسناده صحيح.
قال "د": "بقيته: "تغدو خماصا وتروح بطانا"؛ فهي تغدو وتروح في طلب الرزق والتسبب إليه، والله تعالى يخلق لها الرزق، فلم يقل: تترك كل سبب؛ فيحصل لها الرزق".(34/421)
ص -304-…وفيه: "اعقلها1 وتوكل"2؛ ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد جمع بين طلب عقل الناقة والاعتماد على الله في حفظها المسبب عادة عن عقلها، ولو كان الحفظ مأمورا به؛ كالسبب ما جمع بين العقل والتوكل، بل كان يطلب الحفظ أيضا، أو يسكت عن التوكل على الأقل؛ فالجمع قاضٍ بأن المسبب لا يتعلق به مشروعية. "د".
قلت: وفي الأصل و"ط": "قيدها".
2 أخرجه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 510 رقم 731- الإحسان"، والحربي في "الغريب" "3/ 1226-1227"، ومحمد بن العباس البزار في "حديثه" "2/ 117/ 2"، وأبو بكر الكلاباذي في "مفتاح معاني الآثار"
"ق 251/ 2" -كما في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" "رقم 22"- والحاكم في "المستدرك" "3/ 623", وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 215/ رقم 970، 971"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 84/ ب"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 633" من طرق عن يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه بلفظ: "اعقلها وتوكل"، أو: "قيدها وتوكل".(34/422)
وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 303": "رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح؛ غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري, وهو ثقة"، وقال أيضا "10/ 291": "رواه الطبراني بإسنادين, وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات", وجود إسناده الذهبي في "التلخيص"، وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "4/ 279" إلى الطبراني وابن خزيمة في "التوكل", وجود إسناده أيضا، ونقل المناوي في "الفيض" "2/ 8" عن الزركشي؛ أنه قال: "إسناده صحيح", وله شواهد من حديث أنس، كما عند أبي داود في "القدر" -كما في "تهذيب الكمال" "3/ ق 1363"- والترمذي في "الجامع" "رقم 2517"، وآخر "العلل" "5/ 762" الملحق مع "الجامع"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 11"، وأبي نعيم في "الحلية" "8/ 390"، والقشيري في "الرسالة" "466-467"، وابن الجوزي في "التلبيس" "279"، وابن عساكر في "التاريخ"، والضياء في "المختارة" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 507"- وفيه المغيرة بن أبي قرة، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال ابن حجر: "مستور", ونقل الترمذي عن يحيى القطان قوله: "وهذا عندي حديث منكر"، ثم قال الترمذي: "وهذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا".
قلت: تقدم حديث عمرو بن أمية، وهو حسن إن شاء الله تعالى.(34/423)
ص -305-…ومما يبينه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59].
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}1 [الواقعة: 63].
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة: 68].
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 71].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؛ أي: تنبتونه أم نحن المنبتون المثمرون له؟ والآيات الثلاث الأولى واضحة في البيان هنا؛ لأن في كل منها نسبة التسبب للعبد، وإنكار أن يكون له إيجاد للمسبب، بل الموجد هو الله، أما الآية بعدها؛ فليست مما تعلق به كسب للعبد مطلقا، لا في تسبب ولا غيره؛ لأن الإنزال من المزن -وهو محل الغرض- لا شأن لنا به ولا تسببا، فلو كان الكلام في الري المسبب عن الشرب وكانت الآية: "أأنتم تخلقون الري أم نحن الخالقون"؛ لكانت الآية مما نحن فيه؛ فتأمل، وانظر في الآية التي بعدها أيضا، وعليك بالتأمل في صنيعه لتعرف السبب في هذا الأسلوب: جعل الآيات الأولى دليلا وبدأ بها وعلق عليها أولا، ثم ذكر الآيات الأخيرة قائلا: "ومما يبينه" دخولا عليه، وقال بعد الحديثين: "فيهما بيان لما تقدم", وخذ نموذجا لطريق التأمل مثلا:
الآية الأولى: فيها نفي التكليف بالمسبب صراحة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} مع العلم بطلب الرزق والتسبب فيه لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
الآية الثانية: حصر الرزق في كونه عليه تعالى؛ فطبعا لا يكلف به غيره.
الآية الثالثة: جعل الرزق في السماء على ما هو ظاهرها، وليس في متناول العبد؛ فلا يكلف به، مع أنه طلب بالتسبب إلى الرزق.(34/424)
أما الآيات الأخرى؛ فنسب الخلق إليه تعالى لا للعبد, ويلزمه ألا يطلب من العبد؛ فهو ظاهر في أنه لا يكلف به غيره, مع بقاء احتمال أنه سبحانه هو الخالق مع تسبب العبيد فيها ومطالبتهم بذلك التسبب, بخلاف الآيات الأولى؛ ففيها عدم المطالبة بالتسبب صريحة أو كالصريحة. "د".(34/425)
ص -306-…وأتى على ذلك كله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].
وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه، ثم الحكم فيه لله وحده.
واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به، وإذا كان كذلك؛ دخلت الأسباب المكلف بها1 في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات، فإذًا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب؛ فخرجت المسببات2 عن خطاب التكليف؛ لأنها ليست من مقدورهم، ولو تعلق بها؛ لكان تكليفا بما لا يطاق، وهو غير واقع كما تبين في الأصول.
ولا يقال: إن الاستلزام موجود، ألا ترى أن إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها؟ وإذا تعلق بها التحريم؛ كبيع الربا, والغرر، والجهالة, استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها، وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها، والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة، وتستلزم إباحة الانتفاع، فإذا وقعت على غير المشروع؛ كانت ممنوعة، واستلزمت منع الانتفاع... إلى أشياء من هذا النحو كثيرة؛ فكيف يقال: إن الأمر بالأسباب والنهي عنها لا يستلزم الأمر بالمسببات ولا النهي عنها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيها".
2 لو أخذ هذا على عموم؛ لكرّ على المسألة بالنقض, وكان الواجب أن يقال بدل "لا تستلزم": لا يترتب حكم شرعي على مسبباتها ولا يتعلق بها حكم مطلقا؛ لأنها كلها خارجة عن مقدوره، مع أن صنيعه الآتي يسلم فيه أن بعضها يتعلق بها حكم، لكن لا على طريق الاستلزام، والواقع أن المسببات كثيرة؛ منها ما هو كالسبب من مقدور المكلف، ومنها ما ليس كذلك، والأول قد يأخذ حكم سببه وقد يأخذ حكما غيره. "د".(34/426)
ص -307-…وكذلك في الإباحة؟
لأنا نقول: هذا كله لا يدل على الاستلزام، من وجهين:
أحدهما: أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام، وقام الدليل على ذلك، فما جاء بخلافه؛ فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام.
الثاني: أن ما ذكر ليس فيه استلزام، بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة؛ فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمورا به؛ فكما نقول في الانتفاع بالمبيع: إنه مباح؛ نقول في النفقة عليه: إنها واجبة إذا كان حيوانا، والنفقة من مسببات العقد المباح، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح، وهو مطلوب، ومثل ذلك الذكاة؛ فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول؛ كالخنزير، والسباع العادية، والكلب, ونحوها، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ومكروه في البعض.
هذا في الأسباب المشروعة، وأما الأسباب الممنوعة؛ فأمرها أسهل1؛ لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب، وإذا لم تكن أسبابا لم تكن2 لها مسببات؛ فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع، لا أن3 المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة، وهذا كله ظاهر؛ فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم أنه يتفق فيها أن تكون مسبباتها ممنوعة؛ كالغصب والسرقة، وقد تكون غير متعلق بها حكم شرعي؛ كالقتل مع الموت مثلا؛ فلا يظهر فرق بين الممنوعة والمأمور بها في درجة عدم الاستلزام. "د".
2 في الأصل: "يكن".
3 يقال مثله في المأمور بها والمباحة ما دام الجميع لا استلزام فيه، وأنه أمر اتفاقي. "د".(34/427)
ص -308-…وينبني على هذا الأصل:
المسألة الثالثة:
وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها1, بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسبابا كانت أو غير أسباب، معللة كانت أو غير معللة.
والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب، وأنها ليست2 من مقدور المكلف، فإذا لم تكن راجعة إليه, فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم، وهو السبب، وما سواه غير لازم، وهو المطلوب.
وأيضا, فإن3 من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ، وإلى جهته ميل، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يولي على العمل من طلبه4، والولاية الشرعية كلها مطلوبة؛ إما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ماء": "وفي نسخة: إليه".
2 مما سبق يعلم أنه ليس مطردا، وأن من المسببات ما هو من مقدور المكلف، ويتعلق به الخطاب المتعلق بنفس السبب؛ كالانتفاع بالمبيع في عقد البيع. "د".
3 فالولاية الشرعية مثلا لها مسببات كثيرة، وقد يكون القصد إلى بعض هذه المسببات مانعا من التسبب فيها مع كونها مطلوبا شرعيا؛ كالقصد إلى حظوظ نفسه ومنافعه المسببة عن الولاية؛ فلا تكون الولاية حينئذ مطلوبة شرعا, وجعل الشارع من أدلة قصد المكلف لحظوظه فيها طلبه لها, فلذلك منع من طلب الولاية منها، وإذا كان النظر إلى المسبب قد يكون قاضيا بجعل المطلوب شرعا غير مطلوب، بل ويجعل المباح غير مباح؛ فأولى ألا يلزم القصد إلى المسبب, يعني أن القصد إلى المسبب قد يضر؛ فضلا عن لزومه؛ فهو ترقٍّ في الاستدلال، على أنه لا يلزم. "د".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام, باب ما يكره من الحرص على الإمارة، 13/ 125/ رقم 7149"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة, باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 3/ 1456/ رقم 1733" عن أبي موسى؛ قال: دخلتُ =(34/428)
ص -309-…طلب الوجوب، أو الندب، ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ، وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره، كما سيأتي بحول الله تعالى1، بل قد راعى عليه السلام مثل هذا في المباح؛ فقال: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه"2 الحديث؛ فشرط في قبوله عدم إشراف النفس؛ فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك، وتفسيره في الحديث الآخر: "من يأخذ مالًا بحقه؛ يبارك له فيه, ومن يأخذ مالًا بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع"3، وأخذه بحقه هو أن لا ينسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي؛ فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمرنا على بعض ما ولاك الله, عز وجل, وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله, ولا أحدا حرص عليه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "طلب الرجل الولاية لمقصد غير صحيح؛ كالتباهي بمقامها، أو التمتع بما تجره إليه من المنافع المادية؛ تهمة تنادي بالحذر من عاقبته، فإن من كان هذا شأنه لا يبالي أن يضحي بمصلحتها أو يحتمل الإهانة في سبيل بقائه على منصتها، وعلى مثل هذا الوجه تحمل الأحاديث الواردة في كراهة الحرص على الولاية، أما من سعى إليها ليدبر شئونها بحزم ونصيحة، أو ليتخذ مكانتها وسيلة إلى القيام بأعمال شريفة؛ فله أسوة بقول يوسف, عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}".
1 انظر: "2/ 298-299، 327، 330 وما بعد، 344 وما بعد، 438 وما بعد".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس، 2/ 337/ رقم 1473"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، 2/ 723/ رقم 1045" عن عمر -رضي الله عنه- وتتمته: "وما لا؛ فلا تتبعه نفسك".(34/429)
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، 5/ 277/ رقم 2750، وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/ 249-250/ رقم 3143، وكتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة"، 11/ 258/ رقم 6441"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" من حديث حكيم بن حزام, رضي الله عنه.(34/430)
ص -310-…حق الله فيه، وهو من آثار عدم إشراف النفس، وأخذه بغير حقه خلاف ذلك، وبين1 هذا المعنى الرواية الأخرى: "نعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"2، أو كما قال: "وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, ويكون عليه شهيدا يوم القيامة"3.
ووجه ثالث: وهو أن العباد من هذه الأمة -ممن يعتبر مثله ههنا- أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن شوائب الحظوظ، حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها, وأسسوها قاعدة بنوا عليها -في تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض- أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه، أو ما ثقل عليها؛ حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس، وهم الحجة فيما انتحلوا؛ لأن إجماعهم إجماع، وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات في الأسباب, وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك"4، وكل تصرف للعبد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ويبين".
2 هو قطعة من حديث في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري، سيأتي تخريجه في الحديث الآتي.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن -تقدم بيانها "ص309"- وليس عنده: "ويكون عليه شهيدا يوم القيامة" من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 3/ 327/ رقم 1465"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا, 2/ 727-729" من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ المصنف.
4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 36-38/ رقم 8" عن عمر, رضي الله عنه.(34/431)
ص -311-…تحت قانون الشرع؛ فهو عبادة، والذي يعبد الله على المراقبة يعزب عنه -إذا تلبس بالعبادة- حظ نفسه فيها, هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها، وهو معنى بينه أهله؛ كالغزالي1 وغيره.
فإذًا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الالتفات إلى المسببات، وهذا أيضا جارٍ في الأسباب الممنوعة كما يجري في الأسباب المشروعة، ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في جريان الثواب والعقاب2؛ فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه، والسبب هو المتضمن له؛ فلا يفوته شيء إلا بفوت شرط أو جزء أصلي أو تكميلي في السبب خاصة.
المسألة الرابعة:
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات، أعني الشارع، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر، وإذا كان كذلك؛ لزم من القصد إلى وضعها أسباب القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات.
والثاني: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعا، فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "إحياء علوم الدين" "3/ 66، 67، 69".
2 يعني: مع أنهما من المسببات؛ فيجريان على العبد بدون قصد إليهما. "د".(34/432)
ص -312-…المسببات؛ لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات.
والثالث1: أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب؛ لم يكن وضعها على أنها أسباب، لكنها فرضت كذلك؛ فهي ولا بد موضوعة على أنها أسباب، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات، فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها، وإذا ثبت هذا، وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع؛ لزم أن تكون المسببات كذلك.
فإن قيل: فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب2؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن القصدين متباينان، فما تقدم هو بمعنى أن الشارع لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات؛ فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم, وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشارع [مما]3 يقصد وقوع المسببات عن أسبابها؛ ولذلك وضعها أسبابا، وليس في هذا ما يقتضي أنها داخلة تحت خطاب التكليف, وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى مجرد الوقوع خاصة؛ فلا تناقض بين الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل في هذه المقدمات لتعرف ما يحتاج إليه منها في غرضه وما لا يحتاج إليه، وهل بقيت حاجة إلى قوله: "وإذا ثبت هذا..." إلخ بعد قوله: فواضع الأسباب قاصد المسببات من جهتها؟ أليس هذا هو الدعوى المطلوبة؟ لكنه جعلها من المقدمات ورتب عليها قوله: "وإذا ثبت هذا..." إلخ، وهل معنى قصد وضعها مسببات زائد على قصد وقوع المسببات من جهتها؟ "د".
قلت: قارن ما عند المصنف بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 179-183، 287".
2 في الأصل: "المسببات".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(34/433)
ص -313-…والثاني1: أنه لو فرض توارد القصدين2 على شيء واحد؛ لم يكن محالا إذا كان باعتبارين مختلفين3، كما توارد قصد الأمر والنهي معا على الصلاة في الدار المغصوبة باعتبارين.
والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق.
المسألة الخامسة:
إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب؛ فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق، وله القصد إليه.
أما الأول؛ فما تقدم4 يدل عليه.
فإذا قيل لك: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرهما؟
قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال؛ فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به، كما أنه أمرني أن أصلي وأصوم وأزكي وأحج، إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها.
فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح.
قلت: نعم، وذلك إلى الله لا إلي؛ فإن الذي إلي التسبب، وحصول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لازم لما قبله وليس شيئا جديدا، فإن تباين القصدين إنما جاء من عدم تواردهما باعتبار واحد. "د".
2 في الأصل و"ط": "فرض القصدان".
3 هذا الجواب مبني على أن القصدين: المثبت والمنفي متوجهان إلى شيء واحد، وهو المسببات، ولكن القصد المثبت يتعلق بها من جهة وقوعها، والقصد المنفي من حيث التكليف بها. "خ".
4 أي: في أدلة المسألة الثالثة؛ لأنه إذا كان لا يلزمه؛ فله تركه. "د".(34/434)
ص -314-…المسببات ليس إلي؛ فاصرف قصدي إلى ما جعل إلي, وأكل ما ليس لي إلى من هو له.
ومما يدل على هذا أيضا؛ أن السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما وقع المسبب عنده لا به, فإذا تسبب المكلف؛ فالله خالق السبب، والعبد مكتسب له {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29].
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
وفي حديث العدوى قوله, عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟"1، وقول عمر في حديث الطاعون: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، حين قال له عمرو بن العاص: "أفرارا من قدر الله؟"2، وفي الحديث: "جف القلم بما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب لا هامة, 10/ 241/ رقم 5770، وباب لا صفر، 10/ 171/ رقم 5717"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام, باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، 4/ 1742-1743/ رقم 2220" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه:
"لا عدوى ولا صفر ولا هامة". فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب؛ فيدخل بينها فيجربها؟ قال: "فمن أعدى الأول".
2 جزء من قول عمر في قصة خروجه إلى الشام وسماعه في الطريق عن وقوع الطاعون فيها، واستشارته الصحابة في ذلك، ثم عودته؛ أخرجه مطولا البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 4/ 1740/ رقم 2219".
والقائل لعمر: "أفرارا..." هو أبو عبيدة بن الجراح وليس عمرو بن العاص؛ كما ذكر المصنف.(34/435)
ص -315-…كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه"1.
والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع, وإذا كان كذلك؛ فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد2 على ترك الالتفات إليه؛ فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون؛ فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون وقد لا يكون، ونقض3 مجاري العادات دليل على ذلك، وأيضا؛ فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل، أوله: "يا غلام! ألا أعلمك شيئا ينفعك..."، وفيه: "احفظ الله يحفظك..."؛ أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 126" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ رقم 2516" -وقال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41، 42" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار, وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره".(34/436)
وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح.
2 أي: من جهة إيجاد المسبب وعدمه. "د".
3 فكم وجد السبب ولم يوجد المسبب، وكم وجد المسبب بدون سببه العادي، ولله خرق العوائد. "د".(34/437)
ص -316-…إلى المسبب.
فإن قيل1: قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف، وإلا؛ فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع؛ إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه2 من هذا الكتاب، فإذا طابقه صح، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات، وقد فرضناها مقصودة للشارع؛ كان بذلك مخالفا له، وكل تكليف قد خالف3 القصد فيه قصد الشارع فباطل كما تبين؛ فهذا كذلك.
فالجواب: أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب, وليس كذلك؛ لما مر أن المسببات غير مكلف بها، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق، وهو أن يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب4 ليسعد من سعد ويشقى من شقي، فإذًا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الإشكال مبني على المسألة الرابعة، وبه تعلم جودة صنيعه في تقديمها على هذه المسألة. "د".
2 في النوع الرابع من قصد الشارع من كتاب "المقاصد" "ص2/ 289 وما بعدها".
3 ترويج للسؤال يجعل أن للمكلف قصدا غير قصد الشارع، مع أن الفرض أن المكلف لا قصد له في المسبب مطلقا، لا بموافقة ولا بمخالفة. "د".
4 هذا جار على مذهب أهل السنة من أن الآثار صادرة عن قدرة الخالق مباشرة، ولكنه يوجدها عند وجود أسبابها المرتبطة بها في النظام العام ما لم يرد خرق السنن المعروفة لحكمة بالغة، وقالت القدرية: وَهِم المعتزلة أن الله أودع في العبد قدرة تصدر عنها آثارها بطريق الاختيار أو التوليد والسببية، ووافقوا الفلاسفة في قولهم: إن السبب يوجب أثره إلا أن يمنع منه مانع؛ فالسبب والمسبب عندهم مقدوران للعبد؛ إلا أن أحدهما مباشرة والآخر بواسطة. "خ".
قلت: قارن لزاما بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 287، 288 و10/ 388-393 و484-488".(34/438)
ص -317-…بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه، بل لا يصح ذلك1 لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير، [ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير]2؛ لأنه غير مكلف بفعل الغير، وإنما يكلف بما هو من فعله، وهو السبب خاصة؛ فهو الذي يلزم القصد إليه، أو يطلب القصد إليه، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع.
فصل:3
وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب؛ فكما إذا قيل لك: لم تكتسب؟ قلت: لأقيم صلبي، وأقوم في حياة نفسي وأهلي، أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب؛ فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح؛ لأنه التفات إلى العادات الجارية، وقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12].
وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23].
وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا4 مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لزوم قصد المكلف، وقد تقدمت أدلته، ولا يجوز أن يعود الضمير على نفس القصد؛ لأن ما دلل به هنا عليه لا يفيده، وأيضا ينابذ الأدلة الآتية على صحة قصد المسبب، على أن قوله بعد "فهو الذي يلزم القصد إليه" يؤيد ما قررناه. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 قارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 175-179، 165، 169".
4 كأنه قال: اقصدوا فضل الله ورزقه بأخذكم في الأسباب من الانتشار في الأرض مثلا، وهو قصد إلى المسبب بالسبب، وحيث كان في مقام الامتنان؛ فهو باق على ظاهره؛ لأن الامتنان إنما يظهر فيما كان من فعله تعالى الذي لا شأن للغير فيه، وإنما يكون ذلك في المسبب لا في السبب.(34/439)
ولو قال: عبر بالقصد الذي هو المسبب مقارنا أو مرتبا على السبب في مقام الامتنان؛ فدل على أنه يصح قصد المسبب بالسبب؛ لكان ظاهرا لأن فيه قصد المسبب بنفسه لا قصد السبب، وعبر عنه بقصد المسبب مجازا؛ لأنه لو كان مجازا وكان المسبب ليس مقصودا حقيقة؛ ما دل على مدعاه ولو في مقام الامتنان، إذا فرضنا أنه يظهر مقام الامتنان في هذه الحالة. "د".(34/440)
ص -318-…فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار؛ أشعر بصحة ذلك القصد، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ1 جَنَّاتٍ} [الطلاق: 11]، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب.
وأيضا؛ فإنما محصول هذا أن يبتغي ما يهيئ الله له بهذا السبب؛ فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ويصلح به حاله, وهذا لا نكير فيه شرعا، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا؛ فالداخل تحته مقتض لما وضعت له، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع، والمحظور إنما هو أن يقصد2 خلاف ما قصده، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع، ولا يلزم منه عقد مخالف؛ فالفعل3 موافق، والقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس فيه ما يدل على القصد من المكلف، ولكن آية {انْتَشِرُوا} و{ابْتَغُوا}، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا} مثلا ظاهرة فيما أراد، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ...} إلخ، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} الآية، واضح الدلالة على صحة قصد المسبب في أمور الآخرة. "د".
2 هذا يؤيد ما سبق لنا تعليقه على قوله: "وكل تكليف خالف القصد فيه قصد الشارع باطل". "د".
3 يشير إلى ما يأتي في موافقة ومخالفة قصد المكلف وعمله في المسألة الساسة من النوع الرابع. "د".(34/441)
ص -319-…موافق؛ فالمجموع موافق.
فإن قيل: هل يستتب هذان1 الوجهان في جميع الأحكام العادية والعبادية أم لا؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات، لظهور وجوه المصالح فيها، بخلاف العبادات؛ فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى؛ فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات؛ لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد، وهي ظاهرة في العاديات، وغير ظاهرة في العباديات, وإذا كان كذلك؛ فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في العاديات، ولا سيما في المجتهد؛ فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع، فيبطل القياس, وذلك غير صحيح؛ فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام2 والمعاني هي مسببات الأحكام، أما العباديات؛ فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها؛ كان ترك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بهما قصد المسبب وعدمه بقطع النظر عما سبق من اعتبار عدم اللزوم فيهما؛ لأنه سيبني سؤاله على لزوم القصد في العاديات ولزوم عدم القصد في العبادات. "د".
قلت: وقارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 536".
2 سرد ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" "1/ 196-200" عشرات الأمثلة من تعليلات القرآن والسنة، وله تفصيل وتقعيد حسن نحو ما عند المصنف في "مفتاح دار السعادة" "2/ 22"، وسيأتي للمصنف في "2/ 526 وما بعدها" تفصيل مسهب في هذا الموضوع.
وانظر: "شفاء الغليل" "205" للغزالي، و"أصول الفقه الإسلامي" "2/ 762" لوهبة الزحيلي، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 312"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص169-207".(34/442)
ص -320-…الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات؛ إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية.
فالجواب: أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه لتقع المصلحة المشروع لها الحكم، هذا نظره خاصة1، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه؛ فتارة يقصد إذا كان هو العامل، وتارة لا يقصد، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر؛ كالمقلد سواء، فإذا سمع قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"2؛ نظر إلى علة منع القضاء؛ فرآه الغضب، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم؛ فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين، والوجع، وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك -وكان قاضيا- امتنع من القضاء بمقتضى النهي، فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط, من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء؛ حصل مقصود الشارع, وإن لم يقصده القاضي، وإن قصد به ما ظهر قصد الشرع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج؛ حصل مقصود الشارع أيضا؛ فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال وما لم يفهم؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو ينظر إلى محلات العلل ليثبت فيها مثل الحكم في الأصل، وهذا أمر نظري غير [عملي]* أخذه هو بالعمل في هذا الفرع الذي استنبطه، وعند أخذه في العمل يستوي مع المقلد في مراعاة المسبب وعدم مراعاته. "د".
2 سيأتي تخريجه "ص411", والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سقط من المطبوع.(34/443)
ص -321-…كالعبادات بالنسبة إلى الجميع، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة1 على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة؛ فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم.
المسألة السادسة:
إذا تقرر ما تقدم؛ فللدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين؛ فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب:
إحداها: أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له؛ فهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله2، والسبب غير فاعل بنفسه، والله خالق كل شيء، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
وفي الحديث: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"3 الحديث؛ فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات، ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة، ومما يؤيد ذلك قوله فيا سيأتي "3/ 144" بعد أن ذكر فوائد الصلاة في الدنيا والآخرة: ".... وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية".
2 انظر في هذا: "الواسطة بين الحق والخلق"، و"مجموع الفتاوى" "8/ 175-179"، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 83-84/ رقم 71"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النجوم، 4/ 16/ رقم 3906"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستسقاء، باب كراهية الاستمطار بالكواكب، 3/ 164-165" وغيرهم من حديث زيد بن خالد الجهني, رضي الله عنه.
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما.(34/444)
ص -322-…المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب [فاعلا بنفسه، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام]1.
والثانية:
أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة، وهذا هو المتكلم على حكمه قبل، ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال، بل من جهة2 كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب؛ فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب؛ لأنه معقوله، وإلا لم يكن سببا؛ فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى؛ فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب وعند عدمه؛ فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا، ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب.
والثالثة:
أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى؛ لأنه المسبب؛ فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته، من غير تحكيم لكونه سببا؛ فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف، كالأسباب العقلية3، فلما لم4 يكن كذلك؛ تمحض جانب التسبيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "خ"، وكتب محشيها: "هكذا بياض في الأصل وهو غير خفي على المتأمل"، وأثبتها "م" و"ط" أيضا.
2 كلمة "جهة" ليست في "م" و"خ".
3 الأسباب العقلية لا يعترضها مانع ولا يتأخر عنها أثرها في حال؛ كالزيادة في حجم أحد الشيئين علة في كونه أكبر من الآخر، ولهذا لم يستطع المعتزلة أن يعطوا السبب المولد كالتقريب من النار المولد للإحراق حكم العلة العقلية، واضطروا إلى أن قالوا: إنه يوجب الأثر ما لم يمنع منه مانع. "خ".
4 في "خ": "لما".(34/445)
ص -323-…الرباني، بدليل السبب الأول، وهنا يقال لمن حكمه1: فالسبب الأول عن ماذا تسبب؟ وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟!"2.
فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله؛ فالله هو المسبب، لا هي؛ إذ ليس له شريك في ملكه، وهذا كله مبين في علم الكلام، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه، وذلك صحيح3.
فصل:
وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب:
إحداها:
أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد [وامتحان لهم لينظر كيف يعملون، من غير التفات إلى غير ذلك، وهذا مبني على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد]4 وامتحانا لهم؛ فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة، وهي على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن اعتقد أنه إذا وُجد وُجد المسبب، وإذا فُقد فُقد المسبب. "د".
2 مضى تخريجه "ص314"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "جاء في الشريعة ما يقتضي الحذر من العدوى؛ كحديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"؛ فالقصد إذًا من حديث: "لا عدوى" إبطال الاعتقاد بأن العدوى من الأسباب المؤثرة على سبيل الوجوب، ونبه في الحديث على وجه إبطال هذا الاعتقاد بالإشارة إلى أن المرض الذي يحدث عند مخالطة بعض المرضى قد يكون مثل الإصابة الأولى ناشئا عن سبب غير سبب العدوى".
3 وبذلك كانت الأسباب جعلية لا عقلية طبعية، تفضي إلى آثارها بذوقها.
وانظر: "مدارج السالكين" "3/ 395-401"، و"بدائع الفوائد" "3/ 178-180"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص285"، و"بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 412" لفتحي الدريني.
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(34/446)
ص -324-…أحدهما: ما وضع لابتلاء العقول، وذلك العالم كله1 من حيث هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها.
والثاني: ما وضع لابتلاء النفوس، وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه؛ لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع، ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي، وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذي لا مرد له؛ فإن الله غني عن العالمين، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط، لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها.
والأدلة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ2 أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ3 لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جملة وتفصيلا، وكذا يقال فيما بعده، وإن كانت تصاريف كل شخص لا تمس جميع التفاصيل؛ إلا أن الجزئيات مرتبة بالكليات. "د".
2 تصح دليلا على الابتلاء للعقول والنفوس على مقتضى ما قرره. "د".
3 ما قبل هذه الآية يرجع إلى قوله: "لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر..." إلخ، والآية وما بعدها -عدا الآية الأخيرة- يرجع إلى قوله: "وليظهر مقتضى العلم السابق.... إلخ". "د".(34/447)
ص -325-…{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا...} إلى قوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب إنما هي للابتلاء، فإذا كانت كذلك؛ فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق1 بذلك فيها، وهذا صحيح، وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها؛ لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه، لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها؛ فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة.
والثانية:
أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة، فضلا عن الالتفات إلى المسببات، بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه2، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة؛ لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات، وركون إلى الأغيار، وهو تدقيق في نفي الشركة، وهذا أيضا في موضعه صحيح، ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3].
وسائر ما كان من هذا الباب، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التحقيق".
2 في الأصل و"ط": "سواها".(34/448)
ص -326-…رب العالمين، كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه وصدق العبودية؛ فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها؛ فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه؛ فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة.
والثالثة:
أن يدخل في السبب بحكم الإذن1 الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك، وإنما توجهه في القصد إلى السبب تلبية للأمر2 لتحققه بمقام العبودية؛ لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به؛ لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب، وقد تبين له أنه مسببه, وأنه أجرى العادة به، ولو شاء لم يجرها كما أنه قد يخرقها إذا شاء، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص، وعلى أنه يقتضي صدق التوجه به إليه؛ فدخل على ذلك كله؛ فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره, وقد علم قصده في تلك الأمور، فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب، مما علم ومما لم يعلم؛ فهو طالب للمسبب من طريق السبب، وعالم بأن الله هو المسبب, وهو المبتلى به، ومتحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(34/449)
1 هو وقوله بعد "وعلى أنه ابتلاء" إشارة للمعنى الأول في هذا الفصل، وقوله: "يقتضي صدق توجهه هو المعنى الثاني في الفصل"، وقوله: "وقد تبين له أنه مسببه وأنه أجرى العادة به ولو شاء... إلخ" إشارة للمعنى الثالث فيما فيه الالتفات للمسبب، وقد صرح بهذه المعاني بعد؛ فقال: "فهو طالب للمسبب... إلخ"؛ فقوله: "شاملا لجميع ما تقدم"؛ أي: من المرتبة الثالثة من القسم الأول والمرتبتين المذكورتين في هذا الفصل، ويبقى الكلام معه في عد هذه المرتبة الثالثة هنا مندرجة تحت هذا الفصل الذي موضوعه ترك الالتفات إلى المسبب؛ فإن هذه المرتبة مزيج من القسمين كما عرفت، كما يبقى تصحيح الجمع بين الالتفات إلى المسبب وعدم الالتفات إليه، معا في حال واحدة من شخص واحد. "د".
2 في الأصل العبارة: "تتوجه في القصد إلى السبب... تلبية إلى الأمر".(34/450)
ص -327-…في صدق التوجه به إليه؛ فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب، لكن ذلك كله منزه عن الأغيار، مصفى من الأكدار1.
المسألة السابعة:
الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أو لا.
فإن كان منهيا عنه؛ فلا إشكال في طلب رفع [ذلك] التسبب، سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا؛ فإنه يتأتى منه الأمران: فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح فيقع، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع، على مقتضى [العادة لا على]2مقتضى الشرع، وقد لا يقع ألبتة، وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب والالتفات إليه لعارض يطرأ، غير العارض المتقدم الذكر3 ولا اعتبار به.
وإن كان غير منهي عنه؛ فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها.
أما الأولى:
فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أن التعلق بالمسببات قد ينسي المسبب الحقيقي، أو ينسي شكره على ما أعطى من نتائج وثمرات، وقد يكون مرهقا لصاحبه؛ لشدة همه وفرط حرصه على المسببات، وخوفه من عدم حصولها، أو حزنه لعدم مجيئها على ما يؤمل، قاله الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص160".
2ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3تقدم له ذكر الغفلة التي تعتري العالم حتى تجعله غير عالم بما يفعل، ومثله بمن يطرأ عليه غفلة ترفع منه منفعة العين فيصاب, ولكن هذا العارض لما كان يمنع نفس التكليف، وأصل كلامه أنه منهي عنه ومكلف بعدم التسبب، قال: "غير العارض المتقدم الذكر"، وقوله: "ولا اعتبار به"؛ أي: بهذا العارض هنا لأنه لا يزال معه منهيا عن التسبب ومكلفا. "د".(34/451)
ص -328-…فاعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب، فلا يبطله؛ إلا إن قيل: إن مثل هذه المقارنة مفسدة، وإن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه، كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالمدية المغصوبة، وذلك مبين في الأصول.
وأما الثانية:
فظاهر أن التسبب صحيح؛ لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات، وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها، وغلب على الظن ذلك؛ كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو، وكذلك إذا بلغ [اعتقاده] مبلغ القطع العادي؛ فواجب عليه أن يتسبب، ولأجل هذا قالوا في المضطر: إنه1 إذا خاف الهلكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها، ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت، ولذلك قال مسروق: "ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات؛ دخل النار"2.
وأما الثالثة:
فالتسبب أيضا ظاهر؛ إلا أنه يبقى فيها بحث: هل يكون صاحبها بمنزلة3 صاحب المرتبة الثانية أم لا؟ هذا مما ينظر فيه، وإطلاق كلام الفقهاء يقتضي عدم التفرقة، وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضي ذلك، هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم كطريقة الفقهاء، على تفصيل له في ذلك4؛ فالذي يظهر في المسألة نظر آخر، وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية وتكون حالية5، والفرق بين العلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 "استدراك1".
3 لأن الفرق بينهما لا يترتب عليه فرق في غلبة الظن بوقوع المسبب عند السبب؛ فيجيء فيه التفصيل المذكور من وجوب التسبب وعصيانه بتركه. "د".
4 انظر: "إحياء علوم الدين" "4/ 261 وما بعدها".(34/452)
5 يعلم الإنسان حقيقة التوكل أو الصبر أو الخشية، ولا شك أن علمه بهذه الحقائق وما شاكلها غير اتصافه بها، فإذا ارتقى قلبه إليها، وانصبغت نفسه بأثرها حتى غلب عليها حاله؛ انتقل من حكم العمل بالعلم وحده إلى حكم العمل بالحال المصاحب للعلم؛ فالحال ثمرة العلم، ولا يكمل إلا إذا تصرف في صاحبه على مقتضى قانون العلم المثمر إليه. "خ".(34/453)
ص -329-…والحال معروف عند أهله، فإذا كانت علمية؛ فهي المرتبة الثانية1؛ إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها، وإنما الفاعل2 فيها مسببها سبحانه، لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة، وقد يخرقها إذا شاء لمن شاء، فمن حيث كانت عادة؛ اقتضت الدخول في الأسباب، ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات؛ اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها؛ فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين، فإن غلب الطرف الأول وهو العادي؛ فهو ما تقدم3، وإن غلب الثاني؛ فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة؛ فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة؛ فسواء عليه أتسبب أم لا؛ إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى، فلم يغلب على ظنه -والحال هذه- أن تركه للسبب إلقاء باليد إلى التهلكة؛ بل عقده في كلتا الحالتين واحد؛ فلا يدخل تحت قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}4 [البقرة: 195]؛ فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك؛ لأن علمه5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي بمنزلتها، وتشترك معها في المآل؛ فحكمها حكمها. "د".
2 في الأصل: "الدليل"، وهناك إشارة لخطئها مع عدم ذكر الصحيح، والله أعلم.
3 أي: ويكون صاحبها لم يرتق فيها عن الحالة العلمية إلى التحقق بها وصيرورتها صفة له كالطبعية، يجري في أفعاله على مقتضاها دون كلفة ولا حمل لنفسه عليها. "د".
4 في "صحيح مسلم" وغيره أن أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- رد على من فهموا أن حمل الغازي الواحد على جماعة العدو من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وبين لهم أن الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي نزلت فيه الآية هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها، والتحقيق أنه يجوز للواحد الحمل على الكتيبة متى غلب على ظنه أن يكون لإقدامه أثر نافع؛ كالفتك ببعض رجال العدو، أو إرهابهم, أو تشجيع غيره من المسلمين. "خ".(34/454)
5 أي: الذي صار حالة له كالأوصاف الطبيعية. "د".(34/455)
ص -330-…بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعيين، بل السبب وعدمه في ذلك سواء، فكما أن أخذه للسبب لا يعد إلقاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب، كذلك في الترك، ولو فرض أن آخذ السبب أخذه بإسقاط الاعتماد على المسبب؛ لكان إلقاء باليد إلى التهلكة لأنه اعتمد على نفس السبب، وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه, وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا، فلذلك إذا ترك السبب لا لشيء1؛ فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان وحقائق الإيقان2.
وكل أحد فقيه نفسه، وقد مر الدليل على ذلك3، وقد قال في الحديث:
"جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، [وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه]"4، وحكى عياض5 عن الحسن بن نصر السوسي -من فقهاء المالكية- أن ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر: يا أبت! اشتر طعاما؛ فإني أرى السعر قد غلا. فأمر ببيع ما كان في داره من الطعام، ثم قال لابنه: لست من المتوكلين على الله، وأنت قليل اليقين، كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك! من توكل على الله؛ كفاه الله.
ونظير مسألتنا في الفقه؛ الغازي إذا حمل وحده على جيش الكفار؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا لسبب آخر. "د".
2 تكلم ابن تيمية على نحو ما عند المصنف، ولكن على وجه آخر. انظر: "مجموع الفتاوى" "8/ 520-523".
3 في المسألة الخامسة.
4 مضى تخريجه "ص315"، وهو حديث صحيح، وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
5 في "ترتيب المدارك" "6/ 36-ط المغربية".(34/456)
ص -331-…فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة، أو الهلكة، أو يقطع بإحداهما؛ فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل، والذي اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وكذلك داخل المفازة بزاد أو بغير زاد؛ إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام، وإن غلب على ظنه الهلكة لم يجز.
وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت؛ أمر بالتأخير ولا يتيمم [فإن غلب على ظنه أن لا ماء يتيمم]، [وكذلك راكب البحر1 وعلى هذا يباح له التيمم مع وجود الماء في رحله أو يمنع، وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت]2، وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم، أفطر... إلى غير ذلك من المسائل المبنية3 على غلبات الظنون، وإن كانت موجبات الظنون تختلف؛ فذلك غير قادح في هذا الأصل، فمسألتنا داخلة تحت هذه القاعدة.
فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق؛ صح أن يقال: إنه لا يجب عليه التسبب فيه, ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال، ويقتحمون الأخطار، ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة؛ فلا يكون كذلك، بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر وأسباب الهلكة، يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا غلب على ظنه السلامة في ركوب السفينة ركبها، وإلا؛ منع من ركوبها. "د". وانظر في المسألة: "5/ 354" مع التعليق عليه.
2 ينظر في هذا. "د". قلت: انظر في المسألة: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب "1/ 38"، و"الخلافيات" للبيهقي "2/ 519-525" مع تعليقي عليها, وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 في الأصل: "المبنيات".(34/457)
ص -332-…وقد حكى عياض1 عن أبي العباس الإبياني2: "أنه دخل عليه عطية الجزري العابد؛ فقال له: أتيتك زائرا ومودعا إلى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك. وبكى، وليس مع عطية ركوة ولا مزود، فخرج مع أصحابه, ثم أتاه بأثر ذلك رجل؛ فقال له: أصلحك الله! عندي خمسون مثقالا ولي بغل؛ فهل ترى لي الخروج إلى مكة؟ فقال له: لا تعجل حتى توفر هذه الدنانير. قال الراوي: فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما. فقال أبو العباس: عطية جاءني مودعا غير مستشير، وقد وثق بالله، وجاءني هذا يستشيرني ويذكر ما عنده؛ فعلمت ضعف نيته، فأمرته بما رأيتم".
فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب، والنظر في مراعاتها، وسلم لقوي اليقين في طرح الأسباب3؛ بناء -والله أعلم- على القاعدة المتقدمة في الاعتقادات وغلبات الظنون في السلامة والهلكة، وهي مظان النظر الفقهي، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة؛ كما تقدم.
فإن قيل؛ فصاحب هذه المرتبة؛ أي الأمرين أفضل له؛ الدخول في السبب, أم تركه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "2/ 351 - ط مكتبة دار الحياة - بيروت".
2 قال عياض في "ترتيب المدارك" "2/ 347": "بكسر الهمزة وتشديد الباء ويقال: صوابه تخفيفهما". وانظر: "التبصير" "1/ 36"، و"الأنساب" "1/ 128" مع الحاشية.
3 تهافت على هذا المسلك طوائف زين لهم الكسل أن يفسروا به معنى فضيلة التوكل؛ فنفضوا أيديهم من العمل واستعاضوا عنه البطالة والتطلع بما في أيدي الناس؛ فكانوا حملا ثقيلا على أعناق العاملين، ومن البلية أن هذا التحريف الباطل لكلمة التوكل قد ضرب وباؤه في القلوب، وكان من أكبر العلل التي قعدت بالشعوب الإسلامية عن القيام بوسائل المنعة حتى هوت إلى درك الشقاء والتخبط في أسر الذلة والاضطهاد. "خ".(34/458)
ص -333-…فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الأسباب في حقه لا بد منها، كما أنها كذلك في حق غيره؛ فإن خوارق العادات وإن قامت له مقام الأسباب في حقه؛ فهي في أنفسها أسباب، لكنها أسباب غريبة، والتسبب غير منحصر في الأسباب المشهورة؛ فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لا يحتسب؛ إما من نبات الأرض، وإما من جهة من يلقى من الناس في البادية وفي الصحراء، وإما من حيوان الصحراء، أو من غير ذلك، ولو أن ينزل عليه من السماء، أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية، يعرفها أربابها المخصوصون بها؛ فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب، ومنها الصلاة؛ لقوله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
وروي أنه, عليه الصلاة والسلام "كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا"1، وإذا كان كذلك؛ فالسؤال غير وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ 487"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 176"، والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 9705"، وسعيد بن منصور في "سننه" وابن المنذر في "تفسيره"؛ كما قال السيوطي في "حصول الرفق" "رقم 29" من طريق معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام؛ قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق؛ أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}".
ورجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "7/ 67"، إلا أنه منقطع، محمد بن حمزة لم يسمع من جده عبد الله بن سلام.
وله شاهد من مرسل ثابت البناني؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصابه خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه! يا أهلاه! صلوا".
أخرجه أحمد في "الزهد" "10"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 79"- وهو مرسل؛ فالحديث ضعيف.(34/459)
وأخرج عبد الرزاق نحوه بإسناد ضعيف، وانظر: "الدر المنثور" "5/ 613"، و"الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "2/ 824-825".(34/460)
ص -334-…والثاني, على تسليم وروده: أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة واستيقنوها حالا وعلما، ولكنه -عليه السلام- ندبهم إلى الدخول في الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا، كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة، ولم يتركهم مع هذه الحالة؛ فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه، ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقام1 فيه؛ ألا ترى إلى قوله, عليه الصلاة والسلام: "قيدها وتوكل"2؟!
وأيضا؛ فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات، ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أهل علم، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره.
وأما المرتبة الرابعة:
وهي مرتبة الابتلاء؛ فالتسبب فيها أيضا ظاهر، فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق، لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية، فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذي سببها من حيث كانت مصروفة إليه؛ كذلك الأسباب العادية، ومن هنا لما قال عليه السلام: "ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار". قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: "لا، اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له". ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخرها3؛ فكذلك العاديات؛ لأنها عبادات، فهي عنده جارية على الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يقدم"، وفي النسخ المطبوعة: "يقوم"، والمثبت من "ط".
2 مضى تخريجه "ص304" وهو حديث حسن.(34/461)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، 11/ 494/ رقم 6605"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2040/ رقم 2647" بألفاظ، المذكور لفظ مسلم برقم "2647" بعد "7"، ولكن ليس فيه لفظة "منفوسة"، وهي فيه برقم "2647" بعد "1"، لكن بلفظ مغاير عن هذا السياق، وهو من حديث علي, رضي الله عنه.(34/462)
ص -335-…الموضوعة، ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في العبادات، يعتبر فيها مجرد الأسباب ويدع المسببات لمسببها.
وأما المرتبة الخامسة:
فالتسبب فيها صحيح أيضا؛ لأن صاحبها وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب، ولا إلى المسبب من باب أحرى؛ فلا بد منه من جهة ما هو راق به وملاحظ للمسبب من جهته، بدليل الأسباب العبادية، ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها؛ فلا فارق بين العاديات والعباديات؛ إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على الجملة، فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري، واقتصر على ما هو ضروري، وضيق على نفسه المجال فيها، فرارا من تكاثرها على قلبه؛ حتى يصح له اتحاد الوجهة، وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب؛ فلا شك في أخذها في هذه الرتبة؛ إذ من جهتها يصح المطلوب.
وأما السادسة:
فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها؛ كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها؛ غير أن ذلك فيها معتبر من جهة صفة العبودية وامتثال الأمر، لا من جهة أمر آخر؛ فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها؛ كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله، فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه؛ كان قصد في امتثال الأمر شاملا له، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا؛ لأنه لما جعل مسبب عنه في مجرى العادات؛ عد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا(34/463)
ص -336-…قاعدة مجاري العادات؛ إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا1، وسائر المسببات إلى أسبابها2؛ فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا، وإذ كان هذا معهودا معلوما؛ جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان.
وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو الممنوعة؛ كقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ...} إلى قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا3} [المائدة: 32].
وفي الحديث: "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل"4.
وفيه: "من سن سنة حسنة؛ كان له أجرها وأجر من عمل بها"5.
وكذلك: "من سن سنة سيئة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السقمونيا: نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن؛ كما في "المعجم الوسيط" "س ق م".
2 في الأصل: "الأسباب إلى مسبباتها".
3 هذا مبني على أن المراد بالقتل والإحياء المسبب، وهو في الآيتين زهوق الروح والحياة؛ فيكون فيه نسبة المسبب وهو الحياة والموت إلى المتسبب، وقد سبق له في المسألة الثانية جعل القتل سببا لا مسببا، ويمكن إرادته هنا؛ فلا يكون فيه دليل. "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.(34/464)
ص -337-…وفيه1: "إن الولد لوالديه ستر من النار"2، و"إن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع؛ فهو له صدقة، وما أكلت الطير؛ فهو له صدقة، ولا يرزؤه3 أحد إلا كان له صدقة"4، وكذلك الزرع، والعالم يبث العلم؛ فيكون له أجر كل من انتفع به5.
ومن ذلك ما لا يحصى، مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ليست من فعل المتسبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من هنا إلى آخر المسألة واضح فيه نسبة المسبب إلى المتسبب، وهو يدل على مدعاه. "د".
2 لم أظفر به بهذا اللفظ، ولكن أخرج أحمد في "المسند" "4/ 386" ضمن حديث عمرو بن عبسة السلمي, مرفوعا: "وأيما رجل مسلم قدم لله -عز وجل- من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو امرأة؛ فهم له سترة من النار".
وقد خرجته في تحقيقي لرسالة السيوطي "التعلل والإطفا" "رقم 21"، وهو صحيح.
3 أي: لا ينقصه ويأخذ منه.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1552" عن جابر بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا؛ إلا كان من أكل منه..." تتمته باللفظ الذي أورده المصنف.
5 قال الشيخ ابن عرفة في حديث: "أو علم ينتفع به" إنما تدخل التآليف في الأعمال التي لا ينقطع ثوابها إذا اشتملت على فوائد زائدة "يعني: على ما في الكتب السابقة"، وإلا؛ فهي إضاعة للورق، وهذا تلميح منه إلى انحطاط درجة من ليس له من المعلومات سوى ما يتلقاه بتقليد، وشرف من رزق فكرا يتجول في حدائق العلم حتى يعود بثمر جديد. "خ".(34/465)
ص -338-…فإذا كان كذلك؛ فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه، لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل، وإن كان غير محيط بجميع التفاصيل, وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة لا على التفصيل، وذلك أن ما أمر الله به؛ فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله، وما نهى عنه؛ فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله, فإذا فعل؛ فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد، ولا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما, فإن الأمر قد تضمن أن في إيقاع [المأمور به مصلحة علمها الله، ولأجلها أمر به، والنهي قد تضمن أن في إيقاع]1 المنهي عنه مفسدة علمها الله، ولأجلها نهى عنه؛ فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد، وإن جهل تفاصيل ذلك.
فإن قيل: أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل؟
فالجواب: أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله وتعاطاه، لا على ما لم يفعل لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه2 من المصالح أو المفاسد وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته؛ فجعله ركنا، أو مفسدته؛ فجعله كبيرة وبين ما ليس كذلك؛ فسماه في المصالح إحسانا وفي المفاسد صغيرة، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله ويعرف ما هو من الذنوب كبائر، وما هو منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات؛ فهو من أصول الدين، وما جعله دون ذلك؛ فمن فروعه وتكميلاته، وما عظم أمره في المنهيات؛ فهو من الكبائر, وما كان دون ذلك؛ فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "والنهي كذلك قد...".
2 أي: يقيم الفعل بما يترتب عليه.(34/466)
3 سيأتي للمصنف بيان فيه ضابط أدق للفرق بين الضروريات والحاجيات؛ وذلك في المسألة السابعة عشرة في النوع الرابع من القسم الأول من المقاصد، وفي "الاعتصام" "2/ 38-39" للمصنف نحو ما ذكر هنا مع تفصيل زائد.(34/467)
ص -339-…المسألة التاسعة:
ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف، وأن السبب هو المكلف به، إذا اعتبر ينبني عليه أمور:
أحدها:
أن متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه1 وانتفاء موانعه، ثم قصد أن لا يقع مسببه؛ فقد قصد محالا، وتكلف رفع ما ليس له رفعه، ومنع ما لم يجعل له منعه.
فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع، أو بيعا أو شيئا من العقود، ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه؛ فقد وقع قصده عبثا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه، وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع, ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك؛ فهو قصد باطل، ومثله في العبادات؛ إذا صلى، أو صام، أو حج كما أمر، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له، أو لا ينعقد قربة، وما أشبه ذلك؛ فهو لغو.
وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة، وفيه جاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية: [المائدة: 87]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضع الأصل من أول الأمر على أنه تعاطى السبب بكمال شروطه ثم قصد ألا يقع... إلخ، وفي تمثيلاته أيضا في العادات والعبادات لاحظ ذلك ليسلم له الأصل من الإشكالات الآتية؛ فأنت تراه جعل القصد المخالف لقصد الشارع لاحقا لتمام العمل لا مقارنا، إلا أنه يبقى الكلام في قوله في الطلاق والعتق؛ "قاصدا به مقتضاه في الشرع", إن كان مراده أنه لم يغلط ولم يسبق لسانه فواضح، وإن كان مراده ما هو ظاهره من أنه لا بد من قصد المعنى؛ فالفقه عند المالكية غير ذلك، بل لو كان هازلا لوقع الطلاق والعتق، ولم يكن له رفعه. "د".
2 فقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ..} إلخ بعد ذكر التحريم يفيد أن التحريم السابق المنهي عنه لغو؛ كأنه قال: وكلوا من هذا الطيب الذي حرمتموه. "د".(34/468)
ص -340-…ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا؛ من المأكول، والمشروب, والملبوس، والنكاح، وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد للتعليق في خاص1 -بخلاف العام- وما أشبه ذلك؛ فجميع ذلك لغو؛ لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه، ومثله قوله, عليه الصلاة والسلام: "إنما الولاء2 لمن أعتق"3، وقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط"4 الحديث.
وأيضا؛ فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم، فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع، وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل5؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 احتاج إليه على مذهب مالك لا على مذهب الشافعي؛ فالتعليق عنده كله لغو. "د".
2 فالشارع جعل الولاء لمن أعتق مسببا عن عتقه؛ فمن وقع العتق منه ثبت له الولاء، فمن أراد رفعه قصد محالا وتكلف رفع ما ليس له رفعه، وهو دليل على أصل المسألة, وإن كان في موضوع خاص بالولاء. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، 12/ 39/ رقم 6751، 6754"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1141/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
وهو وما قبله دليل على أن ما جعله الله مسببا عن شيء، فقصد العبد رفع هذا المسبب لغو؛ إلا أن الأول خاص، وهذا عام في الولاء وغيره. "د".(34/469)
5 من الفروع الموضحة لهذه القاعدة أن الزوج لا يملك إسقاط الرجعة لأنها حق أثبته الله شرعا، فمن قال لزوجته: أنت طالق ولا رجعة لي عليك؛ نفذ طلاقه وبقي حق الرجعة في يده لأنها من الحقوق التي رتبها الشارع على الطلاق غير البائن، وما قرره الشارع لا يملك المكلف رفعه بحال. "خ".(34/470)
ص -341-…فهذا القصد باطل، والمسألة واضحة.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب1، فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها؛ كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها، بل مفقودة الشرط وهو الاختيار، فلم تصح من جهة فقد الشرط؛ فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الاختيار.
والثاني: أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وتعاطي الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة، من حيث كان قصد الشارع التحليل2 بوساطة هذه الأسباب؛ فيكون إذًا تعاطي هذه الأسباب باطلا وممنوعا؛ كالمصلي قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله, والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة، وما أشبه ذلك؛ فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين، وهو باطل.
فالجواب عن الأول: أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالاختيار لأن تكون أسبابا, لكن مع عدم اختياره للمسبب وليس الكلام في موقعها بغير اختيار، والجمع بينهما ممكن عقلا؛ لأن أحدهما سابق على الآخر؛ فلا يتنافيان؛ كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد، أو اختار وضع البذر في الأرض وكره نباته، أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه، وما أشبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن الأفعال والتروك إذا عريت عن القصد كانت لغوا, كما تقرر في المسألة السادسة من كتاب الأحكام. "د".
2 في جميع النسخ "التحصيل" والمثبت من "ط".(34/471)
ص -342-…ذلك، فكما يمكن اجتماعها1 في العاديات؛ فكذلك في الشرعيات.
والجواب عن الثاني: أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج, وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب، وهذا ليس له؛ فقصده فيه عبث بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع؛ فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسب لم يجعله الشارع مسببا له، كنكاح المحلل عند القائل بمنعه؛ فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره، ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب؛ فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا2؛ فلم يكن محللا للناكح ولا للمحلل له لأنه باطل.
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب3، والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج؛ فالأول لا ينتج له شيئا، والآخر ينتج له؛ لأنه ليس الإنتاج باختياره ولا عدمه، فهذا لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب، ولكن زعم أنه لا يقع مسببه، وهذا كذب أو طمع في غير مطمع، والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع؛ فاعرف الفرق بينهما؛ فهو دقيق.
ويوضحه4 أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه، والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اختيار السبب وقصده ليكون سببا، وقصده عدم المسبب، وقوله: "العاديات"؛ أي: الأمثلة الثلاثة. "د".
2 في الأصل: "مرعيا".
3 أي: مع أنه ليس بسبب, أي: قصد به ما لم يجعل سببا له، والثاني بعد ما تعاطى السبب كاملا قصد ألا يقع مسببه وطلب رفع الواقع كما يقولون. "د".
4 أي: يوضح المقام في ذاته لا الحاصل المتقدم. "د".(34/472)
ص -343-…فإن قيل: لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات؟ فإنه في الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا؛ فالطهارة مثلا سبب في رفع الحدث، فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث؛ فهو معنى رفض النية فيه، وقد قالوا: إن رفض النية ينهض سببا في إبطال العبادة؛ فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب1 لا إبطال المسببات.
فالجواب: أن الأمر ليس كذلك، وإنما يصح الرفض في أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر، ثم أتمها على غير ذلك، بل بنية أخرى ليست بعبادته التي شرع فيها؛ كالمتطهر ينوي رفع الحدث، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو التنظف من الأوساخ البدنية، وأما بعد ما تمت العبادة وكملت على شروطها؛ فقصده أن لا تكون عبادة ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أو استباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها؛ بل هي على حكمها لو لم يكن ذلك القصد؛ فالفرق بينهما ظاهر.
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض، وقال إنه يؤثر، ولم يفصل2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيعود الإشكال الأول. "د".
2 بل جعل رفض الوضوء ولو بعد تمامه وقبل أداء الصلاة به مبطلا له. "د".
قلت: من نسب القول إلى مالك بأن رفض النية له أثر في بطلان الطهارة بعد تمامها لم يأخذه من نص كلامه، وإنما قاسوه على قوله: "من تصنع لنوم؛ فعليه الوضوء، وإن لم ينم". قالو: هذه عبادة يبطلها الحدث؛ فصح رفضها.(34/473)
والقول بهذا قول عند الشافعية، والصحيح المشهور في مذهبهم أنها لا تبطل، ومن الغريب أن يحكي القرافي في "الذخيرة" "1/ 244-ط المصرية، و2/ 520-ط دار الغرب" أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال، ويقول: "هذا هو المشهور عندهم"؛ إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال، ولعل القول الفصل في هذه المسألة ما قاله ابن رشد: "من ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض؛ فعليه الدليل". انظر: "مواهب الجليل" "1/ 241"، و"المجموع" "1/ 388"، و"نهاية الأحكام في بيان ما للنية من الأحكام" "45 وما بعدها"، و"مقاصد المكلفين" "239-240"، وانظر رفض النية في أثناء العبادة: "المحلى" "6/ 174" و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"المجموع" "6/ 331-332" وما سيأتي "3/ 16".(34/474)
ص -344-…القول في ذلك؛ فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل، من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في النظر: فمن نظر1 إلى فعلها على ما ينبغي؛ قال: إن استباحة الصلاة بها لازم ومسبب عن ذلك الفعل؛ فلا يصح رفعه إلا بناقض طارئ، ومن نظر إلى حكمها -أعني: حكم استباحة الصلاة، مستصحبا إلى أن يصلي, وذلك أمر مستقبل- فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة، وهي بالنية المنافية منسوخة؛ فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها؛ لأن ذلك كالرفض المقارن لفعل، ولو قارن الفعل لأثر؛ فكذلك هنا، فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة وتم حكمها؛ لم يصح أن يقال: إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة؛ فكذلك من صلى ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها، وقد كان أتى بها على ما أمر به، فإن قال به [أحد] في مثل هذا2؛ فالقاعدة ظاهرة في خلاف ما قال، والله أعلم، وبه التوفيق.
هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء موانعها، وأما إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مآل الفرق بين النظرين أن من اعتبر الوضوء عبادة تامة مستقلة بنفسها بقطع النظر عن الصلاة وإن كانت شرطا فيها؛ قال: لا يؤثر الرفض بعدما تمت، ومن نظر إلى أن الوضوء شرط في صحة الصلاة وكأنه جزء منها؛ لم يجعل تمامه إلا بأداء الصلاة، فرفضه قبل الصلاة رفض له قبل تمامه؛ فيؤثر فيه. "د".
2 أي: فإن قال: إن الوضوء يبطل حتى إذا كان رفضه بعد تمام الصلاة به؛ فيكون مخالفا للقاعدة. "د".(34/475)
ص -345-…لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف موانعها؛ فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره.
وأيضا؛ فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها، فإذا لم تتوفر؛ لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا، سواء علينا أقلنا: إن الشرط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا؛ فالثمرة واحدة.
وأيضا، لو اقتضت الأسباب مسبباتها وهي غير كاملة بمشيئة المكلف، أو ارتفعت اقتضاءاتها وهي تامة؛ لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة، ولكان وضعه لها عبثا؛ لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا، ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا، فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا؛ لم يكن لها وضع معلوم في الشرع، وقد فرضناها موضوعة في الشرع على وضع معلوم، هذا خلف محال؛ فما يؤدي إليه مثله, وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية1.
فإن قيل: كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد، أو بأنه يدل على الصحة، أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه؟ فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه -وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في يد المكلف أن يتصرف فيما وضع من الأسباب التي تترتب عليها مصالح تعود إلى غيره بإجماع، فإن كان الوضع الشرعي قائما على مراعاة حظ ذلك المكلف خاصة؛ فهذا هو الذي يطرقه الاختلاف وتتفاوت الأنظار في تحقيق أمره، ومن هذا نشأ الخلاف في بعض مسائل يلتزم فيها المكلف ما لا يلزمه شرعا كمن التزم عدم القيام بعيب يجده في المبيع، والذي يرى أن التزامه لغو يبني الحكم على أن الشارع جعل القيام بالعيب حقا للمشتري؛ فالتزامه لإسقاطه لا يؤثر في وضعه الشرعي وله التمسك به حيث أراد. "خ".(34/476)
ص -346-…انتفت موانعه- يفيد حصول المسبب، وفي مذهب مالك1 ما يدل على ذلك؛ فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع، وأيضا؛ فتفيد الملك بحوالة الأسواق وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين, وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل، والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله؛ فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب، إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا.
فالجواب: أن القاعدة عامة، إفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو2 لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول3، وبيان ذلك لا يسع ههنا، وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله.
فصل:
ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم؛ أن الفاعل للسبب عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه؛ كان أقرب إلى الإخلاص، والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية والأحوال المرضية, ويتبين ذلك بذكر البعض، على أنه ظاهر!
أما الإخلاص؛ فلأن المكلف -إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي- خارج عن حظوظه، قائم بحقوق ربه، واقف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وكما قاله أبو حنيفة وغيره في عدم الحد، وفي ثبوت النسب في نكاح المحارم. فقالوا: إن هذا ليس حكم العقد، وإنما هو شيء آخر، وهو حكم الشبهة بصورة العقد، ولم يقل به الأئمة الثلاثة، بل أوجبوا الحد وعدم ثبوت النسب. "د".
2 في الأصل: "هي".
3 من هذه الأمور مراعاة الخلاف في البيوع التي اختلف أهل العلم في إجازتها. "خ".(34/477)
ص -347-…موقف العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه؛ فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب, بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص.
وأما التفويض؛ فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به, ولا هو من نمط مقدوراته؛ كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك، وهو الله سبحانه؛ فصار متوكلا ومفوضا، هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا1، فإن كان ممن2 يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب؛ صار مترقبا له ناظرا إلى ما يئول إليه تسببه، وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السبب استعجالا لما ينتجه؛ فيصير توجهه إلى ما ليس له، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه، وهنا تقع حكاية من سمع أن "من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"3؛ فأخذ -بزعمه- في الإخلاص لينال الحكمة، فتم الأمد ولم تأته الحكمة، فسأل عن ذلك؛ فقيل له: إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله.
وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب، ربما غطت ملاحظاتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جامعا بين الأمرين, بخلافه إذا نظر إلى المسبب دائما؛ فإنه يغلب عليه جانب الرجاء، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تضعضع همته وفتور نفسه عن الأعمال التكليفية. "د".(34/478)
2 هل هذا غير ما شرحه في الفصل التالي؟ ولا يخفى أن قوله: "فإن كان" مقابل لقوله: "إذا علم أن المسبب... إلخ"؛ فالكلام هنا شامل للعادي والعبادي، كما هو شامل لهما في الفصل التالي؛ فكان يمكن الاستغناء بما يأتي عن هذا، على أنه لا خصوصية لبيان ابتناء مقام التفويض على ما سبق في ذكر الإعراض عن تكميل السبب، بل هذا شأن آخر يترتب على النظر للمسبب، ونسبته لموضوع التفويض كنسبته لمقام الصبر والشكر والإخلاص، وهي الأمور التي بناها على قطع النظر عن المسبب. "د".
3 سيورده المصنف "3/ 148"، ويصرح بأنه حديث، وهو ضعيف، ضعفه جماعة من الحفاظ كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلا، والصحيح أنه من قول مكحول.(34/479)
ص -348-…فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب، وبذلك يصير العابد مستكثرا لعبادته، والعالم مغترا بعلمه، إلى غير ذلك.
وأما الصبر والشكر؛ فلأنه إذا كان ملتفتا1 إلى أمر الآمر وحده، متيقنا2 أن بيده ملاك المسببات وأسبابها، وأنه عبد مأمور؛ وقف مع أمر الآمر، ولم يكن له عن3 ذلك محيد ولا زوال، وألزم نفسه الصبر على ذلك؛ لأنه تحت حد المراقبة، وممن عبد الله كأنه يراه، فإذا وقع المسبب كان من أشكر الشاكرين؛ إذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب وِرْدا ولا صَدَرا4، ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ولا ضرا، وإن كان علامة وسببا عاديا؛ فهو سبب بالتسبب5 ومعتبر في عادي الترتيب، ولو كان ملتفتا إلى المسبب؛ فالسبب قد ينتج وقد يعقم، فإذا أنتج فرح، وإذا لم ينتج؛ لم يرض بقسم الله ولا بقضائه، وعد السبب كلا شيء، وربما مله فتركه، وربما سئم منه فثقل عليه، وهذا يشبه من يعبد الله على حرف، وهو خلاف عادة من دخل تحت رق العبودية، ومن تأمل سائر المقامات السنية وجدها في ترك الالتفات إلى المسببات، وربما كان هذا أعظم نفع الكرامات والخوارق.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره لله إنما همه السبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "ملفتا".
2 في الأصل: "يقينا".
3 هكذا في الأصل, وفي النسخ المطبوعة: "من".
4 الورد والصدر من أورد الماشية الماء وأصدرها عنه، والمعنى هنا: لم ير لنفسه شيئا أولا ولا آخرا. انظر: "لسان العرب" "و ر د"، و"ص د ر".
5 في الأصل: "التسبب".(34/480)
ص -349-…الذي دخل فيه؛ فهو على بال منه في الحفظ له والمحافظة عليه والنصيحة فيه؛ لأن غيره ليس إليه، ولو كان قصده المسبب من السبب؛ لكان مظنة لأخذ السبب على غير أصالته، وعلى غير قصد التعبد فيه؛ فربما أدى إلى الإخلال به وهو لا يشعر، وربما شعر به ولم يفكر فيما عليه فيه، ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة، وهو أصل الغش في الأعمال العادية، نعم والعبادية، بل هو أصل في الخصال المهلكة.
أما في العاديات؛ فظاهر، فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح الذي يأمله في تجارته، أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته، أو ما أشبه ذلك.
وأما في العبادات؛ فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع له القبول في الأرض، بعد ما يحبه أهل السماء؛ فالتقرب بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى، ثم من الملائكة، ثم يوضع القبول في الأرض؛ فربما التفت العابد لهذا المسبب بالسبب الذي هو النوافل، ثم يستعجل ويداخله طلب ما ليس له؛ فيظهر ذلك السبب، وهو الرياء، وهكذا في سائر المهلكات، وكفى بذلك فسادا.
فصل:
-ومنها: أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس، ساكن البال، مجتمع الشمل، فارغ القلب من تعب الدنيا، متوحد الوجهة1؛ فهو بذلك طيب المحيا، مجازى في الآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جاعل وجهه إلى الله في كل ما يفعل وما يقول من عبادة وعادة. "ماء".
2 محل شاهده فيما ذكره منها كما سيأتي في بيان معنى الحياة الطيبة، أما بقية الآية؛ فراجع إلى قوله: "مجازى في الآخرة", ولا يتعلق به غرضه هنا. "د".(34/481)
ص -350-…وروي عن جعفر الصادق؛ أنه قال في الحياة الطيبة: "هي المعرفة بالله، وصدق المقام مع الله، وصدق الوقوف على أمر الله"1.
وقال ابن عطاء: "العيش مع الله، والإعراض عما سوى الله".
وأيضا؛ ففيه كفاية جميع الهموم، بجعل همه هما واحدا، بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب؛ فإنه ناظر إلى كل مسبب في كل سبب يتناوله، وذلك مكثر ومشتت.
وأيضا؛ ففي النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال، وإذا أنتج؛ فليس على وجه واحد، فصاحبه متبدد الحال، مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان؛ فتراه يعود تارة باللوم على السبب، وتارة بعدم الرضى بالمسبب, وتارة على غير هذه الوجوه، وإلى هذا النحو يشير معنى قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا الدهر2؛ فإن الله هو الدهر"3 وأمثاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 174".
2 أي: لا تسبوا الدهر؛ لعدم مؤاتاتكم بمطالبكم ومسببات أعمالكم على ما تشتهونه، فإن الله هو الفاعل للمسببات الواقعة من الدهر. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، 4/ 1763/ رقم 2246 بعد 5" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 304" شارحا الحديث: "المعنى: لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب, ولا تنسبوها إليه؛ فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإنكم إذا سببتم الدهر؛ وقع السب على الفاعل لا على الدهر؛ لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر؛ فتقول: أصابه الدهر في ماله، ونابته قوارع الدهر ومصائبه؛ فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر؛ فيقولون: لعن الله الدهر، ومحا الله الدهر، وأشباه ذلك، وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه؛ فكأنهم إنما سبوا الفاعل، والفاعل هو الله وحده؛ فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى".(34/482)
ص -351-…وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره؛ فمشتغل بأمر واحد، وهو التعبد بالسبب أي سبب كان، ولا شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة، بل هم واحد ثابت، خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه، وقد جاء أن "من جعل همه هما واحدا؛ كفاه الله سائر الهموم، ومن جعل همه أخراه؛ كفاه الله أمر دنياه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1375/ رقم 4105"، وأحمد في "المسند" "5/ 183"، و"الزهد" "33"، والدارمي في "السنن" "1/ 75"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 163", وابن حبان في "الصحيح" "رقم 67، 68- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "5/ 158", وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 354"، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 352"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 184" من طرق عن شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا، وفيه: "من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا؛ إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة". لفظ أحمد.
وأوله: "نضر الله امرأ سمع منا...".
وأخرجه جماعة غير المذكورين بهذا اللفظ دون القطعة السابقة.
وإسناده صحيح، صححه البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "3/ 270-271/ رقم 1454"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "4/ 121"، وشيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 404".(34/483)
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 220-221" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "رقم 257-4106"- وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص29"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "رقم 317"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 105"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2521-2522"، والدارقطني في "العلل" "رقم 688"، و"الأفراد" "ق 207/ أ-مع أطراف الغرائب"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1128" بإسناد ضعيف جدا عن ابن مسعود مرفوعا: "من جعل الهموم هما واحدا؛ كفاه الله هم آخرته، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي أوديتها وقع".(34/484)
ص -352-…ويقرب من هذا المعنى قول من قال: "من طلب العلم لله؛ فالقليل من العلم يكفيه1، ومن طلبه للناس؛ فحوائج الناس كثيرة".
وقد لهج الزهاد في هذا الميدان، وفرحوا بالاستباق فيه، حتى قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه؛ لقاتلونا عليه بالسيوف".
ورُوي في الحديث: "الزهد في الدنيا يُريح القلب والبدن"3، والزهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في "العلل" "2/ 122-123": "هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث"، وبنهشل أعله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 54".
وللحديث شواهد عن أنس وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وابن عباس, ومن مرسل سليمان بن حبيب المحاربي ومن مرسل محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم، وانظر: "الزهد" لابن أبي عاصم "باب ما ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة"، ص62 وما بعدها"، و"زهد وكيع" "رقم 359، 360" والتعليق عليه.
1 أي: من طلبه ليعمل هو به؛ فما يتعلق به منه قليل لا يشتت عليه باله. "د".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "الصفة" "4/ 127"، و"سلوة الأحزان" "رقم 98"، وأبو نعيم "7/ 370".
3 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2/ ق 78" -وكما في "مجمع البحرين" "8/ 228/ رقم 5016"- والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 394"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 367" -ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 348/ رقم 10538"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 803/ رقم 1343"- عن أبي هريرة مرفوعا.(34/485)
وإسناده ضعيف جدا مسلسل بالضعفاء، فيه: علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، وأشعث بن براز، تصحف على الهيثمي في "المجمع" "10/ 286" إلى "ابن نزار"؛ فقال: "لم أعرفه"!! وهو ضعيف جدا، قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين وغيره، وقال النسائي: "متروك الحديث"، كذا في "الميزان" "1/ 262"، وقال ابن عدي: "الضعف بيّن على رواياته"، ونقل تضعيفه عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل, وأعله العقيلي بيحيى بن بسطام =(34/486)
ص -353-…ليس عدم ذات اليد، بل هو حال للقلب يعبر عنها -إن شئت- بما تقرر من الوقوف مع التعبد [بالأسباب]1، من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها في الأسباب؛ فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة.
فصل:
- ومنها: أن النظر2 في المسبب قد يكون على التوسط، كما سيأتي ذكره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الراوي له عن الأشعث، وقال عنه: "حديثه غير محفوظ"، وهو قد تفرد به، كما أفاده الطبراني.
وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أحمد: علي بن زيد ليس بشيء، قال يحيى: علي وأشعث ليسا بشيء".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 131"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 347-348/ رقم 10536" عن طاوس مرسلا، وفيه محمد بن مسلم الطائفي، وهو ضعيف لسوء حفظه، وأخرجه أيضا "برقم 289" بسنده عن الفضيل بن عياض؛ قال: يذكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم... وسرده.
وهو معضل، وفيه إبراهيم بن الأشعث ضعيف من قبل حفظه.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 188/ رقم 278"، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا، وفيه زيادة: "والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، والبطالة تقسي القلب". وإسناده ضعيف جدا، فيه أحمد بن الفرج الحمصي، وهو ضعيف، ومثله بكر بن خنيس، وفيه أيضا بقية وقد عنعن، وهو مدلس.
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "7/ 368/ رقم 10609" من طريق ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 155" عن عمر قوله، وهو الأشبه، وفيه عنعنة بقية.
والخلاصة: الحديث ضعيف مرفوعا، وقد ضعفه شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1292".
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(34/487)
2 أي: ومما يبني على أن للمسبب ليس من مقدور المكلف، ولا هو مكلف به؛ أنه إذا اتفق للمكلف نظره للمسبب فيحسن به أن يكون نظره على التوسط والاعتدال، ولا يجهد نفسه في العناية به، حتى إذا زاد عن ذلك؛ نبه على القصد والاعتدال، وإن كان ذلك ناشئا من مقام العبد من المقامات السنية؛ كالشفقة على عبادة الله وكثرة الخوف من عدم قيامه بواجبهم عليه. "د".(34/488)
ص -354-…إن شاء الله تعالى1، وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات، وهو أسلم لمن التفت إلى المسبب، وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر، فيحصل بذلك للمتسبب؛ إما شدة التعب، وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له.
أما شدة التعب؛ فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك، وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف، وأصل هذا تنبيه الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب العزيز -حالة دعائه الخلق بشدة الحرص- على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الآية، إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} الآية [الأنعام: 33-35].
وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية [المائدة: 41].
وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...} الآية, إلى قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد، والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، بقوله2: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [الرعد: 7]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وللمصنف كلام بديع على الوسطية بوجه عام في "2/ 279 وما بعدها".(34/489)
2 أفرد هذه الآيات عما قبلها وعلق عليها بأن المطلوب منك التسبب، وليس في هذه الآيات الحض على الإقصار مما يكابد كما كان ذلك في الآيات السابقة، وهو وجيه؛ إلا أنه يبقى الكلام في الآيتين الأخيرتين؛ فإن آية {لَيْسَ لَكَ...} إلخ ترجع في المعنى إلى مثل آية: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}، ولكن هذه أصرح في طلب الرجوع والوقوف عند حد وظيفته، بخلاف آية: {لَيْسَ لَكَ}؛ فلم يذكر فيها ما كلف به من ربه، والآية الأخيرة أبعدت الآيات المذكورة هنا عما يريده منها؛ إذ إنها ليس فيها ما يفهم من طلب إقصاره مما يكابد، ولا طلب رجوعه إلى التسبب. "د".(34/490)
ص -355-…{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [هود: 12]، وأشباه ذلك.
وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب، والله هو المسبب1، وخالق المسبب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية [آل عمران: 128]، وهو ينبهك على شدة مقاساته -عليه الصلاة والسلام- في الحرص على إيمانهم، ومبالغته في التبليغ؛ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة، وهي إيمانهم الذي به نجاتهم من العذاب؛ حتى جاء في القرآن: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
ومع هذا؛ فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق وأحرى بالتوسط في مقام النبوة، وأدنى من خفة ما يلقاه في ذلك من التعب والمشقة، وأجرى في سائر الرتب التي دون النبوة، هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد؛ فلا يقدح ذلك في صحة الاستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة، كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الاستدلال بأحواله وأحكامه في أحكام أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته.
وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له؛ فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون؛ كان مخالفا لمقصود الشرع؛ إذ قد تبين أن المسبب ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وليس هذا مما فيه أن الالتفات إلى المسبب التفات إلى حظوظ -وهو عليه السلام بريء من مثله- لأن ذلك منه غاية الرحمة لعباد الله، لا نظر إلى حظه في ذلك. "د".(34/491)
ص -356-…للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده، فمن قصده؛ فالغالب عليه بحسب إفراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين، وهو إنما يجري على مقتضى إرادة الله تعالى، لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه؛ فقد صار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به، وذلك خارج عن مقتضى الأدب، ومعارضة للقدر، أو ما هو ينحو ذلك النحو.
وقد جاء في "الصحيح" التنبيه على هذا المعنى بقوله, عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"1. فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان؛ لأنه التفات إلى المسبب في السبب، كأنه متولد عنه أو لازم عقلا، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل؛ إذ لا يعينه وجود السبب، ولا يعجزه فقدانه.
فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر، ويبقى السبب: إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف، وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره، استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله؛ فلا ينفتح [عليه]2 باب الشيطان، وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى، حتى يصير منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، 4/ 2052/ رقم 2664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في القدر/ رقم 79، وكتاب الزهد، باب التوكل واليقين/ رقم 4168"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 623، 624"، وأحمد في "المسند" "2/ 366، 370"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 259، 260، 261، 262"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 356"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 89"، و"الأسماء والصفات" "1/ 263" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(34/492)
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(34/493)
ص -357-…إلى ما هو مكروه شرعا؛ من تشويش الشيطان، ومعارضة القدر، وغير ذلك.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى عملا، إذا كان عاملا في العبادات، وأوفر أجرا في العادات؛ لأنه عامل على إسقاط حظه، بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات، فإنه عامل على الالتفات إلى الحظوظ؛ لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله، فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم كما في حديث أبي ذر: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها"1، وأصله في القرآن: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]؛ فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي [عامل على إسقاط الحظوظ، وهو مذهب أرباب الأحوال]2، ولهذا بسط في موضع آخر3.
فإن قيل: على أي معنى يفهم إسقاط النظر في المسببات، وكيف ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495" -وقال: "هذا حديث حسن"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213-214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انظر: "2/ 227".(34/494)
ص -358-…فالجواب: أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات القلب إليها1 جملة وهذا قليل، وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية2؛ فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن ينظر هل له مسبب أم لا، وقد يكون غير ظاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "إليه".
2 الصوفي من يزن أفعاله وأقواله بميزان الشريعة ويأخذ نفسه بالاستقامة على آدابها؛ حتى تستنير بصيرته، وتكون الأخلاق العالية مثل الإخلاص وخشية الله والغيرة على الحق أقطابا تدور عليها سائر تصرفاته ومعاملاته؛ وكذلك كان الصوفية إلى أن خرج في لباسهم قوم نطقوا بكلمات تعبر عن الحلول والاتحاد، وظهر في أثرهم آخرون بمحدثات تتبرأ منها الفضيلة، وانخرط فريق منهم في أعوان الحاكم المغتصب؛ فكانوا لسانه الذي ينطق، وقلمه الذي يكتب، وقد كسا هؤلاء الطوائف الثلاث التصوف صبغة مكروهة اتخذها المتجافون عن الطرق المنسوبة إليه سندا لحكمهم عليها بأنها منابت أخلاق ذميمة وبدع سيئة وعقائد غير خالصة. "خ".
قلت: لم يرد في الكتاب ولا في السنة لفظة "التصوف"، والوارد "التزكية"، وهي إحدى مهمتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ حصر الله بعثة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين اثنين: {يُزَكِّيهِمْ}، و{يُعَلِّمُهُمُ}؛ فالواجب النزول عند الأسامي والألقاب الشرعية، وقد ألمح المصنف إلى فساد الصوفية في عصره في كتابه "الاعتصام" "1/ 120-121-ط ابن عفان"؛ فقال نقلا عن أبي القاسم القشيري:
"ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا؛ فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف". ثم قال عقبه:
"هذا معنى كلامه؛ فقد عد هذا اللقب لهم مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم.(34/495)
وفي غرضي -إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد, صلى الله عليه وسلم.
وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله".(34/496)
ص -359-…-بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب؛ إلا أنه التفت إليه من وراء الأمر أو النهي- ويكون هذا مع الجريان على مجاري العادات، مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء، ويكون أيضا مع طلب المسبب بالسبب؛ أي: يطلب من المسبب مقتضى السبب؛ فكأنه يسأل المسبب باسطا يد السبب، كما يسأله الشيء باسطا يد الضراعة, أو يكون مفوضا في المسبب إلى من هو إليه؛ فهؤلاء قد أسقطوا النظر في المسبب بالسبب، وإنما الالتفات للمسبب بمعنى الجريان مع السبب؛ كالطالب للمسبب من نفس السبب، أو كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب؛ فهذا هو المخوف الذي هو حرٍ بتلك المفاسد المذكورة، وبين هذين الطرفين وسائط هي مجال نظر المجتهدين؛ فإلى أيهما كان أقرب؛ كان الحكم له، ومثل هذا مقرر أيضا في مسألة الحظوظ1.
المسألة العاشرة:
ما ذكر من أن المسببات مرتبة2 على فعل الأسباب شرعا، وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب، يترتب عليه بالنسبة إلى المكلف -إذا اعتبره- أمور:
- منها: أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المتسبب3 شرعا، [أو]4 اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه؛ فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه، وكما يكون التسبب في الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير؛ لقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثالثة والرابعة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "2/ 305 وما بعد".
2 كما تقدم في المسألة الرابعة "ص311".
3 في "د": "المسبب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من الأصل.(34/497)
ص -360-…{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقوله, عليه السلام: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها"1، وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت"2 الحديث3.
كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر؛ لقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقوله, عليه الصلاة والسلام: "ما من نفس تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"4، وقوله: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها"5، وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله"6 الحديث، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، 11/ 308/ رقم 6478" بلفظ: "... من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم".
وأخرجه أيضا برقم "6477" مقتصرا على الشق الثاني بلفظ "... بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق".
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، 4/ 557/ رقم 2314"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1313/ رقم 3970"، وأحمد في "المسند" "2/ 334، 355، 533" من حديث ابن مسعود مقتصرين على الشق الثاني بلفظ مقارب.
3 الدليل في بقيته، وهو: "يرفع الله بها في الجنة" "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح، "و" الدليل في بقية الحديث. "د".
6 جزء من حديث صحيح, أوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله..." مضى تخريجه أعلاه.(34/498)
ص -361-…وقد قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب "الإحياء" وفي غيره ما فيه كفاية، وقد قال في "كتاب الكسب": "ترويج الدرهم الزائف من الدراهم في أثناء النقد ظلم؛ إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف، وإن عرف؛ فيروجه على غيره، وكذلك الثاني والثالث، ولا يزال يتردد في الأيدي، ويعم الضرر، ويتسع الفساد, ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه, فإنه الذي فتح ذلك الباب". ثم استدل بحديث: "من سن سنة حسنة"1 إلخ.
ثم حكى عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم؛ قال: "لأن السرقة معصية واحدة، وقد تمت وانقطعت، وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين، وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده؛ فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة، ومائتي سنة، إلى أن يفنى ذلك الدرهم، ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة، يعذب بها في قبره، ويسأل عنها إلى انقراضها، وقال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]؛ أي: نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما قدموه2، ومثله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، وإنما أخر أثر أعماله، من سن سنة سيئة عمل بها غيره"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.(34/499)
2 فسر بعض أهل العلم الآثار بالخطا مستندا لما يروى من أن الآية نزلت في قوم كانت منازلهم بعيدة عن المسجد؛ فأرادوا أن ينتقلوا إلى منازل قريبة منه، وهذه الرواية على فرض صحتها لا تمنع من إبقاء الآثار في الآية على عمومها حتى يدخل فيها آثار خيانة الأمم الغافلة، وتمكين يد العدو من ناصيتها؛ فأي أذية أو إهانة تقع على نفس مسلمة إلا كان على من فتح له سبيل التسلط أو جرك القلم في مساعدته كفل منها؟! والوارد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ لأولئك القوم هذه الآية ولم يصرح بأنها نزلت في حقهم. "خ".
3 انظر: "الإحياء" "2/ 73-74".(34/500)
ص -362-…هذا ما قاله هناك، وقاعدة إيقاع السبب أنه بمنزلة إيقاع المسبب قد بينت1 هذا.
وله في "كتاب الشكر" ما هو أشد من هذا؛ حيث قدر النعم أجناسا وأنواعا، وفصل فيها تفاصيل جمة، ثم قال: "بل أقول من عصى الله ولو في نظرة واحدة؛ بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر؛ فقد كفر [كل]2 نعمة الله في السموات والأرضين وما بينهما, فإن كل ما خلق الله حتى الملائكة, والسموات، والحيوانات، والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها3 انتفاعه".
ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان، ثم قال: "قد كفر نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن, ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسموات، ولا السموات إلا بالملائكة؛ فإن الكل كالشيء الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض".
قال: وكذلك ورد في الأخبار: "إن البقعة التي يجتمع فيها الناس؛ إما أن تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "تبين".
2 زيادة من "الإحياء".
3 في الأصل: "به".
4 قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 122": "لم أجد له أصلا"، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 360": "لم أجد له إسنادا"، وكذا أودعه السويدي في كتابه "الموضوعات في الإحياء" "ص101".
وأخرج أبو يعلى في "مسنده" "7/ 143/ رقم 4110" عن أنس مرفوعا: "ما من بقعة يذكر الله عليها بصلاة أو بذكر؛ إلا استبشرت بذلك إلى منتهاها من سبع أرضين، وفخرت على ما حولها من البقاع، وما من عبد يقوم بفلاة من الأرض يريد الصلاة إلا تزخرفت له الأرض".
وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وشيخه يزيد الرقاشي, كلاهما ضعيف، وضعفه المناوي في "فيض القدير" "5/ 475".(35/1)
ص -363-…وكذلك1 ورد: "إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر"2، وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها؛ فيتبدل اللعن بالاستغفار؛ فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه"3، ثم حكى غير ذلك، ومضى في كلامه.
فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب؛ فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء؛ إذ يبدو له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب، والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعات الثلاث: "ولذلك"، والمثبت من "الإحياء".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5/ 50/ رقم 2685"، والطبراني في "الكبير" "8/ 278/ رقم 17911، 17912"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 183" عن أبي أمامة مرفوعا: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلم الناس الخير".
وفي سنده سلمة بن رجاء، صدوق يغرب.
وله شواهد عن علي وعائشة وابن عباس مرفوعا وموقوفا، وأبي الدرداء ومن مرسل مكحول والحسن، والحديث حسن.
وانظر: "المجالس الخمسة" للسلفي "رقم 8- بتحقيقي".
3 "إحياء علوم الدين" "3/ 122-123".(35/2)
ص -364-…فصل:
- ومنها: أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ربما ارتفعت عنه إشكالات ترد في الشريعة، بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب1 أخر حاضرة، وذلك أن متعاطي السبب قد يبقى عليه حكمه، وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه؛ فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب، ولا يكون كذلك.
مثاله: من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج منها؛ فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ في الامتثال، غير عاصٍ ولا مؤاخذ؛ لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في حالة واحدة، ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة؛ لأن ذلك تكليف ما لا يطاق؛ فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه، ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج؛ فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج.
وقال أبو هاشم2: هو على حكم المعصية، ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله عن الأرض المغصوبة، ورد الناس عليه قديما وحديثا، والإمام أشار في "البرهان" إلى تصور هذا وصحته3 باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان؛ فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة4، ونظر ذلك بمسائل، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أحكام أسباب "د".
2 يراجع المقام في كتب الأصول كالتحرير، وابن الحاجب في مسألة يستحيل كون الشيء الواحد واجبا حراما من جهة واحدة... إلخ. "د".
3 بقوله في "البرهان" "2/ 97".
4 أي: ولا تتم التوبة إلا بعد الخروج فعلا؛ لأن من شرط قبولها رد التبعات والمظالم. "د". =(35/3)
ص -365-…صحيح باعتبار الأصل المتقدم؛ فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره، فلو نظر الجمهور إليها؛ لم يستبعدوا اجتماع الامتثال مع استصحاب1 حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة، وهذا أيضا2 ينبني على الالتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره3، فإنه إذا رأى ذلك؛ وجد نفس الخروج ذا وجهين:
أحدهما: وجه كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض، وهو من كسبه.
والثاني: كونه نتيجة دخوله ابتداء، وليس من كسبه بهذا الاعتبار؛ إذ ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "اعترف إمام الحرمين بانتفاء النهي عمن شرع في الخروج من الأرض المغصوبة تائبا؛ حيث قال: هو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي، والوجه الذي اعترضوا به هذه المقالة أن وصف المعصية والعقاب إنما يرتبطان بالنهي؛ فيجب ارتفاعهما حيث انتفى النهي إذ لم يعهد في موارد الشريعة فعل يوصف بكونه معصية ويستحق صاحبه العقاب من غير أن يتعلق به نهي، والظاهر من مقام التوبة في نظر... فشارع أن حكمها يسري إلى كل ما يترتب على السبب من أثر لا قدرة للمكلف على اجتنابه، فمن سن سنة سيئة، ثم تاب توبة نصوحا، وأصلح وبين جهد استطاعته؛ لا يضره من بقي عاملا بها بعد ذلك البيان".
1 لا أن النهي حاصل مع الأمر حتى يرد ما تقدم: "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: قوله: "وهذا أيضا..." إلخ، معناه أن مسألة أبي هاشم والجمهور تنبني على أن الداخل في أرض غصبا؛ هل هو محمول على أنه ملتفت إلى ما تسبب عن دخوله وهو الخروج، فيكون مؤاخذا به في الدنيا، فيعد فاعل حرام كما هو مؤاخذ به في الآخرة وهو مذهب أبي هاشم، أو غير محمول على ذلك؛ فيكون ذا وجهين كما قال؟! وعلى هذا؛ فضمير "في نظره" راجع إلى المكلف الداخل، وقوله: "وما ذلك"؛ أي: والمسبب خارجا، والمراد بالمسبب بالفتح: الخروج.(35/4)
وهذا إيضاح ذلك مأخوذا من كلام المصنف في آخر المسألة حيث...
3 كما تقدم أنه ليس له رفعه وليس من نمط مقدوراته. "د".(35/5)
ص -366-…له قدرة عن الكف عنه.
ومن هذا مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس، وقبل وصوله إلى الرمية، ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في الناس وقبل أخذهم بها، أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها، ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء، وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله، وقبل تأثيره ووجود مفسدته، أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها؛ فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان، فإن اجتمعا في الفعل الواحد كما في المثال الأول؛ كان عاصيا ممتثلا، إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير؛ لأنه من جهة العصيان غير مكلف به1 لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته؛ فلا نهي إذ ذاك، ومن جهة الامتثال مكلف؛ لأنه قادر عليه، فهو مأمور بالخروج وممتثل به، وهذا معنى ما أراده الإمام، وما اعترض به عليه وعلى أبي هاشم لا يرد مع هذه الطريقة2 إذا تأملتها، والله أعلم.
فصل:
- ومنها: أن الله -عز وجل- جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج، فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي؛ كان المسبب كذلك، وبالضد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل هو باقٍ من أثر التكليف في السبب وهو الدخول، وإيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب؛ فهو مؤاخذ بالمسبب وإن لم يكن مقدورا له. "د".
2 أي: بخلاف ما إذا قيل: إن النهي يتوجه عليه حين الخروج، كما يتوجه عليه الأمر به؛ لأنه يكون تكليفا بما لا يطاق كما قال، والذي رفع الإشكال هو الابتناء على القاعدة القائلة: إن المسببات معتبرة شرعا بفعل الأسباب، ومرتبة عليها؛ فيبني عليه أن المسببات ما دامت موجودة تأخذ حكم الأسباب وإن عدمت، وهو ما أشار إليه العضد شارح ابن الحاجب. "د".(35/6)
ص -367-…ومن ههنا إذا وقع خلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب: هل كان على تمامه أم لا؟ فإن كان على تمامه؛ لم يقع على المتسبب لوم، وإن لم يكن على تمامه؛ رجع اللوم والمؤاخذة عليه، ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيره من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم؛ إما بكونه غر من نفسه وليس بصانع، وإما بتفريط، بخلاف ما إذا لم يفرط؛ فإنه لا ضمان عليه لأن الغلط في المسببات1 أو وقوعها على غير وزان التسبب قليل؛ فلا يؤاخذ، بخلاف ما إذا لم يبذل الجهد؛ فإن الغلط فيها كثير؛ فلا بد من المؤاخذة.
فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد، لا من جهة أخرى2؛ فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع، أو على خلاف ذلك، ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلا على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرما؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيما؛ حكم على الباطن بذلك أيضا، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدا، والأدلة على صحته كثيرة جدا، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التسببات".
2 أي: من الجهات السابق إبطال النظر إليها؛ ككونها من مقدور المكلف أو كسبه، وكذا الجهات التي أشار إلى أن الأفضل عدم النظر إلى المسبب باعتبارها، وهي كثير فيما تقدم؛ أي: فالنظر في المسببات هنا ليس مقصودا لذاته، بل لاكتشاف حال السبب: هل أخذه العبد على طريق5 الكمال؟ لتبنى عليه أحكام شرعية. "د".(35/7)
ص -368-…بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة.
فصل:
- ومنها: أن المسببات1 قد تكون خاصة، وقد تكون عامة.
ومعنى كونها خاصة أن تكون بحسب وقوع السبب؛ كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع، والنكاح الذي يحصل به حلِّية الاستمتاع، والذكاة التي بها يحصل حل الأكل، وما أشبه ذلك، وكذلك جانب النهي؛ كالسكر الناشئ عن شرب الخمر، وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة.
وأما العامة؛ فكالطاعة التي هي سبب في الفوز بالنعيم، والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم، وكذلك أنواع المعاصي التي يتسبب عنها فساد في الأرض؛ كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق، والحكم بغير الحق الناشئ2 عنه الدم، وختر3 العهد الذي يكون عنه تسليط العدو، والغلول الذي يكون عنه قذف الرعب، وما أشبه ذلك4، ولا شك أن أضداد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يحتاج الفرق بين مضمون هذا الفصل ومضمون صدر المسألة إلى دقة نظر؛ لأن الغرض من كل منهما أن المتسبب إذا نظر إلى المسبب وأنه يجر خيرا كثيرا، أو شرا له آثار كبيرة؛ فإنه يزداد إقداما على فعل السبب وإتقانا له، أو يخاف من السبب؛ فلا يدخل فيه، إلا أنه في الأول من طريق أنه سن سنة اتبعه فيها غيره، فوزر فعل غيره لاحق له؛ فالشر الكثير ليس من فعله مباشرة، أما هنا؛ فإن فعله مما يترتب عليه فساد كبير في الأرض أو خير كثير من إقامة العدل، إذا كان حاكما مثلا وإن لم يكن اقتدى به غيره فيه؛ فهذا نوع آخر من النظر إلى المسبب غاير الأول باعتبار تنوع آثار المسبب. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "الفاشي"، والتصحيح من الأصل و"ط".
3 الختر: الغدر، وفي حاشية الأصل: "الغدر والخديعة أو أقبح الغدر".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 362-363/ رقم 927- رواية أبي مصعب، و1/ 460- رواية يحيى" عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس؛ قال: "ما ظهر =(35/8)
ص -369-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الغلول في قوم قط؛ إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط؛ إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان؛ إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق؛ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد؛ إلا سلط الله عليهم العدو".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "14/ 211": "وقد روينا هذا الحديث عن ابن عباس متصلا"، وقال قبل ذلك: "مثل هذا لا يكون إلا توقيفا؛ لأن مثله لا يروى بالرأي".
ثم أخرجه "14/ 212" متصلا عن ابن عباس قوله مختصرا، وقال: "حديث مالك أتم، وكلها تقضي القول بها والمشاهدة بصحتها".
قلت: قوله "كلها"؛ أي: شواهده، وقد ساق له شاهدا من حديث ابن عمر مرفوعا، وآخر عن بريدة مرفوعا أيضا.
أما حديث ابن عمر؛ فقد أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 4019"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 333-334" من طريق ابن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عنه مرفوعا بلفظ: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان؛ إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم".(35/9)
وإسناده ضعيف، فيه ابن أبي مالك، وهو: خالد بن يزيد بن عبد الرحمن، ضعيف، واتهمه ابن معين، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه": "هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وتعقبه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 106"؛ فقال: "قلت: الأب لا بأس به، وإنما العلة من ابنه".
وبه أعله ابن حجر في "بذل الماعون" "ص210".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق 62/ ب"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 211-212" من طريق نافع بن عبد الله عن فروة بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه مرفوعا، وإسناده ضعيف، نافع وفروة لا يعرفان. =(35/10)
ص -370-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 540" من طريق حفص بن غيلان عن عطاء به، وإسناده حسن، ابن غيلان وثقه الجمهور، وضعفه بعضهم.
وأخرجه الروياني في "مسنده" "ق 247/ أ" عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، عطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني، صدوق، لكنه مدلس، وقد عنعن، وابنه عثمان ضعيف.
وأما حديث بريدة، فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 126"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 346"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 212"، وابن حجر في "بذل الماعون" "ص211-212" عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا مختصرا بلفظ: "ما نقض قوم العهد قط؛ إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط؛ إلا سلط الله -عز وجل- عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة؛ إلا حبس الله عنهم القطر".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وبشير تكلم فيه، وقد خولف؛ فقال البيهقي عقبه: "كذا ورواه بشير بن المهاجر"، ثم ساقه بإسناده من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن ابن عباس قوله، وإسناده صحيح.
وعد ابن حجر في "بذل الماعون" "ص212" طريق بشير -وعزاها لأبي يعلى- أصح طرق هذا الحديث، ثم قال: "وله علة غير قادحة". ثم ساق طريق ابن واقد، وقال: "ويحتمل أن يكونا محفوظين، وإلا؛ فهذه الطريق أرجح، لاحتمال أن يكون بشير بن المهاجر سلك الجادة".(35/11)
قلت: وتابع بشيرا على رفعه وجعله من "مسند بريدة": الفضيل بن غزوان، كما عند الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 122/ أ"- وتمام في "الفوائد" "رقم 519- ترتيبه" بإسناد رواته ثقات؛ كما قال المنذري في "الترغيب" "1/ 543"، والهيثمي في "المجمع" "3/ 66"، وكان ابن حجر قد أشار أن له شاهدا عند الطبراني من حديث عمرو بن العاص، وعند تمام في "الفوائد" "رقم 520" عن ابن عباس مرفوعا، وهو منكر جدا، كما في "الميزان" "4/ 165"، و"اللسان" "6/ 79".
والخلاصة: الحديث صحيح، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 106، 107".(35/12)
ص -371-…هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها.
فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور؛ اجتهد في اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات، رجاء في الله وخوفا منه، ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال، وبمسببات الأسباب، والله أعلم بمصالح عباده، والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة.
فصل:
فإن قيل: تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب، وتبين الآن أن النظر في المسببات يستجر مصالح، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها، فإن كان هذا على الإطلاق؛ كان تناقضا، وإن لم يكن على الإطلاق؛ فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح، من الالتفات الذي يجر المفاسد، بعلامة يوقف عندها، أو ضابط يرجع إليه.
فالجواب: أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع1، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله؛ فهو الذي يجلب المصلحة2، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تفاصيل المسائل والفصول السابقة؛ لأنه بين النظر في المسبب بالاعتبار الذي يجر إلى المفاسد، وبالاعتبار الذي يجر إلى المصالح. "د".
2 من مواضع الالتفات إلى المسبب مقام الدعوة إلى الأسباب؛ فإن الحكمة تقتضي بيان ما ينتج عنها من أثر نافع وعاقبة حميدة، فلو بذل رئيس القوم وسعه في اتخاذ وسائل المنعة ومظاهر القوة امتثالا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، غير ملتفت إلى ما يتصل بها من عزة الجانب والتقلب في نعمة الاستقلال؛ لأدى الواجب بإخلاص فائق، فإن أخذ يدعو الناس على القيام بهذه الوسائل؛ فلا غنى له عن إرسال نظره إلى ما ينتج عن إقامتها من عز وسعادة، ثم إلى ما يحدث عن إضاعتها من النزول إلى درك الخزي والشقاء. "خ".(35/13)
ص -372-…من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به؛ فهو الذي يجلب المفسدة.
وهذان القسمان على ضربين:
أحدهما: ما شأنه ذلك بإطلاق، بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف، وبالنسبة إلى كل زمان، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف.
والثاني: ما شأنه ذلك لا بإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض.
وأيضا؛ فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين:
أحدهما: ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به.
والثاني: مظنونا أو مشكوكا فيه؛ فيكون موضع نظر وتأمل؛ فيحكم بمقتضى الظن، ويوقف عند تعارض الظنون، وهذه جملة مجملة غير مفسرة، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي؛ ظهر مغزاه، وتبين معناه بحول الله.
ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين, فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين، وبالله التوفيق.(35/14)
ص -373-…فصل:
وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين؛ فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه:
فقد1 قالوا في السكران إذا طلق، أو أعتق، أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص: عومل معاملة من فعلها عاقلا، اعتبارا بالأصل الثاني2، وقالت طائفة بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول، على تفصيل لهم في ذلك مذكور في الفقه، واختلفوا أيضا في ترخص3 العاصي بسفره، بناء على الأصلين أيضا، واختلفوا في قضاء صوم التطوع4، وفي قطع التتابع5 بالسفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وقد".
2 وهو اعتبار المسببات في الخطاب بالأسباب، وهو المذكور في صدر هذه المسألة، والأصل الأول هو أن المسببات غير مقدورة للمكلف، ولا هو مخاطب بها، وأيضا الأصل القائل: إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب وهي المسألة الثامنة يتعارض مع ظاهر الأصل الأول على المجتهد. "د".
3 أي: فاعتبار المسبب مرتبا على السبب آخذا حكمه يقتضي ألا رخصة، وإذا اعتبر المسبب منفصلا عن السبب؛ فمنع تحقق السفر المدة المشترطة يرخص له؛ لأنه مسافر وعصيانه في قصده السفر؛ أي: عصيانه بالتسبب لا أثر في الترخص. "د".
4 أي: فإذا اعتبر أنه صائم بالفعل وقد أبطل عمله؛ فيجب عليه القضاء بقطع النظر عن كون تسببه والدخول فيه لم يكن واجبا؛ لأنا لا نعتبر المسبب مرتبا على السبب حتى يأخذ حكمه، وإذا اعتبر ذلك؛ فقد كان التسبب غير واجب، فيبقى المسبب كذلك؛ فلا يجب القضاء. "د".
5 حيث كان مسافرا بدون ضرورة ولكن طرأت عليه ضرورة تلجئه للفطر؛ فهل تعتبر الضرورة ولا ينقطع التتابع؟ لأن المسبب له شأن آخر غير شأن السبب؛ فيعتبر منفصلا في أحكامه عن السبب، أو أن له حكمه، وقد كان مسافرا بدون عذر، فينجر عليه حكمه ولا يعتبر عذره الذي طرأ، فينقطع التتابع. "د".(35/15)
ص -374-…الاختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله، وكذلك اختلفوا في أكل الميتة1 إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه، وعليهما يجري الخلاف أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره، فيمن توسط2 أرضا مغصوبة.
المسألة الحادية عشرة:
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد.
مثال ذلك3: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب -في الوضع الشرعي- لإتلاف مال أو نفس، ولا نيل من عرض، وإن أدى إلى ذلك في الطريق، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس، ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال، والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام، وإن أدى إلى القتال، كما فعله أبو بكر -رضي الله عنه- وأجمع عليه الصحابة -رضي الله عنهم- وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد، وإن أدى إلى إتلاف النفوس، وإهراق الدماء، وهو في نفسه مفسدة، وإقرار حكم الحاكم4 مشروع لمصلحة فصل الخصومات، وإن أدى إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على النحو الذي قررناه في ترخص العاصي بسفره. "د".
2 فإذا قلنا: يعتبر المسبب وحده بقطع النظر عن السبب؛ فلا إثم عليه بالخروج عن الأرض، وإن قلنا: إن السبب ملاحظ فيه، وقد تسبب؛ فالإثم باقٍ حتى يخرج. "د".
3 انظر حول المثال المذكور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 126، 129-134، 165-168".
4 أي: عدم نقضه، ولو كان خطأ؛ فلا ينقض إلا إذا خالف إجماعا أو نصا, أو خالف القواعد الشرعية. "د".(35/16)
ص -375-…الحكم بما ليس بمشروع، هذا في الأسباب المشروعة.
وأما في الأسباب1 الممنوعة؛ كالأنكحة2 الفاسدة ممنوعة، وإن أدت إلى إلحاق الولد، وثبوت الميراث، وغير ذلك من الأحكام، وهي مصالح3، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه4، وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب، أو غيره من وجوه الفوت.
فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة، [والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة]5 ليست بناشئة عنها في الحقيقة، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها6.
والدليل على ذلك ظاهر؛ فإنها7 إذا كانت مشروعة؛ فإما أن تشرع للمصالح، أو للمفاسد، أو لهما معا، أو لغير شيء من ذلك؛ فلا يصح أن تشرع للمفاسد لأن السمع يأبى ذلك، فقد ثبت الدليل الشرعي على أن [تلك]8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك الأسباب...".
2 في النسخ المطبوعة: "فالأنكحة".
3 أي: هذه المسببات التي أدت إليها الأسباب الممنوعة هي في الحقيقة مصالح، والمراد بالمصالح ما يعتد به الشارع؛ فيبني عليه الحكم الشرعي المترتب على الصحيح من نوعه؛ كالملك في الغصب يرتب عليه أثره من صحة تصرفات المالك، وكميراث الولد الملحق بالنكاح الفاسد، وكالأحكام الأخرى للأولاد من ولايات ومن حقوق الأولاد على آبائهم وحقوق آبائهم عليهم، وهكذا؛ فلا يقال: كيف يعتبر انتقال الملك من المغصوب إلى الغاصب مصلحه مع أنه عين المفسدة بعدم استقرار ملك المالكين وخروجه من أيديهم بطرق غير مشروعة؟ "د".
4 بل ومفسدة في الأرض من حيث عدم استقرار الأملاك والتعدي المترتب عليه مفاسد اجتماعية عظمى. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: حدثت لاحقة لها وجاءت تبعا. "د".
7 أي: الأسباب مطلقا. "د".
8 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(35/17)
ص -376-…الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح، وإن كان ذلك غير واجب في العقول؛ فقد ثبت في السمع، وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل، ولا لغير شيء لما ثبت من السمع أيضا1؛ فظهر أنها شرعت للمصالح.
وهذا المعنى يستمر فيما منع؛ إما أن يمنع لأن فعله مؤدٍّ إلى مفسدة، أو إلى مصلحة، أو إليهما، أو لغير شيء، والدليل جارٍ إلى آخره؛ فإذًا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة؛ فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع.
وأيضا؛ فلا سبب ممنوعا إلا وفيه مفسدة لأجلها منع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر؛ فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا، وما منع لأجله إن كان ممنوعا.
وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل؛ كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة، لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين، وشهر السلاح، وتناول القتال، والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف، من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك، وحكم الحاكم سبب لرفع2 التشاجر، وفصل الخصومات بحسب الظاهر؛ حتى تكون المصلحة ظاهرة، وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر من تقصير في النظر، أو كون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من أن التكاليف لم تكن عبثا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "لدفع"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".(35/18)
ص -377-…الظاهر على خلاف الباطن، ولم يكن له على ذلك دليل، وليس بمقصود1 في أمر الحاكم، ولا ينقض الحكم2 -إذا كان له مساغ ما- بسبب أمر آخر، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم، من الفصل بين الخصوم ورفع التشاجر؛ فإن الفسخ ضد3 الفصل.
وأما قسم الممنوع؛ فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع، لا من جهة كونه فاسدا، حسبما هو مبين في موضعه4، والبيوع الفاسدة من هذا النوع؛ لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا، فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد، فإذا فاتت عينها؛ تعين المثل أو القيمة، وإن بقيت على غير تغير ولا وجه من وجوه الفوت؛ فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد، فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين؛ تواردت أنظار المجتهدين: هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ، إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة5 مثلا، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وليس بمقصود في توليته الحكم أن يخطئ، ولكن الخطأ جاء تابعا ولاحقا، وهو مفسدة ليست بناشئة عن نفس توليته القضاء، ولكنها نشأت عن أمر آخر وهو تقصيره في النظر أو استبهام الأمر عليه، فقد يصادفه أن ظاهر الأمر الذي يمكنه الاطلاع عليه غير باطنه الذي يعسر الاطلاع عليه؛ فلا يكلف به. "د".
2 هذه فائدة جديدة لا يتوقف عليها البيان المطلوب، وهو أن المصلحة التي شرع لها تنصيب القاضي قد يكون في طريقها مفسدة طرأت بسبب آخر. "د".
3 في "م" زيادة: "هذا" بين المعقوفتين.
4 وسيأتي في موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ حتى إن المجتهد يتغير رأيه ويجعل للواقعة بعد النزول حكما ما كان يقول به قبله. "د".
5 أي: بنقص، أما بزيادة؛ فيكون الحمل -لو ردت- على المشتري من هذه الجهة، ومن الجهة التي أشار إليها المؤلف. "د".(35/19)
قلت: وفي الأصل: "ردت إليه متغيرة".(35/20)
ص -378-…أن فيها حملا على المشتري، حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما تعنَّى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع؛ فكان العدل النظر فيما بين هذين، فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق، والتغير الذي لم يفت العين، وانتقال الملك، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء، وحاصلها أن عدم الفسخ، وتسليط المشتري على الانتفاع؛ ليس سببه العقد المنهي عنه، بل الطوارئ المترتبة بعده.
والغصب من هذا النحو أيضا, فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا1، والضمان2 يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة؛ فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما، فصار له بذلك شبهة ملك، فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة؛ صار محل اجتهاد، نظرا إلى حق صاحب المغصوب، وإلى الغاصب؛ إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة3 له، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه؛ فكان في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسباب الضمان ثلاثة: الإتلاف، والتسبب، ووضع اليد غير المؤتمنة، وقد جعل بعض الفقهاء الغاصب ضامنا للرقبة دون الغلة مستندا إلى حديث: "قضى أن الخراج بالضمان"، وهذا الحديث قضية معينة لا يلحق بها إلا ما ماثلها من الصور، ولا وجه في النظر الصحيح يقضي باستواء المبطل والمحق، كما أن تضمينه الرقبة بأرفع القيم أقرب إلى العدل من تضمينه قيمتها يوم الغصب فقط؛ إذ هو مأمور بإرجاعها إلى صاحبها في كل الأحوال ومن جملتها ارتفاع قيمتها إلى غايتها القصوى. "خ".
2 في الأصل زيادة: "لا".
3 لا يظهر فيما إذا كان التغير بارتفاع الأسواق، ولا في كل ما كانت زيادتها لا ترجع إلى تكاليفه أو صنعه، بل كان ناشئا عن حالتها هي بأن كانت عشراء فولدت مثلا، فيزيد ثمنها كثيرا، فهذا وأمثاله لا يظهر أن يقال فيه: إنه تغير يعتد به مفوتا، ويلزم الغاصب بخصوص القيمة يوم الغصب؛ لأن هذا حمل على خصوص صاحبها، ولذلك جرى الخلاف في مثله. "د".(35/21)
ص -379-…ذلك الاجتهاد بين هذين؛ فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب، بل التضمين أولا، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب؛ فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور.
والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح؛ إذ لا يصح ذلك بحال.
فصل:
وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك وغيره.
ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلى زمان كذا، ثم خاف الحنث بعدم القضاء، فخالع1 زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة، ثم راجعها؛ أن الحنث لا يقع عليه، وإن كان قصده مذموما وفعله مذموما؛ لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا، فكانت المخالعة1 ممنوعة وإن أثمرت عدم الحنث؛ لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة، بل بسبب أنه حنث ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا.
وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان: إن له أن يفطر وإن كره له هذا القصد؛ لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر، لا بسبب نفس السفر المكروه، وإن علل الفطر بالسفر؛ فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر، ويحقق ذلك أن الذي كره له السفر الذي هو من كسبه، والمشقة خارجة عن كسبه؛ فليست المشقة هي عين المكروه له, بل سببها، والمسبب هو السبب في الفطر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فصالح، المصالحة".(35/22)
ص -380-…فأما لو فرضنا1 أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة، أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة؛ فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا؛ ولا عن الممنوع2 مصلحة تقصد شرعا، وذلك كحيل3 أهل العِينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل4؛ فهنا طرفان وواسطة: طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال؛ كالحيلة المذكورة، وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا؛ كتغيير المغصوب في يد الغاصب، فيملكه على التفصيل المعلوم، وواسطة لم ينتفِ فيها السبب ألبتة، ولا ثبت قطعا5؛ فهو محل أنظار المجتهدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالأمثلة المتقدمة جميعها مثمرة لذلك. "د".
2 في "د": "المنوع" بنقصان ميم.
3 فالحيلة مدخول فيها على أنها عقدة واحدة في صورة عقدتين؛ فليس هناك شيئان أحدهما يعتبر سببا ممنوعا أنتج مسببا هو سبب في مصلحة يعتد بها، بخلاف سائر الأمثلة السابقة؛ فتأمل. "د".
4 استدل المالكية والحنفية والحنابلة على تحريم بيع العِينة بأحاديث لم تكن لها القوة الكافية في الاحتجاج، ولكن أيدوها من جهة النظر بأنها عقدة ربا، وإنما استعير لها اسم البيع وألقي عليها ثوب المعاملة الجائزة، ولا عبرة بالصورة ما دامت الحقيقة التي تترتب عليها المفسدة قائمة، ومدرك الشافعية في إجازتها أنها تشتمل على عقدين, كل منهما منفصل عن الآخر، والتفاوت بين الثمنين في العقدين لا أثر له، وهي وإن كانت وسيلة إلى ما يقصد من الربا وهو الفضل؛ لم تكن وسيلة إلى عين الربا الذي هو مقابلة الدينار بالدينارين مباشرة، كما أن النكاح وسيلة إلى ما يقصد بالزنى وهو التلذذ بالوطء؛ لا إلى نفس الزنى الذي هو التلذذ على وجه غير مشروع. "خ".
قلت: أحاديث تحريم بيع العينة صحيحة، وسيأتي تخريج ذلك "3/ 114".
5 يحسن مراعاة الظن أيضا ليتقابل مع سابقه الذي اعتبره فيه؛ حتى تصح المقابلة. "د".(35/23)
ص -381-…فصل:
هذا كله إذا نظرنا1 إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر، فإن تُؤُملت من جهة أخرى؛ كان الحكم آخر، وتردد الناظرون2 فيه؛ لأنه يصير محلا للتردد.
وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع المسببات، وإذا كان كذلك؛ اقتضى أن المسبب في حكم الواقع باختياره، فلا يكون سببا شرعيا، فلا يقع له مقتضى؛ فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر؛ لأن المشقة كأنها واقعة3 بفعله؛ لأنها ناشئة عن سببه، والمحتال للحِنْث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث، بل يقع عليه إذا راجعها، وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل، وما أشبه ذلك؛ فههنا إذا روجع الأصلان كانت المسائل في محل الاجتهاد، فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه، والله أعلم.
فصل:4
ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة؛ أي: من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع، لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسببات عادية؛ فإنها إذا نظر إليها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "نظر".
2 في "م": "الناظر".
3 في "د": "واقعلة" بزيادة لام.
4 يقصد به إيضاحا للأصل السابق في المسألة، ويدفع به ما يقال: كيف لا تكون الأسباب الممنوعة سببا للمصالح، والعاقل لا يفعلها إلا وهي سبب في مصالحه وأغراضه؟ ومحصله أنه ليس المراد بالمصلحة ما هي ملائمة لطبعه أو منافرة، بل ما يعتد بها الشارع ويرتب عليها مقتضياتها. "د".(35/24)
ص -382-…هذا الوجه؛ كان النظر فيها آخر؛ فإن قصد التشفي بقصد1 القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة, وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من إتعاب النفس، وقصدا إلى الدَّعة والراحة بتركها؛ فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق، أو تارك بإطلاق، متسبب في درء المفاسد عن نفسه، أو جلب المصالح لها، كما كان الناس في أزمان الفترات، والمصالح والمفاسد هنا هي المعتبرة بملاءمة الطبع ومنافرته؛ فلا كلام هنا في مثل هذا.
المسألة الثانية عشرة:
الأسباب -من حيث هي أسباب شرعية لمسببات- إنما شرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد المستدفعة.
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:
أحدهما: ما شرعت الأسباب2 لها؛ إما بالقصد الأول3، وهي متعلق المقاصد الأصلية4 أو المقاصد5 الأُوَل أيضا، وإما بالقصد الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة6، وكلا الضربين مبين في كتاب "المقاصد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بسبب".
2 أي: علما أو ظنا بدليل مقابليه، وما جاء له في بيانه لهذا القسم. "د".
3 قصد الشارع في الأمور من جلب المصالح ودفع المفاسد. "ماء".
4 سيأتي أنها ما لم يكن فيها حظ للمكلف بالقصد الأول، وأنها هي الواجبات العينية والكفائية، ومقابلها ما كان فيه حظ للمكلف ولم يؤكد الشارع في طلبها إحالة على ما جبل عليه طباعه من سد الخلات ونيل الشهوات، وبيانه في المسألة الثانية من النوع الرابع من المقاصد الشرعية. "د".
5 مغايرة في العبارة. "د".
6 وهو قصد أحدنا لما قصد الشارع... وهو تابع للقصد الأول. "ماء".(35/25)
ص -383-…والثاني: ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها، أو لم تشرع لها؛ فتجيء الأقسام ثلاثة:
أحدها:
ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله؛ فتسبب المتسبب فيه صحيح لأنه أتى الأمر من بابه، وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه؛ لأنا1 فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا2، ثم يتبعه اتخاذ السكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك، أو الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله, أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة؛ فصار إذًا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة، وهذا كاف، وقد تبين في كتاب "المقاصد" أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح؛ فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب.
لا يقال: إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل البضع بالعقد أولا؛ فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد، والشارع إنما قصده بالعقد أولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله سقط هنا كلمة "إذا"، وبعد قوله: "دلت عليه الشريعة" سقطت هذه الجملة: "وقصد الشخص المتسبب بالنكاح التناسل وحده أو هو مع بعض المنافع المذكورة، أو مجرد بعض المنافع غير التناسل" صار إذا... إلخ، وبهذا يلتئم الكلام. "د".(35/26)
2 فالتناسل مقصد أصلي, كما في الحديث: "تزوجوا الوَلُود الوَدُود؛ فإني مكاثر بكم الأمم"؛ فجاء بصيغة الأمر على طريقة ما لم يكن من حظ المكلف كما يأتي شرحه في كتاب "المقاصد"، وبقيتها تبع، فالسكن كما في آية {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} والمال والجمال... إلخ كما في الحديث: "تنكح المرأة لأربع خصال: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها"، والقيام على المصالح كما في حديث جابر بن عبد الله في تزوجه المرأة الثيب للقيام على مصالح أخواته، وهكذا الباقي؛ فكلها مقاصد للنكاح أقرها الشرع. "د".(35/27)
ص -384-…الحل، ثم يترتب عليه الانتفاع، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع؛ فقد تخلف قصده عن قصد الشارع؛ فيكون مجرد القصد إلى الانتفاع غير صحيح، ويتبين هذا بما إذا1 أراد التمتع بفلانة كيف اتفق، بحل أو غيره؛ فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع، وقصده أنه لو أمكنه [بالزنى] لحصل مقصوده، فإذا عقد عليها والحال هذه؛ فلم يكن قاصدا لحله، وإذا لم يقصد حلها؛ فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا، والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى.
لأنا نقول: [بل] هو2 على ما فرض في السؤال صحيح وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز؛ فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه، ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه، لكن ملجأ إلى ذلك؛ فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه، ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذي لم يقدر عليه، فإن كان عند3 عزم على المعصية لو قدر عليها؛ أثم عند المحققين4، وإن كان خاطرا على غير عزيمة؛ فمغتفر كسائر الخواطر، فلم يقترن إذًا بالعقد ما يصيره باطلا؛ لوقوعه كامل الأركان، حاصل الشروط، منتفي الموانع، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده5 الاستباحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "إذ".
2 أي: العقد. "د".
3 في "م" و"خ": "عنده" بزيادة الضمير.
4 من باشر امرأة معتقدا أنها أجنبية فإذا بها زوجته؛ كان فاسقا، وكتب عليه إثم هذه النية السيئة وإن لم يحتمل خطيئة الزنى؛ لأن نفس الوطء كان مباحا، وهذه الصورة المنكرة أشد من مجرد العزم الذي لم ينفذه صاحبه في صورة عمل كأنه يتركه ناسيا أو مغلوبا على قصده، والظاهر أن موضع الخلاف يختص بهذا العزم الذي لم يكن له أثر في الظاهر، ولا يتعدى إلى تلك الصورة التي تمثل فيها العزم بمظهر فظيع. "خ".
5 أي: منفصل عنه ولا يضره لانفكاكه عنه. "د".(35/28)
ص -385-…بالوجه المقصود للشارع، وهذا القصد الثاني موجود1 عنده لا محالة، وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب؛ فصح التسبب، وأما إلزام قصد الحل؛ فلا يلزم، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع، وإن غفل عن وقوع الحل به؛ لأن الحل الناشئ عن السبب ليس بداخل2 تحت التكليف كما تقدم.
والثاني:
ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء3؛ فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح؛ لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض، وإذا لم يشرع له؛ فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة، بالنسبة إلى ما قصد بالسبب؛ فهو إذًا باطل، هذا وجه.
ووجه ثانٍ: وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع؛ فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا, وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا؛ لا يصح، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له.
ووجه ثالث: أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب؛ فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا، فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص؛ فالأمر واضح4، فإذا قصد بالنكاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حكما كما يقتضيه فرض السؤال، وكما يشير إليه قوله: "وأما إلزام قصد الحل... إلخ". "د".
2 فهو مسبب لا يلزم قصده ولا عدم قصده؛ لأنه فعل غيره. "د".
3 أي: إنه ليس من مقاصد الشرع بهذا السبب، وإن كان قد يترتب على مسببه، كالطلاق والعتق بالنسبة لعقد النكاح والبيع؛ فالطلاق لا يكون إلا عن نكاح، والعتق لا يكون إلا عن ملك، كما لا يكون هدم البيت إلا عن بناء يهدم، ولكن الطلاق، والعتق، وهدم البيت؛ لم تقصد بالنكاح والبيع وبناء البيت. "د".
4 في الأصل: "أوضح".(35/29)
ص -386-…مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل، أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها؛ كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع، وهكذا سائر الأعمال والتسببات العادية والعبادية.
فإن قيل: كيف هذا والناكح في المثال المذكور؟ وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول؛ فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح، فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق، وهو مباح في نفسه؛ فيصح، لكن كونه قصد مع ذلك التحليل للأول أمر آخر، وإن كان مذموما، فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما؛ فلا تأثير لأحدهما في الآخر؛ لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا، كالصلاة في الدار المغصوبة1.
وفي الفقه ما يدل على هذا:
فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح، والعتق قبل الملك؛ فيقول للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، وللعبد: إن اشتريتك فأنت حر، ويلزمه الطلاق إن تزوج، والعتق إذا اشترى، وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان2 له أن يتزوج المرأة وأن يشتري العبد.
وفي "المبسوطة" عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ثم يخاف العنت؛ قال: "أرى له جائزا أن يتزوج، ولكن إن تزوج طلقت عليه"3، مع أن هذا النكاح وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي؛ فهو مما يتوجه فيه النهي لوصف منفك، لا للذات ولا لوصف ملازم، ومعروف أن فيه خلافا في فساده وعدمه. "د".
2 أي: فيحكمان بصحة التسبب مع أنه مما علم أن السبب لم يشرع له. "د".
3 انظر: "المدونة" "2/ 132-ط العلمية".(35/30)
ص -387-…الشارع بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني؛ إلا الطلاق والعتق، ولم يشرع النكاح للطلاق، ولا الشراء للخروج عن1 اليد، وإنما شرعا لأمور أخر، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما؛ فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثانٍ عن حصول النكاح أو الملك وعن القصد إليه؛ فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق، والمشتري قاصد بشرائه العتق، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع، ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين، وإذا كان كذلك؛ فأحد الأمرين جائز2؛ إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب، وإما بطلان هذه المسائل.
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا؛ ففي "المدونة" فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق3 أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا4 تزوج المرأة ليمين؛ لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة، وقال مالك5: إن النكاح حلال فإن شاء أن يقيم عليه أقام، وإن شاء أن يفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا. قال: وهو عندنا نكاح ثابت، الذي6 يتزوج يريد أن يبر في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد حبسها ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها؛ فأمرهما واحد، فإن شاءا أن يقيما أقاما؛ لأن أصل النكاح حلال. ذكر هذه في "المبسوطة".
وفي "الكافي" في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته أن يطلقها بعد السفر: "أن قول الجمهور جوازه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "من".
2 في "ط": "لازم".
3 لكنه لم يحدد مدة على ما يأتي لمالك. "د". قلت: وانظر "الذخيرة" "4/ 404".
4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "فإذًا إذا".
5 في "ط": "قال فيها مالك". قلت: أي: في "المدونة" "2/ 131-ط العلمية".
6 أي: نكاح الذي... إلخ. "د".(35/31)
ص -388-…وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة، وأنه لا يجيزه بالنية؛ كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ بذلك، ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثل بنكاح المسافرين، قال: "وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك؛ فإنا لو ألزمناه أن ينوي1 بقلبه النكاح الأبدي2؛ لكان نكاحا نصرانيا، فإذا سلم لفظه؛ لم تضره نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة ورجاء الأُدْمَة3، فإن وجدها وإلا فارق، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة، فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق"، وهذا كلامه في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وحكى اللخمي عن مالك [فمن نكح]4 لغربة أو لهوى ليقضي أَرَبَه ويفارق؛ فلا بأس.
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها، وأشدها5 مسألة حل اليمين؛ لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه، وإنما قصد أن يبر في يمينه، ولم يشرع النكاح لمثل هذا، ونظائر ذلك كثيرة، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا، ثم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرق بين أن ينوي النكاح الأبدي وبين ألا ينوي النكاح إلا لمدة، وهو ما يشترطه مالك، والتنظير أيضا نابٍ؛ لأنه متزوج على الأبدية إن حسنت عشرتها، فليس فيه دخول على التوقيت القطعي، وهو نكاح المتعة. "د".
2 بعدها في "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي "1/ 171": "حتى لا مثنوية فيه".
3 "استدراك2".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.(35/32)
5 وإنما كان هذا أشدها؛ لأنه قصد ألا يدخل بها ولا يرتب المسببات مطلقا على سببها وهو العقد، ولكنه في الأمثلة الأخرى يرتب المسبب ويتمتع، لكن لا على الوجه المعروف للشرع في النكاح مثلا، وظاهر أن الكلام في الأمثلة التي بعد قوله: "وفي مذهب مالك من هذا كثير"، ولا يدخل في المفضل عليه المسائل السابقة من المحلوف بطلاقها والمعلق حريته على مشتراه؛ فلا تظهر الأفضلية في الشدة، بل قد يقال العكس؛ لأن النكاح المقصود به بر اليمين يمكنه أن يرتب عليه حكمته ويستمسك بها بخلاف المحلوف بطلاقها. "د".(35/33)
ص -389-…الفراق ثانيا: وهما قصدان غير متلازمين، [وإلا] فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى1 بحيث يؤثر أحدهما في الآخر، فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم2؛ فعلى الجملة يلزم: إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم.
فالجواب من وجهين: أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فأما الإجمالي؛ فهو أن نقول: أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ولا هي منها، بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها، فما اتفقوا منها على جوازه؛ فلسلامته من مقتضى أصل المسألة، وما اختلفوا فيه؛ فلدخوله عند المانعين تحتها، ولسلامته عند المجيزين؛ لأن العلماء لا يتناقض كلامهم3، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله، ويورد على العالم4 من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف، ويتأمل، ويلتمس المخرج، ولا يتعسف بإطلاق الرد.
وأما التفصيلي؛ فنقول: إن هذا المسائل لا تقدح فيما تقدم، أما مسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة نكاح المحلل. "د".
2 من هذا الأصل وهو أن الدليل يقتضي أن هذا التسبب غير صحيح. "د".
3 العالم المتين لا يرضى لنفسه التناقض في الكلام ولبعد غوصه ودقة ملاحظته قد يبدو لبعض الناظرين أنه وقع في زلة التناقض، وهو بريء منها، وليس مع هذا بمعصوم من أن يبني على أصل مرة ويغفل عنه مرة أخرى، فيأخذ بعض الفروع المندرجة تحته ويرجع بها إلى أصل آخر؛ فيقع في التناقض من حيث لا يقصد ولا يدري؛ فغرض المصنف من هذه الجملة أخذ طالب العلم إلى التؤدة والأناة في تفهم أقوال العلماء، وأن لا يسارع إلى رميها بالخطأ كما يصنع كثير ممن وقفوا على الشاطئ الأدنى من العلم وتخبطهم الغرور بالإثم؛ فعاثوا في أعراض العلماء بألسنة حداد. "خ".
4 أي: المجتهد، أي: يعرض عليه ليتنبه، وذلك من تحسين الظن به. "د".(35/34)
ص -390-…التعليق؛ فقد قال القرافي1: "إنها من المشكلات على الإمامين، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك؛ فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا". قال: "وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة، لكن العقد صحيح إجماعا؛ فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد". قال: "فحيث أجمعنا على شرعيته؛ دل ذلك على بقاء حكمته، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده". قال: "وهذا موضع مشكل على أصحابنا". انتهى قوله.
وهو عاضد2 لما تقدم، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه، وهي:
المسألة الثالثة عشرة:
وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا، فإن علم أو ظن ذلك؛ فلا إشكال في المشروعية، وإن لم يعلم ولا ظن ذلك؛ فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة، أو لأمر خارجي.
فإن كان الأول؛ ارتفعت المشروعية أصلا، فلا أثر للسبب شرعا ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل، مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى، والعقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الفروق" "3/ 171، الفرق الخامس والستون والمائة".
2 لأن فيه تسليما للقاعدة مآلا، وإنما الإشكال في التفريع كما قال: "وكان يلزم ألا يصح العقد... إلخ"، وقال: "وهذا موضع مشكل على أصحابنا"؛ أي: حيث فرعوا ما ينافي مع القاعدة التي سلموها. "د".(35/35)
ص -391-…على الخمر والخنزير، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية1، والعتق بالنسبة إلى ملك الغير2، وكذلك العبادات، وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غير العاقل، وما أشبه ذلك.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة، بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه، فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة؛ لم يصح أن يكون مشروعا، وقد فرضناه مشروعا، هذا خلف.
والثاني: أنه لو كان كذلك؛ لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر، والعبادات لغير قصد الخضوع لله، وكذلك سائر الأحكام، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام.
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب -وهي المسببات- لأمر خارجي، مع قبول المحل من حيث نفسه؛ فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب، أم يجري السبب على أصل مشروعيته؟ هذا محتمل، والخلاف فيه سائغ، وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور:
أحدها: أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر3 التخلف، وسيأتي4 لهذا المعنى تقرير في موضعه, إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: بدون تعليق. "د".
3 في الأصل: "موارد".
4 في كتاب المقاصد في المسألة العاشرة؛ أي: فحيث إن المحل قابل في ذاته؛ فتخلف الحكمة في هذا الفرد بخصوصه لأمر خارج لا يضر في اطراد الحكم، كالملك المترفه مثلا، لا مشقة في سفره ومع ذلك يطرد معه حكم السفر من قصر وفطر؛ ولذلك يقال فيمن علق الطلاق على النكاح: المحل قابل للحكمة والمانع خارج؛ فيجري التسبب على أصله.
وهذا الدليل عام في المسائل الفقهية لا يخص موضع تخلف الحكمة عن سببها. "د".(35/36)
ص -392-…والثاني, وهو الخاص بهذا المكان: أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط، وإما أن تعتبر بوجودها فيه، فإن اعتبرت بقبول المحل فقط؛ فهو المدعى، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره؛ فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع، وهو غير موجود، وإن اعتبرت بوجودها في المحل1؛ لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا، لمانع أو لغير مانع، كسفر الملك المترفه؛ فإنه لا مشقة له في السفر، أو هو مظنة لعدم وجود المشقة، فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين، وكذلك إبدال الدرهم بمثله، وإبدال الدينار بمثله، مع أنه لا فائدة في هذا العقد، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته، والحكمة غير موجودة.
ولا يقال2: إن السفر مظنة المشقة بإطلاق، وإبدال الدرهم بالدرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فعلا. "د".
2 أي: ردا على اعتبار مجرد قابلية المحل، وعلى الاستناد في ذلك إلى أن الحكمة غير موجودة فعلا في مسألة الملك المترفه المسافر، وكذا في مسألة إبدال الدينار بمثله، وأمثال ذلك؛ أي: لا يقال: نحن لا نقارن خصوص الملك المترفه بمسألة نكاح المحلوف بطلاقها، بل إنما يلزم أن نقارن السفر مطلقا بنكاح المحلوف بطلاقها، يعني: والسفر في ذاته مظنة المشقة وإن لم توجد في بعض الأفراد النادرة؛ كالملك مثلا, أما مسألة نكاح المحلوف بطلاقها؛ فليست مظنة وجود الحكمة في أي فرد، فضلا عن الفرد النادر، وعلى ذلك لا يصح أن تجعل هذه المسألة من هذا الباب، يعني: فعلى فرض أن المحل قابل؛ فهو قبول ذهني صرف لا يحتمل تحققه، بخلاف مسألة الملك والدينار؛ فالمحل قابل ويتحقق وجود الحكمة في السفر المطلق؛ لأن المقيس عليه السفر بإطلاق، وغالبه تتحقق فيه الحكمة، أما هنا؛ فلا تتحقق الحكمة في مسألة المحلوف بطلاقها ولا في فرد. "د".(35/37)
ص -393-…مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق، وكذلك سائر المسائل التي في معناها؛ فليجز التسبب بإطلاق، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق؛ فإنها ليست بمظنة للحكمة، ولا توجد فيها على حال.
لأنا نقول1: إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق، فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار [وجود المصلحة في المسألة]2 المقيدة؛ فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها؛ لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات، بخلاف نكاح القرابة المحرمة، كالأم والبنت مثلا؛ فإنها محرمة بإطلاق3؛ فالمحل غير قابل بإطلاق، فهذا من الضرب الأول، وإذا لم يكن ذلك4؛ فلا بد من القول به في تلك المسائل، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها، إذا كان المحل في نفسه قابلا؛ لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا، وهذا معقول.
والثالث: أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط؛ لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها؛ فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة؛ فلا يصح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالمقارنة على ما صورتم غير مستقيمة؛ لأنه يلزم أن يقارن المطلق بالمطلق, والمطلق هنا نكاح الأجنبية حلف بطلاقها أو لا، هذا هو الذي يقارن بالسفر مطلقا، فإذا قلتم بإطلاق الجواز في السفر ولو لم تتحقق المشقة في مثل مسألة الملك؛ فلتقولوا بإطلاق الجواز في زواج الأجنبية وإن لم تتحقق الحكمة من النكاح في المحلوف بطلاقها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفيه: "اعتباره مقيدة"، وفي "ط" بدله "الصورة".
3 في "د": "بإطلا" من غير قاف.(35/38)
4 أي: إذا لم يكن المحل غير قابل، بل كان قابلا وإن منع منه مانع خارج؛ صح التسبب، وتحمل عليه المسائل المتقدمة التي استشكلها القرافي؛ فينحل الإشكال. "د".(35/39)
ص -394-…توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور محال؛ فإذًا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة1 كافيا2.
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة:
أحدها:
أن قبول المحل؛ إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قال: "على الجملة"؛ ليصح الكلام، فتدخل مسألة الملك مثلا ونكاح الأجنبية المحلوف بطلاقها، أما على التفصيل؛ فإن اعتباره ينقض كثيرا من المسائل المحكوم فيها باطراد السبب، وهي ما لم توجد فيها مظنته في خصوص المحل مهما كان قابلا وجاء المانع من أمر خارج.(35/40)
لكن يبقى الكلام في تحديد المعنى الذي أفاده هذا الدليل الثالث، وبالتأمل فيه نجده دليلا ثانيا على عدم صحة اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وقد استدل عليه أولا بأنه يلزمه باطل، وهو كون المسائل الشرعية المذكورة في قصر وفطر الملك وإبدال الدرهم بالدرهم باطلة مع أنها متفق عليها، ثم استدل عليه هنا بأمر عقلي، وهو أن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور باطل، فما أدى إليه -وهو اعتبار وجودها في المحل- باطل؛ فلا بد من اعتبار مظنة قبول المحل إجمالا، وعليه؛ فهو وإن كان دليلا ثالثا على أصول الموضوع، وهو أن الاعتبار بقبول المحل ولو منع من الحكمة أمر خارج، إلا أنه يشترك مع الدليل الثاني في الفرض الذي بنيا عليه، وهو اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وهذا الفرض كان أحد فرضين أدرجهما تحت قوله: "والدليل الثاني"؛ فحصل بهذا الصنيع شيء من الغموض في وضع هذا الدليل الثالث وتوجهه، فما جعله الدليل الثاني في الحقيقة تحته الدليلان الثاني والثالث، بقي شيء آخر وهو قوله: "وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة"، هذا غير ظاهر؛ فإن المفروض هو أن اعتبار السبب بعد وجود الحكمة لا وجوده، ولا يحصل الدور إلا بناء على ما فرضه من توقف كل من الوجودين على الآخر؛ لأن توقف وجود الحكمة على وقوع السبب ثم توقف اعتبار السبب ومشروعيته على وجود الحكمة لا دور فيه, فلا يتم هذا الدليل إذا لوحظ فيه مسألة الدور، ولكنه يمكن تمامه بما قاله قبل الكلام في مقدمات الدور. "د".
2 وقعت العبارة في الأصل هكذا: "اعتبار أن مظنة... كافٍ".(35/41)
ص -395-…خاصة1، وإن فرض غير قابل في الخارج، فما لا يقبل2 لا يشرع التسبب فيه، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج، فما لا توجد حكمته في الخارج؛ لا يشرع أصلا، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا، فإن كان الأول؛ فهو غير صحيح لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه مصلحة ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج؛ فقد ساوى ما لا يقبل3 المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد الشرعي، وإذا استويا؛ امتنعا أو جازا، لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه؛ فلا بد من القول بمنعهما مطلقا، وهو المطلوب.
والثاني:
أنا لو أعملنا السبب هنا، [مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به؛ لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم، لأن التسبب هنا يصير]4 عبثا، والعبث لا يشرع، بناء على القول بالمصالح؛ فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول، وهذا هو [معنى]4 كلام القرافي5.
والثالث:
أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار6 وجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كنكاح المحلوف بطلاقها مثلا؛ فإن فرض حصول الحكمة فيها عقلا مع وجود هذا التعليق غير محال. "د".
2 أي: ذهنا، وأما ما يقبل ولو ذهنا فقط؛ فيشرع فيه التسبب. "د".
3 وذلك كنكاح القرابة المحرمة المتفق على منعه. "د".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
5 أي في قوله: "وكان يلزم ألا يصح العقد ألبتة". "د". قلت: انظر "الفروق" "3/ 171".
6 أي: فلا بد من وجود مظنة الحكمة تفصيلا، وهي موجودة كذلك في مسألة الملك، والمشقات متفاوتة في الأشخاص والأحوال، حتى الملك المترفه يحصل له مشقة في السفر تناسبه، وإذا فرض أنه لم يحصل له مشقة؛ فلا يضر لأن الضابط هو المظنة وهي متحققة فيه، دون مسائل النكاح والعتق المتقدمة؛ لأنه لا يوجد فيها مظنة الحكمة مطلقا، بل مقطوع فيها بعدم ترتب الحكمة عليها. "د".(35/42)
ص -396-…الحكمة، فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالب؛ غير أن المشقة تختلف اختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة؛ ضبطا للقوانين الشرعية، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف؛ لأنه غير منضبط في نفسه، إلى أشياء من ذلك كثيرة.
وأما إبدال الدرهم بمثله؛ فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا، فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما، ولو فرض التماثل من كل وجه؛ فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب1؛ فأطلق الجواز لذلك، [وإذا كان ذلك]6 كذلك؛ فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا.
فصل:
وقد حصل في ضمن2 هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق.
وأما مسألة النكاح للبر في اليمين وما ذكر معها3؛ فإنه موضع فيه احتمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البريء من الشبهة وغير البريء؛ أي: فإن لم يوجد اختلاف في ذات الدينارين وأوصافهما اللازمة؛ فقد يوجد بأوصاف أخرى لاحقة لهما كما أشار إليه. "د".
2 بناء على القول بإجراء السبب على أصله ولو لم توجد الحكمة بالفعل متى كان المحل قابلا في ذاته وكان المانع خارجا عنه. "د".(35/43)
3 هذه المسائل أيسر كثيرا من مسألة التعليق؛ لأن التعليق لا يتأتى فيه تحقق الحكمة بوجه، أما هذه؛ فإنها لا مانع من تحقق الحكمة فيها ووجود منافع النكاح ومقاصده الشرعية، غايته أنه لابسها قصد قضاء اللذة ولو لم ينو التمسك بها، أو حل اليمين، يعني: والغلب أنه لا يتمسك بها أو قضاء شهوته مدة إقامته حتى إذا سافر فارق، وهكذا من المقاصد التي لا تناسب الزوجية أو لا تتفق مع المعتبر فيها، وكلها لا تنافي تحقق المقاصد المشروعة بالنكاح؛ فصار الفرق أن كلا من التعليق وهذه المسائل المحل فيها قابل لحصول الحكمة، لكن يوجد في الأولى مانع من الحصول وفي هذه المسائل لا مانع منه. "د".
قلت: وانظر في هذه المسائل "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 534، 535، و29/ 13-21".(35/44)
ص -397-…للاختلاف، وإن كان وجه الصحة هو الأقوى، فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله في محله القابل له -كما تقدم بسطه- لم يمنع، ومن نظر إلى أنه -لما كان له نية المفارقة أو كان مظنة لذلك- أشبه النكاح المؤقت؛ لم يجز، هذا وإن كان ابن القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا؛ فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان، وهذا كاف فيما فيه من الشبهة؛ فالموضع مجال نظر المجتهدين.
وإذا نظرنا إلى مذهب مالك؛ وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود، لكن على أن يرفع حكم اليمين، وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذي تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده؛ إلا أنه يتضمن رفع اليمين، وهذا غير قادح، وكذلك النكاح لقضاء الوَطَر مقصود أيضا؛ لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة1، ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذي جعل الشارع له، وقد يبدو له فلا يفارق، وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة؛ فإنه في نكاح المتعة بانٍ على شرط التوقيت.
وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح، إنما قصد به تحليلها للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره، لا بحقيقته، فلم يتضمن غرضا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الشرع".(35/45)
ص -398-…من أغراضه التي شرع لها.
وأيضا، فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا؛ فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره.
وأيضا؛ فالنص1 بمنعه عتيد2، فيوقف عنده، على أنه لو لم يكن في نكاح المحلل تراوض3 ولا شرط، وكان الزوج هو القاصد لذلك؛ فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد للاستمتاع على الجملة، ثم الطلاق؛ فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة، ويتضمن4 ذلك العود إلى الأول إن اتفق، على قول، ولا يتضمنه على قول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "لعن الله المحلل والمحلل له"، ولعل هذا هو الوجه الوجيه، وإلا؛ فالتعليق أشد منه بعدا عن صحة التسبب؛ لأنه لا يترتب عليه مقصد من مقاصد النكاح، بخلاف نكاح التحليل الذي لا بد فيه من الوطء، وقد يبدو له؛ فلا يفارق كما حصل كثيرا، فيكون كقضاء الوطر، ولكن ورد النص فيه بخصوصه لمعنى خاص ومفسدة أخلاقية رأى الشارع دفعها بتحريمه، وأنت إذا تأملت قوله بعد: "إذا لم يكن تراوض ولا شرط وكان الزوج هو القاصد؛ فإن بعض العلماء يصحح النكاح اعتبارا بأنه... إلخ" تعلم وجه ما قلنا، وأن مسألة المنع لا ترجع إلى عدم وجود منافع النكاح الشرعية؛ لأنها حاصلة على الجملة، ولا إلى القصد؛ لأنه مع حصول القصد من الزوج وهو صاحب الشأن صح النكاح، فالكلام في هذا التراوض المهين للزوج والزوجة والمحلل المؤدي إلى انحطاط الأخلاق وقبول الجميع ما يشبه الزنى بمن تعتبر زوجة للأول وحرما له حتى في هذا الوقت نفسه في نظرهم، وهذا أمر يصح أن يرجع فيه للوجدان ليعلم مقدار ما يصيب الكرامة وعزة النفس من جزائه. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث: "لعن الله المحلل..." "ص429".
2 أي: حاضر مهيأ. انظر: "لسان العرب" "ع ت د".
3 أي: كلام بين الطرفين للاتفاق. انظر: "لسان العرب" "ر و ض".(35/46)
4 أي: يتضمن نكاح التحليل -مع مقاصد النكاح الأصلية- قصده أن تعود إلى الزوج الأول إن كان هناك اتفاق وشرط، وقال بعضهم: بل لا يتضمن حتى مع الشرط، وإنما هو أمر تبعي وليس مقصودا أصليا؛ فلا يمنع صحة العقد. "د".(35/47)
ص -399-…وذلك بحكم التبعية، وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة؛ فلا يخلو من وجه من النظر.
ومما يدل على أن يحل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه؛ أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة؛ من صلاة، أو حج، أو عمرة، أو صيام، أو ما أشبه ذلك من العبادات؛ أنه يفعله ويصح منه قربة، وهذا مثله، فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في أصل العقد؛ لكان قادحا في أصل العبادة؛ لأن شرط العبادة التوجه بها إلى المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه، فكما تصح1 العبادة المنذورة أو المحلوف عليها وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين -وإلا لم يبر فيه- فكذلك هنا، بل أولى، وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها؛ فالعقد ببيعها صحيح وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين، وكذلك إن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك.
وهذا كله راجع إلى أصلين:
أحدهما: أن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة في كل فرد من أفراد محالها، وإنما يعتبر أن يكون مظنة2 لها خاصة.
والثاني: أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع، ولا يشترط ظهور الموافقة، وكلا الأصلين سيأتي إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فهكذا تقع".
2 أي على الجملة، وإلا؛ فنكاح حل اليمين مظنة ألا يترتب عليه شيء من مقاصد النكاح المذكورة فيما سبق وأمثالها، وإن كان يترتب، وقلنا "على الجملة"؛ أي: باعتبار أنه مطلق نكاح أجنبية مستوف للأركان والشروط، وقوله: "خاصة" توكيد للحصر المستفاد من إنما. "د".(35/48)
ص -400-…فصل:
والقسم الثالث1 من القسم الأول:
هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود [له]2، وهذا موضع نظر، وهو محل إشكال واشتباه، وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض, كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره؛ فعلى الأول3 يكون التسبب غير مشروع، وعلى الثاني يكون مشروعا، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع؛ كان الإقدام على التسبب غير مشروع.
لا يقال: إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة؛ فلِم لا يتسبب به؟
لأنا نقول: إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شيء معين مفروض معلوم، لا مطلقا، وإنما كان يصح التسبب [به] مطلقا إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم، وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا، بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها، ولم تشرع لأمور، وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها؛ كالنكاح؛ فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه، ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه، فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة؛ كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم؛ فلا4 تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم.
ولا يقال: الأصل الجواز.
لأن ذلك ليس على الإطلاق؛ فالأصل في الأبضاع المنع، إلا بأسباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يظهر أن هذا الموضع يدخل تحت قاعدة الأمور المشتبهات. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "مقصود للشارع".
3 في "د": "الأولى".
4 في "ط": "فلم".(35/49)
ص -401-…مشروعة، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا، فإذا ثبت هذا وتبين مسبب1 لا ندري: أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده؟ وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه، ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع2 من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع، وهي مذكورة في كتاب "المقاصد" [والله المستعان].
المسألة الرابعة عشرة:
كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا، كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا؛ كالقتل يترتب عليه القصاص، والدية في مال الجاني أو العاقلة، وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا3، والكفارة، وكذلك [الإتلاف و] التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة، والسرقة يترتب عليها الضمان والقطع، وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف، المسببة لهذه الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف، المسببة لهذه الأسباب4 في خطاب الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "تسبب".
2 في "ط": "للشارع".
3 لم يرد في قتل الحر بالعبد وعدم قتله نص صريح صحيح، وإذا قطعنا النظر عن الأحاديث الصريحة المروية في نفي القصاص وإثباته حيث لم تبلغ مبلغ الصحة الكافية في تقرير الأحكام؛ بقي بيد الجمهور مفهوم الخطاب في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وفي يد الإمام النخعي وتابعيه بعض أدلة عامة كحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم". "خ".
4 كذا في النسخ المطبوعة وفي الأصل، وفي هامشه: "لعله تصحيف والصواب الأشياء".(35/50)
ص -402-…وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة1 من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها؛ كالقتل2 يترتب عليه ميراث الورثة، وإنفاذ الوصايا، وعتق المدبرين، وحرية أمهات الأولاد و[كذلك]3 الأولاد4، وكذلك الإتلاف بالتعدي يترتب عليه ملك المتعدي للمتلف، تبعا لتضمينه القيمة، والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير في يديه، على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه، وما أشبه ذلك.
فأما الضرب الأول؛ فالعاقل لا يقصد التسبب إليه؛ لأنه عين مفسدة عليه، لا مصلحة فيها، وإنما الذي من شأنه أن يقصد.
الضرب الثاني: وهو إذا قصد؛ فالقصد إليه على وجهين:
أحدهما:
أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك؛ كالتشفي5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يترتب عليه أمر معتد به شرعا له أحكامه ومستتبعاته، وإن كان السبب الممنوع لم يقصد به ذلك في نظر الشارع، كما تقدم في النكاح، يترتب عليه الطلاق وإن لم يكن في مقاصده؛ لأنه لا طلاق إلا في ملك عصمة، إلا أن هذا يمكن أن يقال في كل ما تضمنته الأسباب الممنوعة لأنها غير مقصودة بالتسبب، بخلاف المشروعة؛ فبعض ما ينبني عليها مقصود بالتسبب. "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: "قوله: "ليس ذلك سببا فيها، كالقتل... إلخ" يريد: إن الميراث وما معه مسبب عن الموت المسبب عن القتل".
3 سقطت من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، "وكذلك الأولاد" ليست في "ط".
4 كتب الناسخ في هامش الأصل: "إن صحت الرواية بهذا؛ فالمراد أولاد أمهات الأولاد من غيره إذا خلقوا بعد صيرورتها أم ولد".(35/51)
5 هل يعتبر شفاء النفس من غيظها بقتل من غاظها مصلحة؟ وكذا مطلق الانتفاع بالمسروق والمغصوب بقطع النظر عما يترتب عليهما من الملك، الظاهر أن ذلك كله لا يسمى مصلحة، أعني أمرا معتدا به شرعا، له أحكام؛ كالملك فهو مصلحة لها توابع كثيرة، وعليه؛ فلا يظهر وجه لإدراج هذا في الضرب الثاني الذي يترتب عليه مصلحة، وكان يجمل به أن يجعله أمرا ثالثا غير الضربين المذكورين، يرشدك إلى أن التشفي وما معه ليس مصلحة بالمعنى المقصود، قوله: "فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام المصلحية" يعني كملك المغصوب، فيؤخذ منه أن التشفي ليس حكما مصلحيا. "د".(35/52)
ص -403-…في القتل، والانتفاع المطلق في المغصوب والمسروق، فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية؛ لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت مسبباتها؛ إلا من باب سد الذرائع، كما في حرمان القاتل وإن كان لم يقصد إلا التشفي، أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه1، ولكن2 قالوا: إذا تغير المغصوب في يد الغاصب أو أتلفه؛ فإن من أحكام [ذلك] التغير أنه إن كان كثيرا؛ فصاحبه غير مخير فيه، ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة، على كراهية عند بعض العلماء، وعلى غير كراهية3 عند آخرين.
وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب هذه الأحكام؛ لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما، وإنما ناقضة في إيقاع السبب المنهي عنه، والقصد إلى السبب بعينه ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذي هو ناشئ عن الضمان أو القيمة أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب جمهور الفقهاء واقفين على عموم قوله, عليه الصلاة والسلام: "ليس لقاتلٍ ميراثٌ"، وفهم الإمام مالك أن العلة في حرمان القاتل من الميراث هي المعاملة بنقيض قصده حتى لا يتخذ الناس القتل ذريعة لاستعجال الإرث قبل أوانه؛ فخص الحديث بالمتعمد للقتل، وقضى بصحة إرث المخطئ على عادته في رعاية المصالح، وحمل الأحاديث على ما يطابقها. "خ".
2 بالتأمل يعرف الفرق بين القتل والغصب، حيث أجروا قاعدة سد الذرائع في الأول دون الثاني؛ فمرتبة النفس في حفظ الضروريات غير مرتبة المال، وأيضا في الغصب لا يضيع على المغصوب منه شيء؛ فيمكن تدارك حفظ ماله بالقيمة، ولا يتأتى ذلك في النفس بعد القتل، ويمكن لكل قاتل ادعاء قصد التشفي ولو كان قاصدا للتوابع كالميراث؛ لأنه أمر مستور عنا، فلو أخذ بهذا؛ لطاحت نفوس وهدرت دماء وراء ستار قصد التشفي فقط. "د".
3 في الأصل: "كراهة".(35/53)
ص -404-…مجموعهما، وبينهما فرق، وذلك أن الغصب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره؛ فتجب القيمة بسبب التغير الناشئ عن الغصب، وحين وجبت القيمة وتعينت؛ صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له1، حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا بإطلاق؛ فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه، لا بسبب الغصب؛ فانفك القصدان، فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث، وقصد الغاصب الانتفاع غير قصده لضمان القيمة وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه، وإذا كان كذلك؛ جرى الحكم التابع الذي لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه، وترتب نقيض مقصوده2 فيما قصد مخالفته، وذلك عقابه، وأخذ المغصوب من يده أو قيمته، وهذا ظاهر؛ إلا ما سدت فيه الذريعة.
والثاني:
أن يقصد توابع السبب، وهي التي تعود عليه بالمصلحة ضمنا؛ كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث، والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به، والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقصد الغاصب بالغصب إلى مجرد الانتفاع بقطع النظر عن الملك غير القصد من الغاصب بالغصب إلى الملك، وحيث إن الأخير لم يحصل منه؛ فلا يقال: كيف يملك بسبب الغصب وقد ناقض قصد الشارع حيث لم يجعل الغصب سببا في الملك؟ فإنه إنما ناقض في فعل السبب الممنوع، وسبب الملك هنا ليس هو الغصب الممنوع، بل السبب التغير والضمان وإن ترتبا عليه، فلم ينبن الملك على سبب ناقض فيه قصد الشارع، ويبقى الكلام فيما لو قصد بالغصب التملك ولم يغيره بنفسه، بل حصل فيه موجب فوت المغصوب بدون إرادته، هل يكون حكمه صحة تملكه بالقيمة أم لا؟ لم يفرقوا في الفروع بين القصدين متى حصل موجب الفوت، كما أنهم لم يفرقوا في قتل العمد بين القصدين التشفي وغيره في حرمانه من توابع السبب التي تعود على القاتل بالمصلحة. "د".
2 وهو مطلق الانتفاع بلا مقابل. "د".(35/54)
ص -405-…ويتملكه، وأشباه ذلك؛ فهذا التسبب باطل؛ لأن الشارع لم يضع1 تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة؛ فليست إذًا بمشروعة في ذلك التسبب، ولكن يبقى النظر: هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا2، حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب، فتنشأ من هنا قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود"، ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض، وهو مقتضى3 الحديث في حرمان القاتل الميراث، ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة4، وكذلك ميراث المبتوتة في المرض, أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة، إلى كثير من هذا، أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة، ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد؛ فيستوي في الحكم مع الأول، هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر، ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين؛ فلنقبض عنان الكلام فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "يمنع".
2 فقد قصد بالسبب بعينه إلى المسبب بعينه الذي لم يجعله الشارع من أسبابه؛ فليس الغصب والسرقة مثلا من أسباب الملك في نظر الشارع، ولكنه قصد إلى ذلك؛ فيكون قصده بعينه مناقضا لقصد الشارع بعينه. "د".
3 وإن كان الحديث لم يفرق في القصد، بل قال: "القاتل لا يرث"، فإذا كان قاصدا الميراث بالقتل؛ فظاهر، وإن لم يظهر قصده؛ عومل بذلك أيضا سدا للذريعة، ولو قال: "مقتضى الفقه في الحديثين"؛ كان أحسن. "د".
قلت: وسيأتي تخريج حديث: "القاتل لا يرث" في "2/ 521"، وهو صحيح بشواهده كما فصلناه هناك، والله الهادي.
4 سيأتي لفظه وتخريجه "ص424".(35/55)
ص -406-…النوع الثاني في الشروط:
والنظر فيه في مسائل:
المسألة الأولى:
إن المراد1 بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط، أو فيما اقتضاه الحكم فيه2؛ كما نقول: إن الحول أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشرط من عدمه انعدام…وليس في وجوده إلزام
"منور الأفهام-ماء".
2 يؤخذ من شراح ابن الحاجب أنه كما أن المانع نوعان: مانع للسبب، ومانع للحكم؛ فكذا الشرط شرط للسبب وشرط للحكم، وإن الشرط مطلقا في الحقيقة يرجع إلى أنه مانع، لكن بجهة عدمه، والمسمى مانعا منعه بجهة وجوده، وإن شرط السبب يشتمل عدمه على أمر ينافي حكمة السبب، مثاله البيع سبب في ثبوت الملك، وحكمته حل الانتفاع، وشرطه القدرة على تسليم المبيع، وعدم القدرة يقتضي العجز عن الانتفاع، وهو يخل بحكمة حل الانتفاع، وشرط الحكم اختلفت عبارتهم فيه: فمن قائل: إن عدمه يقتضي حكمه تنافي حكمة الحكم، وعند تطبيقه يتعسر وجود حكمتين مطردتين متنافيتين، فلذلك قال غيره: شرط الحكم ما اشتمل عدمه على حكمة تنافي نفس الحكم، ومثلوه بالصلاة؛ فهي سبب الحكم وهو ترتب الثواب وعدم العقاب، وحكمة الصلاة التوجه لجناب القدس، وشرطها الطهارة؛ فعدم الطهارة يشتمل على أمر هو مخالفة الشارع في جعله الطهارة شرطا للثواب، وهذا ينافي الحكم وهو حصول الثواب وعدم العقاب، وإن كانت حكمة الصلاة -وهي مطلق التوجه لجناب القدس- موجودة فيما هو مسمى الصلاة ولو دون الطهارة.
وعليه؛ فشرط السبب عدمه يخل بحكمة السبب؛ فيخل بتسبب الحكم عنه أيضا، وشرط الحكم يخل بالحكم وإن كانت حكمة السبب موجودة؛ فلنعد إلى بيان كلام المؤلف ومقارنته بما قالوه:(35/56)
يقول: إن الشرط "ما كان مكملا للمشروط فيما اقتضاه المشروط"؛ أي: فيما ترتب على المشروط من الحكمة، أي: وإذا كان مكملا له في حكمته؛ فعدم الشرط مخل بحكمته، ولا يخفى أن هذا هو شرط السبب. ثم قال: "أو فيما اقتضاه الحكم فيه"؛ أي: يكون الشرط مكملا للمشروط =(35/57)
ص -407-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لا في حكمته هو بل في الحكمة التي اقتضاها الحكم الحاصل بسبب هذا المشروط، وإذا كان كذلك؛ فعدمه يقتضي حكمة تخل بحكمة الحكم، ولا يخفى أن هذا هو شرط الحكم على الرأي الأول الذي اعترض بأنه يتعسر تطبيقه على كل شرط للحكم؛ لاستدعائه حكمتين متنافيتين:
إحداهما في عدم الشرط، والأخرى في الحكم، وهو ما لم يذكروا له مثالا فضلا عن اطراده.
وقد علمت مثاله على الرأي الثاني، وهو يريد بإدماج النوعين في تعريف واحد جعل الشرط نوعا واحدا كما سيأتي له ذلك في المانع أيضا، ويجعل ذلك اصطلاحه، أما أمثلته؛ فالمثال الأول لشرط السبب لأن ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، وحكمته التي اقتضاها وصف الغنى، وشرط هذا السبب المكمل له في هذه الحكمة الحول وبعبارة أخرى إمكان النماء؛ لأن استقرار حكم الملك إنما يكون بالتمكن من الانتفاع به في وجود المصالح؛ فقدر له حول جعل مناطا لهذا التمكن الذي يظهر به وجه كونه غنيا، فعدم الشرط وهو التمكن ينافي حكمة السبب وهي الغنى، وعليه؛ فمتى اختلت حكمة السبب لعدم الشرط؛ فلا يترتب الحكم أيضا، فقوله: "أو لحكمة الغنى" تنويع في العبارة، أي: إن ما يقتضيه الملك هو الحكمة التي هي وصف الغنى، وكذا يقال في أمثاله الآتية بعد.(35/58)
ومثاله الثاني لشرط الحكم؛ فالزنى سبب لحكم هو الرجم، وحكمته حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني، أي: حكمة ترتب الحكم عليه وشرعيته عنده حفظ النسل، وشرطه الإحصان، فإذا عدم الإحصان؛ كان معذورا، فعدم الحكم وهو الرجم مع بقاء حكمة السبب وهي حفظ النسل؛ لأن حفظ النسل يحصل برجم المحصن وغير المحصن، ولا يخفى عليك أنه لا يظهر في مثاله هذا تطبيقه على ما جرى عليه من أن شرط الحكم مكمل لحكمة الحكم التي اقتضاها؛ لأنه لا يوجد فيه حكمتان متنافيتان بين عدم الشرط والحكم، أما على الرأي الثاني؛ فظاهر كما صورناه.
ومثاله الثالث من شرط السبب؛ فالقتل العمد العدوان سبب في القصاص، وحكمته المترتبة من شرعية الحكم عنده الزجر واستتباب الأمن، وشرطه التكافؤ بحيث لا يقتل الأعلى بالأدنى، فإذا عدم الشرط وهو التكافؤ؛ اختلت حكمة السبب وهي الزجر، واستتباب الأمن؛ لأنه يترتب على قتل الأعلى بالأدنى مفسدة، ونزاع وهرج؛ لأنه لا تقبله النفوس، فعدم الشرط مخل بحكمة السبب؛ فلا حكم أيضا.
ومثاله الرابع من شرط السبب أيضا؛ فالصلاة سبب للثواب، وحكمتها الانتصاب للمناجاة =(35/59)
ص -408-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالخضوع والأدب، والطهارة شرطها، وعدم الطهارة ينافي حكمة الخضوع والأدب؛ لا يترتب الحكم وهو الثواب.
وقوله: "سواء علينا.. إلخ" يشير به إلى ما قالوه في تقسم الحكم الوضعي إلى ما جعله الشارع علة وما جعله سببا وما جعله علامة وما جعله ركنا... إلخ، كما جاء في "تحرير الكمال"، وشرحه أن الذي وضعه الشارع لحكم فكان ذلك الحكم موقوفا عليه، إن كانت المناسبة ظاهرة بين ما وضع وبين الحكم المشروع لذلك الموضوع، يعني بحيث تتلقاه العقول السليمة بالقبول والتسليم بأن هذا يترتب عليه عند العقل هذا الحكم؛ فيسمى وضع العلة كالقتل العمد العدوان الموجب لانتشار العدوان، وجعله الشارع علة للقصاص لإبطال انتشار القتل المذكور؛ فالعقول السليمة تقبل ترتب هذا الحكم على هذه العلة؛ لأن ملاءمته ظاهرة، وأما إن كانت المناسبة غير ظاهرة إلا بوسائط، وفي الجملة بحيث يقال: إن هذا الموقوف عليه يفضي إلى الحكم في الجملة؛ فيسمى وضع السبب كملك النصاب، فإنه يفضي إلى الغنى في الجملة، وهو يفضي إلى طلب الزكاة، وإن كان جعله الشارع دلالة على الحكم وليس فيه مناسبة ظاهرة ولا إفضاء؛ فهو وضع العلامة كالأوقات للصلاة... إلخ ما قال؛ فالمؤلف يقول: "إن المنظور إليه في الشرط إنما هو أن يكون مكملا للمشروط؛ سواء أكان الشرط وصفا لما يسمونه سببا يعني كالمثال الثاني، وهو ملك النصاب؛ فالشرط وهو التمكن من النماء وصف له؛ فتقول: يشترط في النصاب أن يكون متمكنا من نمائه، وكما تقول: يشترط في الملك أن يكون تاما، أم كان الشرط وصفا لما يسمونه علة كما في شرط التكافؤ في القتل العمد، فتقول: يشترط في القتل العمد لترتب القصاص أن يحصل من مكافئ للمقتول، أم كان وصفا لما يسمى مسببا؛ كما تقول: يشترط في الملك المسبب من صيغة البيع كونه(35/60)
برضى المتعاقدين، أم كان وصفا لما يسمى معلولا؛ كما تقول: يشترط في القصاص المعلول للقتل العمد أن يكون من الحاكم أو جماعة المسلمين، أم وصفا لمحالها؛ كما تقول: يشترط في القتل الذي يوجب القصاص أن يصدر من عاقل؛ فهو وصف لمحل القتل الذي هو العلة، أم وصفا لمحل المسبب كما تقول: يشترط في ملك المبيع بالعقد أن يكون منتفعا به؛ فكونه منتفعا به قائم بالمبيع الذي تعلق به الملك، يعني: فالمدار على أن يكون الشرط مكملا للمشروط في حكمته أو حكمة الحكم الذي ترتب عليه، وهذا شامل لكل الشروط مهما نظرت إليها بكونها وصفا لأي شيء مما ذكروه من هذه الأنواع، كما أنه شامل أيضا للشروط التي هي أوصاف حقيقية كما =(35/61)
ص -409-…إمكان النماء مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى، والإحصان مكمل لوصف الزنى في اقتضائه للرجم، والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر، والطهارة والاستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الانتصاب للمناجاة والخضوع، وما أشبه ذلك، وسواء علينا أكان وصفا للسبب أو العلة، أو المسبب أو المعلول, أو لمحالها، أو لغي ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي؛ فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط، ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له، بحيث1 يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط، وإن لم ينعكس، كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا، ولا فائدة في التطويل هنا؛ فإنه تقرير اصطلاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تقول: يشترط في وجوب الصلاة العقل والبلوغ، أو اعتبارية كما تقول: يشترط لصحتها طهارة الحدث ولصحة الشهادة الحرية؛ فالأولان وصفان حقيقيان والأخيران اعتباريان ثبوتهما بمجرد اعتبار الشارع.
وبهذا البيان تعلم أنه لم يخالف اصطلاحهم إلا في العبارة، وجعل النوعين للشرط مندرجين في عبارة واحدة، مع أنك ترى فيها النوعين صريحين، ولكنه يريد أن يجعل الشرط شرطا للسبب مطلقا؛ إلا أنه تارة يكون مكملا لحكمته هو، أو مكملا لحكمة الحكم المترتب عليه والمآل واحد، وسيأتي له في المانع جعله قسما واحدا وهو مانع السبب فقط كما هو صريح تعريفه له وإدراجه الأمثلة التي ذكروها للنوعين تحته، وسيأتي الكلام معه فيه.(35/62)
لا يقال: إنه لم يذكر في الشرط أن عدمه ينافي أو لا ينافي، وإنما اعتبر كونه مكملا، وهم قد اعتبروا فيه المنافاة؛ فاصطلاحه بعيد عن اصطلاحهم، لنا نقول أولا: إن عدم المكمل ينافي كمال المكمل؛ سواء أكان سببا، أم حكما؛ فهو آيل إلى كلامهم، وثانيا، فإن الشرط والمانع من باب واحد كلاهما يعد مانعا، ولا فرق إلا أن هذا مانع بجهة عدمه، وقد صرح في المانع بالتنافي بين مقتضى المانع وعلة الحكمة كما يأتي؛ فلا معنى لاعتبار التنافي في أحد المانعين دون الآخر، وبالجملة؛ فقد أراد أن يخالف الاصطلاح كما يقول، وأوجز حتى صار الكلام ألغازا؛ فاضطرنا إلى هذا الإطناب، والله أعلم. "د".
1 في "ط": "وبحيث".(35/63)
ص -410-…المسألة الثانية:
وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب في الشرط؛ فليذكر اصطلاحه في السبب والعلة والمانع.
فأما السبب؛ فالمراد به: ما وضع1 شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما كان حصول النصاب سببا في وجوب الزكاة، والزوال سببا في وجوب الصلاة، والسرقة سببا في وجوب القطع، والعقود أسبابا في إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك، وما أشبه ذلك.
وأما العلة؛ فالمراد بها: الحكم والمصالح التي تعلقت2 بها الأوامر أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وصف ظاهر منضبط بخلاف العلة؛ فلا يلزم فيها الوصفان، كما سيقول, وقوله: "لحكم"؛ أي: وضعي أو تكليفي؛ فإباحة الانتفاع حكم تكليفي، وانتقال الأملاك حكم وضعي. "د".
قلت: انظر السبب ومباحثه عند الأصوليين في "شرح الكوكب المنير" "1/ 359، 445"، و"التمهيد" للكلوذاني "1/ 68"، و"المستصفى" "1/ 94"، و"جمع الجوامع" "1/ 94"، و"أصول السرخسي" "2/ 301"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 102"، و"شرح تنقيح الفصول" "81"، و"مختصر المنتهى" "2/ 7- مع العضد والحواشي"، و"نشر البنود" "1/ 42"، و"إرشاد الفحول" "6، 7".
2 أي: شرعت عندها، وظاهر كلامه قصرها على ما تعلق به حكم تكليفي، مع أن الواقع أن العلة أعم، فدفع حاجة المتعاقدين في البيوع مثلا حكمة تعلق بها انتقال الملك. "د".
قلت: انظر في مناقشة تعريف المصنف وما يؤخذ عليه: "مباحث العلة في القياس" "ص92"، وانظر عن العلة: "نبراس العقول" "215 وما بعدها"، و"المسودة" "385"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 15"، و"المستصفى" "2/ 230"، و"الإحكام" "3/ 276" للآمدي، و"اللمع" "58"، و"أصول السرخسي" "2/ 174"، و"تيسير التحرير" "3/ 302"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 231"، و"شرح العضد" "2/ 209"، و"الإبهاج" "3/ 28"، و"فواتح الرحموت" "3/ 249"، و"إرشاد الفحول" "207".(35/64)
ص -411-…الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي؛ فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر، والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة؛ فعلى الجملة؛ العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنتها1، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة، وكذلك نقول في قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"2؛ فالغضب سبب، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة3، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأما المانع؛ فهو السبب المقتضي لعلة تنافي علة ما منع4؛ لأنه إنما يطلق بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه، فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة؛ ارتفع ذلك الحكم، وبطلت تلك العلة، لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذي نسب له المانع5؛ فيكون رفعا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما المظنة؛ فهي التي جعلها الشارع سببا للحكم بحيث ينضبط به؛ كالسفر مثلا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7158"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقية، باب كراهية قضاء القاضي وهو غضبان، 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237-238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة, رضي الله عنه.
3 ولما كان التشويش وصفا غير منضبط، وكان الغضب مظنته، وكان وصفا ظاهرا؛ ضبط به وجعل سببا. "د".
4 جرى على أن المانع مطلقا يقتضي علة تنافي علة السبب حتى فيما يسميه الأصوليون مانع الحكم؛ كما تراه في تعريفه وسائر بيانه، وهو اصطلاح له كما صدر به المسألة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن إذا كان مبنيا على أمر معقول، وستأتي مناقشته في هذا الأمر. "د".(35/65)
5 المعروف في الأصول أن المانع ينقسم إلى مانع الحكم، وهو ما يستلزم حكمة تقتضي بقاء نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب؛ كالأبوة مع القتل العمد العدوان، وإلى مانع السبب وهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب كالدين مع ملك النصاب. "خ".(35/66)
ص -412-…لحكمه، فإنه إن لم يكن كذلك؛ كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين، وهذا بابه كتاب التعارض والترجيح، فإذا قلنا: الدين مانع من الزكاة؛ فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدي به دينه، وقد تعين فيما بيده من النصاب؛ فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب، وهي الغنى الذي هو علة وجوب الزكاة؛ فسقطت1، وهكذا نقول في الأبوة المانعة من القصاص؛ فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل2 العمد العدوان3، وما أشبه ذلك مما هو كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا أحد مدارك جمهور أهل العلم القائلين بعدم وجوب الزكاة على من عليه دين يستغرق النصاب أو ينقصه، وذهب الشافعية إلى وجوبها عليه نظرا إلى أن الزكاة حق متعلق بعين المال؛ فتقدم على الدين الذي هو متعلق بالذمة، وهذا مذهب المالكية أيضا في زكاة الحرث والماشية، وأما زكاة العين؛ فوافقوا فيها الجمهور بناء على أن تفويضها إلى أمانة المزكي جعلها كالدين المتعلق بالذمة، وترجح جانب صاحب الدين لتقدم حقه على حق مستحق الزكاة؛ ولأنه حق لمعين؛ فيقدم على الحق الثابت لغير معين. "خ". وفي "ط": "علة في وجوب...".(35/67)
2 جرى في المانع على أنه لا بد فيه من علة تنافي علة السبب، وجعله نوعا واحدا، وأدرج ما يسمونه مانع الحكم في مانع السبب، ومثل لمانع السبب بالمثالين اللذين جعلوا الأول منهما مثالا لمانع السبب, والثاني مثالا لمانع الحكم، وظاهر أن مثال الأبوة الذي جعلوه مثالا لمانع الحكم فيه حكمة المانع -وهي: كون الأب سببا لوجود الابن- هذه لا تخل بتحقق حكمة السبب وهي الزجر؛ إذ الزجر والانكفاف وضرورة استتباب الأمن لا تزال قائمة إذا اقتص من الوالد فلم يخل بها حكمة الأبوة حتى يكون في هذا ما يخل بحكمة السبب كما يريد، بل فيه تعارض سببين؛ فكان مقتضى تقريره في المانع ألا تعد الأبوة مانعا؛ فأنت ترى أن قصره المانع على ما نافت حكمته حكمة السبب أخرج هذا النوع من المانع، وصير تعريف المانع قاصرا، وعليه؛ فاصطلاحه مبني على اطراد أن كل مانع فيه علة تنافي علة السبب؛ فعليه تحقيق ذلك، وما لم يتحقق لا يكون هناك وجه للعدول عن كلام الأصوليين في جعلهم المانع نوعين. "د".
3 هذه العلة هي كون الأب سببا في وجوب الابن؛ فلا يليق أن يكون الابن سببا في عدمه، قال أبو بكر بن العربي: حضرت فخر الإسلام ببغداد يناظر القاضي أبا ثعلب الواسطي؛ فقال القاضي أبو ثعلب: لا يقتل الأب بابنه لأنه سبب وجوده؛ فلا يكون سبب عدمه. فقال فخر الإسلام: هذا يبطل بما إذا زنى بابنته؛ فإنه سبب وجودها ويقتل بزناه بها. وفي الزنى مفسدة أعظم وأعم من مفسدة القتل؛ فيصح أن يكون لها تأثير في اختلاف حكمهما، ومن أدلة المسألة حديث ابن عباس: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد" "خ".(35/68)
ص -413-…المسألة الثالثة:
الشروط على ثلاثة أقسام:
أحدها:
العقلية؛ كالحياة في العلم، والفهم في التكليف.
والثاني:
العادية؛ كملاصقة النار الجسم المحرق, في الإحراق، ومقابلة الرائي للمرئي وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار، وأشباه ذلك.
والثالث:
الشرعية؛ كالطهارة في الصلاة، والحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وهذا الثالث هو المقصود بالذكر، فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب الوضع أو خطاب التكليف، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار؛ فيدخل تحت القسم الثالث.
المسألة الرابعة:
افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف وليس بجزء، والمستند فيه الاستقراء في الشروط الشرعية؛ ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة1 حصول النصاب وهي الغنى فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الانتفاع به في وجوه المصالح؛ فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذي ظهر به وجه الغنى، والحنث في اليمين مكمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الحول مكمل لحكمة...".(35/69)
ص -414-…لمقتضاها؛ فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفي الإقدام عليها جناية ما على اسم الله، وإن اختلفوا في تقريرها؛ فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث فعند ذلك كمل مقتضى اليمين والزهوق1 أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب2 للقصاص أو الدية، ومكمل لتقرر حقوق الورثة في مال المريض مرضا مخوفا3، والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم، وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها.
وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف، والإيمان شرط في صحة العبادات والتقربات، فإن العقل إن لم يكن؛ فالتكليف محال عقلا أو سمعا، كتكليف العجماوات والجمادات؛ فكيف يقال: إنه مكمل؟ بل هو العمدة في صحة التكليف، وكذلك لا يصح أن يقال: إن الإيمان مكمل للعبادات؛ فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان، وكثير من هذا.
ويرتفع هذا الإشكال4 بأمرين:
أحدهما:
أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية5، وكلامنا في الشروط الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خروج أي روح. "ماء".
2 إن اعتبر الزهوق مكملا لحكمة المشروط وهو القتل؛ كان من النوع الأول للشرط، وإن كان مكملا لحكمة الزجر المترتبة على القصاص؛ كان من النوع الثاني. "د".
3 فمجرد المرض المذكور سبب في تقرر حقوقهم، ولكن شرطه الموت. "د".
4 أي: في العقل خاصة، أما الإيمان؛ فجوابه يأتي بعده بعدم التسليم بشرطيته. "د".
5 ولكنا قلنا: إذا اعتبرها الشرع من حيث تعلق بها حكم شرعي؛ صارت شرعية تدخل تحت قسم الشروط الشرعية، وتنالها أحكامها؛ إلا أن يقال: إن كلامنا في الشرعية الصرفة التي ليست في الأصل عادية ولا عقلية، ولكن هذا لا يتناسب مع اعتباره الزهوق شرطا، وقد سلمه. "د".(35/70)
ص -415-…والثاني:
أن العقل في الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف1 وهو الإنسان، لا في نفس التكليف، ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل، وأما الإيمان؛ فلا نسلم أنه شرط؛ لأن العبادات مبنية عليه, ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح؟ وهذا فرع الإيمان؛ فكيف يكون أصل الشيء وقاعدته التي ينبني عليها شرطا فيه؟ هذا غير معقول، ومن أطلق هنا لفظ الشرط؛ فعلى التوسع في العبارة.
وأيضا، فإن سلم في الإيمان أنه شرط؛ ففي المكلف لا في التكليف, ويكون شرط صحة عند بعض، وشرط وجوب عند بعض -فيما عدا التكليف بالإيمان- حسبما ذكره الأصوليون في مسألة خطاب الكفار بالفروع.
المسألة الخامسة:
الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط؛ فلا يصح أن يقع المسبب دونه، ويستوي في ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء؛ فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط، [كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط]2، وهذا من كلامهم ظاهر؛ فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه؛ لم يكن شرطا فيه، وقد فرض كذلك، هذا خلف.
وأيضا، لو صح ذلك؛ لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا، وذلك محال.
وأيضا؛ فإن الشرط من حيث هو [شرط]3 يقتضي أنه لا يقع المشروط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون في التعبير بشرط التكليف تساهل، والغرض هو ما ذكر. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.(35/71)
ص -416-…إلا عند حضوره, فلو جاز وقوعه دونه؛ لكان المشروط واقعا وغير واقع معا، وذلك محال، والأمر أوضح من الإطناب فيه.
ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليين أصل آخر، وعزي إلى مذهب مالك: أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط؛ فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا؟ قولان؛ اعتبارا باقتضاء السبب، أو بتخلف الشرط، فمن راعى السبب وهو مقتضٍ لمسببه؛ غلَّب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط، ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه؛ لم يراع حضور السبب بمجرده، إلا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه.
وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا1، ويمثلون ذلك بأمثلة، منها:
إن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة، ودوران الحول شرطه، ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف.
واليمين سبب في الكفارة، والحنث شرطها، ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين.
وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية، والزهوق شرط، ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب, ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا.
وفي المذهب: إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هي في ملكه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعرض القرافي في الثالث والثلاثين من "قواعده" [1/ 196] لهذا المبحث، وذكر أن الحكم الذي يتقدم على سببه وشرطه غير معتبر إجماعا، والذي يتأخر عن السبب ويتقدم عن الشرط يختلف العلماء في كثير من صوره؛ هل هو معتبر أو لا؟ ثم ضرب لذلك أمثلة وأهمها ما تصدى المصنف للجواب عنه في هذا التحرير. "خ".(35/72)
ص -417-…إن شاءت طلقت أو أبقت، فاستأذنها1 في التزويج فأذنت له، فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه، قال مالك: ليس لها ذلك؛ بناء على أنها قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك، وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج.
وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز، مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت؛ فالمرض هو السبب لتملكهم، والموت شرط؛ فينفذ إذنهم عند مالك -خلافا لأبي حنيفة والشافعي- وإن لم يقع الشرط، ومن الناس من قال بإنفاذ إذنهم في الصحة والمرض؛ فالسبب على رأي هؤلاء هو القرابة، ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط.
وفي المذهب: من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل فأنزل2 ففي وجوب الغسل عليه ثانية قولان، ونفي الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره، وقد اغتسل، فلا يغتسل له مرة أخرى، هذه حجة سحنون وابن المواز؛ فالسبب هو الانفصال، والخروج شرط، ولم يعتبر، إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل.
وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول؛ فإن الأول يقضي بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق، والثاني يقضي بأنه صحيح عند بعض العلماء، وربما صح باتفاق، كما في مسألة العفو قبل الزهوق، ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق، والمعلوم صحة الأصل الأول؛ فلا بد من النظر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المذكور في كتب المذهب أنه إذا ملكها أمر امرأة يتزوجها، ثم أسقطت حقها الذي ملكها إياه بأن قالت مثلا: أسقطت حقي، ثم تزوج بالمرأة التي جعل لزوجته حق تطليقها، فإذا أرادت أن تتمسك بهذا الحق؛ فليس لها ذلك على المشهور المعتمد، ومقابله ضعيف، وبتنزيل كلام المؤلف عليه يظهر الكلام هنا، والجواب الآتي، أما مجرد الإذن له على ما هو ظاهر كلامه؛ فإنه لا يسقط حقها ولا يتم معه الجواب الآتي، ولا يخفى عليك أن قوله: "بناء على... إلخ" ليس من مقول مالك "د".
2 في "ط": "ثم أنزل".(35/73)
ص -418-…كلامهم في الأصل الثاني:
أما أولا؛ فنفس التناقض بين الأصلين كافٍ في عدم صحته عند العلم بصحة1 الأصل الأول.
وأما ثانيا؛ فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط؛ فإنا نقول:
من أجاز تقديم الزكاة قبل [حلول]2 الحول مطلقا -من غير أهل مذهبنا- فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الانحتام؛ فالحول كله كأنه وقت -عند هذا القائل- لوجوب3 الزكاة موسع، ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة، وأما الإخراج قبل الحول بيسير -على مذهبنا- فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه، فشرط الوجوب حاصل.
وكذلك القول في شرط الحنث: من أجاز تقديم الكفارة عليه؛ فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير، لا شرط في وجوبها.
وأما مسألة الزهوق؛ فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية، لا أنه شرط في صحة العفو، وهذا متفق عليه؛ إذ العفو بعده لا يمكن4؛ فلا بد من وقوعه قبله إن وقع، ولا يصح5 أن يكون شرطا إذ ذاك في صحته، ووجه صحته أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بإطلاق ليصح التناقض. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستظهرها ناسخ المخطوط.
3 ومثل هذا الجواب للسعد في "حاشيته" على ابن الحاجب في مسألة الأداء والقضاء. "د".
4 وهو ظاهر متى كان الاعتراض في خصوص عفو المجروح. "د".
5 لو كان تفريعا بالفاء؛ لكان أوضح. "د".(35/74)
ص -419-…حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال؛ فجاز عفوه عنه مطلقا1 كما يجوز عفوه عن سائر الجراح، وعن عِرْضه إذا قذف، وما أشبه ذلك، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه2 أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق، ولو كان كما قالوه؛ لكان في هذه المسألة قولان3.
وأما مسألة تمليك المرأة؛ فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه؛ لم يبق لها ما تتعلق به بعده؛ لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها4 فيه بعد ما جرى سببه، فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط، وهو فقه ظاهر.
ومسألة إذن الورثة بينة5 المعنى؛ فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه، والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له؛ فهما سببان، كل واحد منهما يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر، فمن حيث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: زاد عن ثلث ماله أم لا؛ فلا شأن للورثة بذلك. "د".
2 أي: فيما سبق من بنائه على أن مجرد حصول السبب قاضٍ بترتب المسبب, وإن لم يحصل الشرط اعتبارا باقتضاء السبب. "د".
3 ومعلوم أن الزهوق شرط في القصاص والدية، وقد اتفقوا على أنه إن لم يحصل هذا الشرط؛ فلا يتأتى القصاص ولا أخذ دية النفس، فاتفاقهم دليل على أن مجرد حصول السبب بدون الشرط لا يترتب عليه المسبب، ولو كان هناك من يقول باعتبار السبب وحده بدون الشرط؛ لكان قائلا بصحة استيفاء الدية والقصاص قبل تحقق الشرط وهو الزهوق، ولم يقل بذلك أحد؛ فدل على اعتبار الجميع للشرط في تحقق حكم المسبب. "د".
4 أي: فليس تزوج المرأة شرطا في صحة التمليك؛ لأن الملك تم بمجرد الصيغة، غايته أن أثره إنما يكون بعد التزوج، فإذا أسقطت الملك؛ فليس إسقاطا قبل حصول الشرط في الملك. "د".
5 في الأصل: "مبينة".(35/75)
ص -420-…كان المرض سببا لتعلق الحق وإن لم يكن ملك كان إذنهم واقعا في [محله] لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث صارت لهم فيه شبهة ملك, فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة؛ لأنهم صاروا في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض كالأجانب1، فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق كالثلث و[قول]2 القائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط؛ لأنهم أذنوا قبل التمليك3 وقبل حصول الشرط؛ فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها.
وأما مسألة الإنزال فيصح4 بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل، أو لأنه لا حكم له؛ لأنه إنزال من غير اقتران لذة.
فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد أسقطوا المقدار الذي ترتب لهم على مرض مورثهم، وصاروا كالأجانب لا يقبل منهم بعد الموت كلام فيما تصرف فيه زائدا على الثلث؛ كحال الأجانب في ذلك، وكل هذا خارج عن تقرر ملك لهم في حالة المرض. "د" وفي "ط": "صاروا في المال...".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"م".
3 أي: قبل تمامه بحصول شرطه. "د". وفي "ط": "قبل التملك أو قبل...".(35/76)
4 أي: تبنى على أن الجماع ليس من شرط وجوب الغسل فيه الإنزال، وفرض المسألة الجماع؛ فدعوى أن الإنزال شرط ليست بصحيحة في هذا الفرض، أو يقال: إن عدم وجوب الغسل مبني على ما هو أعم من ذلك، وهو أن كل إنزال لم يقترن بلذة يكون كالعدم لا حكم له، ولو لم يكن ناشئا عن الجماع، اللهم إلا ما كان في النوم؛ فإنهم وإن لم يشترطوا مقارنته للذة إلا أنه لما كانت الحالة حالة نوم وغفلة عن ضبط اللذة مع كون الغالب أن المني لا يكون إلا مع لذة؛ طردوا الباب في النوم حتى فيما لم يشعر فيه باللذة، وهذا إنما يصح إذا سلمنا أنه يشترط مقارنة اللذة في اعتبار الإنزال موجبا، مع أنهم صرحوا في غير الجماع بأن الإنزال بسبب اللذة موجب للغسل، وإن لم يقارنها، بل تأخر عنها؛ فتأمل، ثم رأيت أن ما قلناه ليس متفقا عليه بل هو المعتمد، ومقابله يشترط في الإنزال الموجب للغسل أن يكون بلذة مقارنة، حتى إذا التذ وبعد انقضاء اللذة خرج منه المني؛ فإنه لا يطالب بالغسل مطلقا، سواء اغتسل قبل خروجه -وإن لم يطالب به- أو لم يغتسل؛ فكلام المؤلف مبني على هذا. راجع الزرقاني وحاشية العدوي عليه. "د".(35/77)
ص -421-…المسألة السادسة:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين:
أحدهما:
ما كان راجعا إلى خطاب التكليف إما مأمورا بتحصيلها -كالطهارة للصلاة وأخذ الزينة لها وطهارة الثوب وما أشبه ذلك- وإما منهيا عن تحصيلها -كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول والجمع بين المتفرق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة الذي هو شرط لنقصان الصدقة وما أشبه ذلك- فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه, فالأول مقصود الفعل والثاني مقصود الترك وكذلك الشرط المخير فيه -إن اتفق1- فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف إن شاء فعله فيحصل المشروط, وإن شاء تركه فلا يحصل.
والضرب الثاني:
ما يرجع إلى خطاب الوضع كالحول في الزكاة والإحصان في الزنى والحرز في القطع وما أشبه ذلك, فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ولا في عدم تحصيله فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب علي [صاحبه]2 إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه, ولا مطلوب الترك أن يقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالنكاح الذي يكون به محصنا؛ فهو مباح وشرط في ترتب حكم الرجم على الزنى. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وسقطت من "د".(35/78)
ص -422-…يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة, وكذلك الإحصان, لا يقال: إنه مطلوب الفعل1 ليجب عليه الرجم إذا زنى, ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى.
وأيضا فلو كان مطلوبا, لم يكن من باب خطاب الوضع, وقد فرضناه كذلك, هذا خلف, والحكم فيه ظاهر2.
فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه, من حيث هو فعل داخل تحت قدرته؛ فلا بد من النظر في ذلك, وهي:
المسألة السابعة:
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف3، مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا, فإن كان ذلك, فلا إشكال فيه؛ وتنبني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ليس مطلوب التحصيل بفعل سببه وهو النكاح، وإلا؛ فالإحصان وصف لا يفعل. "د".
2 في "م": "ظاهرة"؛ فضبط الجملة الأستاذ محيي الدين تبعا لذلك: "والحِكَمُ فيه ظاهرة".
3 لا يقال: موضوع المسألة عام في الضربين، وقد خصه بخطاب التكليف؛ فيكون خاصا بالضرب الأول في المسألة قبلها، وهذا لا يناسب فرض المسألة كما لا يناسب الأمثلة الآتية.
لأنا نقول: إن خطاب الوضع يدخل تحت قوله: "أو مخيرا فيه"، وكذا تحت ما قبله من المأمور به والمنهي عنه، من حيث إن خطاب الوضع في المسائل الآتية يحصل مسببا عن فعل المخير فيه مثلا كما تقدمت أمثلته؛ فإن الحول في الزكاة يحصل من إمساك المال مدة الحول، وهو فعل مخير فيه، له أن ينفق أو يمسك, والإحصان مرتب على النكاح المخير فيه, وجمع المتفرق وتفريق المجتمع مخير فيه, وكل منهما مترتب عليه خطاب الوضع؛ فالكلام جارٍ مع فرضه المسألة؛ فإن فعل الشرط؛ لأنه مأمور به أو تركه؛ لأنه منهي عنه، أو فعله لأنه مخير فيه، وكان قصده قضاء حاجته، لا إبطال مسبب شرعي، فلا كلام في ترتب أحكام الشرط عليه. "د".(35/79)
ص -423-…الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حضوره، وترتفع عند فقده؛ كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه، أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه، أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة، أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة أخرى، أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده، أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان، إلى ما أشبه ذلك.
وإن كان1 فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الاقتضاء [في السبب]2 أن لا يترتب عليه أثره؛ فهذا عمل غير صحيح، وسعي باطل؛ دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا.
فمن الأحاديث في هذا الباب قوله, صلى الله عليه وسلم3: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإن فعل ما يحقق الشرط أو فعل ما يخل به بهذا القصد؛ فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه أثره، وظاهره أن ذلك جار فيما ترتب عليه ما لا يعد هربا من الأثر؛ كأن يجمع لتلزمه الزكاة أو يفرق لتلزمه أيضا، وكذا إذا أبقى النصاب بقصد وجوب الزكاة، أو فعل موجب الإحصان ليرجم إذا زنى ظاهره أن هذا لا يترتب عليه أثره؛ لأنه قصد إلى الشرط من جهة كونه شرطا بنية إسقاط حكم الاقتضاء السابق على فعل ما يحقق الشرط حتى لا يترتب عليه أثره، وهو عدم الزكاة في المثالين الأول والثاني، وعدم الرجم في المثال الثالث، ولا يخفى أن هذا الظاهر غير واضح؛ لأنه متى بقي النصاب إلى الحول عنده ولو بهذا القصد لزمته الزكاة، وكذا يقال في بقية الأمثلة؛ فهل تقيد المسألة بما إذا كان الفعل أو الترك قصدا إلى إسقاط أثر شرعي لا يراه في مصلحته، وهربا مما ينافي مقاصد الناس في المألوف عند العقلاء؛ فيكون الحكم في المسائل السابقة وأمثالها اعتبار الحالة الواقعة ولو كان القصد مندرجا فيما يقوله المؤلف؟ "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(35/80)
3 فهو فعل منهيا عنه ليخل بشرط الزكاة أو زيادتها، وفي المثال الثاني فعل منهيا عنه ليخل بشرط الخيار، وفي المثال الثالث فعل منهيا عنه وهو إدخال فرس معروف فيها أنها تسبق الخيل ليحقق شرط حوز الرهان وهو السبق؛ فهو مخل بقصد المسابقة ومقترن بقصد حصول الشرط، وكذا يقال في شرط الولاء: إنه فعل منهيا عنه بقصد إسقاط حكم الاقتضاء ألا يترتب عليه أثره، وكذا =(35/81)
ص -424-…بين مجتمع خشية الصدقة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البيع، وشرط ألا يبيعه المشتري مطلقا أو لغيره مثلا؛ فهذا إسقاط لما يترتب على البيع من حق المشتري في سائر تصرفات الملك، وما بعده قيد فيه السلف الذي لا يكون إلا لله وليس فيه مشاحة ولا ربح بالبيع الذي فيه ذلك؛ فقد خرج السلف بذلك عن مقتضاه، وشرط في شرط كشرط أن يكون الولاء للبائعين في مسألة بريرة حيث اشترطوا في بيعها أن تعتقها، واشترطوا في عتقها أن يكون الولاء لهم، والفقهاء استثنوا من عدم جواز البيع والشرط مسألة شرط العتق فقد أجازوها؛ فيتصور فيها شرط في شرط، وكذا فعل اليمين المنهي عنها ليرتب عليها حقا له لم يكن؛ فقد فعل شرطا يترتب عليه القضاء له بغير حقه، وقد فعله من جهة كونه شرطا بالقصد المعلوم، وجعل الشارع اليمين على نية المستحلف حتى لا يمكن الحالف من فعل شرط بهذا القصد الباطل، وآية {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ...} إلخ من هذا أيضا، فإذا فعل ما يقتضي نشوزها وعدم قيامها بحدود الله؛ فقد فعل منهيا عنه بقصد حصوله على غرضه من الفدية، وآية شهادة الزور؛ فالشهادة يحقق بها شرطا لحكم القاضي للمشهود له بقصد إسقاط حكم الاقتضاء قبل الشهادة، والتيس المستعار يريد تحقيق شرط عودها للأول بهذا القصد. "د".
وفي "م": "قوله, عليه السلام"، وفي "خ": "قوله, عليه الصلاة والسلام".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" من حديث أنس, رضي الله عنه.(35/82)
وأخرجه من حديث ابن عمر ضمن قطعة من آخر حديث طويل, أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، 2/ 244-225/ رقم 1568"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، 2/ 66-67/ رقم 617"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الإبل، 1/ 573، 574/ رقم 1798"، وأحمد في "المسند" "2/ 15"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 121، 122"، وابن زنجويه في "الأموال" "رقم 1519"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 392"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 88"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 32، 40" من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه ابن عمر به، وإسناده ضعيف لضعف سفيان في رواية عن الزهري.
ولكن للحديث شواهد عديدة اعتنى بسردها ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 861-863"، وانظر: "التلخيص الحبير" "2/ 151، 155"، و"فتح الباري" "3/ 314".(35/83)
ص -425-…وقال صلى الله عليه وسلم1: "البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"2.
وقال: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن تسبق؛ فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق؛ فهو قمار"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عليه السلام"، وفي "خ": "عليه الصلاة والسلام".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب كم يجوز الخيار، 4/ 326/ رقم 2107، وباب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع، 4/ 327-328/ رقم 2109"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، 3/ 1163/ رقم 1531"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب في خيار المتبايعين/ رقم 3454، 3455"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا/ رقم 1245", والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، 7/ 248-249"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب البيعان بالخيار ما لم يفترقا، 2/ 736/ رقم 2181"، ومالك في "الموطأ" "2/ 2671"، وأحمد في "المسند" "2/ 4، 9، 73", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 617"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 268، 272" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بألفاظ متعددة منها هذا.(35/84)
3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 505"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 960/ رقم 2876"، وأبو داود في "السنن" "3/ 30/ رقم 2579"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 499"، والدراقطني في "السنن" "4/ 305"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 365-366"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 114"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 395-396/ رقم 2654"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 175"، والحربي في "غريب الحديث" "2/ 373"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 285/ رقم 470- الروض الداني"، وابن المنذر في "الإقناع" "2/ 506"، وأبو عبيد في "غريب الحديث" "2/ 143"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1208-1209"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 259/ رقم 5864"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ 103/ 2" من طريقين "سفيان بن حسين وسعيد بن بشير" بأسانيد متفرقة عن الزهري عن سعيد بن المسيب =(35/85)
ص -426-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن أبي هريرة به.
وهذا إسناد ضعيف، والحديث معلول، أعله جهابذة الجرح والتعديل.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" "2/ 252/ رقم 2249" له: "سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون وغيره عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: "أيما رجل أدخل فرسا بين فرسين وهو يأمن أن يسبق؛ فهو قمار" قال أبي: هذا خطأ، لم يعمل سفيان بن حسين شيئا لا يشبه أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب من قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد من قوله".
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 163"، و"الفروسية" "230- بتحقيقي" لابن القيم:
"سألت يحيى بن معين عن حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فرسا بين فرسين..." الحديث؛ فقال: باطل وخطأ على أبي هريرة".
وقال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرجه "رقم 2580": "رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم، قالوا: "من أدخل فرسا"، وهذا أصح عندنا.
هذا لفظ أبي داود؛ فلا ينبغي أن يقتصر المخرج له من "السنن" على قوله: رواه أبو داود، ويسكت عن تعليله له.
وقد رواه مالك في "الموطأ" "2/ 468"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20" "عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب؛ أنه قال: "من أدخل فرسا"؛ فجعله من كلام سعيد نفسه.
وكذلك رواه الأساطين الأثبات, من أصحاب الزهري معمر بن راشد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيلي، وهؤلاء أعيان أصحاب الزهري، كلهم رووه عن سعيد بن المسيب من قوله.(35/86)
وممن أعله أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" "2/ 143"، وأعله أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 87"، وقال:
"هذا حديث انفرد به سفيان بن حسين من بين أصحاب ابن شهاب، ثم أعله بكلام أبي داود". =(35/87)
ص -427-…وقال في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط"1 الحديث.
ونهى عليه [الصلاة والسلام] عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن شرطين في بيع2، وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال بعض الحفاظ فيما نقل ابن القيم في "الفروسية" "231-232- بتحقيقي": "يبعد جدا أن يكون الحديث عند الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا، ثم لا يرويه واحد من أصحابه الملازمين له، المختصين به, الذين يحفظون حديثه حفظا، وهم أعلم الناس بحديثه، وعليهم مداره، وكلهم يروونه عنه كأنما من قول سعيد نفسه، وتتوفر هممهم ودواعيهم على ترك رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الطبقة العليا من أصحابه، المقدمون على كل من عداهم ممن روى عن الزهري، ثم ينفرد برفعه من لا يدانيهم ولا يقاربهم؛ لا في الاختصاص به، ولا في الملازمة له، ولا في الحفظ، ولا في الإتقان، وهو معدود عندهم في الطبقة السادسة من أصحاب الزهري على ما قال أبو عبد الرحمن النسائي، وهو سفيان بن حسين؛ فمن له ذوق في علم الحديث لا يشك ولا يتوقف أنه من كلام سعيد بن المسيب لا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يتأتى له الحكم برفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إما أن يرويه ويسكت عنه، أو ينبه عليه".
قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب".(35/88)
قال: "وهذا مما يعلم أهل العلم بالحديث أنه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه، وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه عن سعيد بن المسيب؛ مثل: الليث بن سعد، وعقيل، ويونس، ومالك بن أنس، وذكره في "الموطأ" عن سعيد بن المسيب نفسه، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي، وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك". ونحوه في "مجموع الفتاوى" "18/ 63-64".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل, 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
2 في الأصل و"ط": "عن شرطين في شرط"، وفي النسخ الثلاث المطبوعة: "وعن شرط =(35/89)
ص -428-…ومنه حديث: "من اقتطع مال امرئ مسلمٍ بيمينه"1.
وحديث: أن "اليمين على نية المستحلِف"2.
وعليه جاءت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران: 77].
وفي القرآن أيضا: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 229].
وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
وما جاء من3 الأحاديث.
وقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في شرط"! والصواب: "وعن شرطين في بيع"؛ كما أثبتناه.
وسيأتي النهي عن ذلك في حديث بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن...". انظره وتخريجه "ص469".
وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "لم يجر البيع والسلف لاتهام المتعاقدين على قصد السلف بزيادة، ولأن فيه الجمع بين عقدين متضادين؛ فإن السلف معروف، والبيع موضوع للتجارة، ومبني على المشاحَّة".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، 1/ 122/ رقم 137" بلفظ: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار".
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف، 3/ 1247/ رقم 1653، بعد 21" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
3 في "ط": "وما في معناه من".(35/90)
ص -429-…وما جاء من أحاديث لعن المحلِّل والمحلَّل له1 والتيس المستعار.
وحديث التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة الدَّرِّ2.
وسائر أحاديث النهي عن الغش3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 149"، وأحمد في "المسند" "1/ 450"، والدارمي في "السنن" "2/ 294"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود: "لعن المحلل والمحلل له".
وقال الذهبي في "الكبائر" "ص213- بتحقيقنا" بعد أن أورد حديث: "لعن الله المحلل والمحلل له"، قال: "جاء ذلك من وجهين جيدين عنه, صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 170": "صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري".
وانظر غير مأمور: "الاقتراح" "207"، و"تحفة المحتاج" "2/ 372".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم/ 3/ 361/ رقم 2148"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة، 3/ 1158/ رقم 1524" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها؛ إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"، وفي رواية لمسلم: "من اشترى مصراة؛ فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها؛ رد معه صاعا من تمر لا سمراء".
وهي في البخاري معلقة، دون "لا سمراء".(35/91)
3 أخرج ابن حبان في "الصحيح" "2/ 326/ رقم 567- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10234"، و"الصغير" "1/ 261"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 189"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 253، 254" بإسناد حسن عن ابن مسعود مرفوعا: "من غشنا فليس منا".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 101"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3455"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1315"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2224"، وأحمد في "المسند" "2/ 242، 417"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 57"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 139"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 564"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 8، 9"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 230" من حديث أبي هريرة.(35/92)
ص -430-…والخديعة.
والخلابة1.
والنجش2.
وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها وتزوجها3 عبد الرحمن بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، 4/ 337/ رقم 2117", ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع، 3/ 1165/ رقم 1533"؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن يخدع في البيع: "متى بايعت؛ فقل: لا خلابة"، وهذا الرجل هو حبان بن منقذ، وقيل: بل والده، وهذا هو الصحيح، وانظر: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 596"، وتعليقنا عليه.
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النجشي، 4/ 355/ رقم 2142"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه" من حديث ابن عمر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النجش".
قال "د": "تصرية الشاة وما معها من مسائل الغش والخديعة والخلابة والنجش -ويجمعها في الحقيقة جنس الغش- قد فعل بها أمرا يقتضي زيادة الثمن عما إذا كانت غير مغشوشة، ولو كان ما فعله بهذا القصد صحيحا؛ لرتب الشارع عليه ملكه للزيادة وحل الانتفاع بها، ولكنه لا يرتب ذلك لأنه فعل شرط الزيادة بهذا القصد السيئ ولا بد؛ فلا تكون الزيادة ملكا له، ولا يحل انتفاعه بها، وللمشتري رد المبيع واسترداد الثمن".(35/93)
3 في جميع الأمثلة السابقة وجد الشرط فعلا، ولكن بقصد غير صحيح, فكان سعيا باطلا من هذه الجهة، أما في مسألة امرأة رفاعة؛ فليس فيها تحقق الشرط وهو نكاح الزوج الآخر، وأنه فعل بقصد سيئ كالتحليل مثلا حتى يلغى الأثر المترتب على الشرط, ويبقى الأمر كما كان قبل فعله، وإنما الذي في المسألة أن الشرط لم يتحقق بدليل قوله, عليه السلام: "لا، حتى تذوقي عسيلته..." إلخ، أي: إنه لم يتحقق المس مع الانتشار بدليل أنها لما عادت إليه -عليه السلام- بعد مدة تقول: إنه قد مسني؛ فقال لها: "كذبت بقولك الأول، فلن أصدقك في الآخر"؛ فلا يظهر وجه إدراج المسألة في هذا الباب. "د".(35/94)
ص -431-…الزبير1.
والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 731-732/ رقم 2309"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثا والنكاح الذي يحلها به، 6/ 148"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها، 2/ 293/ رقم 1127"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ 1/ 621-622/ رقم 1932"، وأحمد في "المسند" "6/ 42، 96" من حديث عائشة قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 531" عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب، وذكر نحوه.
وهو مرسل عند أكثر رواة "الموطأ"، ورواه ابن وهب وابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، جميعهم عن مالك؛ فقالوا: عن الزبير بن عبد الرحمن عن أبيه موصولا، وهو صاحب القصة.
"فائدة": الزبير ضبطها الحافظ في "التقريب" "3860" بفتح الزاي، وفي حاشية الأصل بكسر الباء وفتح الزاي المشددة.(35/95)
ص -432-…وأيضا؛ فإن هذا العمل1 يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة، عبثا لا حكمة له ولا منفعة به2، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح، وأنها معتبرة في الأحكام.
وأيضا؛ فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد وحصل في الوجود؛ صار مقتضيا شرعا لمسببه، لكنه توقف على حصول شرط3، هو تكميل للسبب؛ فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا، وقد تبين [أن]4 مضادة قصد الشارع باطلة؛ فهذا العمل باطل.
فإن قيل: المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط، فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده؛ كان كما لو لم يقصد ذلك، ولا تأثير للقصد، وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض5 السبب أن يكون مقتضيا؛ كالحول في الزكاة؛ فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض، والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط، لا عند فقدها، فإذا لم ينتهض سببا؛ كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تقدم من الآيات والأحاديث استدلال بالنقل والاستنباط منه، وهذا وما بعده استدلال بطريق العقل المبني على ما استقرئ من مقاصد الشرع في شرع الأحكام للمصالح، فلو جرى العمل باعتبار هذا الشرط الذي قصد به هذا القصد؛ لبطلت تلك المصالح التي يبنيها الشاع على تلك الأسباب، فمثلا لو اعتبر التفريق والجمع بهذه النية، ولو اعتبر الإنفاق قبل الحول بقليل ليهرب من الزكاة في المسألتين؛ لأمكن لكل واحد أن يخلص من وجوب الزكاة بفعل هذا الشرط أو تركه مثلا، وضاعت المصلحة المترتبة على الزكاة، وكذا يقال في سائر الأمثلة. "د".
2 في "ط": "فيه".
3 كمرور الحول مثلا في النصاب، فإذا أنفق بعضه بقصد رفع الزكاة؛ كان قصده رفع الزكاة عن هذا النصاب المملوك له مضادا لقصد الشارع إيجاب الزكاة فيه. "د".
4 سقط من الأصل.(35/96)
5 في الأصل و"ط": "ينتهض".(35/97)
ص -433-…من معاني الانتفاع، فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن السبب لم يقتضِ إيجابها لتوقفه على ذلك الشرط الذي ثبت اعتباره شرعا، فمن حيث قيل فيه: إنه مخالف لقصد الشارع؛ يقال: إنه موافق1، وهكذا سائر المسائل.
فالجواب: أن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب، وأما مع القصد إلى ذلك؛ فهو معنى غير معتبر؛ لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها؛ فإن الجمع بين المتفرق2 أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال3 حكم السبب، بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين؛ فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق، ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف؛ فذلك هو المنهي عنه، كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة، ففرقها قصدا أن يخرج واحدة؛ فكذلك، وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرطا يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج، وكذلك قوله: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"4؛ فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو مضاد لقصد الشارع كما ذكر في الدليل السابق، وموافق له من جهة أن قصد الشارع أن السبب إنما يقتضي مسببه عند وجود الشرط لا عند فقده، يعني: فكان يقتضي ذلك على أكثر الفروض أن يقال: إنه فعل منهيا عنه وأثم مثلا، ولكنه لا تجب عليه الزكاة؛ فإثمه من جهة المضادة لقصد الشارع وعدم وجوب الزكاة لفقد الشرط الذي قصد الشارع توقف تأثير السبب على حصوله. "د".
2 في الأصل: "المفترق".
3 وتقدمت القاعدة الأصولية وهي أنه ليس لأحد أن يرفع حكم السبب؛ لأن المسبب من فعل الله لا من فعل المكلف، ولما كان هذا الشرط يقصد به رفع المسبب؛ كان لاغيا وكأنه لم يكن. "د".
4 قطعة من حديث صحيح مضى تخريجه "ص425".(35/98)
ص -434-…له بسبب العقد، وعن الإتيان بشرط الفرس المحللة1 [للجعل]2 بقصد أخذه، لا بقصد المسابقة معه، ومثله مسائل الشروط؛ فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة3؛ فإن العقد على الكتابة4 اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه، ومن ذلك الولاء، فمن شرط أن الولاء له من البائعين؛ فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه، واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك؛ فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه5، وإذا كان منهيا عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "المحلية".
2 سقط من الأصل.
3 قيد به لما سبق له من أن المسبب الذي لا يرفع هو مسبب سبب وقع بالفعل؛ فارجع إليه. "د".
4 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: قوله: "فإن العقد على الكتابة... إلخ" كلام غير صحيح؛ فإن بيع الكتابة منعه أبو حنيفة والشافعي، وأجازه مالك، لكنه يقول: "الولاء لعاقدها لا لمشتريها" عكس ما قاله المصنف، وكلامه يشير إلى أن حديث بريرة محمول على بيع كتابتها لا رقبتها، وهو حمل فاسد كما ذكرناه من كون الولاء في بيع الكتابة عند من يجيزها للعاقد، والذي في الحديث خلافه.
وأيضا؛ فإن الكتابة إذا كانت نقدا إنما تباع بعرض، والذي في القصة خلافه، والمحققون من المالكية يحملون بيعها على بيع رقبتها بعد "عجزها"، فمن اشترطه من بائعي الرقبة: الولاء على المشتري أن أعتق، فقد قصد رفع حكم السبب فيه؛ فكان الصواب التمثيل على هذا الوجه، وكان المصنف اعتمد على ما في "بداية المجتهد" للحفيد ابن رشد، حيث نقل عن المالكية حمل الحديث على بيع الكتابة وهو كلام فاسد بما أوضحناه، والله تعالى أعلم.
وممن أشار إلى فساده بالوجه الأول الأبي في "شرح مسلم"، وبالوجه الثاني ابن قيم الجوزية في كتاب "الهدي". ا. هـ. كاتبه.(35/99)
5 أي: فقوله, في الاعتراض السابق: إنه موافق من جهة ومخالف من جهة؛ غير صحيح، فإنه مخالف من كل جهة؛ لأنه متى كان المنهي عنه هو فعل الشرط نفسه؛ فيكون باطلا وكأنه لم يحصل؛ فبقي الحكم كما كان قبل فعله. "د".(35/100)
ص -435-…كان مضادا لقصد الشارع1؛ فيكون باطلا.
فصل:
هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا؟
الجواب: أن في ذلك تفصيلا، وهو أن نقول2: لا تخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع، أو المرفوع في حكم الحاصل معنى، أو لا.
فإن كان كذلك؛ فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه، ولا حكم له، مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها، وكالجامع بين المفترق3 ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى التفرقة، أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت عليه, وكالناكح لتظهر صورة الشرط ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا، وأشباه ذلك؛ لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ولا فائدة فيه تقصد شرعا.
وإن لم يكن كذلك؛ فالمسألة محتملة، والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه:
أحدها:4
أن يقال: إن مجرد انعقاد السبب كافٍ؛ فإنه هو الباعث5 على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مضاد له عينا، وسيأتي لهذا ذكر في الفصل بعده. "د".
2 في "ط": "يقال".
3 في "ط": "المتفرق".
4 ضعيف في النظر إن لم يكمل بما سبق من أنه منهي عنه ومضاد لقصد الشارع قطعا؛ فيكون باطلا، أما مجرد أن الشرط أمر خارجي... إلخ؛ فإنه لا يفيد، ولو جعل ما بعده مكملا له لا دليلا مستقلا، وكان هو روح الدليل لصح، ولكن قوله: "وأيضا" يقتضي استقلاله في نظره بالاستدلال، وكلامه في التطبيق على الأمثلة بعد يقتضي أن محل الاستدلال وروحه ما بعد قوله:
"وأيضا"؛ فتأمل. "د".
5 لا يخفى ما فيه من التسامح. "د".(35/101)
ص -436-…الحكم، وإنما الشرط أمر خارجي مكمل، وإلا؛ لزم أن يكون الشرط جزء العلة1، والفرض بخلافه، وأيضا؛ فإن القصد فيه قد صار غير شرعي؛ فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع، فهو في حكم ما لم يعمل فيه، واتحد مع القسم الأول في الحكم؛ فلا يترتب على هذا العمل حكم، ومثال ذلك: إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بَتْلة لم2 يرجع فيها، أو جمع بين المفترق، أو فرق بين المجتمع -وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة- لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبول الحول، وما أشبه ذلك؛ فقد علمنا -حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم- أنه قاصد لثبوت الحكم به، فإذا أخذ هذا برفع حكم السبب مع انتهاضه سببا؛ كان مناقضا لقصد الشارع، وهذا باطل، وكون الشرط -حين رُفع أو وُضع- على وجه يعتبره الشارع على الجملة3 قد أثر فيه القصد الفاسد؛ فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا، فكان كالمعدوم بإطلاق، والتحق بالقسم الأول.
والثاني:
أن يقال: إن مجرد انعقاد السبب غير كاف، فإنه وإن كان باعثا؛ قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط، فإذًا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده، وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه، فإذا كان كذلك؛ فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط لم يناقض قصدُه قصدَ الشارع من كل وجه، وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه، وهو الشرط أو عدمه، لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ط: "علة".
2 أي: بائنة قاطعة. انظر: "لسان العرب" "ب ت ل".(35/102)
3 فالشارع يعتبر إنفاق النصاب قبل الحول في منافعه، والهبة البتلة، وجمع المتفرق مثلا بهذا القصد نافذا؛ فيرتب في الهبة ملك الموهوب له، ولا يرد ما أنفقه في قضاء مصالحه، وهكذا لا يلزمه بتفريق المجتمع؛ فتكون التصرفات صحيحة في الجملة، لا من كل وجه؛ لأنه بهذا القصد الفاسد يكون آثما، وأيضا لا يرتب عليه الحكم الذي أراده وهو الفرار من الزكاة. "د".(35/103)
ص -437-…قصد الشارع على الجملة، لا عينا؛ لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها.
وأيضا؛ فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا؛ لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا، كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه وفي تملك الغاصب له، ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم.
وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة، أو سافر في رمضان قصدا للإفطار، أو أخر صلاة حضر عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين، أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها، قال: فجميع ذلك مكروه، ولا يجب على هذا في السفر صيام، ولا أن يصلي أربعا، ولا على الحائض قضاؤها، وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف: ليقضين فلانا حقه إلى شهر، وحلف بالطلاق الثلاث؛ فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث، فلما انقضى1 الأجل راجعها؛ فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث وليست بزوجة؛ لأن الخلع ماضٍ شرعا وإن قصد به قصد الممنوع.
والثالث:
أن يفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين؛ فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله، وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي؛ كمسألة الجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع، ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول؛ لأن الزكاة من حقوق الله، وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله؛ لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين، وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين؛ كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "قضى".(35/104)
ص -438-…وهذا كله ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك، فإنه إن دل دليل خاص على خلافه؛ صير إليه، ولا يكون نقضا على الأصل المذكور؛ لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله، أو إلى حق الآدميين، ويبقى بعد ما إذ1 اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد؛ فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
الشروط مع مشروطاتها2 على ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها3 بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال؛ كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه، واشتراط الكفء والإمساك بالمعروف والتسريح4 بإحسان في النكاح، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع، واشتراط العهدة في الرقيق، واشتراط مال العبد وثمرة الشجر وما أشبه ذلك، وكذا اشتراط الحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وعدم الطَّوْل في نكاح الإماء، والحرز في القطع؛ فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا؛ لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكما، فإن5 الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على وجه لائق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "إذا".
2 في المسألتين السادسة والسابعة قيد الشروط بقوله: "المعتبرة في المشروطات شرعا"، وهنا أطلقها حتى يتأتى التقسيم إلى الأقسام الثلاثة؛ فالكلام هنا عام فيما اشترطه الشارع وما اشترطه الشخص نفسه من شرط ملائم أو منافٍ أو لا ملائم ولا منافٍ. "د".
3 مقويا لها. "ماء".
4 في "ط": "أو التسريح".
5 في الأصل: "فإن كان الاعتكاف..." بزيادة "كان".(35/105)
ص -439-…بلزوم المسجد؛ كان للصيام فيه أثر ظاهر، ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجين والعصبة، وأولى بمحاسن العادات؛ كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح، وهكذا الإمساك بمعروف، وسائر تلك الشروط المذكورة تجري على هذا الوجه؛ فثبوتها شرعا واضح.
والثاني:
أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته، بل هو على الضد من الأول، كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب، أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأي مالك1، أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عِنِّين، أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع، أو إن انتفع؛ فعلى بعض الوجوه دون بعض، أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف، أو أن يصدقه في دعوى التلف، وما أشبه ذلك؛ فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله؛ لأنه منافٍ لحكمة السبب؛ فلا يصح أن يجتمع معه؛ فإن الكلام في الصلاة منافٍ لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له، وكذلك المشترط في الاعتكاف الخروج مشترط ما ينافي حقيقة الاعتكاف من لزوم المسجد، واشترط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه، وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل، وأضر بالزوجة؛ فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤالفة، وهكذا سائر الشروط المذكورة، إلا أنها إذا كانت باطلة؛ فهل تؤثر في المشروطات أم لا؟
هذا محل نظر يستمد2 من المسألة التي قبل هذه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لزوم المسجد. "د".
2 فهي شروط تقتضي رفع حكمة السبب، ويقصد بها رفع المسبب الواقع، وتقدم تفصيل ذلك "د".(35/106)
قلت: مما ينبغي أن يلاحظ أن عقد الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه ليس عقد معاوضة، بل يبطل الشرط وحده، ويبقى العقد صحيحا منتجا لآثاره.(35/107)
ص -440-…والثالث:
أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة1 وهو محل نظر؛ هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة؛ أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا؟ والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة؛ لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن؛ إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات؛ فكذلك ما يتعلق بها من الشروط، وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه2، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موافقة. "ماء".
2 تقسيم الشروط إلى ثلاثة أقسام يذكره المالكية في البيع، ويقولون: ما كان من مقتضيات العقد أو مصلحاته؛ صح فيه البيع والشرط، وما كان منافيا للعقد، أو مؤديا إلى غرر فسد فيه البيع والشرط، وما لا يفيد مصلحة في البيع ولا مفسدة، ولا يؤثر في زيادة الثمن أو نقصه؛ صح فيه البيع وبطل الشرط، ويضاف إلى هنا قسم رابع وهو ما إذا تمسك المشترط بالشرط بطل البيع، وإن أسقطه كان البيع ماضيا، وبهذا التفصيل أمكنهم الجمع بين ما روي في هذا الصدد من الأحاديث المتعارضة في بادئ النظر. "خ".(35/108)
ص -441-…النوع الثالث في الموانع:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الموانع1 ضربان:
أحدهما: ما لا يتأتى فيه2 اجتماعه مع الطلب.
والثاني: ما يمكن فيه ذلك، وهو نوعان:
أحدهما: يرفع أصل الطلب.
والثاني: لا يرفعه, ولكن يرفع انحتامه.
وهذا قسمان:
أحدهما: أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا3 فيه لمن قدر عليه.
والآخر: أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الموانع جمع مانع، وإلى تعريف المانع أشرت بقولي في "منور الأفهام".
ومانع وجوده منه العدم …كالحيض عكس ما إذا يرى انعدم
"ماء".
2 أي: عقلا، وقوله: "أحدهما يرفع أصل الطلب"؛ أي: وهو ما أمكن اجتماعه مع الطلب عقلا وامتنع الاجتماع شرعا، والقسمان الباقيان يصح فيهما الاجتماع عقلا وشرعا. "د".
قلت: انظر تفصيل ما عند المصنف مع تعليق عليه في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 431-436"، وقارن ما عنده بـ"بداية المجتهد" "2/ 159"، و"الفتاوى الكبرى" "3/ 239" لابن تيمية، و"إعلام الموقعين" "4/ 6 وما بعدها"، و"المدخل الفقهي" "1/ 522".
3 يعني: ليس واجبا وإن كان مطلوبا شرعا كما يوضحه فيما بعد. "د".(35/109)
ص -442-…فهذه أربعة أقسام1:
فأما الأول:
فنحو زوال العقل بنوم، أو جنون، أو غيرهما، وهو مانع من أصل الطلب جملة؛ لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه لأنه إلزام يقتضي التزاما، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه2 كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات، فإن تعلق طلب3 يقتضي استجلاب مصلحة أو درء مفسدة؛ فذلك راجع إلى الغير، كرياضة البهائم وتأديبها, والكلام في هذا مبين في الأصول4.
وأما الثاني:
فكالحيض والنفاس، وهو رافع لأصل الطلب وإن أمكن حصوله معه، لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به5 البتة؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ومس المصحف، وما أشبه ذلك، وأما ما يطلب به6 بعد رفع المانع؛ فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور، لا حاجة بنا7 إلى ذكره هنا، والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان8 كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بلا تخالف فيها بين العلماء. "ماء".
2 في الأصل: "التزامه".
3 أي: بسبب عمل صدر من غير العاقل؛ كإتلاف البهيمة مال الغير، وكالصبي يقتل غيره مثلا، فضمان المتلف وغيره من الأحكام لا يتعلق بالبهيمة والصبي، وإنما يتعلق بربها وبولي الصبي. "د".
4 وهي مسألة الفهم شرط التكليف، راجع ابن الحاجب. "د".
5 يعني: اتفاقا. "د". وفي "ط": "مثل هذا أصل الطلب...".
6 كقضاء الصوم على الحائض؛ فهل هو بأمر جديد ولم تكن مأمورة به وقت الحيض؟
وهو المعتمد، راجع مسألة الأداء والقضاء في ابن الحاجب. "د".
7 في النسخ المطبوعة: "لنا"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".
8 الدليلان الأولان عامان في رفع أصل الطلب لما لا يطلب بعد وما يطلب، بخلاف الثالث؛ فخاص بما لا يطلب. "د".(35/110)
ص -443-…لاجتمع الضدان؛ لأن الحائض ممنوعة من الصلاة، والنفساء كذلك، فلو كانت مأمورة بها أيضا1؛ لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شيء واحد2، وهو محال، وأيضا إذا كانت مأمورة أن تفعل, وقد نهيت أن تفعل؛ لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا، وهو محال، وأيضا؛ فلا فائدة في الأمر بشيء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ولا بعد ارتفاعه؛ لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق.
وأما الثالث:
فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد، فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع مع انحتام هذه العبادات، الجارية في الدين مجرى التحسين3 والتزيين؛ لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "أيضا بها".
2 وهو الصلاة, أي: ومن جهة واحدة؛ فليست كالصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلهذا صحت الاستحالة. "د".
3 جعل الجهاد من النوع الثالث التحسيني، ولم يجعله من المقاصد الضرورية ولا الحاجية، وقد عده هو في تحرير الأصول من الضروري وقال: "محل كونه كذلك إذا كانوا حربا علينا لا لكفرهم؛ ولذا لم تقتل المرأة والصبي والراهب وقبلت الجزية؛ فالدين لا يحفظ مع كونهم حربا علينا لأنه مفضٍ إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". ا. هـ. فيبقى الكلام فيما إذا لم يكونوا حربا بل كانوا لا يتعرضون لنا وهم في بلاد بعيدة عن بلاد المسلمين، وليس هناك عهد بيننا وبينهم؛ فهل يكون قتالهم في هذه الحالة من الضروري أم من التحسيني؟ الظاهر هذا، ويكون الجهاد منه ما لا يتم حفظ الدين إلا به، ومنه ما لا يكون كذلك؛ فيكون تحسينيا من باب الأخذ بالأحوط، ليحمل كلامه هنا وهناك على هذا التفصيل. "د".(35/111)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق المصنف الجهاد هنا مساق التحسينات، وسيصرح في كتاب المقاصد بأنه من قبيل الضروريات وهو الصواب؛ إذ لا يستقيم الدين ولا يحفظ العرض إلا بإقامته على وجه صحيح، بل دلت التجارب الطويلة على أن في إضاعته إتلافا للأموال، وسقوطا في هاوية الفقر، وإلقاء بالأنفس المسلمة في قبضة من لا يرى سفك دمها الطاهر جناية تستحق عقابا، بل يسوقها إلى حروب لا تنال منها إلا موتة خاسرة وخزيا لا ينمحي".(35/112)
ص -444-…بحكم التبع، فإن تمكنوا منها؛ جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها، وهم الأحرار الذكور، وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها، وأما مع عدم القدرة عليها؛ فالحكم مثل1 الذي قبل هذا.
وأما الرابع:
فكأسباب الرخص، هي موانع من الانحتام، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة؛ كقصر المسافر، وفطره، وتركه2 للجمعة، وما أشبه ذلك.
المسألة الثانية:3
الموانع ليست بمقصودة للشارع، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها، وذلك أنها على ضربين:
ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف -مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه- وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة؛ كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجود إخراج الزكاة، وإن وجد النصاب؛ فهو متوقف على فقد المانع، وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما4، ومن الاعتداد بما طلق في حال كفره، إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر، وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من رفع أصل الطلب، وهل يندرج فيه أيضا؟ بحيث يقال: إنه وجد مانع شرعي من توجه الطلب؛ لأن امتثال أمر السيد بأعمال أخرى في وقت هذه العبادات يعد مانعا شرعا، وحينئذ؛ فينتقل هذا النوع الثالث إلى النوع الثاني. "د".
2 في "د": "تركه" بدون الواو.
3 يحاذى بها وبما بعدها المباحث المتقدمة في المسألتين السادسة والسابعة في الشروط. "د".
4 أي: على الخلاف بين الجمهور والحنفية في تكليف الكفار بالفروع. "د".(35/113)
ص -445-…بحقها؛ فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة.
والضرب الثاني هو المقصود، وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك؛ فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع، ولا في عدم تحصيله؛ فإن المِدْيَان ليس بمخاطب برفع الدَّيْن إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه؛ لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب.
والدليل على ذلك أن وضع السبب مكمل الشروط، يقتضي قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه، وإلا، فلو لم يكن كذلك؛ لم يكن موضوعا على أنه سبب، وقد فرض كذلك، هذا خلف، وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب؛ ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب، وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب، هذا خلف، فإن القصدين متضادان، ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه؛ لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك؛ لم يثبت في الشرع مانعا.
وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع؛ لم يثبت حصوله معتبرا شرعا، وإذا لم يعتبر؛ لم يكن مانعا من جريان حكم السبب، وقد فرض كذلك، وهو عين التناقض.
فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه؛ ففي ذلك تفصيل، وهي:(35/114)
ص -446-…المسألة الثالثة:
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف؛ مأمورا به، أو منهيا عنه، أو مخيرا فيه، أو لا.
فإن كان الأول؛ فظاهر؛ كالرجل يكون بيده1 له نصاب، لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك، وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع.
وإن كان الثاني، وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا، قصدا لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه؛ فهو عمل غير صحيح.
والدليل على ذلك من النقل أمور، من ذلك قوله, جل وعلا: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} الآية [القلم: 17]؛ فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين، بتحريهم المانع من إتيانهم وهو وقت الصبح الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة2، والعقاب إنما يكون لفعل محرم.
وقوله [تعالى]3: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، نزلت بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة "بيده" ليست في "م" و"خ".
2 يعني: فالمانع عادي، وليس بشرعي حتى ينطبق عليه تعريف المانع الذي هو موضوع هذه المباحث، وهو ما اقتضى حكمة تنافي حكمة السبب، وعليه فما وجه ذكره هنا؟ إلا أن يقال: إن العقاب على تحصيل المانع العادي يفيد أن تحصيل المانع الشرعي قصدا مثله؛ فإن القصد في كل الوصول إلى موجب الحرمان. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 هذا إنما يظهر حسبما كان عليه الأمر قبل نزول آية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}؛ فقد كانوا يطلقون ويرتجعون لا إلى حد، يضارون الزوجات بذلك، فلا يضمنها الرجل إليه ولا يدعها تتزوج طول حياتها. "د".(35/115)
ص -447-…وأن1 لا تنقضي عدتها إلا بعد طول؛ فكان الارتجاع بذلك القصد إذ هو مانع من حلها للأزواج.
وفي الحديث: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها2 فباعوها"، وفي بعض الروايات: "وأكلوا أثمانها"3.
وقال عليه الصلاة والسلام4: "ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "أو".
2 قال "ماء": "فجملوها؛ بالجيم، والميم المشددة؛ أي: أذابوها".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 20/ رقم 4296" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور، "وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581"، وأحمد في "المسند" "3/ 324، 326"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 279/ رقم 3486"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخنزير، 7/ 309"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في بيوع جلود الميتة والأصنام، 3/ 591/ رقم 1297"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه، 2/ 732/ رقم 2167" مطولا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه اللفظ المذكور.
4 في "م": "عليه السلام".
5 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب الخمر يسمونها بغير اسمها، 2/ 1123/ رقم 3385"، وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" "رقم 8" عن بلال بن يحيى العبسي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة مرفوعا بلفظ: "... باسم يسمونها إياه".
وإسناده جيد، رجاله رجال الشيخين؛ غير بلال بن يحيى، قال ابن معين: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان.(35/116)
وتابعه شعبة، ولكنه أبهم الصحابي، وذلك لا يضر، وأسقط "ثابت بن السمط"، ولفظه لفظ المصنف.
أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 237" بإسناد صحيح.
وللحديث شواهد من حديث أبي مالك الأشعري وسيأتي تخريجه "3/ 113"، وعائشة، وأبي أمامة الباهلي، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم, رضي الله عنهم.(35/117)
ص -448-…وفي رواية: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف"1 الحديث.
وفي بعض الحديث: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالبيع"2. فكأن المستحل هنا رأى أن المانع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، 10/ 51/ رقم 5590"؛ فقال: وقال هشام بن عمار عن صدقة بن خالد عن ابن جابر عن عطية بن قيس عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري به.
وقد وصله جماعة؛ منهم: ابن حبان في "الصحيح" "15/ 154/ رقم 6754- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3417"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 272 و10/ 221"، وابن حجر في "تغليق التعليق" "5/ 17-19"، وهو حديث صحيح. وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 91".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الحر: هذا اللفظ مضبوط في معظم الروايات من "صحيح البخاري" بالحاء المهملة والراء الخفيفة، قال ابن العربي: روايته بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين، وهو الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى".
قلت: وهو في الأصل المخطوط و"ماء" بالمعجمتين؛ فاقتضى التنويه.
2 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" ثنا عبد العزيز بن محمد المسكي نا ابن الجنيد نا سويد عن ابن المبارك عن الأوزاعي رفعه.
وإسناده ضعيف؛ لأنه معضل، الأوزاعي ثقة من أتباع التابعين, رحمه الله تعالى.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "استحلال القتل باسم الإرهاب هو ما يرتكبه السلطان الجائر في طمس أعلام العدالة، وإطفاء نور الحرية, من اضطهاد بغاة الإصلاح والدعاة إلى الحق ورفعهم على أعواد المشانق، أو ضرب السيوف على أعناقهم بدعوى حماية الملك والذود عن "حرم" السياسة"!!(35/118)
ص -449-…ثهو الاسم؛ فنقل المحرم إلى اسم آخر، حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له.
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]؛ فاستثنى الإضرار، فإذا أقر في مرضه بدين لوارث، أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه؛ كان مضارا، والإضرار ممنوع باتفاق.
وقال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية [النحل: 91].
قال أحمد بن حنبل: عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان، يبطلون الأيمان بالحيل، [وقال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]]1.
وفي الحديث: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ2"3.
وفيه: "إذا سمعتم به -يعني: الوباء- بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فرارا منه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 في الأرض المباحة بئر للشخص، وفي الأرض كلأ مباح يريد أن يمنع الناس منه بإيجاده مانعا لهم من رعيه، وهو بخله بسقيهم من فضل ماء بئره، فنهي عن ذلك. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، 5/ 31/ رقم 2253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء، 3/ 1198/ رقم 1566" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 178 =(35/119)
ص -450-…والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح, رضي الله تعالى عنهم.
وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جارٍ معناه في الموانع، ومن هنالك يفهم حكمها، وهل يكون العمل باطلا أم لا؛ فينقسم إلى الضربين؛ فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع، أو لا؛ فإن كان كذلك؛ فالحكم متوجه، كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به، وإن لم يكن كذلك، بل كان المانع واقعا شرعا؛ كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه؛ فهو محل نظر -على وزان ما تقدم في الشروط- ولا فائدة في التكرار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -179/ رقم 5728"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 3/ 1737/ رقم 2218" من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو أشهر ما ورد في الباب، وفيه عن سعد بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة وجد عكرمة بن خالد وأم أيمن -رضي الله عنهم- وأخرج ذلك بتفصيل حسن شيخ المحدثين ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" "ص250 وما بعدها".
قال: "د": "وهذا الحجر الصحي الذي يتبجح باختراعه خدمة للإنسانية أهل هذا العصر فيه في كلتا جهتيه قصد إلى المانع لكونه مانعا؛ فقدومهم على أرضه رفع للمانع من إصابتهم عادة؛ فنهوا عنه، وخروجهم من أرضه تحصيل للمانع من إصابتهم وهو بعدهم عنه، وحكمة الأول ظاهرة، وحكمة الثاني من الوجهة الدينية الصرفة الفرار من قدر الله والركون إلى محض الأسباب، وإن كان عمر قال في مثله: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"، ومن الوجهة الشرعية الصحية: خشية تلويث الجهات الأخرى بالجراثيم التي ربما تكون علقت بهم أو بأمتعتهم".(35/120)
ص -451-…النوع الرابع: في الصحة والبطلان1
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في معنى الصحة، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين:
أحدهما:
أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة، ومبرئة للذمة، ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء، وما أشبه ذلك2 من العبارات المنبئة عن هذه المعاني، وكما نقول في العادات3: إنها صحيحة، بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك, واستباحة4 الأبضاع، وجواز الانتفاع، وما يرجع5 إلى ذلك.
والثاني:
أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة، كترتب الثواب؛ فيقال: هذا عمل صحيح، بمعنى أنه يرجى6 به الثواب في الآخرة؛ ففي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الصحة والبطلان ليسا على التحقيق من الأحكام الوضعية في شيء، بل من الأمور العقلية؛ لأنه بعد ورود أمر الشارع بالفعل ومعرفة شرائطه وموانعه لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف بمجرد العقل صحته أو بطلانه، ولذا أسقطهما كثير من الأصوليين؛ فلم يعدوهما في الأحكام. "د".
2 كموافقة أمر الشرع كما قالوه. "د".
3 المعاملات. "ماء".
4 ولا يقال: حصول الانتفاع وحصول التوالد والتناسل؛ لأنها قد تترتب على الباطل، وقد تتخلف عن الصحيح. "د".
5 كصحة تصرفاته الشرعية فيما ابتاعه بيعا صحيحا مثلا. "د".
6 لم يقل: يحصل الثواب في الآخرة تفاديا مما اعترض به عليه من أن الثواب قد لا يترتب على الصحة الصحيحة كما سيأتي. "د".(35/121)
ص -452-…العبادات ظاهر، وفي العادات1 يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع، وقصد به مقتضى الأمر والنهي، وكذلك في المخير إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره، لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع، غافلا عن أصل التشريع؛ فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه؛ فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك2.
المسألة الثانية:
في معنى البطلان، وهو ما يقابل معنى الصحة؛ فله معنيان:
أحدهما:
أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها غير مجزئة، ولا مبرئة للذمة، ولا مسقطة للقضاء؛ فكذلك نقول: إنها باطلة بذلك المعنى، غير أن هنا نظرا؛ فإن كون العبادة باطلة إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها، حسبما هو مبين في موضعه، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة3؛ فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا؛ كالصلاة من غير نية، أو ناقصة ركعة أو سجدة، أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم له في النكاح أنه مندوب بالجزء وهو عادي؛ فلا ثواب إلا بهذه النية، وكما سيأتي في الواجب العادي كأداء الديون والنفقة على الأولاد ورد الودائع. "د".
2 "إحياء علوم الدين" "4/ 370 وما بعد"، أثناء "بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية"، ثم انظر في "الإخلاص" "حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب عليه, 4/ 384".
3 كخلل في بعض شروطها أو أركانها. "د".(35/122)
ص -453-…متصفة به؛ كالصلاة1 في الدار المغصوبة مثلا؛ فيقع الاجتهاد:
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف.
أو في اعتبار الاتصاف؛ فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة2 من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك، وهكذا سائر ما كان في معناها.
ونقول أيضا في العادات: إنها باطلة، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا؛ من حصول أملاك، واستباحة فروج، وانتفاع بالمطلوب، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا؛ كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين:
أحدهما: من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا.
والثاني: من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد.
فأما الأول؛ فاعتبره قوم بإطلاق، وأهملوا النظر في جهة المصالح، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق؛ كالعبادات المحضة سواء، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد -وسيأتي في كتاب "المقاصد" بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا- وإذا كان كذلك؛ فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة، وغير المشروع باطل؛ فهذا كذلك، كما لم تصح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكصوم الأيام المنهية. "د".
2 والبطلان والفساد مترادفان عند غير الحنفية، أما عندهم؛ فيقولون في مثله فاسد لا باطل، وبنوا على الفرق إمكان تصحيح الفاسد لا الباطل كما يأتي "ص455" من هذا الجزء.(35/123)
ص -454-…العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع.
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا على اعتبار المصلحة، بمعنى أن المعنى أن الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه: فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل، بحيث1 لا يمكن التلافي فيه؛ بطل العمل من أصله، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه؛ لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي؛ فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام وإن ظنها العامل، وإن لم يحصل ولا2 كان في حكم الحاصل لكن أمكن تلافيه، لم يحكم بإبطال ذلك العمل؛ كما يقول مالك3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كبيع الملاقيح، فإن المعنى الذي بطل البيع من أجله حاصل مستديم؛ لأن بيع ما في بطون الأمهات منعدم فيه ركن البيع، ولا يتأتى تلافي تصحيحه. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "يحصل مدة كان"، وكتب "د": "لعل الأصل: "وإن كان حاصلا مدة أو في حكم الحاصل" يعني: مدة أيضا؛ فيكون مقابلا للقسم قبله، وتنطبق عليه التفاريع الآتية، فإن المفوت غالبا للعتق وهو البيع في حكم الحاصل، ولكن أثره لم يدم، بل ارتفع بالعتق، وأمكن تلافي مفوت العتق بسبب عتق المشتري، وإنما قلنا: "في حكم الحاصل"؛ لأن التفويت إنما يظهر أثره بعد موت السيد، فهناك كان يغلب عتقه، أعني إذا لم يوجد مانع، كبعض الصور التي يسترق فيها المدبر ولا ينفذ عتقه، أما الكتابة الفاسدة لفقد شرط مثلا؛ فالمعنى الذي لأجله بطلت حاصل بالفعل، لكن لمدة، وهي ما قبل خروجه حرا بسببها, وأمكن التلافي بسبب الحرية؛ فجعل الأمر في المثال وما قبله منزلا على المصلحة، وهي تشوف الشارع للحرية مع إمكان التلافي بإهدار بقاء الموجب للبطلان، ومثالا الغصب والبيع والسلف مما فيه حصول المعنى الموجب للبطلان فعلا، ولكنه لمدة وهي ما قبل الإجازة، وإسقاط الشرطين اللذين أمكن بهما إهدار الموجب للبطلان".(35/124)
قلت: وانظر نحو ما ذكره المصنف في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 283 و29/ 281-292 و32/ 87-88".
قلت: وفي حاشية الأصل: "هنا تحريف في لفظ مرة".
3 انظر: "الموطأ" "2/ 423- رواية أبي مصعب".(35/125)
ص -455-…في بيع المدبر: إنه يرد إلا أن يعتقه المشتري فلا يرد؛ فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق، أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير؛ فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق؛ فلم يرد لذلك، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب, وكذلك بيع الغاصب للمغصوب، موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده؛ لأن المنع إنما كان لحقه، فإذا أجازه جاز، ومثله البيع والسلف منهي عنه، فإذا1 أسقط مشترط السلف شرطه؛ جاز ما عقداه، ومضى على بعض الأقوال، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا2، كما في حديث بريرة3، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة4؛ كنكاح الشغار، والدرهم بالدرهمين، ونحوهما، إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه؛ فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي؛ فصار العقد موافقا لقصد الشارع؛ إما على حكم الانعطاف5 إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول، أو غير حكم الانعطاف إن قلنا: إن تصحيحه وقع الآن لا قبل, وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد.
والثاني من الإطلاقين: أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذا".
2 ما قبله كان بإسقاط مشترط السلف، أما هذا؛ فإن أهل بريرة لم يسقطوه، بل بقوا متمسكين به، ولكن أسقطه الشارع كما في الحديث. "د".
3 مضى تخريجه "ص340".
4 الباطل عندهم هو ما يكون غير مشروع ألبتة؛ كبيع الملاقيح، لا ما كان النهي باعتبار وصف عارض؛ فإنه يسمى فاسدا، والثاني يمكن تصحيحه بإهدار الوصف الموجب للفساد، كإسقاط الزيادة في الربا، ولا يحتاج لعقد جديد؛ كالأمثلة التي ذكرها. "د".
5 وانسحاب آثار العقد الأول على ما تم بعد زوال الوصف. "د".(35/126)
ص -456-…الآخرة، وهو الثواب، ويتصور ذلك في العبادات والعادات.
فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول؛ فلا يترتب عليها جزاء؛ لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا.
فالأول: كالمتعبد رئاء الناس؛ فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب.
والثاني: كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}1 الآية [البقرة: 264].
وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}2 [الزمر: 65].
وفي الحديث: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قضت الآية بأنها كالعدم في الآخرة؛ لأنها كتراب على حجر صلد نزل عليه وابل فلم يترك له أثرا، وظاهر أن هذا باعتبار الآخرة. "د".
2 فالعبادة التي حصل فيها الإشراك مع الله باطلة بالمعنيين؛ أي: في الدنيا والآخرة. "د".
3 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" "4/ 16"- والدارقطني في "السنن" "3/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 320-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته "أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها؛ فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية؛ فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منها بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؛ فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب".(35/127)
ص -457-…على تأويل من جعل الإبطال حقيقة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي رواية البيهقي: إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أيفع؛ كما عند الدارقطني.
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما".
وأعله الشافعي في "الأم" "3/ 33-ط الشعب"، وابن حزم في "المحلى" "9/ 60" بجهالة العالية.
وأم محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية؛ فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق" كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 216"، وقال: "وهذا حديث فيه شعبة، وإذا وجد شعبة في حديث؛ فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله؛ فقد استوثق لدينه"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260".
قال "د": "ولا يتجه جواب بعضهم هنا عن الشافعية بأن إنكار عائشة راجع إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين".
1 يعني: ويكون من الإطلاق الثاني. "د".(35/128)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل هذا الحديث أن امرأة ذكرت لعائشة -رضي الله عنها- شيئا باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ذلك؛ فقالت عائشة: بئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم... إلخ" الحديث.
وحيث كانت صورة العقد المشتمل عليها الحديث جائزة عند الشافعية؛ أجابوا عنه بوجوه، أحدها: القدح في سنده بجهالة الراوي، ثانيها: القدح في متنه بأن الأعمال الصالحة لا يحبطها إلا الردة، ومحال أن تلزم عائشة زيدا برأيها وتكفره باجتهاده، ثالثها: أن إنكار عائشة على فرض صحة الحديث عائد إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين، رابعها: أن الحديث يتضمن اختلاف صحابيين في حكم، وإذا اختلف الصحابة في شيء؛ أخذنا بقول الذي يعضده القياس، وهو قول زيد".(35/129)
ص -458-…وتكون أعمال العادات باطلة أيضا بمعنى عدم ترتب الثواب عليها، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا؛ فالأول كالعقود المفسوخة شرعا، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة، من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها؛ كالأكل والشرب والنوم وأشباهها، والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق، لا بالقصد إلى ذلك؛ فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن، لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا؛ فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه, وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة؛ فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا؛ لأن الأعمال بالنيات.
والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل، فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20].
وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر، أو فيه إشارة إلى هذا المعنى؛ فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة. وانظر في "الإحياء"1 وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظره "4/ 374" أثناء "بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار".(35/130)
ص -459-…المسألة الثالثة:
ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي؛ إذ لا يخلو الفعل العادي -إذا خلا عن قصد التعبد- أن يفعل بقصد أو بغير قصد، والمفعول بقصد إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل، أو في المخالفة فيترك؛ إما اختيارا، وإما اضطرار؛ فهذه أربعة أقسام:
أحدها:
أن يفعل من غير قصد؛ كالغافل والنائم؛ فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير، فليس فيه ثواب ولا عقاب؛ لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف، فما لا يتعلق به خطاب تكليف؛ لا يترتب عليه ثمرته.
والثاني:
أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا؛ فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك, كالأول، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا؛ كأداء الديون، ورد الودائع والأمانات، والإنفاق على الأولاد، وأشباه ذلك، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع؛ لأن الأعمال بالنيات، وقد قال في الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"1، ومعنى الحديث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(35/131)
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها: "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 9/ رقم 1", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله, صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، 4/ 179/ رقم 1647"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات، 2/ 651/ رقم 2201"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، 1/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية، 2/ 1413/ رقم 4227"، وأحمد في "المسند" "1/ 25، 43" من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يصح إلا من حديثه.(35/132)
ص -460-…متفق عليه ومقطوع به في الشريعة.
فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني.
والثالث:
أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا؛ كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها؛ عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد؛ فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني؛ لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول، ومثل ذلك الزكاة1 المأخوذة كرها؛ فإنها صحيحة على الإطلاق الأول, إذ كانت مسقطة للقضاء [أ]2 ومبرئة للذمة، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا، أو استحياء من الناس، أو ما أشبه هذا، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط3؛ فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: "ومثل ذلك" لأنه أتى به لمجرد الفائدة المناسبة، وإلا؛ فهذا ليس من موضوع المسألة؛ لأن الزكاة من العبادات. "د".
2 زيادة من الأصل.
3 إقامة الحدود من خطاب التكليف المسبب عن خطاب الوضع بفعل المحدود عليه، وهذا بالنسبة للإمام، أما بالنسبة لمن أقيمت عليه؛ فلا خطاب يتوجه عليه فيها، فلا ينتظر أن تكون له نية؛ لأن إقامة الحد ليس من فعله؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما إذا طلبها كماعز -رضي الله عنه- والغامدية والجهنية, طلبوا إقامة الحد للطهر من الزنى؛ فتم الرجم، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد حين سب الماعزية*: "مهلا يا خالد؛ فقد تابت توبة لو قالها صاحب مَكْس لغفر له"، ولما صلى =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخالدية".(35/133)
ص -461-…حال، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات.
والرابع:
أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا؛ كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله؛ فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال، أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا؛ فهو من الصحيح بالاعتبارين, كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة؛ فهو من الباطل بالاعتبارين، فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير، فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه؛ فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه:
أحدها:
أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول، باطلا بالاعتبار الثاني، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
والثاني:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا، بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه، دون ما لم يؤذن له فيه، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة، وقولهم: أيقضي شهوته ثم يؤجر؟ فقال: "أرأيتم لو وضعها في حرام!"1، وهذا مبسوط في كتاب "المقاصد" من هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على الجهنية؛ قال له عمر, رضي الله عنه: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال له عليه الصلاة والسلام: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله, عز وجل"، والظاهر أنه يترتب عليه المغفرة لا غير؛ لأنه الذي ورد في الحديث في هؤلاء الذين جادوا بأنفسهم لله، وقد يقال: إن الطلب غير إقامة الحد الذي هو من فعل الغير؛ فليس فيه إلا التكفير، أما الطلب من المحدود كما حصل من هؤلاء؛ فعمل آخر مستقل له فضله ونيته، كما يدل على قوله: "أن جادت بنفسها لله"، وهذا عمل ديني خطير؛ فلا يحرم ثوابه. "د".(35/134)
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697/ رقم 1006". =(35/135)
ص -462-…والثالث:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا, في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني, في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح، والأول بالنظر إليه في نفسه.
فصل:
وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني؛ فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة، فإن كان عبادة؛ فلا تقسيم فيه على الجملة، وإن كان عادة؛ فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ، أو لا، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما لا يصحبه حظ؛ فلا إشكال في صحته.
والثاني:1
كذلك لأن الغالب هو الذي له الحكم، وما سواه في حكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل الحديث في "صحيح مسلم": "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام: أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"".
ثبت عليه الصلاة والسلام الأجر لوضع الشهوة في حلال مقارنا له على وجه التمثيل بثبوت الوزر بوضعها في حرام، وهذا ما يسميه الأصوليون قياس العكس، وهو الاستدلال بنقيض العلة على الحكم، والتحقيق أنه بطريق أضعف من قياس الشبه؛ فلا يستقل بتفصيل الحكم، والحديث خبر آحاد، وهو لا يكفي في تقرير الأصول الواجب إقامتها على أدلة تفيد القطع، ومن الجائز أن يكون ثبوت الأجر لوضع الشهوة في الحلال متلقى من طريق الوحي، وتكون مقارنته بوضعها في حرام واردة لغرض آخر كتقريب المعنى إلى فهم المخاطب، لا للتنبيه على دخول هذا النوع في المقاييس المعتد بها في أصول الأحكام".
1 وهو ما يكون قصد الحظ فيه مغلوبا؛ فالنشر على عكس اللف. "د".(35/136)
ص -463-…المطرح.
والثالث:
محتمل لأمرين: أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا؛ إعمالا للجانب المغلوب، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني؛ إعمالا لحكم الغلبة، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب، والحمد لله.(35/137)
ص -464-…النوع الخامس في العزائم والرخص:1
والنظر فيه في مسائل:
المسألة الأولى:
العزيمة2 ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.
ومعنى كونها "كلية" أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض؛ كالصلاة مثلا؛ فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، وكذلك الصوم، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر شعائر الإسلام الكلية، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل؛ كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين, من البيع، والإجارة، وسائر عقود المعاوضات، وكذلك أحكام الجنايات، والقصاص، والضمان، وبالجملة جميع كليات الشريعة.
ومعنى "شرعيتها ابتداء" أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جرى المصنف في جعل الرخصة من خطاب الوضع على طريقة بعض الأصوليين كالآمدي, وعدها آخرون من قبيل الحكم الشرعي وهو الذي يقتضيه صنيع من قسمها إلى واجب ومندوب ومباح، وخلاف الأولى كما فعل تاج الدين ابن السبكي في "جمع الجوامع" [1/ 162- مع "حاشية العطار"]. "خ".
2 المحققون على أنه لا تطلق العزيمة إلا فيما كانت فيه الرخصة مقابلة لها, أما ما لا رخصة فيه بحال؛ فلا يطلق عليه عزيمة, وإن كان حكما ابتدائيا كليا؛ فالتعريف للعزيمة شامل لها، وذلك خلاف رأي المحققين. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم على الرخصة والعزيمة في "المدارج" "2/ 57-59، 282"، و"الزاد" "3/ 88"، و"روضة المحبين" "ص163-165"، و"الوابل الصيب" "ص9، 17".(35/138)
ص -465-…التكليفية1 على العباد من أول الأمر؛ فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير؛ كان2 هذا الأخير كالحكم الابتدائي، تمهيدا للمصالح الكلية العامة.
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب؛ فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك, فإذا وجد اقتضت أحكاما؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108].
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 187].
وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
وما كان مثل ذلك؛ فإنه تمهيد لأحكام وردت [شيئا]3 بعد شيء بحسب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا ينافي هذا وما يأتي له في المسألة الثانية من أن حكم الرخصة الإباحة جعله العزيمة والرخصة أحكاما وضعية؛ فإن الصوم والصلاة مثلا يتعلق بهما حكم تكليفي هو الوجوب مثلا، وحكم وضعي هو كونهما عزيمة أو رخصة، قال في "التحرير": "للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبا أو ندبا أو أباحة، وهي من أحكام التكليف، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسبه تخفيف الحكم مع قيام الدليل على الأصل، وهو من أحكام الوضع؛ فإيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من وجه، ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنى"، وعليه مشى الأبهري. "د".
2 في "ط": "كان منسوخا... وكان هذا...".
3 سقط من الأصل.(35/139)
ص -466-…الحاجة إلى ذلك؛ فكل هذا يشمله اسم العزيمة، فإنه شرع ابتدائي حكما1، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا؛ كقوله [تعالى]2: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
وقوله تعالى3: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان4، هذا وما أشبهه من العزائم؛ لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية.
وأما الرخصة؛ فما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع5، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فكونه "مشروعا لعذر" هو الخاصة التي6 ذكرها علماء الأصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل أصل العبارة: "فإنه حكم كلي شرع ابتداء"، ولا داعي للفظ "حكما"؛ لأن الابتداء حقيقي في جميع هذه الأمثلة، إلا في آية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ}؛ فإنها من قبيل الناسخ، وهو ابتدائي حكما كما تقدم له. "د".
2 سقط من الأصل.
3 كلمة "تعالى" ليست في "م" و"خ" و"ط" و"ج".
4 أخرجه البخار في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان والنساء في الحرب، 6/ 148/ رقم 3014، 3015"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، 3/ 1364/ رقم 1744" من حديث عبد الله بن عمرو.
وورد عن جماعة من الصحابة حتى عده بعضه متواترا، وتفصيل ذلك يطول, ولا يتسع المقام له، والله الموفق.
5 في قول كل العلماء. "ماء".(35/140)
6 ظاهر صنيعه أنه يريد الاستدراك على الأصوليين بأن تعريفهم غير مانع، وأنه لولا زيادته كلمة "شاقة"؛ لاختل التعريف، ودخل في الرخصة القراض وما معه، ولكن الواقع أنهم لم يقتصروا على هذه الخاصة، بل قالوا: "ما شرع لعذر مع قيام الدليل المحرم لولا العذر"، ولا يخفى أن هذه الخاصة التي ذكروها لا تبقي شيئا من القراض وما معه داخلا في الرخصة؛ لأن معنى قيام الدليل المحرم بقاؤه معمول به لولا العذر، ولا شيء من ذلك في القراض وما معه. "د".(35/141)
ص -467-…وكونه "شاقا"؛ فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة، من غير مشقة موجودة؛ فلا يسمى ذلك رخصة؛ كشرعية القراض مثلا، فإنه لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة، والقرض، والسلَم؛ فلا يسمى هذا كله رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة، وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي، فلا يسمى رخصة أيضا، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما، أو يقدر بمشقة؛ فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة، لكن بسبب المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام؛ فهذا رخصة محققة، فإن كان هذا المترخص إماما؛ فقد جاء في الحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به -ثم قال:- وإن صلى جالسا؛ فصلوا جلوسا أجمعون"1؛ فصلاتهم جلوسا وقع لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، بل لطلب الموافقة2 للإمام وعدم المخالفة عليه؛ فلا يسمى مثل هذا رخصة، وإن كان مستثنى لعذر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 688، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 2/ 584/ رقم 1113، وكتاب السهو، باب الإشارة في الصلاة، 3/ 108/ رقم 1236"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 309/ رقم 412" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
2 هذا هو الأصل التكميلي؛ فصلاة الإمام جالسا رخصة، وموافقتهم له ليس برخصة. "د".(35/142)
ص -468-…وكون هذا المشروع لعذر "مستثنى من أصل كلي" يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء؛ فلذلك لم تكن كليات في الحكم، وإن عرض لها ذلك؛ فبالعرض، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر والفطر؛ فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم، هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة؛ فإن الاستثناء ثانٍ عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة، وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الآية [البقرة: 173].
وكونه "مقتصرا به على موضع الحاجة" خاصة من خواص الرخص أيضا لا بد منه1، وهو الفاصل بين ما شُرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص؛ فإن شرعية الرخص جزئية يُقتصر فيها على موضع الحاجة، فإن المصلي إذا انقطع سفره؛ وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصلِّ قاعدا، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم، وكذلك سائر الرخص، بخلاف القرض، والقراض، والمساقاة، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة؛ فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح؛ لأنه مشروع أيضا وإن زال العذر، فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار، وكذلك ما أشبهه.
فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي، والرخصة راجعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(35/143)
1 يلوح أنه حكم مفرع على الرخصة لازم لها، ولا يتوقف تعريفها عليه؛ لأنه تم بالقيود قبله، بدليل أنه أخرج به القرض وما معه وهو نفس ما أخرجه بقيد المشقة؛ فإن كان مراده أنه لا بد منه في التعريف؛ فغير ظاهر، وإن كان مراده أنه وصف ملازم وحكم ثابت للرخصة؛ فظاهر، وهو مفهوم من تعريفها بما شرع لعذر شاق؛ لأن موضع الحاجة هو العذر الشاق؛ فعند زوال هذا العذر لا يوجد محل الرخصة؛ فلا يتأتى الترخص حينئذ. "د".(35/144)
ص -469-…إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي.
فصل:
وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيه القرض، والقراض، والمساقاة، ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العريَّة بخرصها تمرا، وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك، وعليه يدل قوله: "نهى عن بيع ما ليس عندك"1،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أحمد في "المسند" "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/ رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/ رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/ رقم 2188"، والدارمي في "السنن" "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع".(35/145)
وكتب "خ" ما نصه: "أبقى أكثر أهل العلم هذا الحديث وهو قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" على ما يقتضيه لفظه من العموم، وجعلوا السلم مستثنى منه بالأدلة الدالة على جوازه، وذهب ابن القيم في "إعلام الموقعين" إلى أن المراد من الحديث النهي عن بيع العين المعينة وهي لم تزل في ملك الغير، أو بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وصرح بأن جعل السلم داخلا في الحديث من قبيل التوهم، والفرق بين طريقة الجمهور وهذه الطريقة أن ابن القيم يجعل الحديث من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، والجمهور يجعلونه من العام المخصوص، ويقولون مع هذا: إن بين السلم وبين بقية الصور الممنوعة وجها من الفرق يستدعي الاختلاف في الحكم؛ فكلام ابن القيم إنما يطعن في قول من صرح بأن السلم مخالف للقياس، ونفي أن يكون هناك فارق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين المضمون في الذمة المقدور على تسليمه".(35/146)
ص -470-…"وأرخَصَ في السلم"1، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات؛ فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل، فيجري عليها حكمها في التسمية، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات2 لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، 4/ 429/ رقم 2240، 2241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب السلم، 3/ 1226-1227/ رقم 1604"، وأحمد في "المسند" "1/ 282"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في السلف في الطعام والتمر، 3/ 602-603/ رقم 1311"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب السلف في الثمار، 7/ 290"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والتجارات، باب في السلف, 3/ 741-742/ رقم 3463", وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات, باب السلف في كيل معلوم، 2/ 765/ رقم 2280"، والدارمي في "السنن" "2/ 260"، وابن الجارود في "المنتقى" "614، 615"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 18" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وعند الدارقطني في "السنن" "3/ 3": "وهم يسلمون" بدل "يسلفون".
2 أي: التكميلات للتحسينيات؛ فإن الجماعة على العموم من أصل التحسينيات، وموافقة الإمام في الجلوس مكمل لها، كما أن قسمة الجيش إلى فرقتين تؤديان الصلاة مع الإمام تكميل لها أيضا، وليس في المسألتين خاصة المشقة حتى يندرجا في سلك الرخصة بالمعنى الأول. "د". وفي "ط": "التكميليات".(35/147)
ص -471-…من أصل الحاجيات؛ فيطلق عليها لفظ1 الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات، كالمصلي لا يقدر على القيام؛ فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه، لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه، وهذا كله ظاهر.
فصل:
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
وقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث: "أنه -عليه الصلاة والسلام- صنع شيئا ترخص فيه"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بغير الإطلاق الأول؛ لأن مثل هذا لا يتعلق به حكم آخر يسمى عزيمة، بل إن صلاته جالسا هي العزيمة؛ فالرخصة بالإطلاق الأول إنما تكون في أصل الحاجيات لا غير، فما كان من التحسينيات أو الضروريات لا تطلق عليه الرخصة بالمعنى الأول، وإن أطلقت عليه بالمعنى الذي في هذا الفصل. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، 10/ 513/ رقم 6101، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 276/ رقم 7301" من حديث عائشة قالت: صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا ترخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؛ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية".(35/148)
ص -472-…ويمكن أن يرجع إليه معنى1 الحديث الآخر: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"2، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله3؛ فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة، بالنسبة إلى ما حملته4 الأمم السالفة من العزائم الشاقة.
فصل:
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا5، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم؛ فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ} [الذاريات: 56].
وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الآية [طه: 132].
وما كان نحو ذلك مما دل على أن العباد ملك الله6 على الجملة والتفصيل؛ فحق عليهم التوجه إليه، وبذل المجهود في عبادته؛ لأنهم عباده وليس لهم حق لديه، ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه؛ فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية.
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا، والنواهي كراهة أو تحريا، وترك7 كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمعنى".
2 سيأتي تخريجه في "ص480".
3 انظر: "ص506-507".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "حمله".
5 عن القيود والاعتبارات التي لوحظت في الإطلاقات الثلاثة السابقة؛ فهو أوسع الإطلاقات الأربعة، ولكنه على ما ترى منظور فيه إلى الخاصة من أرباب الأحوال. "د".
6 في "ط": "ملك لله".
7 هو محل الفرق بين هذا الإطلاق وغيره. "د".(35/149)
ص -473-…ما يشغل عن ذلك من المباحات، فضلا عن غيرها؛ لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة؛ فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله؛ فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا معا توسعة1 على العبد، ورفع حرج عنه، وإثباتا لحظه، وتصير المباحات -عند هذا النظر- تتعارض مع المندوبات على الأوقات؛ فيؤثر حظه2 في الأخرى على حظه في الدنيا، أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه؛ فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا، أو آخذا له حقا لربه؛ فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله، وحق الله هو المقدم المقصود؛ فإن [على]3 العبد بذل المجهود، والرب يحكم ما يريد.
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقي عن الأحوال، وعليه يربون التلاميذ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة، حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شامل للرخصة بالمعنى المعروف، وبالمعنى الذي أريد هنا، وقوله: "ورفع حرج عنه" خاص بمحل الرخص المعروف، وقوله: "وإثباتا لحظه" هذا ما زاده هنا على ما سبق، وهو تلك المباحات التي تشغل عن مقام العبودية. "د".(35/150)
2 أي: فتارة يقدم المندوب على المباح؛ فيؤثر حظه في الآخرة على حظه في الدنيا، وفي هذه الحالة يصح أن يقال أيضا: إنه آثر حق ربه المطلوب بفعل هذا المندوب على حظ نفسه وهو المباح، وتارة يقدم المباح على المندوب، لكن بقصد أن من حق الله عليه ألا يعرض عن رخصته وتفضله عليه بالتوسعة بهذا المباح، وحينئذ يكون آخذا للمباح لا من جهة حظ نفسه بل من جهة أنه حق لربه وإن كان في ضمنه حصل حظ نفسه بالمباح؛ إلا أنه تابع؛ فعلى التقدير الأول يكون رفع المباح وباعده عن عمله رأسا، وعلى الثاني يكون فعل المباح لكن على أنه حق لربه لا لحظ نفسه. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(35/151)
ص -474-…الحاجيات كلها أو جلها من الرخص، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها1، حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع, إن شاء الله تعالى.
فصل:
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة؛ ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس، وما هو عام للناس كلهم، فأما العام للناس كلهم؛ فذلك الإطلاق الأول، وعليه يقع التفريع في هذا النوع، وأما الإطلاق الثاني؛ فلا كلام عليه هنا؛ إذا لا تفريع يترتب عليه، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي، وكذلك الثالث، وأما الرابع، فلما كان خاصا بقوم؛ لم يتعرض له على الخصوص، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه؛ فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى.
المسألة الثانية:
حكم الرخصة الإباحة مطلقا1 من حيث هي رخصة، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
موارد النصوص عليها؛ كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما ما يرجع إلى حق الله منها؛ فليس من الرخص كما أشرنا إليه. "د".
2 أي: من غير تفصيل حتى فيما يتوهم فيه الوجوب أو الندب. "د".(35/152)
ص -475-…[النساء: 101].
وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] الآية إلى آخرها1.
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم والمؤاخذة، على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل؛ كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ2 عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا3 فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح، وبجواز الإقدام خاصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشتمل على عقوبة من كفر وهو الغضب والعذاب العظيم، وقد استثنى منه من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يعني: فلا غضب ولا عذاب، أي: فلا إثم عليه؛ فالترخيص للمؤمن بالقول في هذه الحالة إنما رفع عنه فيه الحرج والإثم، وهو معنى الإباحة على أحد المعنيين السابقين في الكلام على المباح. "د".
2 أي: لا تبعة مهر؛ فلا تطالبون به إلا بالمس ولو بدون فرض للمهر، أو بفرض له ولو مع عدم المس, وهذا المعنى هو الظاهر، وقيل: لا وزر، فكأنه لما كثر ذم الطلاق؛ فهموا أنه لا يجوز، فقال: لا جناح، ولكن هذا المعنى كما ترى إذا نظر فيه إلى بقية الكلام، وكلام المؤلف مبني على المعنى الثاني. "د".(35/153)
3 لما تحرجوا عن التجارة في موسم الحج؛ لأنها تستدعي جدالا وقد نهوا عن الجدال، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت الآية. "د". "استدراك3".(35/154)
ص -476-…وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ1} [البقرة: 185].
وفي الحديث: "كنا نسافر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنا المقصر2, ومنا المتم، ولا يعيب3، بعضنا على بعض"4.
والشواهد على ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن فطر فعليه عدة، لكنه لم يأتِ فيه بما يقتضي جواز الإقدام عليه، وظاهر أن الاستدلال بهذا المقدار من الآية ضعيف، لكن ما بعدها وهو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} معناه: أنه لا يريد حرجكم؛ فهو يرفع عنكم إثم الإفطار في المرض والسفر، وبهذا يظهر ما يستدل عليه المؤلف، أما مجرد عدم ذكر حكم الإفطار من وجوب أو حرمة؛ فلا يفيد المطلوب، وتأمل. "د".
2 من أقصر على لغة فيه. "د".
3 وذلك يدل على الإباحة. "د".
4 أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 189"، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 141"، وابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 1161- مع التنقيح" عن عائشة بلفظ: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" بإسناد فيه سعيد بن محمد بن ثواب، وهو مجهول الحال، وقد استنكر هذا الحديث الإمام أحمد؛ كما قاله ابنه عبد الله في "العلل" "3/ 29".
والذي صح من فعلها -رضي الله عنها- في "الصحيحين" وغيرهما، ولذا قال البيهقي: "والصحيح عن عائشة أنها كانت تتم موقوفا".
قلت: ويتأيد ذلك أن عروة لما ذكر إتمامها؛ قال: "تأولت ما تأول عثمان"، فلو كان عندها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية؛ لم يقل عروة: إنها تأولت.
واللفظ المذكور عند المصنف أخرجه أبو بكر الأثرم من حديث أنس؛ غير أنه لا يصح، تفرد به زيد العمي وليس بشيء، وإنما الحديث المعروف: "فمنا الصائم ومنا المفطر"، كذا في "تنقيح التحقيق" "2/ 1164".
وانظر تفصيل ذلك في: "نصب الراية" "2/ 192"، و"الإرواء" "رقم 563".(35/155)
ص -477-…والثاني:
أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه؛ حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار، بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ بالرخصة، وهذا أصله الإباحة؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}1 [الأعراف: 32].
{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33].
بعد تقرير نعم كثيرة.
وأصل الرخصة2 السهولة، ومادة "ر خ ص" للسهولة واللين؛ كقولهم: شيء رخص3: بيّن الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه، فمال هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة4.
والثالث:
أنه لو كانت5 الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا؛ كانت عزائم لا رخصا، والحال بضد ذلك؛ فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل زيادة "و".
2 أي: وقد ورد إطلاق الشارع هذه المادة بهذا المعنى؛ كما في الحديث: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وكثيرا ما يرجعون في بيان المعاني الشرعية إلى معرفة المعاني اللغوية، لكن ما هنا حكم شرعي، وكون الأحكام الشرعية من إباحة أو غيرها يرجع فيها إلى مناسبات ومعانٍ لغوية هو كما ترى يشبه أن يكون استئناسا لا دليلا في مسألة أصولية، والمؤلف وإن كان من عادته أن يجمع على مدعاه ما يتيسر له من أدلته قوية وغيرها؛ إلا أنه في العادة يجعل هذه بعد تلك ويظهر على أسلوبه أن غرضه منها الاستئناس، لا أنها من صلب الأدلة كظاهر صنيعه هنا. "د".
3 في "ط": "يرخص".
4 انظر: "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس.
5 في "م": "كان".(35/156)
ص -478-…والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر؛ ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل، من حيث هي مأمور بها، فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة.
فإن قيل: هذا معترض؛ من وجهين:
أحدهما:
أن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة؛ إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا، فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا، أما أولا؛ فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وهما مما يجب الطواف بينهما، وقال تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ1 فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، والتأخر مطلوب طلب الندب، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى.
ولا يقال: إن هذه المواضع نزلت على أسباب حيث توهموا الجناح، كما ثبت في حديث عائشة2؛ لأنا نقول: مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ فإنه كما جاء في "روح المعاني" رد على الجاهلية حيث كان بعضهم يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".(35/157)
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله، 3/ 497-498/ رقم 1643" بسنده إلى عروة؛ قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت "لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كان يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية".(35/158)
ص -479-…وهي توهم الجناح، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}1 [البقرة: 198].
وقوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا2 مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى آخرها3.
وقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. "استدراك4".
{وَلا جُنَاحَ4 عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج، وإذا استوى الموضوعان5؛ لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قدمناه: "ص475- الاستدراك".
2 كان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعام فيقول: إني لأجنح أن آكل منه "والجنح: الحرج"، ويقول: المسكين أحق به مني؛ فنزلت الآية. ا. هـ. تيسير "د".
3 في "م": "آخره". وانظر: "أسباب النزول" "ص223-224" للواحدي.
4 لم أرَ في كتب التفسير والحديث وأسباب النزول ذكرًا لسبب نزول هذه الآية أو ما يفيد أنهم توهموا الحرج؛ فلذا قال: "هذا وما كان مثله متوهم فيه الحرج"، وهو يشمل ما حصل فيه التوهم بالفعل، ونزلت الآيات لنفي ذلك التوهم، وما كان شأنه ذلك وإن لم يحصل فيه توهم بالفعل حتى كان سببا للنزول، فيكون ذكر هذه الآية وجيها، لكنه لا يناسب قوله في الدخول على هذه الآيات: "مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب وهي توهم الجناح؛ كقوله تعالى... إلخ"؛ فعله يريد التوهم ولو شأنا وإن لم يكن سببا للنزول. "د".
5 في الأصل و"ط": "الموضعان".(35/159)
ص -480-…والثاني:
أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها؛ فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية1 ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة، وأنه سنة، وقيل في قصر المسافر: إنه فرض أو سنة أو مستحب، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه2"3، وقال ربنا تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلى كثير من ذلك؛ فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل.
فالجواب عن الأول: أنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة، فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص؛ فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب؛ فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما، بناء على استقرار عادة تقدمت، أو رأي عرض، كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب، وفي بعض المأكولات، حتى نزل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "العادية".
2 أي: والمباح الصرف لا تتعلق به محبة الله تعالى، وأيضا إرادته تعالى لنا اليسر ومحبته لذلك تقتضي أن الرخص محبوبة له تعالى، وأقل ذلك أن تكون مطلوبة طلب المندوب. "د".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم.(35/160)
وأخرجه أيضا من حديث ابن عمر, ابن حبان في "صحيحه" "914- موارد"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 73"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 140"، وابن منده في "التوحيد" "3/ 223-224/ رقم 716، 717"، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع، انظرها في "الإرواء" "رقم 564".(35/161)
ص -481-…والأمهات وسائر من ذكر في الآية، وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك؛ فكذلك قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، يعطي معنى الإذن، وأما كونه واجبا1؛ فمأخوذ من قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أو من دليل آخر؛ فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام، مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه.
ولنا أن نحمله2 على خصوص السبب، ويكون قوله في مثل الآية3: {مِنْ شَعَائِرِ} [البقرة: 158] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع، أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح؛ فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن، ولا إشكال فيه، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى4، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والجواب عن الثاني: أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويكون مثاله أن يجاب سائل فاتته صلاة العصر مثلا وظن أنه لا يجوز قضاؤها عند الغروب؛ فيقال له: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فالغرض إجابته بمقدار ما يدفع شبهته، لا بيان أصل وجوب العصر عليه. "د".
2 أي: فيكون المراد منه الطلب والوجوب، ولوحظ في هذا التعبير السبب وهو كراهة المسلمين الطواف؛ لمكان إساف ونائلة "الصنمين اللذين كانا يتمسح بهما أهل الجاهلية فوق الصفا والمروة" فنزلت الآية بطلب السعي، ولوحظ في التعبير تحرج المسلمين وكراهتهم، ويكون قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} صارفا للفظ {لَا جُنَاحَ} عن أصل وضعه من رفع الإثم فقط. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "ويكون مثل قوله في الآية", وما أثبتناه من الأصل و"ط".
4 إلا أنه لا يوجد فيها قرينة لفظية لصرف اللفظ عن ظاهره إذا اعتبرنا السبب وجعلناها للطلب، نعم فيها قرينة حالية وهي نفس السبب، وهو أن بعضهم كان يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".(35/162)
ص -482-…متنافيين؛ فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية1، لا إلى الرخصة بعينها، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة؛ قصدا لرفع الحرج عنه وردا2 لنفسه من ألم الجوع فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها؛ كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه؛ فلا شك أن3 الزوال عنه مطلوب، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع، ومثل هذا لا يسمى رخصة؛ لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه؛ فلا يسمى رخصة من هذا الوجه وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه.
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة، وهذا فرد من أفراده، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج، وهذا فرد من أفرادها؛ فلم تتحد الجهتان، وإذا تعددت الجهات؛ زال التدافع، وذهب التنافي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: أكل الميتة حال الاضطرار وإن كان عزيمة من حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من الخبث المحرم، وواضح من كلامه أنه رخصة من جهة وعزيمة من جهة أخرى، ولكن كلاهما حالة الاضطرار, وكلام المؤلف يخالفه؛ إذ جعله رخصة في غير الاضطرار، وهو وقت الحرج والمشقة الزائدة بألم الجوع الذي لا يصل إلى التلف، وعزيمة إذا وصلت المسألة لتلف النفس لرجوعها لأصل كلي وهو وجوب المحافظة على النفس، هذا ما يقتضيه بيانه الأول، لكنه قال آخرا: "وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه" فكأنه في حالة خوف التلف يصح أن يكون عزيمة ورخصة من جهتين، وحينئذ يرجع إلى كلام الآمدي، ويوضحه الحاصل بعده؛ إلا أنه لا يبقى لقوله أولا: "وذلك أن المضطر إلى قوله: فإن خاف" فائدة في هذا المقام. "د".(35/163)
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ردا" من غير واو.
3 مكررة في "د".(35/164)
ص -483-…وأمكن الجمع1.
وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه؛ فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة، بل هو عزيمة متعبد بها عنده، ويدل عليه حديث عائشة -رضي الله عنها- في القصر: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"2 الحديث، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة؛ إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة3 على هذا الاصطلاح العام، وإلا؛ فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة، أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة؛ لأنها شرعت في السماء خمسين, ويكون القرض، والمساقاة، والقراض، وضرب الدية على العاقلة رخصة، وذلك لا يكون كما تقدم؛ فكل ما خرج4 عن مجرد الإباحة فليس برخصة.
وأما قوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه"5؛ فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تردد ابن دقيق العيد كإمام الحرمين في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة؟ والحق ما أشار إليه المصنف، من أن وصف العمل بالوجوب والرخصة معا لا يصح إلا مع اختلاف الجهة؛ فإساغة الغصة بالخمر كتناول الميتة للمضطر هو من حيث الدليل المانع رخصة، ومن حيث الوجوب عزيمة. "خ".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب تقصير الصلاة إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090", ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 685" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
3 أي: بل لا بد فيه من قيد "مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع" كما سبق له، وإذا كان الذي فرض أولًا هو الركعتين فقط؛ فيكون هو الأصل فلا رخصة. "د".
4 أي: وهذا هو مدعاه في رأس المسألة؛ فثبت. "د".
5 مضى تخريجه في "ص480".(35/165)
ص -484-…وأيضا؛ فالمباحات منها ما هو محبوب1، ومنها ما هو مبغض؛ كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية؛ فلا تنافي.
وأما قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]2} [البقرة: 185]، وما كان نحوه فكذلك أيضا؛ لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج، وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة:
إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها:
أن سبب الرخصة المشقة3، والمشاق تختلف بالقوة والضعف و4 بحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال؛ فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن الشتاء، وقصر الأيام؛ كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر، وكذلك الصبر5 على شدائد السفر ومشقاته يختلف؛ فرُبَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يلزم من كونه محبوبا ألا يكون مباحا، وأن يكون مطلوبا كما هو مبنى الاعتراض. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أسباب التخفيف في الشريعة حسبما دل عليه الاستقراء سبعة، وهي: المرض، والسفر، والنسيان، والإكراه، والجهل، والحرج، وعموم البلوى، والضعف المعنوي؛ كالأنوثة، والرقية، وجميعها تدور حول المشقة. "خ".
4 لو حذفت الواو وجعل ما بعدها من الحيثيات أسبابا للقوة والضعف في المشقة؛ لكان أوجه. "د".
5 ما قبله بيان لاختلاف المشقة قوة وضعفا باختلاف الأزمان والأحوال الخارجة عن صفات الشخص، وهذا بيان لاختلاف العزائم، ويصح أن يكون راجعا لاختلاف الأحوال بقطع النظر عن قوة الإرادة وضعفها، ويكون مرجعه التعود وعدمه ولا دخل لقوة العزيمة فيه. "د".(35/166)
ص -485-…رجل جلد ضَرِيَ على قطع المهامه1 حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ولا يتألم بسببها، يقوى على عباداته، وعلى أدائها على كمالها وفي أوقاتها، ورب رجل بخلاف ذلك، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك؛ فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة؛ فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، أي: إن كان قصر أو فطر؛ ففي السفر، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر؛ فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مِرْيَةَ فيه، فإذًا؛ ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي، ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع، ولا تختل حاله بسببه، كما كانت العرب، وكما ذكر عن الأولياء؛ فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك2، هذا وجه.
والثاني:
أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضري: تعود.
والمهامه: جمع مهمه: المفازة البعيدة. انظر: "لسان العرب" "ض ر ا"، "م هـ م".
2 أي: فمن تختل حاله يجب عليه الترخص، ومن لا تختل وتلحقه المشقة فقط يكون مخيرا، هذا مراده؛ فلذا لم يقل: "فلا يترخص في أكلها" بعد وصفه بالمضطر. "د".(35/167)
ص -486-…الشدائد، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم، حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم؛ فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات.
والثالث:
ما يدل على هذا من الشرع؛ كالذي جاء في وصال الصيام، وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله1 من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم؛ ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم، ولا يقطهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته2، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة3 على نوع من أنواعها، وهو غير منتهض إلا أن يجعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي "ص526".
2 ما قرره المصنف من التفصيل في حكم الوصال منقول عن عبد الله بن الزبير وجماعة من التابعين، وقال جمهور أهل العلم بمنعه على وجه التحريم لحديث ابن عمر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، وحديث أبي هريرة: "إياكم والوصال"، وقوله, عليه الصلاة والسلام: "إني لست كهيئتكم أو لست مثلكم" صريح في أن الوصال من خصائصه. "خ".(35/168)
3 لأن المشقة هنا نوع آخر غير السابق؛ فالمشقة فيما تقدم تقتضي الترخص، وهنا المشقة تمنع مفارقة الحكم الأصلي وهو النهي عن الوصال، وعدم المشقة يجعلهم يترخصون بفعل المنهي عنه، وهو أيضا ليس حكما سهلا انتقل إليه من حكم صعب، فليست من مواضع الرخصة؛ إلا أنه على كل حال وُجد فيه نوع من المشقة ينبني عليه حكم في اجتهادهم، فالاستدلال به على أن المشقة في النوع الأول تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص يكون استدلالا بجنس المشقة لا بنفس نوع المشقة؛ فيكون من الاستدلال بالمطلق على المقيد من حيث هو مقيد، أو بالعام على الخاص من حيث هو خاص، وذلك لا يصح كما يأتي، إلا أن يجعل منضما إلى ما قبله؛ فيفيد مجرد أن المشقة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وإن كان لا يفيد أن ذلك في موضوع الرخصة المعروفة؛ فتنبه. "د".(35/169)
ص -487-…منضما إلى ما قبله؛ فالاستدلال بالمجموع صحيح, حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة.
فإن قيل1: الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة؛ إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة، أو لا يمكن2 له ذلك على حسب ما أمر به، أو يكون غير مؤثر، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه، فإن كان الأول؛ فظاهر أنه محل الرخصة، إلا أن يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا3 أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه، وإذا كانت مأمورا بها4؛ فلا تكون رخصة كما تقدم، بل عزيمة، وإن كان الثاني؛ فلا حرج5 في العمل ولا مشقة، إلا [ما]6 في الأعمال المعتادة، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما؛ ارتفعت الرخصة من أصلها، والاتفاق على وجودها معلوم، هذا خلف؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا السؤال وإن كان واردا على أصل وجود الرخصة، وكان يناسبه أول الباب، لكن لمناسبة الكلام في المشقة؛ صح أن يذكر هنا. "د".
2 في "ط": "يكمل".
3 أي: فيما يعجز فيه عن أصل العبادة والعادة، وقوله: "أو ندبا"؛ أي: إذا كان لا يعجز ولكنه لا يكون كاملا على حسب ما أمر به. "د".
4 في الأصل: "به".
5 فرض فيه أنه مغلوب صبره ومهزوم عزمه؛ فكيف مع هذا يقال: لا مشقة إلا ما في الأعمال المعتادة؟ وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة؛ فوضع السؤال هكذا غير وجيه؛ فتأمل. "د".
6 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(35/170)
ص -488-…فما انبنى عليه مثله.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر؛ لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا، إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جارٍ فيها, فإذا كان مشترك الإلزام؛ لم ينتهض دليلا1، ولم يعتبر في الإلزامات.
والثاني:
أنه إن سلم؛ فلا يلزم السؤال لأمرين:
أحدهما:
أن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه؛ لإمكان قسم ثالث بينهما، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل، ولا يكون المكلف رخي البال عنده2، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم، مع أنه لا يقطعه عن سفره، ولا يخل به في مرضه، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص، جارٍ فيه هذا التقسيم، والثالث هو محل الإباحة؛ إذ لا جاذب [له]3 يجذبه لأحد الطرفين.
والآخر:
أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه4 ليس من جهة كونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يقال للسائل: الاعتراض مشترك، فما هو جوابكم هو جوابنا، يعني ومثله لا يذكر في طريق الإلزام. "د".
2 هو الذي قال فيه: "مغلوب صبره، مهزوم عزمه". "د".
قلت: وفي الأصل: "البال عنه".
3 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وليست في "د".
4 راجع لقوله: "وإذا كانت مأمورا بها؛ فلا تكون رخصة"؛ فالجواب الأول: يراعى أن هناك محلا للرخصة التي الكلام فيها وهي المباحة؛ لوجود قسم ثالث لم يذكره في السؤال، على ما فيه مما أشرنا إليه، والجواب الثاني: ترق على هذا يقول: الرخصة موجودة حتى في المأمور به، =(35/171)
ص -489-…رخصة، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها، أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا؛ فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام، ومع مدافعة الأخبثين1، ونحو ذلك2؛ فالرخصة3 باقية على أصل الإباحة من حيث هي رخصة، فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولكن الطلب من جهة غير جهة كونه رخصة؛ فجهة العزيمة ظاهرة من نفس الطلب وجهة الرخصة أنه حكم سهل انتقل إليه من حكم صعب مع بقاء دليل الصعب معمولا به في الجملة، وإنما قلنا في الجملة؛ لأنه ليس معمولا به في حق الشخص الذي طولب بالرخصة، ولا يخفى عليك أنهم اشترطوا بقاء العمل به في حق الشخص نفسه، وإلا لخرج عن كونه رخصة إلى كونه عزيمة، قال الأبهري: "إن المكلف إذا لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم تثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام التكليفية، والتكليف شرط لها فلا يكون عدم تحريم إجراء كلمة الكفر على لسان المكره رخصة؛ لأن الإكراه يمنع التكليف، ومثله يقال في الإكراه على إفطار رمضان، وإتلاف مال الغير عدم تحريمه ليس رخصة، يعني لأن الدليل القائم على التحريم ليس باقيا بالنسبة لهذا الشخص، فلا رخصة إلا حيث يبقى دليل الصعب معمولا به بالنسبة للشخص نفسه، وبهذا تعلم ما في هذا الجواب الثاني، هذا ولا يذهب عنك أنه عرف الرخصة بما ينطبق على هذا فقال: "ما شرع من الأحكام لعذر شاق استثناء عن حكم كلي"؛ فلا يرد عليه ما تقدم. "د".(35/172)
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، 1/ 393/ رقم 560"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، 1/ 22/ رقم 89"، وأحمد في "المسند" "6/ 43، 54، 73" من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان".
2 كالصلاة في الأرض المغصوبة، يعني: فهناك جهتان تسلط على إحداهما الطلب والعزيمة، وعلى الأخرى الرخصة، كما توجه النهي والطلب في الصلاة في هذه المسائل على جهتين مختلفتين، ولامانع من ذلك ما دامت الجهة لم تتحد؛ فالغرض تقريب الجواب بذكر شبيه بالمقام. "د".
3 هذا التفريع ظاهر على الجواب الأول، أما الثاني؛ فلم يبين فيه إلا أن الترخيص له جهة غير جهة الطلب، أما كونه مباحا في هذه الحالة؛ فإنه لم يبينه هنا اعتمادا على ما سبق، ولذا قال: "وقد مر بيان... إلخ". "د".(35/173)
ص -490-…المسألة الرابعة:
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة؛ هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟
فالذي يظهر من نصوص الرخص أنه بمعنى رفع الحرج، لا بالمعنى الآخر، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله في الآية الأخرى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]؛ فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم.
وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولم يقل: فله الفطر، ولا فليفطر1، ولا يجوز له2، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر؛ فعدة من أيام أخر.
وكذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] على القول3 بأن المراد القصر من عدد الركعات، ولم يقل: فلكم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ليس ظاهرا؛ لأن الكلام في أنه لم يذكر لفظا يدل على التخيير بين الفعل والترك؛ فلا يتوهم أن يؤتى هنا بلفظ الأمر أو النهي، وهو أيضا خلاف صنيعه السابق واللاحق. "د".
2 في "خ" و"ط": "لك", ومكانها في الأصل بياض.
3 نسب إلى طاوس والضحاك أن القصر يرجع لأحوال الصلاة من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه شاء، وحينئذ يبقى الشرط في الآية على ظاهره {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} إلا أنه على هذا أيضا تكون رخصة؛ فلماذا قيد بقوله: "على القول... إلخ"؟ "د".(35/174)
ص -491-…تقصروا، أو: فإن شئتم فاقصروا1.
وقال [تعالى]2 في المكره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ...} الآية إلى قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]؛ فالتقدير أن من أكره؛ فلا غضب عليه، ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم يقل: فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق.
وفي الحديث: أكذب امرأتي؟ قال له: "لا خير في الكذب". قال له: أفأعدها وأقول لها؟ قال: "لا جناح عليك3"4، ولم يقل له نعم، ولا افعل إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"م": "أن تقصروا".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 يقتضي أن الوعد وهو عارف أنه لا يقدر على الوفاء، رخصة للزوج بالنسبة لامرأته. "د".
4 أخرجه الحميدي في "مسنده" "رقم 329"، ثنا سفيان ثنا صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار؛ قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: هل علي جناح أن أكذب أهلي؟ قال: "لا؛ فلا يحب الله الكذب"، قال: يا رسول الله! أستصلحها وأستطيب نفسها. قال: "لا جناح عليك".
هكذا وقع فيه عن عطاء بن يسار مرسلا، وهو قد أورده تحت "أحاديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط, رضي الله عنها"؛ فلا أدري أسقط اسمها من السند أو الناسخ، أم الرواية عند الحميدي هكذا مرسلا؟ والسند صحيح إلى عطاء بن يسار، قاله شيخنا في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498".
قلت: وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" من رواية صفوان بن سليم عن عطاء مرسلا، وهو في "الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء، قاله الزبيدي في "شرح الإحياء" "7/ 524".
إلا أن الحديث صحيح وله شواهد عديدة، انظرها في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545".(35/175)
ص -492-…شئت1.
والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور؛ أن الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر؛ فكذلك غيره2 من المواضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الكذب لا يجوز في شيء، وحملوا الكذب الذي وردت الرخصة به في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لزوجته على معنى التورية والتعريض، ومن شهد رجلا يحرك لسانه بالكذب الصريح ولو ليتخذه وسيلة إلى قضاء مصلحة؛ فإنه يحس كيف أخذ مقام ذلك الرجل ينحط في نفسه، وكيف ابتدأت الثقة به تتداعى إلى انحلال، وهذا ما ينبهك على أن الشريعة لا تأذن بالكذب؛ إلا أن تضيق على الرجل دائرة المعاريض، ويضطر إليه في مثل تخليص النفس البريئة من ظالم يريد إتلافها، ولعل السياسي يرى أنه أحرى بهذه الرخصة حيث يضطر إليها في إحياء أمة أو إنقاذها من قارعة الاستعمار، والمخلص من الكذب في حديث الزوجة أن يعدها بالعطية في قوة العازم وينوي في ضميره التعليق على تقدير الله ومشيئته. "خ".
2 تقدم له في مباح المباح أن الصبر على عدم ذكر الكلمة مندوب، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "فكذلك غيره" الذي يقتضي أن الجمهور أو الكل قائلون بأن ترك الرخصة أفضل، مع أن أبا حنيفة يقول بوجوب القصر والفطر، وتسمى رخصة إسقاط بحيث لا يصح منه الإتمام والصيام، والشافعي يقول: إذا زادت المسافة عن مرحلتين؛ كانا أفضل من الصيام والإتمام، قال عياض في "الإكمال": "كون القصر سنة هو المشهور من مذهب مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف"، ونص المالكية على أن رخصة الجمع بين الظهرين والعشاءين للمسافر رخصة جائزة والجائز بمعنى التخيير؛ فانظر هذا مع ما قاله المؤلف. "د".(35/176)
قلت: وقد صرح بعض المالكية أن الجمع بين الظهرين والعشاءين سنة، فقال ابن العربي في "القبس" "1/ 326-327": "لا يطمئن إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنة النفوس بالسنة، كما لا يكع -أي: يبتعد وينحي- عنه إلا أهل الجفاء والبداوة".
انظر: "التاج والإكليل" "2/ 156"، و"الفواكه الدواني" "1/ 271"، و"أسهل المدارك" "1/ 237"، وكتابي "الجمع بين الصلاتين في الحضر" "ص117".(35/177)
ص -493-…المذكورة وسواها.
وأما الإباحة التي بمعنى التخيير؛ ففي قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يريد: كيف شئتم: مقبلة، ومدبرة، وعلى جنب؛ فهذا تخيير واضح، وكذلك قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وما أشبه ذلك، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين.
فإن قيل: ما الذي ينبني على الفرق بينهما؟
قيل: ينبني عليه فوائد كثيرة، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا: [إن]1 الرخصة مخير فيها حقيقة؛ لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب؟ وإذا كان كذلك؛ تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا، فإذا عمل بها؛ لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة:
الترخص المشروع ضربان:
أحدهما:
أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا؛ كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا، أو عن الصوم لفوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "م" و"خ" و"ط".(35/178)
ص -494-…النفس.
أو شرعا؛ كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة، أو على إتمام أركانها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها، وأمثلته ظاهرة.
فأما الأول؛ فهو راجع إلى حق الله؛ فالترخص فيه مطلوب، ومن هنا جاء: "ليس من البر الصيام في السفر"1، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو: "وهو يدافعه الأخبثان"2، و: "إذا حضر3 العشاء وأقيمت الصلاة؛ فابدءوا بالعشاء"4 إلى ما كان نحو ذلك؛ فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل5، ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وإن من لم يفعل ذلك فمات؛ دخل النار.
وأما الثاني؛ فراجع إلى حظوظ العباد، لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ؛ إلا أنه على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في "ص517".
2 مضى تخريجه "ص489"، والحديث صحيح.
3 في الأصل و"ط": "حضرت".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، 2/ 159/ رقم 671، وكتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء؛ فلا يعجل عن عشائه، 9/ 584/ رقم 5465".
5 فهو راجع إلى حق الله؛ لأنه لا يتأتى الحضور في الصلاة والإتيان بها على كمالها مع هذه الأمور. "د".(35/179)
ص -495-…أحدهما:
أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها؛ كالجمع بعرفة والمزدلفة؛ فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم، حتى عده الناس سنة لا مباحا، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة؛ إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة؛ كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر، فإذًا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم.
والثاني:
أن لا يختص بالطلب، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج؛ فهو على أصل الإباحة، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة.
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة؛ فلا حاجة إلى إيرادها، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك؛ فنقول:
أما الأول، فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي؛ لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة، إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها1، فالإتيان بما قدر عليها2 منها -وهو مقتضى الرخصة- هو المطلوب، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عدم تحصيلها، هذا فيما كان العجز* فيه بالطبع، أما ما كان العجز فيه شرعا كأمثلته المتقدمة؛ فيكون رفعا للكمال لا للأصل، وتأمله؛ فإن الحضور في الصلاة ليس ركنا لقوله: "إتمام أركانها"؛ إن كان معناه هو معنى استيفاء أركانها السابق له؛ فظاهر، وإن كان معناه الإكمال الزائد على أصل الركن؛ فلا يتأتى فيه ظاهر دليله. "د".
2 في الأصل: "عليه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعجز".(35/180)
ص -496-…وأما الثاني، فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب [العمل بها على الخصوص؛ خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها، كما ثبت عند مالك]1 [الدليل على]2 طلب الجمع بعرفة والمزدلفة؛ فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة، ولا كلام فيه.
وأما الثالث؛ فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن3 في الرخصة، أو في رفع الإثم عن فاعلها.
المسألة السادسة:
حيث قيل4 بالتخيير5 بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة؛ فللترجيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
3 ما تقدم له من الأدلة واضح في رفع الإثم لا في الإذن، غايته أنه في آخر المسألة الرابعة بنى على كل من الوجهين فائدته؛ فراجعها. "د".
4 وأما إذا قيل برفع الإثم عن فاعلها؛ فالظاهر أن الرجحان أخذًَا للعزيمة مما تقدم له في آخر المسألة الرابعة من مسائل المباح، حيث قال: "وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم؛ لأنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة" غير أن رجحان العزيمة يحتاج إلى تقييد بما إذا لم تصر الرخصة مطلوبة شرعا؛ كالجمع بمزدلفة مثل. "د".(35/181)
5 مع كونه لم يرتض هذا، وأقام الدليل على أن الإباحة في الرخصة بمعنى رفع الحرج، ولم يقم على هذا التخيير دليلا فرع عليه ما أطال به في المسألتين السادسة والسابعة، ويبقى الكلام في المراد بالترجيح بعد فرض التخيير: هل المراد به أنه هو الأحب والمثاب عليه في نظر الشارع؟ ويدل على هذا ما يأتي له في أدلة ترجيح الأخذ بالعزيمة المفيد أنهم لما أخذوا بها مدحهم الله، وأن الأمر بالمعروف مستحب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال... إلخ، وإذا كان كذلك؛ فكيف يتأتى أن يكون هنا تخيير؟ وقد تقدم له في المسألة الأولى في المباح بمعنى المخير فيه سبعة أدلة على أنه لا فرق بين الفعل والترك في نظر الشارع بالنسبة للمباح المخير فيه، وما عورضت به الأدلة دفعه كله، وحقق أنه لا فرق بين الفعل والترك؛ فلم يبق إلا أن يكون غرضه بالترجيح هنا أمرا آخر =(35/182)
ص -497-…بينهما مجال رحب، وهو محل نظر، فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من الأدلة.
فأما الأخذ بالعزيمة؛ فقد يقال: إنه أولى لأمور:
أحدها:
أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به، وورود الرخصة عليه وإن كان مقطوعا به أيضا؛ فلا بد أن يكون سببها مقطوعا به في الوقوع، وهذا المقدار بالنسبة إلى كل مترخص غير متحقق إلا في القسم المتقدم1، وما سواه لا تحقق فيه، وهو موضع اجتهاد؛ فإن مقدار المشقة المباح من أجلها الترخص غير منضبط، ألا ترى أن السفر قد اعتبر في مسافته ثلاثة أميال فأكثر، كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن، وعلة القصر المشقة، وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم المشقة، واعتبر في المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الاسم؛ فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه، كما كان منهم من قصر في ثلاثة أميال، واعتبر آخرون ما فوق ذلك، وكل مجال الظنون لا موضع فيه للقطع، وتتعارض فيه الظنون، وهو محل الترجح2 والاحتياط؛ فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة مع بقاء احتمال في السبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غير كونه محبوبا للشارع ومطلوبا ومثابا عليه؛ فلينظر ما هو معنى كونه أولى وأرجح في نظر الشارع غير هذه المعاني؛ حتى لا يتنافى كلامه هنا مع كلامه في المباح فيا سبق؛ فقد يقال: إن مراده بالترجح الأخذ بما هو أحوط فقط وإن لم يكن بالغا مبلغ الاستحباب والثواب عليه؛ كما يشير إليه قوله: "وهو محل الترجح والاحتياط"، ولكن يبقى الكلام في الأدلة الآتية، وسيأتي له في آخر المسألة السابعة قبل الفصل الأول أن الأحروية في الأخذ بالعزيمة تارة تكون بمعنى الندب وتارة تكون بمعنى الوجوب؛ فتنبه للتوفيق بين كلامه في هذه المواضع؛ فإنه يحتاج إلى فطنة وقوة ذاكرة للجمع بين أطراف الكلام في هذا المقام الذي طالت جولته فيه. "د".
1 وهو ما ألحق بالعزائم بقسميه، وقوله: "وما سواه" هو القسم الثالث. "د".(35/183)
2 في "ماء": "الترجيح".(35/184)
ص -498-…والثاني:
أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي؛ لأنه مطلق عام على الأصالة في جميع المكلفين، والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأحوال وبعض الأوقات في أهل الأعذار، لا في كل حالة ولا في كل وقت، ولا لكل أحد؛ فهو كالعارض الطارئ على الكلي، والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي؛ فالكلي مقدم؛ لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية؛ فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها، فمسألتنا كذلك؛ إذ قد علم أن العزيمة بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه، والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب، وما فرضنا الكلام فيه1 لا يتحقق في كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي ينازعه؛ فلا ينجي من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى الكلي، وهو العزيمة.
والثالث:
ما جاء في الشريعة من الأمر2 بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتهض موجب الرخصة، وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر، من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]؛ فهذا مظنة التخفيف، فأقدموا3 على الصبر والرجوع إلى الله؛ فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو القسم الثالث. "د".
2 وهل مع الأمر يكون مجرد احتياط، أم يقتضي هذا الأمر أن يكون أفضل مثابا عليه؟
وكيف يبنى هذا على التخيير؟ "د".
3 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فأقاموا".(35/185)
4 ومنه: {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}، وأي ثواب أجزل من رضوان الله؟ وفي الآية بعدها: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}؛ فكلتا الآيتين فيهما الجزاء والثواب، ولا يكون مع التخيير، وبالجملة لو ترك الأدلة التي فيها طلب الأخذ بالعزيمة والثواب عليها؛ لكان موافقا لأصل الموضوع من بناء المسألة على التخيير. "د".(35/186)
ص -499-…وقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ...} إلى آخر القصة حيث قال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 10-23]؛ فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر1 وقد عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر؛ فأبوا من ذلك، وتعززوا بالله وبالإسلام2؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم.
وارتدت العرب عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان الرأي من الصحابة, رضي الله تعالى عنهم -أو من بعضهم غير أبي بكر- استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم؛ حتى يستقيم أمر الأمة، ثم يكون ما يكون؛ فأبى أبو بكر -رضي الله عنه-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع حنجور بالضم؛ أي: الحلقوم. "ماء".(35/187)
2 أخرج البزار في "مسنده" "رقم 1803- زوائده"، والطبراني بإسناد فيه محمد بن عمرو -وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "6/ 132"- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! شاطرنا تمر المدينة. فقال صلى الله عليه وسلم: "حتى أستأمر السعود". فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة؛ فقال: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث سألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في أمركم بعد". فقالوا: يا رسول الله! أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا نتبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا؛ فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "هو ذا تسمعون ما يقولون". قالوا: غدرت يا محمد، فرد عليهم حسان بن ثابت بأبيات من الشعر.
وانظر: "شرح الزرقاني على المواهب" "3/ 131".(35/188)
ص -500-…فقال: "والله لأقاتلنهم1 حتى تنفرد سالفتي"، والقصة مشهورة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لأقاتلهن".
2 انظر تفصيل ذلك عند البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 3/ 262/ رقم 1399، 1400، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، 12/ 275/ رقم 6924، 6925" مع كلام الشارح ابن حجر في الموطن الثاني، والتعليل المذكور في عدم قتال مانعي الزكاة اجتهاد من المصنف، والمذكور في الروايات والشرح خلافه؛ فراجعه، والله الموفق والهادي.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لا يظهر في هذه القضية معنى الرخصة والعزيمة بعد قول أبي بكر -رضي الله عنه- في محاجة عمر: "إن الزكاة حق المال"، وقول عمر, رضي الله عنه: "ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر فعرف أنه الحق"، وإذا كان رأي أبي بكر الصديق هو الحق، ورأي غيره خطأ؛ كان العمل على الرأي الخطأ بعد أن انكشف أمره باطلا شرعا، والباطل لا يدخل في معنى الرخصة بحال".(35/189)
وكتب "د" ما نصه: "ولا يخفى على المطلع على أخبار هذه الردة أنه لم يبق مذعن لأحكام الإسلام من قبائل العرب إلا قريش وثقيف والأنصار، واضطرمت نار الفتنة في سائر الجزيرة، فتجمع القبائل قرب المدينة، وأرسلوا وفودهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤدوا الزكاة؛ لأنهم اعتبروها كإتاوة لا تتفق مع عزة نفوس العرب، وقام متنبئون من العرب ذكورا وإناثا، فارتد معهم كثير ممن لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم وهكذا أصبح أكثر القبائل بين باغ ومرتد، بل شاع تسمية الكل مرتدين "ردة عامة أو خاصة"، وكان جيش المسلمين إذ ذاك مع أسامة بالشام؛ فكاد يجمع الصحابة على أنه ليس من المصلحة حرب جزيرة العرب كلها، وأن الضرورة تقضي باستئلاف مانعي الزكاة بعدم طلبها منهم؛ فأرادوا أن يأخذوا إذ ذاك بالرخصة في عدم حرب هؤلاء البغاة حتى لا يتعرض الإسلام لطعنة نجلاء تقضي عليه في مهده، وأن يتربصوا حتى يقوى أمر المسلمين بانطفاء هذه الفتن، ثم يكون الرجوع للجهاد لإعلاء كلمة الله الذي هو واجب ضروري من أقوى العزائم؛ فأبى أبو بكر وتشدد وأقسم، وحاجهم؛ فحجهم، ورجعوا إلى رأيه، وقال عمر كلمته المشهورة؛ فمعنى الحق في كلام عمر أنه الأوفق بالمصلحة، وهذا لا ينافي أنه اجتهد ورأى المصلحة في الحرب، واجتهدوا بقبول الرخصة خوفا على الإسلام؛ فحل الخلاف الترجيح بين الأخذ بالعزيمة كما هو رأيه أو الأخذ بالرخصة المتحقق سببها كما هو رأي غيره، ومعلوم أن أسباب الرخص ظنية، والظنون تتعارض كما قال المؤلف، ثم انشرح صدرهم لموافقته؛ فكان رأيه الأوفق؛ فأذعن البغاة، وشرد المتنبئون، وسكنت الجزيرة، وسار الإسلام في طريقه.
وبهذا تبين أن هذا المثال كسابقه من الأمثلة التي يستدل بها على ترجيح الأخذ بالعزيمة مع انتهاض موجب الرخصة؛ فلم يكن رأي الصحابة خطأ في وجود سبب الرخصة، حتى يقال: إنه لا يظهر في هذه القصة معنى الرخصة والعزيمة كما اعترض به بعضهم".(35/190)
ص -501-…وأيضا قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل: 106]؛ فأباح التكلم بكلمة الكفر، مع أن ترك ذلك أفضل عند جميع الأمة، أو عند الجمهور1، وهذا جارٍ في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أن الأمر مستحب، والأصل مستتب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس، لكن يزول الانحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك.
ومن الأدلة قوله، عليه الصلاة والسلام: "إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا"2؛ فحمله الصحابة -رضي الله عنهم- على عمومه، ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة، ولم يأخذوه إلا على عمومه حتى اقتدى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جمهورها".
2 أخرج أبو يعلى في "المسند" "1/ 156/ رقم 167" -ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 181-182/ رقم 89"- وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 42" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: قلت: يا رسول الله! أليس قد قلت لي: إن خيرا أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا؟. قال: "إنما ذاك أن تسأل، وما أتاك الله من غير مسألة؛ فإنما هو رزق رزقكه الله".
قال الهيثمي في "المجمع": "هو في "الصحيح" باختصار، ورواه أبو يعلى، ورجاله موثقون".
قلت: ليس في "الصحيح" ما أورده المصنف، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1473، 7193، 7164"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1045"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 105"، والحميدي في "المسند" "رقم 21"، وأحمد في "المسند" "1/ 21"، والدارمي في "السنن" "1/ 388"، وغيرهم كثير.(35/191)
ص -502-…بهم الأولياء، منهم أبو حمزة الخراساني؛ فاتفق له ما ذكره القشيري1 وغيره من وقوعه في البئر، وقد كان هذا النمط مما يناسب استثناؤه2 من ذلك الأصل.
وقصة الثلاثة الذين خلفوا3 حتى أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقوه، ولم يعتذروا له في موطن كان مظنة للاعتذار، فمدحوا لذلك، وأنزل الله توبتهم ومدحهم في القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ففتح لهم باب القبول، وسماهم صادقين لأخذهم بالعزيمة دون الترخص4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "رسالته" المشهورة "ص80"، وستأتي في "2/ 497".
2 فيكون رخصة، ولكنهم لم يأخذوا بها، وما ذاك إلا لأولوية العزيمة. "د".
3 أخرج قصتهم بتفصيل البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418، وكتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وأحمد في "المسند" "3/ 454، 456-459"، وغيرهم.(35/192)
4 كان من السهل التمسك بالأعذار العامة في حق الثلاثة؛ إذ كان الوقت قيظا والسفر بعيدا، وكان أوان جني الثمار، ولا داعي لأعذار خاصة، وقد قال كعب: إنه أوتي جدلا لم يؤته غيره، فكان يتأتى له أن يحسن الاعتذار مع لزوم الصدق، وهلال بن أمية كان شيخا مسنا؛ فعذره الخاص مقبول أيضا، وقد اعتذر بضعة وثمانون؛ فقبل منهم عليه الصلاة والسلام واستغفر لهم، ولم يثبت أن هؤلاء جميعا منافقون وإن كانت عبارة كعب في رواية القصة ربما يؤخذ منها أن أكثرهم كانوا كذلك؛ فالثلاثة لم يرتضوا المواربة بالأعذار العامة أو الأعذار الخاصة الضعيفة، وتحملوا مشاق الصدق وأثره؛ فمكثوا في البلاء خمسين يوما يبكون وينتحبون، وكان لهم منجى منه بعذر عام أو خاص صادق ولو ضعيفا، فكان يقبل منهم ويستغفر لهم، فتركوا الرخصة لهذه العزيمة؛ كما قال المؤلف. "د".
وكتب "خ" ما نصه: "لا يظهر في هذه الواقعة وجه للرخصة حتى يعقد بينها وبين اعترافهم بالذنب موازنة، ويقال: إن أولئك الثلاثة رجحوا جانب العزيمة؛ إذ ليس لهم أعذار صادقة يقدمونها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أنهم لفقوا أعذارا ابتدعوها؛ لكانوا قد أضافوا إلى ذنب التخلف عن الغزو ذنب الكذب المذموم، واعتذارات كاعتذارات المنافقين وإن كانت نافعة لهم في الدنيا لا تدخل في قبل الرخصة؛ إذ الرخصة رفع الحرج الذي لا يلحقه العقاب عاجلا وآجلا".(35/193)
ص -503-…وقصة عثمان بن مظعون1 وغيره2 ممن كان في أول الإسلام لا يقدر على دخول مكة إلا بجوار، ثم تركوا الجوار رضى بجوار الله، مع ما نالهم من المكروه، ولكن هانت عليهم أنفسهم في الله؛ فصبروا إيمانا بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وقال لنبيه عليه [الصلاة و] 3 السلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
ثم قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
ولما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284]؛ شق ذلك على الصحابة، فقيل لهم: قولوا: سمعنا وأطعنا, فقالوها؛ فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فنزلت: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أنه -رضي الله عنه- بعد رجوعه من الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثم رد جواره ورضاه بما عليه النبي, صلى الله عليه وسلم. انظر: "الإصابة" "2/ 464".
2 كقصة أبي بكر لما قبل من ابن الدغنة ترك جواره وبقي مستعلنا بشعائر الإسلام اعتمادا على جوار الله، مع تألب الكفار عليه ألا يستعلن القرآن خشية على من كان يسمعه من نسائهم وشبانهم أن يميلوا إلى الإسلام. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".(35/194)
ص -504-…أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية [البقرة: 285]1.
وجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة في جيش إلى الشام قبيل موته2، فتوقف خروجه بمرضه -عليه السلام- ثم جاء موته؛ فقال الناس لأبي بكر: احبس أسامة بجيشه تستعين به على من حاربك من المجاورين لك3. فقال: لو لعبت4 الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة؛ ما رددت جيشا أنفذه رسول الله, صلى الله عليه وسلم. ولكن سأل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أين الرخصة هنا متى كانت آية {آمَنَ الرَّسُولُ} ناسخة؟ وكذا لو قيل: إنها محكمة على معنى "إن تبدوا ما استقر في أنفسكم من الأخلاق الذميمة؛ كالكبر، والحسد، وكتمان الشهادة، أو تخفوه؛ يحاسبكم به الله" فلا رخصة أيضا، إنما يكون موضع رخصة إذا بقي الحكم الصعب معمولا به ورفع الحرج في فعله عند المشقة، وأين هذا؟ فإذا كان مناط دليله ما ذكره بقوله: "فشق عليهم فقيل لهم قولوا: سمعنا فقالوها... إلخ" يعني: فليس كلامه فيما بين الآيتين بل في الآية مع بقية القصة التي ذكرها، قلنا أيضا: نعم، يكون تكليفا شاقا، ولكن أين الرخصة التي كان يمكنهم الأخذ بها في مقابلته فتركوها؛ لأنه أفضل من الترخص؟ "د".
قلت: ومضى تخريج "سبب النزول" "ص93"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 130، 131".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، 7/ 510/ رقم 4261"، من حديث عبد الله بن عمر, رضي الله عنهما.
وانظر: "مسند الحب ابن الحب" "رقم 1، 2" لابن المرزبان، و"طبقات ابن سعد" "4/ 67"، و"مسند أحمد" "5/ 205، 206، 209"، و"سنن أبي داود" "رقم 2616"، و"مسند الطيالسي" "رقم 526"، و"سنن ابن ماجه" "رقم 2843".(35/195)
3 قامت القبائل المرتدة بمحاربة المسلمين حول المدينة واشتد الأمر عليهم جدا، وفي الوقت نفسه لا يترخص باستبقاء جيش أسامة وفيه وجوه الصحابة وأعيانهم وأقوى المقاتلة من المؤمنين، لا شك أن هذا كان محل الرخصة في بقاء الجيش، ولكنه أخذ بالعزيمة والعزم؛ فكان خيرا رضي الله عنه، قال ابن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أن من الله علينا بأبي بكر، حتى أجمعنا على ألا نقاتل على بنت مخاض؛ فعزم الله لأبي بكر على قتالهم". "د".
4 المثبت من "ط"، وفي غيره: "لعب".(35/196)
ص -505-…أسامة أن يترك له عمر؛ ففعل، وخرج فبلغ الشام ونكى1 في العدو بها؛ فقالت الروم: إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم، وصارت تلك الحالة هيبة في قلوبهم لهم2.
وأمثال هذا كثيرة مما يقتضي الوقوف مع العزائم وترك الترخص؛ لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون، وهو:
الوجه الرابع:
وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق؛ هي مما يقصدها الشارع3 في أصل التشريع، أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جارٍ على توسط مجاري العادات، وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودا له؛ لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية، وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي، ولذلك لم يعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره؛ كالصنائع الشاقة في الحضر، مع وجود المشقة التي هي العلة في مشروعية الرخصة، فإذًا؛ لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم؛ لأن ذلك جارٍ أيضا في العوائد الدنيوية، ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية؛ فصار عارض المشقة -إذا لم يكن كثيرا أو دائما- مع أصل عدم المشقة، كالأمر المعتاد أيضا؛ فلا يخرج عن ذلك الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قتل فيهم وجرح. انظر: "لسان العرب" "ن ك ا".
2 انظر: "البداية والنهاية" "6/ 308-309".
3 ولا ينافيه ما يأتي في كتاب "المقاصد" من أن الشارع لم يقصد من التكليف بالشاق الإعنات فيه، بل ما يأتي في المسألتين السادسة والسابعة من النوع الثاني من المقاصد يوضح هذا المقام. "د".(35/197)
ص -506-…لا يقال: كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة؛ كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]1} الآية [البقرة: 184].
و"إن الله يحب أن تؤتى رخصه"2.
إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه.
لأنا نقول: حالة الاضطرار قد تبين أنه الذي يخاف معه فوت الروح3، وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات، وهو في نفسه عذر أيضا، وما سوى ذلك؛ فمحمول على تحقق المشقة4 التي يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية، بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق، وهو منتفٍ سمعا، وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل على دخوله تحت تلك النصوص، وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدم؛ فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه، وسبب ذلك -وهو روح هذا الدليل- هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاء واختبارا لإيمان المؤمنين، وتردد المترددين، حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة، ممن هو في شك، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت؛ لانخرمت الكليات كما تقدم، ولم يظهر لنا شيء من ذلك، ولم يتميز الخبيث من الطيب؛ فالابتلاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة.
2 مضى تخريجه في "ص480".
3 أي: أو العضو. "د".
4 تقدم أن ذلك فيما لم يحد فيها حد شرعي، كالسفر مثلا وجمع العشاءين بمزدلفة. "د".(35/198)
ص -507-…التكاليف واقع، ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة؛ فيبتلى المرء على قدر دينه، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [العنكبوت: 1-3].
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ثم قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] إلى آخرها.
فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها، ولم يخرجوا بها عن أصل ما حملوه إلى غيره، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة: 155] يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال، كما تقدم في أحوال التكليف، فإذا كان المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الاصطبار عليها، والتثبت فيها، حتى يجري التكليف على مجراه الأصلي؛ كان الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر.
والخامس:
أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق؛ كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة؛ كان حريا1 بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "حرى".(35/199)
ص -508-…بيان الأول أن "الخير عادة، والشر لجاجة"1، وهذا مشاهد محسوس، لا يحتاج إلى إقامة دليل، والمتعود لأمر يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره؛ كان خفيفا في نفسه أو شديدا، فإذا اعتاد الترخص؛ صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك؛ لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هذا المتوقع في أصول كلية، وفروع جزئية، كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز، وغير ذلك مما نبه عليه في أثناء الكتاب أو لم ينبه عليه.
وبيان الثاني ظاهر أيضا مما تقدم؛ فإنه ضده.
وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها؛ فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد، وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل, وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك؛ فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة، وليست كذلك إلا بمحض التوهم؛ ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوص أو سباع، إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالك، لأنه عده مقصرا؛ لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذي لا دليل عليه، بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء؛ فلا إعادة هنا، ولا يعد هذا مقصرا، ولو تتبع الإنسان الوهم؛ لرمى به في مهاوٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البقاء عليه والعودة إليه تمادٍ من صاحبه لأنه ممقوت بخلاف الخير، انظر: "لسان العرب" "ل ج ج"، وسيأتي "2/ 150" على أنه حديث، وهو في "مجمع الأمثال" للميداني "1/ 247/ رقم 1325" على أنه مثل.
وفي حاشية الأصل: "في القاموس: اللجاجة: الخصومة"، ثم ذكر آخر المادة أنه يقال في مواده لجاجة؛ أي: خفقا من الجوع.(35/200)
ص -509-…بعيدة، ولأبطل عليه أعمالا كثيرة، وهذا مطرد في العادات والعبادات1 وسائر التصرفات.
وقد تكون شديدة، ولكن الإنسان مطلوب بالصبر في ذات الله والعمل على مرضاته، وفي "الصحيح": "من يصبر يصبره الله"2، وجاء في آية الأنفال في وقوف الواحد للاثنين بعدما نسخ وقوفه للعشرة: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، قال بعض الصحابة لما نزلت: "نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد"3، هذا بمعنى الخبر، وهو موافق للحديث والآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل من يهاب المصاعب وتساور فكره الأوهام لا يرتفع شأنه في عمل الخير ولا يبعد شأوه في مجال الصلاح والتقوى، وكم من إنسان يقضي حياته الطويلة دون أن يقوم فيها بعمل ذي بال, ولا علة لوقوعه في هذا الخسران سوى تغلب الوهم وانحلال العزم عند ما يلاقي مشقة أو تتمثل أمامه المخاوف، وكذلك الجماعات لا تقع في خزي وخمول أو يضيع من يدها استقلالها إلا أن تلقى أمرها إلى رأي من أسلمه فساد النشأة وقلة التجارب إلى خور العزيمة، والانقياد إلى الأوهام. "خ".
2 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469، وكتاب الرقائق، باب الصبر عن محارم الله، 13/ 303/ رقم 6470"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: "ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "ومن يتصبر".(35/201)
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، 8/ 312/ رقم 4653"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف/ رقم 2646"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 1049"، وابن المبارك في "الجهاد" "237"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 76"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 40"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص157" عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}؛ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة؛ نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم".
لفظ البخاري.(35/202)
ص -510-…والسادس:
أن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه؛ كما تقرر في كتاب المقاصد من هذا الكتاب، وكثيرا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى، واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة؛ فالمتبع لهواه يشق عليه كل شيء، سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن؛ لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده، فإذا كان المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه، وتوجه إلى العمل بما كلف به؛ خف عليه، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه، ويحلو له مره، حتى يصير ضده ثقيلا عليه، بعدما كان الأمر بخلاف ذلك؛ فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض المكلف؛ فرب صعب يسهل لموافقة الغرض، وسهل يصعب لمخالفته.
فالشاق على الإطلاق في هذا المقام إنما هو1 ما لا يطيقه من حيث هو مكلف2؛ كان مطيقا له بحكم البشرية، أم لا، هذا لا كلام فيه, إنما الكلام في غيره مما هو إضافي، لا يقال فيه: [إنه]3 مشقة على الإطلاق، ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق، وإذا كان دائرا بين الأمرين، وأصل العزيمة حقيقي ثابت؛ فالرجوع إلى أصل العزيمة حق، والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه بحسب كل شخص، وبحسب كل عارض، فإذا لم يكن في ذلك بيان قطعي، وكان أعلى ذلك الظن الذي لا يخلو عن معارض؛ كان الوجه الرجوع إلى الأصل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "المقام وهو"، وفي "م": "المقام هو".
2 وهو الذي أشار إليه أول المسألة الخامسة بقوله: "أو شرعا كالصوم..." إلخ. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل و"ط".(35/203)
ص -511-…حتى يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق، ولا تكون حقا على الإطلاق؛ حتى تكون بحيث لا يستطيعها، فتلحق حينئذ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه، هذا إذا لم يأتِ دليل من خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا؛ كفطره عليه [الصلاة و] السلام1 في السفر2 حين أبى الناس من الفطر وقد شق الصوم عليهم؛ فهذا ونحوه أمر آخر يرجع إلى ما تقدم من الأقسام، وإنما الكلام في غيره.
فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى، والأخذ بها في محال الترخص أحرى.
فإن قيل: فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق3، أم ثَمَّ انقسام؟
فالجواب: أن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات؛ وهي:
المسألة السابعة:
فالمشقات4 التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين:
أحدهما:
أن تكون حقيقية، وهي5 معظم ما وقع فيه الترخص؛ كوجود المشقة المرضية والسفرية، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع.
والثاني:
أن تكون توهمية مجردة، بحيث لم يوجد السبب المرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 سيأتي نصه في التعليق على "ص523" وتخريجه هناك.
3 بقطع النظر عن قوله قبله: "وإنما الكلام في غيره؛ فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى"؛ فهو سؤال من يريد التثبت من الموضوع بأكمله، بالجواب المبني على التفصيلات التي يذكرها بعد ما ذكر تفاصيل كثيرة لم تنضبط بضابط مملوك باليد؛ فغرضه التمهيد لإعضاء هذا الضابط. "د".
4 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "في المشقات".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهو".(35/204)
ص -512-…لأجله، ولا وجدت حكمته1, وهي المشقة، وإن وجد منها شيء، لكن غير خارج عن مجاري العادات.
فأما الضرب الأول:
فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما، أو لا، فإن كان الأول؛ فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه؛ لأن الرخصة هنا حق لله، وإن كان الثاني -وهو أن يكون مظنونا- فالظنون تختلف، والأصل البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة، ومتى ضعف الظن قوي؛ كالظان2 أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه، ولكن؛ إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين، وهو أنه دخل في الصوم مثلا فلم يطق الإتمام، أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول إذ ليس عليه ما لا3 يقدر عليه، وإما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا لم يوجد السبب؛ فلا توجد حكمته، فما فائدة ذكره؟ وهو لم يدرج في التوهمية صورة وجوب السبب فعلا مع عدم وجود حكمته، أو وجودها غير خارجة عن مجاري العادات، بل قصرها على ما لم يتحقق فيه السبب، وهذا متعين، وإلا كل مثل السفر مع الترفه مما لا يصح فيه القصر والفطر أو مما يختلف فيه، وليس كذلك. "د".
2 المثال لقوة الظن وضعفه باعتبار الفرضين، وقوله: "دخل في الصوم مثلا، فلم يطق الإتمام، فلم يقدر؛ فقعد"، أي: إنه جرب نفسه في هذا المرض قبل هذا اليوم في الصوم، أو قبل هذه الصلاة في صلاة سابقة؛ فلم يطق, فصار لذلك عنده ظن قوي في الصلاة الحاضرة أو اليوم الحاضر بأنه لا يقدر، وليس الغرض أنه فعل ذلك في نفس هذا اليوم للصوم أو نفس هذه الصلاة فعجز؛ لأنه حينئذ يكون العجز محققا لا مظنونا؛ فيختل نظم كلامه، وهو ظاهر، فقوله: "فهذا هو الأول"؛ أي: حكمه حكمه، وقول: "إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه"؛ أي: ولو بظن قوي كمثاله. "د".(35/205)
3 سقطت من ناسخ الأصل، واستظهرها ثم قال: "وبه يستقيم الكلام"، وفي "ط": "عليه غير ما يقدر".(35/206)
ص -513-…أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ1 من الكثرة والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر، ومثله لا يقدر معه على الصيام ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة، من غير أن يجرب نفسه في شيء من ذلك؛ فهذا قد يلحق بما قبله، ولا يقوى قوته، أما لحوقه به؛ فمن جهة وجود السبب، وأما مفارقته له؛ فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد2 عنده؛ لأنه إنما يظهر عند التلبس بالعبادة، وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة، حتى يتبين له قدرته عليها أو3 عدم قدرته؛ فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة، إلى أن يظهر بعد ما يبتنى عليه.
وأما الضرب الثاني:
وهو أن تكون توهمية، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة؛ فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا، فإن كان الأول؛ فلا يخلو أن يوجد أو لا، فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها؛ ففيه خلاف، أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا في جواز الإقدام ابتداء؛ إذ لا يصح4 أن يبنى حكم على سبب لم يوجد بعد، بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه وإن وجد السبب وهو المقتضى للحكم؛ فكيف إذا لم يوجد نفس السبب؟ وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها؛ فيفطر قبل مجيئها، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم، وهذا كله أمر ضعيف جدا، وقد استدل بعض العلماء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مأخوذ أثره وما يترتب عليه من كثرة التجارب في هذا السبب الحاصل بالفعل، وتكون التجارب من غيره، أو من نفسه في زمن بعيد لا يقاس عليه، حتى يغاير ما قبله. "د".
2 أي: بمقتضى ظن قوي جاء له من تجربة في نفسه، وإنما عنده ظن بسبب كثرة التجارب في غيره، أو في نفسه لكن في زمن مضى بعيدا بحيث يحتمل تغير الحال. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "وعدم"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: فلا يجوز الإقدام عليه. "د".(35/207)
ص -514-…صحة هذا الاعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]؛ فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم1 بأن الغنائم ستباح لهم وهذا غير ما نحن فيه؛ لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية، وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي، بل هو أمر إلهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه، من قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة؛ فلا إشكال هنا.
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات، وهي مختلفة، وكذلك أهواء النفوس؛ فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها؛ فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة، فإن الصبر2 أولى ما لم يؤدِّ ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر؛ لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه، فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال، فإذًا ليست المشقة بحقيقية، والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة، فإذا لم توجد؛ كان الحكم غير لازم، إلا إذا قامت المظنة -وهي السبب3- مقام الحكمة؛ فحينئذ يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على أحد التفاسير في الآية، وعده في "روح المعاني" [10/ 34] تكلفا فراجعه. "د".
2 حتى مع المخلة الفادحة، هذا غير واضح، وسيأتي له في الفصل التالي أن الرخص المحبوبة ما ثبت الطلب فيه وهو ما فيه المشقة القادحة التي ينزل عليها مثل قوله, عليه الصلاة والسلام: "وليس من البر الصيام في السفر"؛ فكيف تكون مطلوبة والصبر على العزيمة أولى؟ "د".
3 أي: الذي وضعه الشارع كالسفر. "د".(35/208)
ص -515-…السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم؛ لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التي هي العلة على كمالها؛ فالأحرى البقاء مع الأصل، وأيضا؛ فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية, والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد، فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا.
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا؛ فإنها ضد الأولى؛ إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص؟ كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية [التوبة: 49]؛ لأن الجد بن قيس قال: ائذن لي في التخلف عن الغزو، ولا تفتني ببنات الأصفر؛ فإني لا أقدر على الصبر عنهن1، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الآية [التوبة: 81]، ثم بين العذر الصحيح في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات؛ فبين أهل الأعذار هنا، وهم الذين لا يطيقون الجهاد، وهم الزَّمْنى، والصبيان، والشيوخ، والمجانين، والعميان، ونحوهم، وكذلك من لم يجد نفقة أصلا, ولا وجد من يحمله وقال فيه: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}؟ [التوبة: 41] وقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية [التوبة: 39]؛ فما ظنك بمن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(35/209)
1 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 308" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "14/ 287-288" عن يزيد بن رومان والزهري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر وغيرهم به.
وهذه مقاطيع لا تثبت.(35/210)
ص -516-…عذره هوى نفسه؟!
نعم، وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم، على وجه لا يفضي إلى مفسدة، ولا يحصل بها المكلف على مشقة، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له؛ فلذلك شرع له ابتداء رخصة السَّلَم، والقِرَاض، والمساقاة، وغير ذلك مما هو توسعة عليه، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى1، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا وإليه سبيلا فلم يأته من بابه؛ كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانكفاف2 عنه؛ كالمولع بمعصية من المعاصي، فلا رخصة له ألبتة؛ لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة، فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها.
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، وإذا لم يوجد شرطها؛ فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة، إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب، وتارة تكون من باب الوجوب، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مبني على ما يقوله بعض الفقهاء من أن الأصل في هذه الأبواب المنع؛ ظنا منهم أن القرض والمساقاة من نوع الإجارة، وقد اختل منهما شرط صحتهما الذي هو العلم بالعوض والمعوض، وأن السلم من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده, الوارد في حقه النهي، وقد حقق ابن القيم نقلا عن أستاذه ابن تيمية أن القرض والمساقاة ليسا من الإجارة في شيء؛ إذ الإجارة ما يقصد منها العمل المعلوم المقدور على تسليمه, وأما القرض والمساقاة؛ فإنهما من قبيل المشاركة؛ هذا بماله، وهذا ببدنه، وكذلك السلم غير داخل في حديث نهي الإنسان عن بيع ما ليس عنده؛ إذ المراد من الحديث النهي عن بيع العين أو ما في الذمة مما لا يقدر على تسليمه. "خ".(35/211)
2 كذا في "ط", وفي غيره: "الانفكاك".(35/212)
ص -517-…فصل:
- ومن الفوائد في هذه الطريقة: الاحتياط في اجتناب الرخص في القسم المتكلم فيه، والحذر من الدخول فيه؛ فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خدع الشيطان، ومحاولات النفس، والذهاب في اتباع الهوى على غير مَهْيَع1، ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم، وهو أصل صحيح مليح, مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به، أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات، أو كان ابتدائيا كالمساقاة2 والقرض؛ لأنه حاجي، وما سوى ذلك؛ فاللَّجَأ إلى العزيمة.
- ومنها: أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها؛ فقوله, عليه الصلاة والسلام3: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه"4؛ فالرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها، فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"5، كان موافقا لقوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق مهيع: واضحة بينة. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
2 لا داعي لهذا؛ فإنه من الإطلاق الذي قال فيه: إنه "لا تفريع يترتب عليه وإنما ذكر لمعرفة أنه إطلاق شرعي لا غير". "د".
3 في "م": "عليه السلام".
4 مضى تخريجه في "ص480".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "6/ 308/ رقم 1864"- والبيهقي في "السنن" "4/ 242" من طريق آدم، وأبو داود في "الصوم، 2/ 796/ رقم 2407"، والدارمي في "الصوم، ص405"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق أبي الوليد، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" "رقم 1721" =(35/213)
ص -518-…تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].
بعدما قال في الأولى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].
وفي الثانية: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق؛ ليكون على بينة في المجاري الشرعيات، ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا المقام؛ تبين له ما ذكر أتم بيان، وبالله التوفيق، هذا تقرير وجه النظر في هذا الطرف.
فصل:
وقد يقال: إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه:
أحدها1:
أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا؛ فأصل الترخص قطعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -ومن طريقه البيهقي في "السنن" "4/ 242"- والنسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262"، وأحمد في "مسنده" "3/ 319" من طريق يحيى بن سعيد، وأيضا النسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262" من طريق خالد بن الحارث بدون القصة، والدارمي في "الصوم، ص405" عن هشام بن القاسم، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق روح بن عبادة، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 14"، وعنه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115"، والفريابي في "الصيام" "رقم 78، 79"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 254/ رقم 3017" عن غندر، كلهم عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد عن محمد بن عمرو عن جابر بن عبد الله مرفوعا.
وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة كما تراه مبسوطا عند الفريابي في "الصيام" "ص69-76".
1 هذا معارض للوجه الأول من الوجوه الستة التي أقامها على ترجيح العزيمة، وهذا الوجه لا يفيد ترجح الرخصة، إنما يفيد -كما قال- أن العزيمة ليست بأولى؛ لأن غلبة الظن في وجود سبب الرخصة لا تجامع القطع في العزيمة الذي كان مناط الترجيح في ذلك الوجه. "د".(35/214)
ص -519-…أيضا، فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية، فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع، فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار؛ فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية.
ولا يقال: إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن؛ لأنا نقول: إنما ذلك في باب تعارض الأدلة، بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص، أو المطلق مع المقيد؛ فلا، ومسألتنا من هذا الثاني لا من الأول؛ لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج، فإن كان الحرج؛ صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة.
وأيضا؛ فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق، كما إذا كان الأصل التحريم في الشيء، ثم طرأ سبب محلل ظني، فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد، وإن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره؛ فالعمل على مقتضى الظن صحيح، وإنما كان هذا لأن الأصل وإن كان قطعيا؛ فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن؛ إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا، بل مع الشك؛ فكذلك ما نحن فيه، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقي للقطع المتقدم حكما، وغلبات الظنون معتبرة؛ فلتكن معتبرة في الترخص.
والثاني1:
أن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للوجه الثاني في ترجيح العزيمة، وهو أيضا إنما يفيد أنه لا ترجح للعزيمة. "د".(35/215)
ص -520-…فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن يقدح فيما أمر به1 بالترخص، بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي؛ فهو معتبر في نفسه لأنه من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق، وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني؛ فهذا أولى2، وأيضا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني، دون أصل العموم وهو قطعي؛ فكذلك هنا، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته -كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب- فكذلك هنا، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها، وذلك فاسد؛ فكذلك ما أدى إليه.
والثالث3:
أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منه".
2 لأنه تخصيص قطعي بقطعي، فإن ورود الرخصة مقطوع به أيضا، وقوله: "وأيضا" يعني بعد تسليم أن النظر في الرخصة إلى سببها، وهو موضع اجتهاد وظن لا قطع؛ فإن التخصيص كله يرجع إليه، ولو كان بظني في مقابلة عموم قطعي، وقد راعى في هذا معارضة كل ما سبق في الوجه الثاني تفصيلا. "د".
3 وهذا معارض للثالث، وهو أن الأدلة جاءت بالوقوف عند حد الأمر والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره وإن انتهض موجب العزيمة، أي: إن هذا يعارضه الأدلة الدالة على التيسير ورفع الحرج عن الأمة والامتنان به عليها، وهذا أيضا إنما يفيد أن العزيمة ليست بأولى كأصل دعواه، ثم أضرب عنه في آخر الدليل بما يقتضي ترجح الرخصة، ويكون فيه المدعى وزيادة. "د".(35/216)
وانظر في تفصيل ما ذكره المصنف هنا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 622".(35/217)
ص -521-…{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وقد سمي هذا الدين "الحنيفية السمحة"1 لما فيها من التسهيل والتيسير، وأيضا قد تقدم في المسائل2 قبل هذا أدلة إباحة الرخص، وكلها وأمثالها جارية هنا، والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل.
ولا يقال: إن المشقة إذا كانت قطعية؛ فهي المعتبرة دون الظنية.
فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم، وإنما يقع الفرق في التعارض، ولا تعارض في اعتبارهما معا ههنا، وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى، بل قد يقال: الأولى الأخذ بالرخصة؛ لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا؛ فإن العبادة المأمور بها واقعة لكن على مقتضى الرخصة، لا أنها ساقطة رأسا بخلاف العزيمة؛ فإنها تضمنت حق الله مجردا، والله تعالى غني عن العالمين، وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة؛ فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها.
والرابع3:
أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق؛ فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده، بخلاف الطرف الآخر؛ فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في "مسند أحمد" "6/ 116، 233" من حديث عائشة مرفوعا بسند حسن، قاله ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43"، وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدي الساري" "120"، وقد خرجتها في تعليقي على "الجواب الذي انضبط..." للسخاوي "44/ 46"، وانظر تعليقي عليه "2/ 122".
2 في الأصل: "المسألة".
3 معارض للوجه الرابع، وقوله: "بخلاف الطرف الآخر" يقتضي ترجيح الرخصة؛ ففيه المدعى وزيادة. "د".(35/218)
ص -522-…مظنة التشديد، والتكلف، والتعمق المنهي عنه في الآيات [والأحاديث]1؛ كقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وفي التزام المشاق تكليف2 وعسر، وفيها3 روي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وفي الحديث: "هلك المتنطعون"5.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل وقال: "من رغب عن سنتي؛ فليس مني"6 بسبب من عزم على صيام النهار، وقيام الليل، واعتزال النساء، إلى أنواع [من] الشدة التي كانت في الأمم؛ فخففها الله عليهم بقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 و3 سياق الأصل و"ط": "تكلف وعسر، وفيما روي".
4 مضى تخريجه "ص45"، وإسناده صحيح.
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 9/ 104/ رقم 5036"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1020/ 1401" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، 9/ 94/ رقم 5052" دون لفظة: "من رغب..."، وهي ثابتة من طريق سند البخاري؛ كما عند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 97".(35/219)
ص -523-…وقد ترخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الترخص خاليا1 وبمرأى من الناس؛ كالقصر والفطر في السفر2، والصلاة جالسا حين جُحِشَ شِقُّه3، وكان -حين بَدَّنَ4- يصلي بالليل في بيته قاعدا، حتى إذا أراد أن يركع؛ قام فقرأ شيئا ثم ركع5، وجرى أصحابه -رضي الله عنهم- ذلك المجرى من غير عَتْب ولا لوم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما ذكره؛ لأنه لو كان ترخصه بمرأى من الناس فقط لقيل: إن ذلك للتشريع؛ فلا يقوم حجة على أن العزيمة لا تفضل الرخصة. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 480/ رقم 690" عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، 8/ 3/ رقم 4275"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، 2/ 784/ رقم 1113" عن ابن عباس؛ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان؛ فصام حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 689، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 3/ 584/ رقم 1114"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 308/ رقم 411" من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسا فصرع عنه، فجحش شقه، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد؛ فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به... وإذا صلى جالسا, فصلوا جلوسا أجمعون".(35/220)
4 يقال: بَدَّنَ الرجل؛ بفتح الدال مشددة؛ إذا أسن، وتوضحها رواية في البخاري: "حتى أسن"، وفي رواية أخرى: "حتى إذا كبر" "خ".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا صلى قاعدا ثم صح، 2/ 589/ رقم 1118, 1119، وكتاب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره، 3/ 33/ رقم 1148"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا، 1/ 505/ رقم 731، 732" من حديث عائشة، رضي الله عنها.(35/221)
ص -524-…كما قال: "ولا يعيب بعضنا على بعض"، والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
والخامس1:
أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير، والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة، وكراهية العمل، وترك الدوام، وذلك مدلول عليه في الشريعة بأدلة كثيرة؛ فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب [به] أو قيل له فيه؛ كره ذلك وملَّه، وربما عجز عنه في بعض الأوقات؛ فإنه قد يصبر أحيانا وفي بعض الأحوال، ولا يصبر في بعض، والتكليف دائم، فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق2، وسد عنه ما سوى ذلك؛ عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج، أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87].
قيل: إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس3؛ فسمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للخامس. "د".
2 أي: تحقيقا أو بظن قوي يلحق به، كما سبق في ضابط المسألة السابعة. "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب في تفسير سورة المائدة، 5/ 255-256/ رقم 3054"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 520/ رقم 12350"، والطبراني في "المعجم الكبير" "11/ 350/ رقم 11981"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1817"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "3/ ق 24/ أ"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص198"، جميعهم من طريق الضحاك بن مخلد عن عثمان بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس؛ =(35/222)
ص -525-…اعتداء لذلك.
وفي الحديث: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لن يمل حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم؛ فأنزل الله، وذكر الآية. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب"، ثم قال: "ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عثمان بن سعد، متكلم فيه من قبل حفظه، ومع ضعفه يكتب حديثه، وقد خولف كما قال الترمذي، وهذا البيان:
أخرج ابن جرير في "التفسير" "10/ 514، 515، 520-521/ رقم 12337، 12338، 12340، 12351" من طريق يزيد بن زريع وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، ثلاثتهم عن خالد الحذاء عن عكرمة؛ قال: كان أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء؛ فنزلت هذه الآية.
وإسناده صحيح؛ إلا أنه مرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 192", ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "رقم 12341" عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة وذكر نحوه، وإسناده صحيح وهو مرسل.
وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 771-ط المحققة"، وأبو داود في "مراسيله" "رقم 201" من طريقين عن خالد بن عبد الله عن حصين عن أبي مالك به.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 514/ رقم 12336" من طريق آخر عن حصين به، وإسناده صحيح، وهو مرسل، أبو مالك هو غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته، من الثالثة؛ كما في "التقريب" "5354".
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "3/ 139" لعبد بن حميد أيضا من مرسل أبي مالك.(35/223)
فلم يثبت في سبب النزول إلا المراسيل، نعم، ثبت في "صحيح البخاري" "رقم 4615، 5071، 5075"، و"صحيح مسلم" "رقم 1404" عن ابن مسعود؛ قال: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله الآية.(35/224)
ص -526-…تملوا"1، "وما خُيِّر عليه [الصلاة و] السلام بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"2، الحديث.
ونهى عن الوصال، فلما لم ينتهوا؛ واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخر الشهر لزدتكم"3 كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، والنسائي في "المجتبى" "4/ 151" من طريق معاذ بن هشام، وأحمد في "المسند" "6/ 128" من طريق عبد الوهاب، و"6/ 249" من طريق عبد الصمد، و"6/ 249-250"، وابن خزيمة في "صحيحه" "3/ 283/ رقم 2079" من طريق أبي عامر، والفريابي في "الصيام" "رقم 6" من طريق خالد بن الحارث، والطيالسي في "مسنده" "رقم 1475" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 210"- جميعهم عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به، وزادوا على المذكور:
"وأحب الصلاة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دُووم عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها"، هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم بعد المذكور: "وكان يقول: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة -النبي صلى الله عليه وسلم- 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126، وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزير والأدب، 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام، 4/ 1813/ رقم 2327" من حديث عائشة, رضي الله عنها. وما بين المعقوفتين سقط من "م".(35/225)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 205-206/ رقم 1965، وكتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب، 12/ 175-176/ رقم 6848، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 225/ رقم 7242، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275/ رقم 7299"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصل في الصوم، 2/ 774/ رقم 1103" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(35/226)
ص -527-…وقال: "لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"1، وقد قال [عبد الله بن] عمرو بن العاص حين كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله, صلى الله عليه وسلم2. وفي الحديث: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تنام الليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون"3 الحديث؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224-225/ رقم 7241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 775-776/ رقم 1104"، وأحمد في "المسند" "3/ 124، 253"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 82"، والفريابي في "الصيام" "28"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 282" من حديث أنس, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217-218/ رقم 1975"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813-814/ رقم 11159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من أهلي ومالي"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله, صلى الله عليه وسلم".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218".
قال ناسخ الأصل ما صورته: "الحولاء بالمد: اسمها، وتويت أبوها بتاءين فوقيتين مصغر، ابن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي من رهط خديجة, رضي الله عنها.(35/227)
وقوله عليه السلام: "لا تنام الليل" إنكار للفعل، وقد رواه مالك بلفظ: فكره ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانظره. ا. هـ.(35/228)
ص -528-…فأنكر فعلها كما ترى.
وحديث إمامة معاذ حين قال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "أفتَّان أنت يا معاذ؟"1، وقال رجل: والله يا رسول الله؛ إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: "إن منكم منفرين"2 الحديث.
وحديث الحبل المربوط بين ساريتين، [إذ] سأل عنه عليه [الصلاة و]3 السلام، قالوا: حبل لزينب، تصلي, فإذا كسلت أو فترت؛ أمسكت به. فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر؛ قعد"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول، 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 10/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري, رضي الله عنه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".(35/229)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 784"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 200/ رقم 1180 و1181" من حديث أنس, رضي الله عنه.(35/230)
ص -529-…وأشباه هذا كثير؛ فترك الرخصة من هذا القبيل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "ليس من البر الصيام1 في السفر"2، فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى، وإن سلم أنه ليس بأولى؛ فالعزيمة ليست بأولى3.
والسادس4:
أن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى، كما تبين في موضعه من هذا الكتاب؛ فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقا؛ فليس بمذموم، ومسألتنا من هذا؛ فإنه إذا نصب لنا الشرع سببا لرخصة، وغلب على الظن ذلك, فأعملنا مقتضاه وعلمنا بالرخصة؛ فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن5 اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء، فإن كانت غلبة الظن في العزائم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخذه هنا على عمومه ليصح دليلا هنا، وفيما سبق حمله على أن المراد منه ما كان فيه المشقة الفادحة؛ فكان بذلك مناسبا للطرفين "د".
2 مضى تخريجه "ص517".
3 سيقول في الوجه السادس: "ليس أحدهما بأولى من الآخر" بناء على هذا الوجه من المعارضة. "د".
4 هذا معارض لما سبق في السادس. "د".(35/231)
5 يعارض به ما تقدم له في الوجه الخامس من أدلة ترجيح العزيمة؛ إلا أنه صرح فيه بالوجهين المتعارضين، كأنه يقول: كما يلزمنا هذا يلزمكم مثله عند التشدد بالأخذ بالعزائم، بكل منهما يحدث بسببه ما ذكرتم؛ فما هو جوابكم فهو جوابنا، وأما قوله: "وليس أحدهما بأولى من الآخر"؛ فهو عين الدعوى فرعها على ما ذكره من الاشتراك في الإلزام، وكذا قوله: "والمتبع... إلخ"؛ فلم يبق إلا دعوى مخالفة الإجماع في التفريق بينهما؛ فأين هذا الإجماع؟ وعلى فرض وجوده ما فائدة هذه المباحث، وهل تعد حينئذ من مُلَح العلم أم تنزل عن ذلك؟ "د".(35/232)
ص -530-…معتبرة؛ فكذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن فرق بينهما؛ فقد خالف الإجماع، هذا تقرير هذا الطرف.
فصل:1
وينبني عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه2 بغلبة ظن أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع، وقد يستويان، وأما إذا لم يكن ثَمَّ غلبة ظن؛ فلا إشكال في منع الترخص.
[وأيضا]3؛ فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة على عمومها وإطلاقها، من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض، ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة، من غير اعتبار بالسبب الذي هو المظنة، وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التي هي السبب؛ كالسفر والمرض؛ فعلى هذا إذا كانت4 العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة؛ فالمحل محل اشتباه، وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط؛ فإنه ثابت معتبر حسبما هو مبين في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقابل الفصل الأول، يذكر فيه ما ينبني على أن أحدهما ليس بأولى من الآخر كما بين في ذلك ما ينبني على ترجح العزيمة. "د".
2 أي: الترخص، يعني: ولم توجد الحكمة. "د".
3 مقابل لقوله هناك: "ومنها أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها". "د".
وما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: فإذا كانت المظنة منضبطة كالسفر؛ فالأمر ظاهر، وإذا كانت غير منضبطة، والعلة التي هي المشقة غير منضبطة أيضا كالمرض؛ فالواجب الاحتياط على كلا الطريقين، فلا يدخل تحت النظرين السابقين، وهو ظاهر؛ لأنه لم يجعل هذا موضع النزاع في الأولوية، بل لم يدخله في أصل موضوع الرخصة في تقريراته السابقة. "د".(35/233)
ص -531-…فصل:
فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة، وذلك وضع إشكال في المسألة؛ فهل له مخلص أم لا؟
قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما:
أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد؛ فإنما أورد هنا استدلال كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفا على المجتهد، حتى يترجح له أحدهما مطلقا، أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب الأحوال.
والثاني:
أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب "المقاصد" في تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تُؤُمِّلَ الموضعان؛ ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله، وبالله التوفيق.
المسألة الثامنة:
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا؛ فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له؛ كان ممتثلا لأمر الشارع، آخذا بالحزم في أمره، وإن لم يفعل ذلك؛ وقع1 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال ذلك أن الشارع جعل للزوج أن ينفس كربته الشديدة من الزوجة بتطليقها واحدة؛ فيؤدبها بهذا الإزعاج الشديد، حتى إذا عرف توبتها وراجع نفسه في أن يتحملها أكثر مما كان حفظا لمصلحته أيضا؛ راجعها، فإذا اشتد كربه ثانيا؛ كان له أن يطلق أيضا لذلك، لكنه إذا خالف الطريق الشرعي فطلق ثلاثا ابتداء؛ فقد خالف ما رسمه له الشرع، وفقد المخرج من ورطته؛ فلا مخلص له منها، وسيأتي له أمثلة كثيرة. "د".(35/234)
ص -532-…محظورين:
أحدهما:
مخالفته لقصد الشارع، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح.
والثاني:
سد أبواب التيسير عليه، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها:
أن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد، وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد؛ شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج، بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات، حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا، ولولا أنها كذلك؛ لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الابتدائية، ومن نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل، فإذا كان كذلك؛ فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع؛ لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على القطع في الجملة، فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق؛ لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا، لا حالا ولا مآلا، لا على الجملة ولا على التفصيل؛ إذ لو كان كذلك؛ لكان مشروعا أيضا، والفرض أنه ليس بمشروع؛ فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له.
والثاني:
أن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع؛ فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه، والقصد إلى ذلك يمن وبركة، كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع؛ يكفيه في عدم حصول مقصوده شؤم قصده، ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا.(35/235)
ص -533-…خرَّج إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد؛ قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الجهد؛ فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "اذهب فاصبر"، وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين، فأفلت من أيديهم، فأتاه بغنيمة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره؛ فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "طيبة". فنزلت الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} الآية1 [الطلاق: 2].
وعن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال له: إن عمي طلق امرأته ثلاثا.
فقال: "إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا".
فقال: أرأيت إن أحلها له رجل؟ فقال: "من يخادع يخدعه الله"2.
وعن الربيع بن خثيم في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ قال: "من كل شيء ضاق على الناس"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 492"، والواحدي في "أسباب النزول" "464" من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله به، وإسناده واهٍ جدا، فيه عبيد بن كثير تركه الأزدي، وعباد بن يعقوب رافضي، أفاده الذهبي في "التخليص".
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 106-107"، وابن مردويه
في "تفسيره" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 52"- من طريق أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود به، وإسناده منقطع، وفيه بعض المجاهيل.
وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" "12/ 141/ أ" بسند ضعيف جدا أيضا فيه الكلبي متروك، وأبو صالح ضعيف؛ فالحديث ضعيف.
وانظر: "الكافي الشاف" "4/ 445- مع الكشاف"، و"زاد المسير" "8/ 290"، و"الدر المنثور" "6/ 232"، و"معالم التنزيل" "4/ 357"، و"الفتح السماوي" "3/ 1046".(35/236)
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 11"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 397/ رقم 11352"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1065"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 181"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص48"، ولفظ: "فأبده" بدل من "فأندمه".
3 نقله عن الربيع, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291-292".(35/237)
ص -534-…وعن ابن عباس: من يتق الله؛ ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة1.
وقيل: من يتق الحرام2 والمعصية؛ يجعل له مخرجا إلى الحلال.
وخرج الطحاوي عن أبي موسى؛ قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل أعطى ماله سفيها؛ وقد قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5]، ورجل داين بدين ولم يُشهِد، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها"3، ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره أيضا عن ابن عباس, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291".
وقال ابن الجوزي عقبه: "والصحيح أن هذا عامّ؛ فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه، ومن لا يتقي يقع في كل شدة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "الله والمعصية".
3 أخرجه ابن شاذان في "المشيخة الصغرى" "ق 57/ أ" -كما في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805"- وابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 344"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 302", والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 146" من طريق المثنى بن معاذ العنبري عن أبيه، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب" "رقم 29" من طريق داود بن إبراهيم الواسطي، والطحاوي في "المشكل" "3/ 216"، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى المُكْتِب" "ص93" من طريق عمرو بن حكام، وأبو نعيم من طريق عثمان بن عمر، أربعتهم عن شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا.
قال أبو نعيم عقبه: "ورواه غندر وروح موقوفا"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى".(35/238)
ورجح شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805" رواية الرفع، وقال: "وقد وجدت له طريقا أخرى عن الشعبي، رواه ابن عساكر، 8/ 182/ 1-2, عن إسحاق بن وهب -وهو بخاري- عن الصلت بن بهرام عن الشعبي به"، قال: "لكن إسحاق هذا ذكره الخليلي في "الإرشاد" وقال: "يروى عنه ما يعرف وينكر، ونسخ رواها ضعفاء"" ا. هـ.
قلت: عمرو بن الحكام ضعيف، وهو ممن رفعه، والآخرون موثقون، ومن وقفه أثبت في شعبة ممن رفعه، ولا سيما أن منهم غندرا ويحيى بن سعيد -كما عند ابن أبي شيبة- وروح، والله أعلم.
قال "خ" هنا: "وهو على تقدير ثبوته محمول على الدعاء على الثلاثة الملوح إليهم في الحديث؛ لأنه هو الذي ابتلى نفسه بمعاشرة تلك الزوجة، وقصر في عدم الإشهاد على المدين، وألقى بماله في ذمة خربة".(35/239)
ص -535-…لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها، وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه؛ كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره، ولم يجب دعاؤه؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه.
والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى، وقد روي عن ابن عباس، أنه سُئِل عن رجل طلق امرأته ثلاثا؛ فتلا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...} حتى بلغ: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1-2]، وأنت لم تتق الله، فلا1 أجد لك مخرجا2.
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود؛ فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. فقال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها قد بانت مني. فقال ابن مسعود: صدقوا، من طلق كما أمره الله؛ فقد بين الله له، ومن لبس3 على نفسه لبسا؛ جعلنا لبسه به، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "لم".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 396/ رقم 11346"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1064"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 337".
3 أي: خلط.
4 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 605/ رقم 1570- رواية أبي مصعب، و2/ 550/ رقم 2- رواية يحيى" بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود "وذكره".
ووصله عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 394-395/ رقم 11342"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 14"، وإسحاق بن راهوية -كما في "المطالب العالية"- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 335"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 172".(35/240)
ص -536-…وتأمل حكاية أبي يزيد البسطامي1 حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه شهوة النساء، ثم تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، فأمسك عنه2؛ فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر.
والثالث:
أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه، وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدي طريق المخرج؛ فكان قاصدا لضد ما طلب، من حيث صد عن سبيله، ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود؛ فهو إذًا طالب لعدم المخرج، وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الاستهزاء والمكر والخداع؛ كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمه طيفور بن عيسى، شيخ الصوفية، له نبأ عجيب وحال غريب، وهو من كبار مشايخ "الرسالة"، وما أحلى قوله: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنهي، وحفظ حدود الشريعة".
وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياء الشأن في صحتها عنه؛ منها: "سبحاني"، "وما في الجبة إلا الله"، "أما النار لأستندن إليها غدا، وأقول: اجعلني لأهلها فداء، أو لأبلغنها"، "ما الجنة إلا لعبة صبيان"، ومن الناس من يصحح هذا عنه، ويقول: قاله في حال سكره، ونتبرأ إلى الله من كل من تعمد مخالفة الكتاب والسنة، ومات أبو يزيد سنة إحدى وستين ومائتين، قاله الذهبي في "الميزان" "2/ 346-347".
وانظر لزاما: "البدر الطالع" للشوكاني "2/ 37 وما بعدها".(35/241)
2 كذلك يلزم الصوفي أن يزن خواطره وأعماله بميزان الشريعة؛ كما قال أبو سليمان الداراني: "تعرض علي النكتة من نكت القوم؛ فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة"، وقال الإمام الجنيد: "مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث؛ لا يقتدى به في طريقنا هذا"؛ فإلى أي كتاب أم آية سنة يستند بعض الخارجين في مظاهر الصوفية حيث يوالون من حاد الله ورسوله، ويحثون أتباعهم الذين انخدعوا لهم بالله أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الباطل بعد أن اشتراها الله لتبذل في سبيل طاعته ورضوانه؟! "خ".(35/242)
ص -537-…وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ1 إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهِ} [الطلاق: 1].
وقوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ2 أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى، وجميعه محقق، كما تقدم من أن المتعدي على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك المصلحة، وهو المطلوب.
والرابع: أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف والياء مضمومة، وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء بغير ألف. انظر: "السبعة" "141"، و"التذكرة" "2/ 248".(35/243)
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "فسنؤتيه" بالنون وروى أبان عن عاصم بالنون، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {فَسَيُؤْتِيهِ} بالياء، وروى عبيد عن هارون عن أبي عمرو: بالنون، وعن عبيد أيضا بالياء، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "603". وانظر: "التذكرة في القراءات الثمان" "2/ 560"، و"إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر" "2/ 482".(35/244)
ص -538-…فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه، وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته، ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه، أو طلبه في غير موضعه؛ فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص، وقد تقدم منه في أثناء الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة، ومنها ما فيه ترخيص، وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى.
وأيضا؛ فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ولا يكون في الشرع كذلك؛ فربما ترخص بغير سبب شرعي، ولهذا الأصل فوائد كثير في الفقهيات؛ كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود، وغيرها من مسائل الحيل، وما كان نحوها.
المسألة التاسعة:
سباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولا مقصودة الرفع1 لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية؛ فهي إما موانع للتحريم أو التأثيم2، وإما أسباب3 لرفع الجناح أو إباحة4 ما ليس بمباح؛ فعلى كل تقدير إنما هي موانع5 لترتب أحكام العزائم مطلقا، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب؛ ففعله غير صحيح، ويجري فيه التفصيل المذكور في الشروط6 فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص، من غير فرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الزوال. "ماء".
2 في "ط": "فهي موانع إما للتحريم، وإما موانع للتأثيم".
3 تنويع في العبارة، لا أن هذين قسمان يقابلان سابقهما. "د".
4 أشمل مما قبله؛ إذ يدخل فيه الترخص في المندوبات. "د".
5 في الأصل: "موانع إما".
6في المسألة الثامنة منها. "د".(35/245)
ص -539-…المسألة العاشرة:
إذا فرعنا1 على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة؛ صارت العزيمة معها من الواجب المخير؛ إذ صار هذا المترخص يقال له: إن شئت فافعل العزيمة، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة، وما عمل منهما؛ فهو الذي واقع واجبا في حقه، على وزان خصال الكفارة؛ فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة.
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج؛ فليست الرخصة معها من ذلك الباب؛ لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير؛ ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب، وإذا كان كذلك؛ تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع، فإذا فعل العزيمة؛ لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق, لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة؛ فذلك بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة.
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان، إحداهما في نفس الأمر عادلة2، والأخرى غير عادلة2، فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو بسط ما أجمله في آخر المسألة الرابعة ووعد به هناك. "د".
2 في "ط ": "عدلة".(35/246)
ص -540-…وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإن حكم بأهل العدالة؛ أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين، وإن حكم بالأخرى؛ فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر، وله أجر في اجتهاده، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين، كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين1، فكما لا يقال في الحاكم: إنه مخير بين الحكم بالعدل والحكم بمن ليس بعدل؛ كذلك لا يقال هنا: إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة.
فإن قيل: كيف يقال: إن شرع الرخص بالقصد الثاني؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا2 بالقصد الأول؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وجاء بعد تقرير الرخصة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
قيل: كما يقال: إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني، مع قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
وأيضا3؛ فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه، مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المترخص".
2 أي: بقطع النظر عن خصوص محل الرخصة، ومعنى الجواب أنه لا يلزم من ورود الآية دالة على الحكم استقلالا أن يكون مقصودا بالقصد الأول؛ فقد جاءت الآية بفائدة النكاح استقلالا وهو السكن، ومع ذلك؛ فالقصد الأول النسل، فكذا هنا. "د".
3 عود إلى السؤال وترقّ عليه؛ أي: إنه لا يلزم من وجود رفع الحرج في الرخصة أن تكون مقصودة للشارع بالقصد الثاني لا بالأول، بدليل أنه ثبت رفع الحرج أيضا في بعض المسائل التي =(35/247)
ص -541-…كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة؛ فهو تيسير أيضا ورفع حرج.
وأيضا؛ فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات؛ فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة، وهو مقتضى قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات؛ فكذلك نقول في محال الرخص: إنها ليست بكليات، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة.
فإذًا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية، إن قصده الشارع بالرخصة؛ فمن جهة القصد الثاني، والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة:
إذا اعتبرنا العزائم من الرخص؛ وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد.
أما الأول:
فظاهر، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيها الرخصة والسهولة -في نفس أصل عزيمتها؛ كصيام أيام معدودات، ولم تكن شهورا مثلا- ففي أصل العزيمة هنا أيضا تيسير ورفع حرج، وهي مقصودة بالقصد الأول؛ فلا يلزم من حصول رفع الحرج في الرخصة أن تكون بالقصد الثاني، ثم ترقى عليه ثانيا قال: "وأيضا... إلخ"؛ أي: إن رفع الحرج موجود في سائر الكليات التي هي عزائم، ومحل الجواب عن الجميع قوله: "فإذا العزيمة... إلخ"؛ فهو يحسم الاعتراض الأول أيضا، وقوله: "ونحن نجد في بعض... إلخ" تمهيد للجواب, ولا يخفى أن كلا من هذين الترقيين تفصيل لما دخل تحت الإطلاق في أصل الإشكال؛ فالترقي من جهة تعيين مكان الاعتراض بعد إجماله. "د".(35/248)
ص -542-…وبالصيام في وقته المحدود له أولا، وبالطهارة المائية، على [حسب] ما جرت به العادة1: من الصحة، ووجود العقل2، والإقامة في الحضر، ووجود الماء، وما أشبه ذلك، وكذلك سائر العادات والعبادات؛ كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة، والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها، إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر، ولا إشكال فيه.
وأما الثاني:
فمعلوم أيضا من حيث علم الأول؛ فالمرض، والسفر، وعدم الماء أو الثوب أو المأكول، مرخص لترك ما أمر بفعله، أو فعل ما أمر بتركه، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر3 من المسائل، ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب "المقاصد" بحمد الله.
إلا أن انخراق العوائد على ضربين: عام، وخاص، فالعام ما تقدم، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها؛ فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة؛ كانقلاب الماء لبنا، والرمل سَويقا، والحجر ذهبا، وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض4؛ فيتناول المفعول له ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العادات".
2 غير ظاهر هنا لأن الكلام في أمور إذا وجدت كانت العزيمة، وإذا فقدت كانت الرخصة، وليس منها العقل؛ لأنه شرط مطلق التكليف، ولذلك لم يذكر مقابلة فيما بعد مع أنه ذكر مقابل غيره. "د".
3 في "ط": "فيما تقدم".(35/249)
4 أراد الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أن يضع بين الكرامة والمعجزة فاصلا، فقال: إن مبلغ الكرامة إجابة دعوة أو موافاة ماء من غير توقع المياه ونحو ذلك، وجرى على أثره الإمام القشيري؛ فقال: "لا تنتهي الكرامة إلى خلق ولد بغير والد أو قلب جماد حيوانا"، وارتضاه تاج الدين ابن السبكي، وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: إنه أعدل المذاهب، يعني: إنه ما بين مذهب المعتزلة المنكرين لها جملة ومذهب جمهور أهل السنة المجوزين لها بإطلاق؛ إلا ما دل النص على اختصاصه بالرسول لمعجزة القرآن. "خ".(35/250)
ص -543-…ويستعمله، فإن استعماله له رخصة لا عزيمة، والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها؛ كان الأمر فيها كذلك؛ إذ كان مخالفة هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع، إذ ليس من شأنه1 أن يترخص ابتداء، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر؛ فههنا أولى؛ لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية، وإنما وضعت لأمر آخر؛ فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها، وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى.
وأيضا؛ فقد ذكر في كتاب "المقاصد" أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة، بمعنى أنها عامة في كل مكلف، لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض، والحمد لله.
ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- لإظهار الخارق كرامة ومعجزة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس، وكذلك نقول: إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بل2 يكون بحسب القصد، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال، حسبما دل عليه الاستقراء، فأما إذا لم يكن هذا؛ فالشرط معتبر بلا إشكال، وليس بمختص بالعموم، بل هو في الخصوص أولى.
فإن قيل: الولي إذا انخرقت له العادة؛ فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة، فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساوٍ لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي: إنه في التناول مترخص، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "قصده".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بأن".(35/251)
ص -544-…إذ لا فرق بينهما، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا إيجابا، ولكن على غير ذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير بين الملك والعبودية؛ فاختار العبودية1، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة؛ فلم يختر ذلك2، وكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج هناد في "الزهد" "رقم 796" ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن الشعبي؛ قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "خيرني ربي -عز وجل- أن أكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فلم أدر ما أقول، وكان صفيي من الملائكة جبريل، فنظرت إليه؛ فقال بيده: أن تواضع؛ قال: فقلت: نبيا عبدا".
وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل؛ إلا أن أحمد أخرجه في "مسنده" "2/ 231"، وأبو يعلى في "مسنده" 10/ 491/ رقم 6105"، وابن حبان في "صحيحه" "14/ 280/ رقم 6365- الإحسان"، والبزار في "مسنده" "رقم 2462- زوائده" من طريق محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين, وصححه الهيثمي في "مجمع الزوائد" "9/ 18"، وله شواهد من حديث عائشة وابن عباس ومن مرسل الحسن والزهري وغيرهما.
انظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 1002"، و"فتح الباري" "9/ 541"، و"الإصابة" "4/ 516".
2 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه/ رقم 2348"، ونعيم بن حماد في "زياداته على الزهد" "رقم 196"، وأحمد في "المسند" "5/ 254", وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 381", وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 133"، والبغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار" "1/ 324/ رقم 427" من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رفعه:(35/252)
"عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا؛ فقلت: لا, ولكن أشبع يوما وأجوع يوما "أو قال ثلاثا: ونحو هذا"، فإذا جعت؛ تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت؛ حمدتك وشكرتك".
وإسناده ضعيف جدا، ابن زحر وعلي بن يزيد -وهو الألهاني- كلاهما ضعيف، قال ابن حبان في "المجروحين" في ترجمة الأول: "منكر الحديث جدا، يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم؛ فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على جميع الأحوال أولى".(35/253)
ص -545-…عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، فلو شاء [له]1 لدعا بما يحب فيكون، فلم يفعل، بل اختار الحمل على مجاري العادات: يجوع يوما فيتضرع إلى ربه، ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه؛ حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر، وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يرى أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين، وكفاية من أزمات الأوقات2، وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه3، ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله، فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية، والطلبات محضرة له؛ حتى قالت عائشة, رضي الله عنها: "ما أرى الله إلا يسارع في هواك"4، وكان -لما أعطاه الله من شرف المنزلة- متمكنا منها؛ فلم يعول إلا على مجاري العادات في الخلق، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق، ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء؛ لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م" و"خ" و"ط".
2 فالجاري على عادته حمل نفسه على مجاري العادات مع تيسر الخوارق له، كثيرا ما كانت تنخرق له العادات وتوافيه الكرامات، لكن ذلك في مواطن لمقصد مبرأ من حظ النفس، وهو تقوية اليقين عند أصحابه، وكفايتهم ضرر الأزمات الشديدة التي تحل بهم، كنبع الماء مثلا لما اشتد بهم الحال في الحديبية حتى لا يجمع عليهم الشدائد في هذه الأوقات المضنية. "د".
3 ورد ذلك في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وغيره وسيأتي لفظه وتخريجه عند المصنف "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب "تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ"، 8/ 524-525/ رقم 4788"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، 2/ 1085/ رقم 1464".(35/254)
ص -546-…حتما على الأولياء لأنهم الورثة في هذا النوع.
والثاني:
[إن]1 فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم التكاليف2 كلها، وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد؛ فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه لأنها آيات من آيات الله تعالى برزت على عموم العادات، حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة؛ كما قال إبراهيم, عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]، وكما قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر: "يرحم الله أخي موسى، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما"3، فإذا كانت هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.
2 في "د": "لازم التكليف"، وفي "م"، و"ط": "لازم التكاليف"، وفي الأصل: "لازم البلاء والتكاليف"، وما أثبتناه من "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم/ رقم 122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده/ رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء/ رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}/ رقم 4725، وباب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}/ رقم 4727، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل/ رقم 2380"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4707"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الكهف/ رقم 3249"، وأحمد في "المسند" "5/ 117"، والحميدي في "المسند" "رقم 371"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 199"، وابن حبان في "الصحيح" "6187"، من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.(35/255)
وأخرجه أحمد "5/ 119"، والبخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب إذا استأجر أجيرا على أن يقيم حائطا يريد أن ينقض/ رقم 2267، وكتاب الشروط، باب الشروط مع الناس في القول/ رقم 2728، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ =(35/256)
ص -547-…فائدتها؛ كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج؛ فهو في التناول والاستعمال بحكم الخيرة، فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد؛ صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة، وإن قبل الصدقة؛ فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها.
وأيضا؛ فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات، وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء، وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا، فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها؛ كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب، وتخفيف عنه؛ فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف [بالكسب وتخفيفا عنه]1 فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر، وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله، كما كانت النعم العادية الاكتسابية ابتلاء أيضا، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}/ رقم 4726" من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4705، 4706"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 38، 6188"، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "2/ 828"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 198 و199" من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به مختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى -عليه السلام- في البحر إلى الخضر/ رقم 74، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى, عليهما السلام/ رقم 3400" من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب به.(35/257)
1 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".(35/258)
ص -548-…الرخص، كما تبين1 وجهه، فهذا من ذلك القبيل؛ فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين! فلأجل هذا لم يستندوا إليها، ولم يعولوا عليها من هذه الجهة، بل قبلوها2 واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله، وتركوا منها ما سوى ذلك؛ إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة؛ تضمنت تكليفا3 وابتلاء.
وقد حكى القشيري من هذا المعنى:
فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان4 رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات5؛ قال: فحملت معي شيئا وطلبته، فلما وقعت عينه علي تبسم وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع. ثم قال: هات ما معك. فناولته وهالني أمره وهربت6.
وحكى عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة؛ فوجدها وقد التزق الشطان، فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق7.
وعن سعيد بن يحيى البصري؛ قال: أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل، فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل. فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصى من الأرض، ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت، فإذا هي والله في يده ذهب، فألقاها إلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المسألة الأولى. "د".
2 في "ط" زيادة "علما".
3 كما يؤخذ من كلام عبد الرحمن بن زيد الآتي: "لا خير في الدنيا إلا للآخرة..." فما حصل من التحفة يتضمن تكليفا جديدا في التصرف فيه واستعماله. "د".
4 في النسخ المطبوعة: "بفناء داره"، والتصويب من الأصل و"الرسالة القشيرية".
5 في "م" و"ط": "الخَرِبات"، وهو الجمع الصحيح لغة، وفي غيرهما: "الخرابات"، وكذا عند القشيري.
6 "الرسالة القشيرية" "ص163".
7 "الرسالة القشيرية" "ص164".(35/259)
ص -549-…وقال: أنفقها أنت؛ فلا خير في الدنيا إلا للآخرة1.
بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما يحكى2 عن أبي يزيد البسطامي، ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة, وواردة من جهة مجرد الإنعام؛ فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات؛ فكيف يتشوف إلى خارقة، ومن3 بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته مثلها، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد، وعدوا من ركن إليها مستدرجا، من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة.
حكى القشيري4 عن أبي العباس الشرفي؛ قال: "كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية؛ فقال له بعض أصحابنا5: أنا عطشان. فضرب برجله الأرض، فإذا عين ماء زلال؛ فقال الفتى: أحب أن أشربه بقدح6. فضرب بيده إلى الأرض؛ فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة؛ فقال لي أبو تراب يوما: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها. فقال: من لا يؤمن بها فقد كفر7، إنما سألتك من طريق الأحوال. فقلت: ما أعرف لهم قولا فيه. فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الرسالة القشيرية" "ص170".
2 "الرسالة القشيرية" "ص164".
3 في "ط": "وما".
4 في "الرسالة" "ص169".
5 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "أصحابه".
6 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "في قدح".
7 لا يصح حمل الكفر على حقيقته؛ لأن المنكرين لخرق العادة على وجه الكرامة؛ كالمعتزلة، والإمام أبي إسحاق، والقشيري، والحليمي؛ هم من فرق الإسلام بإجماع. "خ".(35/260)
ص -550-…بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق، وليس الأمر كذلك، إنما الخدع في حال السكون إليها، فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها؛ فتلك مرتبة الربانيين".
وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في حكم العزيمة؛ فليتفطن لهذا المعنى فيها؛ فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل: منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد، ولا تعد من المقامات، ولا هي معدودة في النهايات، ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية، والانتصاب للإفادة، كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية، ولا هي دليل على بلوغ النهاية، والله أعلم.
تم الجزء الأول(35/261)
ص -551-…الاستدراكات:
* "استدراك1":
ذكره عنه ابن كثير في "تفسيره" "1/ 212، البقرة: 173" وقال: "وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، قال أبو الحسن الطبري المعروف بـ"إلكيا الهراسي" رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك".
* "استدراك2":
كذا في "ط" و"الناسخ والمنسوخ" "1/ 171" لابن العربي، وفي سائر النسخ: "رجاء الأبدية".
* "استدراك3":
قلت: أخرج سبب النزول المذكور البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} 8/ 186/ رقم 4519"، وأبو داود في "السنن" "2/ 75"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 277"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 273"، وغيرهم عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
* "استدراك4":
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع(35/262)
ص -552-…رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم -الضمن: الزمن المبتلى- ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم. فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}، رواه البزار في "مسنده" -كما في "كشف الأستار" "رقم 2241"- ورجاله رجال الصحيح -كما في "المجمع" "7/ 83"- وقال السيوطي في "لباب النقول": "سنده صحيح"، وقال ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" "2/ 97/ رقم 1490": "صحيح".(35/263)
ص -553-…فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
مقدمة المحقق
خطبة الحاجة 5
التعريف بكتاب الموافقات 8
المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه 12
السبب في عدم تداول الكتاب 16
مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب 19
مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب 24
الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة 31
المحور الأول: مختصراته 33
الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه 36
الرد على "المجددين"! المعاصرين والعقلانيين وبيان افتراءاتهم على الشاطبي "ت" 42
المحور الثالث: طبعات الكتاب 57
تقويم الطبعات التي وقفت عليها 58
تحقيق اسم الكتاب 64
الأصول المعتمدة في التحقيق 65
عملي في التحقيق 74
ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية 76
ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز 78(35/264)
ص -554-…الخلاصة 80
ومن عملي في التحقيق أيضا 81
مقارنة بين مدرسة ابن تيمية والشاطبي "ت" 81
مسألة... هل اجتمع الشاطبي بابن القيم أو شيخه ابن تيمية؟ 82
ومن عملي في التحقيق أيضا 84
الخاتمة 85
نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق 86
الموافقات
المقدمة 3
حال الناس قبل بعثة النبي, صلى الله عليه وسلم 3
أهل الفترات 4
الإجماع وعقيدة ختم النبوة 4
الإجماع والقطع وموانع حصول القطع 4
بعثة الأنبياء بلغة أقوامهم 4
من فضائل النبي, صلى الله عليه وسلم 5
الأمانة التي حملها الإنسان 5-6
الأنبياء بعثوا لهداية الناس 6
القرآن مدعو به، مدعو إليه 6
تفاضل العلوم/ أفضل العلوم 7
الصحابة الأعلم بالأصول والمقاصد 7
تخريج حديث: "أنا النذير العريان" 7
مدح المؤلف كتابه 8
استقراء المؤلف للأصول الكلية للشرع 9
أقسام كتاب الموافقات الخمسة 9
المقدمات العلمية, الأحكام, مقاصد الشرع, الأدلة الشرعية, أحكام الاجتهاد
والتقليد 10
تسمية الكتاب بقصة طريفة(35/265)
ص -555-…الحث على ترك التقليد والعادة وأمر المؤلف بالتفكر 11-13
تخريج حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 13
- القسم الأول: مقدمات المؤلف 15
المقدمة الأولى 17
أصول الفقه قطعية وهي:
الكليات المنصوصة في الأصلين والقوانين المستنبطة وهي الأدلة
إثبات ذلك بالاستقراء للأدلة الشرعية وإرجاع ذلك إلى الأصول العقلية 18
هل يوجد مخالفة حقيقية أو خلاف في أن أصول الفقه قطعية؟ 18
الفرق بين أصول الفقه، وعلم أصول الفقه 18
الاستقراء طريق إثبات شرعي 18-19
الأمر للوجوب 19
الظن في العقل وكليات الشريعة، وبالنسبة إلى الأشخاص 19
العادي مع العقلي والشرعي 19
حكم الفرع حكم الأصل 19
إثبات أن المبنى على القطعي 18
أولا: أنها ترجع إلى أصول عقلية أو شرعية أو عادية وهذا معروف بالاستقراء
ثانيا: الظن لا يقبل في العقليات ولا الكليات الشرعية 19
ثالثا: لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه جاز في أصول الدين 20
معاني الضروريات والحاجيات والتحسينيات 20
الأحكام التي تعد ظنية إذا كانت مبنية على أصل قطعي 21
الأصول عند الجويني 22
معنى حفظ الذكر 22-23
الأصول والفرع والظن 23
الرد على المصنف في مسألة قطعية الأصول 24
تعريف أصول الفقه والقاعدة والأصل والفقه والأصولي والدليل الإجمالي 24
المقدمة الثانية
المقدمات العلمية في الأصول قطعية، والتعقيب على المصنف فيها 25(35/266)
ص -556-…الوجوب والجواز والاستحالة من مباحث الأصول وقولهم الأمر للوجوب ليست من الأصول 25
المقدمة الثالثة 26
استعمال الأدلة العقلية في الأصول مرتبط مع الأدلة النقلية 27
أخبار الآحاد والتواتر المعنوي واللفظي 27
معنى القطع في دلالة الألفاظ 28
الظن في المقدمات والأدلة 28
استقراء الأدلة نوع من التواتر 28
دلالات الأخبار مبنية على مقدمات ظنية كنقل اللغات وآراء النحويين 28
الاستدلال على فرضية الصلاة باستقراء الأدلة أو بالإجماع مع اجتماع الأدلة 29-30
الضرورات الخمس 30-31
أسباب اختلاف الظن 31
التمثيل بالصلاة وقتل النفس على أنهما من الأصول لا من الفروع باستقراء الأدلة31
حكمة الزكاة والحكومات والجهاد والأطعمة المحرمة المضطر إليها 31-32
فصل
إلماحة المصالح المرسلة والاستحسان 32
تعريف المصالح المرسلة
جمع المصحف وترتيب الدواوين 32
بيع العرايا 33
تقديم الاستحسان على أصول وعمومات أخرى عند مالك والشافعي 33
فصل 33
حجية الإجماع ظنية أم قطعية؟ 35
المقدمة الرابعة
مسائل أصول الفقه لبناء فروع الفقه أو الآداب أو عونا عليها 37
علوم ليست من أصول الفقه بل هي مما يحتاج إليه فيه 37
ذكر أمثلة على ذلك 37(35/267)
ص -557-…القرآن عربي الأسلوب والخلاف في وجود كلمات أعجمية فيه 39
فصل: خطأ فهم النصوص بالعقل لا بطريقة الوضع 39-40
خصال الكفارة والواجب المخير 40
نقل عن حاشية المخطوط والتعقب عليه 40
الجمع بين الأختين 41
مدخل الوجوب والتحريم هل هو الشرع أم العقل؟ 40-41
مسائل الاعتقاد هل يبنى عليها عمل, ضمن أصول الفقه؟ 41
مسائل خصال الكفارة وإتلاف المحرمات والوطء نهار رمضان للكتابية من زوجها القادم من السفر ضمن أحكام تكليف الكفار بالفروع 41
المقدمة الخامسة 43
عمل الجوارح والقلب/ المسائل التي لا ينبني عليها عمل 43
المباح 43
النظر في آيات الله 43
السؤال عن الأهلة 43
إتيان البيوت من أبوابها 43-44
تخريج أحاديثها 44
سبب النزول الصحيح 44
السؤال عن الساعة 44
ذم الأسئلة 45
تخريج أحاديث أخرى في ذم الأسئلة 45
قصة بقرة بني إسرائيل 45
تخريج حديثها 45-46
تخريج حديث السؤال عن الحج أهو لكل عام 46
النهي عن قيل وقال 47
حديث جبريل في الإيمان والإسلام 47
الساعة وأماراتها 47
أعظم الناس جرما وتخريج حديثه 48(35/268)
ص -558-…سؤال عمر عن الأبّ 49
السؤال عن الروح 49
حديث: أن الصحابة ملوا ملة 50
حديث عمر مع صبيغ 51
تضعيف رفع القصة 51
حديث علي مع ابن الكواء 52
فصل عن الإمام مالك في ذم السؤال 53
ذم السؤال بالاستدلال منها أنها شغل عما يعني 53
الفائدة ما شهد لها الشرع بذلك 53
ومنها أن الشارع قد بين المصالح 53
فتنة العالم والمتعلم 53
منها أن هذا شأن الفلاسفة - وهو مذموم 54
فضل العلم 54
عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنى وخلاف بين اثنين من
مشايخ العصر 54
تعلم كل علم فرض كفاية 54
السحر والطلسمات 54
حكاية يهودي فسر آية 54
كتاب "كتب حذر منها العلماء" فيه تحذير من كتب السحر والشعوذة المنتشرة 55
الرد على من قال تعلم كل علم فرض كفاية 55
السلف لم يخوضوا في العلوم التي ليس تحتها عمل 55
قصة صبيغ 55
الدين الإسلامي أمته أمة أمية وهي العرب وهذه علوم ليست من علومها 56
تخريج حديث نحن أمة أمية 56
توضيح مناط فرض الكفاية في العلوم 56
تعلم العرب للعلوم 56
السحر وذمه 57
الرد على الفريق الأول بأنه من التكلف فهم ما لا يتوقف فهم المعنى عليه 57(35/269)
ص -559-…قصة عمر مع قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 57
معنى الأبّ 57
معنى التخوف في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} 58
تخريج الأثر وكذا عزو بيت الشعر إلى مصادره وتفسيره 58
أهمية الشعر في تفسير القرآن 58-59
قصة صبيغ 59
علم الهيئة 59
علم العدد 60
الهندسة والتعديل النجومي والمنطق والضروب 60
الخط بالرمل وتخريج حديثه مطولا 60
الطعن في حديث في "الصحيح" بأنه زيد فيما بعد 60-63
الرد على من ضعف الحديث وجمعهم في سياق واحد, مختصرا
التنبيه على خطأ عند الرافعي في متن الحديث 64
عد الذهبي الحديث من الأحاديث المتواترة 64
ذكر من هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخط 64
استدلالهم بآيات من القرآن على علومهم أفسد استدلال 65
بل لا بد من الفهم على لسان العرب 65
الاعتبار من علوم الفلاسفة 65
ما يتوقف عليه مطلوب أصول الفقه 66
المقدمة السادسة 67
1- في المعاني الإجمالية 68
نقض منطق الفلاسفة وإبطاله 67
2- في المعاني التفصيلية التي لا تليق بالجمهور 68
صعوبة تفسير كلام الفلاسفة عليهم وعلى العوام 68
يكفي في الإيمان التصديق 69
اهتمام العرب بالمعاني 70
وكذلك القرآن 71(35/270)
ص -560-…الأقيسة المركبة لا يفسر بها القرآن 71
تكليف ما لا يطاق 72
المقدمة السابعة 73
العلم الشرعي وسيلة التعبد لله تعالى 73
الدليل الأول: العلم هو ما فاد عملا
علوم مساعدة للعلوم الشرعية 73
الدليل الثاني: الشرع إنما جاء بالتعبد 74
التوحيد 74
التعقيب على تفسير قتادة وتخريجه 75
تخريج حديث مخالفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 76
تأثير الغزالي على الشاطبي 76
تخريج أحاديث السؤال عن العلم 77
مطابقة العلم العمل 77-82
ذكر أحاديث في العلم والعمل وتخريجها 77
العلم وسيلة للعمل في طاعة الله 83
هل يحصل علم وتكذيب؟ 84
المستشرقون كفار مع علمهم 84
فصل: 85
فضل العلم جملة 85
فوائد العلم 86
لذة العلم والقصد إلى العلم صحيح 86
تعلم العلم لغير الله غير صحيح 87
تخريج أحاديث في ذلك 87
المقدمة الثامنة 89
مراتب أهل العلم 89
الأولى: الطالبون في رتبة التقليد 89
الثانية: الواقفون على براهينه 89
الموازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة 90(35/271)
ص -561-…الثالثة: المجتهدون 90
الإيمان والحفظ عن المعاصي من فوائد العلم 90-91
تخريج حديث نزول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} 93
القلق والخوف من آثار العلم 93
الرسوخ في العلم 94
ذم علماء السوء 95
الرسوخ في العلم 95-96
عز الدين بن عبد السلام وجهاده 95
أسباب تخلف الحفظ من المعاصي 95-96
1- العناد 2- الفلتات في الغفلات 96
معنى الجهالة 96
3- أن لا يكون من الراسخين 97
حديث افتراق الأمة، تخريجه والتعقيب عليه 98
كثرة الفرق 98
ذم القياس 99
أحاديث رفع العلم وآثار في العمل به 100-103
الاقتصار على الصحيح 101
علماء السوء 103
كيف يصير العلم لله 103
فصل: 104
العلم والخشية 104-105
المقدمة التاسعة 107
صلب وملح العلم وتفسيرها 107
صلب العلم: الأصل المعتمد 107
إفادة العلم القطعي 107
خواص هذا العلم 108
1- العموم والاطراد 108(35/272)
ص -562-…2- الثبوت 109
3- كون العلم حاكما لا محكوما عليه 110
ملح العلم 110
هو ما تخلف عنه شرط من الخواص السابقة 110
أمثلة على تخلف الخواص 110
الأول: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه 111
الطهارة والصلاة والصيام 111
الثاني: التزام كيفيات في تحمل الأخبار والآثار مثل الأحاديث المسلسلة 112
تخريج حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن" 112
الثالث: استخراج الحديث من طرق كثيرة دون فائدة 113
قصة حمزة الكناني في ذلك 114
الرابع: الرؤيا فيما لا يرجع إلى بشارة أو نذارة 114
الخامس: المسائل التي ليس تحتها خلاف ينبني عليه عمل 115
ذكر مسائل في النحو من اللغة 115
السادس: الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية 116
السابع: تثبيت المعاني بأعمال الصالحين 116
معنى الصوفية وأصلها 116
الثامن: كلام أهل الولاية 117
التاسع: حمل بعض العلوم على بعض دون وجود ترابط بينهما مع ذكر قصة طريفة 116
قصة أخرى للكسائي مع أبي يوسف 118-119
وأخرى لابن البناء في تفسير: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 120
الثالث: ما ليس من صلب العلم ولا من ملحه ويرجع إلى أصله بالإبطال 120
عدة أهل الأهواء 121
الباطنية 121
كتب وعلوم حذر منها العلماء 121
فصل 123
اختلاط في صور القسمين 123(35/273)
ص -563-…تحديث الناس بما يفهمون 123
كلمة عظيمة في ذم التقليد 124
المقدمة العاشرة 125
مقاصد العقل والنقل والعقل تابع بأدلة: 125
الأول: أنه لا يكون متجاوزا حده 125
الثاني: أن العقل لا يحسن ولا يقبح - التحسين والتقبيح 125
التحسين والتقبيح: المذاهب فيه والقول الراجح 125-130
الثالث: أن لو كان كذلك جاز إبطال الشريعة بالعقل 131
العقل في الشرع 131
مناقشة هذا القول 131-132
رد على المناقشة 132
كيفية إثبات اللغات العربية ومعانيها 132
القياس والعقل 133
قضاء القاضي الغضبان وقياس غيره عليه 134-135
المقدمة الحادية عشرة 137
العلم المعتبر ما انبنى عليه عمل ودلت عليه الأدلة الشرعية 137
المقدمة الثانية عشرة 139
أخذ العلم عن أهله المتحققين فيه 139
طرق العلم 139
الأول: الفطرة 139
الثاني: التعلم 139
فصل 141
علامات العالم الذي يؤخذ عنه العلم 141
أولا: العمل بما علم 141
ثانيا: أن يكون أخذ العلم عن الشيوخ 142
ذكر أمثلة عن الصحابة وقصة الحديبية 142
قصة أبي جندل يوم الحديبية 143(35/274)
ص -564-…سير التابعين على سير الصحابة، وأن ذلك منهج أهل الحق ومخالفته منهج أهل الابتداع 144
ذم ابن حزم الظاهري لأنه بدون شيوخ 144
مدح الأئمة الأربعة 144
ثالثا: الاقتداء بأهل العلم قبله 144
مدح مالك 145
فصل 145
طرق أخذ العلم عن العلماء 145
أولا: المشافهة وفيها فوائد 145
خاصية جعلها الله بين المعلم والمتعلم 145
حديث موافقات عمر وفضله 146
قلة تأليف السابقين للكتب وسببه 147
ثانيا: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين بشرطين: 147
الأول: حصول الفهم 147
الثاني: تحري كتب المتقدمين 148
دليل ذلك: التجربة 148
سبب فساد الفقه المالكي عند المصنف: 148
الأول: بناء فروع فقهية على قواعد أصولية أُدخلت في المذهب 148
الثاني: إدخال جملة من مسائل الغزالي في مذهب مالك 148
الخبر 149
تفسير الملك العضوض 149
تخريج أحاديث وآثار في فضل المتقدمين 150
دلالة الأحاديث على نقص الدين والدنيا 153
المقدمة الثالثة عشرة 155
اطراد الأصول على مجاري العادات 155
أمثلة على فهم الأقوال 156
تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 156(35/275)
ص -565-…مناقشة الشيخ دراز للشيخ خضر حسين 156
تفسير آيات على هذا المنوال وتعقب الشيخ دراز عليه في آية:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} 157
أمثلة على مجاري الأسلوب 157
تحريم الخمر 158
أمثلة على مجاري الأفعال 159
مناقشات المصنف مع معاصريه 159
مسألة الخشوع في الصلاة وترك التفكير 160
ترك الحرام والخروج عن المال 160
الخروج عن الخلاف 161
الورع 161
نقل عزيز من حاشية المخطوط عن مناقشة المصنف لابن عرفة 162
التفريق بين اختلاف الأدلة واختلاف الأقوال 164
الخلاف غير المعتد به 164
الخلاف المعتد به 165
المتعة 165
الورع في تساوي الأدلة 165
تعسر الخروج من الخلاف بين المذاهب 165
القسم الثاني: كتاب الأحكام 167
كتاب الأحكام 169
أقسام الأحكام الشرعية 169
ما يرجع إلى خطاب التكليف 169
ما يرجع إلى خطاب الوضع 169
المسألة الأولى 171
المباح 171
استفادة المصنف من السابقين 171
المباح هل هو مطلوب الفعل أم الاجتناب وبداية المناقشة 171
المباح ليس مطلوب الاجتناب لأمور: 171(35/276)
ص -566-…أولا: المباح مخير فيه 172
ثانيا: المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أنه غير مطلوب الترك 172
ثالثا: استواء الفعل والترك شرعا 172
رابعا: إجماع المسلمين أن ناذر المباح لا يلزمه الوفاء 173
تخريج أحاديث في النذر 173
مناقشة المصنف كلام الإمام مالك 173
خامسا: أن تارك المباح لو كان مطيعا لكان أرفع درجة ممن فعله 174
الدرجات في الآخرة ومناقشة المصنف 174
سادسا: لزوم رفع المباح من الشريعة 175
سابعا: الترك فعل داخل تحت الاختيار 175
معارضة ما سبق بأمور: 176
أضرار المباح اشتغال عن الأهم 176
اشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات 176
الشرع جاء بذم الدنيا 176
تخريج أحاديث في ذم الدنيا 176
تعقب العراقي في تخريج حديث لم يظفر به 177
الأشبه أنه من قول الحسن 177
عودة أصولية إلى المباح ومناقشة المعارضة 178
الكلام في المباح "حيث هو متساوي الطرفين" 178
الوسائل والمقاصد 179
أقسام المباح من حيث هو وسيلة وباب الوسائل 179
المباح قد يكون فيه ترك حرام 180
شبهة أن المباح سبب في طول الحساب 180
مناقشة ذلك من أوجه 180
المباح له أركان ومقدمات وأنواع وشروط 181
الحقوق تتعلق بالتروك والأفعال 182
المباح من جملة المنن 182
الاحتجاج للمباح بترك السلف له 184(35/277)
ص -567-…هي حكايات أحوال 184
معارضة بمثلها 185
خريج الأحاديث في ذلك 185
مبادرة السابقين إلى الخيرات 187
ترك المباح لأمور خارجة عن كونه مباحا فقط 188
فعل عائشة في ترك الأموال 188
ترك المباح لتحصيل أخلاق معينة 188
ترك المباح مع الشبهة 190
ترك المباح لعدم النية 190
الانشغال بالتعبد لترك المباح 191
تركه خوف الإسراف 191
الزهد 192
فصل: المباح غير مطلوب الفعل أيضا 194
الاستدلال عليه 195
مذهب الكعبي وتصوير مأخذه 195
أولا: لزوم أن لا توجد الإباحة 195
ثانيا: وإلا ارتفعت الإباحة رأسا 196
ثالثا: الواجب ذلك في جميع الأحكام 196
قصد الشارع فعل بعض المباحات وترك بعضها 197
التمتع بالطيبات 197
التمتع بالنعم 198
قبول هدايا الله وصدقاته وتخريج أحاديثها 198
الرخصة والإباحة 200
المباح قد يكون فعله الراجح 200
الطلاق السني 200
اللهو المباح والباطل وتخريج الحديث 202
الإجابة على المناقشة 203(35/278)
ص -568-…الإجمالي: المباح هو المتساوي الطرفين 203
التفصيلي: المباح ضربان 203
أحدهما: خادم لأصل والثاني أن لا يكون 203
الثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا أو لا يكون خادما 204
الطلاق وذم الدنيا 204
اللهو المباح 205
الجهاد 205
المسألة الثانية 206
المباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ندبا أو وجوبا ومباحا بالجزء منهيا
عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع 206
القسم الأول كالتمتع بالطيبات 206
تخريج أحاديث في التوسعة 207
القسم الثاني: كالأكل والشرب ووطء الزوجات 208
القسم الثالث: التنزه في البساتين وغيرها 209
القسم الرابع: المباحات التي تقدح في العدالة "بشروط" 209
أمثلة على اللهو المنهي عنه والاحتراف بها 210
تخريج حديث: $"لا كبيرة مع الإصرار" 210
فصل: الفعل المندوب بالجزء واجبا بالكل 211
ذكر بعض الأمثلة على ذلك ومناقشة المؤلف فيها 211
فصل: الفعل المكروه بالجزء ممنوع بالكل 212
ذكر الأمثلة على الشطرنج والغناء 212
فصل: الواجب والفرض 213
قاتل العمد 213
ترك الصلوات والجمعات 213-214
الشهادة وترك الجمعات 214
المداومة على المعاصي 215
السرقة 216(35/279)
ص -569-…فصل: اختلاف أحكام الأفعال 216
أمثلة في المباح 216
أمثلة في المندوب 217
أمثلة في المكروه 218
تخريج حديث في قتل النمل 218
الواجب والمحرم وتساويهما 219
أمثلة في الحدود وأمور أخرى 219
حكم اتفاق الناس على ترك المندوب 220
فصل: الدليل على صحة تصوير الكلية والجزئية: 221
منها: تجريح من داوم على شيء... 221
منها: الشريعة وضعت على اعتبار المصالح 221
منها: التحذير من زلة العالم 222
المسألة الثالثة 223
اختلافات المباح 223
الأول: المخير بين الفعل والترك 223
الثاني: ما لا حرج فيه فهو أقسام 223
خادم لأمر مطلوب الفعل أو لمطلوب الترك أو المخير أو لخالٍ منها 224
أمثلة على ذلك 224
توضيحات لتلك الأمور في الحاشية 225
ما كان غير خادم لشيء 226
المسألة الرابعة 225
المباح إذا أطلق بمعنى لا حرج 227
المباح المطلوب الترك والتخيير 228
الرماية 229
قصة سلطنة بخارى في رفض الأسلحة الحديثة 229
الوجه الأول: أحد الإطلاقين صريح في رفع الحرج والإثم 230
إطلاقات ترفع الجناح مع الواجب ومع المندوب 230-231(35/280)
ص -570-…الوجه الثاني: لفظ التخيير مفهوم من قصد الشارع إلى تقرير الإذن 231
الوجه الثالث: ما لا حرج فيه غير مخير فيه على الإطلاق 231
المسألة الخامسة 233
وصف المباح هو بالنسبة للمكلف 233-234
المسألة السادسة 234
الأحكام الخمسة تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد 234
الدليل الأول: ما ثبت أن الأعمال بالنيات 234
الدليل الثاني: عدم اعتبار أفعال المجنون والنائم... 235
خطاب الوضع وخطاب التكليف 235
تخريج حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 236
الدليل الثالث: الإجماع على عدم تكليف ما لا يطاق 237
خطاب الوضع وخطاب التكليف 237
أحكام السكر 238
المسألة السابعة 239
المندوب باعتبار أعم خادم للواجب 239
فصل: المكروه باعتبار أعم خادم للحرام 240
المسألة الثامنة 240
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات والمندوبات 240
ذم إخراج العبادة عن وقتها 240
أولا: الوقت لمعنى قصده الشارع 240
ثانيا: يلزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من
الوقت المعين 241
إثبات أن حديث: "أول الوقت" واهٍ 241
أول الوقت عند مالك 242
قضاء الصوم 243
الحج على الفور 243
المسابقة إلى الخيرات 244
أوقات الصلاة أولها وآخرها 244(35/281)
ص -571-…فروض مطلوبة مرة في العمر 245
الكفارات والواجب المخير 245
الحج ماشيا والخطا إلى المساجد 246
تضعيف حديث الأوقات السابق 246
الرد على مذهب مالك في المسابقة 246
المسألة التاسعة 246
الحقوق الواجبة على المكلف ضربان 246
حقوق محدودة شرعا 246
حقوق غير محدودة 247
اللزوم والترتيب في الذمة 247
غير المحدودة لا تترتب في الذمة لأمور 247
أولا: لأنها مجهولة 247
فروض الكفايات 247
إطعام وكساء الفقراء بما يسد الحاجة 248
ثانيا: يؤدي ترتيبها في الذمة إلى ما لا يعقل 248
ثالثا: يترتب أن يكون في ذمة واحد غير معين وهو باطل 249
رابعا: يؤدي إلى العبث 249
الزكاة تؤدى ولو لم تظهر عين الحاجة 250
هل الجهل مانع من الترتب في الذمة 250
الجهل المانع من أصل التكليف 250
فصل: فروض العين والكفاية 252
المسألة العاشرة 253
مرتبة العفو عليها أدلة 253
أولا: أن الأحكام الخمسة تتعلق بأفعال المكلفين 253
ثانيا: النص على هذه المرتبة 253
أسئلة الصحابة للنبي, صلى الله عليه وسلم 254
ثالثا: ما يدل على المعنى بالجملة 255(35/282)
ص -572-…كراهية السؤال عن الأحكام لغير حاجة 256
كراهة كثرة السؤال 256
فصل: مواطن العفو في الشريعة 259
1- الخطأ والنسيان 259
2- الخطأ في الاجتهاد أصولا وفروعا والخلاف في هذه المسألة 259
3- الإكراه 260
4- الرخص؛ فيها رفع الجناح وسقوط الإثم 260
5- الترجيح بين الأدلة 260
6- مخالفة الدليل الذي لم يبلغ العالم 260
7- الترجيح بين الخطابين عند التزاحم 261
8- المسكوت عنه 261
فصل: استدلالات من منع مرتبة العفو 261
أولا: أن أفعال العباد داخلة تحت أحكام الشرع ولا زائد عليها 261
ثانيا: الحكم الشرعي له الاعتبار وغير الشرعي لا اعتبار به 261
ثالثا: أنه واقع ضمن مسألة هل تخلو بعض الوقائع عن حكم الله؟ 262
فصل: ضوابط ما يدخل تحت العفو 263
حصر أنواع النصوص: 363
أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض 263
الثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد 263
الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 263
النوع الأول: يدخل تحته العزيمة 263
الخطأ في الاجتهاد لمن ليس أهله 264
طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتخريج بعض الأحاديث في ذلك 264
المصنف يقلد غيره في تخريج الأحاديث والتنبيه على خطأ له في ذلك 265
قصة بني قريظة 266
قضاء القاضي وخطؤه في الاجتهاد 266
النوع الثاني: الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد 267(35/283)
ص -573-…جهالة تحريم الخمر 267
الرجوع إلى الحق 268
الخطأ والنسيان 268
التجاوز عن عثرات ذوي الهيئات ومناقشة المؤلف في إدخاله في العفو 269
تخريج حديث المسألة ومناقشة المصنف 269
درء الحدود بالشبهات 271
العفو الأخروي 271
مخالفة التأويل مع معرفة الدليل 272
قصة قدامة بن مظعون في شرب الخمر 272
المستحاضة والنفساء والصلاة 273
المسافر يقدم قبل الفجر 273
النوع الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 273
ترك الاستفصال مع وجود مظنته 274
طعام أهل الكتاب 274
مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع 275
تحريم الخمر 275
الربا 276
البيوع المحرمة وغيرها 276-277
الثالث: السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم, عليه السلام 277
أمثلة من أفعال العرب قبل الإسلام 277
النكاح والسفاح والحج والعمرة وأحكام أخرى كانت معروفة عند العرب 277
هل العفو حكم, أي: ينبني عليه حكم عملي؟ 277
المسألة الحادية عشرة 278
فرض الكفاية 278
أدلته: 278
أولا: القرآن 278
ثانيا: القواعد الشرعية 279(35/284)
ص -574-…الإمامة/ الولاية/ الخلافة 279
ثالثا: ما وقع من فتاوى العلماء 280
فرض الكفاية -كما مر- بخصوص الأهلية 280
النهي عن الإمارة 281
القصاص 281
طلب العلم 282
الإمامة 282-283
حكم الناس إقامة القادر 283
فصل: 284
تقديم في التعليم والتربية بكلام لا تجده عن فصحاء التربية ولسانها الآن 284
"ويمكن تسميته سبيل إنهاض الأمة"
المسألة الثانية عشرة 287
الإباحة للضرورة أو الحاجة وأقسامه 287
أولا: الاضطرار إلى فعل المباح، يلزم فيه الرجوع للأصل وترك العارض لأوجه: 287
منها: أن المباح صار واجب الفعل 287
ومنها: أن محال الاضطرار مغتفرة 288
ومنها: أنه يؤدي إلى رفع الإباحة 288
ثانيا: أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه الحرج بالترك 288
المسألة الثالثة عشرة 290
سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل 290
الاعتراض على المصنف في ترتيب المسألة 290
مفسدة فقد الأصل أعظم من غيره لأمور: 291
1- لأن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف 291
2- لأن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي 291
3- المكمل مقوٍّ لأصل المصلحة 291
عودة إلى المسألة السابقة 291
القسم الثالث: أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج 291(35/285)
ص -575-…البيوع الفاسدة والصحيحة والربا 292
الحيل والوسائل 292
العفو والإباحة 292
المتشابهات 293
الاحتياط للدين ثابت 294
القسم الثاني من قسمي الأحكام، وهو ما يرجع إلى خطاب الوضع، وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع والصحة والبطلان والعزائم والرخص 297
هذه خمسة أنواع عند المصنف 297
الآمدي خالف المصنف في أمور لا ثمرة تحتها 297
النوع الأول في الأسباب 298
المسألة الأولى 298
الأفعال الشرعية ضربان: 298
أحدهما: خارج عن مقدور المكلف 298
الثاني: ما يصح دخوله تحت مقدور المكلف 298
الأول قد يكون سببا وشرطا ومانعا 298
أمثلة على السبب 298
والشرط 298
والمانع 299
والثاني: له نظران: 299
أحدهما: ما يدخل تحت خطاب التكليف 299
ثانيهما: ما يدخل تحت خطاب الوضع: 300
إما سببا مثل النكاح سبب في حصول الإرث بين الزوجين 300
وإما شرطا: ككون النكاح شرطا في الطلاق 300
والمانع: كنكاح الأخت مانع من الأخرى 300
قد تجتمع هذه الثلاثة في أمر واحد لكن لا على حكم واحد 301
المسألة الثانية: 301
مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات؛ لأنها قد تكون غير داخلة تحت =(35/286)
ص -576-…= مقدور العبد كنفس الإزهاق 301
الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع 302
للمكلف تعاطي الأسباب والمسببات من فعل الله 302
أدلة ذلك وتمثيل ذلك بالرزق 302
تمثيل ذلك في الرزق بالزرع وطلب التوكل على الله 303
تخريج حديثين في التوكل 303-304
ذكر أدلة من القرآن على ذلك وتفسيرها بما يقتضي مقام السبب والمسبب 305
إثبات أن ذلك مقطوع به بالاستقراء 306
التكليف لا يتعلق إلا بمكتسب 306
شبهة ومناقشتها في مسألة الاستلزام في السبب والمسبب 306
الأسباب الممنوعة غير معتبرة شرعا 307
المسألة الثالثة: 308
لا يلزم في تعاطي الأسباب الالتفات إلى المسببات: 308
1- لأن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب "الله" 308
2- المطلوبات الشرعية قد يكون للنفس فيها حظ 308
الولاية الشرعية وعدم إعطائها لمن سألها 308
أخذ المال بإشراف نفس 309
3- عباد الأمة أخذوا بتخليص الأعمال من شوائب الحظوظ 310
قاعدة تقديم ما لا حظ من الأعمال على ما حظ فيه 310
الخلاصة: أن الالتفات إلى المسببات في الدخول إلى الأسباب ليس شرطا 311
أسباب مشروعة وغير مشروعة 311
المسألة الرابعة: 311
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات 311
الدليل: أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها 311
وآخر: أن الأحكام الشرعية شرعت لأجل المصالح ودرء المفاسد 311
الثالث: المسببات لو لم تقصد بالأسباب، لم يكن وضعها على أنها أسباب 312
المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب ومناقشة ذلك مع
ما مر 312(35/287)
ص -577-…المسألة الخامسة: 313
للمكلف ترك القصد إلى المسبب وله القصد أيضا 313
الشارع ينهى ويأمر لأجل المصالح 313
السبب غير فاعل بنفسه 314
مثل العدوى، وتخريج حديثها 314
حديث التوكل 314
ليس في الشرع دليل ناصّ على طلب القصد إلى المسبب 315
المراد بالتكليف: مطابقة قصد المكلف قصد الشارع 316
هذه شبهة ومناقشتها 316
فصل 317
للمكلف قصد المسبب 317
التمثيل بالرزق 317
قصد المسببات في العاديات لازم لظهور المصالح بخلاف العباديات 319
المجتهد وقصد المسببات 320
المقلد في ذلك 320
القضاء في الغضب وغيره 320
المسألة السادسة: 321
مراتب الالتفات إلى المسببات: 321
الأولى: أنه فاعل للمسبب وهو شرك 321
الثانية: الدخول على أن المسبب يكون عادة وهو موضع الكلام 322
الثالثة: الدخول على أن المسبب من الله 322
العدوى 323
فصل: مراتب ترك الالتفات إلى المسبب: 323
إحداها: الدخول من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم 323
وهذا ضربان: 323
ما وضع لابتلاء العقول وهو العالم كله 324
ما وضع لابتلاء النفوس وهو العالم كله أيضا 324(35/288)
ص -578-…أدلته من القرآن 24
الثانية: أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب 325
التوحيد والشرك 325
الثالثة: الدخول في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر
في غير ذلك 326
المسألة السابعة: 327
الدخول في السبب المنهي عنه وغير المنهي عنه ورفع التسبب 327
أمثلة على ذلك وتفصيلها 327
الأولى 327
الثانية 328
الثالثة 328
التوكل عند أهل التصوف والأخذ بالأسباب 328
الإيمان بالقدر 329
قصة في التوكل عند غلاء الأسعار 329
العمليات الانتحارية أم الاستشهادية؟ 330
أمثلة قريبة منه 331
الفتوى على حسب السائل والسؤال 332
صاحب اليقين والتوكل والأخذ بالأسباب وتفصيل ذلك 332
مرتبة الابتلاء 334
مرتبة أخرى 335
وأخرى 335
المسألة الثامنة: 335
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب 335
أدلة ذلك 336
الداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه 338
الثواب والعقاب على الفعل وعدمه 338
المسألة التاسعة: 339
ما بني على ما سبق وهو ثمرة البحث 339(35/289)
ص -579-…أحدها: متعاطي الأسباب على وجه صحيح ثم قصد أن لا يقع المسبب
فقد قصد محالا 339
الأسباب المشروعة وغير المشروعة 339
الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها 340
كل قصد ناقض ذلك فهو باطل 340
الإشكال على ذلك من وجهين والجواب عليه 341
رفض العبادة 343
الأسباب الشرعية ومسبباتها 344
النهي لا يدل على الفساد 345
البيوع الفاسدة عند مالك 346
فصل: فعله السبب عالما بأن المسبب ليس إليه زاد أعمال القلب كالإخلاص والتفويض والتوكل والصبر 346
الإخلاص 346
التفويض 347
الصبر والشكر 348
فصل: ومن الثمرات النصيحة للنفس والغير 348
في العاديات والعباديات 349
فصل: الطمأنينة 349-350
كفاية الهموم 351
الزهد 352
فصل: ومن الثمرات التوسط في الأمور 353
النصب والخوف والإشفاق من النبي -صلى الله عليه وسلم- على الناس 354
نفوذ القدر المحتوم 356
فصل: تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى 357
الصوفية لفظ مبتدع والتزكية لفظ شرعي 358
المسألة العاشرة: 359
اعتبار المسببات بالأسباب 359(35/290)
ص -580-…أنه إذا لم يلتزم الشرع فيها قد يقع فيها ما ليس في حسابه
من الشر مثل السنن السيئة 359
تزييف الدراهم والدنانير، ترويج العملة 361
كثرة الخطا إلى المساجد 361
قيام الساعة على الأمة 361
النعم شكرها وكفرها 362
عود إلى التسبب واستغفار الأرض للعالم 363
فصل: فائدة ارتفاع الإشكالات التي ترد 364
مثل: توسط الأرض المغصوبة ومناقشتها مناقشة مختلفة الأوجه 364
ومن تاب عن القتل بعد إطلاق وسيلة القتل 366
فصل: المسببات علامة على فساد أو صحتها الأعمال 366
تضمين الصناع 367
الأعمال الظاهرة دليل على الأعمال الباطنة 367
فصل: المسببات قد تكون عامة وقد تكون خاصة 368
ذكر أمثلة على الخاصة 368
وأمثلة عن العامة وهي سبب الفساد في الأرض 368
تخريج حديث الغلول 368
ازدياد الحرص على الخير 371
فصل: مواضع الالتفات إلى الأسباب والضابط فيها أن لا يمر على الأصل
بالفساد 371
الاستعداد للقتال والجهاد دفاعا عن الأمة 371
الضابط قسمان: 372
قسم بإطلاق وقسم على بعض المكلفين 372
وله تقسيم من جهة أخرى ما كان مظنونا به أو مقطوعا به 372
فصل: تعارض الأصلين على المجتهد 373
المسألة الحادية عشرة: 374
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح 374
مثال ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 374(35/291)
ص -581-…المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ناشئة عن أسباب أخرى
مناسبة لها 375
الاستدلال على ذلك وتوضيحه 375
القضاء والحكمة 376
اختلاف الاجتهاد والمجتهدين 377
الغصب وأمثلة أخرى 378
فصل: أحكام ترتبت على ذلك في مذهب مالك 379
الطلاق والسفر 379
بيع العينة 381
فصل: قد يكون للمسائل نظر من باب آخر 381
فصل: النظر إلى المسببات العادية 381
المسألة الثانية عشرة: 382
الأسباب شرعت لتحصيل المسببات "المصالح والمفاسد" 382
والمسببات ضربان 382
- ما شرعت الأسباب لها بقصد الشارع أو بقصد المكلف 382
- ما كان لغير ذلك 383
وهذه أقسام: 383
ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله, أمثلة على ذلك بالنكاح وغيره 383
الثاني: ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء فهو باطل 383
من أوجه بطلانه الثلاثة 384
نكاح المحلل وغيره 386
تعليق الطلاق على النكاح 386
أمثلة من مذهب مالك كنكاح من في نفسه أن يفارق 387
مناقشة ما سبق من وجهين: إجمالي وتفصيلي 389
المسألة الثالثة عشرة: 390
السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا 390
وهذا على ضربين: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو
لآخر خارجي 390
فالأول ينفي المشروعية 390(35/292)
ص -582-…وأدلة ذلك 391
والثاني: فيه خلاف على تأثيره على أصل المشروعية وأدلة المجيز 391
1- القضايا الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان 391
2- الحكمة تعتبر بمحلها أو بوجودها 392
التمثيل على ذلك بمشقة السفر والملك المترفه 392
مناقشة ذلك والرد والرد على الرد 392
3- اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط 393
مناقشة المسألة 394
أدلة المانع 394
1- قبول المحل ذهنا أو في الخارج 394
2- فيه نقض لقصد الشارع 395
3- غلبة الظن في ذلك 395
الملك المترفه والربا في الصدق 395
العلة في موضع الحكمة 396
فصل: 396
مسألة التعليق والجواب عنها 396
النكاح للبر في اليمين 396
اعتماد ذلك على أصلين 399
فصل: القسم الثالث: أن يقصد مسببا لا يظن أو يعلم أنه
مقصود الشارع وهو محل إشكال 400
المسألة الرابعة عشرة: 400
الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا وكذلك غير المشروعة 401
أمثلة على ذلك منها قتل الحر بالعبد 401
قد يكون ذلك يسبب مصلحة ليس ذلك سببا فيها 402
وقد يكون يفعل ذلك لقصد وهو على وجهين 402
- أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك 402
أمثلة على ذلك 403(35/293)
ص -583-…منها ميراث القاتل 403
وضمان المغصوب 403
والثاني: أن يقصد توابع السبب 405
قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود" 405
النوع الثاني في الشروط 405
المسألة الأولى: 405
معنى الشرط عند المصنف وعند ابن الحاجب 406
أمثلة ذلك 407
المسألة الثانية:
اصطلاح الكتاب في السبب والعلة والمانع وتعريفها 410
المسألة الثالثة:
الشروط ثلاثة أقسام: عقلية وعادية وشرعية 413
المسألة الرابعة:
الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف 413
أمثلة على ذلك 413
إشكال على ما سبق وذكر أمرين لرفعه 414
أولا: أن ما سبق هو من العقليات 414
ثانيا: أن العقل شرط مكمل لمحل التكليف 415
المسألة الخامسة:
السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه 415
في مذهب مالك وغيره: أن الحكم إذ حضر سببه وتوقف حصول مسببه
على شرط هل يصح وقوعه بدون شرط؟ 416
أمثلة على ذلك 416
المسألة السادسة:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين: 421
أحدهما: ما كان راجعا إلى خطاب التكليف 421
والثاني: ما كان راجعا إلى خطاب الوضع 421(35/294)
ص -584-…المسألة السابعة:
إذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو تركه من حيث هو فعل فلا يخلو أن يفعله أو يتركه وهو داخل تحت خطاب التكليف 422
أمثلة على ذلك مع تخريج أحاديثها 423
الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع في الصدقات 423
الخيار في البيع والمحلل في السباق 425
حديث بريرة في الولاء 427
بيوع منهي عنها 427
أمثلة أخرى مع تخريج أحاديثها 428
المصالح معتبرة في الأحكام 432
الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا 432
مناقشة للأدلة السابقة ومناقشة لبعض إشكالات لزومها 433
فصل: بطلان العمل السابق أو عدمه 435
أوجه تجاذب المسألة من ثلاثة أوجه 435
أحدها: مجرد انعقاد السبب كافٍ 436
الثاني: مجرد انعقاد السبب غير كافٍ 436
الثالث: أن يفرق بين حقوق الله وحقوق الآدميين 437
المسألة الثامنة: 438
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام: 438
أحدها: أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها 438
الثاني: أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته 439
الثالث: أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة 440
النوع الثالث: في الموانع 441
المسألة الأولى: 441
أنواع الموانع وتقسيماتها 441
أمثلة على هذا التقسيم 442(35/295)
ص -585-…المسألة الثانية 444
الموانع ليست بمقصودة للشارع ومعناه 444
وهي على ضربين 444
ضرب داخل تحت خطاب التكليف 444
الضرب الثاني -وهو المقصود- وهو الداخل تحت خطاب الوضع 445
المسألة الثالثة: 446
الموانع الداخلة تحت خطاب التكليف 446
تمثيله والأدلة عليه 446
الإرهاب 449
الحجر الصحي 450
النوع الرابع في الصحة والبطلان 451
المسألة الأولى: 451
في معنى الصحة وإطلاقاتها 451
المسألة الثانية: 452
في معنى البطلان وإطلاقاته 452
تخريج حديث عائشة وزيد بن أرقم في الربا 456
المسألة الثالثة: 459
البطلان في العادات وتقسيمه إلى أربعة تقسيمات: 459
1- أن يفعل من غير قصد 459
2- أن يفعل لقصد نيل غرض مجردا 459
3- أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا 460
4- أن يفعل مع استشعار الموافقة اختيارا 461
وفيه تفصيل 461
فصل: إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني 462
النوع الخامس: في العزائم والرخص 464
المسألة الأولى: 464
معنى العزيمة والتمثيل لها 464(35/296)
ص -586-…الرخصة ومعناها 466
فصل: إطلاق الرخصة وأمثلة ذلك 469
فصل: التخفيف عن الأمة 469
فصل: وما فيه توسعة على العباد مطلقا 472
عود إلى العزيمة 472
العزيمة وأصحاب الأحوال 473
فصل: ما سبق من إطلاقاتها قد يكون لبعض الناس وقد يكون للعامة 474
المسألة الثانية: 474
حكم الرخصة من حيث هي رخصة الإباحة مطلقا 474
أدلة ذلك: 474
1- النصوص الدالة على رفع الحرج وإسقاط الإثم 474
2- أن الرخصة أصلها التخفيف وتوضيح ذلك 477
3- أنها لو كانت مأمورا بها ندبا أو إيجابا كانت عزائم 477
مناقشة ذلك والاستدلال له 478
الرد على المناقشة 480
المسألة الثالثة: 484
الرخصة إضافية لا أصلية 484
1- سبب الرخصة هو المشقة 484
المشقة في العادة 484
2- قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل 485
3- ما يدل على هذا من الشرع 486
مناقشة الحرج في الشرع 487
المسألة الرابعة 490
الإباحة المنسوبة إلى الرخص بمعنى رفع الحرج لا التخيير 490
توضيح ذلك بالأمثلة 490
كلمة الكفر والإكراه 491
الإباحة بمعنى التخيير 493(35/297)
ص -587-…فوائد المسألة 493
المسألة الخامسة: 493
الترخص المشروع ضربان 493
أحدهما: أن يكون في مقابلة مشقة لا صابر عليها طبعا 493
الثاني: أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها 494
حق الله وحظوظ العباد 494
حظوظ العباد على ضربين 494
ما يختص بالطلب وما لا يختص 495
تنبيهان 495
المسألة السادسة: 496
التخيير بين العزيمة والرخصة 496
الترجيح بينهما 496-497
الأخذ بالعزيمة من طرف أولى لأمور: 497
أولا: لأن العزيمة هي الأصل الثابت 497
ثانيا: لأن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي 498
ثالثا: ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي 498
ذكر حال الصحابة في الأزمات وحين وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتداد العرب 499
الإكراه على كلمة الكفر 501
قصة أبي حمزة الخراساني ووقوعه في بئر 502
قصة الثلاثة الذين خلفوا 502
قصة عثمان بن مظعون ودخوله مكة بجوار 503
الصبر والابتلاء 503
سبب نزول {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...} 503
جيش أسامة 504
الوجه الرابع: العوارض الطارئة ونحوها من المشقات مما يقصده الشارع 504
الاضطرار وتحمل المشاق 506(35/298)
ص -588-…الخامس: أخذ الترخص بإطلاق ذريعة إلى الانحلال 506
الأخذ بالهوى 508
التيمم لخوف لصوص أو سباع 508
الصبر في ذات الله على المشاق الشديدة 509
السادس: مراسم الشريعة مضادة للهوى 510
الشاق على الإطلاق 510
الوقوف مع أصل العزيمة من الواجب أم المندوب؟ 510
إجابته تحتاج إلى تفصيل "أحوال المشقات" 510
المسألة السابعة 511
المشقات ضربان 511
أحدهما: حقيقية: وهو معظم ما يقع فيه الترخص 511
الثاني: توهمية مجردة 511
تفصيل الضرب الأول 512
تفصيل الضرب الثاني 513
الظنون والتقديرات غير المحققة داخلة في هذا الباب 514
أهواء النفس فهي ضد الضرب الأول 515
الاحتياط 516
فصل: الفوائد من هذه الطريقة 517
الاحتياط في اجتناب الرخص 517
فهم معنى الأدلة في رفع الحرج 517
فصل: ترجيح الرخص 518
أصل الترخص قطعي أيضا 518
أصل الرخصة وإن كان جزئيا مع العزيمة ولكن ذلك غير مؤثر 519
أدلة رفع الحرج عن الأمة قطعية 520
الرخصة المقصود منها الرفق بالمكلف 521
التزام المشاق تكليف وعسر 522
ترخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الرخص 523(35/299)
ص -589-…ترك الترخص قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير 524
تخريج أحاديث في ذلك 525
مراسم الشريعة جاءت لمصالح العباد 529
فصل: الأولوية في ترك الترخص 530
الحكم بين من قدم الترخص ومن قدم العزيمة ووجه كل فريق 530
فصل: الخلاص من الإشكال من وجهين 531
المسألة الثامنة: 531
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا، قصد أن يتحراه المكلف 531
مخالفة ذلك توقع في محظورين: 532
مخالفة قصد الشارع وسد أبواب التيسير عليه 532
بيان ذلك من أوجه 532
الأول والثاني 532
الاستدلال عليه 532-533
الثالث: طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه 536
الرابع: أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها 537
المسألة التاسعة: 538
أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل ولا الرفع 538
المسألة العاشرة: 539
إذا كانت الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة صارت العزيمة
معها من الواجب المخير 539
إذا كانت بمعنى رفع الحرج فالعزيمة على أصلها من الوجوب 539
مثل حكم الحاكم والعمل بالبينات 539
قاعدة رفع الحرج مطلقا 541
المسألة الحادية عشرة: 541
العزائم مطردة مع العادات الجارية 541
الرخص جارية عند انخراق العوائد 542
توضيح ذلك بالأمثلة 542(35/300)
ص -590-…الكرامات 543
اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- السير مع مجاري العادات 544
فائدة الخوارق 546
حال الأولياء مع الكرامات 547
تعذرهم منها 549
نهاية الجزء الأول 550(35/301)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الثاني
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(36/1)
ص -7-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم1
كتاب المقاصد2
والمقاصد التي ينظر فيها قسمان3:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست في الأصل، وأثبتناها من النسخ المطبوعة.
2 المقاصد: جمع مقصد، وهو الشيء الذي يقصد، موضعا كان أو غيره، والقصد: إتيان الشيء. قال صاحب "لسان العرب": "قال ابن جني: أصل "ق ص د" ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجيه، والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أم جور، هذا أصله في الحقيقة، وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى؛ فالاعتزام والتوجل شامل لهما" "ماء/ ص113".
قلت: احتل كتابنا هذا بجملته وهذا القسم منه على وجه الخصوص المكانة الأولى بين كتب المقاصد ومباحثها النادرة، وقد بذلت جهود متأخرة في هذا الموضوع؛ منها: "مقاصد الشريعة الإسلامية" ليوسف العالم، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي، وتعرض لها أيضا المؤلفون في المصالح، من مثل: مصطفى زيد في "المصلحة في التشريع الإسلامي"، ومصطفى شلبي في "تعليل الأحكام"، والبوطي في "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، وحسين حامد حسان في "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي".
3 وغيرهما لا ينظر فيه في الأزمان؛ أي: الدهور كلها. "ماء".(36/2)
ص -8-…والآخر يرجع إلى قصد المكلف.
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء1، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها؛ فهذه أربعة أنواع.
ولنقدم قبل الشروع في المطلوب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كأنه تفصيل له، وهذا القصد الأول هو أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين؛ فإن هذا في المرتبة الأولى بالنسبة إلى قصده في أفهامها، وأنها يراعى فيها معهود الأميين في عرفهم وأساليبهم مثلا، وكذا بالنسبة إلى قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وأن ذلك إنما يكون فيما يطيقه الإنسان من الأفعال المكسوبة، لا ما كان في مثل الغرائز كشهوة الطعام والشراب؛ فلا يطلب برفعها مثلا، وتفاصيل ما ينضبط به ما يصح أن يكون مقصودا للتكليف به وما لا يصح، وكذا بالنسبة إلى قصده دخول المكلف تحت أحكام التكليف من جهة عموم أحكامها واستدامة المكلف على العمل بها، وأنها كلية لا تخص بعضا دون بعض، وأن المعتبر في مصلحة العباد ما يكون على الحد الذي حده الشرع لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، وأنه لا يلزم من كون مصالح التكليف عائدة على العباد لا غير في العاجل والآجل أن يكون نيله لها خارجا عما رسمه الشرع له.
وهكذا من تفاصيل هذه الأنواع الثلاثة في مقاصد الشرع من وضع الشريعة؛ فإنها تعتبر في المرتبة الثانية بالنسبة للقصد في أصل وضعها، كما سيأتي له بسط ذلك كله على وجه لم يسبق إليه رحمه الله.(36/3)
وليلاحظ أنه ليس المراد من كتاب المقاصد مقاصد الفن كما يتبادر؛ لأنك إذا قسمت هذه المقاصد بما ذكروه في الأصول؛ تجد أنها تعد في مبادئ الفن، فمثلا تراهم يعدون الكلام في المحكوم به والمحكوم عليه من المبادئ، ولا يخفى عليك أن النوع الثالث –بجميع المسائل التي ذكرها فيه- من قبيل الكلام في المكلف به، وأنه لا بد أن يكون مقدورا للعبد داخلا تحت كسبه، وهكذا الباقي من الأنواع الأربعة إذا تأملتها تجدها من المبادئ لا مقاصد الفن التي هي الأدلة، اللهم إلا على نوع من التوسع في الأصول بأن كل ما انبنى عليه فقه؛ فهو من أجزاء الأصول، ولا حاجة إليه مع ظهور الغرض. "د".(36/4)
ص -9-…مقدمة كلامية مسلمة1 في هذا الموضع:
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم [الفخر] الرازي2 أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصفه هذه المقدمة بأنها "مسلمة" يعني أنه لا خلاف عليها، ومع ذلك، فقد احتاج إلى القول: "وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا". وليس هذا شأن المُسَلمات، ثم لست أدري ما عنى بقوله: "وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا أنسب موضع لذلك، ثم هو قد أقام البرهان فعلا على صحة القضية، وإن كان بإيجاز شديد، ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مبثوثة في مواضع أخرى من الكتاب.
ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"؛ فذكر أن هذه المسألة وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة..."؛ فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها "مسلمة" عنده، أو أنها "مسلمة" وإن خالف فيها من خالف، وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه.
فأما كونها "مسلمة" عنده؛ فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، وفي مواضع متفرقة ومناسبات مختلفة يعود ويؤكد هذه القضية، وعلى هذا الأساس يمضي في جميع أجزاء "الموافقات". انظر: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص 169-170".
2 المصنف لم يسم من المنكرين للتعليل أحدا غير الرازي، وفي هذا نظر من وجهين:
الأول:(36/5)
أن ابن حزم بخاصة والظاهرية بعامة يهدمون فكرة "التعليل" من أساسها، وخصص ابن حزم في كتابه "الإحكام" بابا لذلك، قال: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين"، ونسب ذلك لجميع الظاهرية؛ قال: "وقال أبو سليمان –أي: داود الظاهري- وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه". قال "8/ 77": "وهذا هو ديننا الذي ندين الله به، وندعو عباد الله إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى"، بل بالغ في هذا الإنكار، فاسمع إليه وهو يقول "8/ 113": "إن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وإنه مخالف لدين الله تعالى، نعم، ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة"، ولعل هذا الذي استفز ابن القيم؛ فقال=(36/6)
ص -10-…..................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس في "إعلام الموقعين" "2/ 74": "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم.....".
ولا أدري لم أهمل المصنف قول ابن حزم هذا، مع تعرضه بلطف وإنصاف للظاهرية في مواطن كثيرة من كتابه، وتصريحه السابق يفيد أنه لم يقف على أن المذكور قول لهم، وهذا ما أستبعده لشهرته عنهم، إلا أن ردد في مثل هذه المسألة خاصة مع الجويني في "البرهان "2/ 819" أنهم "ملتحقون بالعوام، وكيف يُدعَون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم؟ وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ؟!
والآخر:
في نسبة نفي التعليل للرازي وقفة، وقد تابع المصنف في زعمه المذكور الشيخ علال الفاسي في كتابه "مقاصد الشريعة" "ص 7- ط دار الغرب"، وأحمد الخلميشي في كتابه "وجهة نظر" "ص 286"، وبنى عليه حَشْرَ الرازي مع الظاهرية في صفٍّ واحد.
ويمكن توضيح موقف الرازي من هذه القضية كالآتي:
أولا:
إنه ينكر التعليل الفلسفي في كتاباته الكلامية، وصرح بهذا في "تفسيره" "2/ 154" عند قوله تعالى في [البقرة: 29]: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
ثانيا:
هذا الإنكار منه ومن الأشاعرة كان فرارا من المقولات والإلزامات الاعتزالية، التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله.
ثالثا:
يرى تعليل الأحكام الشرعية تعليلا أصوليا فقهيا، ليس فيه إلزام لله سبحانه، وليس فيه تحتيم على مشيئته، وصرح بهذا ودافع عنه بقوة في كتابه "المحصول" "2/ 2/ 237- 242، 291"، بل قال في "مناظراته" "25": "وأما بيان أن التعليل بالأوصاف المصلحية جائز، فهذا متفق عليه بين العقلاء".
رابعا:(36/7)
نفي المصنف في نقله هذا عن الرازي ما أثبته هو، إذ كلامه في مقام التعليل الأصولي لا الفلسفي، وقد فرق بينهما ابن الهمام بقوله في "التحرير" "3/ 304- 305- مع التيسير": والأقرب إلى التحقيق أن الخلاف لفظي، مبني على معنى الغرض، فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل، قال: لا تعلل، ولا ينبغي أن ينازع في هذا، ومن فسره بالعائدة إلى العباد، قال: تعلل، وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه".=(36/8)
ص -11-…أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين1، ولما اضطر2 في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وانظر في الفرق بينهما: "التحرير والتنوير" "1/ 379- 381" لابن عاشور، و"ضوابط المصلحة" "96- 97" للبوطي
خامسا:
ما لم يستقم التوفيق المذكور، فنردد مع شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في "مجموع الفتاوى" "6/ 55": "أما ابن الخطيب- وهو الرازي، فكثير الاضطراب جدا، لا يستقر على حال، وإنما هو بحث وجدل بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه، بخلاف أبي حامد، فإنه كثيرا ما يستقر".
سادسا:
المشهور عن الرازي القول بأن الأحكام الشرعية معللة، نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 75" عنه، قال: "غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا، وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن".
1 ذهبت عبارات الأصوليين في تعليل الأحكام مذاهب شتى، والتحقيق الذي لم يبق فيه محل للشبهة أن الأحكام قائمة على رعاية مصالح العباد،، وهذه المصالح هي التي يسمونها بالعلل، ولكن تعيين العلة وكيفية مراعاتها إنما يتلقى من الشارع نصا أو تلويحا، ولا مانع من أن تكون أحكام الله معللة بالغايات المحمودة، إذ الغاية التي تشعر بالحاجة إنما هي الغاية العائدة إلى تكميل الحاكم، أما ما يقصد بها تكميل غيره، فرعايتها ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الحكمة البالغة "خ".(36/9)
قلت: انظر في المسألة "شرح الكوكب المنير" "1/ 312، "والتوضيح في حل غوامض التنقيح" "2/ 63"، و"شفاء الغليل" "ص 103"، و"نبراس العقول" "323- 328"، و"جمع الجوامع" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 41"، و"إيثار الحق على الخلق" "ص 181 وما بعدها"، و"نفائس الأصول" "9/ 3995"، و"تعليل الأحكام" لمحمد مصطفى شلبي، ففيه بحث واف عن هذا الموضوع.
2 أي: ليتأتى له القول بالقياس وأنه دليل شرعي. "د".(36/10)
ص -12-…ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن1 الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المُلك: 2].
وأما التعاليل2 لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى3، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ4 تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولا يتأتى للرازي أن يقول في هذه العلل العامة: إنها علامات للأحكام، ثم لا يخفى عليك أنه يستعمل كلمة "العلة" في كتابه بمعنى الحكمة كما سبق له. "د"
2 في "ط": "التعليل".
3 في "ط": "فأكثر من أن يؤتى على آخره".
4 أخذ المعنى على أنه علة للأمر بإقامة الصلاة، وتأمله، "د".(36/11)
ص -13-…وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]
وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]
وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، والمقصود التنبيه.
وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم1، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة2 ثبت القياس والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه- ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه- فنقول والله المستعان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة ماء/ ص 114": "مفيد العلم".
2 سيأتي له في كتاب الاجتهاد في المسألة العاشرة توسع في هذه الجملة وفي تفاريع القواعد الفقهية على اعتبار المصالح. "د".(36/12)
ص -17-…القسم الأول: مقاصد الشارع
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة1
وفيه مسائل
المسألة الأولى2:
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن تكون ضرورية.
والثاني:
أن تكون حاجية.
والثالث:
أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا النوع الأول من هذه الأنواع جاء في بيان، أي: ظهور قصد الشارع في وضع الشريعة، والشارع هو الله تعالى، والشريعة والشرعة، ما سن الله من الدين وأمر به، كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أعمال البر مشتق من شاطئ البحر الذي تشرع فيه الدواب والناس، فيشربون منها ويستقون. "ماء / ص 115".
2 سيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان واف للمقاصد الشرعية وتفاريعها ومكملاتها وإن كان على نحو آخر "د".
قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 114".(36/13)
ص -18-…بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج1 وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما:
ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود2.
والثاني:
ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها3 من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فتن وقتال. "ماء/ ص 115".
2 مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، ومراعاتها من جانب العدم تكون بترك ما به تنعدم، كالجنايات، فلا يقال: إن مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلا هو مراعاة لها من جانب العدم، إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيا أو لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى. "د".
قلت: انظر "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 238"،و"المستصفى" "1/ 251"، و"شرح المحلى على جمع الجوامع" "2/ 280".
3 مما ينبغي الانتباه له أن المحافظة لدى المصنف لا تعني الصيانة فقط، وإنما تتناول الإقامة أو الإنشاء، لما تلح الحاجة أو الضرورة إلى إقامته من المصالح العامة، والمرافق في الدولة، كما تتناول التنمية، فليس المقصود إذن بالمحافظة خصوص الصيانة، بل ما يتناول الإنشاء والتنمية لسائر مرافق الحياة والمصالح العامة والفردية على السواء، وفي هذا من السعة ما فيه مما يمنع التخلف والجمود الحضاري.
أفاده الأستاذ الدريني في كتابه "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 99".
4 قال في "التحرير" و"شرحه": "حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى=(36/14)
ص -19-…والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.
والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول1 المأكولات والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك.
والمعاملات2 راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة3 العادات.
والجنايات- ويجمعها4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البدع، ويقول الحنفية: إن وجوب الجهاد ليس لمجرد الكفر، بل لكونهم حربا علينا، ولذلك لا يحارب الذمي والمستأمن، ولا تقتل المرأة والراهب، وقبلت الجزية، وهذا لا ينافي أنه لحفظ الدين، إذ حفظ الدين لا يتم مع حربهم المفضي إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". أ هـ.
فأنت ترى المؤلف توسع في حفظ الدين، فجعله مقصدا لجميع التكاليف أصولها وفروعها، ولعله لا يوافق قوله بعد "فإنها مراعاة في كل ملة"، لأن ذلك قد لا يسلم بالنسبة لنحو الزكاة.... إلخ. "د".
1 أي: أصل تناول الغذاء الذي يتوقف عليه بقاء الحياة والعقل، وسيأتي في الحاجيات التمتع بالطيبات من مأكل وملبس.... إلخ، أي: مما يكون تركه غير مخل بالنفس والعقل، ولكنه يؤدي إلى الضيق والحرج، فالفرق بين المقامين واضح. "د".
2 أي: بالمقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال، فهي بهذا المقدار من الضروري، وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضروري، أما مطلق البيع مثلا، فليس من الضروري، بل من الحاجي خلافا لإمام الحرمين، وبهذا يتضح لك ما يأتي للمؤلف في هذه المسألة والمسألة التي تليها. "د".
3 في "د": "بوسطه"، وفي الأصل و"ط": بوساطة".(36/15)
4 جملة معترضة، والظاهر أنها مقدمة من تأخير، وأن موضعها قبل قوله: "والعبادات والعادات قد مثلت"، وهي راجعة إلى جميع ما تقدم مما يحفظ من جانبي الوجود والعدم، ومعنى كونها تجمع ذلك أنها تتعلق به جميعه وتنصب عليه من باب تكميل أبواب الشريعة، إذ ما من أمر ولا نهي إلا يتعلق به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أخبر عن الجنايات بأنها ترجع إلى حفظ ما سبق من جانب العدم- ثم اكمل المقام بالتمثيل للمعاملات والجنايات لأنه مثل لغيرهما آنفا، وسيأتي في المسألة السابعة من مبحث الكتاب في قوله: "وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ما يساعد على ما قررنه في فهم قوله هنا: "ويجمعها...." إلخ. "د".(36/16)
ص -20-…حفظ الجميع من جانب العدم.
والعبادات والعادات قد مثلت، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى1 تلك المصالح، كالقصاص، والديات -للنفس، والحد- للعقل2، وتضمين 3 قيم الأموال- للنسل والقطع والتضمين- للمال، وما أشبه ذلك.
ومجموع الضروريات خمسة، وهي4: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو يتلافى"
2 في الأصل: "الحد - الحد".
3 الذي قاله غيره أن حفظ النسل شرع له حد الزنا جلدا ورجما، لأنه مؤد إلى اختلاط الأنساب، المؤدي إلى انقطاع التعهد من الآباء، المؤدي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود، وأما ما قاله المؤلف، فغير واضح. "د".
4 ترتيبها من العالي للنازل هكذا: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، على خلاف في ذلك، فإن بعضهم يقدم النفس على الدين "د".
5 قال في "شرح التحرير": "حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء" ا هـ. فبعد هذا لا يقال: إن الشوكاني تأمل التوراة والإنجيل فلم يجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا، على أن المعروف من لسان النصارى وقسيسهم تحريمها عندهم، وعلى فرض صحة ما عزي للشوكاني، لو قيل: إن الممنوع في جميع الشرائع ضياع العقل رأسا والخمر تذهبه وقتا ثم يعود، لكان له وجه =(36/17)
ص -21-…وأما الحاجيات1، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق2 المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل علتى المكلفين- على الجملة3- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات4:
ففي العبادات: كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما تعريض الغنائم في الأمم السابقة لحرق النار السماوية بجمعها في مكان خاص وعدم نيل شيء منها، فظاهر أنه ليس من إتلاف الإنسان للمال، وكان تحريمها عليهم لحكمة تخليص نفوسهم من قصد الغنائم بالجهاد، وقد رخص فيها في شرعنا خاصة كما في الحديث: "ولم تحل لأحد قبلي، وقصة: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" ليس فيها إتلاف لها، بل إما أن يكون من باب استعراضها وتفقد أحوالها بيده لا بالسيف كما حققه الفخر، وإما أن يكون ذلك تقربا إلى الله بأحب المال عنده لأكل الفقراء كما هو المشهور، أو ليكون كالوسم بالنار لحبسها في سبيل الله. "د".
قلت: قال هذا ردا على "خ" حيث قال: "أوردوا على هذه الدعوى أن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة كما كانت مباحة في صدر الإسلام، وما أجيب به من أن المباح في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ حد السكر غير مستقيم، قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" قد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا من غير تقييد بعدم السكر، فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم".
1 انظر عنها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 270، 274، 275، 8/ 194، 195" ط.
2 في نسخة "ماء/ ص 117ط: "التضييق".
3 أي: ليس كل المكلفين يدخل عليه الحرج بفقد هذه الحاجيات. "د".(36/18)
4 يستفاد من تمثيل المصنف وكلامه الآتي أنه يفرق بين العادات والمعاملات، إذ يجعل العادات مما يفتقر إليه الناس من الحاجات والمصالح التي لا يتوقف تحصيلها على إبرام عقد، أو إنشاء علاقة في تصرف شرعي، وأما المعاملات، فهي ما ما كان ناشئا عن عقد أو تصرف شرعي أو غير شرعي تربطه بغيره، والجنايات وإن اعتبرها المصنف قسما قائما برأسه غير أنها تدخل في المعاملات بما تنشئ من علاقة بين الجاني والمجني عليه، أو بين الجاني والمجتمع أو الدولة، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 414".(36/19)
ص -22-…والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك.
وفي المعاملات، كالقراض1، والمساقاة، والسلم، وإلقاء2 التوابع في العقد على المتبوعات، كمثرة الشجر، ومال العبد.
وفي الجنايات، كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات3، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.
وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان:
ففي العبادات، كإزالة4 النجاسة -وبالجملة الطهارات كلها- وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات5، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل سائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ النفس وغيرها من الضروريات الخمس كما أشرنا إليه فيما سبق، لا ما يعطيه ظاهر أنواع الأمثلة من خصوص ما كان له أصل حظر لدخوله تحت قاعدة منع كلي، واستثنى ذلك منه حتى عد رخصة بالإطلاقات الأربعة السابقة. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "وإلغاء"، والصواب بالقاف، وكذا في الأصل ونسخة "ماء/ ص 117" و"ط".
3 سواء كان ذلك لخائف أو آمن، فإنه يجب عليه ذلك الأخذ وذلك التجنب. "ماء/ ص 117ط".
4 في "م": "إزالة".
5 في "ط": "والقربانات".(36/20)
ص -23-…وفي العادات، كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات.
وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب1، الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير، وما أشبهها.
وفي الجنايات، كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد.
وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء" "منصبي".(36/21)
ص -24-…المسألة الثانية:
كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية1.
فأما الأولى2، فنحو التماثل في القصاص، فإنه لا تدعو إليه ضرورة، ولا تظهر فيه شدة حاجة، ولكنه تكميلي3، وكذلك نفقة المثل، وأجرة المثل4، وقراض المثل5، والمنع من النظر إلى الأجنبية، وشرب قليل المسكر، ومنع الربا، والورع اللاحق في المتشابهات، وإظهار شعائر6 الدين، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن، وصلاة الجمعة، والقيام بالرهن والحميل7، والإشهاد في البيع إذا قلنا: إنه من الضروريات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء": ".... لو فرضنا انفقاده، لم يخل بحكمتها الأصلية فقده".
2 أي: مرتبة الضروريات. "د".
3 أي: إنما هو مكمل لحكمة القصاص، فإن قتل الأعلى بالأدنى مؤد إلى ثوران نفوس العصبة، فلا يكمل بدونه ثمرة القصاص من الزجر والحياة التي قصدها الشرع منه، ومثله تحريم قليل المسكر، لأنه بما فيه من لذة الطرب يدعو إلى الكثير المضيع للعقل، فتحريم القليل تكميل لحكمة تحريم الكثير، فيحمل كلام المؤلف على هذا الغرض. "د".
4 في "ط" زيادة ومساقاة المثل".
5 أي: إن هذه الأمثلة الثلاثة مكملة للضروري من حفظ المال للطرفين، كما أن منع النظر للأجنبية مكمل للضروري من حفظ النسل بالمنع من الزنا، لأن النظر مقدمة للزنا وداعية إليه، وتحريم داعية المحرم ثبت بها الدليل الشرعي، وكذا منع الربا تكميل لحفظ المال الذي هو ضروري، فإن الزيادة جزء من مال الدافع يذهب هدرا بدون مقابل معتبر شرعا، والورع تكميل لما هو من نوعه، فإن كان في عبادة، فمكمل لها، وإن كان في عادة أو معاملة، فمكمل لذلك. "د". قلت: انظر في هذا: "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 240- 241"، و"شرح ألفية البرماوي" "ق313"، مخطوط في جامعة الرياض.
6 في "م": شعار".
7 كأمير: الدعي والكفيل: "قاموس".(36/22)
ص -25-…وأما الثانية1، فكاعتبار2 الكفء ومهر المثل في الصغيرة، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة، وإن قلنا: إن البيع من باب الحاجيات، فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة، ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله، فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة، إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف.
وأما الثالثة3، فكآداب4 الأحداث، ومندوبات الطهارات، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة، والإنفاق من طيبات المكاسب، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق، وما أشبه ذلك.
ومن أمثلة هذه المسالة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات، فإن الضروريات هي أصل المصالح5 حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مرتبة الحاجيات، فما هو لها كالتكملة، فكاعتبار الكفء.... إلخ ما ذكره المصنف.
2 فإن أصل المقصود من النكاح وإن كان حاصلا بدونهما لكنهما أشد إفضاء لدوام النكاح وتمام الألفة بين الزوجين، وما به دوامه من مكملاته. "د".
3 أي: مرتبة التحسينيات، فما هو لها كالتكملة، فكآداب.... إلخ ما ذكره المصنف.
4 في الأصل: "كأدب".
5 والجميع تتمة لها.(36/23)
ص -26-…المسألة الثالثة1:
كل تكملة فلها- من حيث هي تكملة- شرط، وهو: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك2، لوجهين.
أحدهما: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة، لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف، لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا، فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها، وهذا محال لا يتصور، وإذا لم يتصور، لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.
والثاني: أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى3 لما بينهما من التفاوت.
وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي، وحفظ المروءات مستحسن، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات، وإجراء لأهلها على محاسن العادات، فإن4 دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس، كان تناوله أولى.
وكذلك أصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة مكمل، فلو اشترط نفي الغرر جملة لَانْحَسَمَ باب البيع، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل أدخل كلام من المسألة الثانية في هذا الموضع!
2 في نسخة "ماء": "عند أصل ذلك".
3 أي: تحصيلها أولى بالاعتبار، فيجب أن تترجح على التكميلية، لأن حفظ المصلحة يكون بالأصل، وغاية التكميلية أنها كالمساعد لما كملته، فإذا عارضته، فلا تعتبر. "د".
4 في "م": "فإذا".
5 قد تكون الإجارة ضرورية كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته، وقد تكون حاجية وهو الأكثر، ومثله يقال في البيع وسائر المعاملات باعتبار توقف حفظ أحد الضروريات الخمسة أو عدم التوقف. "د".(36/24)
ص -27-…واشترط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر، منع من بيع المعدوم1 إلا في السلم، وذلك في الإجارات ممتنع، فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها، والإجارة محتاج إليها، فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد، ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما.
وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه، قال مالك: "لو ترك ذلك كان ضررا على المسلمين، فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال، لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور2 عن النبي صلى الله عليه وسلم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقابل للحضور الغيبة، والمقابل للعدم الوجود، فإما أن يقول: "واشتراط وجود العوضين"، ثم يقول: "منع بيع المعدوم إلا في السلم" وهو ظاهر، وإما أن يقول كما قال أولا ثم يقول: "منع من بيع الغائب إلا في السلم"، فيعترض عليه بأن بيع الغائب الموصوف جائز، ومقتضى قوله بعد: "فاشتراط وجود المنافع وحضورها"، ثم قوله: "وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد" أن غرضه بقوله: "واشتراط حضور العوضين" اشتراط وجودهما وحضورهما، ولما كان الحضور يحرز الوجود استغنى به عنه أولا، فيبقى الكلام في اشتراط الحضور في البيع وقد علمت ما فيه. "د".(36/25)
2 الحاكم الجائر متى انطوت نفسه على أصل الاعتقاد بالإسلام يتسنى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا إليه بالنصيحة، ويقوموه بالموعظة، فإن لم يأتوا به إلى سبيل العدل جملة، خففوا من وطأة مظالمه شيئا كثيرا، وعلى فرض أن يتمادى في طغيانه الذي لا يخلو من رحمة تأخذه في كثير من الأحيان، فمن المتوقع انصرام أجله ورجوع الدولة إلى يد من هو أقوم سيرة وأشد رعاية للمصلحة، وترك الجهاد مع الحاكم الجائر يفضي بالأمة إلى أن يضرب عليها المخالفون سلطة قاتلة، ويضعوا بينها وبين الحياة الشريفة عقبات لا تتزلزل إلا بعد جهاد عنيف. "خ".
3 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور،=(36/26)
ص -28-…وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء1 فإن في ترك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 3/ 18/ رقم 2532" من طريق سعيد بن منصور- وهو في "سننه" "رقم 2367- ط القديمة"-، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 156"- من طريق أبي داود-، وأبو عبيد في "الإيمان "رقم 27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1227/ رقم 2301" عن أنس مرفوعا: "ثلاث من أصول الإيمان"، وذكر من بينها: "والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل".
وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي نشبة السلمي، وهو مجهول، قال الزيلعي في "نصب الراية" "3/ 377": "قال المنذري في "مختصره": يزيد بن أبي نشبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان".
قلت: ويشهد له ما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2533"، والبيهقي في "الكبرى" "3 / 121و 8/ 125"، والدراقطني في "السنن" "2/ 56/ 57"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1226" / رقم 2299"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 422" عن أبي هريرة مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر....".
وإسناد ضعيف، وفيه انقطاع، مكحول لم يلق أبا هريرة، وفيه العلاء بن الحارث، كان اختلط، وتابعه يزيد بن يزيد بن جابر عند الدراقطني، ولكن رواه عنه أشعث وهو مجروح، وبقية لا يقوم على روايته.(36/27)
وأورد الدراقطني واللالكائي وابن الجوزي والزيلعي في "نصب الراية" "2/ 26- 29" أحاديث كثيرة تدل على ما ذكرها المصنف، أرجاها وأصحها الحديثان المذكوران ولذا اقتصر عليهما أبو داود في "سننه" على منهجه المعروف، ولذا، فلا داعي للإطالة في تخريجها، ولكن يعجبني ما صنعه البيهقي في "الكبرى" 9/ 56"، فإنه ذكر قبل الحديثين المذكورين حديث عروة البارقي -أخرجه الشيخان- مرفوعا: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة"، وبوب عليها "باب الغزو مع أئمة الجور"،وحديث عروة يدل على التبويب بدلالة اللازم، فتأمل.
1 ورد في ذلك حديث أبي هريرة المرفوع المتقدم آنفا، ومعنى ما ذكره المصنف صحيح، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.
وأخرج مسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان،=(36/28)
ص -29-…ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة1، والعدالة مكملة لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة.
ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها2، فإذا أدى طلبه إلى أن لا تُصلَّى -كالمريض غير القادر-، سقط المكمل، أو كان في إتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة، وستر العورة من باب محاسن الصلاة، فلو طلب على الإطلاق، لتعذر أداؤها على من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1/ 69/ رقم 49"، وأهل السنن، أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراجه منبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، 1/ 188/ رقم 695" عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلى لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال:
الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم".
ويدل عليه عموم ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 694"، وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم".
قال الشوكاني: "ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا- ولا يبعد أن يكون قوليا- على الصلاة خلف الجائرين، لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى".
وانظر: "نيل الأوطار" "3/ 200"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 108- 109"، و"العلل المتناهية" "1/ 418- 419".
1 أي: المكملة للضروري كما سبق له، والعدالة في الإمام مكملة لهذا المكمل. "د" وفي "ط": "شعائر الإسلام المطلوبة".(36/29)
2 المناسب لضروريها، أي أن الصلاة من الضروريات الخمس، وهذا القيام مكمل لها. "د".(36/30)
ص -30-…لم يجد ساترا، إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر، كلها جار على هذا الأسلوب
وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب "المستظهري"1 في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة، واحمل عليه نظائره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال فيه "ص 119- 120" بعد أن ذكر شروط الإمامة:
"..... فإن خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط، وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة، وهذا حكم زماننا، وإن قدر- ضربا للمثل- حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، إنا نعلم بأن العلم مزية روعيت في الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد.
وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة، وإذا أحسن إيراد هذه المقالة، علم أن التفاوت بين اتباع الشرع نظرا واتباعه تقليدا قريب هين، وأنه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة..." إلخ ما قال.(36/31)
ص -31-…المسألة الرابعة:
المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية.
فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق، لاختلا باختلاله بإطلاق، ولا يلزم من اختلالهما [أو اختلال أحدهما] اختلال الضروري بإطلاق، نعم، قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري، فينبغي المحافظة على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا1 ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري، فإن الضروري هو المطلوب2.
فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها:
أحدها: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
والثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين [بإطلاق]3.
والثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين [بإطلاق] اختلال الضروري [بإطلاق].
والرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
والخامس: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "إذ" لا "إذا" كما يفيده السياق. "د".
2 أي: الأصلي والأشد في الطلب، وإلا، فالكل مطلوب، وسيأتي له ما يفسره في آخر المسألة. "د".
3 أي: اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي بوجه ما، وفي الأصل و"خ": "واختلال الضروري"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(36/32)
ص -32-…بيان الأول:
أن مصالح الدين مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود- أعني: ما هو خاص بالمكلفين والتكليف-، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك.
فلو عُدِمَ الدينُ عُدِمَ ترتُّبُ الجزاء المرتجى، ولو عُدِمَ المكَلَّف1 لعُدِمَ من يَتَديَّن، ولو عَدِم العقل لارتفع التديُّن، ولو عُدِمَ النسلُ لم يكن في العادة بقاء، ولو عُدِمَ المالُ لم يبقَ عيشٌ- وأعني بالمال ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه2، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا، وأنها زاد للآخرة.
وإذا ثبت هذا، فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى، إذ هي تتردد على الضروريات، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشتقات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط.
وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع، وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: النفس.
2 هذا التعريف يعرف المال انطلاقا من كون المال محل الملك، والملك- الذي هو في حقيقته اختصاص- لا يتعلق إلا بما له قيمة بين الناس، وإلا، فلا معنى للاختصاص به، فأساس المالية هو العلاقة التي تقوم بين الناس والشيء، وذلك لحاجة الانتفاع به بوجوه الانتفاع المشروعة وانظر: "الفروق" "2/ 208".(36/33)
ص -33-…ومضطجعا، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته، وكذلك ترك المسافر الصوم وشطر الصلاة، وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك، فإذا فُهِمَ هذا؛ لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية، وهكذا الحكم في التحسينية، لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري، فإذا كملت ما هو ضروري، فظاهر، وإذا كملت ما هو حاجي، فالحاجي مكمل للضروري، والمكمل للمكمل مكمل، فالتحسينية إذا كالفرع للأصل
الضروري ومبني عليه.
بيان الثاني:
يظهر مما تقدم، لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه، لزم من اختلاله اختلال الباقيين، لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى1.
فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة، لم يمكن اعتبار الجهالة والغرر، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص؛ لم يمكن اعتبار المماثلة فيه، فإن ذلك من أوصاف القصاص، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف، وكما إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة، لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها، أو التكبير،أو الجماعة، أو الطهارة الحديثة أو الخبيثة، ولو فرض أن ثَمَّ2 حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر، ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر، كان هذا فرض محال، ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع3 لها ومكمل، من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك، لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض، فلا يصح أن يقال: إن أصل الصلاة هو المرتفع، وأوصافها بخلاف ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ط: "الأولى".
2 في "م": "تم".
3 في الأصل: "ثابت".(36/34)
ص -34-…وكذلك نقول: إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا، أو الصيام كذلك، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار، والنهي عن الصيام في العيد، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي، من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع، لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها، فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل.
ولا يقال: إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الاعتبار، فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا، وإذا لم تكن منهيا عنها على الإطلاق، لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له، فلا يلزم من اختلال الأصل اختلال الفرع كما أصلت.
وأيضا، فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة، كالطهارة مع الصلاة، وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد، كجر الموسى في الحج على رأس من لا شعر له، فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها، فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل.
لأنا نقول: إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران:
* اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة.
* واعتبار من حيث أنفسها.
فأما اعتبارها من الوجه الثاني، فليس الكلام فيه، وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة، وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف، ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف، إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا، فكذلك ما كان في الاعتبار مثله، فإذا كان كذلك، لم يصح القول ببقاء المكمِّل مع انتفاء المكمَّل، وهو المطلوب،(36/35)
ص -35-…وكذلك الصوم وأشباهه.
وأما مسألة الوسائل، فأمر آخر، ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله1، فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء القصد2، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها3، فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها، وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر، فلا امتناع في هذا، وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على رأس4 من لا شعر له5.
وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموسى على من ولد مختونا بناء على أن ثَمَّ ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه، وإلا، لم يصح فالقاعدة صحيحة، وما اعترض به لا نقض فيه عليها، [والله أعلم بغيبه وأحكم]6.
بيان الثالث:
أن الضروري مع غيره كالموضوف مع أوصافه، ومن المعلوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كطلب أنواع الطهارة لأجل الصلاة، لا يبقى هذا الطلب إذا ارتفع طلب الصلاة. "د".
2 أي: ببقاء طلبها، أي: فإذا دل دليل على طلبها بقطع النظر عن اعتبارها وسيلة إلى مقصد آخر، فذلك لا مانع منه أن يكون الشيء مقصودا لنفسه ومقصودا ليكون وسيلة لغيره باعتبارين، فالوضوء مثلا عبادة مقصودة في نفسها، ووسيلة إلى مقصود آخر هو الصلاة والطواف ومس المصحف وهكذا، فقد لا يكون طواف ولا غيره ويبقى الوضوء مطلوبا، ولكن الكلام في وسيلة اعتبرت وصفا للغير، فباعتبار هذا الوصف متى سقط المتوسل إليه بها بطل طلبها من هذه الجهة التي تعتبر فيها مكملة لغيرها. "د".
3 هكذا في الأصل، وفي "د" و"خ" و"ط": "المقصد".
4 في "د": "شعر"، وهو خطأ.
5 قال القرافي في الفرق "الثامن والخمسين" "القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس ما لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا، فهو مشكل على القاعدة". "خ".
6 ليست في الأصل، ولا في "ط".(36/36)
ص -36-…أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه، فكذلك في مسألتنا لأنه يضاهيه.
مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها1 لأمر، لا يبطل أصل الصلاة.
وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر، لا يبطل أصل البيع، كما في الخشب، والثوب المحشو، والجوز، والقسطل، والأصول المغيبة في الأرض، كالجزر واللفت، وأسس الحيطان، وما أشبه ذلك2.
وكذا3 لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص، لم يبطل أصل القصاص، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف [بها]4، كذلك ما نحن فيه، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءًا من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما [نقول]5 في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها، هذا لا نظر فيه، والوصف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مما ليس ركنا فيها كما يأتي بيانه. "د".
2 أكثر البيوع لا تخلو عن الغرر اليسير، ولهذا كان من المعفو عنه، وقيد الإمام المازري العفو بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك اليسير غير مقصود، وثانيهما أن تدعو إليه الضرورة، وقدح ابن عبد السلام في هذا الشرط بأنه يقتضي أن تكون أكثر البيوع رخصة وهو باطل، وأجاب الشيخ ابن عرفة بأن الرخصة ما شرع عند الحاجة خاصة كأكل الميتة، وأما ما جاء عند الحاجة لكل الناس وفي كل الأزمنة، فليس برخصة "خ".
3 في الأصل: "وكذلك".
4 ليست في الأصل.
5 سقطت من "د".(36/37)
ص -37-…الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من الحاجيات، بل هو1 من الضروريات.
لا يقال: إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية أن لا تكون في دار مغصوبة، وكذلك الذكاة من تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبه، ومع ذلك، فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف، لأنا نقول: من قال بالصحة في الصلاة والذكاة، فعلى هذا الأصل المقرر بنى، ومن قال بالبطلان فبنى2 على اعتبار هذا الوصف كالذاتي، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها، من حيث كانت أركانها كلها- التي هي أكوان- غصبا، لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة، وتحريم الغصب3 إنما يرجع إلى تحريم الأكوان، فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها، كالصلاة في طرفي النهار4، والصوم في يوم العيد5.
وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها لأن العمل بها غصب، كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه، فصار أصل الذكاة منهيا عنه، فعاد البطلان إلى الأصل بسبب بطلان وصف 6 ذاتي بهذا الاعتبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة بدلا من "بل هو": "ولا".
2 في "ط": "فبناء".
3 هكذا في الأصل، و"ط" ونسختي "م" و"خ"، وفي "د": "الأصل".
4 سيأتي ذلك "ص 516".
5 ورد النهي في أحاديث كثيرة أشهرها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799، 800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر.
وستأتي في الباب أحاديث أخر عند المصنف، انظر: "3/ 404، 469".
6 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "أصل ذاتي".(36/38)
ص -38-… ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور، إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي، وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به1.
بيان الرابع من أوجه:
أحدها:
أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار، فالضروريات آكدها، ثم تليها الحاجيات والتحسينات، وكان2 مرتبطا بعضها ببعض، كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالمخل بما هو مكمِّل كالمخل بالمكمَّل من هذا الوجه.
ومثال ذلك الصلاة، فإن لها مكملات وهي ما3 سوى الأركان والفرائض، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان، لأن الأخف طريق إلى الأثقل.
ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام: "كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 باعتبار الاختلاف في وصفية هذه الفروع لأصلها: هل هي أوصاف مكملة أم أوصاف ذاتية "د"
2 كذا في "د" و"خ" و"ط"، وفي الأصل و"م": "كانت".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "هنا"
4 قطعة من حديث أوله: "إن الحلال بين وإن الحرام بين...." وفيه: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219- 1220/ رقم 1599"عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه.(36/39)
ص -39-…وفي الحديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"1.
وقول من قال: "إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أخرقها"2.
وهو أصل مقطوع به متفق عليه، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب.
فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات؛ فإذًا قد يكون في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم، 12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314/ رقم 1687"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب قطع السارق، باب تعظيم السرقة، 8/ 65"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الحدود، باب حد السارق، 2/ 862/ رقم 2583"، وأحمد في "المسند" "2/ 253" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقد جرى المصنف في تأويل هذا الحديث على معنى أن من يمد يده إلى سرقة الشيء الحقير لم يلبث أن يتعدى به إلى ما كان أعظم، فصح أن يعد سارق البيضة والحبل بمنزلة من وقع في سرقة المقدار الذي تقطع فيه اليد، وهذا غير تأويله على أن المراد المبالغة في التنفير من السرقة على شاكلة "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة".
2 في النسخ المطبوعة: "ولا أحرمها" والتصويب من الأصل و"ط"،وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "الزهد" "رقم 320" من طريق مالك، بلغه أن عبد الله بن عمر قوله، وإسناده منقطع، ونسبه لابن عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 209".
وأخرج البلاذري في "أنساب الأشراف" "ص 201- أخبار الشيخين" بسند ضعيف عن عمر، قال: "ولقد تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام".(36/40)
ص -40-…إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما.
ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق، بحيث لا يأتي بشيء منها، وإن أتى بشيء منها كان نزرا، أو يأتي بجملة منها إن تعددت؛ إلا أن الأكثر هو المتروك والمخَلُّ به، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة، لم يكن في صلاته ما يستحسن، وكانت إلى اللعب أقرب، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله، وكذلك نقول في البيع: إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة؛ أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود، فكان وجود العقد كعدمه، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده، وكذلك سائر النظائر.
والثاني:
أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه، وكذلك قراءة السورة، والتكبير، والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة، وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس، ولا مملوك للغيرن ولا مفقود الزكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البنية، وإحياء النفس كالنفل، وكذلك كون المبيع معلوما، ومنتفعا به شرعا، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة.
وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبًا بالكل؛ فالإخلال بالمندوب مطلقًا يشبه الإخلال بركن1 من أركان الواجب؛ لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب، ولو أخل الإنسان بركن من أركان الواجب من غير2 عذر بطل أصل الواجب، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به فمن هذا الوجه أيضا يصح أن يقال: إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالركن".
2 في "د": "بغير".(36/41)
ص -41-…والثالث:
أن مجموع الحاجيات والتحسينات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات1، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة، من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني2 العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول، مكملة الأطراف، حتى يستحسن ذلك أهل العقول، فإذا أخل بذلك، لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت3، واتصف بضد ما يستحسن في العادات، فصار الواجب الضروري متكلف العمل، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة، وذلك ضد ما وضعت عليه، وفي الحديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"4، فكأنه لو فرض فقدان المكملات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر فيما سبق "1/ 206" أن الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية، فقد يكون الفعل مباحًا بالجزء لكنه واجب أو مندوب بالكل.... وبهذا الميزان قرر هذا الكلام، وشبيه به نجده عند الجويني في "البرهان" "2/ 923" حيث يرى مثلا أن البيع يعتبر من الضروريات بالنظر إلى العموم، بحيث "إن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم، لجر ذلك ضرورة ظاهرة، فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة"، أي أنه من حيث الجزء "بالنسبة للفرد للواحد"، إنما هو من الحاجيات، ولكنه بالنسبة إلى مجموع الناس أمر ضروري، فهذه الفكرة عند الجويني بذرة، وعند المصنف شجرة، إذ صقلها ووضحها وطورها ووسعها.
2 في "ط": "محاسن".
3 في "خ": "الحرج والمشقة".
4 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "7/ 188" و"الأدب المفرد" "رقم 273".(36/42)
وأحمد في المسند" "2/ 381ط، والبرجلاني في "الكرم والجود" "رقم 1" وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" والبزار في "مسنده" "رقم 2470- زوائده"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "13"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 613"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 191-192" و"الشعب" "6/ 230، 231"، والسمعاني في "أدب الإملاء" "ص 25".
وتمام في "الفوائد" "رقم 1070- ترتيبه"، جميعهم من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
وإسناده حسن، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 15" والسخاوي في "المقاصد الحسنة"، "ص 105": "رجاله رجال الصحيح".
قلت: ابن عجلان فيه كلام يسير لا يضر إن شاء الله تعالى.
وذكره مالك في "الموطأ" "2/ 904" بلاغا، وقال ابن عبد البر: "وهو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره
مرفوعا".
وأخرجه بلفظ المصنف الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 119" من حديث جابر بسند ضعيف.(36/43)
ص -42-…لم يكن الواجب واقعًا على مقتضى ذلك، وذلك خلل في الواجب ظاهر، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعًا في بعض ذلك1 وفي يسير منه، بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه، فذلك لا يخل به، وهو ظاهر.
والرابع:
أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس [به]2 ومحسن لصورته الخاصة، إما مقدمة له، أو مقارنًا، أو تابعا، وعلى كل تقدير، فهو يدور بالخدمة حواليه، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته.
وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون، ثم يدخل فيه على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن؛ لأن الجميع3 كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبر وسبح وتشهد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدم قبلها نافلة، كان ذلك تدريجا للمصلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بحيث لا يقال فيه: إنه اختل بإطلاق، كما هو أصل الدعوى. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "د" و"ط".
3 في "م": "الجمع".(36/44)
ص -43-…واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا، لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة.
ومن1 الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان.
فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره، لكان خللا فيها، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها.
بيان الخامس: ظاهر مما تقدم؛ لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة؛ ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنة إلا بها، كان من الأحق أن لا يخل بها.
وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع، فهي أصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وفي".(36/45)
ص -44-…المسألة الخامسة:
المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين:
- من جهة مواقع الوجود.
- ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
فأما النظر الأول، فإن المصالح الدنيوية -من حيث هي موجودة هنا- لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح1 ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها،كالأكل، والشرب، واللبس، والسكنى، والركوب، والنكاح، وغير ذلك2، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب.
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير، ويدلك على ذلك ما هو الأصل، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك3، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تعريفها وأقسامها: "روضة الناظر" "1/ 412"، و"المستصفى" "1/ 286"، و"قواعد الأحكام" "1/ 11-12"، و"إرشاد الفحول" "215".
2 أي: مثل اكتساب المعارف الذي يقتضيه وصفه العقلي. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 124" زيادة: "لا من كدرها عن صفائها، ولا من صفائها عن كدرها".(36/46)
ص -45-…قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحديث: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"1، فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى.
فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروب عنه، ويقال: إنه2 مفسدة، [وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة] على ما جرت به العادات في مثله، فإن خرج عن مقتضى العادات، فله نسبة أخرى3 وقسمة غير هذه [القسمة]4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب منه، 4/ 2174/ رقم 2823"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال "خ" تعقيبًا على الحديث: "طبعت النفوس على داعية حب الراحة والانغماس في اللذائذ ولكن المعالي والشرف لا تنال إلا باقتحام مصاعب هذه الحياة والخوض في معامع الأخطار، فسعادة الأرواح تكون على قدر ما تحتمل من المتاعب وتقاسيه من آلام مخالفة الهوى، وقد رسم الشارع لها في هذا السبيل حدودًا حجر عليها أن تتعداها، وفوض ما يعدو ذلك إلى همم المكلفين ليتسابقوا في مغالبة الدواعي الزائغة ومصارعه ما يلاقونه من الشدائد".
2 في "خ" ونسخة "ماء/ ص 125": "إنما".
3 وهي غير ما يأتي الكلام عليها في الفصل بعده؛ لأنه باعتبار تعلق الخطاب لا من حيث مواقع الوجود. "د".(36/47)
4 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"د".(36/48)
ص -46-…هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية1.
وأما النظر الثاني2 فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعًا فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه., وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي
فيمثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة3 غير مشوبة بشيء من المفاسد4، لا قليلا ولا كثيرا، وإن توهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 48-61" و"شرح تنقيح الفصول" "78"، و"قواعد الأحكام" "1/ 7"، وقال فيه: "إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود". وفي ط: "أو المفسدة الدنيوية...".
2 سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثانية. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 126" زيادة: "ولا من المصالح".
4 لأنه إنما نظر فيها إلى الجهة الغالبة لا غير، وألغى مقابلها، فلا التفات إليه، وكأنه عدم؛ لأنه غير جار في الاعتياد الكسبي الذي جعله الشرع ميزانا للمصلحة والمفسدة. د.=(36/49)
ص -47-…أنها مشوبة، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة1 أو المفسدة المغلوبة2 إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة، وهذا المقدار3 هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام.
والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
أن الجهة المغلوبة4 لو كانت مقصودة للشارع -أعني: معتبرة عند الشارع-، لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، ولا منهيا عنه بإطلاق، بل كأن يكون مأمورا به من حيث المصلحة، ومنهيا عنه من حيث المفسدة، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك.
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: إلغاء المصلحة المرجوحة بحيث تجعل كأنها غير موجودة ولا قيمة لها هو رأي ابن الحاجب، وذهب الرازي وجماعة منهم البيضاوي أن النفع وإن كان قليلًا يسمى نفعا، لوجود الحقيقة فيه، فالمفسدة وإن كانت راجحة لا تجعل النفع ضررا؛ لأن قلب الحقائق لا يكون بالاعتبار، وإنما يكون بذهاب الحقيقة بذهاب أجزائها كلها، وما دام النفع باقيا، فالحقيقة لا تزال موجودة، ولكن الحكم لا يشرع عند وجود المفسدة الراجحة أو المساوية، فالخلاف إذن لفظي، ولا ثمرة فيه. وفي "ط": شرعا والمفاسد....".
وانظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص 126-127"، و"إعلام الموقعين""3/ 1 وما بعدها"، والسياسة الشرعية" "ص 6 وما بعدها" لعبد الوهاب خلاف، و"تعليل الأحكام" "ص 307 وما بعدها" لمصطفى شلبي، وانظر في معنى ما عند المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 106-107"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 14 وما بعدها".
"1و 2 لعل الأصل: "الغالبة" فيهما. د.
3 وهو الخارج الزائد عن حالة الاعتياد الكسبي. "د".
4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الجهالة المعلومة"، ولا معنى لها، وصوب ما أثبتناه محققا "د" و"م".(36/50)
ص -48-…الكفر، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها، وما أشبه ذلك، فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه، من جهة ما فيه من كسر النفس عن1 إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها، وكأن الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكاليف2، وتمتعها بالشهوات من غير خوف، مأمورًا به أو مأذونا فيه؛ لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة، وكل هذا باطل محض، بل الإيمان مطلوب بإطلاق، والكفر منهي عنه بإطلاق، فدل [هذا]3 على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا.
والثاني:
أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا، لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق، وهو باطل شرعا، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا، فمعلوم في الأصول، وأما بيان الملازمة، فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا، والجهتان غير منفكتين، لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد4 الأمر والنهي معا فقد قيل له: "افعل" "ولا تفعل" لفعل واحد، أي من وجه واحد في الوقوع، وهو عين تكليف ما لا يطاق.
لا يقال: إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها، ولكن مأذونا فيها، فلا يجتمع الأمر والنهي معا، فلا يلزم المحظور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "من".
2 في "د" و"خ": "التكليف"، وفي الأصل: "غير التكليف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د".
4 في "ط": "تولد".(36/51)
ص -49-…لأنا نقول: إن هذا لا يطرد في جميع المصالح، فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها، يصح أن تكون مأمورا بها، وإن سلم ذلك، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا، فإن التخيير مناف لعدم التخيير، وهما واردان على الفعل الواحد، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به1، وهو ما أردنا بيانه، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة، لإمكان الإنفكاك بأن يصلي في غير الدار، وهذا ليس كذلك.
فإن قيل: إن هذا التقرير2 مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل، وإنما المقصود الخير، فإذا3 خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره، فالخير هو الذي خُلِقَ الخلق لأجله، ولم يخلق لأجل الشر، وإن كان واقعا به، كالطبيب عندهم إذا سقى المريضَ
الدواء المر البشع المكروه، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو والراحة، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو
المتآكل، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار، فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت: إن الشارع -مع قصده التشريع لأجل المصلحة- لا يقصد وجه المفسدة، مع أنها لازمة للمصلحة4.
وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة، تعالى الله عن ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قيد بهذا حتى لا يعترض بأن إيقاعه لا ينافي التخيير كما لا ينافي الطلب، أما عدم إيقاعه، فهو الذي ينافي مقتضى الطلب فقط، فالتنافي فيه إنما يحصل مع اعتبار هذا القيد. "د".
2 هكذا في الأصل و"ط"، و في "د": "التقدير"، وقال محققها: لعلها "التقرير".
3 في "م": "فإن".(36/52)
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207- 211و 14/ 299- 302".(36/53)
ص -50-…علوا كبيرا1
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في القصد التشريعي، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق2 حسبما تبين في موضعه، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك، وإن كان واقعا [في] الوجود3، فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء، وحكم التشريع أمر آخر، له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع، أو عدم الوقوع، وإنما هذا قول المعتزلة، وبطلانه مذكور في علم الكلام، فالقصد التشريعي شيء، والقصد الخلقي شيء آخر، لا ملازمة بينهما.
فصل:
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة4 عن حكم الاعتياد، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع، ففي ذلك نظر، ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى صاحب "إيثار الحق على الخلق" [ص 277] أن الشهرستاني ذكر في كتاب "نهاية الإقدام" أن إرادة الله لا يصح أن تتعلق إلا بأفعاله دون كسب العباد من طاعة أو معصية، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن الإرادة تتعلق بالمعاصي، ولما ورد عليهم أن الله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}، والمكروه لا يكون مرادا، أجابوا بأن الكراهة تتعلق بذوات المعاصي الصادرة عن العصاة، والإرادة تتوجه إليها من جهة الحكمة المترتبة عليها. "خ".
2 في "ط": "على الإطلاق".
3 في "د": "بالوجود".
4 أي: بأن تكون مترددة بين الطرفين، وتعارضت فيها الأدلة، "د".(36/54)
ص -51-…مثاله أكل الميتة للمضطر، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا، وقتل القاتل، وقطع القاطع؛ وبالجملة العقوبات والحدود- للزجر، وقطع اليد المتأكلة1، وقلع الضرس الوجعة، والإيلام بقطع العروق والفصد وغير ذلك للتداوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي [لو]2 انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة، فلا يخلو أن تتساوى الجهتان، أو تترجح إحداهما على الأخرى.
فإن تساوتا، فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعل هذا غير واقع في الشريعة، وإن فرض وقوعه، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا: طرف الإقدام، وطرف الإحجام، فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما، إذ قد فرضنا أن3 توارد الأمر والنهي معا، وهما4 علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى، ولم يتعين ذلك للمكلف، فلا بد من التوقف5.
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى، فيمكن أن يقال: إن قصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتشديد.
2 زيادة من "خ".
3 لعل كلمة "أن" زائدة، وقد فرض ذلك بقوله: "وبالجملة كان ما تعارضت فيه الأدلة". "د".
4 في الأصل: "وما معه"، وفي "خ" و"ط": "وهما معا".
5 أي: أو التخيير كما ذكروه عند تعارض الأدلة وتساويها. "د".(36/55)
ص -52-…الشارع متعلق1 بالجهة [الراجحة -أعني في نظر المجتهد- وغير متعلق بالجهة]2 الأخرى، إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح، [ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان، فيجب التوقف3، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح]4، ويمكن أن يقال: إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح5 عندنا أنه مقصود للشارع، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر، فالراجحة -وإن ترجحت- لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين، وغير مطرح في النظر، ومن هنا نشأت6 قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل صوابها غير متعلق، يعني: وحينئذ، فليس للشارع إلا جهة واحدة تقصد بالطلب، فمن أصابها أصاب وله أجران، ومن أخطأها فقد أخطأ وله أجر، وهذا القول للمخطئة. "د".
2 زيادة من الأصل و"ط" ونسخة "ماء/ ص 127"، وسقطت من النسخ المطبوعة، وبهذا يظهر عدم الحاجة إلى تعليق "د" السابق.
3 في النسخ المطبوعة: "الوقف".
4 سقطت من الأصل.
5 فالحكم الشرعي بالنسبة للمجتهد ومن يقلده هو ما انقدح في نفس المجتهد، وحينئذ يمكن تعدد الحكم الشرعي في الواقعة الواحدة، وهذا هو رأي المصوبة حيث قالوا: إن كل صورة لا نص فيها ليس لها حكم معين عند الله، بل ذلك تابع لظن المجتهد، وعلى هذا يكون الإمكان الثاني مبنيا على قاعدة المصوبة والإمكان قبله على قاعدة المخطئة، فلعل في النسخة تحريفا فيما يأتي له بعد."د".
6 لأنه لولا أنه يجوز أن تكون الجهة الأخرى معتبرة، ما كان لمن بيده دليل قائم على إحدى الجهتين أن يراعي الجهة الأخرى، ويبني عليها حكما. "د".
7 مراعاة الخلاف هي إعمال المجتهد لدليل خصمه في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه دليلا آخر، وقد اعترضه القاضي عياض بوجهين:
أحدهما:(36/56)
أنه مخالف للقياس الشرعي، إذ يجب على المجتهد أن يجري على مقتضى دليله ومراعاة الخلاف جرى على خلاف ما يقتضيه الدليل.
ثانيهما:
أنه غير متطرد في كل مسألة خلاف، وتخصيصه ببعض مسائل الخلاف تحكم أي ترجيح بلا مرجح، وقد اعتنى المصنف بهذه المسألة، فكتب فيها إلى الشيوخ سؤالا ومراجعة، وسيوافيك بحثها مبسوطا في هذا الكتاب. "خ".
قلت: انظره في آخر المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الاجتهاد.(36/57)
ص -53-…والإمكان الأول جار1 على طريقة المصوبين، والثاني جار2 على طريقة المخطئين.
وعلى كل تقدير، فالذي تلخص3 من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا4 عند اجتماعها مع الجهة الراجحة، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد فكان تكليفا بما لا يطاق، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها، سواء علينا أقلنا: إن كل مجتهد مصيب أم لا، فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جارية على الاعتياد أو خارجا عنه، فالقياس مستمر، والبرهان مطلق في القسمين، وذلك ما أردنا بيانه.
فإن قيل: أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني، فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين.
فالجواب أنّ القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول، فإذا ناقضه، لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2" علمت ما فيهما. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "يلخص".
4 أي: في التكليف، لأن هذا هو محل الاتفاق، وهو مناط الاستدلال بعده. "د".(36/58)
ص -54-…المسألة السادسة:
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين: دنيوية، وأخروية، وتقدم الكلام على الدنيوية، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية، فنقول: إنها على ضربين:
أحدهما:
أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر، كنعيم أهل الجنان، وعذاب أهل الخلود في النيران، أعاذنا الله من النار وأدخلنا الجنة برحمته.
الثاني:
أن تكون ممتزجة، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين، في حال كونه في النار خاصة، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول، وهذا كله حسبما جاء في الشريعة، إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال، وإنما تتلقي أحكامها من السمع.
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر، لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود1، ولا محل الإيمان2، وتلك مصلحة ظاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل السجود، 2/ 292- 293/ رقم 806، وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/ 444- 445/ رقم 6573، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، 13/ 419- 420/ 7437"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 163- 166/ رقم 182" عن أبي هريرة ضمن حديث مرفوع طويل جدا، فيه: ".... فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود".
وفي لفظ البخاري: "فكل ابن آدم تأكله النار، إلا أثر السجود".
2 في هذا يحتاج لدليل! "استدراك1".(36/59)
ص -55-…وأيضا، فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم1، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة، فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن2 الإيمان والأعمال الصالحة، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما، حاصلة له مع التعذيب، فهي تنفس عنه من كرب النار، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة، من استقرأها ألفاها.
وأما كون الأول محضا، فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة، كقوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75].
وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الآية [الحج: 19]
وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74].
وهو أشد ما هنالك، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة.
وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، 4/ 2185" عن سمرة مرفوعا: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه".
وفي لفظ: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته".
وفي لفظ: "حقويه" مكان "حجزته".
وفي "صحيح مسلم "رقم 185" عن أبي سعيد ضمن حديث: "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم".
وانظر: "الباب الثامن والعشرين في ذلك حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين" من كتاب ابن رجب: "التخويف من النار" بتحقيقنا يسر الله إتمامه ونشره، ففيه كثير من الأحاديث تدل على ما ذكره المصنف، والله الموفق.
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "من".(36/60)
ص -56-…مفسدة، كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ...} إلى قوله: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 45- 48]
وقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
إلى غير ذلك مما هو معلوم.
وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة: "أنت رحمتي"، وفي النار: "أنت عذابي1" 2، فسمَّى هذه بالرحمة مبالغة، وهذه بالعذاب مبالغة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح3 مع أنه من المخلدين، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها، كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها4، وإذا كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 128" زيادة: "أي: أهل حزن وسكت على الغم".
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير،، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، 8/ 595/ رقم 4850"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2186/ رقم 2846" عن أبي هريرة: وفيه: "قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي" لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء"، وأوله: "تحاجت الجنة والنار......".(36/61)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193/ رقم 3883، وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417/ رقم 6564"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، 1/ 195/ رقم 210" عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغة" وفي "ط": "أنه منها في ضحضاح".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلام} "10/ 30 /5575" ومسلم في صحيحه، "كتاب الأشربة" "كتاب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يكن منها" "3/ 1588 رقم 2003" عن ابن عمر مرفوعا: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة".(36/62)
ص -57-…دركات الجحيم -أعاذنا الله منها- بعضها أشد، فالذي دون الأشد أخف من الأشد، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما.
وأيضا، فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه، وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما، فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر، فإن الجزاء على قدر1 العمل، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة، كان الجزاء على تلك بالنسبة، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله [تعالى]2 ودأب على الطاعات عمره، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة، وهذا معنى ممازجة المفسدة، فإذا كان كذلك، فالقسمان معا قسم واحد3.
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه، هذا مقتضى نقل الشريعة، نعم، العقل لا يحيل ذلك، فإن أحوال الآخرة ليست4 جارية على مقتضيات العقول، كما أنه لا يصح أن يقال في النار: إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما، ولذلك قال تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "حسب".
2 زيادة من خ".
3 لا بد فيه من الامتزاج كحالة الدنيا. "د".
4 في "ط": "غير".(36/63)
ص -58-…فلا حالة1، هنالك يستريحون2 إليها وإن قلت، كيف وهي دار العذاب؟! عياذا بالله منها.
وما جاء في حرمان الخمر، فذلك راجع إلى معنى المراتب، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد، أما المخرج إلى الضحضاح، فأمر خاص، كشهادة خزيمة3، وعناق أبي بردة4، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية، غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى.
وذلك أن المراتب- وإن تفاوتت- لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد، ومعنى هذا أنك إذا قلت: "فلان عالم"، فقد وصفته بالعلم، وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله، فإذا قلت: "وفلان فوقه في العلم"، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما، فكذلك إذا قلت: "مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء"، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ولا غضا من المرتبة بحيث يداخله ضده، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "حجة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ليستريحوا".
3 أي: حين شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة التي أنكرها الأعرابي، فجعل شهادته بشهادة اثنين كما في حديث أبي داود والنسائي. "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص 469".
4 أي: التي كانت دون السن المجزئة في الضحية، وصرح بأنها لا تجزئ لغيره كما في حديث البخاري. "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص 410".(36/64)
ص -59-…لا نقص فيه، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم. كل في العذاب لا يداخله راحة، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض.
ولأجل ذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير دور الأنصار، أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة"، ثم قال: "وفي كل دور الأنصار خير"1 رفعا لتوهم الضد، من حيث كانت أفعل التفضيل قد تستعمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789, 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار"، 10/ 471/ رقم 6053" وفي "التاريخ الكبير" "7/ 299"، ومسلم في "صحيحه "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، والطيالسي في "المسند" "2/ 136- مع المنحة"، والترمذي في "جامعه" "أبواب المناقب، باب في أي دور الأنصار خير، 5/ 716- 717/ رقم 3911"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "الكبرى"، كما في "التحفة" "8/ 341"، ومن طريقه ابن حيويه في "من وافقت كنيته" "41- بتحقيقي"، وأحمد في "المسند" "3/ 497"، و"فضائل الصحابة" "2/ 805/ رقم 1450و 1453"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 371" عن أبي أسيد الساعدي.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "9/ 439"، والترمذي في الجامع" "5/ 716"، وأحمد في "فضائل الصحابة" "2/ 801و 803- 804"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "6/ 354" من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "4/ 1951/ رقم 2512"، ومعمر في "الجامع" "11/ 61/ رقم 19910"، وأحمد في "المسند" "2/ 267"، و"فضائل الصحابة" "2/ 800/ رقم 1436" من حديث أبي هريرة.(36/65)
وله شاهد آخر عن أبي حميد الساعدي، كما عند البخاري في "الصحيح" "3/ 344/ رقم 1481و 7/ 115/ رقم 3791"، ومسلم في "الصحيح" "4/ 1785/ رقم 1392".
ووقع اختلاف في تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل في بعض الروايات، ورجح الحافظ في "الفتح" "7/ 116" تقديم بني النجار بناء على أن أنسا من بني النجار، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم.(36/66)
ص -60-…على ذلك الوجه، كقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16] ونحو ذلك، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول، ولو قصد ذلك، لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر، فإن في آخره: فلحقنا سعد بن عبادة، فقال: ألم تر أن نبي الله خير الأنصار، فجعلنا خيرا؟ فقال: "أوليس بحسبكم أنْ تكونوا من الأخيار؟"1، لكن التقديم في الترتيب يقتضي [رفع المزية، ولا يقتضي]2 اتصاف المؤخر بالضد، لا قليلا ولا كثيرا.
وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص، وبين الأنواع، وبين الصفات، وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} [البقرة: 253].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار"، 10/ 471/ رقم 6053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، عن أبي أسيد الساعدي.
قلت: هكذا الرواية في الأصول، وفي "صحيح البخاري" "3791": "فجعلنا آخرا". وسعد هنا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "..... الخيار".
والخيار هكذا في الأصل و"ط".
وقلت: وعلق عليه في "خ": "وقعت المفاضلة بين الأنصار بحسب السبق في الإسلام وعلى قدر تفاوتهم في نصرة الدين وإعلاء كلمته، وكذلك نظر الشارع لا يعتد بوجه من الوجوه التي يذكرها الناس في قبيل الشرف سوى العمل الصالح، ولا سيما ما يكون له أثر في تخليص الجماعات من ظلمات الباطل ورفع شأنهم إلى مستوى الحرية والسيادة".
2 ساقط من الأصل.(36/67)
ص -61-…{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]
وفي الحديث: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"1.
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع، وهذا معنى حسن جدًّا، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة، كالتفضيل بين الأنبياء2 عليهم الصلاة والسلام، وزيادة الإيمان ونقصانه، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، 4/ 2052/ رقم 2664" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومضى تخريجه "1/ 356".
2 فالأنبياء مثلا متساوون في حقيقة النبوة، فليس يفضل بعضهم بعضا فيها، إنما التفاضل بالمزايا من كثرة الأتباع والمهتدين، ومن التفوق في الصبر على ما لاقوا في هذا السبيل، حتى عد بعضهم من أولى العزم، وكذا يقال في الإيمان: زيادته ونقصه ليست في نفس الحقيقة، وإنما هي بالمزايا والثمرات وهكذا. "د".
قلت: سيأتي تفصيل هذه المسألة في الطرف الثاني من "الفتوى" في المسألة الثالثة.(36/68)
ص -62-…المسألة السابعة:
إذا1، ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك1 على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل2 أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن3 الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع4 الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها، والحمد لله.
وأيضا، فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة، لا تختص على الجملة، وإن تنزلت إلى الجزئيات، فعلى [وجه]5 كلي، وإن خصت بعضا، فعلى نظر الكلي6، كما أنها إن كانت كلية، فليدخل تحتها الجزئيات، فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات، [وتنزله للجزئيات]7 لا يخرم كونه كليا، وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع، وكمال النظام فيه يأبي أن ينخرم ما وضع له، وهو المصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمجموع ما تقدم من أول كتاب المقاصد ثبت أن الشارع..... إلخ، فإذن منونة، وزاد هنا التصريح بكون ذلك أبديا وكليا وعاما لا يختل نظامها. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "تخل"، وما أثبتناه من الأصل ونسخة "ماء/ ص 129".
3 في نسخة "ماء/ ص 129": "ولكن".
4 في النسخ المطبوعة و"ط": "......... والمكلفين وجميع الأحوال"،وما أثبتناه من نسخة "ماء"والأصل.
"5, 7" سقط من الأصل.
6 في "ط": "الكل".(36/69)
ص -63-…المسألة الثامنة:
المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى1، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله2، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يلزم أن تقيد المسألة الخامسة بهذا حتى لا يتنافى مع ظاهر الكلام هناك في النظر الأول والثاني الذي انبنى عليه، فإنه قال في الأول: "وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان في نفسه.... إلخ" وقال بعد: "إن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يلحقها رفق ونيل لذات"، ثم قال: "فالمصالح والمفاسد إنما تفهم على مقتضى ما غلب" ثم قال في النظر الثاني: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب"، فقد بنى المصلحة والمفسدة على ما غلب منهما باعتبار قيام الحياة ونيل الشهوات التي تقتضيها أوصاف الإنسان الشهوانية، فجعلها مما ينبني عليه كونها مصلحة تطلب أو مفسدة تدفع، وهنا يقول: إن مجرد كونها مصلحة في نظر الشخص لا تعتبر، والمعتبر أن تكون بحيث تقوم بها الحياة الدنيا للأخرى، وذلك طبعا لا يكون إلا تبعا لرسم الشرع الذي يعلم المصلحة من هذه الحيثية موفقا بينها وبين ما أجراه في سنة الوجود. "د".
قلت: ما أحسن ما قاله العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 8": "ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا".
2 أي: اختيارا، كما أنهم عبيد له اضطرارا. "د".(36/70)
3 راجع "روح المعاني" في معاني الآية، تجدها كلها مناسبة للاستدلال الذي يريده المؤلف. "د".(36/71)
ص -64-…{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الآية1 [المؤمنون: 71]
والثاني:
ما تقدم معناه2 من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع3، كما نقول: إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عرض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، وكذلك4 إذا قلنا: الأكل والشرب فيه إحياء النفوس، وفيه منفعة ظاهرة، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفي استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا.
ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس- حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بقيتها أيضا فيه الدليل، فإنه تشنيع عليهم بأنهم أعرضوا عما فيه ذكرهم وشرفهم اتباعا لأهوائهم الباطلة. "د".(36/72)
2 مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة، فهو المصلحة، وما ترجحت فيه المضرة، فهو المفسدة، وأما قوله بعد: "ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة....إلخ"، فهو دعوى أخرى خاصة لا يدل عليها ذلك العام المتقدم، ولذا قلنا: إنه يلزم لصحة الكلام تقييد ما سبق بهذا، فإذا كان محط الاستدلال هو أن العقلاء اتفقوا على أن المعتبر هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس، فذلك يصح أن يكون دليلا، لكن لا حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 130" بعدها: "وهو معني وعكس يتبع".
4 بدلها في نسخة "ماء/ ص 130": "كما".(36/73)
ص -65-…فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة1، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء، فالشرع لما جاء بين هذا كله، وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم.
والثالث:
أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا، وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل، ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل، وهذه الأمور2 قلما تجتمع، فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع، أو تكون ضررا في وقت أو حال، ولا تكون ضررا في آخر، وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة، لا لنيل الشهوات3، ولو كانت موضوعة لذلك، لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء، ولكن ذلك لا يكون، فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء.
والرابع:
أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في خ": "الآخرة".
2 في الأصل و"ط": "أمور".
3 يؤيد ما قلناه من وجود شبه التنافي بين ما هنا وما سبق في المسألة الخامسة حيث يقول هناك: وأعني بالمصلحة..." إلى أن قال: "ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية"، ثم بنى عليه أن ما غلب فيه المنفعة، فهو المصلحة، ولأجلها وقع الطلب. "د".(36/74)
ص -66-…يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب1 أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغرض أو خالفتها.
فصل:
وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد:
- منها: أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي2، إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية.
والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع -وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات3 حتى يكون الانتفاع المعين مأذونا فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص، وغير مأذون فيه إذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء / ص 131": "يثبت".
2 لا مانع أن يحمل الإطلاق في كلام الرازي على أنه بعد التحقق من كونه الشيء منفعة أو مضرة من استقراء مقاصد الشرع يكون الحكم ما قاله من أن المنفعة الأصل فيها الإذن، والمضرة المنع، لا أن مراده أن الأصل في كل ما يطلق عليه أحدهما ولو بوجه من الوجوه يعتبر له حكمه، وهذا الذي أشرنا إليه هو الذي يصح أن يفهم به كلام مثل الإمام الرازي، على أن هذا هو بعينه الذي جرى عليه المؤلف في النظر الثاني في المسألة الخامسة، ولذا قلنا: إنه يلزم أن تكون المسألة الثامنة مقيدة لإطلاق المسألة الخامسة. "د".
قلت: وكلام الرازي في "المحصول" "1/ 158وما بعدها، و 6/ 97 وما بعدها"، وانظر في المسألة: "البرهان" "1/ 99"، والمستصفى" "1/ 41"، و"الإحكام" "1/ 130".
للآمدي، و"الإحكام" "1/ 58/ 68" لابن حزم، و"شرح التنقيح" "ص 92"، و"شرح الكوكب" "1/ 325"، و"سلاسل الذهب" "423- 424"، و"المسودة" "ص 474"، "وتيسير التحرير" "2/ 167" و"نشر البنود" "1/ 27"، و"مذكرة الشنقيطي" "19".
3 لكن على وجه عام كلي كما سبقت الإشارة إليه. "د".(36/75)
ص -67-…على غير ذلك-، فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع؟
وأيضًا، فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد، وكيف يقال: "إن الأصل في الخمر مثلا الإذان من حيث منفعة الإنتشاء والتشجيع1 وطرد الهموم، والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما لا ينفكان2، أو يقال: الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته، والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به وهما غير منفكين؟ فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا، وذلك محال.
فإن قيل: المعتبر عند التعارض الراجح، فهو الذي ينسب إليه الحكم، وما سواه في حكم المغفَل المطرَح.
فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم3، إذ هو دليل على أن المنافع ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء/ ص 131 زيادة: "والتجويد"، ولها وجه قوي لما سيأتي "ص 123" في فوائد الخمر: "وتبعث البخيل على البذل"، وهي في "ط" كذلك.
2 ادعى أبو بكر الجصاص أن في قوله تعالى: {قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} دليلًا كافيًا في تحريم الخمر، وأن عمر بن الخطاب فهم منها وجه التحريم، وإنما قال بعد نزولها: "اللهم بين لنا في الخمر"؛ لأن بعض المسلمين وجدوا للتأويل فيها مساغًا، فتمادوا على تناولها، ويقدح في هذه الدعوى أن الآية لو نزلت لتقرير حكم الحرمة لرجع عمر بن الخطاب بهؤلاء المُؤَوِّلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما نزل إليهم "خ".(36/76)
3 نقول: وهذا أيضًا يشد ما تقدم في الجواب عن الرازي، إذ لا يعقل أن يعني أن كل ما فيه اسم مصلحة ما مأذون فيه كالخمر مثلا، وما فيه مفسدة ما ممنوع كمرارة الدواء، بل ما يعتبر مثله مصلحة أو مفسدة في نظر الشارع، فالاعتراض إن كان بمعنى التنبيه على غرض الرازي، فظاهر، وإلا فلا. "د".(36/77)
ص -68-…أصلها الإباحة بإطلاق، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع، أو نفع ما مندفع.
- ومنها: أن القرافي أورد أشكالًا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه، وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد، فقال:
"المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماها كيف كانا، فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلام ومفاسد في تحصيلها، وكسبها، وتناولها، وطبخها، وإحكامها، وإجادتها بالمضغ، وتلويث الأيدي.... إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه، فمن يؤثر وقيد1 النيران وملابسة الدخان وغير ذلك2؟ فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة.
وإن أرادوا3 ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة، فليس بعضها أولى من بعض؛ ولأن العدول4 عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال، فإنه سفه.
ولا يمكنهم أن يقولوا5: إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2" انظر: "الاستدراك 2".
3 أي: حتى تبقى المباحثات قائمة. "د".
4 أي: فإن أراد المعتزلة الخلوص من هذه الورطة بالعدول عن جعل المصلحة والمفسدة مبنى الحكم بالإذن والمنع، نقضوا مذهبهم المعلل بأنه لو لم يكن هذا البناء، لكان تحكما وسفها وخلوا عن الحكمة، تعالى الله عن ذلك. "د".
5" أي: جوابا عن الإشكال بأن إرادة المطلق الذي هو مسمى المصلحة والمفسدة لا تبقي شيئا من المباح، يعني: فإن قالوا: "نختار هذا المطلق، ولكن باعتبار مجرد توعد الله على الفعل والترك بدون تخصيص، حتى لا يقال: إن مراتب التخصيص ليس بعضها أولى من بعض، وبهذا الاعتبار يبقى المباح قائما ويندفع الإشكال"، نقول لهمك يلزمكم الدور. "د".(36/78)
ص -69-…تركها، وكل مفسدة1 توعد الله على فعلها هي المقصودة، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصدونا، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال؛ لأنا نقول: الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على2 ترك المصالح وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد، لزم الدور3، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد [من الوعيد]، للزمكم4 أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد، وتنعكس الحقائق حينئذ، فإن المعتبر هو5 التكليف، فأي شيء كلف الله به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم".
قال: "وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أنه6 يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل7؛ لأن المباحت فيها ذلك ولم يراع، بل يقولون: إن الله ألغى بعضها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2، 5، 6" انظر: "الاستدراك 3".
3 وتقريره أنهم يقولون: إن العقل يتأتى له الاستقلال بفهم أكثر المصالح والمفاسد، ويأتي الشرع كاشفا ومقررا لما أدركه العقل، ويقولون أيضا: إنه يجب عقلا أن يتوعد الله على ترك المصلحة، فكأنهم يقولون: إن التوعد على ترك المصلحة يفهمه العقل تبعا لإدراكه المصلحة، فلو قالوا: إن إدراك المصلحة يعلم من التوعد الوارد من الشرع، لزم توقف علم المصلحة على التوعد، وقدكان علم التوعد موقوفا على علم المصلحة، وهذا هو الدور بعينه. "د".
4 وذلك؛ لأنهم يقولون: المصالح والمفاسد منضبطة متمايزة، وهي حقيقية لا اعتبارية، فإذا كانت تابعة لاعتبار الشرع أيا كان، فقد ينعكس الأمر فيعتبر الشرع ما ليس كذلك؛ لأنا لم نتقيد حينئذٍ إلا بأنه أمر به أو نهي عنه فقط. "د".(36/79)
7 أي: فقد يفضل مطلق المصلحة في الفعل على ما فيه من مطلق المفسدة فيوجبه، وبالعكس، لا يمكنهم الإجابة بهذا؛ لأن المباحثات فيها المطلقان موجودان، وبقي مباحا لم يوجب ولم يمنع، ولكن يمكنهم الجواب بأنه تعالى ألغى هذه المطلقات في المباحات، فبقي الطرفان كما هما لا إيجاب ولا تحريم، واعتبرها في غير المباحات مفضلا مطلق المصلحة في بعضها، فجعله مطلوبا، ومطلق المفسدة في بعض آخر فجعله محظورا، ولا حجر عليه تعالى في ذلك، هذا إلا أنه يقال عليه: إنه تسليم بأن كون الفعل معتبرًا مصلحة أو مفسدة متوقف على النص بإيجابه أو تحريمه، فالقياس إنما يكون دليلا عند النص على علة القياس واعتباره لها، أما مسالك العلة الأخرى أو بعضها على الأقل، فإنه حينئذ لا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، فتأمله، وهو داخل فيما أشار إليه بقوله: "وإن كان يخل بنمط من الاطلاع..." إلخ. "د". "استدراك 4".(36/80)
ص -70-…في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غير أنهم يقولون: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، و {يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ} [المائدة: 1]، ويعتبر الله ما يشاء، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك1، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا، فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة؛ لأنهم إذا فتحوا هذا الباب2 تزلزلت قواعد الاعتزال". هذا ما قاله القرافي3.
وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها، لم يبق لهذا الإشكال موقع، أما على مذهب الأشاعرة، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك4، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير [إخلال بالخروج5 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لا غيره"، وفي الأصل و"خ": "لا غير وفي ذلك"، وكتب "م": "الذي يظهر لي أن أصل العبارة "لا غير ذلك" يعني إنهم يتمسكون بهذا الكلام، ولا يذكرون غيره"، والمثبت من "ط" و"النفائس".
2 أي: باب أنه يعتبر ما يشاء ويترك ما يشاء، بقطع النظر عن مصلحة ومفسدة. "د".
3 ذكر ذلك في النفائس" "1/ 352-353"، وانظر مناقشته في "شرح الأسنوي" "1/ 130- ط السلفية".
4 جواب عما لزمهم من أنهم إذا سئلوا عن الضابط عسر الجواب. "د".(36/81)
5 أي: مصور بالخروج عن الجادة، وقوله: "في جريانها" راجع لاستقراء الأحوال، أي: فإننا عند استقراء أحوالهم نجدها جارية على الصراط المستقيم، معطين كل ذي حق حقه، فلا يخلون بنظام، أي لا تفوتهم مصلحة، ولا تنهدم في عملهم قاعدة من قواعد الدين، كما أننا نجد الأمر بخلاف ذلك عند استقراء أحوال الذين لا يلتزمون الجادة، فبمقدار ما خالفوا نجد الخلل في أحوالهم بفوات المصالح، فقوله: "وفي وقوع الخلل" عطف على المعنى. "د".وفي "ط": "إخلال بالحدود".(36/82)
ص -71-…جريانها على الصراط المستقيم، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير]1 إخلال بنظام، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع، وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع، وكل أصل من أصول التكليف، فإذا حصل ذلك2، للعلماء الراسخين، حصل لهم به ضوابط في كل باب على ما يليق به، وهو مذكور في كتبهم، ومبسوط3 في علم أصول الفقه.
وأما على مذهب المعتزلة، فكذلك أيضًا؛ لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح، أو ينخرم به في المفاسد، وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة، وإنما اختلفوا في المدرك4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: إذا حصل استقراؤهم لأحوال الجارين على الجادة، واستقراؤهم لوقوع الخلل بمقدار ما يقع من المخالفة، حصل لهم ضوابط في كل باب لما يعتبره الشرع مصلحة وما يعتبره مفسدة، فلا يعسر عليهم الجواب، ولا يحصل خلل بنمط معرفة أسرار الأحكام الشرعية. "د".
3 يفيد أن ضوابط المصلحة والمفسدة المعتبرتين شرعا في كل باب من أبواب الشرع مبسوطة في علم الأصول، وهو كذلك؛ لأن هذه الضوابط هي عبارة عن القواعد الأصولية الكلية التي بملاحظتها يمكن تفريع الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام بمراعاة الأدلة الجزئية من الكتاب والسنة وغيرهما،كما سيأتي في المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".(36/83)
4 فالأشاعرة يقولون: لم نتعرفها إلا من تتبع موارد الشرع، وقبله لا قبل للعقل بإدراكها والمعتزلة يقولون: بل العقل يدركها في أكثر الأبواب قبل الشرع، والشرع ورد كاشفا ومثبتًا ما فهمه العقل في هذه الأبواب، فالنتيجة في الموضوع واحدة، وهي أن المصالح والمفاسد معتبرة في الأحكام الشرعية، ولا يرد اعتراض القرافي. "د".(36/84)
ص -72-…واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعًا ومنضبطة1 في أنفسها.
وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا2 في كلامه على العزيمة والرخصة، حين فسرها الإمام الرازي بأنها "جواز الإقدام مع قيام المانع"، قال:
"هو3 مشكل؛ لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة، إذ يجوز الإقدام على ذلك كله، وفيه مانعان: ظواهر النصوص المانعة من إلزامه، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار"4، وذلك مانع من وجوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا يفتحون باب أنه يعتبر ما يشاء، ويترك ما يشاء بقطع النظر عن المصلحة حتى يترتب عليه ما رتبه القرافي من تزلزل قواعدهم."د".
2 أي: الترديد في معنى المصلحة والمفسدة، وأنه ما من فعل إلا وفيه شيء من المصلحة وشيء من المفسدة، فجعل المشاق والمضار في كل الأفعال موانع، وما من فعل إلا وفيه ذلك، فكل ما في الشريعة من الأحكام المباحة أو المطلوبة يكون رخصة متى جرينا على تفسير الإمام الرازي لها بناء على ما فهمه القرافي فيه، هذا ولم يتعرض المؤلف لتصحيح كلام الرازي هنا، ولو فسر المانع في كلام الرازي بما قاله الجمهور عند تعريف الرخصة وأن المراد بها الدليل على الأصل الذي استثنيت منه هذه الرخصة كما سبق بيانه جوابا عن استدراك المؤلف على تعريف الجمهور للرخصة، لكان تفسير الرازي لها جيدا، نعم، لو فسر المانع في كلامه بما يكون مفسدة ومضرة تلحق الشخص مثل مشقات الصلاة وسجوده على الجبهة التي هي أشرف أعضاء الإنسان المكرم وأمثال ذلك، لاتجه إشكال القرافي على هذا التفسير ثم عجزه أخيرًا عن ضبط الرخصة كما ذكره في كتابيه المذكورين. "د". قلت: انظر كلام الرازي في "المحصول" "1/ 120".
3 في "ط": "وهو".(36/85)
4 ورد من حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وعمرو بن عوف، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة.
فحديث عبادة رواه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، 2/ 784/ رقم 2340"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 326-327"،=(36/86)
ص -73-…........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والبيهقي في "السنن" "10/ 133"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 344"، كلهم من رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقال أبو نعيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، قال ابن عساكر في "الأطراف": "وأظن إسحاق لم يدرك جد أبيه عبادة"، نقله الزركشي في "المعتبر" "رقم 295"، و ابن حجر في "التهذيب" "1/ 256"، والهيثمي في "المجمع" "4/ 205"، ومع ذلك، فقد ضعفه ابن عدي وقال: "عامة أحاديثه غير محفوظة".
وحديث ابن عباس رواه عبد الرزاق في "المصنف" وأحمد في "المسند" "1/ 313" عنه وابن ماجه في "السنن" "2/ 784/ 2341"، والبيهقي في "السنن" "6/ 69"، من طريقه أيضًا، عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره، والطريق الميتاء سبعة أذرع"، وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 302/ رقم 11806"، وجابر الجعفي فيه مقال كثير معروف، لكن الحديث ورد من وجه آخر خرجه "الدارقطني في "السنن" "4/ 228"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 397/ رقم 2520" من طريق عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للجار أن يضع خشبة على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا ضرار".
وإبراهيم بن إسماعيل مختلف فيه، وثقة أحمد، وضعفه أبو حاتم، وروايات داود عن عكرمة مناكير، فإسناده ضعيف.(36/87)
وتابع إبراهيم بن إسماعيل سعيد بن أيوب كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 228-229/ رقم 11576"، ثنا أحمد بن رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد، عن داود به موقوفًا على ابن عباس.
وإسناده واه بمرة، روح ضعيف، وابن رشدين متهم.
وأخرجه الخطيب في "الموضح" "2/ 96-97" من طريق يعقوب بن سفيان عن روح به مرفوعًا.
وأخرجه ابن أبي شيبة -كما في "نصب الراية" "4/ 384"- ثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، عن سماك، عن عكرمة به.
وإسناده رجاله كلهم ثقات، وفي رواية سماك عن عكرمة اضطراب.=(36/88)
ص -74-….............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وحديث أبي سعيد رواه الدينوري في "المجالسة"، والدارقطني في "السنن" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 57"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 69-70"، وابن عبد البر في "التمهيد" "20/ 159"، كلهم من طريق الدراوردي عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري به بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه"، وقال الدينوري: "لا ضرورة ولا ضرار، من ضار ضر الله به...." الحديث، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم"، وهو كما قال: وقال البيهقي: "تفرد به عثمان بن محمد عن الداروردي".
ورواه مالك -يعني في "الموطأ" "2/ 745"- عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرار ولا ضرار" مرسلا.
وأفاد ابن التركماني في "الجوهر النقي" أن عثمان لم ينفرد به، كما قال البيهقي، بل تابعه على روايته عن الدراوردي موصولا عبد الملك بن معاذ النصيبي، أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال: "إن هذا الحديث لا يسند من وجه صحيح"، وقال: "وأما معنى هذا الحديث، فصحيح في الأصول".
وليس كما قال أيضا، فالداروردي حافظ ثقة، وقد أسنده عنه اثنان، ومالك علم من حاله أنه يرسل كثيرا ما هو عنده موصول، ورجح ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 208" رواية الإرسال.
وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 228" بإسناد فيه يعقوب بن عطاء وهو ضعيف، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه، كما في "نصب الراية" "4/ 385"، وحديث جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2002" و"نصب الراية" "4/ 386"، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان به.(36/89)
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 209": "وهذا إسناد مقارب، وهو غريب، لكن خرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 407" من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا، وهو أصح"، ولأبي لبابة ذكر فيه.
وحديث عائشة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 227" وفيه الواقدي وهو متروك، ومن طريق آخر ضعيف أيضًا، الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2003"، وحديث ثعلبة أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 1377"، وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف، وهو لين الحديث.
وحديث عوف بن عمرو أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" "20"، وقال: "إسناده غير صحيح"، فالحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ولذا قال النووي عن شواهده في "أربعينه": "يقوي بعضها بعضا" وقال ابن الصلاح: "مجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به"، وعد أبو داود السجستاني هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وهذا مشعر بأنه يراه حجة، والله أعلم.
وانظر: "الإرواء" "3/ 408-414"، و"السلسلة الصحيحية" "رقم 250".(36/90)
ص -75-…هذه الأمور، والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد، ولا يلزمه المشاق والمضار.
وأيضًا الإجارة رخصة من بيع المعدوم، والسلم كذلك، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة، والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه، ولم تعد منها، واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس، وإن قلت على العبد كالكفر والإيمان، فما ظنك بغيرهما؟
وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعين؛ لأنه لا يمكن1 أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح، فإن أكل الميتة وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يمكن الجواب بأن المراد المانع القوي الذي لم يعارضه ما هو راجح، يعني: وهذه الأمور المستشكل بها من صلاة وحدود وغيرها ليس فيها مانع قوي، بل هو ضعيف في مقابلة المثبت لها بخلاف الرخص، فإن المانع فيها قوي، فذلك كانت رخصا -قال: إن هذا الجواب لا يحسم الإشكال؛ لأن بعض الرخص- كرخصة أكل الميتة طلب الرخصة فيها أقوى من معارضه الذي يطلب الأصل وهو التحريم، وإذا، فالمراد بالمانع ما هو أعم من أن يكون راجحا أو مرجوحا، فتدخل أحكام الشريعة كلها؛ لأنها لا تخلو من مانع ولو ضعيفا، مثل الموانع التي أشرنا إليها في صدر الإشكال، هذا ويمكنك أن
تنقض للقرافي رده على الجواب، وذلك أنه جاء في رده بما هو من مواضع الرخصة الواجبة، وقد علمت سابقا أن تسميتها رخصة تسمح، وأن الرخصة الحقيقة لا تعدو حكم الإباحة بأحد المعنيين، فالمانع فيها سلم عن المعارض الراجح، وقد عالج المؤلف سابقا توجيه تسمية الواجبة رخصة بعد ما قرر ما ذكرنا واستدل عليه، فللرازي أن يلتزم أن كل الميتة للمضطر ليس رخصة، بل هو واجب شرعا. "د". وفي "ط": "لأنه يمكن" بحذف "لا".(36/91)
ص -76-…وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة، فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح، وحينئذ تندرج جميع الشريعة؛ لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه".
ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي "التنقيح" و"المحصول"1 العجز عن ضبط الرخصة.
وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع2، مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام.
- ومنها: أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}3 الآية [الأعراف: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المحصول" "1/ 120"، وشرحه "نفائس الأصول" "1/ 331 وما بعد".
2 لأن ما اعترض به القرافي كلام الرازي مبني على أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة وقد جعلها مانعا، وقد علمت أن الأمر ليس كذلك، بل المصالح متمايزة عن المفاسد شرعا، سواء عند المعتزلة والأشاعرة، وبهذا ينحسم إشكاله على الرخص، كما انحسم إشكاله الذي أورده على جميع العلماء في أصل الموضوع هنا، وأيضًا كلام المؤلف في باب الرخصة كاف في دفع استشكاله وتحيره في ضبط الرخصة "د".
3 صدرها وإن كان فيه إنكار التحريم فقط، إلا أن بقيتها فيه التصريح بالحل المطلق. "د".(36/92)
ص -77-…وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق، بل بقيود تقيدت بها، حسبما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد، والله أعلم.
- ومنها: أن بعض الناس1 قال: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية، فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات".
قال: "ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد، راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله2 بتقدير أن الشارع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها". هذا قوله.
وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع، فكما قال: وأما ما قال في الدنيوية، فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام.
ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة3، فليس بخارج عن كونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو العز بن عبد السلام، والمذكور قوله في "قواعد الأحكام" "1/ 10".
2 أشبه بمذهب المعتزلة. "د".
3 في الأصل: "الآخرة".(36/93)
ص -78-…قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا1، حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه، فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد2 هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها، بعد وضع الشرع أصولها، فذلك لا نزاع فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورود الشريعة لإقامة مصالح الدنيا اقتضى أن يكون في تعاليمها قواعد كلية تندرج فيها أحكام الوقائع التي تعرض للأفراد والجماعات، وليس على الراسخين في العلم بها سوى النظر في الوقائع وفحص ما يترتب عليها من آثار المصالح والمفاسد حتى يصوغوا لها من تلك القواعد القيمة حكما عادلا، وإذا كان الإسلام يقوم على هذه الحقيقة، فمن المتعين على علمائه أن يبحثوا في حال الاجتماع، ويدرسوا شؤون الأمم حتى تكون فتاويهم مفرغة في حكمه وسداد، والرئيس الذي يحاول صرفهم عن الخوض في مذاهب السياسة وحصرهم في دائرة ضيقة من التعليم إنما يفعل ما يفعل جهلا بحقائق الإسلام أو قصدًا للعبث بذلك النظام الذي بهر جهابذة الفلسفة، فأطرقوا لحكمته خاضعين. "خ". وفي "ط": "صلاح الدنيا".
2 وهو بعيد من قوله: "بتقدير أن الشرع لم يرد". "د".(36/94)
ص -79-…المسألة التاسعة:
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند غليه، والمستند إليه في ذلك، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنيا باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية، ولو جاز إثباتها بالظن، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية بلا بد.
فإذا ثبت هذا، فكون هذا الأصل مستندًا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا.
فالعقلي لا موقع له هنا؛ لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية، وهو غير صحيح، فلا بد أن يكون نقليا.
والأدلة النقلية، إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند، لا يحتمل متنها التأويل على حال أو لا، فإن لم تكن نصوصًا، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها؛ لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب، وإن كانت نصوصًا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند، فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء.
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي.
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول: إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية، والموقوف على(36/95)
ص -80-…الظني لا بد أن يكون ظنيًّا، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، و [عدم]1 التخصيص للعموم، و [عدم]1 التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع ذلك أمور ظنية.
ومن المعترفين بوجود من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة، فقد تفيد اليقين، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع2 كلها قطعية، وليس كذلك باتفاق، وإذا كانت لا تلزم، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع3 واليقين نادر على قول المقرين بذلك، وغير موجود على قول الآخرين.
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين.
ولا يقال: إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعين؛ لأنا نقول: هذا
أولًا:
مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعًا، نقلا متواترًا عن جميع أهل الإجماع، وهذا يعسر إثباته، ولعلك لا تجده، ثم نقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "أو التخصيص".
2 أي: التي هي من النصوص المتواترة التي لا تحتمل تأويلًا كما هو موضوع الكلام، لا أنه يلزم أن يكون كل دليل ولو كان ظني الدلالة أو المتن كذلك، فإنه لا يلزم مع أخذ الموضوع كما قلنا. "د".
3 في "خ": "للدليل القطعي"، وفي الأصل: "للدليل القطع".(36/96)
ص -81-…ثانيا:
إن فرض وجوده، فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم، ويجتمعون على أنه قطعي، فقد يجتمعون على دليل ظني، فتكون المسألة ظنية لا قطعية، فلا تفيد اليقين؛ لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي، فإن اجتمعوا على مستند ظني، فمن الناس من خالف1 في كون هذا الإجماع حجة2 فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي.
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة، وذلك3 أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع.
ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جُودُ حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه4، وما أشبه ذلك، فلم يعتمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على أن بعض من قال: إنه حجة لا يقول إنها قطعية كما هو الغرض هنا. "د".
2 جرى الخلاف في استناد الإجماع إلى اجتهاد وقياس، فمنعه الظاهرية لإنكارهم أصل القياس وابن جرير الطبري نظرًا إلى أن الإجماع الصادر عن القياس لم ينعقد على مستند قاطع، فلا يكون حجة، والراجح لدى الجمهور أنه واقع وحجة، ومن أمثلته إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر الصديق مستندين إلى الاجتهاد الملوح إليه بقول جماعة منهم رضيه "رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا". "خ".
3 في "خ": "كذلك".
4 انظر في تخريج ذلك: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر "1/ 193"، وما مضى "1/ 29".(36/97)
ص -82-…الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة.
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدًا للظن، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق، فخبر واحد مفيد للظن مثلًا، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن، وهكذا خبر آخر وآخر، حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض1، فكذلك هذا، إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار.
وهذا بُيِّنَ في كتاب المقدمات2 من هذا الكتاب.
فإذا تقرر هذا، فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها، والمتأملين لمعانيها، سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في [إثبات]3 هذه القواعد الثلاث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 258-259".
2 تقدم له في المقدمة الثالثة بيان أوسع من هذا في صحة الاعتماد على هذا الاستقراء، وجعله من باب التواتر المعنوي، ولكنه هنا بسط الكلام في بيان أنه لا يمكن الاعتماد في إثبات هذا الأصل المهم على العقل ولا على النقل الأحادي ولا على الإجماع، وتوصل ذلك إلى أن لا بد من الرجوع لشبه التواتر، فما أوجزه هناك بسطه هنا، وبالعكس، فلا يقال: إن هذه المسألة تكرار محض مع ما تقدم هناك. "د".
3 سقط من "ط".(36/98)
ص -83-…المسألة العاشرة:
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها، فلا يرفعها تخلف1 آحاد الجزئيات.
ولذلك أمثلة2: أما في الضروريات، فإن العقوبات مشروعة للازدجار، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه، ومن ذلك كثير، وأما في الحاجيات، فكالقصر في السفر، مشروع للتخفيف وللحوق المشقة، والملك المترفه لا مشقة له، والقصر في حقه مشروع، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضًا مع عدم الحاجة، وأما في التحسينيات، فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم.
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية؛ لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا، فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا، وأيضًا3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن تكون مع كونها داخلة في الكلي آخذة حكما آخر، أو تكون آخذة حكمه، ولكن المصلحة المعتبرة في الكلي ليست متحققة فيها، هذا هو الذي يقتضيه النظر في ذاته، ويقتضيه أيضا قوله الآتي: "وأيضا، فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي، فلا تكون داخلة... إلخ"، فإن ذلك ليس إلا في الغرض الأول الذي فرضناه هنا، وهو ما يكون داخلا في الكلي ولكنه أخذ حكما آخر، فيكون الجواب أنه ليس داخلا؛ لأنه أخرجه عنه حكمة غير حكمه هذا الكلي جعلته خارجا عنه. "د".
2 هذه الأمثلة للنوع الثاني، وهو ما يكون تخلف الجزئي بمعنى أخذه حكم الكلي، ولكنه ليس في المصلحة المعتبرة في الكلي، وقد يمثل للأول بأن حكمة وجوب الزكاة الغنى، وهي موجودة في مالك الجواهر النفيسة كالماس مثلا، ومع ذلك أخذ حكما آخر وهو عدم وجوب الزكاة "د".
3 لو جعل هذا دليلًا على ما قبله، لكان أوضح من جعله دليلا مستقلا؛ لأن ما قبله كدعوى لا تتم إلا بهذا. "د".(36/99)
ص -84-…فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي؛ لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت.
هذا شأن الكليات الاستقرائية1 واعتبر ذلك بالكليات العربية فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية، كما نقول: "ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلًا"، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبته، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة: "ما ثبت للشيء ثبت لمثله".
فإذا كان كذلك، فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
وأيضا2، فالجزئيات المتخلفة3 قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي، فلا يكون داخلة تحته أصلا4، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا، لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاستقرائيات".
2 هذا الجواب بمنع التخلف، أي فنقول: إنه لا تخلف أصلا، وأن ما يظهر فيه أنه تخلف هو في الواقع كذا أو كذا. "د".
3 في "خ": المختلفة".
4 أي: فلا تكون من جزئيات الكلي، فلا يصح الاعتراض بتخلفها؛ لأنها خارجة عنه حتى في نظرنا. "د".
قلت: كلام المصنف هذا أشبه ما يكون بما يسمى اليوم بـ "مناهج العلوم"، فكأني به يريد أن يثبت أن للشريعة منهجا لا يمكن خلطه بالطرق العقلية المجردة، وانظر عن الاستقراء وحجيته وأقسامه: "شرح القطب على الشمسية" "ص 315 وما بعدها"، و" البحر المحيط" "2/ 103و 6 / 110" للزركشي، و" المنطق الحديث" "ص 32" لمحمود القاسم، والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم" "ص 183 وما بعدها" لعوض الله حجازي.
5 أي: وإن لم نقف عليه، فيأخذ الجزئي حكما آخر لحكمة خفيت علينا، وإن كان مقتضى الظاهر أنه يأخذ حكم الكلي؛ لأنه في نظرنا مندرج فيه. "د".(36/100)
ص -85-…فالملك المترفه قد يقال: إن المشقة تلحقه، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول1 في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست الإزدجار فقط، بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن كانت زجرًا أيضًا عن2 إيقاع المفاسد، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي.
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا انظر آخر في الجواب، أي: قد نفهم أحيانا أن الحكمة كذا، ويكون الواقع أن هذا بعض ما يراعيه الشارع في الحكمة، ويكون هناك أمر آخر أعم منه يراعي ويكون مطردا، كالكفارات في الحدود مثلا. "د".
2 كذا في ط"،وفي غيره: "على".(36/101)
ص -86-…المسألة الحادية عشرة:
مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة، لا تختص بباب دون باب، ولا بمحل دون محل، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف1، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها.
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق، لكن2 البرهان قام على ذلك، فدل على أن المصالح فيها غير مختصة.
وقد زعم بعض المتأخرين- وهو القرافي3- أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض4، بل متى كان أحدهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يشير إلى ما سيأتي عن القرافي وابن عبد السلام، وقد عقد هذه المسألة للرد عليهما، وبيان ما هو الواقع فيما ادعياه، وقد أصاب كل الإصابة، وملك عليهما جميع النوافذ، رحمه الله. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص 134": "ولكن".
3 في كتابه "نفائس الأصول" "9/ 3901".
4 أي: لأن المصلحة الغالبة في المحل- أي: الراجحة التي يعتبرها الشرع- واحدة لا تتعدد، أي: فلا يسلم العقل بأن المصلحة الراجحة التي يراعيها أحدهما يكون نقيضها مصلحة راجحة أخرى يراعيها القائل الآخرن فلا يتأتى مع القول بإصابة كل مجتهد أن تكون الأحكام تابعة للمصالح، كما لا يتأتى معه أيضا القول بالقياس، لأنه مبني على وجود العلة التي هي المصلحة المراعاة في المقيس عليه. "د".
قلت: وفي هذا الموضع من الأصل: "أن يكون هو النقيضين"،وكذا في "النفائس".(36/102)
ص -87-…راجحا كان الآخر مرجوحا، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدًا وهو المفتي بالراجح، وغيره يتعين أن يكون مخطئا، لأنه مفتٍ بالمرجوح، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس، وأن الشرائع تابعة للمصالح.
هذا ما قال.
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام1 في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: عن هذه القاعدة لا تكون2 إلا في الأحكام الإجماعية، أما في مواطن الخلاف، فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع3 للراجح في نفس الأمر، بل ما4 في الظنون فقط، كان راجحًا في نفس الأمر أو مرجوحًا، وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح، وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم5 إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عن شيخه العز في...".
2 ويكون معناها أنهم حيث اتفقوا على الحكم وصادفوا هدفا واحدا، فكلهم مصيب وهذا في غاية البعد بعد الاطلاع على أدلة الطرفين وتقرير ردودهما، وانظر كتاب "التحرير" في مسألة "لا حكم في المسائل الاجتهادية التي لا قاطع فيها من نص أو إجماع" فقد جعلوا هذا محل القاعدة، لا المسائل الإجماعية. "د".
3 أي: إن الحكم الذي يجب على المجتهد العمل به ليس تابعا لما في نفس الأمر حتى يكون صوابا دائما، فيتأتى أن كل مجتهد مصيب، بل هذا الحكم تابع لما ترجح في ظنه فقط، ولو كان مخالفا لما في نفس الأمر، فالظنون الموافقة صواب، والمخالفة خطأ، وإن وجب عليه العمل بها ما دام ظنه بأرجحيتها قائما، أي فلا يتأتى أن يكون كل مجتهد مصيبا. "د".
4 كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "فيما".(36/103)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 13/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب بيان آجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 3/ 1342/ رقم 1716" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر".
قال "د": "أي أن الخطا الوارد في الحديث ليس موجها إلى الحكم، بل إلى وسائل الاجتهاد التي اتبعت في استنباطه والخطأ في ذلك لا نزاع فيه، فحمل كلام الشارع عليه أولى من حمله على نفس الحكم، لأن في تخطئة المجتهد في نفس الحكم خلافا".(36/104)
ص -88-…الأسباب، للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى. هذا ما نقل عنه.
ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين، لأن الأحكام على [تصويب]1 مذهب التصويب إضافية2، إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة3 للحكم أو متبوعة4 له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه5، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه، لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز، وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"ط".
2 هذا الوجه صرح به الإمام الغزالي وهو ناصر مذهب المصوبة في "كتاب المستصفى". "خ".
"3، 4" أي: على ما تقدم من مذهب الأشاعرة، ومذهب المعتزلة، إذ تفهم من الحكم على الأول، ويفهم الحكم منها على الثاني. "د".
5 أي: فهي إضافية أيضا، فيتأتى تعدد المصلحة الراجحة بالإضافة، فلا فرق بين مصوب ومخطئ حينئذ "د".(36/105)
ص -89-…على ما ظنه، فالضرر1 لاحق به في الدنيا وفي الآخرة، فحكم المصوب ههنا حكم المخطئ
وإنما يكون2 التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد، بل هو من ناظرين، ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه3، لا ما هو عليه في نفسه، إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع4، فههنا اتفق الفريقان، وإنما اختلفا بعد، فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، والمصوبة حكمت بناء على أن لاحكم في نفس الأمر، بل هو ما ظهر الآن، وكلاهما بانٍ حكمَه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر.
ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا، وكذلك من قال: إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان5، أو ليست من صفات الأعيان6، وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا، وهو من مباحث أصول الفقه، وإذا ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا ضرر"، وكتب "د": "كان المناسب أن يقول: ففيه ضرر لاحق به في الدنيا أو الآخرة".
2 هو روح الجواب عن قوله: "لأن القاعدة العقلية أن الراجح... إلخ"، وقوله "من نظر واحد" أي: أو من ناظرين يعتبران الواقع ونفس الأمر في ذاته بقطع النظر عن الظن. "د".
3 توكيد لقوله: "ظن كل واحد.... إلخ"، وتمهيد لقوله: "لا ما هو عليه في نفسه"، أي: الذي لو كان لكان التناقض حاصلا. "د" وفي "ط": "وظنه لا على ما....".
4 أي: الإجماع القطعي السند لأن الجميع قاطع فيه بأن العلة كذا 1في نفس الأمر، أما الإجماع الظني السند؛ فالاتفاق فيه على أن العلة كذا في نفس الأمر من باب المصادفة فقط، وإلا، فالمعتبر فيه ظن كل واحد عنه نفسه أنها العلة، كمواضع الخلاف، ولكن اتفق اتحاد ظنهم ذلك. "د".
"5، 6" هو الخلاف بين القدماء من المعتزلة وغير القدماء منهم في أن الحسن والقبح من ذات الفعل أو من صفة عارضة. "د".(36/106)
ص -90-…هذا، لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام، وارتفع إشكال المسألة والحمد لله.
وتأمل، فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا وحكما1، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي، وأن ذلك راجع إلى الذوات2، فكلام القرافي مشكل على كل تقدير، والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا يلتزمون صرف الخطأ المشار إليه بحديث الحاكم إلى الأسباب، بل يقولون إن كل مجتهد بشرطه مصيب في اجتهاده ووسائله، وفي حكمه الذي استنبطه مع أنهم يقولون بالمصالح عقلا، فيجمعون بين القول بها والتصويب، لا في الاجتهاد فقط، بل وفي نفس الحكم "د".
قلت: انظر: "البرهان" "2/ 1316- 1329".
2 أي: الحسن أو القبح جاء من ذات الفعل، كما يقوله قدماء المعتزلة، فإنهم يقولون: حسن الفعل وقبحه لذات الفعل لا لصفة توجبه، وقال بعضهم: بل لصفة توجبه لا لذات الفعل.... إلخ ما قرره في هذا الخلاف، فقوله: "وأن ذلك راجع إلى الذوات" ليس من محل الاتفاق بينهم, ولكنه اختاره لأن إشكال القرافي يكون عليه أوجَه مما إذا قالوا: لصفة توجبه لا لذات الفعل، لأنه حينئذ يمكن الانفكاك. "د".
وقال "خ" "إذا كانت الوقائع منشأ للمصالح والمفاسد، وكانت الأحكام قائمة على رعايتها، فالواقعة الواحدة إنما يكون لها حكم واحد، وهو الذي يطابق ما تقتضيه مصلحتها أو مفسدتها، ومن أداه اجتهاده إلى هذا الحكم، فهو مصيب وغير مخطئ، فلا يظهر وجه استقامة القول بتصويب كل مجتهد مع القول بأن الأحكام تفصل على مقتضى المصالح والمفاسد في نفس الأمر".(36/107)
ص -91-…المسألة الثانية عشرة:
إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة1..
ويتبين ذلك بوجهين:
أحدهما:
الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقوله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]، فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر، فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه وإليه ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا، ويشد بعضه بعضا، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
حكى أبو عمرو الداني في "طبقات القراء"2 له عن أبي الحسن بن المنتاب، قال:
كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447".
2 قال ابن الجرزي في "غاية النهاية" "1/ 505": "كتاب "طبقات القراء" في أربعة أسفار، عظيم في بابه، لعلي أظفر بجميعه"، وهذا الكتاب عزيز منذ القدم، كما أفاد المقري في "نفح الطيب" "4/ 474" ولم أظفر بأي نسخة خطية منه في المكتبات اليوم.(36/108)
ص -92-…جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فلم يجز التبديل عليهم، قال علي: فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي، فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا1.
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مئة كذبة أو أكثر2، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء، فكذلك في الأرض، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب بعض أهل العلم كالرازي إلى أن تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل إنما هو بسوء تأويلهما وحمل نصوصهما على ما يطابق أهواءهم، وقد تتبع فريق من العلماء المحققين، كابن حزم، وابن تيمية، والشيخ رحمة الله الهندي جملة من نسخهما، وأفاضوا في بيان ما دخل عليها من تحريف اللفظ وتبديل العبارة، وتحريف الكلم بالتأويل الباطل قد دخل في تفسير القرآن كما مني به غيره من الكتب المتقدمة، ولكن الله وقاه من تحريف اللفظ، ولم تستطع أيدي الزنادقة أن تمسه بسوء. "خ".
قلت: انظر نحو الحكاية المذكورة في: تفسير القرطبي" "10/ 5-6"، و"حاشية الجمل على الجلالين" "2/ 606".(36/109)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 6/ 304/ رقم 2210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام" باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1750/ رقم 2228" عن عائشة مرفوعا: "إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم" لفظ البخاري. وفي "ط": "أو أكثر من مائة كذبة".(36/110)
ص -93-…من مثله، وهو كله من جملة1 الحفظ، والحفظ2 دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلُّك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل
والثاني:
الاعتبار الوجودي الواقع من زمن3 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفَّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أما القرآن الكريم، فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلًا عن القراء الأكابر4.
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم.
فكان منهم قوم يذهبون الآيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث -وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب.
ثم قيض رجالا يبحثون يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها5 رفعا ونصبا، وجرا وجزما، وتقديما وتأخيرا، وإبدالا وقلبا، وإتباعا وقطعا، وإفرادا وجمعا، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "جهة".
2 في خ: "أو الحفظ".
3 في الأصل و"ط": زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 في نسخة "ماء / ص135" زيادة: "وكذلك لو نقص لرده آلاف".
5 في نسخة "ماء/ ص 135": "بها".(36/111)
ص -94-…الفهم عنه في كتابه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه.
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن1 أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان، حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون، وداوم2 عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى.
وبعث الله تعالى من عباده قراء3 أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس.
ثم فيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه، ويدفعون الشبه ببراهينه، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض، واستعملوا الأفكار، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا، واتخذوا الخلوة أنيسا، وفازوا بربهم جليسا، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه، وهم العارفون من خلقه، والواقفون مع أداء حقه، فإن عارض دين الإسلام معارض، أو جادل فيه خصم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "وعلى".
2 في الأصل و"ط": "ودام".
3 ليس تكرارا مع قوله: "قيض الله له حفظة.... إلخ"؛ لأن ذلك في الحفظ، وهذا في طريق وضعه في المصاحف، وضبط ترتيبه وكلماته، ووقوفه وفواصل آياته. "د".(36/112)
ص -95-…مناقض، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة1، فهُم جند الإسلام وحماة الدين.
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزَّلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج [في]2 إيضاحها إليه.
وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة، [وبالله التوفيق]3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يتعين على علماء الشريعة أن يكون لهم اطلاع واسع على ما يقوله المخالفون أو يكتبونه في حق الإسلام، حتى يقضوا على الشبه والأراجيف التي يلقونها كالعثرات في سبيل الدين، ويتصدوا لإماطتها بدلائل تلائم أذواق الناشئين بأسلوب بيانها وطرق منطقها، وكم من عقيدة ارتخت وفطرة كانت صافية فأغبرت وإنما أتاها البلاء من فساد طريقة التعليم وقلة مراعاة حال العصر وإخراج الحقائق في عبارات سائغة ونظام مألوف. "خ".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".(36/113)
ص -96-…المسألة الثالثة عشرة:
كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها1، فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن2 لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع،
والدليل على ذلك أمور:
- منها: ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر، كترك الصلاة، أو الجماعة، أو الجمعة، أو الزكاة، أو الجهاد، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه، كان العتب وعيدا أو غيره، كالوعيد بالعذاب، وإقامة الحدود في الواجبات، والتجريح في غير الواجبات، وما أشبه ذلك.
- ومنها: أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث، والأمر والنهي فيما قد جاء حتما، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به، من غير اختصاص ولا محاشاة، إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم، وحين كان ذلك كذلك، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها.
- ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أحدها".
2 بدل من إقامة "د".(36/114)
ص -97-…وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات، فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات1.
وأيضا، فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات2 يرجع إلى إهمال القصد في الكلي، فإنه مع الإهمال لا يرجي كليا بالقصد، وقد فرضناه مقصودًا، هذا خلف، فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصد إلى الجميع، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا وحده غير كاف في الدليل، لأنه محتاج إلى إثبات أن ذلك في جميع الجزئيات وسيأتي تكميله بقوله: "وليس البعض في ذلك أولى من البعض.... إلخ"، إلا أنه يبقى الكلام في تأخير هذه المقدمة عن الدليل المشار إليه بقوله: وأيضا، فإن القصد.... إلخ"، فهل ذلك لأنه محتاج إليها في إكماله؟ كما أن هذا محتاج إليها، فإن كان كذلك، كان تأخرها لتعود إليهما معا تكملة لهما، وربما يساعد على أن هذا غرضه قوله في نهاية الدليل الثاني: "فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات"، فيكون مساويا لما فرعه على الدليل الذي نحن بصدده حيث قال: "فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات، يعني: ويكون كل من الدليلين محتاجا إلى هذه التكملة الأخيرة.
ولكن الذي يظهر أن الدليل الأخير لا يحتاج إليها؛ لأن القصد بالكلي أن لا يكون تفاوت بين الخلق في الترتيب والنظام، فإذا أهمل القصد في بعض الجزئيات، اقتضى أن لا يجري كليا بالقصد، أي: فتخلف أي جزئي ينافي هذا القصد الكلي، وعليه يتم الدليل، ولا حاجة لقوله: "وليس البعض أولى.... إلخ".
وإذا تم هذا، كان المناسب تقديم هذه المقدمة قبل قوله: "وأيضا"، ولو قال قائل: إنها مؤخرة عن موضعها بعمل النساخ لم يبعد. "د".(36/115)
2 أي: في أي جزئي، هذا الذي يقتضيه روح الدليل بعد تقرير الدليل قبله، لأنه لا يناسب أن يقال: إنه يكفي النظر إلى الجزئيات مطلقا كلا أو بعضا، لأن هذا هو ما قبله من لزوم النظر إلى الجزئيات الخارجية التي يكون بها التكليف، وأيضا، فقد قال: "لا يجري كليا بالقصد إذا أهملت الجزئيات"، فتعين قصد جميع الجزئيات لا بعضها، فتنبه لتقف على وجه ما قلناه من أن الدليل الأخير تام بدون التكملة. "د".(36/116)
ص -98-…فإن قيل: هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات.
فالجواب: إن القاعدة صحيحة، ولا معارضة فيها لما نحن فيه، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي1، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي، حتى إن تخلف الجزئي هنالك، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى، كما نقول: إن حفظ النفوس مشروع- وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس، فإهمال هذا الجزئي في كليه [من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا، وهو النفس المجني عليها، فصار عين اعتبار الجزئي في كلي]2 هو عين إهمال الجزئي3، لكن في المحافظة على كليه من وجهين، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي بقي سالما من المعارض، أما ما تقدم، فهو في موضوع أنه يتخلف الجزئي عن الكلي لمعارض أخرجه من هذا الكلي وأدخله في كلي آخر، أو يكون عارضه اعتبار جزئي آخر لهذا الكلي ورجح عليه، وليس معناه أنه مع بقائه داخلا في هذا الكلي بدون معارضة يتخلف عنه ولا يأخذ حكمه من أمر أو نهي، فشتان ما بين الموضعين، ومثاله فيه إهمال لجزئي من قاعدة حفظ النفس لاعتبار جزئي آخر منها يعارضه اعتبار هذا المهمل، وإن كان في كل منهما أصل المحافظة على الكلي، لكنه أهمل أحدهما وهو المحافظة على الجاني بسبب جنايته. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وفي "ط": "كليه هو عين....".
3 أي: إن اعتبار الجزئي وهو حفظ النفس المجني عليها إهمال للجزئي الآخر من هذا الكلي، وهو حفظ النفس الجانية، فأهمل هذا وأتلفت. "د".(36/117)
ص -99-…فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض، فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أو على كلي آخر1، فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كلي آخر أشد رعاية من هذا الكلي، كقتل تارك الصلاة عمدا، لم يحافظ على هذا الجزئي من كلي حفظ النفس، رعاية لكلي آخر أقوى منه في الرعاية وهو حفظ الدين "د".(36/118)
ص -101-…النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
ويتضمن مسائل1
المسألة الأولى:
إن هذه الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسن العجمية، وهذا- وإن كان مبينا في أصول الفقه، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين2، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب، وجاء القرآن على وفق ذلك، فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها-، فإن هذا البحث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسائل الخمس الأولى تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، وهي ليست من المقاصد، وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع، وقد بحث المصنف المسألة الأولى في كتابه "الاعتصام" "2/ 293- 297"، وأفاد أنها من "الأدوات التي بها تفهم المقاصد".
2 وعلى رأسهم الإمام الشافعي في "الرسالة" "50"، وأبو عبيدة معمر بن المثنى في "مجاز القرآن"
1/ 17، 28"، والطبري في "تفسيره" "1/ 8"، وابن فارس في "الصاحبي" "60 - 62"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 1652- 1653"، وانظر: "البرهان في علوم القرآن". "1/ 249"، و"روضة الناظر" "1/ 184- 185"، و"المسودة" "174"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "32/ 255"، و"الإتقان" "1/ 136 وما بعدها"، و"الكتاب والسنة من مصادر الفقه الإسلامي" "ص 41- 43" لمحمد البنا، ط مطابع سجل العرب، ط الثالثة، سنة 1969م، و"من الدراسات القرآنية" لعبد العال سالم مكرم "ص 49- 64".(36/119)
ص -102-…على هذا الوجه غير مقصود هنا.
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2].
وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
إلى غير ذلك مما يدل1 على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة، هذا هو المقصود من المسألة.
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك، فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به، وجرى في خطابها، وفهمت معناه، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب، وهذا يقل وجوده2، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب، فأما إذا3 لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك دون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "دل".
2 قالوا: إن لفظ "تنور" اتفقت فيه اللغة العربية مع اللغات الأعجمية لفظا ومعنى، وقالوا: إن لفظ "صابون" اشترك فيه مع العربية جملة من اللغات الأعجمية. "د".
3 في الأصل: "إن".(36/120)
ص -103-…بعض، فلا بد لها من أن تردها حروفها، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها، وإذا فعلت ذلك، صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال.
ومع ذلك، فالخلاف الذي يذكره المتأخرون1 في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي، ولا يستفاد منه مسألة فقهية، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد، وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية.
فإن2 قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر3 يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، [وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله]4، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: "اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمة، ونفاه آخرون"، فالخلاف قديم، ومحله أسماء الأجناس لا الأعلام. "د".
2 في "ط": "فإذا".
3 في الأصل و"ط": "وظاهر".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(36/121)
ص -104-…فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما أن لسان بعض1 الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم، لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام، في "رسالته"2 الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب في هامش الأصل ما نصه: "لعل الصواب إسقاط لفظ بعض لأن "جميع" ألسنة العجم لا تفهم من جهة لسان العرب، والله أعلم".
2 "ص 50 وما بعدها" بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى.(36/122)
ص -105-…المسألة الثانية:
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
والثاني:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة1.
فالجهة الأولى:
هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتَّى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم، ويتأتَّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية:
فهي التي يختص2 بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب [الخبر والمخبر و] المخبر عنه والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: "قام زيد" إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت: "زيد قام"، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة: "إن زيدا قام"، وفي جواب المنكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتنتقل حيث انتقل المتبوع
2 في نسخة "ماء/ ص 137": "اختص".(36/123)
ص -106-…لقيامه: "والله إن زيدًا قام"، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه: "قد قام زيد"، أو: "زيد قد قام"، وفي التنكيت على من ينكر: "إنما قام زيد".
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره -أعني: المخبر عنه- وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار، وما يعطيه مقتضى الحال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن، لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر1 فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
فصل:
وإذا ثبت هذ، فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال، فضلا عن أن يترجم القرآن3 وينقل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تكرر".
2 انظر في هذا: رسالة محمد بن إسماعيل الصنعاني "الإيضاح والبيان في تحقيق عبارات قصص القرآن"، نشر مكتبة الإرشاد- صنعاء.
3 لا تتيسر ترجمة القرآن بالنظر إلى مستتبعات التراكيب "أعنى: المباني التي يرتفع بها شأن الكلام، كما أن من الآيات ما يحتمل معاني متعددة، والمترجم إنما يمكنه نقله إلى لغة أخرى بإحدى تلك المعاني، كما في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، فقد رأيت مترجم القرآن إلى اللسان الألماني سلك في ترجمة لفظ الإبل معنى السحاب الذي هو أحد الوجهين في تفسيرها. "خ".(36/124)
ص -107-…لسان غير عربي، إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه، فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب، أمكن أن يترجم أحدهما إلى آخر، وإثبات مثل هذا بوجه بَيِّنٌ عسيرٌ جدًّا، وربما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين، ولكنه غير كافٍ ولا مغنٍ في هذا المقام.
وقد نفى ابن قتيبة1 إمكان الترجمة في القرآن -يعني: على هذا الوجه الثاني- فأما على الوجه الأول، فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي2.
فصل:
وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها، لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام، وهل تعد معها كوصف من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" "ص 21" طبعة الشيخ أحمد صقر رحمه الله، وتبعه على هذا ابن فارس في كتابه "الصاحبي" "ص 16- 25"، وبحث فيه موضوع الترجمة بحث خبير، ورد فيه على الرواية المرجوحة لأبي حنيفة رد بصير، وإلى ابن فارس هذا كانت تضرب آباط الإبل، وعند جهينة الخبر اليقين، وانظر: "الكتاب والسنة" لمحمد البنا "ص 45 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 542".(36/125)
ص -108-…الأوصاف الذاتية؟ أو هي كوصف1 غير ذاتي؟ في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفرعية جملة، إلا أن الاقتصار على ما ذكر فيها كافٍ، فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة، فالسكوت عن ذلك أولى، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 139": "وصف". وفي "ط": "أم هي".(36/126)
ص -109-…المسألة الثالثة:
هذه الشريعة المباركة أمية1؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجري2 على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك:
أولا:
أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفطرة كما سيشرحه المؤلف.
ثانيا:
فإنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخرة أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا. "د".(36/127)
قلت: "انظر تفصيلا قويا حول هذا في "السير" "14/ 191- 192" للذهبي، والمراجع المذكورة في تعليقنا على آخر هذه المسألة.
2 أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. "د".(36/128)
ص -110-…وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية"1 لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها2.
وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3، وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب.
ونحوه قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48].
وما أشبه هذا4 من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نحوه "ص 138".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 435 و25/ 167".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب"، 4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761 / رقم 1080 بعد 15" من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ: "إنا أمة....." بتقديم "نكتب" على "نحسب"، ومضى "1/ 56".(36/129)
4 أخذ بظاهر حديث البخاري المروي في عمرة القضاء والكتابة إلى قريش وطائفة من العلماء، ففهموا أن الكتابة مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الحقيقة، وممن ذهب إلى هذا أبو الفتح النيسابوري وأبو ذر وأبو الوليد الباجي، وقد قام في وجه أبي الوليد فريق من علماء عصره كأبي بكر بن الصائغ وأبي محمد بن مفوز،ولكن علماء صقلية وافقوا أبا الوليد على هذه المقالة، والحق أن أبا الوليد لم يأت أمرا يقدح في المعجزة كما يدعي خصومه، إذ آية {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}، إنما نفت عن النبي عليه السلام الكتابة قبل نزول القرآن، وبقي الحال فيما بعد مسكوتًا عنه، ولكن أبا الوليد تشبث بسندٍ واهٍ وهو مجرد إسناد الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ الحديث، وليس إسناد الأمر إلى الرئيس وقد فعله أحد أتباعه عن أمره بعزيز "خ".
قلت: وفتوى الباجي مع أجوبة العلماء عليها منشورة بتحقيق أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مع دراسة ضافية له في المقدمة في بيان معاني النصوص الواردة في أمية الرسول صلى الله عليه وسلم بعنون "تحقيق المذهب"، وفيه "ص 243- 281" جواب ابن مفوز.(36/130)
ص -111-…الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.
والثاني:
أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتتنزل1 من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب2 لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية.
والثالث3:
إنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "لتنزل".
2 وأما غيرهم، فهو تابع، والتابع لا حكم له.(36/131)
3 جعل هذا الثالث دليلا على أنه يجب أن تكون على ما عهدوا حتى تكون حجة عليهم، وقد كان كونها على ما عهدوا دليلا بنفسه على أنها أمية، وعليه، فليس الدليل الثاني إلا دعوى محتاجة إلى الدليل الثالث، ولا يصلح أن يكون دليلا بنفسه إلا أن يبقى الكلام في هذا الدليل الثالث فيقال: هل لو جاءت الشريعة على طريق يحتاج لعلوم كونية ووسائل فلسفية، ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية كما صنع في الزوال والغروب والشفق إلخ، أو بنى الصوم لا على رؤية الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات لمعرفة أول رمضان، لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق بناها على أمور علمية كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق بإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة، فليس بظاهر لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور أهمها عندهم أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيء إلا أنه بأسلوب أعجزهم عن الإتيان بمثله. "د".(36/132)
ص -112-…ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، فجعل الحجة1 على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، رد الله عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، لكنهم أذغنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا المعنى كثيرة2.
فصل:
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس3، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه.
فمن هذه العلوم:
علم النجوم:
وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فجعل لهم الحجة".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 157".
3 تجد تفصيل هذه العلوم على وجه مستوعب في "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الآلوسي، وهو مطبوع، وفي آخر المجلد الأول من "صبح الأعشى".(36/133)
ص -113-…المعنى، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة،كقوله تعالى، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]
وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 39- 40].
وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].
وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الآية [الإسراء: 12].
وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وما أشبه ذلك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(36/134)
1 لو لم يكن لهم علم بسير النجوم بالمقدار الذي ينسبه لهم، فهذه الآيات يمكن فهمها لهم بعد لفت نظرهم إليها، إنها لا تحتاج إلا إلى التدبر في تطبيقها بطريق المشاهدة، على أن علم النجوم لم يكن لجمهورهم بل للبعض القليل الذي كان يستعمل غالبا دليلا للقوافي* في سير الليل ومع ذلك، فلم يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن ذلك ليس لجمهورهم، بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس، فإذا كان مثل عمر ليس عارفا، فما ذلك إلا لأن هذا يختص به جماعة منهم، كما هو الحال عندنا اليوم، الملاحون يعرفون كثيرا من هذه الأنواء وشأن الرياح، وهي أسباب عادية غير مطردة، ولا يعرفها الجمهور الذين عنايتهم بما يتسببون فيه لمعاشهم يعرفون=
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابها: "للقوافل".(36/135)
ص -114-…ومنها: علوم الأنواء1
وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، فبين الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الآية [الرعد: 12-13].
وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68-69].
وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14].
وقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]
خرج الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]، قال: "شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(36/136)
= منه ما لا يعرفه فيه غيرهم، وقد قال في الآية الثانية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون}، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون}، فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان ما تفهم فيه مثل هذا ومثل: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب}، ومثل أدوار الجنين: {نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} إلخ، ومثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه}، فإن معرفة أن تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين الإنسان وكمال صنعته، حيث امتازت تقاسيم الجلد الكاسي لها، فلا يوجد تشابه بين شخص وآخر في هذه التقاسيم، حتى نبه الله سبحانه إليها وقال: {بَلَى}، أي: نجمعها قادرين على جمعها وتسويتها على أدق ما يكون كما في تسوية البنان، إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب به، وقد فهم سره في هذا العصر، وانبنى عليه علم تشبيه الأشخاص "ببصمة الأصابع"، وجعلت له إدارة تسمى "تحقيق الشخصية"، الواقع أن هذه وغيرها مما لا يحصى أمور كونية عامة يفهمها كل من توجه إليه الخطاب بفهمها والاستدلال بها على الصانع الحكيم القادر. "د".
1 انظر في ذلك كتاب "الأنواء" لابن قتيبة، و"أحكام القرآن" "3/ 1149-1150" لابن العربي.(36/137)
ص -115-…وكذا"1.
وفي الحديث: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر [بي]"2 الحديث في الأنواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 84/ رقم 73"، وأبو عوانة في "مسنده" "1/ 27"،والبيهقي في "الكبرى" "3/ 358" من حديث ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليم وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر"، قالوا هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا": قال: نزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم}، حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
وأخرج اللفظ الذي أورده المصنف الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 401-402/ رقم 3295"، وأحمد في "المسند" "1/ 108"، وابنه عبد الله في "زياداته عليه" "1/ 131" والبزار في "البحر الزخار" "2/ 208/ رقم 593"، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" "2/ 1068- 1069/ 775" من حديث علي مرفوعا، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل، ورواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي نحوه، ولم يرفعه".
قلت: رواية الوقف أشبه وأصح، وما كان ينبغي للمصنف عفا الله عنا وعنه إهمال تعليق الترمذي على الحديث، وانظر: "العلل" للدارقطني "رقم 487".
وقد صح كما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 522"، أن ابن عباس أيضا قرأ الآية: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
علق عنه ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستسقاء، باب 28" ووصله بإسناد صحيح ابن جرير في "التفسير" "27/ 208"، وسعيد بن منصور، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" 2/ 397"، وابن مردويه في "التفسير المسند" كما في "الفتح" "2/ 522"، "وعمدة القاري" "6/ 45".(36/138)
2 سيأتي تخريجه "ص 445" ومضى "1/ 321"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما، وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(36/139)
ص -116-…وفي "الموطأ" مما انفرد به: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 192" بلاغا، والحديث ضعيف.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "7/ 161": "وهذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير "الموطأ" ومن ذكره إنما ذكره عن مالك في "الموطأ"، إلا ما ذكره الشافعي [في "الأم" "1/ 255"] في كتاب الاستسقاء، [ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" "5/ 200/ رقم 7281- ط قلعجي"] عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنشأت
بحرية ثم استحالت شامية، فهو أمطر لها" وابن أبي يحيى مطعون عليه متروك، وإسحاق ابن عبد الله
هو ابن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث".
ثم قال: "وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم بالحديث؛ لأنه ليس له إسناد".
وقال: "وقال الشافعي في حديثه هذا: "بحرية" بالنصب، كأنه يقول: "إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر، ومعنى نشأت: ظهرت وارتفعت" وقال: "وناحية البحر بالمدينة الغرب"، ثم تشاءمت، أي: أخذت نحو الشام، والشام من المدينة في ناحية الشمال، يقول: إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى الشمال -وهو عندنا البحرية- ولا تميل كذلك إلا بالريح النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة، فإنها يكون ماؤها غدقا، يعني: غزيرًا معينًا؛ لأن الجنوب تسوقها وتستدرها، وهذا معروف عند العرب وغيرهم".
ونحوه في "التمهيد" "24/ 377" أيضا، واستدرك ابن الصلاح في "رسالته في وصل بلاغات مالك الأربعة في الموطأ" "ص 11-13" على ابن عبد البر، فوصله من طريق ابن أبي الدنيا في كتابه "المطر" عن الواقدي، قال: "وفيه استدراك على الحافظين حمزة بن محمد وابن عبد البر، وليس إسناده بذاك".(36/140)
قلت: وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1247-1248/ رقم 722"، والطبراني في "الأوسط" "8/ 370-371/ رقم 7753" من طريق الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة عن عوف بن الحارث عن عائشة به مرفوعا نحوه، قال الطبراني: "تفرد به الواقدي".
قلت: وهو متروك، وعوف مقبول، وابن أبي فروة فيه كلام، فالحديث ضعيف جدا وانظر: "المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" "ص 282-283" لابن قتيبة، و"الأنواء" له ص 170"، و"كنز العمال" "7/ 838"، و"الهيئة السنية" "ق10/ أ" للسيوطي، والفائق" "3/ 56"، و"النهاية" "2/ 437 و3/ 346" و"غريب الحديث" "2/ 147" لابن الجوزي، و"توجيه النظر" "1/ 408 و2 / 913- 928".(36/141)
ص -117-…وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته: "كم بقي من نوء الثريا؟ فقال به العباس: بقي من نوئها كذا وكذا"1.
فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار.
وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه} الآية [الحجر: 22].
وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9].
إلى كثير من هذا.
ومنها: علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية
وفي القرآن من ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة، ولكن القرآن احتفل2 في ذلك، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم3، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الأصل: "نشأت في".
1 أخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 208" بإسناد فيه مجهول، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، فالإسناد ضعيف.
وذكره ابن قتيبة في كتابه "الأنواء" "ص14" وابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1149" من غير سند.
2 أي: قام بالأمر فيه.(36/142)
3 هذا يعضد ما قلناه، من أنه ليس بلازم أن يكون القرآن مجاريا لما عند العرب، فيصحح صحيحه، أو يزيد عليه، أو يبطل باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام؛ لأن الرسول بعث بالكتاب؛ ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور بتعليم ما لم يعلموا، وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل ولا رابطة مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على ما عند العرب، وإعجاز العرب شيء آخر لا يتوقف على ما قال، فتأمل، فالمقام جدير بالتدبر؛ لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقى حتى نحترز عنه، ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة. "د".(36/143)
ص -118-…قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} الآية [آل عمران: 44].
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49].
وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت1 وغير ذلك مما جرى.
ومنها: ما كان أكثره باطلا أو جميعه
كعلم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطيرة2، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه/ رقم 2368، وكتاب الأنبياء، باب "يزفون"، النسلان في المشي/ رقم 3362 و3363 و3364 و3365"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد الملك في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة" رقم 271، 272، 273، 274"، والأزرقي في "أخبار مكة" "1/ 59-60" وغيرهم.
وقد جمعت قسما من الأحاديث الصحيحة في الأخبار التى قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قبلنا في كتاب بعنوان "من قصص الماضين"، وذكرت فيه القصة التي أشار إليها المصنف "ص 89-104"، فانظرها فيه.
2 فائدة في معاني الألفاظ المذكورة:
- العيافة: زجر الطير، وهو أن يرى طائرا أو غرابا فيتطير، وإن لم ير شيئا، وإن قال بالحدس=(36/144)
ص -119-…ونهت عنه كالكهانة والزجر، وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرُّصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهةٍ من تعرُّف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحي والإلهام، وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة1، وأنموذج2 من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام3 والفراسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أي: بالظن والتخمين- كان عيافة أيضا.
- الزجر: أن تزجر طائرا أو ظبيا سانحا أو بارحا، فتطير منه، وهو ضرب من التكهن، تقول: زجرت أنه يكون كذا وكذا.
- الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار.
-خط الرمل: يقال له علم الخط وعلم الرمل، ويقال له: "الطَرْق" -بفتح فسكون آخره قاف-، وهو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال، وأكثر مسائله تخمينية مبنية على التجاريب، وذلك لأنهم يقولون: إن البروج الاثني عشر يقتضي كل منها حرفا معينا، وشكلا معينا من الأشكال المذكورة، فحين السؤال عن المطلوب يقتفي أوضاع البروج، وقوى الشكل المعين من الرمال، فتلك الأشكال بسبب مدلولاتها من البروج تدل على أحكام مخصوصة تناسب أوضاع البروج، راجع: "مفتاح السعادة" "1/ 336"، و"كشف الظنون"" 1/ 912-913".
- الضرب بالحصى: هو ضرب من التكهن والخط في التراب، يأخذ الكاهن حصيات، فيضرب بها الأرض، وينظر فيها، فيخبر بالمغيبات.
- الطِيَرَة- بكسر ففتح وبسكون الياء- هي ما يتشاءم به من الفأل الرديء
1 وسيأتي الحديث وتخريجه "ص419".
2 الأنموذج قال في "المصباح: "بضم الهمزة، ما يدل على صفة الشيء، وهو معرب، وفي لغة نموذج -بفتح النون والذال معجمة مفتوحة مطلقا-، قال الصغاني: "النموذج: مثال الشيء الذي يعمل عليه". "ماء / ص142".
3 كما حصل لعمر وغيره.(36/145)
قلت: ولا بد من التنبه إلى أن الإلهام لا يصح أن يكون دليلا كليًّا عامًّا تبنى عليه الأحكام، كما هو عند بعض أهل البدع، وانظر في ذلك: "القائد لتصحيح العقائد" "ص 37 وما بعدها"، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491"، و"الجواب الصحيح" "2/ 92"، و"تفسير القرطبي" "4/ 21 و7/ 39 و11/ 40-41".(36/146)
ص -120-…ومنها: علم الطب
فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ من تجاريب الأميين، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، لكن على وجه جامع شافٍ1 قليلٍ يطلع منه على كثير، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء2، وأبطل من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم في "زاد المعاد" [4/ 6-7]: "وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع في كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم، وقال في حفظ الصحة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس منها شيئا وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم وحفظ صحتهم واستفراغ مواد أذاهم، رحمة لعباده ولطفا بهم ورأفة، وهو الرؤوف الرحيم". "د".(36/147)
قلت: والمنقول بتصرف كبير عن ابن القيم.
2 يشير المصنف في عبارته إلى عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 10/ 139/ رقم 5684، وباب دواء المطعون، 10/ 168=(36/148)
ص -121-…ذلك ما هو باطل، كالتداوي بالخمر1، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا2.
ومنها: التفنن في علم فنون البلاغة
والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 5716"،ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، 4/ 1736 - 1737/ رقم 2217" عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه. فقال: "اسقه عسلا". ثم آتاه الثانية، فقال "اسقه عسلا" ثم أتاه الثالثة، فقال: "اسقه عسلا"، ثم أتاه، فقال، فعلت. فقال: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا"، فسقاه، فبرأ.
ويصلح للاستشهاد على ما ذكره المصنف كثيرا من أحاديث الطب في "صحيح البخاري"، ولا سيما "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وباب الشفاء في ثلاث، وباب الدواء بألبان الإبل، وباب الدواء بأبوال الإبل، وباب الحبة السوداء، وباب التلبينة للمريض، وباب السعوط، وباب السعوط بالقسط الهندي والبحري"، وكذلك ما جاء في الحجامة، وغير حديث مما ورد تحت هذه الأبواب في "صحيح مسلم" "كتاب السلام"، ولا نتوسع في ذكر ذلك، والمذكور يكفي، والله الموفق.
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، 3/ 1573/ رقم 1984" عن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء".(36/149)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، 4/ 1727/ رقم 2200" عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك".(36/150)
ص -122-…ومنها: ضرب الأمثال1
[وقد قال تعالى]2: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا [لِلنَّاس]2 فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه، قال تعالى في حكايته عن الكفار: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36]، أي: لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية [يس: 69].
وبين معنى ذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224-226].
فظهر أن الشعر ليس مبنيا3 على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى.
فهذا أنموذج ينبهك على4 ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية.
وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية، من حيث كان آنس لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثل عند البيانيين هو المركب الذي يفشو استعماله على سبيل الاستعارة، فإن فشا استعماله وكان من باب الحقيقة نحو: السعيد من اتعظ بغيره، أو التشبيه نحو: فلان كالخمر يُشتهى شربها ويُخشى صداعها، فهذا هو الذي يعبرون عنه بما يجري مجرى المثل، والذين صنفوا في الأمثال، كأبي عبيدة، والزمخشري، وابن قتيبة، والميداني، وابن الأنباري، وابن هلال أرادوا من المثل القول السائر مطلقا سواء كان استعارة أو تشبيها أو حقيقة. "خ".
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
3 في "ط": "بمبني".
4 في الأصل: "فيما".(36/151)
ص -123-…وأجري على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخرها1.
وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال.
[وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه}]2 [الأعراف: 32]
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33].
إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.
لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التى توهموها، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر، من إيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا، لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتنشط الكسالى، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء / ص 147": "فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك، إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.(36/152)
ص -124-…{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا1 إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
والشريعة [كلها]2 إنما هي تَخَلُّقٌ بمكارمِ الأخلاق، ولهذا قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"3.
إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:
أحدهما:
ما كان مألوفًا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي، وهو:
الضرب الثاني:
وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأُخِّرَ، حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا4 عندهم على الجملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 ليست في الأصل.
3 مضى تخريجه "ص 41".
4 لو لم يكن للعرب عهد بالتعرف عن مكارم الأخلاق رأسا، ثم جاء الرسول ببيان الفضائل والرذائل من الأخلاق، لما وسعهم بعد التصديق بالرسالة إلا الأخذ بالمكارم، كما هو الحال فيما أخطئوا فيه من أصولها، كوأد البنات والربا، والخمر، والسلب والنهب، وغيرها من الرذائل التي تأصلت فيهم، ومع ذلك، فالإيمان بكتاب الله وسنة رسوله طهرتهم من هذه الأرجاس تطهيرا، فلا علاقة لأمية الشريعة بهذه المباحث، ولا توجد أمة من الأمم إلا وفيها شيء من المكارم وشيء من الرذائل، لا خصوصية لجاهلية العرب، بل هذا في كل جاهلية. "د".
قلت: خلتان فضلت بهما العرب على سائر الناس: الأولى الصدق، والثانية الجود، فالصدق بناء العبادات، والجود بناء المعاملات، ويعبر عن الأصلين بالصلاة والزكاة ألا ترى كيف كانوا يمدحون بهاتين الصفتين؟ قال صخر أخو الخنساء يرثي أخا لها:
وطيب نفسي أنني لم أقل له…كذبت ولم أبخل عليه بماليا
أفاده الفراهي في "القائد" "ص 183".(36/153)
ص -125-…ألا ترى أنه كان للعرب أحكام1 عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام، كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة2، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء.
ثم نقول: لم يكتف بذلك حتى خوطبوا3 بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء، وأرض، وجبال، وسحاب، ونبات وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنْبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليهوسلم هي تلك بعينها: كقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78].
وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} الآية [آل عمران: 67].
غير أنهم غيروا جملة منهم، وزادوا، واختلفوا، فجاء تقويمها من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعم4 الدنيوي، كقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 27-30] إلى آخر الآيات.
وبَيَّنَ من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم، كالماء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعلها بعض ميراثهم من أبيهم إبراهيم، كما يقول بعد. "د".
2 أي: تبع أثره. "قاموس".
3 خوطب الناس كلهم بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض.... إلخ، فليس هذا خاصا بهم، وهو واضح "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "التنعيم".(36/154)
ص -126-…واللبن، والخمر، والعسل، والنخيل، والأعناب، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز، واللوز، والتفاح، والكمثرى، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة.
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]
فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير، كقُسِّ بن ساعدة1 وغيره، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة2، وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة.
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير، تجد الأمر كما تقرر، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء خبر تذكيره في حديث طويل مشهور على الألسنة، وفي كتب التاريخ، وروي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منه كلاما لم يحفظه حتى رواه له بعض الصحابة عنه، وقال في آخره: "رحم الله قُسًّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة" وله طرق ولم يثبت، كما قاله ابن القيم في "الفوائد الحديثية" "ص101/ 106"، وفصلنا علله في التعليق عليه، وانظر -غير مأمور: "حديث قُسِّ بن ساعدة الإيادي" لابن درستويه، وهو مطبوع.(36/155)
2 الحكمة والوعظ والجدل يتوقف عليها إصابة الدعوة وإرشاد الخلق، ولو لم يكن عندهم قوة فيها ولا ولع بها؛ لأنها دعوة إلى هدم عقائد، وتصحيح معارف، وتمهيد طريق جديد للسير عليه في طريق عبادة الله وحده، وطريق معاملتهم بعضهم لبعض، فلا بد لها من اجتماع هذه القوى الثلاثة لوصول إلى الغاية من الرسالة، وعلى كل حال، فليس بلازم في كون الشريعة أمية أن تكون جاءت مسايرة لهم في شئونهم، بل معنى كونها أمية ما قدمناه في أول المسألة، وأما كون ما جاءت به كان عندهم منه شيء أو لم يكن، فهذا لا شأن له بهذا المبحث، ولا يتوقف عليه. "د".
3 انظر في معنى كون الأمة المحمدية أمة أمية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 190، 17/ 434- 436 و25 / 169- 172"، و"أحكام القرآن" "3/ 443" للجصاص، و"تفسير القرطبي" "7/ 298"، و"البحر المحيط" "4/ 403" لأبي حيان، و"روح البيان" "3/ 255"، والتحرير والتنوير" "9/ 133".(36/156)
ص -127-…المسألة الرابعة:
ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب، ينبني عليه قواعد:
- منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم1، والمنطق، وعلم الحروف2، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا، فإن3 السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم4، وما ثبت5 فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الرياضيات من الهندسة وغيرها. "د".
2 يعلم من هذا البحث [أن] تفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح، كقول بعضهم في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}، هذا خطاب للجوارج حال الدعاء، والمراد من الأخ القلب ومن الأب الجسم، ومثل هذا النوع لم ينقل عن السلف، وإنما هو وليد مذهب الباطنية الذين يوجسون في أنفسهم المكيدة للشريعة بسوء التأويل حتى تتعطل أحكامها وتنطمس أعلام حقائقها. "خ".
3 في نسخة "ماء / ص 142": "..... لم يصح، وأيضًا، فإن السلف".
4 في المسألة قبلها. "د".
5 في نسخة ماء / ص 149": "بث".(36/157)
ص -128-…ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم1، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد2 فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني3 على معهودها مما يتعجب4 منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك، فلا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "لهم".
2 كونه لم يقصد فيه تقرير شيء من هذه العلوم الكونية ظاهر؛ لأنه ليس بصدد ذلك، أما كونه لا يجيء في طريق دلائله على التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها وإتقان معرفتها إذا لم يكن معروفا عند العرب، فهو محل نظر. "د".
3 كالجدل المأخوذ فيه مقدمات معهودة للعرب، بل ولغيرهم كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَات}..... إلخ، فإنه لولا توجيه الأفكار إليه للاستدلال به والمحاجة، ما بلغته العقول الراجحة. "د".
4 في الأصل: "تعجب".
5 وهل كل ما تضمنه القرآن من أوصاف نعيم الجنة وعذاب النار من معهود العرب في الدنيا؟ وهل مثل الإسراء والمعراج من معهوداتهم؟ أما أصل الموضوع، فمسلم أنه لا يصح أن يتكلف في فهم كتاب الله بتحميله لما لا حاجة بالتشريع والهداية إليه من أنواع العلوم الكونية، ولكن قصره بطريق القطع على ما عند العرب في علمها ومألوفها، فهذا ما لا سبيل إليه، ولا حاجة له: "د".(36/158)
قلت: تلقى الباحثون والمطلعون كلام المصنف هذا بعناية فائقة، واستفادوا منه في موضوع "التفسير العلمي للقرآن"، وقد وقفوا عنده طويلا وناقشوه، وقلبوا النظر فيه بين مؤيد ومخالف، تجد تفصيل ذلك في "التحرير والتنوير" "1/ 44، 45"، لابن عاشور، و"القرآن العظيم، هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين" "ص260 وما بعدها" لمحمد صادق عرجون، و"التفسير، معالم حياته، منهجه اليوم" "ص19-27"، و"مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب" "ص287-296" كلاهما لأمين الخولي، وفيه تأييد وتدعيم لكلام الشاطبي هذا بأدلة كثيرة، ثم ظفرت بكلامه في كتابيه السابقين في مادة "تفسير" في "دائرة المعارف الإسلامية" "5/ 348-374" له أيضا، و"اتجاهات التفسير في العصر الراهن" "ص297-302" لعبد المجيد المحتسب.
وانظر في التفسير العلمي أيضا: "مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه" "ص231-250" لعدنان زرزور، و"التفسير العلمي للقرآن في الميزان" لأحمد عمر أبو حجر.(36/159)
ص -129-…وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
ونحو ذلك، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء1.
فأما الآيات، فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو2 المراد بالكتاب في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به3، فلا يكون، ولم يدَّعِهِ أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الدر المنثور" "1/ 56-59"، وسيأتي قريبا تضعيف المصنف لما ورد عن علي في ذلك.
2 في الأصل: "و".
3 أي: من فهمها على أنها أسرار ورموز لحقائق أو أحداث حاصلة أو تحصل، من مثل ما يشير إليه الألوسي في مقدمة "التفسير". "د".(36/160)
قلت: وأورد الرازي في "تفسيره" "1/ 150-151"، والنيسابوري في "غرائبه" "1/ 119-120" نصين فيهما نحو ما ذكر المصنف، انظر مناقشتهما في "براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص117 وما بعدها"، وتجد تفسيرا لهذه الحروف بما لا عهد للسلف به في كتب الصوفية، مثل: "شمس المعارف الكبرى"، و"خزينة الأسرار الكبرى" "ص108 وما بعدها" وكذا في "رسائل إخوان الصفا" "4/ 191"، وكذا في الرسالة النيروزية" "ص92" لابن سينا، وابن أبي الأصبع في كتابه: "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح" وهو مطبوع، وكذا في كتب المستشرقين، انظر ما نقله زكي مبارك عن أستاذه بلانشو في "النثر الفني في القرن الرابع" "1/ 40"، وانظر ما سيأتي "3/ 326" مع تعليقنا عليه.(36/161)
ص -130-…ادَّعوا، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت1؛ فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يعرف عن أحد في هذه الأمة كُذِبَ عليه ما كذب على علي رضوان الله عليه، وأوضح الكذب وأبينه عليه ما زعموه في "الجفر" على نحو ما بيناه في المجموعة الأولى من كتابنا "كتب حذر منها العلماء"، والله الموفق.
2 لو قال: جمهور الناس لا خاصتهم لكان أحسن؛ لأن الخطاب به لكل من بلغه، فقد يفقه بعضه بغير ما يضاف إلى العرب كما ورد: "بلغوا عني ولو آية، قرب مبلغ أوعى من سامع".(36/162)
على أنه لم ينقل فيما سبق نسبة علم الحيوان المسمى بالتاريخ الطبيعي إلى العرب، ولم ينقل أحد أنهم اشتغلوا به، "وليكن على ذكر منك أنه إذا قال في هذا المقام: "العرب، فإنما يعني الذين كانوا في عهد الرسول عليه السلام"، فعلى رأي المؤلف لا يجوز لنا أن نتوصل إلى فهم مثل آيتي سورة النحل في تكوين اللبن والعسل وما فيهما من أعاجيب ربنا في صنعه، لا يجوز لنا أن نتوصل إلى ذلك من علم حياة النحل وحياة الحيوان ذي الدر، مع أنه لا يمكن أن تتم العظة والاعتبار الذي يشير إليه الكتاب في آخر كل آية منهما: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}، {يَعْقِلُون} لا يتم ذلك على وجهه إلا بمعرفة تكوين العسل واللبن، في علم حياة النحل وغيره، وكذا لا يتم فهم: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} على وجهها إلا بعد معرفة ما يصلح من الأمراض أن يكون العسل دواء له، وما لا يصلح بل يكون ضارًّا، ويترتب عليه أن تكون اللام في الناس للجنس أو العموم، وهكذا، والواقع أن كتاب الله للناس كلهم يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى إلى قول علي: "إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله" الحديث. "د".(36/163)
ص -131-…فبه1 يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغيره ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق.
فصل:
- ومنها: أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه2.
وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب، مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبنى على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته.
والدليل على ذلك أشياء:
أحدها:
خروجها3 في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها4، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيه".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 168"، و الاعتصام" "2/ 297"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 7- المقدمة"، و"الرسالة" "ص51، 52، 54، 55، 56، 57"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 15"، و"الإبانة" "ص54- جامعة الإمام".
3 أي: فيصح أن يجري ذلك في القرآن، ولكن بشرط أن لا يكون شاذًّا ونادرًا يخل بالفصاحة، فإن هذا -وإن كان جاريا في كلام العرب- لا يصح أن يقال به في الكتاب "د".
4 أي: في تجويز مخالفات للقياس المطرد، كصرف ما لا ينصرف، ومد المقصور وعكسيه، مع أنه أجيز في الشعر لضرورة الوزن ولا توجد ضرورة في النثر لمثله، فقوله: "وجريانها" عطف خاص على عام للبيان. "د".(36/164)
ص -132-…لم يكن بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها، ولا يعد ذلك قليلا في كلامها ولا ضعيفا، بل هو كثير قوي، وإن كان غيره أكثر منه.
والثاني:
أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف1، كلها شافٍ كافٍ2، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن3 كثير، وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال، وإن كان بين القرائتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى؛ لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب، كـ: {مَالِكِ} و "مَلِكِ" [الفاتحة: 4]. "د".
{وَمَا يَخْدَعُونَ4 إِلَّا أَنْفُسَهُم}، [البقرة: 9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن ذلك تبديل لفظ بآخر، كتبينوا وتثبتوا مثلا. "د".
2 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر، ووردت لفظة: "كلها شافٍ كافٍ" في حديث أبي بن كعب عند أحمد في "المسند" "5/ 124"، وابنه عبد الله في "زياداته" "5/ 124، 125"، و أبي داود "1477"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 670"، وابن جرير في مقدمة "التفسير" "1/ 15"، والضياء في "المختارة" "3/ رقم 1173، 1174، 1175، 1176"، وإسناده صحيح، وجمع طرقه الشيخ عبد الفتاح القاري في جزء مفرد وهو مطبوع.
وللحديث لفظ آخر يأتي قريبا "ص138".
3 في "خ" زيادة: "على"، والصواب حذفها.
4 انظر ما تقدم: "1/ 537".(36/165)
ص -133-…{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}، "لَنُبَوِّينَّهُمْ1 [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا]2" [العنكبوت: 58].
إلى كثير من هذا3 لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.
ألا ترى ما حكى ابن جني4 عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره5 أيضا، قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن…عليها الصبا واجعل يديك لها سترا6
فقلت: أنشدني: "من بائس"، فقال: "يابس" و"بائس" واحد.
فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لما كان معنى البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا الطريقتين، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: "البؤس واليبس واحد"، يعني: بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالثاء المثلثة على ما قرأها حمزة والكسائي كما في "السبعة" "502"، وكذا في الأصل و"ط".
2 في "خ": "لنبوينهم"، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 كما في قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، بكسر اللام للتعليل أو بفتحها على أنها فارقة. "د".
4 في "الخصائص" "2/ 469- ط العراقية"
5 في "ط": "وحكاه غيره"
6 الشخت: الحطب الدقيق، ولم أر تعليقا على البيت في كتب الأدب، ويلوح أن الضمائر المؤنثة في البيت كناية عن النار يذكيها البدوي بالوقود ويستعين على إشعالها بالريح، ثم يجلس إليها للاصطلاء وتدفئة يديه وأطرافه من البرد. "د".
قلت: والبيت في "ديوانه" "176"،وله رواية أخرى في "اللسان" "مادة فوت"
7 فمادة البؤس تدور على الشدة من الشجاعة وغيرها، ومادة اليبس تدور على الجفاف بعد الرطوبة ويلزمها الشدة ضد اللين، فهما متغايران متلازمان. "د".(36/166)
ص -134-…وعن أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابي:
وموضع زبن1 لا أريد مبيته…كأني به من شدة الروع آنس2
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا، [وإنما أنشدتنا]3: "وموضع ضيق" فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن4 والضيق واحد؟!
وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة، وبألفاظ متباينة، يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون5 لفظا واحدا على الخصوص، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا، إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها، وإنما معهودها الغالب ما تقدم.
والثالث:
أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة، كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا، ولم يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ، فقبح "قمت وزيد" كما قبح "قام وزيد"، وجمعوا في الردف بين "عمود" و"يعود" من غير استكراه، وواو عمود أقوى في المد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وهو الصواب، وأورده هكذا ابن جني في "الخصائص" "2/ 469"، وابن منظور في "اللسان" "مادة ز ب ن، 13/ 195"، وقال: "ومقام زبن: إذا كان ضيقا لا يستطيع الإنسان أن يقوم عليه في ضيقه وزلقه"، وفي "المفضليات" "225": "ومنزل ضنك"، وتصحف في النسخ المطبوعة من "الموافقات" إلى "زير" بياء آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د" في الهامش: "المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن"!! انتهى.
قلت: ومعنى البيت: قد أنست بهذا المنزل لما نزلت به من شدة ما بي من الروع، وإن كان ضيقا ليس بموضع نزول.
2 من قصيدة المرقش الأكبر في "المفضليات" "ص225".
3 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها، وأثبتناها من "الخصائص" "2/ 469" لابن جني.
4 سبق في هامش1
5 في "ط": "أنهم ما كانوا يلتزمون".(36/167)
ص -135-…وجمعوا بين "سعيد" و"عمود" مع اختلافهما، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض، وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها.
والرابع:
أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه، فقد كان الأصمعي يعيب الحطيئة، واعتذر عن ذلك بأن قال1:
"وجدت شعره كله جيدا" فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه2، جيده على رديئه"،وما قاله هو الباب المنتهج، والطريق المهيع عند أهل اللسان، وعلى الجملة، فالأدلة على هذا المعنى كثيرة، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم.
وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما3 فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدته4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله في "الأغاني" "2/ 43- 44" بنحوه.
2 أي: عواجله وحواضره.
3 هذه النتيجة ليست هي المنتظرة في هذين الوجهين الأخيرين، بل كان ينتظر أن يأتي من الكتاب أو الحديث بما فيه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمي به الكلام على عواهنه جيده على غير جيده، ولعل ذلك لا يكون في الكتاب والسنة أصلا، وإذا كان هكذا كان المناسب حذف هذين الوجهين من المقام. "د".
4 في الأصل: "حدث"، وانظر في معنى ما ذكره المصنف: "مجاز القرآن" "1/ 8" لأبي عبيدة، و"الرسالة" "ص42" للشافعي، و"الصاحبي" "ص47-48" لابن فارس.(36/168)
ص -136-…فصل:
- ومنها1: أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم، إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة، فذاك كالكنايات الغامضة، والرموز البعيدة، التي تخفى عن الجمهور، ولا تخفى عمن قصد بها، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها.
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف2، واشتركت فيه اللغات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القواعد.
2 أحسن ما رأيته في بيانه ما ذكره النويري في "شرحه للطيبة" في مقدمات الكتاب، وليس فيما عده الإمالة والترقيق لا شيء من صفات الحروف، بل هي أنواع سبعة ترجع لحذف لفظ أو زيادة لفظ كـ "تجري تحتها الأنهار" و"من تحتها"، وإبدال لفظ بمرادفه، كـ"تبينوا وتثبتوا"، وتقديم لفظ وتأخيره، وإبدال حركة بأخرى بتغير المعنى بسببها، ولكنه يكون كل منها صحيحا ومرادان إلى آخر ما ذكره "د".(36/169)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "حكى القرطبي عن ابن حبان أن الاختلاف في معنى الأحرف السبعة بلغ خمسة وثلاثين قولا، وأظهر هذه الأقوال أن يكون المراد منها وجوه تغاير الألفاظ مع الاتفاق أو التقارب في المعنى، ومن أصحاب هذا القول من يرى لفظ السبعة مستعملا في الكثرة، ومنهم من يجعل هذا العدد الخاص مقصودا، ويذكر في بيانه الإبدال واختلاف تصريف الأفعال، واختلاف وجوه الإعراب والتقديم والتأخير والنقص والزيادة، والاختلاف بمثل الإمالة والترقيق والإدغام، واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع،ومن وجوه هذا التغاير ما ينشأ عن اختلاف اللغات، ومنها ما يكون في لغة وحده. "خ".
وانظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 389" وما بعدها".(36/170)
ص -137-…حتى كانت قبائل العرب تفهمه.
وأيضا، فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط، لأن الضعيف ليس كالقوي، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى كالذكر، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة1 الجارية، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه، وألزموا ذلك من طريقهم: بالحجة القائمة، والموعظة الحسنة، ونحو ذلك، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون، ولكلفهم بغير قيام حجة، ولا إتيان ببرهان، ولا وعظ ولا تذكير، ولطوقهم فهم ما لا يفهم وعلم ما لم يعلم، فلا حجر عليه في ذلك، فإن حجة الملك قائمة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا، وكلفهم من حيث لهم القدرة2 على ما به كلفوا، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم3، ويقوى به ضعيفهم، وتنتهض به عزائمهم: من الوعد تارة، والوعيد أخرى، والموعظة الحسنة أخرى، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية، إلى غير ذلك مما في معناه، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضيين، بل هم مشتركون في مقتضاه، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة4 على تحمله، وزادهم تخفيفا دون الأولين، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي "ماء/ ص 153": "العبارات"، وفي باقي النسخ المطبوعة: "العادة".
2 في "ط": "قدرة" بالتنكير.
3 في الأصل: "متادهم"، وقال في الحاشية: "هو جهة من الأود"، وفي "خ": "مناديهم"، وفسرها "د" في الهامش بقوله: "أي: معوجهم".
4 المنة: القوة ".(36/171)
ص -138-…وقد خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: "يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط". قال: "يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"1.
فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم.
فصل:
- ومنها: أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضًا كل المعاني، فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف، 5/ 194/ رقم 2944"، و الطيالسي في "المسند" "رقم 543"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 518"، وأحمد في "المسند" "5/ 132"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" 3/ رقم 1168، 1169، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 14/ رقم 739- الإحسان، والشاشي في "مسنده" "3/ 362/ رقم 1480، 1481" من طرق عن عاصم عن زر عن أبي به.
وإسناده حسن، عاصم صدوق له أوهامن حجة في القراءة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه أبي بن كعب"، وقال قبل ذلك: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بين اليمان وأم أيوب وسمرة وابن عباس وأبي هريرة وأبي جهم بن الحارث بن الصمة وعمرو بن العاص وأبي بكرة".
قلت: وأقرب ألفاظها للفظ المصنف حديث حذيفة عند أحمد في "المسند" "5/ 405-406".(36/172)
ص -139-…المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه، كما لم يعبأ ذو الرمة "ببائس" ولا "يابس" اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم.
وأبين من هذا ما في "جامع الإسماعيلي المخرَّج على صحيح البخاري" عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، قال: ما الأبّ؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أمرنا بهذا1.
وفيه أيضا عن أنس، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]: ما الأبّ؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف2.
ومن المشهور تأديبه لصبيغ3 حين كان يكثر السؤال عن {الْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1]، و {الْعَاصِفَاتِ} [المرسلات: 2] ونحوهما.
وظاهر هذا كله أنه إنما نهي عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلُّفٌ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية: فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي، لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النحل: 47]، فإنه سئل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص، ثم أنشده:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 49"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265".
3 مضى تخريجه "1/ 51"، وهو صحيح، وفي "خ": "ضبيع".
قلت: وفي حاشية الأصل قال: "صبيغ، كأمير، آخره معجمة".(36/173)
ص -140-…تخوف الرحل منها تامكا قردا …كما تخوف عود النبعة السفن1
فقال عمر: "أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم"2، فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا [قد]3 توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول.
فإذا كان الأمر هكذا، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب، لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني4 الخطاب ابتداء، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب5 والسنة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي6، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل، ومشيه على غير طريق، والله الواقي برحمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التامك: السنام، والقرد: الذي تجعد شعره فكان كأنه وقاية للسنام، والنبع: شجر للقسي والسهام، والسفن: كل ما ينحت به غيره. "د".
في حاشية المخطوط ما نصه: "الرحل، بالحاء المهملة: ما يوضع على الدابة، والضمير في "منها" لناقة، وتامكا، على وزن فاعل: سنام الناقة، وقرد، بفتح القاف، وكسر الراء: لبد من السمن، وعود النبعة معروف، والسفن، بفتح السين والفاء: آلة القطع كالقدوم، يقول: إن الرحل قطع من ناقته سناما سمينا كما قطع القدوم شجرة النبع".
2 مضى تخريجه "1/ 58"، وهو ضعيف، وتقدم بيان ما في الشعر من الغريب بتفصيل، ولله الحمد.
3 ليست في الأصل ولا في "ماء".
4 في الأصل: "بني".
5 في الأصل: و"ط": "إلى الكتاب",.
6 ومن أطرف ما يحكى ما عزاه النعيمي في "الدارس في تاريخ المدارس" "1/ 25" إلى النووي بقوله: "وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لما قرأت في "التنبيه": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج"، أعتقد أن ذلك قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني".(36/174)
ونقلها أيضا الذهبي في "تاريخ الإسلام" "ق 574- نسخة رامبور" والسخاوي في ترجمة الإمام النووي" "ص5، 6"، والسيوطي في "المنهاج السوي" "ص32" وعقب عليها بعضهم بقوله: "والظاهر أن الحياء كان يمنعه السؤال عن ذلك".(36/175)
ص -141-…فصل:
- ومنها: أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها.
أما الاعتقادية -بأن تكون من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدًا-، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص، لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ1.
وأيضا، فلو لم تكن كذلك لزمه بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع، كما هو مذكور في الأصول2، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه، وأرجت غير ذلك، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على النظر في المخلوقات، إلى أشباه ذلك، وأحالت3 فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول، نعم، لا ينكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 37".
2 انظر في ذلك: "البرهان" "1/ 105"، و"المستصفى" "1/ 56، 86-88، و"البحر المحيط" "1/ 220 و 388"، و"الإبهاج" "1/ 170"، و"سلاسل الذهب" "136"، و"روضة الناظر" "1/ 234- 235- ط الرشد"، و"المحصول" "1/ 2/ 363"، و"المسودة" "80"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"إرشاد الفحول" 9، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "187- 205" ليعقوب الباحسين.
3 في "خ": "وإحالة".(36/176)
ص -142-…تفاضل الإدراكات على الجملة، وإنما النظر في القدر المكلف به.
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما1 يكون أصلا للباحثين والمتكلفين، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها، حتى قال: "لن يبرح الناس يتساءلون،حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟"2.
وثبت النهي عن كثرة السؤال، وعن تكلف ما لا يعني3 عاما في الاعتقاديات والعمليات، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل4، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وما".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 6/ 336 / رقم 3276"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 119- 120م رقم 134" عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته".
وأورده مسلم بألفاظ مقاربة أخرى، واللفظ الذي عند المصنف هو من حديث أنس مرفوعا، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7296".(36/177)
3 أما النهي عن كثرة السؤال، فقد ورد في غير حديث عند المصنف، منها حديث المغيرة المتقدم "1/ 48"، وأما النهي عن التكلف، فقد أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265" بسنده إلى أنس، قال: "كنا عند عمر، فقال: نُهِينا عن التكلف"، ومن المقرر في علم المصطلح أن قول الصحابي: "نُهِينا"، و"أُمِرنا" له حكم المرفوع.
4 أسند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 938/ رقم 1786" بسند عن مالك، قال: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه.... ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل".(36/178)
ص -143-…سكت عنه، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه.
وعلى هذا، فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية، فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها، ولله در القائل:
وللعقول قوى تستن1 دون مدى…إن تعدها2 ظهرت فيها اضطرابات
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها.
وأما العمليات، فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات3 في الأمور، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس، وغروبها وغروب الشفق، وكذلك في الصيام في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها، نزل4: {مِنَ الْفَجْرِ}.
وفي الحديث: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من استن الفرس قمص وهو أن ترفع يديها وتطرحهما معا وتعجن برجليهان وهو غاية الاعوجاج في سيرها، فلا تقطع به الطريق، وتؤذي راكبها. "د".
2 في الأصل: "تعده".
3 لعل الأصل "بالتقريبات"، أي فلم يكلفوا بما يقتضي الضبط التام للأوقات، بل بأمارات وعلامات تقريبية، مع أنها جعلت أمارات لجلائل الأعمال كالصلاة والصوم والحج. "د".
4 سيأتي تخريج ذلك "3/ 298".(36/179)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم باب متى يحل فطر الصائم، 4/ 196 رقم 1954"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، 2/ 772/ رقم 1100"، والترمذي في "الجامع "أبواب الصوم، باب وقت انقضاء الصوم وخروج النهار/ رقم 698"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "8/ 34"-، وأحمد في "المسند" "1/ 28، 35، 48، 54"،والبيهقي في الكبرى "4/ 216، 237، 238" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(36/180)
ص -144-…وقال: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا"1.
وقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"2.
ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل، لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها3، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه4، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في الصحيحين" بلفظ: "إنا" بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، 4/ 113/ رقم 1900، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا"4 / 119/ رقم 1906"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3 كيف يتفق هذا مع ما تقدم له في المسألة الثالثة؟ "د".
4 ذهب قوم منهم ابن شريح* إلى اعتبار منازل القمر والرجوع إلى المنجمين، وتأولوا على هذا الرأي قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا غم عليكم، فاقدروا له"، والمحقق أن المراد من قوله: "فاقدروا له" ما بينته رواية: "فإن غم عليكم، فاقدروا ثلاثين"، ورواية: "فأكملوا العدة ثلاثين"،ويؤيده من جهة النظر ما أومأ إليه المصنف من أن الصوم عبادة يتوجه الخطاب بها إلى المكلفين عامة، فلم يكن من اللائق تعليق الحكم فيها بما لا يعرفه إلا طائفة خاصة من الناس. "خ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل الصواب: "سريج".(36/181)
ص -145-…عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية، فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام.
فإن قيل1: هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق2 النظر في مواقع الأحكام، ومظان الشبهات، ومجاري الرياء والتصنع للناس، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات، التي هي عند الجمهور من الدقائق التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص، وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل إليها الجمهور.
وأيضا، لو كانت كذلك، لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية، وهكذا سائر القرون إلى اليوم، فكيف3 هذَا؟
وأيضا، فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة، وما يعرفه العلماء خاصة، وما لا يعلمه إلا الله تعالى، وذلك المتشابهات، فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق، وما لا يوصل إليه على الإطلاق، وما يصل إليه البعض دون البعض، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة؟
فالجواب أن يقال: أما المتشابهات، فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السؤال وارد على كلامه في الاعتقاديات والعمليات بدليل قوله: "فإن الشريعة قد اشتملت.... إلخ". "د".
2 في الأصل: "وتدقيق".
3 في الأصل: "وكيف".(36/182)
ص -146-…آية التنزيه، وإما راجعة إلى قواعد شرعية، فتتعارض أحكامها1، وهذا خاص مبني على عام2 هو ما نحن فيه، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه:
أحدها:
أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها، حتى زايل الأمية من وجه، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته، فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي إلى ما فهمه، والنسبة إذا كانت محفوظة، فلا يبقى تعارض3 بين ما تقدم وما ذكر في السؤال.
والثاني:
أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد، ورفع بعضهم فوق بعض، كما أنهم في الدنيا كذلك، فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له، لكن الجميع جار على أمر مشترك.
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك، بل يدخلون مع غيرهم فيها، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن المسألة تكون محتملة الدخول تحت قواعد شرعية مختلفة، فتتعارض أحكامها بحسب الظاهر، ويحصل الاشتباه. "د". وفي "ط": "تتعارض أحكامها".
2 في "خ": "هام".(36/183)
3 كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"، وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين التسليم بالإشكال على ما سبق؟ "د".(36/184)
ص -147-…بعينه، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك.
كما نقول: إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة، ومع ذلك، فمنه ما هو من الجلائل،كالورع عن الحرام البين، والمكروه البين، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم، وهو منها عند قوم آخرين، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون، فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك1 مفهوم للجمهور على الجملة.
والثالث:
أن ما فيه التفاوت إنما تجده2 في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده، بل وكلت إلى نظر المكلف، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه، فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو3 المطلوب منه، ومن مدرك فيها أمرا هو4 فوق الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل في هذه الفصول بإثباتها، وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تفهم إلا بالوجه الذي يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين والجمهور، وبنى على هذه النتائج. "د".
2 على كل حال هو موجود، سواء أكان في هذا النوع فقط أم على الإطلاق، فلا ينحسم الإشكال. "د".
3 في الأصل: "هو".
4 في الأصل: "فهو".(36/185)
ص -148-…الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما1 دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم، والله أعلم.
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل2 بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور3 الشرعية ولا العقلية- وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده4- بخلاف من كان له بذلك عهد، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا5 ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة.
وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق". قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 في الأصل: "يقل".
3 في "ط": "العلوم".
4 في "ط": "معتاداته".
5 في الأصل: "شيئا".(36/186)
6 نحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم، وكتب "خ": من أقوى الدعائم في نجاح السياسة أن يفحص الرئيس مزاج الأمة ويسير في علاجها وترقية شأنها شيئا فشيئا للوجه الذي بسطه المصنف في هذا المقام، وقد يتخذ الأجنبي المتغلب هذه الطريقة محورًا يدير عليها سياسته في الشعوب الغافلة، فيوجس في نفسه أن يضع عليها من القوانين والتصرفات ما ينحدر بها إلى هاوية الشقاء والجهالة، ولكنه يحذر أن تطرحها جملة وتفضل الموت في مواقع الدفاع على الحياة تحت نير الأسر والاستعباد، فيأخذها بتلك القوانين والتصرفات رويدا رويدا حتى تألف مرارتها ويتهون عليها المقام تحت أعبائها".(36/187)
ص -149-…وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجري بالمصلحة وأجري على جهة التأنيس1، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية؛ لأنها إذا نزلت كذلك، لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأسا، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له، ثم كذلك في الثالث والرابع.
ولذلك أُونسوا في الابتداء2 بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه، يقول تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النحل: 123].
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آل عمران: 68].
إلى غير ذلك من الآيات: فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "التأنيث".
2 ظاهر فيما كان من ذلك مكيا وسابقا، وأما ما كان مدنيا أو متأخرا كآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ}، فلا يظهر فيه قوله أونسوا في الابتداء، إلا أن يقال: إن مثله زيادة في التوكيد والتقرير كما هو شأن ما تكرر من المكيات في المدينة. "د".
قلت: والجملة في الأصل: "أنسوا في الابتداء"، وفي "ط": "ولذلك أيضا أُونسوا".(36/188)
ص -150-…وفي الحديث: "الخير عادة"1 وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه، وانشرح به صدره، فلا يأتي فعل ثانٍ إلا وفي النفس له القبول؛ هذا في عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف2، وينهي عن التعمق والتكلف3 والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80/ رقم 221"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 8/ رقم 310 - الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "19/ 385-386/ رقم 904"، و"مسند الشاميين" "رقم 2215"، وابن عدي في الكامل" "3/ 1005"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 20"، وابن أبي عاصم في "الصمت" "100"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 252"، و"تاريخ أصبهان" "1/ 345"،والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 22 عن معاوية مرفوعا، وإسناده حسن، والحديث في "السلسلة الصحيحة" لشيخنا الألباني "رقم 651".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة مرفوعا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
وأخرج برقم "2594" عنها رضي الله عنها مرفوعا: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
3 وقد مضى ذلك في التعليق على "ص142".(36/189)
ص -151-…المسألة الخامسة:
إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: [من جهة دلالته على المعنى الأصلي، و]1 من جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي2، كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي؟ أو يعم الجهتين معا؟
أما جهة المعنى الأصلي، فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق، ولا يسع فيه خلاف على حال، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي، والعمومات والخصوصات، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول.
وأما جهة المعنى التبعي، فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا؟ هذا محل تردد، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر.
فللمصحح أن يستدل بأوجه:
أحدها:
أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه، أو لا، ولا يمكن عدم اعتباره؛ لأنه إنما أتي به لذلك المعنى، [فلا بد من اعتباره فيه، وهو زائد على المعنى]3 الأصلي وإلا لم يصح، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا، لم يمكن إهماله وإطراحه، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول، فهو إذا معتبر، وهو المطلوب.
والثاني:
أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1و 3" ساقط من الأصل، والمعنى الأصلي: هو لفظ القائل الذي يقصد به الأشياء أو يعمه، والمعنى التبعي: الذي هو الحال الذي يفهم منه زائدا على المعنى الأصلي. "ماء / 156".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للأصل".(36/190)
ص -152-…بلسان العرب، لا من جهة كونها كلاما فقط، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى، وما دل بالجهة الثانية، هذا وإن قلنا: إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاصة، فذلك كله غير ضائر، وإذا كان كذلك، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص، وترجيح من غير مرجح، وذلك كله باطل، فليست1 الأولى إذا ذاك بأولى للدلالة2 من الثانية، فكان اعتبارهما معا هو المتعين.
والثالث:
أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام: "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي"3، والمقصود الإخبار بنقصان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "ليست"
2 في "ط": "بالدلالة".
3 قال البيهقي في "المعرفة" "1/ 367": "وأما الذي يذكره بعض فقهائنا في هذه الرواية عن قعودها شطر دهرها لا تصلي، فقد طلبته كثيرا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسنادًا بحال، والله أعلم".
وقال ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في "الإمام" عنه: "ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من ا لوجوه"، كذا في "التلخيص الحبير" "1/ 162".
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "وهذا لفظ لا أعرفه"، وأقره محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 615"، ونقل كلامهما ولم يتعقبهما الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 193". وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب""1/ 46- ط المصرية القديمة" بعد ذكره: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه".(36/191)
وقال النووي في "شرحه" المسمى "المجموع" "2/ 377": و"أما حديث "تمكث شطر دهرها"، فحديث باطل لا يعرف"،وقال في "الخلاصة": باطل لا أصل له"، وقال المنذري: "لم يوجد له إسناد بحال، وأغرب الفخر ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له، كذا قال، وابن أبي حاتم ليس هو بستيا إنما هو رازي، وليس له كتاب يقال له "السنن".
تنبيه:
في قريب من المعنى ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد، قال: "أليس إذا حاضت=(36/192)
ص -153-…الدين، لا الإخبار بأقصى المدة، ولكن المبالغة1 اقتضت ذكر ذلك، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها.
واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغلسها"2 الحديث، فقال: لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها؟"،ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها"، ومن حديث أبي هريرة كذلك، وفي "المستدرك" من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: "فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة". قلت: وهذا وإن كان قريبا من معنى الأول، لكنه لا يعطي المراد من الأول، وهو ظاهر من التفريع، والله أعلم، وإنما أورد الفقهاء هذا محتجين به على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، ولا دلالة في شيء من الأحاديث التي ذكرناها على ذلك، والله أعلم. قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 162- 163".
ولقد تلقى المتأخرون ما أطلقه ابن منده والبيهقي وغيرهما من أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، كما تراه في "المقاصد" "ص164"، و"مختصر المقاصد" "ص88"، و"التمييز" "ص62"، و"الكشف" "1/ 39"، و"المصنوع" "ص85"، و"الدرر المنتثرة" "ص113"، و"الأسرار المرفوعة" "ص177- 178"، و"الغماز على اللماز" "ص85"و "النخبة البهية" "ص48"، واللؤلؤ المرصوع" رقم 153".
1 أي: فالمقام يقتضي ذكر أقصى ما يقع لها من الحيض الذي يمنع الصلاة وينقص به الدين. "د".(36/193)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، 1/ 263/ رقم 162"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا، 1/ 233/ رقم 278" والمذكور لفظه عن أبي هريرة وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على كتاب "الطهور" "رقم 279".
قال الشيخ "د": "وتمامه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال الأئمة: "إنه مستحب، أي لهذا التوهم، أن تكون يده مست نجاسة من ذكره أو غيره، فأخذ منه الشافعي الحكم المذكور".(36/194)
ص -154-…الاستحباب، فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة، لكنه لازم مما قصد ذكره.
وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فالمقصد في1 الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدًا، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدًا، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر.
وقالوا في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية [البقرة: 187] إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام، لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي2 ذلك، وإن لم يكن مقصود البيان، لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب3.
واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وأشباه ذلك من الآيات، فإن المقصود4 بإثبات العبودية لغير الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "فالقصد".
2 في الأصل: "يقتضي".
3 الدلالة في هذه الآية وما تقدمها من قبيل دلالة الإشارة التي هي دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى المقصود من السياق، وهي أحد أقسام المنطوق غير الصريح كدلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء. "خ".(36/195)
4 أي: الأصلي الذي سيق له التركيب، أما كونه لا يملك، فهو معنى تبعي ولازم من إثبات كونه عبدا ونفي كونه ولدا، لأنه لما نفى الولدية بسبب العبودية وهو المقصود الأصلي، دل على أن هناك تنافيا بين الولدية والعبودية، فالولد لا يملك ولا يكون عبدا، فقوله: "لكنه" الضمير فيه لقوله لا أن الولد لا يملك، وقوله: "وأن لا يكون" سقط منه في الأصل حرف العطف ولا غنى عنه، والمعنى أن كون الولد لا يملك لزم من أمرين في الآية وهما نفي الولد وإثبات ألا يكون إلا عبدا، وكلاهما صريح الآية ومنطوقها، وكونه لا يملك لازم لهذين المعنيين، لأنه إذا كان هناك تنافٍ بين الولدية والعبودية أي الملكية فالولد لا يملك، حتى صح الاستدلال بتنافيهما. "د".(36/196)
ص -155-…وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد، إلا أن الولد لا يملك، لكنه لزم من نفي الولادة1 أن2 لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا، إذ لا موجود3 إلا رب أو عبد.
واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء العشر"4 الحديث، مع أن المقصود5 تقدير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقوله: {سُبْحَانَهُ}، وبالحصر في قوله: {بَلْ هُمْ عِبَادٌ}. "د".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وأن" بزيادة واو، وفي "ط": "المنسوب لها".
3 هذا كلام آخر دليل على الحصر الذي قبله. "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، 3/ 347/ رقم 1438"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع 2/ 252 / رقم 1596"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة" باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها 2/ 75/ رقم 635"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر، 5/ 41" وابن ماجه في "السنن": "كتاب الزكاة، باب صدقة الزروع والثمار 1/ 581/ رقم 1817" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه زيادة وتتمة ستأتي عند المصنف "ص3/ 162".
وأخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة" باب ما فيه العشر أو نصف العشر 2/ 675/ رقم 981"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 41، 42"، من حديث جابر.
وفي الباب عن معاذ وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم جميعًا.
5 من أين للمؤلف هذا؟ ولم لا يكون المقصود إفادة المعنيين المخرج والمخرج منه قصدًا أصليًّا؟. "د".(36/197)
ص -156-…الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه، ومثله كل عام نزل على سبب1، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود، [وإن]2 كان السبب على الخصوص.
واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع3.
وأثبتوا القياس الجلي 4 قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، مع5 أن المقصود في قوله عليه السلام: "من أعتق شركا له في عبد"6 مطلق الملك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله يريد أنه حينئذ يكون القصد الأصلي الإجابة على قدر السبب، ويكون الزائد من قبيل ما نحن فيه ليس مقصودا أصليا بل تبعي، وهو محل تأمل؛ لأن الدلالة عليه في مثل الحديث بنفس صيغة العموم، وهي ما بأصل الوضع، فليس من باب اللازم كما يدل عليه قوله: "اعتبارا بمجرد اللفظ"، وقوله: "ومثله" ليس المراد المماثلة الخاصة وأن الحديث السابق مما ورد على سبب، فإنهم لم يذكروا أن حديث الزكاة المذكور نزل على سبب بل المراد المماثلة العامة في أصل الموضوع، وهو الاعتداد بالمعاني الثانوية في استنباط "الأحكام" الشرعية كبقية الأمثلة السابقة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 يريد أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عنه، وهو متمشٍ مع ما سبق في الموضوع. "د".
4 وهو ما قُطع فيه بنفي الفارق كمثاله، فإن قصد الشارع للحرية لا فرق فيه بين الذكر والأنثى قطعا. "د".
5 الظاهر الواو بدل مع، والمعنى أن اللفظ بحسب وضعه دال على خصوص الذكر، لكنهم حملوا الأنثى عليه في سريان العتق؛ لأنه لا فارق، ولزم من كونه لا فارق أن يكون مقصود الشارع بالعبد هنا مطلق الملك مجازا، وهو معنى تبعي لا أصلي. "د".(36/198)
6 تمام الحديث: "وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، 5/ 132 / رقم 2491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العتق، باب منه، 2/ 1139/ رقم 1501"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب العبد يكون بين الرجلين... 3/ 629/ رقم 1346"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العتق، باب من روي أنه لا يستسعى، 4/ 256/ رقم 3940"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق، 7/ 319"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب العتق، باب من أعتق شركا له في عبد 2/ 844/ رقم 2527"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(36/199)
ص -157-…لا خصوص الذَّكَر...
إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول، وإذا كان كذلك، ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به.
وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه:
أحدها: أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها، فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى، ومقوية لها، وموضحة لمعناها، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول، ومن العقول موقع الفهم، كما تقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40].
وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].
فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر1، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس المقصود المعنى الأصلي، والتهديد مثلا هو المعنى التبعي، وأن كلا منهما* يأخذ منه حكم، بل المعنى المقصود هنا في الحقيقة هو التهديد مثلا، أما طلب الفعل، فليس مقصودا، وكأن المعنى الأصلي هو المقوي للمعنى التبعي، وهذا وإن كان عكس ما قرره، إلا أنه يفيد أنهما لا ينفكان في الدلالة على المعنى المقصود وتقويته ووقوعه الموقع من الفهم، ولو قال ذلك، لكان أتم، ولعله يقول: إن الصيغة موضوعة** للتهديد، وأنه معنى أصلي لها أيضا، والأمر هو المعنى الثانوي مبالغة في التهديد. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "منها".
** في المطبوع: "موضوع".(36/200)
ص -158-…فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر، ولا يصح أن يؤخذ، وكما نقول في نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]: إن المقصود: سل أهل القرية، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة1 في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك، فلم ينبنِ على إسناد السؤال للقرية حكم، وكذلك قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان2، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار3... إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها، وإذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهو تقوية للمعنى المقصود، حتى كأنه لا يدع أحدا من أهلها بدون سؤال. "د".
2 قال بعضهم: المراد بالسموات والأرض هذه الأرض المشاهدة، والكواكب والأفلاك الموجودة، وهذه تبدل وتغير قطعا كما في النصوص، وإن المراد بهذا التعليق التأبيد كما هو معهود العرب في مثله نحو: ما طلع نجم، وما غنت حمامة، مما يقصد به التأبيد لا التعليق، فكون السماوات والأرض تفنيان لا يؤثر في هذا المعنى المقصود وهو التأبيد، ولكن التعليق يقوي هذا المعنى ويوقعه في الفهم الموقع، أما على القول بأن المراد بالسموات والأرض جنسهما، وأنه لا بد من أرض وسماء للجنة والنار غير هذين، وأن التعليق على دائم يقتضي الدوام، فلا يكون مما نحن فيه، فلذا قال: "بناء على القول بأنهما تفنيان"، وبهذا تعلم أن كلام بعضهم هنا انتقال نظر، فإنه ليس الكلام في بقاء الجنة والنار وفنائهما كما هو واضح، فإن القول بأن الجنة تفن لم يقل به مسلم فضلا عن أن نبني عليه استدلالا كهذا. "د".
3 القول بأن الجنة والنار تفنيان هو مذهب جهم بن صفوان إمام الجهمية، وقد تحطمت عقيدتهم الإسلامية على صخرة هذه المقالة، ودخلوا في زمرة المخالفين لصريح كتاب الله وسنة=(36/201)
ص -159-…كذلك، فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى، فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زئدا على ذلك بحال.
والثاني: أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى1، إذ كان يكون تقرير2 ذلك المعنى مقصود بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية، وقد فرضناه من الثانية، هذا خلف لا يمكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله، وما القول بأن الجنة أبدية والنار فانية، فقد حكاه الشيخ ابن تيمية عن بعض الصحابة والتابعين، وتصدى ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" إلى ترجيحه وبسط أدلته. "خ".
قلت: كذا قال الشيخ "خ" رحمه الله تعالى، ولم يصب في ذلك، فقد حكاه ابن تيمية وتبعه ابن القيم، فأسهب في هذا المبحث في كتابيه "شفاء العليل" "ص528-552"، و"حادي الأرواح" "ص276-311"، وذكر أدلة القائلين بالفناء، وسكت عليها، فأوهم أنه يرى فناء النار، مع أنه صرح في كتابه "الوابل الصيب" "ص29" أن نار الكافرين والمنافقين لا تفنى، وأن نار عصاة الموحدين هي التي تفنى، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وهذا ما صرح به ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "1/ 157"، و"درء تعارض العقل والنقل" "1/ 305"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 304"، وله "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار" ذكرها يوسف بن عبد الهادي في "فهرسته" "ق 26/ أ"، وانظر في المسألة: "رفع الأستار" للصنعاني مع مقدمة شيخنا الألباني، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة" "ص246-267" لصلاح مقبول، و"دفع إيهام الاضطراب" "ص122" للشنقيطي، و"دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية" لأخينا مراد شكري "ص111-119"، و"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" لعلي بن علي جابر الحربي، نشر دار طيبة- مكة المكرمة.(36/202)
1 أي: لكانت جهة تقصد قصدا أوليا، فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. "د".
2 في الأصل: "تقدير".(36/203)
ص -160-…لا يقال: إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية: إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، والجميع مقصود للشارع، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية، وينبني على ذلك1 في أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء الله، فكذلك نقول هنا: إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع2 قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها؛ لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا، وإذا اتحدت النسبةكان التفريق بينهما غير صحيح، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى.
لأنا نقول: هذا -إن سلم- من أدل الدليل على ما تقدم، لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوَطَر مثلا صحيحًا، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل، فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع، فكذلك نقول في مسألتنا: إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى، في نفس ما دلت عليه الأولى، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي، فالمعني التبعي راجع إلى المعنى الأصلي، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي، وهو المطلوب.
وأيضا، فإن بين المسألتين فرقا، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات؛ لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم، وقضاء أوطارهم، ورفع الحرج عنهم، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات، صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل استظهر ناسخ الأصل أن هناك كلمة أمور أو أحكام هنا.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "ممتنع".(36/204)
ص -161-…إفراده بالقصد من هذه الجهة، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية، بخلاف مسألتنا، فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى؛ لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد؛ فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره.
والثالث: أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة، فلو جاز أخذه من غيرها، لكان خروجا بها عن وضعها، وذلك غير صحيح، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونها تبعا للأولى، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي، وذلك غير صحيح، فما أدى إليه مثله، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين: إما إلى الجهة الأولى، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك1.
فأما مدة الحيض، فلا نسلم أن الحديث دال عليها، وفيه النزاع، ولذلك يقول الحنفية2: إن أكثرها عشرة أيام، وإن سلم، فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع3، وفيه الكلام.
ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس 4 أو غيره، وأقل مدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإما لا استفادة أصلا كما في مدة الحيض على الشق الأول قبل التسليم، فإنه يمنع دلالة الحديث عليها، ويحتمل أنه يشير بالجهة الثالثة إلى ما سيأتي له في الفصل التالي من التأسي بالآداب القرآنية. "د".
2 في الأصل و"ط": "الحنفي".
3 أي: بل بدلالة غير وضعية، وكلامنا إنما هو في مستتبعات التراكيب، أي: دلالة الألفاظ. "د". قلت: انظر المسألة وأدلتها في "الخلافيات" "3/ رقم 48- وتعليقي عليها".
4 غير واضح؛ لأنه إما أن يكون ما تقدم في الاستدلال من نفس كلام الشافعي أو لا، فإن كان الأول، فهذا الجواب غير ظاهر؛ لأن صريح الكلام يمنع هذا الجواب، وإن كان الثاني، فكيف ساغ نسبة هذا الدليل للشافعي من طرف المصحح؟ "د"(36/205)
ص -162-…الحمل مأخوذة من الجهة الأولى1 لا من الجهة الثانية، وكذلك مسألة الإصباح جُنُبًا، إذ لا يمكن غير ذلك2، وأما كون الولد لا يملك، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع، وما ذكر في مسألة الزكاة، فالقائل بالتعميم إنما بنى على أن العموم مقصود، ولم يبن على أنه غير مقصود، وإلا كان تناقضا، لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع، فكيف يصح الاستدلال بالعموم، مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}3 [الجمعة: 9]، فهو عنده مقصود لا ملغى، وإلا، لزم التناقض في الأمر4 كما ذكر، وكذلك شأن القياس الجلي، لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب.
فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت، فلا يصح إعماله ألبتة، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث، كذلك يمكن في الأول والثاني، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه: "فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا، فلا يمكن إهماله"، وهذا عين مسألة النزاع، والثاني مسلم، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه، فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس هنا لفظ وضع للدلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، بل إنما أخذ ذلك من عملية جمع وطرح، فكان الباقي هو العدد المذكور، وهو من باب اللزوم قطعا، "د".
2 أي: فيتوقف صحة الكلام على ثبوت هذا المعنى، وهو ما يسمى اقتضاء على بعض الاصطلاحات. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
4 في "ط": "في الاستدلال".(36/206)
ص -163-…فصل:
قد تبين تعارض الأدلة في المسألة، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة.
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معانٍ زائدة على المعنى الأصلي، هي آداب شرعية، وتخلقات حسنة، يقر بها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا.
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة:
أحدها:
أن القرآن أتى بالنداء1 من الله تعالى للعباد، ومن العباد لله سبحانه، إما حكاية، وإما تعليما، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد، ثابتا غير محذوف، كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف: 158]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104].
فإذا أتي بالنداء من العباد إلى الله تعالى، جاء من غير حرف [فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف] نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن التنبيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع. "د".(36/207)
ص -164-…وأيضا، فإن أكثر حروف النداء للبعيد، ومنها "يا" التي هي أم الباب، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186].
ومن الخلق عموما، لقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
فحصل من هذا التنبيهُ على أدبين:
أحدهما: ترك حرف النداء.
والآخر: استشعار القرب.
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة، وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن مداناة العباد، إذ هو في دنوه عالٍ، وفي علوه دانٍ، سبحانه!
والثاني:
أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه، فأتى في النداء القرآني1 بلفظ: "الرب" في عامة الأمر، تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعو بها، وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب، فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] إلى آخرها، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وأما الدعاء في الحديث، فالشائع فيه لفظ الجلالة، ولكل سرٌّ وحكمة، وسيأتي له التعبير بكثرة بدل "عامة". "د".(36/208)
ص -165-…وإنما أتى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] من غير إتيان بلفظ الرب"؛ لأنه لا مناسبة1 بينه وبين ما دعوا به، بل هو مما ينافيه، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} الآية: [المائدة: 114]، فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا.
والثالث:
أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيى من التصريح بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط، وكما قال في نحوه: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام}2 [المائدة: 75] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل.
والرابع:
أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضي الحال يستدعيه، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4].
ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5].
وبالعكس إذا اقتصاه الحال أيضا، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} [يونس: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومع هذا، فلا حاجة إلى الاعتذار عنه؛ لأنه محكي على لسان الجحدة الذين لم يصلوا للآداب إنما يحتاج للاعتذار عن مثل قوله تعالى حكاية عن نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} والجواب أن هلاك هؤلاء رحمة بسائر أولاد آدم، كما قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك}. "د".
قلت: سيأتي إيضاح ذلك في التعليق على "4/ 203، 432" بوجه أوضح وأوعب.
2 أي: ويلزمه قضاء الحاجة التي لا تليق بالإله. "د".(36/209)
ص -166-…وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] حيث عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقدار من [هذا]1 العتاب، لكن على حال2، تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتَب، ثم رجع الكلام إلى الخطاب، إلا أنه بعتاب أخفَّ من الأول3، ولذلك ختمت الآية بقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة} [عبس: 11].
والخامس:
الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى4، وإن كان هو الخالق لكل شيء، كما قال بعد قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}..... [آل عمران: 26] إلى قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، ولم يقل: "بيدك الخير والشر" وإن كان قد ذكر القسمين معا، لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر، نعم قال في اثره: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 26] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه، حتى جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والخير في يديك والشر ليس إليك"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 في "ط": "حالة".
3 انظر: "روح المعاني" "30/ 39"، و"تفسير القرطبي" "19/ 211"، و"فتح القدير" "5/ 382"، و"آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد" "ص279-287".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207-211 و14/ 18-28 و299-302"، و"الحسنة والسيئة" "ص190"، و"شفاء العليل" "ص178"، و"مدارج السالكين" "1/ 194"، و"شرح الطحاوية" "282".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب الرقاق، باب قوله عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 11/ 388/ رقم 6530" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك".(36/210)
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 534-535/ رقم 771" عن علي مرفوعًا، "إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال.... والخير كله في يديك والشر ليس إليك".(36/211)
ص -167-…وقال إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78] إلخ، فنسب إلى رب العالمين الخلق، والهداية، والإطعام، والسقي، والشفاء، والإماتة، والإحياء، وغفران الخطيئة، دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض، فإنه سكت عن نسبته إليه.
والسادس:
الأدب في المناظرة1 أن لا يفاجئ بالرد كفاحًا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود: 35].
وقوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43].
{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية.
والسابع:
الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية، كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المنهاج" للباجي "ص9-10".(36/212)
ص -168-…ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21]. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الأنعام: 152].
وما أشبه ذلك، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف [كان]1 يكون، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا، فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر- بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور- أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم، دخولا في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بأخبار كثير من المنافقين2 ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون3؛ لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر4، فما نحن فيه نوع من هذا الجنس، والأمثلة كثيرة، فإن كان كذلك، ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية، وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى، وهو توهين لما تقدم اختياره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من "خ" و"ط".
2 في "ط": "يعلم بكثير من أخبار المنافقين".
3 وكان يعلل ذلك بقوله: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه" كما سيأتي "ص467".(36/213)
4 قبوله عليه الصلاة والسلام لدخول المنافقين في جملة أتباعه مع معرفته بما تنطوي عليه صدورهم كان من حسن النظر والبعد في مذاهب السياسة بالمكان الذي ليس وراءه مرمى، حيث يكثر بهم سواد حزبه رأي العين، ويفصلهم عن أن يكونوا أعوانا لأعدائه وكان يرجو مع ذلك هدايتهم وخلوص عقيدتهم لكثرة ما يشاهدونه من آيات نبوته ودلائل صدقه، وقد انقلب كثير منهم بعدما تخبطتهم وساوس النفاق إلى إيمان كفلق الصبح، وهذه كلها مصالح لا يظهر بجانبها المفاسد الناجمة عن بقائهم في جماعة المسلمين ولا سيما مع تتبع خطواتهم والحذر من مكايدهم. "خ".(36/214)
ص -169-…والجواب: إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهة أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال1، [والله أعلم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن تيمية في "المسودة" "ص298": "الأصل قول الله تعالى وفعله وتركه القول، وتركه9 الفعل، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وإن كانت جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه".
قلت: والاحتجاج بأفعاله سبحانه فيها خلاف، والصواب التفصيل، واختيار المصنف حسن.
وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 231"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123"، و"إرشاد الفحول" "173"، و أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 150-154" للأشقر.
2 زيادة من "ط".(36/215)
ص -171-…النوع الثالث: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها
ويحتوي على مسائل
المسألة الأولى:
ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه1 القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا2، ولا معنى لبيان ذلك ههنا، فإن الأصوليين3 قد تكفلوا بهذه الوظيفة، ولكن نبني عليها ونقول: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما4 لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أقف على قول بالسببية بالمعنى الذي ذكره في تعريف السبب. "د".
2 خلافا للحنفية والمعتزلة القائلين بالمنع عقلا أيضا. "د".
3 انظر على سبيل المثال: "البرهان" "1/ 105" للجويني، و"المستصفى" "1/ 86-88" للغزالي، و"البحر المحيط" "1/ 388"، و"سلاسل الذهب" "136"، كلاهما للزركشي، و"المسودة" "80" لآل تيمية، و"روضة الناظر" "1/ 234 - ط الرشد" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 288، 10/ 344-348، 22/ 41-43، 100-102"، و"إعلام الموقعين" "4/ 220"، و"تهذيب السنن" "1/ 47"، و"بدائع الفوائد" "4/ 29-31"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 770"، كلها لابن القيم.
4 أي: بالذي(36/216)
ص -172-…فقول الله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1 [البقرة: 132]، قوله في الحديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"2، قوله: "لا تمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية مثال للتكليف بالإسلام السابق على الموت، ولا يفيد عند المقارنة والمثال الثاني من التكليف بالسوابق أيضا، فإنه لما تعارض عليه الأمر وكان بين أن يقتل غيره أو يقتله غيره فيما لا تحل فيه النفس، أمر بإسلام الأمر لله، وعدم الإقدام على قتل الغير، والمثال الثالث يصح أن يكون من النهي عن الظالم السابق على الموت والظلم الذي يقارن الموت، كأن لا يتحلل عند الموت من الظلم، أو تبقى بعض الوسائل التي بها الظلم مقارنة للموت، كمن غصب بيتا سكنه ومات فيه، أو ثوبا بقي في حوزته مغصوبا حتى مات، وما أحسن تعبير أبي طلحة بقوله: "لا يصيبوك"، ولم يقل "فيصيبوك" تفريعا على المنهى عنه، وكان هو المتبادر، لكنه لا يريد النطق بهذه الكلمة على طريق الإثبات، وليس من الأمثلة المذكورة ما فيه اللواحق، وفيما تقدم في الأسباب في المسألة العاشرة فيمن سن سنة حسنة أو سيئة ما يؤخذ منه استنباط أمثلة اللواحق. "د".
قلت: وانظر في هذا: "الأحكام" "1/ 192" للآمدي، و"الابتهاج" "1/ 172"، و"البحر المحيط" "1/ 220"، و"سبل السلام" 4/ 298"، و"أصول الفقه" "304" لأبي زهرة، و"رفع الحرج" "214- 215" لباحسين.
2 عزاه الرافعي في "شرح الوجيز" لحذيفة، وتعقبه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84" بقوله: "هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في "النهاية" أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن".
قلت: وجاء معناه في غير حديث: منها:(36/217)
- لا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 4/ 1476/ 1847 بعد 52" بسنده إلى حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. الحديث، وفيه: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع".
- وما أخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 177/ رقم 1724" عن جندب بن سفيان مرفوعا: "سيكون بعدي فتن كقطع الليل...." وفي آخره: "وليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل". =(36/218)
ص -173-…وأنت ظالم"1، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو: الإسلام وترك الظلم، والكف عن القتل، والتسليم لأمر الله، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل.
ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: "لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفيه شهر بن حوشب وعبد الحميد بن بهرام، وقد وثقا وفيهما ضعف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303".
- وما أخرجه أحمد في المسند" "5/ 110"، و الطبراني في "الكبير" "4/ 59-60/ رقم 3628-3631"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 176-178/ رقم 7215" عن خباب في حديث طويل، فيه: "فكن عبد الله المقتول"، وفي بعض رواياته زيادة: "ولا تكن عبد الله القاتل" على الشك وبدونه، ورجاله ثقات، إلا أن فيه مجهولا، فهو ضعيف.
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303": "لم أعرف الرجل الذي من عبد القيس، وبقية رجاله رجال الصحيح".
- وما أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 292"، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 138"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 156/ رقم 399"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 466/ رقم 646"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 281"، والطبراني في "الكبير" "4/ 225"، والبزار في "المسند" "4/ 125/ رقم 3356 - زوائده" من طرق عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن خالد بن عرفطة مرفوعا: "يا خالد! إنها ستكون أحداث واختلاف وفتن، فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل، فافعل".
قال البزار عقبه: "لا نعلمه يروى عن خالد بن عرفطة إلا بهذا الإسناد".(36/219)
وعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف لكن اعتضد كما ترى، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84"، وعزاه فيه إلى ابن قانع، واضطرب فيه ابن جدعان، فكان يجعله من مسند سعد رفعه بلفظ: "إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا تقتل أحدا من أهل القبلة، فافعل".
أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "ص484-485/ ترجمة عثمان"، وإسناده ضعيف.
1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ.(36/220)
ص -174-…تشرف يا رسول الله، لا يصيبوك" الحديث1 فقوله: "لا يصيبوك" من هذا القبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، 6/ 93/ رقم 2902"، وأحمد في "المسند" "3/ 265"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 162"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 401/ رقم 2661" من طريق عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، قال: "كان أبو طلحة يتترس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة رضي الله عنه حسن الرمي، وكان إذا رمي يشرف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى موضع نبله.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، 6/ 78 مختصرا / رقم 2880، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي طلحة، 7/ 128/ رقم 3811، وكتاب المغازي، باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، 7/ 361/ رقم 4064"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء مع الرجال، 3/ 1443/ رقم 1811"، وأبو يعلى في "المسند" "7/ 24/ رقم 3921"، ومن طريقه ابن عساكر "تاريخ دمشق" "6/ 8" - تهذيب عبد القادر بدران" من طريق عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بنحو اللفظ الذي أورده المصنف.(36/221)
ص -175-…المسألة الثانية:
إذا ثبت هذا، فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنه من تكليف ما لا يطاق، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلا ما لا يحل، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة1 تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أكان مما يسبق تلك الأوصاف أم مما يلحقها وينشأ عنها كما سيبينه، فلذا عمم، وقال: "من جهة تلك الأوصاف"، ليشمل ما تكون الأوصاف هي الناشئة عنه. "د".
قلت: انظر في هذا "قواعد الأحكام" "1/ 117"، و"مباحث الحكم عند الأصوليين" "1/ 193-194" لمحمد سلام مدكور.(36/222)
ص -176-…المسألة الثالثة:
إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان، فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان:
- منها: ما يكون ذلك فيه مشاهدا ومحسوسا كالذي تقدم.
- ومنها: ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك، ومثاله العجلة، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه، لقوله تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37].
وفي "الصحيح": "إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خُلِقَ خلقا لا يتمالك"1.
وقد جاء أن "الشجاعة والجبن غرائز"2.
و"جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك، 4/ 2016/ رقم 2611" عن أنس مرفوعا: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر به ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك".
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 152، 229، 240، 254".
2 سيأتي تخريجه "ص185".
3 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 701"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "6/ 481/ رقم 8984"، وابن الأعرابي في "المعجم" "2/ ق 21/ 22"، وأبو موسى المديني في "جزء من أدركه الخلال من أصحاب ابن منده" "ق 150- 151"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 121"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "7/ 346"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 599، 600"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 160"، والقزويني في "تاريخ قزوين" "4/ 172"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 29" من طريق إسماعيل بن أبان عن الأعمش عن خيثمة عن ابن=(36/223)
ص -177-…إلى أشياء من هذا القبيل، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات.
وجاء: "يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مسعود مرفوعًا.
قال أبو نعيم: "غريب، لم نكتبه إلا من هذا الوجه"، ونحوه عند ابن عدي، وزاد -وعنه القضاعي- "وهو معروف عن الأعمش موقوفا"، وإسماعيل بن أبان متهم بالكذب، قال أبو داود: "كان كذابا"، وقال ابن حبان في "المجروحين" "1/ 116": "كان يضع الحديث على الثقات"، ورواه ابن أخت عبد الرزاق عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال أبو حاتم في "العلل" "2/ 333-334": "هذا حديث منكر، وكان ابن اخت عبد الرزاق يكذب".
وأخرجه موقوفا ابن حبان في "روضة العقلاء" "ص255" من الطريق المرفوعة الأولى، وهي موضوعة، والبيهقي في "الشعب" "6/ 481/ 8983" من طريق ابن أخت عبد الرزاق..... وقال: "هذا هو المحفوظ موقوفا".
قلت: لم يصح موقوفا أيضا، وإنما هو من قول الأعمش، ونقل المناوي عن الأزدي قوله في الحديث: "هذا الحديث باطل"، وقال: "ورأيت بخط ابن عبد الهادي في "تذكرته" قال مهنَّأ: سألت أحمد ويحيى عنه، فقالا: ليس له أصل، وهو موضوع" وقال السخاوي في "المقاصد": "هو باطل مرفوعا وموقوفا".
1 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 252"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 161"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 472"، و"مكارم الأخلاق" "رقم 144"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 344"، وابن أبي شيبة في "الإيمان" رقم 82"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 114"، والدارقطني في "العلل" "4/ 329"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 328-329"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 197"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 217"، والبزار وأبو يعلى كما في "المجتمع" "1/ 92" مرفوعا.(36/224)
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 828"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 592 و11/ 18"، و"الإيمان" "رقم 81"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 197"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 491" موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
ورجح أبو زرعة والدارقطني وقفه، وهو الصحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود موقوفا عليهم عند الطبراني في "المعجم الكبير". انظر: "مجمع الزوائد" "1/ 93".(36/225)
ص -178-…وإذا ثبت هذا، فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يكن داخلا1 تحت كسبه قطعا، وهذا قليل، كقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [البقرة: 132]، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به.
والثاني: ما كان داخلا تحت كسبه قطعا، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها.
والثالث: ما قد يشتبه أمره، كالحب والبغض وما في معناهما، فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا، إما لأنها من أصل الخلقة2، فلا يطلب إلا بتوابعها، فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب، وإما لأن لها3 باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه، فالطلب يرد عليه كقوله: "تهادوا تحابوا"4، فيكون كقوله: "أحبوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "ما كان غير داخل......".
2 سيأتي تمثيلها بالشجاعة والجبن والحلم. "د".
3 أي: كالحب والبغض "د".
4 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 594"، والنسائي في "الكنى" -كما في=(36/226)
ص -179-…الله لما أسدى إليكم من نعمه"1 مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "نصب الراية" "4/ 120"، و أبو يعلى في "المسند" "11/ 9/ رقم 6148"، والدولابي في "الكنى" "1/ 150، 2/ 7"، وتمام في "فوائده" "رقم 712- ترتيبه"، وابن عدي في الكامل" "4/ 1424"، وأبو الشيخ في الأمثال" "رقم 245"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 169"، والمزي في "تهذيب الكمال" "2/ ق 620" عن أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن، وحسنه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 70"، و" بلوغ المرام" "ص116" وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "2/ 40"، وتبعه السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص166"، فقالا: "سنده جيد".
وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها بألفاظ مغايرة، وحسنه شيخنا في "الإرواء" "رقم 1602"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 462".(36/227)
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، 5/ 664/ رقم 3789"، وعبد الله بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" "2/ 986/ رقم 1952"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "3/ 46/ رقم 2639 و10 / 341-342/ رقم 10664"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 183" والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 497"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 149-150"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 45", "الشعب" "1/ 288"، و"الاعتقاد" "ص327، 328"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 211"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "4/ 160"، والشجري في "أماليه" "1/ 152"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2569-2570"، والختلي في "المحبة لله" "ق1/ أ" وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 267/ رقم 430"، وابن المستوفي في "تاريخ إربل" "1/ 224"، والمزي في "تهذيب الكمال" "ق 691" والذهبي في "الميزان" "2/ 432"، كلهم من طريق هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، وسيأتي عند المصنف "ص189".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص".
قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم يرويه غير هشام بن يوسف بهذا الإسناد"، وقال: وهشام بن يوسف هذا له أحاديث حسان وغرائب، وقد روى عنه الأئمة من الناس، وهو ثقة".
قلت: إسناده ضعيف، وأعله الخطيب وتبعه ابن الجوزي بأحمد بن رزقويه والذراع، وقد توبعا، وآفة الحديث عبد الله بن سليمان النوفلي، قال الذهبي في "الميزان" "2/ 432": "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف بالحديث الذي... "وساقه".
فالحديث ضعيف، لتفرد هذا المجهول به، وضعفه شيخنا في "تخريجه لأحاديث فقه السيرة "ص23".(36/228)
ص -180-…على العبد وكثرة إحسانه إليه، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلا ما لا يحل1، وعين الشهوة لم ينهَ عنه، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، خرجناها في رسالة أبي بكر بن حبيب العامري "ت 530هـ" "أحكام النظر إلى المحرمات"، منها ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب نظر الفجأة/ رقم 2159" عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال لي: "اصرف بصرك".
ومنها حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلوى النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: "رأيت شابا وشابة؛ فلم آمن الشيطان عليهما".
والحديث صحيح، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 76، 157"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف/ رقم 885"، وأبو داود مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع / رقم 1935"، وابن ماجه مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الوقف بعرفات/ رقم 3010" والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 72"، وابن خزيمة في "الصحيح" "4/ 262/ رقم 2837"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 471"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 122و 7/ 89"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 264-265، 413-414 / رقم 312، 544" من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي به.(36/229)
وإسناده صحيح، وتابع الثوري جماعة، منهم: المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم بن خالد الزنجي، كما عند عبد الله في "زوائد المسند" "1/ 76، 81"، وإبراهيم بن إسماعيل -هو ضعيف- كما عند البزار في "البحر الزخَّار" "رقم 479"، وقد وهم فيه، فقال: "عن عبد الرحمن".=(36/230)
ص -181-…فالطلب يرد على اللواحق1 كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن الحارث عن زيد بن على عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع عن علي".
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث قد رواه الثوري والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهما إبراهيم بن إسماعيل في هذا الإسناد، فقال: عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والصواب حديث الثوري والمغيرة".
قلت: وذكره الدارقطني في "العلل" "رقم 411"، وقال: "هو حديث يرويه الثوري والداروردي ومحمد بن فليح والمغيرة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن الحارث، وخالفهم إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، فرواه عنه.... زاد فيه أبا رافع، ووهم، والقول قول الثوري ومن تابعه، والله أعلم.
ورواه يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي بن علي عن أبيه عن علي، ولم يذكر ابن أبي رافع، والصواب ما ذكر من قول الثوري ومن تابعه".
قلت: وللحديث شواهد كثيرة، منها حديث الفضل بن العباس وابن عباس وجابر، وغيرهم رضوان الله عليهم، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 150".
قال ابن بطال: "وفي الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة"، وقال: "ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشى الفتنة عليه" وقال: "وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن" راجع: فتح الباري" "11/ 10".
1 فمثل قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له أوصني: "لا تغضب" مكررا ذلك، يرد النهي فيه على لاحق الغضب. "د".(36/231)
قلت: فالمطلوب من المكلف حينئذ أن يكظم غيظه فلا يندفع في وقت الغضب في قول أو فعل، وأن لا يسترسل في الغضب، كما أنه مطلوب منه أن يجتنب مثيرات الغضب وأسبابه، فلا يقحم نفسه فيما يورثه ذلك. انظر: "أصول الفقه" "304" لأبي زهرة.(36/232)
ص -182-…فصل:
ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة1 كلها أو أكثرها من الكبْر والحسد وحب الدنيا والجاه، وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات2 وغيره.
وعليه يدل كثير من الأحاديث، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة، كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء، وأشباهها مما هو نتيجة عمل3، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا، فليس تحصيله بمقدور أصلا؟ فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات، فهو حاصل، ولا يمكنه الانصراف عنه، وإن كان غير ضروري، لم يكن تحصيله إلا بتقديم النظر، وهو المكتسب دون نفس العلم4؛ لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة؛ لأن النتيجة لازمة للمقدمتين، فتوجيه النظر فيه هو المكتسب، فيكون المطلوب وحده، وأما العلم على أثر النظر، فسواء علينا قلنا: إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها -كما هو رأي المحققين-5 أم لم نقل ذلك، فالجميع متفقون على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما قرره عصري المصنف العلامة ابن خلدون أيضا، فقال في كتابه "شفاء السائل لتهذيب المسائل" "ص26": "الأعمال الظاهرة كلها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن"، وهذا ما أكد عليه الغزالي في "الإحياء" "4/ 373 وما بعدها".
2 وهو في المجلد الثالث بتمامه من "الإحياء".
3 فالتكليف بها أمرا أو نهيا تكليف بالسوابق والأعمال المنتجة لها. "د".
4 بهذا التحرير يندفع ما يخطر في الذهن من استشكال القول بأن العلم من قبيل مقولة الكيف، أو الانفعال مع أنه مكلف به ولا تكليف إلا بفعل "خ".(36/233)
5 القائلون بأن العلم ع3.قب النظر يستند إلى الله ابتداء على مذهبين: أحدهما أن التلازم بينهما عادي بحيث يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، ثانيهما أنه من قبيل اللزوم الذي لا بد منه عقلا بحيث يمتنع الانفكاك بينهما، يخرق العادة كما يمتنع خلو الجواهر عن الأعراض، ومعنى كونه جائز الترك والفعل عند أصحاب هذا الرأي أن الفاعل المختار، إما أن يخلق الملزوم واللازم، وإما أن يتركهما، فجواز ترك المقدور هنا مشروط بارتفاع مانع هو أيضا مقدور."خ".(36/234)
ص -183-…أنه غير داخل تحت الكسب نفسه، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال.
وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل، وإذا1 كانت على هذا الترتيب، لم يصح التكليف بها أنفسها، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك، فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها، أو يتأخر عنها، أو يقارنها، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وإن".(36/235)
ص -184-…المسألة الرابعة:
الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين:
أحدهما:
ما كان نتيجة عمل، كالعلم والحب في نحو قوله: "أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه"1.
والثاني:
ما كان فطريا2 ولم يكن نتيجة عمل، كالشجاعة، والجبن، والحلم، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس3، وما كان نحوها.
فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض، على ذلك الترتيب.
والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين:
إحداهما: من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له.
والثانية: من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع.
فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه قريبا، وهو ضعيف.
2 انظره مع ما ورد في الحديث: "إنكم مجبنون ومبخلون" يخاطب الحسن وأسامة بن زيد "د".
3 سيأتيك نص الحديث قريبا.(36/236)
ص -185-…الله: الحلم، والأناة"1.
وفي بعض الروايات [أخبره أنه مطبوع2 عليهما، وفي بعض الحديث]3: "الشجاعة والجبن غرائز"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الإسلام، 1/ 48 -49/ رقم 18"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 585"، وأحمد في "المسند" "3/ 23"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 238- موارد" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "رقم 17"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2012"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 586"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص92"، و"المساوئ" "رقم 339" من حديث ابن عباس رضي الله، وفي الباب عن غيرهما لا نطيل بذكر ذلك، والله الموفق.
في حاشية الأصل ما نصه: "الإناة: بالقصر: كذا في شروح مسلم من حديث وفد عبد القيس من كتاب الإيمان".
2 يريد الاستدلال على أنها فطرية وعلى تعلق الحب والبغض بها كما ترى ذلك في صنيعه كله. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ومن "ماء".
4 أخرجه ابن حبان في "المجروحين" "3/ 41" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "الجبن والشجاعة غرائز....".
وإسناده واهٍ جدا، فيه معدي بن سليمان، قال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال ابن حبان: "كان ممن يروي المقلوبات عن الثقات، والملزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". راجع: "الميزان" "4/ 142".(36/237)
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 333"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2534- ط القديمة و 4/ 1283/ رقم 649- ط الجديدة"، والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير في "التفسير" "5/ 417/ رقم 5834، 5835 و8/ 462/ رقم 9766، 9767"، وابن المنذر وابن أبي حاتم ورستة في "الإيمان"، كما في "الدر المنثور" "2/ 564"، وأبو القاسم البغوي وساق سنده ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 569"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص307- ترجمة عمر"، وابن عبد البر في "الاستذكار" 14/ 254-255/ رقم 20259، 20260" موقوفا على عمر بلفظ المصنف، وهو أشبه. وانظر: "تغليق التعليق" "4/ 196".(36/238)
ص -186-…وجاء: "إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "4/ 1502" عن الزبير بن العوام، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجبذ عمامتي بيده، فالتفتُّ إليه، فقال: "يا زبير! إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قرار بطن الأرض، فيرزق الله كل عبد على قدر همته، يا زبير! إن الله يحب السخاء ولو بفلقة تمرة، ويحب الشجاعة لو بقتل الحية والعقرب".
وأخرجه من طريق ابن عدي ابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 179" ومن طريق آخر أبو نعيم في "الحلية" "10/ 73" مختصرا دون المذكور عند المصنفد.
والحديث موضوع، مداره على عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، يروي الموضوعات على الأثبات، لا يحل كتب حديثه، والحديث في "الدر الملتقط في بيان الغلط" "ص36" للصغاني، و"شرح الإحياء" للزبيدي "8/ 182-183".
وأخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" "رقم 44" بإسناد واهٍ من حديث على، وفيه: "وكن شجاعا، فإن الله تعالى يحب الشجاع".
وأخرجه البيهقي في "الزهد" "رقم 952"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 6"، وأبو نعيم في "أربعي الصوفية" "رقم 25"، وقال: "هذا حديث شريف يجمع من أصولهم معاني لطيفة"، والحلية" "6/ 199"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1080، 1081"، و"الديلمي في "الفردوس" "رقم 565"، وكما قال السخاوي في "تخريج الأربعين السلمية" "ص49"، وأبو بكر المقرئ في "فوائده" -كما في "فتح الوهاب" "2/ 141"- عن عمران بن حصين ضمن حديث في آخره: "ويحب الشجاعة ولو على قتل حية".
وإسناده واهٍ بمرة، فيه عمر بن حفص العبدي، تركه أحمد والنسائي، وضعفه الدراقطني، كما في "الميزان" "3/ 189"، وتفرد به كما قال البيهقي، وفيه أيضا العلاء والد هلال، قال السخاوي: "قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث" وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به".(36/239)
وهو من رواية الحسن عن عمران، أفاد الحاكم في مواطن من "مستدركه" منها "2/ 234" أن الأكثر على إثبات السماع، فقال: "اختلف مشايخنا في سماعه منه، والأكثر على إثباته"، والخلاصة: الحديث لم يثبت، ولا يوجد له إسناد قائم، والله الموفق.(36/240)
ص -187-…وفي الحديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"1 وهذا معنى التحاب والتباغض، وهو غير مكتسب.
وجاء في الحديث: "وجبت محبتي للمتحابين في"2.
وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه "المؤمن القوي خير وأحب إلى اللهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "6/ 369/ رقم 3336" معلقا عن عائشة رضي الله عنها، ووصله أبو يعلى في "المسند" "7/ 344/ رقم 4381" بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "8/ 88"، والبخاري في "الأدب المفرد" "900"، وابن عدي في "الكامل" "6/ 2299 و7/ 2671"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "100" والخطيب في "التلخيص" "1/ 141"، والبيهقي في "الآداب" "310"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "274"، والإسماعيلي في "مستخرجه"، وابن زنبور في "فوائده" كما في "الفتح" "6/ 370"، و"التغليق" "4/ 7"، و"عمدة القاري" "15/ 225".
والحديث صحيح، له شواهد من حديث أبي هريرة عند مسلم في "الصحيح" "4/ 2031/ رقم 2638" وغيره، وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وورد عن على مرفوعا بلفظ: "إن الأرواح تلاقى في الهوى، فتشام، فما تعارف منها....." أخرجه ابن منده في النفس والروح" كما قال ابن القيم في "الروح" "44", أبو الشيخ في الأمثال" "107"، والطبراني في "الأوسط" كما في المجتمع" "1/ 162"، وصوب الدارقطني في "العلل" "4/ 188"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 135"، وقفه على علي رضي الله عنه، وهو الأشبه.(36/241)
2 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 953-954"، وأحمد في "المسند" "5/ 229، 233، 247"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 168، 169، 170"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 335"/ رقم 575- الإحسان، والطبراني في "الكبير" "20/ رقم 150-154" والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1449، 1450"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 206" عن معاذ مرفوعا، وهو قسم من حديث إلهي صحيح، بعض أسانيده على شرط الشيخين، وتتمته: "والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ".(36/242)
ص -188-…من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"1على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن2 وصلابة الأمر؛ والضعف خلاف ذلك.
وجاء: "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "1/ 356 وص 61 من هذا الجزء"، والحديث صحيح.
2 بل لو حمل على ما هو الظاهر من قوة الإرادة وصلابة العزيمة وهي خلق فطري، لكان الأمر على ما يريد من تعلق الحب بهذا الخلق الفطري، إلا أنه يريد أن يدخل فيه شدة البدن لظهور أنه فطري، فيتم له به الاستدلال على الأمرين معا، وليس من الضروري أن يكون الدليل عليهما حديثا واحدا. "د".
3 أخرجه أبو الشيخ في "حديثه" "رقم 68"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 2964" و"الكبير" "6/ 223/ رقم 5928" والحاكم في "المستدرك" "1/ 48"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 240-241"، و"الأسماء والصفات، "ص53" والسلفي في "معجم السفر" "1/ 174"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "رقم 2- المنتقى"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ 226/ 1"، جميعهم من طرق عن أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا فضيل بن عياش ثنا محمد بن ثور الصنعاني عن معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد رفعه، وأوله: "إن الله عز وجل كريم يحب الكرم ومعالي....".
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "6/ 241" من طريق محمد بن عبيد عن الصنعاني به. وإسناده صحيح، مع مخالفة عبد الرزاق للصنعاني "محمد بن ثور"، فقد أخرجه في "المصنف" "11/ 143/ رقم 20150"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 241"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 82/ 83"، عن معمر عن أبي حازم عن طلحة بن كريز الخزاعي مرسلا.
وقال البيهقي: "وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي حازم عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".(36/243)
قلت: أخرجه من طريق سفيان به البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 347"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 48" وقال: "وهذا لا يوهن حديث سهل بن سعد على ما قدمت ذكره من قبول الزيادات من الثقات، والله أعلم". قلت: أصاب الحاكم في مقولته، ولا سيما أن للحديث شواهد، منها:
- حديث الحسين بن علي، أخرجه الطبراني في "الكبير" "3/ 142/ رقم 2894"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 879"، والدولابي في "الذرية الطاهرة" "رقم 162"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1076، 1077"، والخطيب في "تلخيص المتشابه" "1/ 16- 17".
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 120"، وانظر "السلسلة الصحيحة" "رقم 1378".(36/244)
ص -189-…وجاء: "يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب"1.
وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} [الأنبياء: 37].
وجاء في معرض الذم والكراهية، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة.
ولا يقال: إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال؛ لأن ذلك:
أولا: خروج عن الظاهر بغير دليل.
وثانيا: أنهما يصح تعلقهما بالذوات، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].
"أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه"2.
و"من الإيمان الحب في الله3 والبغض في الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "ص177"، وهو صحيح موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
2 مضي تخريجه "ص179"، وهو ضعيف.
3 لأن معناه أن تحب الشخص لا تحبه إلا لأجل الله لا لغرض دنيوي، فالحب فيه تعلق بالذوات. "د".
4 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، 4/ 22/ رقم 4681، والطبراني في "الكبير" "رقم 7613، 7737، 7738"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص178-179"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 54" بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".(36/245)
ص -190-…ولا يسوغ في هذا المواضع أن يقال: إن المراد حب الأفعال فقط، فكذلك لا يقال في الصفات -إذا توجه الحب إليها في الظاهر- أن المراد الأفعال.
فصل:
وإذا ثبت هذا، فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال1، كقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46].
"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"2.
"ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لشيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة كاملة في المحبة، نشرها محمد رشاد سالم في الجزء الثاني من "جامع الرسائل" وقد شملت جميع هذه المعاني التي تكلم عليها الشاطبي.
2 مضي تضعيف المصنف له "1/ 200"، وهو كما قال كما بينته في التعليق عليه، والله الموفق.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، 8/ 301- 302/ رقم 4637، وكتاب النكاح، باب الغيرة، 9/ 319/ رقم 5220، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، 13، 283/ رقم 7403"، ومسلم في "صحيحه" -والمذكور لفظه- "كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2113/ رقم 2760" عن ابن مسعود مرفوعا.
وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغيرُ من الله"، 13/ 399/ رقم 7416"، مسلم في "الصحيح" "كتاب اللعان، 3/ 1136/ رقم 1499" ضمن حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا.(36/246)
ص -191-…وهذا كثير.
وإذا قلت: أحب الشجاع وأكره الجبان، فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف، نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وفي القرآن أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57].
وفي الحديث: "إن الله يبغض الحبر السمين"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال أبو الليث السمرقندي في "بستانه" "ص28 في الباب الرابع والأربعين": "وروي أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "وذكره".
وكتب أبي الليث السمرقندي مليئة بالأحاديث والأخبار الموضوعة، وربما يذكر صاحبها فيها سنده، فهي مفيدة لطالب العلم الذي ينظر في الأسانيد، ويمحص عن الرواة، وهي من مظان الحكم على كثير مما هو سائد بين العوام بالوضع أو الضعف، وإن راجت على صاحبها، قال الذهبي في ترجمته في "السير" 16/ 323": "وتروج عليه الأحاديث الموضوعة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري" "15"، وذكر جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء، ومنهم أبو الليث، قال: "فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم، ولا لهم خبرة بالنقلة، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل".
ولذا قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص124/ رقم 245" مستدركا على أبي الليث: "ولكن ما علمته في المرفوع"، ثم قال: "نعم، عند أحمد [في "المسند" "3/ 471 و 4/=(36/247)
ص -192-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 339"]، والحاكم في "مستدركه" ["4/ 121-122]، والبيهقي في "الشعب" ["5/ 33/ رقم 5666، 5667"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 238"] من حديث جعدة الجشمي أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين، فأومأ إلى بطنه بأصبعه، وقال: "لو كان هذا في غير هذا، لكان خير لك"، وسنده جيد.
قلت: ولكنه مرسل، ولم تثبت لجعدة صحبة، وانظر تفصيل ضعفه في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1131" لشيخنا الألباني، و"الأقوال القويمة في صحة النقل من الكتب القديمة" للبقاعي، بتحقيقنا، يسر الله إتمامه ونشره.
والمذكور عند المصنف وارد في المرفوع على أنه من التوراة في كتب التفسير في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأية: 91].
أخرج ابن جرير في "التفسير" "7/ 267"، بسند ضعيف، فيه ابن حميد- وابن المنذر وابن أبي حاتم - كما في "شرح الإحياء" "7/ 388"- من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له "مالك بن الصيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين......"؟ وذكر قصة، وهو مرسل.
وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 147" عن سعيد بن جبير بدون إسناد، وإليهما عزاه الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 442-443"، وتبعه ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص62"، وكذا المناوي في "تخريج البيضاوي" "2/ 611/ رقم 499".(36/248)
وأخرج البيهقي في "الشعب" "5/ 33/ رقم 5668" بسند فيه مجهول ومستور عن كعب، قال: إن الله يبغض أهل البيت اللحميين والحبر السمين"، ثم أخرج عن سفيان الصوري قوله في تفسير "أهل البيت اللحميين": "هم الذين يكثرون أكل اللحم"، ثم قال: "وهذا تأويل حسن غير أن ظاهره الإكثار من أكل اللحم، وفي جمعه بينه وبين "الحبر السمين" كالدلالة على ذلك".
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "2/ 362" في "ترجمة مالك بن دينار" بسنده إليه، قال: "قرأت في الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين".
وعند أبي نعيم في "الطب النبوي" له من طريق بشر الأعور عن عمر بن الخطاب أثر طويل، في آخره: "وإن الله ليبغض الحبر السمين" ونقل الغزالي عن ابن مسعود، أنه قال: "إن الله يبغض القارئ السمين"، أفاده السخاوي في "المقاصد" "ص125".
والخلاصة هذا الحديث لا يصح ألبتة مرفوعا، فذكر المصنف له على أنه حديث غير جيد، والله الموفق.(36/249)
ص -193-…فإذن، الحب والبغض مطلق في الذوات1 والصفات والأفعال، فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل.
وأما النظر الثاني2 وهو أن يقال: هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف -وهي غير المقدورة [للإنسان إذا اتصف بها]3- الثواب والعقاب أم لا يصح؟
هذا يتصور في ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب.
[والثاني: أن يتعلقا معا بها.
والثالث: أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر.
أما هذا الأخير، فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين؛ لأنه مركب منهما فأما الأول فيستدل عليه بوجهين:
أحدهما: أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلَّف بإزالتها ولا بجلبها شرعا؛ لأنه تكليف بما لا يطاق، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب؛ لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا، فالأوصاف المشار إليها لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر ابن القيم في "الداء والدواء" "ص282، 292"، و"الفوائد" "ص182" أنه ليس من شيء يحب لذاته إلا الله وحده.
2 قوله: وأما النظر الثاني مقابل لقوله قبلُ في المسألة الرابعة، فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل....." إلخ وقد وجدت في النسخة الخطية هنا زيادات يتوقف الكلام عليها كما لا يخفى على من اطلع على النسخة المطبوعةن فأثبتها. ا.هـ مصححه "خ".
3 سقط من "ط".(36/250)
ص -194-…ثواب عليها ولا عقاب]1
والثاني: أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف، إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات2، أو من جهة متعلقاتها، فإن كان الأول، لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعًا، ومعاقبًا عليها أيضا كذلك؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة، وذلك محال، وإن كان من حيث متعلقاتها، فالثواب والعقاب على المتعلقات -وهي الأفعال والتروك- لا عليها، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب، وهو المطلوب.
وأما الثاني، فيستدل عليه أيضا بأمرين:
أحدهما: أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها، والحب والبغض من الله تعالى، إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى3، وهذا رأي طائفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 هناك ثالث، وهو أنه لا يتعلق بها من جهة كونها صفة فقط، ولا من جهة ما ينشأ عنها من الأفعال والتروك فقط؛ بل من جهة كونها صفة محبوبة أو مكروهة، فلا اجتماع للضدين كما سبق له في مثل "والله يحب المحسنين"، وحينئذ، فلا يتم هذا الدليل، وسيأتي له فيه كلام من جهة أخرى. "د".
3 الآيات والأحاديث طافحة بإضافة المحبة إلى الله، ولا مانع من اعتقاد أنها صفة غير الإرادة والإحسان والثناء، فنقول: إن لله حبا ليس من نوع الحب المضاف إلى المخلوق، كما أن علمه وإرادته ليسا من نوع علم المخلوق وإرادته. "خ".
قلت: اعتقاد هذا هو الواجب، وانظر تعليقنا بعد الآتي.(36/251)
ص -195-…أخرى، وعلى كلا الوجهين؛ فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام، وهما عين الثواب والعقاب1، فالأوصاف المذكورة -إذن- يتعلق بها الثواب والعقاب.
والثاني: أن لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب، فتعلقهما بالصفات، إما أن يستلزم الثواب والعقاب، أو لا: فإن استلزم، فهو المطلوب، وإن لم يستلزم، فتعلق الحب والبغض إما للذات، وهو محال2، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى، وهو محال؛ لأن الله غني عن العالمين، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء، بل هو الغني على الإطلاق، وذو الكمال بكل اعتبار، وإما للعبد، وهو الجزاء، لا زائد3 يرجع للعبد إلا ذلك4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يقال: إن الثواب والعقاب أخص من الإنعام والانتقام؛ لأن الأولين منظور فيهما إلى الدار الآخرة، إما الإنعام وما معه، فكما يكون في الآخرة يكون في الدنيا، فقد يحمل في هذه الموارد على الإحسان في الدنيا والنوازل فيها، فلا يتم الدل يل إلا إذا كانا عين الثواب والانتقام، وقد عرفت ما فيه. "د".
2 سبق دليله، وهو أن ما وجب للشيء وجب لمثله، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "للذات هل ذات الصفة، فيكون عين شق الترديد السالف، أو ذات الشخص ذي الصفة فيأتي فيه نظير الدليل المقتضي للاستحالة، إلا أنه إذا كان الغرض هذا الأخير يقال: وهل الذات غير العبد الذي سيقول فيه: "إما للعبد"؟ فيجاب بأن العبد الذات المتصفة بصفة محبوبة أو مبغضة، فلا تأتي الاستحالة المشار إليها سابقا، إلا أنه حينئذ يكون هذا هو الاحتمال الثالث الذي تركه سابقا ونبهنا عليه. "د".
3 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "إذ لا يرجع.....".(36/252)
4 كلام المصنف رحمه الله تعالى في صفتي الحب والبغض من التأويل المردود، وليس عن منهج السلف الصالح في إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته نبيه صلى الله عليه وسلم لربه؛ فإنه سبحانه نزه نفسه ثم أعقب ذلك بمدحه رسله؛ لأنه لا يصدر عنهم إلا ما يليق به جل جلاله، وذلك في قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}.
ومن بين هذه الصفات التي وردت في الكتاب وصحيح السنة على وجه الإثبات الحب والبغض، وهي صفات الفعل لله عز وجل، نمرها كما جاءت من غير تأويل، وهي له سبحانه صفات =(36/253)
ص -196-…..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حقيقية على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق، وهذا أوقع المصنف وغيره في حمأة التأويل الذي هو في حقيقته ضرب من ضروب التعطيل؛ لأنه نفى هذه الصفات بحجة أنها إرادة، فالحب عنده الإنعام أو إرادته، وقال غيره: إرادة الثواب والبغض والسخط والكراهة والغضب الانتقام أو إرادته، وقال غيره: إرادة العقاب، فإرجاع هذه الصفات إلى الإرادة أو إيقاع الفعل خطأ ظاهر، وخلاف مذهب السلف الصالح.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية" "524" معلقا على مقولة الطحاوي في "عقيدته" المشهورة المجمع عليها: "والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى" ما نصه: "ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات".
ثم قال رحمه الله تعالى: "ص525-526": "ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان: لما تأولت هذا؟ فلا بد أن يقول: إن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه الغضب.
ويقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه؛ فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينتقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.(36/254)
فإن قال: الإرادة التي يوصف بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهماحقيقة؟ قيل له: فقل: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دل عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر". =(36/255)
ص -197-….......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا الذي ذكره ابن أبي العز الحنفي هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كثير من المناسبات فقد توجها رحمهما الله تعالى إلى من أول هذه الصفات بالنقد، وإليك بعضا من كلامهما.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "3/ 17-18": ".... فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمعن بصير ببصر، متكلم بكلام، ويجعل ذلك حقيقة وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل له: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضى وغضب يليق به، وللمخلوق رضى وغضب يليق به.
وإن قلتك الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة.
فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق".
وبنحوه في "المجموع" أيضا "6/ 119-120".(36/256)
وعرض ابن القيم شبه المأولة لهذه الصفات، وردها بحجج دامغة، فقال في "مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 23": فإن قلت: إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه. قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟!" انتهى.
فهذا كلام متين قوي للغاية، وهو في مناقشة ما أورده من تأول هذه الصفات، فالحق وأهل=(36/257)
ص -198-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحق يثبتون هذه الصفات لله عز وجل على أنها صفات فعلية ذاتية حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها، كما أنهم يثبتون لازم تلك الصفات، وهي إرادته سبحانه الثواب والعقاب، ولكن لا يوجبان ذلك عليه، كما تقول المعتزلة، ولا يقولون بما قد يفهم من كلام المصنف وصرح به بعض أهل التعطيل من أن تفسير سخطه وكرهه بزعمهم ما يقعون فيه من البلايا والهلكة والضيق والشدة، وآية ذلك عندهم ما يتقلب فيه من هذه الحالات، وما أشبهها، وأن حبه ورضاه عكس ذلك، فهذه دعوى ما رأينا أبطل ولا أبعد من صحيح لغات العرب والعجم منها، ففيها: إذا كان أولياء الله المؤمنون من رسله وأنبيائه وسائر أوليائه في ضيق وشدة وعوز من المآكل والمشارب، وفي خوف وبلاء، كانوا على حسب هذه الدعوى في سخط من الله وغضب وعقاب، وإذا كان الكافر في خصب ودعة وأمن وعافية، واتسعت عليه دنياه من مآكل الحرام وشرب الخمور، كانوا في رضي من الله وفي محبة، ما رأينا تأويلا أبعد عن الحق من هذا التأويل، اللهم إنا نبرأ إليك منه، ونبرأ من كل ما يخالف منهج السلف في العقيدة والدعوة والعلم والعمل، ومن كل من يطعن فيه وفي أهله قديما وحديثا،والحاصل أن تأويل الحب والبغض الوارد عند المصنف بنفس الإنعام أو الانتقام، أو أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام مخالف لما عليه السلف الصالح، وفيه تعطيل لهاتين الصفتين، لأن معناه: إن الله تعالى لا يحب، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته، وإرادته الإحسان إليهم، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى يحب ويُحَبُّ لذاته، وأما حب ثوابه، فدرجة نازلة كما قاله الطوفي، نقله، في "أقاويل الثقات" "77"، وفيه قوله أيضا: "وأول من أنكر المحبة في(36/258)
الإسلام الجعد بن درهم" وحكاه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "2/ 354" عن الجعد أيضا، والصواب إثبات صفة المحبة والبغض اللتين تليقان بجلاله. وعظمته.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "2/ 354": "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين له، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 195]، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 135]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب=(36/259)
ص -199-….....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إليه مما سواهما.....".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، 1/ 60/ رقم 16"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66/ رقم 43" عن أنس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام".
قلت: ليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6040"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2637" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثل ذلك".
إذن، فليس للتأويلات والمقولات المذكورة وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها فيها لازم صفتي الحب والبغض، وأنها تفسير لهما يلازمهما، فإن بعضها الآخر فيه باطل، كما قدمناه، ويعجبني بهذا الصدد ما قاله العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في "محاسن التأويل" "6/ 253- 254": "مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها كما تقدم في الفاتحة في {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
فتأويل مثل الزمخشري لها بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم، تفسير باللازم منزع كلامي لا سلفي" انتهى.(36/260)
فالتأويل المذكور منزعه اعتزالي، ولذا تعقب ابن المنير الزمخشري بكلام طويل، ومما قال في "الانتصاف" "1/ 345- 346": "فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت".
فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. وانظر منه "4/ 9"، وهو بذيل"الكشاف" ط- دار المعرفة.(36/261)
ص -200-…وأمر ثالث1: وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو2 الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات، أولا، فإن كان الجزاء متفاوتا، فقد صار للصفات قسط من الجزاء، وهو المطلوب، وإن كان متساويا، لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن3 استويا في الفعل، وذلك غير صحيح، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك.
وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب4، وبالعكس، وهو محال، فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب، وإذا ثبت [أن له]5 حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء، فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها، وذلك ما أردنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما جعله دليلا ثالثا مستقلا، ولم يبنه على مبنى الدليلين قبله، لأنه فيهما جارٍ على تعلق الحب والبغض بنفس الصفات، أما في هذا، فجعلهما متعلقين بتوابع هذه الصفات ولواحقها من الأفعال، ولذا غير الأسلوب ولم يقل من أول الأمر بثلاثة أمور. "د".
2 في "ط": "وهي".
3 الواو للحال، وإن زائدة. "د".
4 من أين هذا اللزوم؟ لا يلزم من مساواة المحبوب لغيره في حكم من الأحكام أن يكون ليس بمحبوب ولا العكس. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، ولذا جاءت التي بعدها "حظ" بالرفع.(36/262)
ص -201-…وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل.
أما الأول، فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب، فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا1، علم بها أو لم يعلم، والثاني كشارب الخمر، ومن أتى عرافا، فإنه جاء "أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما"2، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنك إذا قرأت آيات الكتاب العزيز، وجدت أن الثناء والوعد بالثواب في مواضع الابتلاء إنما هو على الصبر والتسليم لله والرضى، فعليك بتتبع الآيات الكثيرة في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والأحزاب وغيرها، وكذا الأحاديث مثل: "إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وعليه، فليست المصائب والنوازل هي المثاب عليها، بل هو ما يقارنها أو يعقبها من الصبر والرضا، ولا شك أن ذلك مقدور للمكلف ومطلوب منه، فلا يتم له ما أراده هنا، وبه يعلم أيضا ما في قوله: "علم بها أو لم يعلم"، فإنه إذا لم يعلم لا يتأتى منه الصبر والرضا الذي يكون به الثواب، وسيأتي تتميم لهذا الكلام قريبا. "د".
قلت: وصرح العز بن عبد السلام في "القواعد الصغرى" "ص96" بما قاله المعلق: ونص عبارته: "لا أجر ولا وزر إلا على فعل مكتسب، فالمصائب لا أجر عليها لأنها غير مكتسبة، بل الأمر على الصبر عليها أو الرضى بها" ونحوه في "قواعد الأحكام" "1/ 115" له أيضا.(36/263)
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1751/ رقم 2230"، عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما" وأخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الرواية المبينة عن صلوات شارب الخمر، 8/ 314، وباب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، 8/ 316، وباب توبة شارب الخمر، 8/ 317"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة"، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة، 2/ 1120-1121/ رقم 3377"، وأحمد في "المسند" "2/ 176، 189، 197"، و الدارمي في "السنن" "2/ 111"، والبزار في "مسنده" "رقم 2936- زوائده" والحاكم في المستدرك" 1/ 30-31 و 4/ 146" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "لا يشرب الخمر رجل من أمتي فيقبل الله منه صلاة أربعين يوما" وإسناده صحيح.(36/264)
ص -202-…أركانها وشروطها،ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم، عدلا كان أو فاسقا، وإذا لم يتلازما، لا1 يصح هذا الدليل.
وأما الثاني، فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء، فقوله: إن الجزاء وقع على الفعل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف، فقد ثبت بطلانه، وإن أراد به مع اقتران الوصف، فقد صار للوصف2 أثر في الثواب والعقاب3، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه.
ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته:
[أما الأول]4، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب، امتنع5 أن يتعلقا بما هو غير مقدور، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها.
وأما الثاني، فإن القسمة غير منحصرة، إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات.
وأما الثالث: فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات، فوقوعها على حسبها6 في الكمال أو النقصان، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل، و"ط": "لم".
2 في الأصل: "الوصف".
3 في "ط": "أو العقاب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط" و"خ".
5 تقدم رده بأنه لا تلازم بين الثواب والعقاب، وبين أن يكون المثاب عليه مقدورا عليه بل ولا معلوما. "د".
6 أي: فيلزم من زيادة قوة الصفة زيادة في الفعل حسنا وقبحا، فلا يتأتى الاختلاف في الصفات مع تساوي الأفعال، حتى يصح الدليل الثالث. "د".(36/265)
ص -203-…الصانع وبالضد، فكذلك ههنا، وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات، وهو المطلوب.
فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا، ولا حاجة إليه في هذا الموضع، وبالله التوفيق.(36/266)
ص -204-…المسألة الخامسة:
تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره، لكنه شاق عليه، فهذا موضعه، فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق، إن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق، ولذلك ثبت1 في الشرائع الأُوَل التكليف بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق.
[وأيضا، فإن التكليف بما لا يطاق]2 قد منعه جماعة عقلاء، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو قال بدليل أنه ثبت.... إلخ، لكان أظهر، أي: وحيث إنه لا تلازم بين التكليف بالمشاق والتكليف بما لا يطاق إثباتا ولا نفيا، فلا يتأتى التلازم بين العلم في النفيين، إلا أن يقال: إنه لما كان راجعا إلى الشرائع السابقة لم يأخذه على صورة دليل، بل بصورة استئناس فقط، حتى كأنه مفرع على الدعوى، وجعل الثاني دليلا لأنه من نظر علماء هذه الشريعة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انعقد الإجماع على أنه لم يقع التكليف بما لا قدرة للمكلف عليه، وهو الممتنع لنفس مفهومه كالجمع بين الضدين، أو لاستحالة تعلق قدرة العبد به مع صحة وجوده في نفسه كخلق الجواهر، أو لمجرى العادة كالطيران في الهواء، وأما ما يكون في ذاته ممكنا عقلا وعادة وإنما يمتنع حيث سبق في علم الله أنه لا يقع، فلا نزاع في جواز التكليف به ووقوعه كإيمان كثير ممن بلغتهم الدعوة وماتوا وهو كافرون. "خ".
قلت: اختار هذا الآمدي في "أحكامه" "1/ 192" ونقله عن الغزالي، واختاره صاحب "المنهاج" "1/ 172- مع الإبهاج"، وبه قال ابن دقيق العيد، انظر: "البحر المحيط" "1/ 220".(36/267)
وفصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "4/ 175-177، و 8/ 469 وما بعدها" وتلميذه ابن القيم في "بدائع الفوائد" "4/ 175-177" بما لا مزيد عليه، وكلام ابن القيم عليها مختصر قوي، وهو عبارة عن قواعد وضوابط, ولذا آثرت نقله بحرفه، قال رحمه الله تعالى: "الفعل بالنسبة إلى التكليف نوعان: أحدهما اتفق الناس على جوازه ووقوعه واختلفوا في =(36/268)
ص -205-….....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نسبة إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق، والثاني: اتفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق وقالوا: إنه يكلف به العبد، ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنه لا يطاق.
وللمسألة ثلاثة مآخذ:
أحدها: أن الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها نوعان: نوع قبله وهو المصححة للتكليف التي هي شرط فيه، ونوع مقارن له، فليست شرطا في التكليف.
المأخذ الثاني: أن تعلق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورا للعبد، فمن أخرجه عن كونه مقدورا قال الأمر به أمر بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورا لم يطلق عليه ذلك، والصواب أنه لا يخرجه عن كونه مقدورا القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له.(36/269)
المأخذ الثالث: أن ما تعلق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنا مقدورا ولا مكلفا به، الثاني: ما تعلق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه، ولهذا مأخذ رابع وهو من أدقها وأغمضها، وهو أن ما علم الله أنه لا يكون لعدم مشيئته له ولو شاء للعبد لفعله، هل يخرجه عدم مشيئة الرب تعالى له عن كونه مقدورا ويجعل الأمر به أمرا بما لا يطاق؟ والصواب أن عدم مشيئة الرب له لا يخرجه عن كونه ممكنا في نفسه، كما أن عدم مشيئته لما هو قادر عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل، لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورا ويجعله محالا.
فإن قيل: هو موقوف على مشيئة الله وهي غير مقدورة للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور، قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفة على غيرها من صفاته، كعلمه، =(36/270)
ص -206-…وأما المعتزلة، فذلك أصلهم1، بخلاف التكليف بما يشق، فإذا كان كذلك، فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة.
ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى "المشقة"، وهي في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وحكمته، فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدا أو ادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه، فقد أخطأ خطأ بيِّنًا، فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه، أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما، فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسنا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي، وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما لا يطاق، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبور على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادر على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه، بل هو مجبور في باب النواهي مكلف ما بلا يطيقه في باب الأوامر، وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، وبتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها، وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه، وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه، وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم".(36/271)
1 لأنهم يشترطون في الأمر الإرادة، فلما اشترطوا كون الأمر مريدا لوقوع ما أمر به، استحال عندهم تكليف المستحيل وما لا يطاق؛ لأن الله إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل، فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم: أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متنافٍ، وكذلك قولهم: إن القدرة قبل الفعل، وتقدم بيان ذلك في كلام ابن القيم، وهذا مراد المصنف بقوله: "فذلك أصلهم".
انظر "سلاسل الذهب" "137"، و"البحر المحيط" "1/ 219" للزركشي، و"المعتمد" "1/ 150، 177".(36/272)
ص -207-…أصل اللغة من قولك: شق على الشيء [يشق] شقا ومشقة إذا أتعبك، ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7].
والشق هو الاسم من المشقة1، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي، اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية:
أحدها:
أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي، كالمعقد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء، وما أشبه ذلك، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفسه المشقة، سمى العمل شاقا والتعب في تكلف2 حمله مشقة.
والثاني:
أن يكون خاصا بالمقدور عليه، إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية، بحيث يشوش على النفوس3 في تصرفها، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة.
إلا أن هذا الوجه على ضربين:
أحدهما: أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء، كالصوم في المرض والسفر، والإتمام في السفر، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن لا تكون مختصة، ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها، صارت شاقة، ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما، إلا أنه في الدوام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مادة "ش ق" من "اللسان" و"النهاية" "2/ 491" لابن الأثير.
2 في "ط": "تطلب".
3 في "ط": "النفس".(36/273)
ص -208-…يتعبه، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصِّل مللا، حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال1، وعن التنطع2 والتكلف3، وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"4.
وقوله: "القصد القصد تَبْلُغوا"5.
والأخبار هنا كثيرة، وللتنبيه عليها موضع آخر6، فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي، وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي "ص239".
2 كما سيأتي "ص228".
3 كما مضى "ص/ 45، 257".
4 سيأتي تخريجه في "ص405، وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
5 جزء من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6463 -واللفظ له- رقم 5673"، ومسلم في "الصحيح" "17/ 159-160 / شرح النووي"، وابن ماجه في السنن" "4201"، وأحمد في "المسند" "2/ 235، 256، 264، 319، 326، 343، 344، 385-386، 390، 451-452، 466، 469، 473، 488، 495، 503، 509، 514، 519، 524، 537"، وفي "الزهد" "475"، والطيالسي في المسند" "2322"، وابن حبان في "الصحيح" "348، 350، 660"، وعبد الرزاق في "المصنف" "20562"، والبزار كما في "كشف الأستار" "3448"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 377"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 129 و8 / 379"، والبغوي في "شرح السنة" "4192، 4193، 4194".
وقد شرحه ابن رجب في جزء مفرد مطبوع، عنوانه "المحجة في سير الدلجة".
6 انظرها فيما يأتي.(36/274)
ص -209-…والوجه الثالث:
أن يكون خاصا بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس، ولذلك أطلق عليه لفظ "التكليف"، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة؛ لأن العرب تقول: "كلفته تكليفا" إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به، و"تكلفت الشيء" إذا تحملته على مشقة، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار؛ لأنه إلقاء بالمقاليد1، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا.
والرابع:
أن يكون خاصا بما يلزم2 عما قبله، فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق.
فهذه خمسة أوجه من حيث النطر إلى المشقة في نفسها، انتظمت في أربعة3:
فأما الأول، فقد تخلص في الأصول، وتقدم ما يتعلق به.
وأما الثاني: وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقاليد: الخزائن والمفاتيح، انظر "اللسان" "مادة ق ل د 3/ 366".
2 المراد قد ينشأ عنه، لا أنه لا ينفك عنه، وإلا؛ لكان الأول يتعين فيه أن يلحق الإنسان فيه تعب ومشقة، كما قال هنا؛ وفي المسألة الثامنة في شرح الرابع، وهو يخالف قوله في الثالث: "ليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد". "د".
3 أي: لأنه أدرج اثنين منها تحت الثاني، حيث جعله ضربين. "د".
قلت: نحو المذكور عند المصنف -مع اختلاف في العرض والعد وتشابه في المضمون- تراه في "قواعد الأحكام" "2/ 7، 8"، و"شرح الفروق" "1/ 119" لابن الشاط.(36/275)
ص -210-…المسألة السادسة:
فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات1 فيه، والدليل على ذلك أمور2:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}.... الآية [البقرة: 286].
وفي3 الحديث: "قال الله تعالى: قد فعلت"4.
وجاء: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "خ"، وفي الأصل و"ط": "بالمشاق والإعنات"، وفي "د" مثله، إلا أنه قال "بالشاق". وفي "ماء / ص166": "بالمشاق الإعنات فيه ولا في أموره".
2 انظر المسألة وبسطها مع أدلتها في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 102-104، 108-109، 137-139"، و"إعلام الموقعين" "1/ 268"، و"روضة المحبين" "181".
3 هو تمام الدليل؛ لأن الآية دعاء بذلك، والحديث فيه الإجابة. "د".
4 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 116/ رقم 126" والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5/ 221- 222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210/ 211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(36/276)
ص -211-…{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}... الآية [المائدة: 6]1.
وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"2.
"وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدليل في صدر الآية، وكذا فيما بعد الاستدراك، فلذا قال: "الآية". "د".
2 أخرجه أبو بكر بن سلمان الفقيه في "مجلس من الأمالي" "16/ 1"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 209"، وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد "18/ 5" عن جابر مرفوعا بإسناد ضعيف، فيه مسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي، وضعف إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 149"، ولكن قال العلائي؛ كما في "فيض القدير": "مسلم؛ ضعفه الأزدي، ولم أجد أحدا وثقه، ولكن له طرق ثلاث، ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن".
قلت: أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" عن حبيب بن أبي ثابت مرفوعا، وهو مرسل.
وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204" عن أبي أمامة مرفوعا: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحاء"، وإسناده ضعيف.
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 116، 233"، عن عائشة، وفي آخره: "إني أرسلت بحنيفية سمحة" وسنده حسن، وحسنه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43" وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدى الساري" "ص120".
وقد خرجت بعضها في تحقيقي لرسالة السخاوي: "الجواب الذي انضبط عن لا تكن حلوا فتسترط" "ص44-46".(36/277)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126 =(36/278)
ص -212-…وإنما قال: "ما لم يكن إثما"؛ لأن ترك الإثم لا مشقة فيه، من حيث كان مجرد ترك1، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدا للحرج والعسر، وذلك باطل.
والثاني:
ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف، لما كان ثم ترخيص2 ولا تخفيف.
والثالث:
الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، و3 لو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزيز والأدب 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام 4/ 1813/ رقم 2327"، ومالك في "الموطأ" "2/ 902-903"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 270"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب التجاوز في الأمر 4/ 250/ رقم 4785"، وابن أبي داود في "مسند عائشة" "رقم 15، 92"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه" "35، 36" من حديث عاشئة رضي الله عنها.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقولها: "ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه" ينادي بأن المراد التخيير بين أمرين من أمور الدنيا، وأن المخير له غير الله من المخلوقين؛ إذ لا يصح أن يقع من الله تخيير بين إثم وغيره".
1 هذا لا يخص ترك الإثم، بل يجري في كل ترك لما فيه من الحيثية المذكورة، وبالجملة، فقوله: "وإنما قال..... إلخ" غير ظاهر. "د".(36/279)
2 أي: في الضرب الأول، وقوله: "ولا تخفيف"، أي: في الضرب الثاني. "د".
3 في الحقيقة هو دليل رابع، فلو قال: "والرابع" أو "وأيضا" مثلا، لكان أظهر "د".(36/280)
ص -213-…والاختلاف، وذلك منفي عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة -وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير- كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا، وهي منزهة على ذلك.
وأما الثالث، وهي:(36/281)
ص -214-…المسألة السابعة:
فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف1 وسائر الصنائع؛ لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف.
وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، [والتي تعد مشقة]2، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوامُ عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه، أو إلى3 وقوع خلل في صاحبه، في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب، فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار، في أكله وشربه وسائر تصرفاته، ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات، فكذلك التكاليف؛ فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باتخاذ الحرفة والصنعة.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن نسخة "ماء/ ص 167".
3 في النسخ المطبوعة: "وإلى".(36/282)
4 صفوة ما حرره القرافي في هذا الصدد من الفرق "الرابع عشر" أن المشاق قسمان: قسم لا تنفك عنه العبادة، كالوضوء في البرد، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها، ثانيهما: المشاق التي تنفك العبادة عنها، وهي ثلاثة أنواع متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتفق على عدم اعتباره لكونه ضعيفا، ومختلف فيه لتجاذب الطرفين له، والضابط في المشاق المؤثرة يرجع إلى اجتهاد الفقيه، وهو لا يكاد يصيب الحقيقة إلا أن ينظر إلى مقام العبادة وأهميتها في نفسها، ثم إلى مقدار التعب والضرر الذي يلحق المكلف من الدخول فيها. "خ".(36/283)
ص -215-…وإذا تقرر هذا، فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف، والدليل على ذلك ما تقدم1 في المسألة قبل هذا.
فإن قيل: ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف، لأوجه:
أحدها:
أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك، إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة، وهي المشقة، فقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] معناه: لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة، فقد ثبت التكليف بما هو مشقة، فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة، لتسمية الشرع له تكليفا2، فهي إذن مقصودة له، وعلى هذا النحو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تقدم في المسألة كانت الأدلة فيه على عدم قصد المشقة الخارجة عن المعتاد، وهي ما فيها الرخص وما طلب فيها التخفيف، أما هنا، فالمشقة هي المعتادة، وإذا كان الموضوع مختلفا، فالأدلة لأحدهما لا يلزم أن تكون أدلة للآخر، وإن اتحدا في عنوان المشقة، فعليك بتتبعها تجد أن بعض الآيات يصلح دليلا، وكان الدليل الأخير الذي يؤخذ من قوله: "ولو كان.... إلخ"، فإنه يؤخذ منه أنه لا يقصد المشقة لكونها مشقة مطلقا، كانت من القسم الثاني أو الثالث، لئلا يلزم التناقض مع قصده الرفق والتيسير، ولكن سيأتي في المسألة الحادية عشرة أنه كما لا يقصد حصول المشقة المعتادة، كذلك لا يقصد رفعها، وهو لا يوافق هذا الدليل الأخير بالطريق الذي قررناه، فلا يبقى إلا بعض الآيات. "د".
قلت: انظر في المسألة وأدلتها: "قواعد الأحكام" "1/ 25، 29" للعز بن عبد السلام، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص173 وما بعدها" ليعقوب الباحسين.(36/284)
2 استقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى هذه الكلمة في الكتاب والسنة، وأفادا أنه لم يأت فيهما تسمية أوامر الله وشرائعه "تكليفا"، بل سماها روحا ونورا..... وإنما جاء ذلك في جانب النفي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وهذا الإطلاق إثبات لا يعرف أيضا في لسان السلف، وإنما جاء من لدن كثير من المتكلمة والمتفقهة، والله أعلم.
انظر: "مجموع الفتاوى" "1/ 25-26"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 32"، و"معجم" المناهي اللفظية" "ص129 للشيخ بكر أبو زيد.(36/285)
ص -216-…يتنزل1 قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وأشباهه.
والثاني:
أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه: ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة، فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك، فإذن يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام، فاقضتى أن الشارع قاصد للمشقة هنا.
والثالث:
أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف، مع قطع النظر عن ثواب التكليف، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إلى آخر الآية.
وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وما جاء في "كثرة الخطا إلى المساجد"2 "وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهذا أحد الأدلة المتقدمة. التي قلت: إنها تجري هنا- لا يدل، لأنه محمول على مشقة وحرج غير موضوع الدعوى هنا، إلا أنه لم يذكر بقية الآيات لما عرفت من أم مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} تدل على دعواه هنا في قوله: وإذا تقرر هذا..... إلخ وبضميمة أن يكون متناقضا لو قصد المشقة مطلقا ولو معتادة على ما تقدم. "د".
2 قطعة من حديث في "الصحيحين" سيأتي لفظه قريبا.
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، 2/ 137/ رقم 651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة=(36/286)
ص -217-…وما جاء في "إسباغ الوضوء على المكاره"1.
وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات، حتى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التوبة: 111]، وأشباه ذلك.
فإذا كانت المشقات -من حيث هي مشقات- مثابا عليها زيادة على معتادة التكليف، دل على أنها مقصودة له، وإلا، فلو لم يقصدها، لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها، فأوقعها المكلف باختياره حسبما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام، فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف؛ وهو المطلوب.
فالجواب عن الأول: أن التكليف إذا وُجِّه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين:
أحدهما: أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة.
والثاني: أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/ 219/ رقم 251" عن أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط".(36/287)
ص -218-…فأما الثاني: فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل، والشريعة كلها ناطقة1 بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب.
وأما الأول، فلا نسلم أنه قصد ذلك، والقصدان لا يلزم اجتماعهما، فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتآكلة، نفع المريض لا إيلامه، وإن كان على علم من حصول2 الإيلام، فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف، في العاجلة والآجلة، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة3، فالنزاع في قصده للمشقة، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسبما هو معلوم في علم الاشتقاق، من غير أن يكون ذلك مجازا بل على حقيقة الوضع اللغوي4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مكانها بياض في الأصل.
2 في الأصل: "محصول".
3 ذكر هذا الإجماع أيضا الآمدي في "الإحكام" "3/ 380، 411"، وابن الحاجب في "منتهى الوصول" "ص184"، ونقل الدهلوي في "حجة الله البالغة" "1/ 6" إجماع السلف عليه، وهذا ما تبناه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 196-200"، ودافع عنه بقوة، ومما قال في "مفتاح السعادة" "2/ 22": "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مئة موضع أو مئتين، لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"، وانتقد ابن السبكي في "الإبهاج" "3/ 62" الإجماع المذكور.
4 فاللفظ موضوع له وضعا أوليا، بدون ملاحظة علاقة، ولا توقف على قرينة، فيكون حقيقة لا مجازا. "د".
قلت: انظر ما قدمناه قريبا عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الخصوص.(36/288)
ص -219-…والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب -وإن ثبت أنه يقوم1 القصد إليه في حق المكلف- فإنما هو جارٍ مجري القصد من بعض الوجوه؛ أعني: في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعدٍّ على الجملة، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه، وإذا2 كان غير قاصد، فهو المطلوب هنا في حق الشارع، إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله.
وأيضا، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا، لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة3 وإيقاعها معا، وهو محال باطل عقلا وسمعا.
وأيضا؛ فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر، وقطع الأعضاء المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة، وبط الجراحات [الواجعة]4، وأن يحمي المريض ما يشتهيه، وإن كان يلزم منه إذاية المريض؛ لأن المقصود إنما هو5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد يكون عالما بالمسبب ولا يقصده، وإنما يقصد نفع نفسه فقط بقطع النظر عن كونه يلزمه التعدي على الغير بمفسدة تلحقه، ولكن الشارع في هذه الحالة يجعله كأنه قاصد له، ويلزمه نتيجة التعدي على الغير، ويقيم علمه بوقوع المسبب مقام القصد إليه، فالشارع هنا أيضا، وإن كان عالما بالمفسدة التي تكون في طريق المصلحة، لكنه لا يقصدها". "د".
2 في الأصل: "وإن".
3 أي: بأدلة قصده التخفيف واليسر ونحو ذلك، وقوله: "وإيقاعها"، أي: بمقتضى هذا الاعتراض الثاني. "د".
4 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
5 في الأصل: "هي".(36/289)
ص -220-…المصلحة التي هي أعظم وأشد1 في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم، وهذا شأن الشريعة أبدًا، فإذا كان التكليف على وجه، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة؛ لأن المقصود المصلحة، فالتكليف أبدا جارٍ على هذا المهيع، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها، فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها، إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة.
وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم، فما يلزم عن التكليف2 لا يسمى مشقة، فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها.
والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف، وبها حصل العمل المكلف به، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصودة، لا أنها مقصودة مطلقا، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به، ولا يدل هذا على أن النَّصَب مطلوب أصلا3، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب، كما يؤجر4 الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا هم ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله به من سيئاته"5 وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أعظم وآكد".
2 في ط: "التكاليف".
3 انظر كلاما قويا حول هذا في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 621-623".
4 التكفير صريح الحديث، لكن من أين الأجر على مجرد ما يلحقه بدون عمل له كالصبر؟ "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 10 =(36/290)
ص -221-…وأيضا، فالمباح إذا عُلِم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 103/ رقم 5640، 5641، 5642"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك 4/ 1992/ رقم 2572" عن عائشة بلفظ مقارب.
وأخرجه مسلم في"صحيحه" "رقم 2573" عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
قال في "فتح الباري" "10/ 105/ رقم 5640" في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/29"، حيث قال: "ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو بالكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما، سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير، وإلا قلَّ. كذا قال؛ والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك" "انتهى كلام ابن حجر*.
قال "د" عقبه: "أقول: ولعل هذا التحقيق في كلام القرافي جمع بين القولين فالتكفير غير الثواب والجزاء، فلا مانع أن يكون "لا" في مقابلة عمل من المكلَّف، أما الأجر والثواب، فالمعقول ومغزى الآيات القرآنية أنه متعلق بالصبر والرضا والتسليم، وهذا التحقيق لا ينافي كلام العز؛ لأنه لا ينفي التكفير، وإنما نفى الأجر، وهو وجيه".(36/291)
وقال "خ": هذا مذهب بعض أهل العلم أخذا بالظاهر من هذا الحديث وما شاكله، وذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد" إلى أن المصائب والآلام لا ثواب عليها، وإنما الثواب على الصبر عليها، إذ هو الذي يدخل تحت كسب الإنسان".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وله في "الفتح" "10/ 110" كلام متين في هذا الباب ينبغي أن يُراجَع.(36/292)
ص -222-…فصل:
ويترتب على هذا أصل آخر:
وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها1، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل.
أما هذا الثاني؛ فلأنه شأن التكليف في العمل كله؛ لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به، [وما جاء]2 على موافقة قصد الشارع هو المطلوب.
وأما الأول؛ فإن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر3 في موضعه إن شاء الله فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع4 لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل5، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 620": "قول بعض الناس: "الثواب على قدر المشقة" ليس بمستقيم على الإطلاق"؛ ثم فصل في ذلك، وانظر أيضا في رد عموم هذه القاعدة: "رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص171 وما بعدها".
2 ساقط من الأصل و"خ" و"ط"، واستظهر ناسخ الأصل كلمة الإتيان وهو قريب كما ترى.
3 في "ط": "سيذكر".
4 في الأصل: "إذ الشارع".
5 انظر في هذا: "الاعتصام" للمصنف "1/ 341".(36/293)
ص -223-…فإن قيل: هذا مخالف لما في "الصحيح" من حديث جابر1، قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد". قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: "بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم!".
وفي رواية: فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا2.
وفي رواية عن جابر، قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن لكم بكل خطوة درجة"3.
وفي "رقائق ابن المبارك" عن أبي موسى الأشعري، أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها، فإذا رجل يقول: "يا أهل السفينة! قفوا" سبع مرار، فقلنا: ألا ترى على أي حال نحن؟ ثم قال في السابعة: "لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم [حار] من أيام الدنيا شديد الحر، كان [حقا] على الله أن يرويه يوم القيامة". فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد 1/ 462/ رقم 665 بعد 280" عن جابر، وأخرجه البخاري عن أنس مختصرا، وسيأتي.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، "1/ 462/ رقم 665 بعد 281" عن جابر.
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 461/ رقم 464" عن جابر رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها: "فنتقرب" وما أثبتناه من "صحيح مسلم".(36/294)
ص -224-…الحر فيصومه1.
وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل: أحدهما سهل، والآخر صعب، فأُمِرَ بالصعب ووُعِدَ على ذلك بالأجر، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر.
وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء، فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم، وترك الرخص جملة، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم.
وفي "الصحيح" أيضا عن أبي بن كعب، قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتوجعنا له، فقلنا له: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض؟ فقال: أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فحملت به2 حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن المبارك في الزهد" "رقم 1309 وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 260"، وابن أبي الدنيا في "الهواتف" "رقم 13"، وابن شاهين في "فضائل الأعمال" "رقم 133" بسند حسن، وحسنه شيخنا الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 975".
وأخرج البزار في "مسنده" "1/ 488/ رقم 1039- زوائده" من وجه آخر عن ابن عباس، وحسنه شيخنا أيضا في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 974".
وفي إسناد ابن شاهين عبد الله بن المؤمل المخزومي، وهو ضعيف.
قلت: وما بين المعقوفتين في الموطن الأول ساقط من "د"، وفي الموطن الأخير ساقط من الأصل.
2 في "ط": "به حملا".(36/295)
ص -225-…ذلك، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ما احتسبت"1.
فالجواب أن نقول:
أولا:
إن هذه أخبار آحاد في قصية واحدة2 لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات.
وثانيا:
إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة، فالحديث الأول قد جاء في "البخاري" ما يفسره، فإنه زاد فيه: "وكره أن تعرى المدينة قِبَلَ ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها".
وقد روي عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق، ثم نزل إلى المدينة وقيل له عند نزوله العقيق3: لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد؟ فقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويأتيه4، وأن بعض الأنصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 460/ رقم 663" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
2 هي البعد عن المسجد والمشقة في التردد إليه من المساكن البعيدة، وهذه القضية الواحدة هي التي وردت فيها أحاديث الآحاد، أما ما بقي من نقل ابن المبارك وعمل أصحاب الأحوال، فسيأتي الجواب عنه. "د".
3 إن كان العقيق هو مساكن بني سلمة، فلا مانع أن يكون للمحل فضيلة يفسرها الحديث بقوله: "وكره أن تعرى المدينة" فكان موضع رباط يثاب المرء على قصد وجوده فيه من هذه الوجهة، فلا تنافي بين فهم مالك وما يؤخذ من بقية الحديث لتفسيره، وإن كانت مساكنهم في غير العقيق، وأن مالكا إنما يتكلم عن أنصار غيرهم، وحادثة غير حادثتهم، فالأمر ظاهر، وسنزيدك بيانا. "د".
4 أخرج ابن شبَّة في"تاريخ المدينة" "1/ 147/ 148"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 195" والطبراني في "الكبير" "7/ 6/ رقم 6222"، والبيهقي في "المعرفة" "2/ 367- 368" عن سلمة بن الأكوع في حديث في آخره: "إني أحب العقيق".(36/296)
وإسناده ضعيف، فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، واختلف عليه فيه وقال البيهقي: "وأما حديث موسى بن محمد بن إبراهيم، فهو حديث ضعيف، تفرد به موسى بن محمد، وكان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: لا يكتب حديثه، وكذلك غيره من الأئمة قد أنكرواعليه ما روى من المناكير التي لم يتابع عليها". وانظر له "الميزان" "4/ 218".
ويغني عنه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1534، 2337" عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حج".
و "الآتِ" هو جبريل، كما في رواية عند البيهقي، وانظر: "فتح الباري" "3/ 392".(36/297)
ص -226-…أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما تحتسبون خطاكم"1، فقد فهم مالك أن قوله: "ألا تحتسبون خطاكم" ليس من جهة إدخال المشقة، ولكن من جهة فضيلة المحل2 المنتقل عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب احتساب الآثار 2/ 139/ رقم 655" عن أنس مرفوعا: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟" وقال عقبه: "قال مجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}. قال: خطاهم.
وأخرجه أيضا رقم "655" عن أنس بلفظ: "إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَرُّوا المدينة، فقال: "ألا تحتسبون آثاركم؟" قال مجاهد: خطاهم: آثارهم، أن يُمشى في الأرض بأرجلهم".
وأخرجه أيضا في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تُعرى المدينة 4/ 99/ رقم 1887" بنحو اللفظ الثاني.
2 كما ورد في البخاري في "صحيحه" "رقم 1534، 2337، 7343"، وأبي داود في "السنن" "رقم 1800" عن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي، وقل: عمرة وحجة".
وأخرج أبو داود عن مالك، قال: "لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل إلى المدينة حتى يصلي ركعتين أو ما بدا له، وهو على مسافة ستة أميال من المدينة، ويؤخذ من حديث الترمذي: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة"، ومن كون العقيق على ستة أميال من المدينة أن العقيق غير مساكن بني سلمة، فإذا تم هذا، كانت الفضيلة هنا غير الفضيلة في مساكن بني سلمة، فهذه كأنها رباط وحراسة للمدينة، بخلاف العقيق، فالأشبه أن يكون تعبُّدًا، إلا أن الأمر يحتاج إلى إثبات أنها حادثة أخرى. "د".(36/298)
ص -227-…وأما حديث ابن المبارك فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه1، ومع ذلك فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه2، كالوضوء عند الكريهات، والظمأ والنصب في الجهاد، فإذن اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على3 نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك، لا أن فيه قصد التشديد على النفس؛ ليحصل الأجر به، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها؛ لعظم مشقتها، فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره، وهكذا سائر ما في هذا المعنى.
وأما شأن أرباب الأحوال، فمقاصدهم القيام بحق معبودهم، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم، ولا يصح أن يقال: إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات، لما تقدم من الدليل عليه، ولما سيأتي بعدُ إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسنده إليه حسن، وله شاهد به يصح، كما قدمنا.
وقال "خ": "اتفقوا على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من الصحابة، واختلفوا في كونه حجة على التابعي فما دونه، والتحقيق أنه إذا لم يصرح بسنده في القضية لم يجب على المجتهد اتباعه؛ إذ لم يقم دليل على تكليف المجتهد باتباع من لم تثبت عصمته".
2 انظر: "فتاوى ابن تيمية" "26/ 85، 86".
3 هذا اختار نوعا من العبادة كانت المشقة من لوازمه، فلا يظهر فيه قصد المشقة، أما تحرى أبي موسى لليوم الشديد الحرارة ليصومه دون اليوم القليل الحرارة لا يصومه، فإنه ظاهر في تحريه هذا قصد المشقة ليعظم أجره، اتباعا لنصيحة الرجل الذي ناداهم، ولعل محل الجواب قوله: "إنما فيه قصد الدخول..... إلخ". "د".(36/299)
ص -228-…وثالثا:
إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا التشديد بالتبتل، حين قال أحدهم: أما أنا، فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا، فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا، فلا آتي النساء، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: "من رغب من سنتي، فليس مني"1.
وفي الحديث: "وردَّ النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا"2.
"وردَّ صلى الله عليه وسلم على من نذر أن يصوم قائما في الشمس، فأمره بإتمام صيامه، ونهاه عن القيام في الشمس"3.
وقال: "هلك المتنطعون"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء 9/ 117/ رقم 5073، 5074" ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1402"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في النهي عن التبتل 3/ 394/ رقم 1083"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل، 6/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل 1/ 593/ 1848"، وأحمد في "المسند" "1/ 173، 175، 176"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 168"، والدارمي في "السنن" "2/ 133"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 120، 128/ رقم 778، 802"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 79"، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(36/300)
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216".(36/301)
ص -229-…ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة، بحيث صار أصلا فيها قطعيا، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع، بطل ولم يصح، وهذا واضح، وبالله التوفيق.
فصل:
وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر:
وهو أن الأفعال المأذون فيها، إما وجوبا، أو ندبا، أو إباحة، إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل، أو لا تكون معتادة؛ فإن كانت معتادة، فذلك الذي تقدم الكلام عليه، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة، وإن لم تكن معتادة، فهي أولى أن لا تكون مقصودة للشارع، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله، أو لا.
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه1 وغير صحيح في التعبد به؛ لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه، ومثال هذا حديث2 الناذر للصيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأنواع الثلاثة، وقوله: غير صحيح في التعبد به" خاص بنوعي الواجب والمندوب، ولا يأتي في المباح. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية 11/ 586/ رقم 6704"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية 3/ 235/ رقم 3300"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب من خلط في نذره طاعة بمعصية 1/ 690/ رقم 2136" عن ابن عباس، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. قال: "مُرْهُ؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه".(36/302)
ص -230-…قائما في الشمس، ولذلك قال مالك1 في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال: "أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ونهاه عما كان لله معصية"؛ لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده، وهو ظاهر، إلا أن هذا النهي مشروط2 بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة، لا بسبب الدخول في العمل، كما في المثال، فالحكم فيه بيِّن.
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير القادر على الصوم أو الصلاة قائما، والحاجِّ لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا، إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وجاء فيه مشروعية الرخص.
ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة، فذاك، ويمكن أن يكون3 عاملا لمجرد حظ نفسه، وأن يكون4 قبل الرخصة من ربه؛ تلبية لإذنه، وإن لم يعمل بالرخصة، فعلى وجهين:
أحدهما: أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فسادٌ يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل، فهذا أمر ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش.
وفي مثل هذا جاء: "ليس من البر الصيام في السفر"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الموطأ" "2/ 476- رواية يحيى".
2 هذا أصل الفرض في كلامه، حيث قال: "مع أن ذلك العمل لا يقتضيها"، فهذا الشرط كالتأكيد لموضوع الكلام. "د".
"3، 4" وتقدم الفرق بينهما، هو أنه في الأولى لا ثواب له، إلا أنه دفع عن نفسه الحرج، وفي الثاني له ثوابه مع رفع الحرج "د".(36/303)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه.(36/304)
ص -231-…وفي نحوه نُهِي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان1،
وقال: "لا يقضِ القاضي وهو غضبان"2.
وفي القرآن: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
إلى أشباه ذلك مما نهي عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفُّهٍ وسعةٍ حالَ دخولِهِ في ربقة التكليف.
والثاني: أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقة غير معتادة، فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة، وينفصل الأمر فيه3 في كتاب الأحكام، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج، وإن قدر على الصبر عليها، فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "1/ 489".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ 7158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237- 238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
3 أي: في أي الأمرين أفضل، أهو الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟ وقد شفى العليل في ذلك رحمه الله. "د".(36/305)
ص -232-…إلا أن هنا وجها ثالثا1، وهو أن تكون المشقة غير معتادة، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة، ورب شيء هكذا، فإن أرباب الأحوال من العُبّاد والمنقطعين إلى الله تعالى، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خُصوا بهذه الخاصية، وصاروا مُعانين على ما انقطعوا إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، فجعلها كبيرة على المكلف، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة2، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا3، وقام حتى تفطرت قدماه4، فإذا كان كذلك، فمن خُصّ بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية5.
وهذا القسم6 يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس، فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه، مع تأكده في أصول الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بعض ما دخل في الثاني، فالمشقة غير معتادة، ويعلم أو يظن أنها لا تدخل فسادا، إلا أنها صارت بالنسبة له كأنها معتادة. "د".
2 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وسيأتي تخريجه "ص240"، وهو صحيح"
3 كما سيأتي "ص240".
4 كما سيأتي "ص241".
5 من أقبل على العبادة بيقين ساطع وجد فيها من الارتياح ما يود معه لو أن الحياة لا تطالبه بما يلفته عنها ولو لحظة، فليس العابد ببصيرة وضاءة كما يحسب أسارى الأهواء في ضائقة من حرج النفس واقتحام المكاره، بل هو في لذة لا تنقص عند من يذوق طعمها عن لذة إدراك المعارف السامية والحكمة الغامضة. "خ".(36/306)
6 أي: الثاني بنوعيه، وهو أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه في العمل به فساد في نفسه أو عقله..... إلخ، فقوله: "وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله... إلخ" لا ينافي أصل موضوع هذا القسم؛ لأن الخوف من ذلك أو من التقصير غير العلم أو الظن بحصول هذا الفساد...... إلخ، الذي جعله أول الوجهين في الفصل السابق، هذا وقد تكلم في هذا الفصل على الوجه الأول من وجهي رفع الحرج وهو الخوف من الانقطاع.....إلخ، وسيأتي في الفصل بعده تفصيل الوجه الثاني، وهو الخوف من التقصير عند المزاحمة.... إلخ، هذا باعتبار النظر في الموضع هنا، وسيأتي لنا في آخر المسألة مناقشة المؤلف في صنيعه فيها بوجه عام. "د".(36/307)
ص -233-…فصل:
فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:
أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
والثاني: [خوف التقصير]1 عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها، وقاطعا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما.
فأما الأول، فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ2 فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم3، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] إلى آخرها، فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: من النفرة من تكاليفها. "د".
3 انظر أثر وقوع ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 114/ 115".(36/308)
ص -234-…وفي الحديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا"1
وفي حديث قيام رمضان:
"أما بعد، فإنه لم يخف على شأنكم، ولكن خشيتُ أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها"2.
وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت، زعموا أنها لا تنام الليل. فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تنام الليل؟! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا"3.
وحديث أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في "ص405،وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761 بعد 178" عن عائشة مرفوعا، والمذكور لفظ مسلم.
قال "خ" هنا ما نصه" "قد يكون في العمل نفسه وجه من الوجوه الداعية إلى التكليف به على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وقد يكون إيجابه منوطا بحالة تعرض له كأدب الوفاء والصدق مع الخالق في تقرير حكمة إيجاب النذر، ومن الجائز أن يقع في الشريعة قسم ثالث وهو ما يكون سببه قيام الجماعة بالعمل ومداومتهم عليه حتى ينتظم في إعلام هدايتهم ويصبح من مظاهر طاعتهم، ويقرب من هذا إيجاب بعض المندوبات على الفرد متى دخل في عملها، وهذا ما وقع في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ومن أجله ترك الاستمرار على صلاة التراويح في جماعة".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785" وغيرهما.(36/309)
قال في حاشية الأصل: "تويت: بتاءين مصغر كما تقدم في حاشية على هذا الكتاب".(36/310)
ص -235-…فقال: "ما هذا؟" قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر، قعد"1.
وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "أفتانٌ أنت يا معاذ"2 حين أطال الصلاة بالناس، وقال: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة"3.
ونهى عن الوصال رحمة لهم4.
ونهى عن النذر، وقال: "إن الله يستخرج به من البخيل، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا"5، أو كما قال، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد" باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 785".
2 سيأتي لفظ الحديث في "ص248"، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى هناك.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه،
4 قطعة من حديث سيأتي لفظه عند المصنف قريبا.(36/311)
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، 11/ 499/ رقم 6608، وكتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، 11/ 575/ رقم 6692 و 3393"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يردُّ شيئا 3/ 1260-1261 / رقم 1639"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر 3/ 231- 232/ رقم 3287"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأيمان والنذور، النهي عن النذر 7/ 15- 16، 16"، والدارمي في "السنن" "كتاب النذور والأيمان، باب النهي عن النذر 2/ 185، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب النهي عن النذر، 1/ 686/ رقم 2122"، وأحمد في المسند" "2/ 61"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 77" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وفي ا لباب عن أبي هريرة عند البخاري "رقم 6694"، ومسلم "رقم 1640"، والترمذي "رقم 1538"، وابن الجارود" "رقم 932"، وأحمد "2/ 235، 242، 314، 373، 412، 463"، وغيرهم.(36/312)
ص -236-…ما تقدم من السآمة والمل والعجز، وبغض الطاعة وكراهيتها1.
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تُبَغِّضُوا إلى أنفسكم عبادةَ الله، فإن المُنبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 272 وما بعدها".
2 تكلم عليه السخاوي في "الأجوبة المرضية" "ق 2، 3"، بكلام بديع، نسوق نصه، ونزيد عليه في حنايا كلامه، ونضع ذلك بين معقوفتين، ثم نتبع ذلك بما فاته.
قال رحمه الله تعالى: حديث: "المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" البزار في "مسنده" [كشف الأستار 74"، "مجمع الزوائد" "1/ 67"، وقال عقبه: "وهذا روي عن ابن المنكدر مرسلا، ورواه عبيد الله بن عمرو عن سوقة عن ابن المنكدر عن عائشة، وابن المنكدر لم يسمع من عائشة]، وأبو نعيم في بعض تصانيفه، والحاكم في "علوم الحديث" له [ص 95و 96]، والبيهقي في "سننه" "عنه ["3/ 18]، وابن طاهر في "صفوة التصوف" من طريق الحاكم، [والقضاعي في مسنده "الشهاب" "1147و 1148"، والقزويني في "التدوين" "1/ 237- 238"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 229"، والخطابي في "العزلة" "111"، والعسكري في "الأمثال" "1/ 544- 545"]، كلهم من حديث خلاد بن يحيي عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"، قال الحاكم عقب تخريجه" "هذا حديث غريب المتن والإسناد، وكل ما روي فيه فهو من الخلاف =(36/313)
ص -237-…..........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على محمد بن سوقة، فأما ابن المنكدر عن جابر، فليس يرويه غير محمد بن سوقة وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحيى" انتهى.
وقال البخاري في ترجمة محمد بن سوقة من "تاريخه" [1/ 1/ 102]: "قال لي إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا محمد بن سوقة حدثني ابن محمد بن المنكدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين"، قال عيسى: أنا نصصت ابن سوقه عنه، فقال ابن محمد المنكدر، ورواه أبو عقيل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح" انتهى.
وأبو عقيل ضعفه ابن المبارك، وعلي بن المديني [في "سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" له رقم 64]، والنسائي [في الضعفاء والمتروكين] له "635"] وغيرهم وقال، وقال حرب: "قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه" وقال أبو زرعة: "لين"
وقال ابن حبان [في المجروحين" "3/ 116]: "ينفرد بأشياء ليس لها أصول، ولا يرتاب الممعن في الصناعة أنها معمولة"، وقال ابن عدي [في الكامل" "7/ 2665"]: "عامة أحاديثه غير محفوظة" وقال الساجي: منكر الحديث: وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي عندهم"، وقال ابن عبد البر: "هو عند جميعهم ضعيف"، [وانظر "تهذيب الكمال" "31/ 511"].(36/314)
ولحديثه شاهد، لكنه ضعيف أيضا، أخرجه البيهقي في "سننه" ["3/ 19"، و"الشعب" "3886]، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -هو الحاكم- أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى حدثنا الفضل بن محمد الشعراني حدثنا أبو صالح -يعني: عبد الله بن صالح كاتب الليث- حدثنا الليث -هو ابن سعد- عن ابن عجلان -يعني محمدا- عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا"، والفضل بن محمد، قال أبو حاتم: "تكلموا فيه" وقال الحاكم [كما في "السير" "13/ 317"، و"سؤالات السجزي" "224]: "كان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال، وكان يرسل شعره فلقب بالشعراني، وهو ثقة، لم يطعن فيه بحجة، وقد سئل عنه الحسين بن محمد القباني فرماه بالكذب، وقال: سمعت أبا عبد الله ابن الأخرم يسأل عنه، فقال: صدوق، إلا أنه كان غاليا في التشيع، والمولى- يعنى: المبهم المتقدم في إسناد الحديث- لم أقف على اسمه وما عرفته، والله أعلم".(36/315)
ص -238-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [وضعفه شيخنا في "الضعيفة" 1/ 64-65].
وله طريق ثالثة، لكنها مختصرة، أخرجها عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند أبيه" [3/ 199]، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو بن حمزة حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وخلف هذا غير خلف بن مهران العدوي الذي روى له النسائي في "المجتبى" ["رقم 4446"] حديث: "من قتل عصفورا عبثا...."، وإن كان صنيع المزي في "تهذيبه" ["8/ 296"] يقتضي أنهما واحد، فإن البخاري قد فرق بينهما في ["تاريخه" "3/ رقم 653، 655"]، فجعل خلف بن مهران إمام مسجد بني عدي غير خلف أبي الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وكذا قال أبو حاتم [في "الجرح والتعديل" "3/ رقم 1678، 1679"]، وذكر أن إمام مسجد سعيد يروي عن أنس، قال البخاري: "وعنه عمرو بن حمزة القيسي، لا يتابع في حديثه"، وقال ابن خزيمة: "لا أعرف خلفا بعدالة ولا جرح"، وكذا قال في الراوي عنه، وتوقف في صحة حديثهما، وقال ابن عدي في الراوي عنه [في "الكامل" "5/ 1793"]: "مقدار ما يرويه غير محفوظ" وقال الدارقطني: "ضعيف".
قلت: وزعم الهيثمي [في "مجمع الزوائد" "1/ 67"] أن رجاله موثقون، وأن خلفا لم يدرك أنسا ويتعقب عليه بما تقدم، [وزاد الزبيدي في "اتحاف السادة المتقين" "9/ 41" نسبته للضياء، وعزاه ابن رجب في "المحجة" "70" لحميد بن زنجويه].(36/316)
وعلى كل حال، فالحديث ضعيف، إلا أن هذه الطريق على اختصارها أجود من اللتين قبلها، وبالله التوفيق، انتهى كلام السخاوي، ثم تحدث عن شرح الحديث، فراجعه إن شئت، وهو في "فتاويه" "1/ 14/ 19" المطبوعة حديثا.
وله طريق رابعة أخرجه البيهقي في "الشعب" "رقم 3885"، أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد المصري حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا علي بن معبد حدثنا عبيد الله بن عمرو عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وقال: "ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر، ورواه أبو معاوية عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن النبي مرسلا وهو الصحيح، وقيل غير ذلك".
وذكره ابن حجر في "فتح الباري" "11/ 297" من حديث جابر، ثم قال: "وله شاهد في "الزهد" ابن المبارك "رقم 1334" من حديث عبد الله بن عمرو موقوف" والحديث مرفوعا ضعيف، والله أعلم.(36/317)
ص -239-…وقالت عائشة رضي الله عنها: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم: قالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"1.
وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع، وإذا كان كذلك، فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما، فإذا وجد ما علل به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان النهي متوجها ومتجها، وإذا لم توجد، فالنهي مفقود، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين:
ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد، فتؤثر فيه أو في غيره فسادا، أو تحدث له ضجرا ومللا، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل، كما هو الغالب في المكلفين، فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص، إن كان مما لا يجوز تركه، أو يتركه إن كان مما له تركه، وهو مقتضى التعليل، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضِ القاضي وهو غضبان"2، وقوله: "إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا"3، وهو الذي أشار به عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"،وإسحاق بن راهويه في "المسند" "4/ ق 77/ ب" ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 282"- وأحمد في "المسند" "6/ 242، 258"، والفريابي في "الصيام" "29" وغيرهم.
2 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
3 جزء من حديث، وفيه قصة ستأتي عند المصنف قريبا "ص247- 248" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ رقم 1968، وكتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم 182".(36/318)
ص -240-…الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم، وقد قال بعد الكبر: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشد2 من المشقة أو حاد يسهل به الصعب أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره، كما جاء في الحديث: "أرحنا بها يا بلال"3.
وفي الحديث: "حبب إلى من دنياكم ثلاث...."، قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217- 218/ رقم 1975" ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813- 814/ رقم 1159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية "لأن أكون قبلت الثلاث الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من أهلي ومالي". وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم".
2 في "ط": "أشق".
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الآداب، باب في صلاة العتمة، "4/ 296-297/ رقم 4985, 4986"، وأحمد في "المسند" "5/ 394، 371" من حديث رجل من الصحابة، وإسناده صحيح، وسماه الطبراني في "المعجم الكبير" "6/ 276-277/ رقم 6214"، فأخرجه من مسند سلمان بن خالد الخزاعي.
وانظر: "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 101"، و"صحيح الجامع الصغير" "رقم 7892"، و"مشكاة المصابيح" "رقم 1253".
4 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 128، 199، 285"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 39"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61،=(36/319)
ص -241-…وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه: "أفلا أكون عبدا شكورا؟!"1.
وقيل له عليه الصلاة والسلام: أنأخذ عنك في الغضب والرضى؟ قال: "نعم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والحاكم في "المستدرك" "2/ 160"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "1/ 331، 332 / رقم 322 و323"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 199-200، 237/ رقم 3482, 3530"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 78"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "ص98، 229-230"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 262"، وسنده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 150-151" وقال: "ومن رواه "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث"، فقد وهم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "ثلاث" والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها".
وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص38" في الرواية التي فيها "من دنياكم": "وليس بمحفوظ بهذا، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا وإنما هي من أهم شئون الآخرة".
وكذا قال العراقي وابن حجر والسخاوي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 116"، و"المقاصد الحسنة" "ص180".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير"، باب "{يَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819"، وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(36/320)
2 أخرج نحوه أبو داود في السنن" "كتاب العلم، باب في كتابة العلم، 3/ 318/ رقم 3646"، وأحمد في المسند "2/ 162، 192، 207، 215"، وابن أبي شيبة "المصنف" "9/ 49" والدارمي في "السنن" "1/ 125"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 105-106"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم" "77-80"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 388، 389" من طرق عن عبد الله بن عمرو، وبعضها صحيح. قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 207": ولهذا طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا".(36/321)
ص -242-…وهو القائل في حقنا: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"1 وهذا2 وإن كان خاصا به، فالدليل صحيح.
وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير.
ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد، كعمر، وعثمان وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير؛ ومن التابعين، كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خثيم، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم.
ومما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص231" وهو في "الصحيحين".
2 ولا يخفى عليك استيفاؤه لأمثلة الأنواع الثلاثة للضرب الثاني في الأحاديث المذكورة، مع مراعاة أنها كلها ليس فيها العلم أو الظن بأنه يدخل على نفسه بسببها فسادا... إلخ, إن كان قد يحصل ذلك كما هو أحد الأقسام الثلاثة التي أشارت إليها الأحاديث. "د".
3 رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 367، 368، 2/ 292-293، 502-503"، وسعيد بن منصور في "السنن" "2/ 469/ رقم 158"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1275، 1277"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ =(36/322)
ص -243-…وكم من رجل منهم صلَّى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سَنَة، وسرد الصيام كذا وكذا سنة1.
وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام، وأجاز مالك صيام الدهر2.
وكان أويس القرني يقوم ليله حتى يصبح، ويقول: بلغني أن لله عبادًا سجودًا أبدًا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 124/ 4635"،وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 75، 76"، وأبو عبيد في فضائل القرآن" "رقم 277، 278"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 294"، وأحمد في "الإيمان" "ق 49/ ب"، والطبراني في "الكبير" "1/ 87/ رقم 135" وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "1/ 56، 57"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "225، 226، 227، 228"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 24-25"، وفي "الشعب" "5/ 145-146/ رقم 1993" من طرق عن ابن سيرين عن نائلة زوج عثمان، قالت: إن تدعوه أو تقتلوه فهو كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن -يعني: يوترها"-
وبعضهم أسقط "نائلة"، وابن سيرين لم يسمع من عثمان.
ورواه أيوب عن نائلة كما عند ابن الأعرابي في "المعجم" "1/ ق 120/ ب" ومسعر عنها كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، ورواه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 56-57"، وقال أنس بن مالك؛ وهو وهم والأثر صحيح بمجموع طرقه، وتعدد استشهاد المصنف به في موطن آخر، وانظر: الاعتصام" "1/ 399"- دار ابن عفان".
1 ترى أمثلة كثيرة من ذلك في "إقامة الحجة" للكنوي مع التعليق عليها، وكذا في الحلية" "3/ 163"، وذكره المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" مع زيادة: "وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة".
2 كذا في "الاعتصام" "1/ 399 أيضًا.(36/323)
3 انظر: "الحلية" "2/ 87، 88"، ففيها نحو المذكور، وذكره عنه المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" ط ابن عفان" وعلق على الخبر بقوله: "يريد أنه كان يتنفل بالصلاة، فتارة يطول فيها القيام، وتارة الركوع، وتارة السجود" وفي "ط" زيادة عليه: ثم يركع أخرى حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني أن لله عبادا ركوعا أبدا" ثم يسجد حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني ان لله عبادا سجودا أبدا".(36/324)
ص -244-…ونحوه عن عبد الله بن الزبير1
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة، حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة يقول له: ويحك! لم تعذب هذا الجسد؟ فيقول: إن الأمر جد2، [إن الأمر جد].
وعن [أنس] ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت: كان يصلي حتى تورمت قدماه، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه3.
وعن الشعبي، قال: غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنته: أفطر! قال: ما أردت بي؟ قالت: الرفق. قال: يا بنية! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة4.
إلى سائر ما ذكر5 عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد؛ هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين في السابقين، جعلنا الله منهم؛ وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم، فلم ينتهض النهي في حقهم، كما أنه لما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في "العبر" "1/ 110".
2 ترى ذلك في ترجمته في "زهد الثمانية من التابعين" "ص53-54"، و"الحلية" "2/ 103"، والسير" "4/ 52"، و"الاعتصام" "1/ 399" للمصنف.
3 الخبر في "العبر" "1/ 68"، و"السير" "4/ 65"، و"الاعتصام" "1/ 399، 400" للمصنف، "مرآة الجنان" 6/ 39"، و"إقامة الحجة" "ص66"، وما بين المعقوفتين من الأصل.
4 ذكره الذهبي في ترجمته في "السير" "4/ 67-68"، والمصنف في "الاعتصام" "1/ 400".
5 في الأصل: "ذكره".(36/325)
ص -245-…قال: لا يقضِ القاضي وهو غضبان"1 وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطَّرد النهي مع كل ما يشوش الفكر، وانتفي عند انتفائه، حتى إنه منتفٍ مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش، وهذا صحيح مليح.
فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف، أو الرجاء، أو المحبة، فالخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد والمحبة تيار حامل، فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعيد، ويفني القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة، ويعمر
الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان، ويرخص له فيه إن كان لازما له، حتى لا يحصل في مشقة ذلك؛ لأن فيه تشويش النفس كما تقدم.
ولكن العمل2 الحاصل والحالة هذه؛ هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله؟
هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة "الصلاة في الدار المغصوبة" وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي، وأنه لا يجزئه إن فعل، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف، والانتقال إلى التيمم، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال3، والشاهد للمنع قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
2 في الأصل زيادة كلمة: "الصالح. وفي "ط": ".... يكون مجزئة".
3 انظر بسط المسألة في "الخلافيات" "2/ 477، 483" مع تعليقي عليه.(36/326)
ص -246-…تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النساء: 29]، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات، فالأمران مفترقان؛ فإن إدخال المشقة الفادحة1 على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة، فصارت ذات قولين2.
وأيضا، فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى، وهي أن يقال: هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله، أم لأجل أنها حق للعبد؟ فإن قلنا: إنها حق لله، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع، وقد رفع الحرج في الدين، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع، وإن قلنا: إنه حق العبد، فإذ سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة، ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة.
والذي يرجح هذا الثاني أمور:
- منها: أن قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] قد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم؛ لأنه أرفق بهم، وأيضا فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وأشباهها3 من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد.
- ومنها: ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر، فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحجر والعسر، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي، ومما يخص مسألتنا قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، أو تورمت قدماه4، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد، ولكن المر في طاعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل و"ط" بالفاء، وفي "د" القادحة.
2 أي: كما في الصلاة في الدار المغصوبة كما قال؛ لأن الأمر والنهي المتوجهين إلى العمل يمكن انفكاكهما، والخلاف جارٍ فيما لم يكن هناك تلازم كمسألة الصلاة المذكورة. "د"
3 في "ط": "وما أشبهها".(36/327)
4 مضى تخريجه "ص241".(36/328)
ص -247-…إليه يحلو للمحبين، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم، وكذلك جاء السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم، وقد روي عن الحسن بن عرفة، قال:
رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت له: يا أبا خالد! ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار1.
وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى، فإذن من غَلَّب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق، ومن غلَّب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق، ولكن جعل ذلك إلى خيرته.
فصل:
وأما الثاني، فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق، فربما قطعه عن غيره، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به، فيقصر فيه، فيكون بذلك ملوما غير معذور؛ إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها2.
ذكر البخاري عن أبي جحيفة، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه بسنده إلى الحسن بن عرفة به الخطيب في "تاريخه" "14/ 341-342".
2 انظر "منهج التربية الإسلامية" "1/ 169-170"، ففيه تفصيل حسن لنحو المذكور هنا.(36/329)
ص -248-…تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلينا1، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه". فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان"2.
وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "أفتَّان أنت، أو أفاتن أنت؟ "ثلاث مرات"، فلولا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، و{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة": وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ، فقرأ سورة البقرة والنساء، فانطلق الرجل. انظره في البخاري3.
وكذلك حديث: "إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقتضى السياق "فصليا" بالغائب، فتراجع الرواية، والذي في البخاري "صليا" بألف الغائب، ولم يذكروا فيه رواية أخرى. "د".
2 مضى تخريجه "ص239"، والحديث في "الصحيحين وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة، فخرج، فصلى 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 1/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وانظر في تعيين الشاكي: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 244، 245" مع تعليقي عليه.(36/330)
4 أخرجه البخاري في الصحيح" "كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي 2/ 202/ رقم 709، 710"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 2/ 342/ 343/ رقم 470" وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(36/331)
ص -249-…ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين، فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل.
وأيضا، فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه، ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام: "كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرُّ إذا لاقى"1.
وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: وإنك لتقلُّ الصوم. فقال: "إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليَّ منه"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم داود عليه السلام 4/ 224 / رقم 1979، 1980"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 815/ رقم 1159 بعد 186" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
قال "خ": "لم تغضِ الشريعة عن حق الجسم وتترك شأنه لصاحبه الذي ربما تغالى به السعي في تكميل نفسه إلى أن يصرف عنه النظر جملة، بل رسمت له في سيره حدودا لا يسوغ له اختراقها ووقوفه عند هذه الحدود مما يجعله سائرا في سبيل لا يلاقي فيها عقبات ولا ينقطع به قبل الوصول إلى الغاية المطلوبة، وانظر إلى قوله في هذا الحديث: "ولا يفر إذا لاقى" بعد قوله: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا" فإن في ذلك إيماء إلى أن عدم سرد داود عليه السلام للصوم إنما هو ليتقوى بالفطر على واجب أعظم وهو جهاد العدو والصبر على مكافحته بقلب لا يجبن وعزم لا ينثني".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "7903"، والطبراني في "الكبير" "9/ 195-197 / رقم 8868-8870، 8872، 8874، 8878" بأسانيد عنه، وبعضها صحيح، وانظر: "مجمع الزوائد" "2/ 257".(36/332)
ص -250-…ونحو هذا ما حكى عياض1 عن ابن وهب أنه آلى أن لا يصوم يوم عرفة أبدًا؛ لأنه كان في الموقف يوما صائما، وكان شديد الحر فاشتد عليه. قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار.
وكره مالك إحياء الليل كله2 وقال: لعله يصبح مغلوبا، وفي رسول الله أسوة، ثم قال: "لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم، فلا، وإن كان وهو به فتور أو كسل، فلا بأس به".
فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبب تعطيل وظائف، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة، نهي عن ذلك، وإن لم يكن شيء من ذلك، فالإيغال فيه حسن3، وسبب القيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 430- ط بيروت"، وفيه "نذر ابن وهب....".
2 ودليله ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل 2/ 41/ رقم 1342" عن عائشة ضمن حديث طويل، فيه: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح"، ولفظ الدارمي في "سننه" "1/ 346": "وما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح"، ولفظ مسلم "6/ 27- مع شرح النووي": "ولا صلى ليلة إلى الصبح"، وفي رواية له "6/ 29": وما رأيته قام ليلة حتى الصباح".(36/333)
قلت: والتعليل الآتي يشهد له ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 131- رواية يحيى" عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، وسكنُ سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي، فغلبته عيناه. فقال عمر: "لإن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أقوم ليلة"، وكذلك من يقوم الليل ويسرد الصوم إن كان ذلك بحيث يفوت من حضور الجماعات وصلاة الجنائز، ونشر العلم بالتدريس والتصنيف ونحو ذلك، لا ينبغي له ذلك، قاله اللكنوي في "إقامة الحجة" "ص148-149".
3 هذا ما قرره اللكنوي في كتابه "إقامة الحجة" بتفصيل وإسهاب مع تمثيل من حياة السلف والصالحين والعلماء بما لا مزيد عليه.(36/334)
ص -251-…بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة.
فإن قيل: دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه- وإن كان له وازع الخوف، أو حادي الرجاء، أو حامل المحبة- لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات، ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل، صائما النهار، واطئنا أهله، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد، وإغاثة اللهفان، وقضاء حوائج الناس، وغير ذلك من الأعمال، بل كثير منها تضاد أعمالا أُخَر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها، وقد لا تضادها، ولكن تؤثر فيها نقصا، وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة1 هذه؟ ولهذا جاء: "من يشاد هذا الدين يغلبه"2.
وأيضا، فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال ومسقطي الحظوظ، فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها؟
فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان:
أحدهما:
أرباب الحظوظ، وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا، لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم، ولا يضر بحظوظهم.
فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا، وقطع العوائد المباحة قد يوقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الحال".
2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة رضي الله عنه.(36/335)
ص -252-…المحرمات، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية؛ لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملقٍ حكمة الشرع عن نفسه، وذلك فساد كبير، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع، كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخر للإنسان1.
فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت تظر العدل، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخلّ بواجب، ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن، فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلا، وينهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلا كالصلاة في الأوقات المكروهة، وينظر في المندوب الذي لا حظ له فيه، وفي المكروه الذي له فيه حظ -أعني: الحظ العاجل-، فإن كان ترك حظه في المندوب2 يؤدي لما يكره شرعا، أو لترك مندوب هو أعظم أجرًا، كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى، كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات، حسبما نبه عليه حديث3: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته....."4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومهيأ لحظوظه، فالمطلوب الاعتدال، فلا حرمان مما هيأه الله له، ولا استرسال فيه. "د".
قلت: وفي الأصل "مسخرة للإنسان".
2 أي: فإن كان ترك حظ من حظوظه بسبب فعله مندوبا لا حظ لنفسه فيه يؤدي إلى فعل مكروه شرعا، أو إلى ترك مندوب آخر أفضل منه، كان استعماله لحظه بترك هذه المندوب المؤدي فعله لأحد هذين الأمرين أولى به، وذلك كما إذا كان اشتغاله بنافلة الصلاة يحول بينه وبين التمتع بزوجته، فيؤدي ذلك إلى تطلعه للأجنبيات وتشوقه للنظر إليهن، فيكون ترك النافلة وتمتعه بزوجه أولى. "د".
3 أي، فإنه يفيد أن التمتع بالزوجة يكسر من الشهوة حتى لا ينبعث إلى النظر للأجنبية. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه =(36/336)
ص -253-…إلخ.
وكذلك [ترك]1 الصوم2 يوم عرفة3، أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، 2/ 1021/ رقم 1403"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه3/ 464/ رقم 1158" -والمذكور لفظه، وتتمته: "فليأت أهله، فإن معها الذي معها"- وأحمد في المسند" "3/ 330، 341، 395" بألفاظ منها المذكور عن جابر رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن مسعود عند الدارمي في "السنن" "2/ 146"، وعن أبي كبشة الأنماري عند البخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 139"، وأحمد في "المسند" "4/ 231"، وأبي نعيم في "الحلية" "2/ 20"، وإسناده حسن، وانظر له: "العلل" "5/ 196" للدارقطني.
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "وكترك".
2 مثال لما كان فيه فعل المندوب يؤدي إلى ما يكره شرعا، وهو كراهة العبادة والملل منها، وما بعده مثال لما يؤدي إلى ترك مندوب هو أعظم منه أجرًا -ومثله ما في الحديث بعده- ويؤخذ منه أن قراءة القرآن أفضل من الصوم، والمثالان إشارة لما تقدم عن ابن مسعود وابن وهب. "د".
3 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، 4/ 236-237/ رقم 1988"، وغيره عن أم الفضل بنت الحارث، أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه".
وفطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كان لحكمة، واختلفوا فيها، فقالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهو قول الخرقي وغيره، وقال غيرهم -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال: "والدليل عليه الحديث الذي في "السنن" عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام".(36/337)
قلت: أخرجه أبو داود "كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق 2/ 320/ رقم 2419"، والترمذي في الجامع" "أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3/ 143/ رقم 773"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب النهي عن صوم يوم عرفة، 5/ 252"، وأحمد "4/ 152"، وابن أبي شيبة في المصنف" "3/ 104 و4/ 21"، والدارمي "2/ 23"، والطحاوي "1/335"، وابن حبان "8/ 368/ رقم 3603- الإحسان"، وابن خزيمة في "صحيحه" "رقم 2100"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 803"، والحاكم "1/ 434"، والبيهقي "4/ 298"، والبغوي "1796" عن عقبة بن عامر، وإسناده صحيح.
قال ابن تيمية: "وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم". انظر: "زاد المعاد" "1/ 61-62".(36/338)
ص -254-…وفي الحديث: "إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر أقوى لكم"1.
وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه، غلب الجانب الأخف، كما قال الغزالي: إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات2، على التورع عنها مع عدم طاعتهما، فإن تناول المتشابهات2 للنفس فيها حظ، فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله، فإن كان في تناولها رضى الوالدين، رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية، وهو مخالفة الوالدين، ومثله ما روي عن مالك أنَّ طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس3.
فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال، فيقع الترجيح بينها فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه، وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، 2/ 789/ رقم 1120"، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، و"إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطر أقوى لكم".
2 في "ط": "المشتبهات".
3 الوجه في ذلك أن الحاجة إلى الناس مما يترامى بالنفوس على أبواب المهانة، وقد عنيت الشريعة بما يرفعها إلى مراقي العز والشرف حتى أسقطت للمحافظة على كرامة النفس وصيانة ماء المحيا بعض الواجبات، كما أجازت للرجل أن يتيمم ولا يقبل الماء ممن يقدمه له على وجه الهبة لما في مثل ذلك من المنة المكروهة لدى النفوس المتطلعة إلى عز شامخ ومجد أثيل. "خ".(36/339)
ص -255-…والثاني:
أهل إسقاط الحظوظ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال، غير أن سقوط حظوظهم لعزوف1 أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم، فصاروا أكثر أعمالا، وأوسع مجالا في الخدمة، فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات، وأما أنه2 يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة، فمتعذر، إلا في المنهيات، فإنه ترك بإطلاق، ونفي أعمال لا إعمال، والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام، ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر، كقوله: "إن لنفسك عليك حقا"3، وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده أو ساقط، فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه إذن4 آخر الاشياء المستحقة، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها5؛ لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا، فدخل فيه من الأعمال كثير، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر، فهو عبادة كما سيأتي، فصار عبادة بعد ما كان عادة، فهو ساقط من جهته، ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس، بل يصير أكثر عمله في الواجبات، وهنا مجال رحب له موضع غير هذا.
فصل6:
ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "عزوب".
2 في الأصل و"خ": "أن".
3 مضى تخريجه "ص239"، وهو صحيح.
4 كذا في "ط" وفي غيره: "أيضًا".
5 في "ط": "منها".
6 تكميل للمقام ببيان أن الأعمال المنهي عنها إذا تسبب عنها مشقة، فإن الشارع لا يقصد فيها المشقة أيضا، وإن جاءت في الطريق بسبب المكلف. "د".(36/340)
ص -256-…المأذون فيه، فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة، فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب؛ لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه.
إلا أنه قد يكون في الشرع1 سببا لأمر شاق على المكلف، ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه، وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة، كالقصاص والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة، فإنها زجر للفاعل، وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل، وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا، وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاهٍ لكون قطع اليد المتآكلة وشرب الدواء البشع مؤلما وشاقا، فكما لا يقال للطبيب: إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال، فكذلك هنا، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم.
والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه، ويشبه هذا ما في الحديث من قوله: "ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له من الموت"2؛ لأن الموت لما كان حتما على المؤمن وطريقا إلى وصوله إلى ربه، وتمتعه بقربه في دار القرار، صار في القصد إليه معتبرا، وصار من جهة المساءة فيه مكروها3، وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل فيه سقط: "ما يكون" "د".
2 قطعة من آخر حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقائق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا، وقد استشكل بعضهم "التردد" الوارد في الحديث، وانظر له لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 129-131 و 10/ 58-59"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 1640". وفي "ط": "ولا بد منه".
3 أي: غير مقصود ما فيه من جهة المكروهية، ولكنه مقصود من جهة أنه موصل إلى السعادة، وإنما كان شبيها ولم يكن مما تقدم؛ لأنه ليس في موضوع التكاليف الدنيوية. "د".(36/341)
قلت: وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 129-131 و 10/ 58-59".(36/342)
ص -257-…الوفاء بها؛ لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها، فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هي عبادات وإن شقت، كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها، حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت، كما إذا حلف بصدقة ماله، فإنه يجزئه الثلث، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر، فإنه يركب ويهدي، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام [الفلاني]، فإنه يسقط حكمه، إلى أشباه ذلك، فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات.
فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف1 عام في المأمورات والمنهيات.
ولا يقال: إنه قد جاء في القرآن: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فسمى الجزاء اعتداء، وذلك يقتضي القصد إلى الاعتداء، ومدلوله المشقة الداخلة على المعتدي.
لأنا نقول: تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز معروف مثله في كلام العرب، وفي الشريعة من هذا كثير2، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العبد".
2 قلت: كلام المصنف في صفة الاستهزاء والمكر وغيرهما من صفات الفعل لله عز وجل من الأمور المردودة غير المقبولة، ومنهج السلف في فهم الأسماء والصفات على خلافها، وما الداعي لهذا المعنى وذات الله غير ذواتنا، وبالتالي أسماؤه وصفاته غير أسمائنا وصفاتنا، فإن التأويل=(36/343)
ص -258-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لا يكون إلا بعد الوقوع في التشبيه، وحينئذ يكون هنالك داع لصرف اللفظ عن معناه، وهو في حقيقته تعطيل.
واعلم وفقني الله وإياك للصواب، أن الصفات إذا كانت كمالا في حال، ونقصا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، وهذه الصفات وغيرها من صفات الأفعال كالكيد والخداع، فهذه تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أنها من صفاته سبحانه بإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسوله بمثلها: كقوله تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15].(36/344)
وقد ألمح ابن القيم إلى نحو ما ذكره المصنف من تأويل هذه الصفات ورده بنحو ما قررناه، فقال في "إعلام الموقعين" "3/ 217-218": "وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة، ومجاز المقابلة، نحو {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان:
قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه.
وحسن: وهو إيصاله إلى من يستحقه، عقوبة له.
فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده.
وأما السيئة، فهي "فيعلة" مما يسوء ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها، فهي سيئة له، =(36/345)
ص -259-…............................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حسنة من الحكم العدل".
وزيادة في توضيح ما سبق أود أن أبين ما يلي:
أولا: إن الله لم يصف نفسه بالكيد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف ربه بالإحصاء إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وهذا الوصف على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ كما سيأتي.
ثانيا: إن دعوى إطلاق هذه الألفاظ على الله سبحانه بالشرط السابق على سبيل المجاز لأنها توهم التشبيه باطلة، والمراد بهذا المجاز نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله سبحانه، وهذا باطل، وقد مر معنا الرد على المصنف عندما أَوَّلَ بعض هذه الصفات مثل "الحب والبغض"، راجع "ص195 وما بعدها".
ثالثا: إن هذه الأفعال لا تذم على الإطلاق، ولا تمدح على الإطلاق، ومجازاة المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، ولهذا كاد الله سبحانه وتعالى ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه، جزاء على كيدهم له مع أبيه.
رابعا: هذه المجازة من المخلوق حسنة، فكيف من الخالق، هذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا، وأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا يكون قبيحا فلا يكون المكر وغيره من صفات الفعل منه قبيحا البتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداء، لا على سبيل المقابلة على هذا التقدير.
وعلى التقديرين، فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ على التقديرين.
خامسا: لا يشرع اشتقاق أسماء لله عز وجل من هذه الصفات، ومن فعل ذلك من الجهلة، فقد افترى على الله الكذب، وفاهَ بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه.(36/346)
قال السفاريني في "الدرة المضيئة"- كما في "العقائد السلفية" "59" في مبحث الأسماء الحسنى:
لكنها في الحق توقيفية…لنا بذا أدلة وفية
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" "3/ 415": "فنسبة الكيد =(36/347)
ص -260-…{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].
إلى أشباه ذلك، فلا اعتراض بمثل ذلك.
فصل1:
وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج، لا بسببه، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه، فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا2، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعا3 للمشقة اللاحقة، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها، بل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمكر ونحوها إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم بـ "المريد". و"الشائي" و"المحدث"، كما لم يسم نفسه بـ "الصانع" و"الفاعل" و"المتقن"، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه: الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد، ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد، ولا يسمى بذلك".
وانظر في إثبات هذا الصفات أيضا: "مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 32-34"، و"طريق الهجرتين" "427-429"، و"أقاويل الثقات" "72".
1 هذا مقابل لسائر ما تقدم في موضوع لحوق المشقات تكميلا للمقام. "د".
2 انظر ما تقدم "2/ 45".
3 في "ط": "ورفعا" بواو.(36/348)
ص -261-…أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع، تكملة لمقصود العبد، وتوسعة [عليه، وحفظا]1 على تكميل الخلوص في التوجه إليه، والقيام بشكر النعم.
فمن2 ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذٍ آدميا كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله وكون هذا مأذونًا فيه معلوم من الدين ضرورة.
إلا ان هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه، فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة، كما أوجب علينا دفع المحاربين، والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء؛ لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني، كما لا تعتبر3 جهة التكليف ابتداء، وإن كان في نفسه ابتلاء4؛ لأنه طاعة أو معصية من جهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في "د" وفي الأصل و"ط" فأول" وفي "خ": "فإن".
3 أي: فكما أن التكليف نفسه ابتلاء كما بينه بقوله: لأنه.... إلخ"، ولا يعتبر فيه هذا الابتلاء بل طولب المكلف بالامتثال، فكذلك هنا طولب المكلف بما يدفع هذا الابتلاء الذي ينزل به من الأمراض وغيرها، وبعبارة أخرى إذا كان ابتداء التكليف العام وأصله ابتلاء ولم يعتبر ذلك حتي يمنع توجهه للمكلفين ليعملوا على ما فيه النجاة من هذا الابتلاء، فكذا هذا التكليف الخاص المطلوب به دفع ابتلاء خاص من ألم الجوع مثلا يكون تكليفا مقبولا، ولا يعتبر الابتلاء مانعا من توجهه. "د".(36/349)
4 قال ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 656"، "والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل" في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة".
وانظر: "تفسير القرطبي" "6/ 300"، والروح "123".(36/350)
ص -262-…العبد، خلق للرب، فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستلام لأحكام القضاء والقدر، فكذلك هنا.
وأما إن لم يثبت انحتام الدفع1، فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي، فيستسلم العبد للقضاء، ولذلك لما لم يكن التداوي محتما2 تركه كثير من السلف الصالح، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض، كما في حديث السوداء المجنونة3 التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك4، وكما في الحديث: "ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"5.
ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيَّدُ بالندب، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام: "تداووا، فإن الذي أنزل الداء أنزل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في الدفع"
2 في "ط": "متحتما".
3 كان الأولى أن يقول: التي كانت تصرع" كما هي عبارة الحديث. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، 10 / 114/ رقم 5652"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، 4/ 1994/ رقم 2576" عن ابن عباس، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها. لفظ البخاري.(36/351)
5 جزء من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، 11/ 405-406/ رقم 6541، وكتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، 10/ 155/ رقم 5705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين بغير حساب ولا عقاب، 1/ 199/ رقم 220" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(36/352)
ص -263-…الدواء"1، وأما إن ثبتت2 الإباحة، فالأمر أظهر.
وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث3 من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ، وبقي الكلام على الوجه الرابع، وذلك مشقة مخالفة الهوى، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 217" من حديث أسامة بن شريك، وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 10/ 134/ رقم 5678" عن أبي هريرة مرفوعا: "وما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
2 في الأصل: "ثبت".(36/353)
3 عقد المسألة السابقة لمسمى لفظ المشقة في الوجه الثالث، فتكلم عنه في أولها، وفرق بين ما يعد مشقة معتادة وما لا يعد، وإن كان فيه كلفة، وانجر به الكلام إلى أن الشارع لا يقصد المشقة المعتادة الحاصلة في التكاليف، كما لا يقصد غير المعتادة، بل يقصد الفعل من جهة كونه مصلحة عائدة على المكلف فقط، ثم رتب على ذلك في الفصل الأول أنه ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظرا إلى عظم أجرها، ثم ذكر في الفصل الثاني أن الأعمال المأذون فيها إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة، أو غير معتادة، وتوسع في تفاصيل غير المعتادة التي هي محل مشروعية الرخص، وخارجة عما عقدت له المسألة، ثم مد النفس في تفاصيل غير المعتادة التي تتسبب عن العبادة، إما لخوف الانقطاع عن العمل أو كراهيته، وإما لمزاحمة الوظائف المطلوبة من العبد بعضها لبعض، وذلك في الفصلين الثاني والثالث، ثم أكمل المقام في الفصل الرابع بالأفعال غير المأذون فيها في مقابلة موضوع الفصل الثاني الذي قيده بالمأذون فيها، ثم ذكر فصلا خامسا لمجرد إكمال الكلام في مطلق المشقة، وبمراجعة هذه الفصول لا تجد منها فصلا خاصا بالوجه الثالث، بل عنايته كما رأيت بالوجهين الاول والثاني أكر من عنايته بالوجه الثالث وما يشبهه، الذي فيه المشقة غير معتادة، ولكنها صارت عند قوم كالمعتادة، ثم قال في آخر المسألة: "وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث"، فهذا الصنيع غير موجه، وكان يحسن به أن يضع كل مبحث مما اشتملت عليه تلك الفصول في محله الخاص به من تلك الوجوه الثلاثة حتى تمتاز المباحث بعضها عن بعض ويظهر ارتباطها بتلك الوجوه. "د".(36/354)
ص -264-…المسألة الثامنة:
وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه، ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين1، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، حتى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23].
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وما أشبه ذلك.
ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج2 المكلف عن اتباع هواه، حتى يكون عبدًا لله، فإذن مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجاري العادات؛ إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك3، لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر شيئا من ذلك في كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي في الباب التاسع والثلاثين وما بعده "ص259 وما بعدها" وفي طوق الحمامة" لابن حزم "ص7 وما بعدها "
2 في "خ" محرفة إلى "إخراس".
3 في "ط": "لأجلها".(36/355)
ص -265-…المسألة التاسعة:
كما أن المشقة تكون دنيوية، كذلك تكون أخروية، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم، فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مُخِلَّة بدين، واعتبار الدين مقدم1 على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع، وكذلك هنا2، فإذا كان كذلك، فليس للشارع قصد3 في إدخال المشقة من هذه الجهة، وقد تقدم من الأدلة التي يدخل4 تحتها هذا المطلب ما فيه كفاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن أصول الدين تقدم على اعتبار النفس والأعضاء، فإذا توقف حفظ الدين على المخاطرة بالنفس أو الأعضاء قدم الدين، ولذا وجب الجهاد لحفظ الدين وإن أدى إلى ضياع كثير من النفوس، أما غير أصول الدين، فأنت تعلم أن الأمر فيها غير ذلك، فكثيرا ما يسقط الشارع واجبات دينية محافظة على النفس حتى من نحو المرض، وحينئذ، فليس اعتبار الأمور الدينية مقدما على النفس ولا على المال في كل شيء، والمقام يحتاج إلى بسط أوفى من هذا، ولذا قال صاحب "التحرير" في موضوع الضروريات الخمس: "إن حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد، وعقوبة الداعي إلى البدع"، فلا شك أن هذا فيما يتعلق بأصول الدين، وسيأتي في المسألة العاشرة ما يحتاج فيه إلى الترجيح بين مصلحتين قد تكون إحداهما دينية والأخرى دنيوية، فلو كانت الدينية تقدم مطلقا ما كان هناك حاجة إلى الترجيح المذكور. "د".
2 أي: فالمشقة الدينية مقدمة في الاعتبار على الدنيوية. "د".
3 أي: فمع كونه يقدم ما فيه حفظ الدين -مع كونه مشقته أعظم- على ذي المشقة الدنيوية الصرفة، فإنه لا يقصد إدخال هذه المشقة على المكلف، ولكنها جاءت في طريق حفظ الدين غير مقصودة. "د".
4 لأنه داخل في عموم المشقة التي برهن على أن الشارع لم يقصدها في التكليف مطلقا، وإن جاءت في طريق امتثال التكليف. "د".(36/356)
ص -266-…المسألة العاشرة:
قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده، كالمسائل المتقدمة، وقد تكون عامة1، له ولغيره، وقد تكون داخلة على غيره بسببه.
ومثال العامة له ولغيره كالوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه، إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته، فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره.
ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما، إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز2، أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي، وهما إذا لم يقوما بذلك، عم الضرر غيرهما من الناس، فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا نوع آخر من المشقة ليس داخلا في المعاني الأربعة التي تقدمت؛ لأن تلك كان المشقة فيها حاصلة من نفس الفعل، وهنا حصول المشقة يحدث من التعارض للوظائف التي تناط بالمكلف، فإذا قدم بعضها على بعض حصل له ولغيره ضرر أو لغيره فقط، مع كون أصل الفعل المطلوب لم يلاحظ فيه مشقة خارجة عن المعتاد، فالمشقة هنا تحصل من عدم العمل، عكس المعاني الأربعة السابقة "د".
2 من الأمور التي تعرض في القضاء غير الجور في الحكم، فليس القاضي معصوما، وقد يجره الأمر إلى الجور أيضا، وهذا ما دعا مثل أبي حنيفة إلى التنحي عنه مع توجيه الأذى إليه بسبب التنحي، فلا يظهر وجه للانتقاد من بعض الناظرين هنا على ذلك. "د".(36/357)
وكتب "خ" ما نصه: "لا يقع القاضي أو المفتي في أمر غير جائز، إلا أن يحيد عن طريق الاستقامة من تلقاء نفسه؛ إذ الخطأ في الاجتهاد مغتفر والإكراه إنما يخضع أمامه من يؤثر المنصب على الشرف والفضيلة، وليس العزل من الوظيفة عذرا يبيح لمن يتقلدها أن يقول على الله غير الحق، أو يتصرف في حق من حقوق الأمة على وجه يلقي به في تلف أو يهبط بالأمة هاوية ذل وصغار".(36/358)
ص -267-…وعلى كل تقدير، فالمشقة من حيث هي غير مقصودة للشارع تكون غير مطلوبة، ولا العمل المؤدي إليها1 مطلوبا كما تقدم بيانه، فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين، فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره، فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه، وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك2 وإن لم يمكن، فلا بد من الترجيح، فإذا كانت المشقة العامة أعظم، اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة3، وإن كان بالعكس، فالعكس، وإن لم يظهر ترجيح، فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1أي: إلى المشقة الخارجة عن المعتاد، كما سبق وكما هو مساق كلام المؤلف هنا، أو يقال: إن العمل المؤدي إلى المشقة من حيث تأديته إليها لا يطلب، والطلب إنما هو من جهة كونه مصلحة كما سبق مثله. "د".
2 كأن تكون مشقته من حيث عيش عياله، فتقوم له الأمة بذلك ويقوم لها بوظيفة القضاء أو العلم أو الجندية التي تتضرر بعدمها، وبهذا تجتمع المصلحتان وتنتفي المشقتان. "د".
3 كما إذا كان التعارض بين وظيفة عامة تتعين عليه، وبين مهم ديني غير متأكد عليه.
"د".(36/359)
ص -268-…المسألة الحادية عشرة:
حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية1، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي يفهم من قول الشاطبي عن المشقة التي تقتضي التخفيف أنها ما كانت "خارجة عن المعتاد في الأعمال العادية" إنه يرجع في تعيين الخلل على العبد إلى عرف الناس وعاداتهم، ومما يؤكد ذلك قوله في شأن ما يبدو أنه غير معتاد، ولكنه معتاد في الحقيقة: "... فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات".
وخلاصة ذلك أن المشقات التي تقتضي التخفيف مما لم يَرِد بشأنها شيء من الشارع، هي المشقات التي تكشف العادات والأعراف عن أنها خارجة عن المعتاد وتلحق خللا في العبد أو ماله أو حال من أحواله.
وقد استشكل القرافي في "الفروق" "1/ 119-120- الفرق 14" أن يكون العرف ضابطا للمشقة التي تجلب التيسير فيما لا نص فيه، وذكر أن الفقهاء يحيلون على العرف عند سؤالهم، مع أنهم من أهل العرف، فلو كان هناك عرف قائم لوجدوه معلوما لهم أو معروفا، ولا تصح الإحالة على غير الفقهاء؛ لأنه ليس بعد الفقهاء من أهل العرف إلا العوام، وهم مما لا يصح تقليدهم في الدين.(36/360)
ولذلك، فقد مال القرافي إلى الأخذ بمنهج ابن عبد السلام في التقريب بقواعد الشرع، كما تراه في كتابه" قواعد الأحكام" "2/ 9-10"، ولكن الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "6/ 271" تعقب كلام القرافي، وذكر أن فيه نظرا ظاهرا، قال: "وأقول فيما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف نظر ظاهر، فإن العلماء الذين ناطوا بعض المسائل بالعرف إنما وقع ذلك منهم أفذاذا أثناء البحث أو التصنيف، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل، وما اجتمع علماء عصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده، ثم عجزوا عن معرفته وأحالوا في ذلك على العامة، أن من العلماء الفقير البائس والضعيف المنة -أي: القوة والجلد- والغني المترف، والقوي الجلد وغير ذلك، فيشق على بعضهم ما لا يشق على الجمهور، ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الجمهور، فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس وما لا يشق عليهم ضروري لا بد منه، وهو لا يعرف إلا بمباشرة الناس وتعرف شئونهم وأحوالهم".(36/361)
ص -269-…فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا.
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها، فليس بقاصد لرفعها أيضا.
والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها؛ لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره، قل أو جل، إما في نفس العمل المكلف به، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف، وإما فيهما معا، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب، كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله، وذلك غير صحيح، فكان ما يستلزمه غير صحيح.
إلا أن هنا نظرا1، وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال، فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح، ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد، إلى غير ذلك من أعمال التكليف، ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية، فلم تخرج عن المعتاد على الجملة.
ثم إن الأعمال المعتادة2 ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد، في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو محل الفائدة من هذه المسألة، يحقق فيه أن المشقة المعتادة نسبية يحتاج فهمها إلى دقة نظر بالنسبة لكل عمل في ذاته، حتى لا تختلط أنواع المشقات، فتختلط الأحكام المترتبة عليها. "د".
قلت: انظر في حدود المشقة: "الذخيرة" للقرافي "1/ 340- ط دار الغرب".
2 أي: من أعمال التكليف بدليل سابقه ولاحقه. "د".(36/362)
ص -270-…كل وقت، وفي كل مكان، وعلى كل حال، فليس إسباغ الوضوء في السبرات1 يساوي إسباغه في الزمان الحار، ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة، وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد، مع فعله على خلاف ذلك.
وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ2 جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] بعد قوله:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] إلى آخرها.
وقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
وقصة3 كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع سَبْرة، بفتح، فسكون: وهي الغداة الباردة. "د".
2 أي: فالإيمان قد يستتبع الوفاء بواجباته مشقات وفتنًا يجب الصبر عليها، ولا تعد خارجة عن المعتاد في موضوع الإيمان، وهو من أعمال التكليف، وآية الأحزاب فيها مشقة الجهاد دفاعا عن الدين، وطبيعة الجهاد تقتضي مثل هذه المشقة ولا تكون خارجة عن المعتاد في الجهاد، وإن كانت هي في نفسها شاقة، ومدحهم بالصدق فيما عاهدوا الله عليه يقتضي أن ذلك من لوازم عقد الإيمان، وأنه يلزمه الصبر على المشقات بالجهاد وغيره في سبيل المحافظة عليه. "د".(36/363)
3 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2120/ رقم 2769"، وأحمد في "المسند" "3/ 454 و456-459"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وسقتها مع تخريجها في كتابي "الهجر في الكتاب والسنة" "ص157-159".(36/364)
ص -271-…تبوك ومنع1 رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكالمتهم، وإرجاء أمرهم: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118].
وكذلك ما جاء في نكاح الإماء2 عند خشية العنت، ثم قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه في الحقيقة معتاد، ومشقته في مثله مما يعتاد؛ إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة، طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج3 عن المعتاد، وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل، وواسطة هي الغالب والأكثر، فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا4 يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات، وإذا لم تخرج عن المعتاد، لم يكن للشارع قصد في رفعها، كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة فلا يكون فيها رخصة، وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ربما يقال:إن هذا ليس تكليفا لهم، ولكنه نوع من العقوبة؛ لأن غيرهم هو الذي كلف بهجرهم، ولم يكلفوا إلا بهجر نسائهم في آخر المدة تقريبا، وليس هذا من المشقات التي يتوهم فيها الخروج عن المعتاد، فما هو الذي كان يمكنهم فعله ليخلصوا من عقوبة الهجر فلم يفعلوه؟ "د".
2 أي: المشقة في عدم إباحة التزوج بهن إلا عند بلوغ الأمر خوف الزنا، أما ما قبل ذلك من شدة الداعية إلى النكاح، فلا يعتد به وإن كان مشقة، ومع وجود المشقة التي اعتبرت هنا في الرخصة، فقد ندب إلى الصبر عند نكاحهن، فدل على أن المشقة في هذا الباب تقدر بحسبها فيه، لا بحسب نسبتها إلى المشقات في الأبواب الأخرى. "د".
3 في الأصل: "يخرج".
4 في "ط": "ولا".
5 في "ط": "محل خلاف".(36/365)
ص -272-…فحيث قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، ثم قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]، كان هذا موضع شدة؛ لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلا في التخلف، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران: شدة الحر، وبعد الشقة، زائدا على مفارقة الظلال، واستدرار الفواكه والخيرات، وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة، ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد، فلذلك لم يقع في ذلك رخصة، فكذلك أشباهها، وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]: إنما ذلك سعة الإسلام؛ ما جعل الله من التوبة والكفارات1.
وقال عكرمة: ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع2.
وعن عبيد بن عمير، أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس، فسأله عن الحرج، فقال: أولستم العرب؟! [فسألوه ثلاثا، كل ذلك يقول: أولستم العرب؟!] ثم قال: ادع رجلا من هذيل، فقال [له]: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج. قال ابن عباس: ذلك الحرج؛ ما لا مخرج له3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 205-206"، وقال ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1305" قبله: "وثبت صحيحا عن ابن عباس".
قلت: وجاء في الأصل و"خ": ".... ولا مخرج".
2 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1305".
3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 206" بنحوه، وذكره ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1304-1305" بحرفه ونصه.(36/366)
ص -273-…فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له، وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات، وأصل الحرج الضيق، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها، فليس بحرج لغة ولا شرعا، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية؛ وهي التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب1، فقد تبين إذن ما هو من الحرج مقصود الرفع، وما ليس بمقصود الرفع والحمد لله.
فصل:
قال ابن العربي: "إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس، فإنه يسقط، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره"2 انتهى ما قال.
وهو مما ينظر فيه، فإنه إن عني بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد، فالحكم كما قال، ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه، وإلا؛ لزم في أصل التكليف، فإن تصور وقوع اختلاف، فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد، أو من قبيل الخارج عن المعتاد، لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما.
وأيضا، فتسميته خاصا يشاحّ فيه، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص، إذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1هذا كالتفسير لكل آية وقع فيها تعليل التكليف بعلم الله نحو: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وصفوة المقال أن الله يعلم السرائر كما يلعم ما سيكون؛ إذ العلم يتعلق بالمعدوم وبالموجود، وإنما يضع التكاليف؛ لتنكشف سريرة العبد حيث إن الجزاء إنما يترتب على ما يقع، كما أن الأحكام إنما تجري على حسب ما يظهر للعيان، فيرجع التعليل بالعلم إلى التعليل بما يلزمه العلم، وهو التبين أو الانكشاف، ويكون المعنى؛ ليتعلق به علمنا موجودا ظاهرا. "خ".
2 أحكام القرآن" "3/ 1306".(36/367)
ص -274-…ليس مختصًّا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض.
وإن عني بالحرج ما هو خارج عن المعتاد، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة، فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم، وقد شرع فيه التخفيف، فهذا عام، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض؛ إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا، ومنه من يقدر على ذلك، ومنهم من يقدر على الصوم ومنهم من لا يقدر، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه.
ومع ذلك، فقد شرع فيه التخفيف على الجملة، فالظاهر أنه خاص، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي، إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص، وإلا؛ فما من حرج يعد1 أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين، فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم أو خص به أحد أصحابه، كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة2 وشهادة خزيمة3 فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك.
فإن قيل: لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم، وما كان خاصا4 ببعض الأقطار، أو بعض الأزمان، أو بعض الناس، وما أشبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "يقدر".
2 كما سيأتي "ص410"، وهناك تخريجه.
3 كما سيأتي "ص469"، وهناك تخريجه.(36/368)
4 مثل له بعضهم بالمسافر ينقطع عن رفقته ومعه تبر، فيأتي دار الضرب بتبره ويأخذ منها دنانير بقدر ما يتخلص من تبره ويعطيهم أجرة الضرب، قال: وقد أجازها مالك مع انها مصلحة جزئية في شخص معين وحالة معينة. ا.هـ. وهذا غير ظاهر؛ لأن كل مسافر هذه حاله فحكمه هكذا، كما يشير إليه قول المؤلف: "فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي..... إلخ". "د".(36/369)
ص -275-…ذلك1.
فالجواب: إن هذا أيضا مما ينظر فيه، فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص؛ لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين، أو بعض الأزمان المعينة، أو الأمكنة المعينة، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة، أو على وجه لا يقاس عليه غيره، كنهيه2 عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة3، وكتخصيص الكعبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استعمل الأصوليون الكلية والجزئية بهذا المعنى في بحث المصالح التي قد ترجع إلى نوع المشاق، وفسروا الجزئية بما يعرض لبعض الناس أو في حالة مخصوصة، وذكروا الخلاف في حكمها، غير أن المعروف في المذهب المالكي اعتبارها، ومن أمثلتها المسافر يعجله السفر، فيأتي دار الضرب بتبره، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير بمقدار ما يخلص من تبره، وقد أجاز الإمام مالك هذه الصورة لضرورة الانقطاع عن الرفقة، قال الزركشي في "البحر المحيط": ولكنها مصلحة جزئية بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة"."خ".
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء 3/ 1651/ رقم 1971" بسنده إلى عبد عبد الله بن واقد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي". فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟". قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا، وتصدقوا".(36/370)
3 في حاشية الأصل: "الدافة، بالدال المهملة، وتشديد الفاء: "الجماعة الذين يسيرون سيرا خفيفا، وقد ورد منهم على المدينة في زمنه عليه السلام، فنهى الناس عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم أباح ذلك بعد، وقال لما سئل عن النهي إنه من أجل الدافة، أي: لأنهم إذا نهوا عن الإدخار جاءوا به على أولئك القوم الوافدين وأطعموا منه" ا.هـ.
وكتب "د" ما نصه: "الدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، وقد نهي عن الادخار حينذاك ليأكل هؤلاء القادمون منها.(36/371)
ص -276-…بالاستقبال، والمساجد الثلاثة [بما اشتهر من فضلها]1 على سائر المساجد، فتصور مثل هذا2 في مسألة ابن العربي غير متأتٍّ.
فإن قيل: ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره3.
قيل وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم، بل جهة العموم أولى؛ لأن الحرج فيها كلي، بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم، فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده، فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض، وإن سقط سقط في البعض، وهذا متفق عليه بين الإمامين، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك.
فإن قيل: لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا، وهو عام، كالتراب والطحلب وشبه ذلك، أو خاص كما إذا كان عدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في الأصل ما بين المعقوفتين بعد عبارة: "سائر المساجد".
2 أي: فخصوص مثل الخصوص في هذه الأمثلة التي أشار إليها لا يعقل هنا في كلام ابن العربي، فلا يمكن حمل الخصوص في كلامه عليه وغرضه بكثرة الاحتمالات التي يطرقها ثم ينفيها أخذ الطريق على ابن العربي في جملته هذه. "د".
3 في "ط": "أو لغيره".(36/372)
ص -277-…الانفكاك خاصا ببعض المياه، فإن حكم الأول ساقط لعمومه، والثاني مختلف فيه لخصوصه، وكذلك اختلف في ماء البحر: هل هو طهور أم لا؟ لأنه متغير خاص، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف، والطلاق قبل النكاح1 إن كان عاما سقط، وإن كان خاصا ففيه خلاف، كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكر أتزوجها أو كل ثيب وما أشبه2 ذلك، فهي طالق، ومثله كل أمة اشتريتها فهي حرة، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص3، كما لو قال:كل حرة أتزوجها طالق، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط، فإن قال فيه: كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا، وجرى فيه الخلاف، وأشباه ذلك من المسائل.
فالجواب أن هذا ممكن، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه، إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه4، لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل: "انظر هذا، فإن حمل مسألة الطلاق قبل الملك على عموم الحرج وخصوصه يقتضي أن سبب خلاف الإمامين مراعاة الحرج وعدمه وليس كذلك، وإنما سبب الخلاف مراعاة الملك التقديري في الخاص عند مالك وعدم مراعاته مطلقا عن الشافعي، كذا قيل، وفيه نظر، والصواب ما عند المصنف، فإن مالكا اعتبر الملك التقديري في الخاص لعموم الحرج أو غلبته فيه وإلا فلا فرق، فلو كان....".
2 في الأصل: "أو".
3 لأنه له نكاح غير الإماء، أما الملك فلا يكون لغير الإمام، وقد عمم الحرج بهذه الصيغة، فوسع عليه بإسقاط ما تقتضيه تلك الضيغة، فله أن يملك الإماء، ولكن ليس له نكاحهن، عملا بالعموم في الأول، والخصوص في الثاني. "د".(36/373)
4 أي: فالخلاف بالاعتبار وعدمه في المذهبين يكون من الخلاف في الفروع لا في الأصول، ولكن ابن العربي نقله على أنه خلاف في الأصول كما هو صريح عبارته، يقول المؤلف: إذا ثبت هذا الخلاف الذي يعزوه ابن العربي إلى المذهبين، كان المراد به ما شرحه المؤلف في هذا الوجه، وكان مقتضى قواعد الأصولية مصححا له لكن على أنه نظر فقهي لا أصولي. "د"(36/374)
ص -278-…بالنسبة إلى نظر الأصول، إلا أنه1 إذا ثبت الخلاف، فهو المراد هنا2 والنظر الأصولي يقتضي ما قال، فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه، كالأمثلة المتقدمة، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه، فليس بحرج عام بإطلاق، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر وإن كان أخف؛ إذ لا يطَّرد الانفكاك عنه دون مشقة؛ لاختلاف أحوال الناس في ذلك.
وأيضا، فكما لا يطَّرد الانفكاك عند دون مشقة كذلك لا يطَّرد مع وجودها، فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة: الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية، ويقابله طرف خاص يطَّرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ": "لأنه".
2 في "ط": "ها هنا".(36/375)
ص -279-…المسألة الثانية عشرة:
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].
وأشباه ذلك.
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر؛ ليحصل الاعتدال فيه، فِعْلَ الطبيب الرفيق [أن]1 يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به2 في جميع أحواله.
أولا ترى أن الله تعالى خاطب الناس3 في ابتداء التكليف خطاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل فقط.
2 في "ط" "فيه".
3 الترتيب في ذاته صحيح، وأنه تعالى بدأ بإرشاد الخلق وإنارة عقولهم بالحقائق المتعلقة بخلقهم، وبث النعم في هذه الوجود لأجلهم، ولم يصل إلى تكليفهم بعد أصل الإيمان والكليات التي سيشير إليها المؤلف في الكتاب عند الكلام على التكاليف المكية والمدنية، إلا بعد بيانات وإرشادات وإعدادات للعقول إلى فهم هذه التكاليف، هذا مفهوم، ولكن غير المفهوم استشهاده بالآية الأولى وجعلها مما أنزل في ابتداء التكليف مع أنها مدنية، وكان يمكنه أن يجد ما اشتملت =(36/376)
ص -280-…التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم، كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 32-34].
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].
إلى آخر ما عد لهم من النعم، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته فلما لم يلتفتوا إليها؛ لرغبتهم في العاجلة، أخبروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(36/377)
= عليه في آيات مكية، كقوله تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} إلخ، وفي سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلخ، وكالآية الثانية التي ذكرها من سورة إبراهيم؛ لأنها مكية، ثم قوله بعد: فلما عاندوا، أقيمت عليهم البراهين القاطعة، أي: وذلك في آيات مكية أيضا كما في سورة ق، انظر [كتاب الفوائد" "ص5-18" و"التبيان" "425-426" كلاهما" لابن القيم في الاستدلال بها على البعث وقدرة الله، وقوله: "فلما لم يلتفتوا إليها، أُخبِروا بحقيقتها، وضربت لهم الأمثال"، كما في الآيتين بعده وهما مكيتان ولو كان بدلهما مدني لما أضر بترتيبه، ولا ينافي هذا كله أن تكون هذه المعاني في المواطن الثلاثة وجدت أيضا في السور المدنية من باب التوكيد والتقرير، إلا أنه يبقى الكلام في أن هذه الآيات التي اختارها في المعاني الثلاثة مرتبة في النزول حسبما جاء في ترتيبه هو، فعليك بمراجعة تواريخها في النزول؛ لتعرف هل يتم له تقريره في هذا الترتب؟ "د".(36/378)
ص -281-…بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلَا شيء؛ لأنها زائلة فانية.
وضربت لهم الأمثال في ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [يونس: 24].
وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}1 [إلى آخر الآية] [الحديد:20].
وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا2 إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا"3.
ولما4 لم يظهر ذلك ولا مظنته، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط" بعدها: {وَزِينَةَ}.
2 يعني: وأنه مظنة لذلك كما أشار إليه سابقا. "د".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/ 244/ رقم 6427" من حديث أبي سعيد مرفوعا، "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا"، وذكر أشياء، منها ما تقدم عند المصنف "1/ 177".(36/379)
4 المراد من كلام المؤلف في مثل هذا أنه قال هذا في مقام كذا، وقال ذلك في مقام كذا، لا أن هناك في الخارج هذا الترتيب، وإلا؛ فالحديث قاله صلى الله عليه وسلم على المنبر في المدينة، والآية في الأعراف وهي مكية، وكذا الآية الثانية في المؤمنون المكية "د".(36/380)
ص -282-…ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم1، والوعيد فيه والتشديد، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}2 [فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فنزل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فخفف عنهم بسبب ذلك مع أن قليل الظلم وكثيره منهيٌّ عنه، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية؛ لقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
ولما قال عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمن خان"3، شق ذلك عليهم؛ إذ لا يسلم أحد من شيء منه، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر4.
وكذلك لما5 نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284] شق عليهم، فنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقارف6 بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له، فسئل في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المطلق الشامل لشرك وغيره من المعاصي. "د".
2 المعروف أن الظلم في الآية هو الشرك كما ورد تفسيره في الحديث بآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، ولو رجع قوله: "شق ذلك عليهم" للآية والحديث، وزاد كلمة: "بظلم" قبل قوله: "بكذب" لكان جيدا، وبغير هذا لا يكون لذكر آية الظلم موقع، وفي الواقع هي والحديث بعدها من وادٍ واحد في أنها لما نزلت شق عليهم، ففسرت بما يخفف وقعها عليهم، حيث قالوا: أينا لم يظلم؟ أو نحوه، والتفسير أن رُد إلى الطريق الأعدل. "د" "استدراك5".(36/381)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89/ رقم 23 ومسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/78/ رقم 59"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق/ رقم 2623"، النسائي في "المجتبى" "كتاب الإيمان باب علامة المنافق 8/ 117".
4 ستأتي هذه التتمة في "3/ 402".
5 مضى تخريجه "ص210، وهو صحيح.
6 في "خ": "قارن".(36/382)
ص -283-…رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل1 الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن إسحاق في "السيرة" -كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 475"، ومن طريقه أبو بكر النجاد في "مسند عمر" "ق 124/ أ-ب"، والبزار في "البحر الزخار" "1/ 258-260 / رقم 155"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 435"، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي- وابن جرير في "التفسير" "24/ 11"، قال: حدثني نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اعتدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي الميضأة ميضأة بنى غفار، فوق سرف وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس، فلينطلق صاحباه، فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا المدينة فنزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة فكلماه، فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك فَرَقَّ لها، فقلت له: يا عياش1 إنه والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد أذى أمك القمل لقد امتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة- أحسبه قال: لاستظلت- فقال: إن لي هناك مالا فأخذه. قال: قلت والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ ألا أن يخرج معهما. فقلت لما لما أبى عليَّ: أما إذ فعلت ما فعلت: فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل ابن هشام: والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه وأوثقاه ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن. قال: وكنا نقول:(36/383)
والله لا يقبل الله ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا تقبل توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}، قال عمر: فكتبتها في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طول أصعد بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفسي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت، فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة".
قال البزار عقبه: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا نعلم روي عن عمر متصلا إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وإسناده صحيح على شرط مسلم، فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث.(36/384)
ص -284-…ولما ذم الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني"1.
ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، والمال والولد هي الدنيا2، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه، فلا.
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة، وأنه جزاء لأعمالهم، فنسب إليهم3 أعمالا وأضافها إليهم بقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
ونفى المنة به عليهم في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}4 [التين: 6].
فلما منُّوا بأعمالهم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه؛ لأنه مقطع حق، وسلب5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 522".
2 أي: التي قد ذمها: "د".
3 في "ط": "لهم".
4 جارٍ على أن المعنى غير ممنون به، وأكثر المفسرين على تفسيره بأنه غير مقطوع. "د".
5 فلم يضف العمل لهم، بل أضافه لنفسه ومَنَّ به عليهم بخلاف غيرهم، فإنه أضافه لهم وسلب المنة فيه عنهم. "د".(36/385)
ص -285-…عنهم ما أضاف إلى الآخرين، بقوله: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، كذلك أيضا، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج1 الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار، فقال عليه السلام: "اسق يا زبير -فأمره بالمعروف- وأرسل الماء إلى جارك": فقال الرجل: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر"، واستوفى له حقه، فقال الزبير: إن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]2.
وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها.
وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر، يعطي الغذاء ابتداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشراج: جمع شرجة، بفتح، فسكون، وهي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة: أرض ذات حجارة سود، وهي هنا اسم لمكان خاص قرب المدينة. "د".(36/386)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار 5/ 34/ رقم 2359/ 2360، وكتاب التفسير، باب: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} 8/ 254/ رقم 4585، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء 3/ 644/ رقم 1363، وأبواب التفسير، باب ومن سورة النساء 5/ 238-239/ رقم 3027"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 391/ رقم 130"، و"المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب إشارة الحاكم بالرفق 8/ 245"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، أبواب من القضاء 3/ 315-316/ رقم 3637" وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه 1/ 7-8/ رقم 15، وكتاب الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء 2/ 829/ رقم 2480" عن عبد الله ابن الزبير.(36/387)
ص -286-…على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي؛ أهو غذاء، أم سم، أم غير ذلك؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر؛ ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي، والصحة المطلوبة، وهذا غاية الرفق، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه.
فصل:
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.
فطرف التشديد -وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف -وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى1،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(36/388)
1 الميل عن التوسط الصالح لأن يكون علاجا للأنفس إنما يصح في العمل ذي الوجوه الجائزة كالعزيمة والرخصة، أما في الفتوى، فقد سوغ بعض أهل العلم للمجتهد أن ينظر إلى حال المكلف المعين ويأخذ له في الفتوى بقول غيره من الصحابة والتابعين عندما يفهم من حاله أنه إن أفتاه بالقول الراجح في نظره، لم يقبل الفتوى، وأفضت به الاستهانة بأمر الدين إلى اقتحام ما هو أشد من المخالفات، وممن قرر المسألة على هذا الوجه وقصر النظر فيها على المجتهد دون المقلد أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم"، ولكنا لم نظفر بدليل يشهد بصحة أن يفتي المجتهد بغير ما يراه القول الحق، وسيمر بك تحقيق هذا في بحث العمل بالقول الراجح. "خ".(36/389)
ص -287-…وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما، وما قابلها.
والتوسط يعرف بالشرع1، وقد يعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من المفيد أن يعلم أن "الوسط" في نصوص الشرع ليس فقط ما يكون بين شيئين، وإنما جاء بمعنى: العدل الخيار، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، والوسطى بمعنى خيرها وأعدلها وأفضلها، وقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، أي: خيره وأعدله، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: خيارا عدولا، والمقصود من ذلك جميعه أن يفهم أن الوسطية في الدين هي الخيرية والعدالة الدينية.
انظر: "تنوير الأفهام لبعض مفاهيم الإسلام" "ص51" للشيخ محمد شقرة، و"الحقيقة الشرعية" "174".(36/390)
ص -289-…النوع الرابع: في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى:
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف1 عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا2.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله، والدخول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا قصد آخر للشارع من وضع الشريعة غير النوع الأول الذي قرره من أن مقصد الشرع إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي، ولا تنافي بين القصدين، إنما المطلوب منك معرفة الفرق بين القصدين، حتى تميز المباحث الخاصة بكل منهما، فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام، والانقياد له لا لهواه، وهكذا تجد مسائل النوع الأول كلها في تفاصيله، وكذلك سائر الأنواع بطريق الاستقراء التام. "د".
قلت: ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما، ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضا في التفريق بينهما.
2 نحوه في "الاعتصام" "1/ 434- ط دار المعرفة و1/ 134-135- ط محمد رشيد رضا" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 346-347، 479"، و"المرآة" "1/ 294- بحاشية الإزميري".(36/391)
ص -290-…تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57]
وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة، كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام، وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق، وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال، وهو معنى التعبد لله.
والثاني:
ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العادل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}...الآية [ص: 26].(36/392)
ص -291-…وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].
وقال في قسيمه1: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك، فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجَّه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
وقال: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وتأمل، فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس، أنه قال: "ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه"1 فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن الجوزي في "ذم الهوى" "ص18"، وعزاه لابن عباس، ولم ينسبه لأحد، ثم وجدته في "الاعتصام" "2/ 688- ط ابن عفان" معزوا لطاوس، قال: "حكى ابن وهب عن طاوس....." "وذكره".
وأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص123" بسنده إلى سليمان الأحول قوله.(36/393)
ص -292-…والثالث:
ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهارج1 والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي2، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، واطِّراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يُستدَل عليه3.
وإذا كان كذلك، لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم، فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار؛ إذ يقال له: "افعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، و"لا تفعل كذا". كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوىً باعث على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهَرْج: القتل والفتنة.
2 أي: من يعد متبعا لهواه بحسب ما يؤدي إليه النظر العقلي عندهم، وقد اطردت العوائد عندهم أن هذا الكف يترتب عليه ما أرادوا من إقامة المصالح. "د".
3 يتفق المصنف في كلامه هذا مع أحداث الآراء الفلسفية التي تُرجع انهيار الحضارات إلى الأهواء الجامحة، كما تراه مثلا في كتاب "منبعا الأخلاق والدين" "ص277" لبرقسون، وسبقه إلى هذا ابن القيم؛ قال في "إعلام الموقعين" "1/ 72": "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم الفساد".(36/394)
ص -293-…مقتضى الأمر أو النهى، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام -وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض، وقد لا يكون؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يودُّ لو كان المباح الفلاني ممنوعا، حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق.
وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس، فلا يستتبُّ في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتِّباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
فإذن، إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاء من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله.
فإن قيل: وضع الشرائع، إما أن يكون عبثا، أو لحكمة، فالأول باطل باتفاق، وقد قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}1 [المؤمنون: 115].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بل لحكمة تقتضي تكليفكم وبعثكم للجزاء، فهي توبيخ للكفار على تغافلهم، وإرشاد إلى أن الشريعة وضعت لحكمة، ولو زاد كلمة "إلخ"، لكان أحسن؛ لأن ظهور الإشارة تام في قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. "د".(36/395)
ص -294-…وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}1 [ص: 27].
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38-39].
وإن كان لحكمة ومصلحة، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال؛ لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبقَ إلا رجوعها إلى العباد، وذلك مقتضى أغراضهم؛ لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه، وما يوافق هواه في دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف، فكيف ينفي أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم؟
وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت2 لهم حظوظهم تفضلًا من الله تعالى على ما يقوله المحققون، أو وجوبًا على ما يزعمه المعتزلة، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا، كان ما ينافيه باطلا.
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا3 كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الباطل ما لا حكمة فيه، والآية مقررة لما قبلها من أمر المَعاد والحساب، ولا يكون إلا بعد شرع وبيان، والآية بعدها مثلها، فإن معنى اللعب واللهو ما لا حكمة فيه، وبما ذكرناه ظهر وجه الاستدلال بالآيات، فلا يقال: إن الآيات في أصل الخلق لا في وضع الشريعة. "د".
2 في "د": "ثبَّتت".
3 في الأصل و"ط": "ولذلك".(36/396)
ص -295-…العاجل والآجل، فصحيح1 ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظاهر، وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم؛ لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع، لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا ههنا.
فصل:
فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد:
- منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهى أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الموطأ": "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحْفَظُ فيه حدود القرآن، وتُضَيَّع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يُعطِي، يطيلون فيه الصلاة ويُقْصِرُون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما المعاملات، فأثرها في المصالح العاجلة بانتظام حياة الاجتماع والتمتع بنعمة الاستقلال وعزة الجانب، وأما العبادات، فلما في إقامتها من الفوز برضا الخالق الذي هو مبدأ فيضان النعم الروحية، من اطمئنان النفس، وراحة الضمير، واحتقار متاع هذه الحياة، وقلة المبالاة بنوائب البأساء والضراء، وهذه النعم التي هي ملاك الحياة الطيبة ملازمة للقيام بالأعمال الصالحة ملازَمة النتائج لمقدماتها الصحيحة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. "خ".(36/397)
2 فعملهم يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم فيه، فإذن عملهم يُحمَل عليه شيء آخر غير الهوى، وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله، أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل، فليسوا فيه متبعين للهوى، بخلاف الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه؛ فإن المتغلب عليه في العمل هواه، وشتان بين الفريقين. "د".(36/398)
ص -296-…وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم"1.
فأما العبادات، فكونها باطلة ظاهر، وأما العادات، فذلك2 من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب.
وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهى أو التخيير، فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى من طريقة الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 173" عن يحيى بن سعيد، أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان..... "وذكره".
وإسناده منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يسمع من ابن مسعود شيئا، لكن قال ابن عبد البر في "الاستذكار" 6/ 345": "إن هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة".
قلت: نعم، أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "109" بإسناد حسن، ولكنه مختصر، وأخرجه من طرق عن ابن مسعود البخاريُّ في "الأدب المفرد" "رقم 789"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 3787"، ومن طريقه وغيره الطبراني في "الكبير" "9/ 345/ رقم 9496، 8567".
وحسنه ابن حجر في "الفتح" "10/ 510"، وشيخنا الألباني في "صحيح الأدب المفرد" "رقم 605".
قلت: ووقع في "خ" محرفا: "فقاؤه" في الموضع الثاني منه.
2 في نسخة "ماء/ ص179": "فكذلك".(36/399)
ص -297-…فكان كله صوابا، وهو ظاهر.
وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولا بهما، فالحكم للغالب1 والسابق2، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع، فلا إشكال في إلحاقه3 بالقسم الثاني، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة؛ لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة؛ لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعا، فلا ضرر على العامل.
إلا أن هنا شرطا معتبرا، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّلَ أو يُحَصِّل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض، وإلا، فليس السابق فيه أمر الشارع، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه.
وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع، فهو لاحق بالقسم الأول.
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك، فكل عمل شارك العاملَ فيه هواه، فانظر؛ فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع4، فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع، وهواه تَبَع، وإن لم يكفَّ عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف، دل عل أن هواه تبع، وإلا؛ دل على أنه السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: الأقوى في الحمل على الفعل، والذي سبق إلى النفس منهما. "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "لحاقه".
4 في "ط" زيادة "له".(36/400)
ص -298-…فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود1؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا.
أما أولا: فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي؛ لأنه مضاد لها.
وأما ثانيا، فإنه إذا اتبع واعتيد، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا.
وأما ثالثا: فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلَّقوا عليه، وانتفعوا به، وأمُّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة، من الصلاة، والصوم، وطلب العلم، والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير، فإذا دخل عليه ذلك، كان للنفس به بهجة وأنس، وغنى ولذة، ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف"، أو كما قال، وإذا كان كذلك، فلعل النفس تنزع3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء/ ص179": "وذا حقيق".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "4/ 127" و"سلوة الأحزان" "رقم 198"، وأبو نعيم "7/ 370".(36/401)
3 وتشتد رغبتها في القيام بالصلاة والصيام والخلوة للعبادة؛ ليزداد أنسها وبهجتها، ولذتها ونعيمها، وإكرامها بالكرامات وزيادة القبول في الأرض، وكل هذا هوى خالط المحمود من العمل، لكنه قد يسبق إلى النفس، فيخسر صاحبه مرتبته. "د".(36/402)
ص -299-…إلى مقدمات تلك النتائج، فتكون سابقة للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله، هذا وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة، فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره ههنا.
فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير1 كالآلة المعدة لاقتناص2 أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس، وبيان هذا ظاهر، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرًا، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث3 أصل ابتداعها اتباع أهوائها، دون توخي مقاصد الشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "حتى تصير".
2 في نسخة "ماء/ ص179": "الانتقاص".
3 سيأتي نصه وتخريجه "ص335".(36/403)
ص -300-…المسألة الثانية:
المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة1.
فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلَّف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا: إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية؛ لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية، وإلى ضرورية كفائية.
فأما كونها عينية، فعلى كل مكلَّف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه2 اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضروريات حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة3 بالرحمة على المخلوق من مائة، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الاوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لجر عليه، ولحيل بينه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وفي نسخة "ماء/ ص 180": "تابعية".
2 يحتاج المقام لبيان القدر الذي لا حظ فيه للنفس من هذه الأمور الخمسة، فحفظ نفسه بألا يعرضها للهلاك كأن يقذف بنفسه في مهواة، ودينه بأن يتعلم ما يدفع عن نفسه به الشُّبَه التي تورد عليه مثلا، وعقله بأن يمتنع عما يكون سببا في ذهابه أو غيبوبته، بأي سبب من الأسباب، ونسله بألا يضع شهوته إلا حيث أحلَّ الله حتى تحفظ، وماله بألا يتلفه بحرق أو نحوه مما يوجب عدم الانتفاع به، وبهذا يظهر قوله: "أنه لو فرض اختياره لغير هذه الأمور لحجر عليه"، أما حفظ نفسه بالتحرف والتسبب لينال ما تقوم به حياته من لباس ومسكن وهكذا، فهذا من النوع الثاني، أي: المقاصد التابعة التي فيها حظه، وإن كان ضروريا أيضا كما سيأتي: "د".
3 صفة للأنساب، وقوله: "الرحمة" متعلق بالعاطفة، أي: الأنساب التي من شأنها أن تتعطف الوالد على والده بالرحمة والإحسان. "د".(36/404)
ص -301-…وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ، محكوما عليه في نفسه، وإن صار له فيها حظ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي.
وأما كونها كفائية، فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضروريا؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، وإلا صار عينيا1، بل بإقامة الوجود، وحقيقته2 أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك؛ فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله3، فضلا عن أن يقوم بقبيلة، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة، حتى قام الملك في الأرض.
ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر4 ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه5، ولا لحاكم على حكمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "عينا".
2 أي: القائم الكفائي
3 في "ط": "بجميع ما يحتاج إليه".
4 وإنما قال في ظاهر الأمر لأنه وإن لم يأخذ الأجر من خصوص من ترافعوا إليه، فإنه يأخذه من بيت المال الذي يأتي دخله ممن ترافعوا ومن غيرهم، إلا أن هذا ليس كالأجر الذي يأخذه من أرباب القضايا مباشرة، فهو لا يؤثر في ذمته ولا يبعثه على أن يغير حكما حقا رآه بين المتخاصمين، كما هو ظاهر. "د".(36/405)
5 قرر القرافي في "الفرق الخامس عشر والمئة" بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات أن القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعا، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعا لأن الأرزاق عامة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنها عوض عما يجب عليهم من تنفيذ الحكم عند قيام الحِجاج ونهوضها. "خ".(36/406)
ص -302-…ولا لمفت على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة1 هنا مؤدٍ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات.
وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وبالنظر فيه يتبين2 أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها، ولا قصد المعاوضة فيها، ولا نيل مطلوب دنيوي بها، وأن تركها سبب للعقاب والأدب، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة3؛ لأن في تركها أي مفسدة في العالم.
وأما المقاصد التابعة4، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأخذ الرشوة أو القضاء وما أشبه، يؤدي إلى مفسدة عامة هي الجور وعدم الاستقامة في تأدية واجبات الولاية والقضاء، من رعاية العدالة والنصفة بين الناس، والبعد عن تهمة التحيز. "د".
2 لأنه مسلوب الحظ فيها، وليس له الخيرة في التخلي عنها. "د".
3 هذا إذا تعين النظر على الشخص بوجه من وجوه التعين. "د".
4 وهي التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها، بل وكل إلى اختياره أن يتعلق بما يميل إليه وتقوى منته عليه، فلم يلزم بالتجارة دون الصناعة، ولا بالتعليم دون الزراعة، وهكذا من ضروب التسببات التي لا يسعها التفصيل، فهذه كلها مكملة للمقاصد الأصلية وخادمة لها؛ لأنها لا تقوم في الخارج إلا بها، ولو عدمت التابعة رأسا لم تتحقق الأصلية لتوقفها عليها، وفرق آخر، وهو أن الأصلية واجبة والتابعة مباحة: "أي: بالجزء كما تقدم في المسألة الثانية من المباح": وسيأتي له في المسألة التالية عدها من الضروريات أيضا كالمقاصد الأصلية. "د".(36/407)
ص -303-…يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش؛ ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن، ثم خلق الجنة والنار، وأرسل [الرسل]1 مبينة أن الاستقرار ليس ههنا، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع، أو الخروج عنه، فأخذ2 المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور، فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه.
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ، فإنه المالك وله الحجة البالغة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص183": "مأخذ".(36/408)
ص -304-…ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد.(36/409)
ص -305-…المسألة الثالثة1:
قد تحصَّلَ إذن أن الضروريات ضربان:
أحدهما:
ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام2 الإنسان بمصالح نفسه وعياله، في الاقتيات، واتخاذ السكن3، والمسكن واللباس، وما يلحق بها من المتممات، كالبيوع، والإجارات، والأنكحة، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية.
والثاني:
ما ليس فيه حظ عاجل مقصود4، كان من فروض الأعيان كالعبادات5 البدنية والمالية، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات، كالولايات العامة، من6 الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة7، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام.
فأما الأول:
فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل، وباعث من نفسه يستدعيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف تحتها تعميق لما في "البرهان" "2/ 919، 938"، للجويني.
2 في الأصل: "لقيام".
3 أي: الزوجة "د".
4 إنما قال: "مقصود" لأن في فروض الكفاية كالولاية حظا عاجلا، كعزة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر، وهكذا مما سيأتي له، إلا أنه غير مقصود شرعا، بل منهي عنه أشد النهي، وسيأتي له تفسير الحظ المقصود بعد. "د".
5 وكغير العبادات، من سائر الضروريات التي ليس فيها حظ عاجل، كما تقدم إيضاحه، "د".
6 في الأصل: "والخلافة".
7 النقابة والعرافة منصب دون الرئاسة، ويطلق على صاحبه "النقيب" و"العريف".(36/410)
ص -306-…إلى طلب ما يحتاج إليه، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك، لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه1، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة، كقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وما أشبه ذلك، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا2؛ لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب، فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب، حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية3، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما بالنسبة إلى غيره كالأقارب والزوجات مما لم يكن الداعي للنفس فيه قويا، فسيأتي أن الشارع يوجبه. "د".
2 قد يقال: إذن يكون واجبا كفائيا، وإلا لاختل حد الأحكام الخمسة، إلا أن يقال: إن هذا من المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل كما تقدم في الأحكام، فيصح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوبا بالجزء. "د".(36/411)
3 صرح الإمام الغزالي في كتاب "الوسيط" بأن الحِرف والصنائع لا تندرج في فرض الكفاية، والصواب ما جرى عليه المصنف من دخولها في هذا القبيل، ولا مخلص من إثم الجميع متى تظافروا على ترك حرفة يحتاج إليها في وسائل القوة أو مرافق الحياة، والشعب الذي لا يعني بالصنائع ويعول على أن يستمد حاجاته من أمة أخرى، لا يلبث أن يقع في غمرة بؤس وشقاء، واختلال الحالة الاقتصادية مطية إلى الإفلاس في السياسة، والابتلاء بسيطرة أجنبي يعبث بحقائق الدين وتجول يده في الأموال والثمرات، ويسوق النفوس الشريفة إلى عارٍ خالد أو موتة خاسرة. "خ".
قلت: ورجح ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "18/ 82" أن الحرف من باب فرض الكفاية، ومتى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، وكان الناس محتاجين إليها.(36/412)
ص -307-…لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب1، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان:
قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة، كقيامه بمصالح نفسه مباشرة.
وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير، كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد، والاكتساب بما للغير فيه مصلحة، كالإجارات، والكراء، والتجارة، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير، خدمة دائرة بين الخلق، كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع.
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر، وهذه حكمة بالغة، ولما كان النظر هكذا، وكانت جهة الداعي كالمتروكة2 إلى ما يقتضيه، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم3، بل هو على الضد من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالتكسب لنفقة هؤلاء واجب. "د".
2 فلم توجب، بل ندب إليها، أو ذكرت في معرض الإباحة. "د".
3 أي: لما كان الداعي هو المتسلط وحده على الإنسان يدعوه إلى طلب المصلحة ودرء المفسدة من أي طريق كان، وكان ما يناقض الداعي وهو ما يقتضي عدم الدخول في طلب مصلحته ودرء مفسدته ليس له من جهة الطبع ما يخدمه ويعين عليه، صار من الحكمة تخفيف وطأة هذا الداعي بالزواجر الشديدة عن السير وراء الداعي في كل شيء ليقف عند حد عدم المساس بحقوق الغير. "د".(36/413)
ص -308-…أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا، والإيعاد بالنار في الآخرة، كالنهي عن قتل النفس والزنى، والخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامي، وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة، وأشباه ذلك، فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء.
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه، فإن عز السلطان، وشرف الولايات، ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بهم جاريا مجرى الندب لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها، وأكد النظر في مخالفة الداعي، فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها، كقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إلى آخرها.
وفي الحديث: "لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها"1، أو كما قال.
وجاء النهي عن غلول الأمراء2، وعن عدم النصح في الإمارة3، لما كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
2 من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول"، وسيأتي تخريجه "3/ 118".(36/414)
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، 13/ 126-127/ رقم 7150/ 7151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1/ 125/ رقم 227، وكتاب الإمارة، باب فضيلة الإم العادل، 3/ 1460" عن معقل بن يسار مرفوعا: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".(36/415)
ص -309-…هذا كله على خلاف الداعي من النفس، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات.
وأما قسم الأعيان، فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب، ونفيه بالتحريم، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [الباعث عليه، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب]، فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات، بل هي خالصة لله رب العالمين، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان، ونخوة الولاية، وشرف الأمر والنهي، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره، لا ينكر، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم1 حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع، بل هو مطلوب متأكد، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك2، وقد قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن يكون ذلك من بيت المال لا بالرشوة، ولا بهدايا الخصوم، ولا بأجر منهم. "د".(36/416)
2 تقوم الأمة بنفقة ولاة الأمور، وهي التي تفرض لهم من بيت المال ما يكفي لسداد حاجاتهم بالمعروف، ولا حق للوالي في أن يعد ما في الخزينة العامة بمنزلة تراث أبيه وجده، فيرمي فيه في سبيل أهوائه الواسعة، وإلى الله المشتكى من ذلك التصرف الذي انطلقت به أيدي كثير من الأمراء والوزراء في بعض الممالك الإسلامية حتى سقطت في بؤس وغرقت دولها في ديون اتخذها الأجنبي في وسائل امتلاك البلاد والقبض على زمام سياستها. "خ". قلت: وقال ابن خلدون في "مقدمته" "ص322": "إن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش"، وانظر: "الإشارة في محاسن التجارة" "38"، و"الأحكام السلطانية" "ص120" للماوردي، و"الأموال" "ص469" لأبي عبيد، و"تحرير المقال" للبلاطنسي.
وكان المصنف رحمه الله ممن يرى رأي من يجيز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما تراه في ترجمته انظر على سبيل المثال: "نيل الابتهاج" "49" ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 131"، وانظر: "فتاوى الشاطبي" "ص187-188".(36/417)
ص -310-…{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} الآية [طه: 132].
وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وفي الحديث: "من طلب العلم، تكفل الله برزقه"1.
إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سببب لإنجاز ما عند الله من الرزق.
فصل:
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "تاريخه" "3/ 180"، و"الجامع" "رقم 69" والشجري في "أماليه" "1/ 60" من حديث زياد بن الحارث الصدائي مرفوعا.
قال الخطيب: "غريب من حديث الثوري عن أبيه عن جده، لا أعلم رواه إلا يونس بن عطاء"
قلت: ويونس بن عطاء قال عنه ابن حبان: "يروي العجائب، لا يجوز الاحتجاج به"، وانظر له: "الميزان" "4/ 482" فالحديث مرفوعا ضعيف جدا، ولعله من قول الثوري، والله أعلم.(36/418)
ص -311-…يحصل فيه1 العمل المبرأ من الحظ.
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أوَّلًا من حظ نفسه وماله، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم، ووضع القبول لهم في الأرض، حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم، وما يخصون به من انشراح الصدور، وتنوير القلوب، وإجابة الدعوات، والإتحاف بأنواع الكرامات، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة: "من آذى لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة"2.
وأيضا، فإذا كان مَن هذا وصفُه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه، وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكلفوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم، من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه، وما له في الآخرة من النعيم أعظم.
وأما الثاني:
فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر، فإن أكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يحصل بسببه العمل المطلوب منه الذي جعل مما لا حظ فيه كإقامة الحياة بسائر أسبابها من أكل وشرب ولباس ومسكن وغيرها، فالقسم الذي فيه للمكلف حظ يحصل بسبب القسم الذي لا حظ فيه. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع 11/ 340-341/ رقم 6502".(36/419)