ص -187-…الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف
الثاني: أنه لا يتعين رجوعه إلى الأخير بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين؟!
الثالث: أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط والصفة ويسلم أكثرهم عموم ذلك ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة لأنه المستيقن .
حجة الواقفية:
أنه إذا بطل التعميم والتخصيص لأن كل واحد تحكم ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما لا يمكن الحكم بأن أحدهما حقيقة والآخر مجاز فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخرة
وهذا هو الأحق
وإن لم يكن بد من رفع التوقف فمذهب المعممين أولى لأن الواو ظاهرة في العطف وذلك يوجب نوعا من الاتحاديين بين المعطوف والمعطوف عليه لكن الواو محتمل أيضا للابتداء كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج:5]وقوله عز وجل{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ }[الشورى: من الآية24](31/193)
والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول والاقتصار على الأخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة كقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا }[النور: 5-4]فقوله تعالى{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا }[النور: من الآية5 ]لا يرجع إلى الجلد ويرجع إلى الفسق وهل يرجع إلى الشهادة(31/194)
ص -188-…فيه خلاف وقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا }[النساء: من الآية92]يرجع إلى الأخير وهو الدية لأن التصدق لا يؤثر في الإعتاق وقوله تعالى{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:89] فقوله {فمن لم يجد} يرجع إلى الخصال الثلاثة وقوله تعالى{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً }[النساء:83] فهذا يبعد حمله على الذي يليه لأنه يؤذي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ورحمته فقيل أنه محمول على قوله { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: من الآية83] منهم لتقصير وإهمال وغلط وقيل إنه يرجع إلى قوله {أَذَاعُوا بِهِ } ولا يبعد أن يرجع إلى الأخير ومعناه ولولا فصل الله عليكم ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لأتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة كأويس القرني وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده واتباع رسوله قبله
القول في دخول الشرط على الكلام
اعلم أن الشرط عبارة عما لا يوجد المشروط مع عدمه لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده(31/195)
وبه يفارق العلة إذ العلة يلزم وجودها وجود المعلول والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده
والشرط عقلي وشرعي ولغوي :
والعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة والمحل للحياة إذ الحياة تنتفي بانتفاء المحل فإنه لا بد لها من محل ولا يلزم وجودها بوجود المحل
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم(31/196)
ص -189-…واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وإن جئتني أكرمتك فإن مقتضاه في اللسان باتفاق أهل اللغة اختصاص الإكرام بالمجيء فإنه إن كان يكرمه دون المجيء لم يكن كلامه اشتراطا فنزل الشرط منزلة تخصيص العموم ومنزلة الاستثناء إذ لا فرق بين قوله فاقتلوا المشركين التوبة إلا أن يكونوا أهل عهد وبين أن يقول اقتلوا المشركين إن كانوا حربيين
وكل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء حتى يجعله متكلما بالباقي لا إنه مخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج نعم كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال فإذا قال أنت طالق إن دخلت الدار فمعناه أنك عند الدخول طالق فكأنه لم يتكلم بالطلاق إلا بالإضافة إلى حال الدخول أما أن نقول تكلم بالطلاق عاما مطلقا دخل أو لم يدخل ثم أخرج ما قبل الدخول فليس هذا بصحيح
فإن قيل:قوله فاقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أو إن لم يكونوا ذميين فلفظ المشركين متناول للجميع ولأهل الذمة لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء
قلنا:هو كذلك لو اقتصر عليه ولذلك يمتنع الإخراج بالشرط والاستثناء منفصلا ولو قدر على الإخراج لم يفرق بين المنفصل والمتصل ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام فجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا لحقا قبل الوقوف دفعا فقوله تعالى{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] لاحكم له قبل إتمام الكلام فإذا تم الكلام كان الويل مقصورا على من وجد فيه شرط السهو والرياء لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض
فهكذا ينبغي أن يفهم حقيقة الاستثناء والشرط فاعلموه ترشدوا(31/197)
ص -190-…القول في المطلق والمقيد
اعلم أن التقييد اشتراط والمطلق محمول على المقيد إن اتحد الموجب والموجب كما لو قال لا نكاح إلا بولي وشهود وقال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيحمل المطلق على المقيد فلو قال في كفارة القتل فتحرير رقبة ثم قال فيها مرة أخرى{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }]النساء: من الآية92[فيكون هذا اشتراطا ينزل عليه الاطلاق
وهذا صحيح ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ كما نقلناه عن القاضي والقاضي مع مصيره إلى التعارض نقل الإتفاق عن العلماء على تنزيل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم
أما إذا اختلف الحكم كالظهار والقتل فقال قوم يحمل المطلق على المقيد من غير حاجة إلى دليل كما لو اتحدت الواقعة
وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه والأسباب المختلفة تختلف في الأكثر شروط واجباتها كيف ويلزم من هذا تناقض فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار والتفريق في الحج حيث قال تعالى{ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}]البقرة: من الآية196[ ومطلق في اليمين فليت شعري على أي المقيدين يحمل؟
فقال قوم لا يحمل على المقيد أصلا وإن قام دليل القياس لأنه نسخ ولا(31/198)
ص -191-…سبيل إلى نسخ الكتاب بالقياس وإلى هذا ذهب أبو حنيفة إذا جعل الزيادة على النص نسخا
وقد بينا فساد هذا في كتاب النسخ وأن قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }ليس هو نصا في أجزاء الكافرة بل هو عام يعتقد ظهوره مع تجويز قيام الدليل على خصوصه أما أن يعتقد عمومه قطعا فهذا خطأ في اللغة
وقال الشافعي رحمه الله إن قام دليل حمل عليه ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم
وهذا هو الطريق الصحيح
فإن قيل:إنما يطلب بالقياس حكم مما ليس منطوقا به في كفارة الظهار ومقتضاها أجزاء الكافرة
قلنا:بينا أن كون الكافرة منطوقا بها مشكوك فيه إذ ليس تناول عموم الرقبة له كالتنصيص على الكافرة وقد كشفنا الغطاء في مسألة تخصيص عموم القرآن بالقياس
هذا تمام القول في العموم والخصوص ولواحقه من الاستثناء والشرط والتقييد وبه تم الكلام في الفن الأول وهو دلالة اللفظ على معناه من حيث الصيغة والوضع(31/199)
ص -192-…الفن الثاني فيما يقتبس من الألفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها
وهي خمسة أضرب :
الضرب الأول ما يسمى اقتضاء
وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به أو من حيث يمتنع نبوته عقلا إلا به
أما المقتضى الذي هو ضرورة صدق المتكلم فكقوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" فإنه نفى الصوم والصوم لا ينتفي بصورته فمعناه لا صيام صحيح أو كامل فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه والحكم غير منطوق به لكن لا بد منه لتحقيق صدق الكلام
فعن هذا قلنا: لا عموم له لأنه ثبت اقتضاء لا لفظا .
وهذا يصح على مذهب من ينكر الأسماء الشرعية ويقول لفظ الصوم باق على مقتضى اللغة فيفتقر فيه إلى إضمار الحكم أما من جعله عبارة عن الصوم(31/200)
ص -193-…الشرعي فيكون انتفاؤه بطريق النطق لا بطريق الاقتضاء بل مثاله لا عمل إلا بنية ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما سبقت أمثلته في باب المجمل
وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به شرعا فقول القائل أعتق عبدك عني فإنه يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه شرعا تقدم الملك فكان ذلك مقتضى اللفظ
وكذلك لو أشار إلى عبد الغير وقال والله لأعتقن هذا العبد يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البرد وإن لم يتعرض له لضرورة الملتزم
وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا فقوله تعالى{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }[ النساء: من الآية23]فإنه يقتضي إضمار الوطء أي حرم عليكم وطء أمهاتكم لأن الأمهات عبارة عن الأعيان والأحكام لا تتعلق بالأعيان بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين فاقتضى اللفظ فعلا وصار ذلك هو الوطء من بين سائر الأفعال بعرف الاستعمال وكذلك قوله{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة: من الآية3]{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ }[المائدة: من الآية1] أي الأكل ويقرب منه{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] أي أهل القرية لأنه لا بد من الأهل حتى يعقل السؤال فلا بد من إضماره
ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار دون الاقتضاء والقول في هذا قريب
الضرب الثاني: ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ:
ونعني به ما يتسع اللفظ من غير تجريد قصد إليه فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبني عليه
ومثال ذلك: تمسك العلماء في تقدير أقل الطهر وأكثر الحيض بخمسة عشر(31/201)
ص -194-…يوما بقوله عليه السلام "إنهن ناقصات عقل ودين" فقيل ما نقصان دينهن ؟ فقال "تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم" فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع المنطق قصدا إلا به لكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر وأنه لا يكون فوق شطر الدهر وهو خمسة عشر يوما من الشهر إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها
ومثاله استدلال الشافعي رحمه الله في تنجس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في لإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده إذ قال لولا أن يقين النجاسة ينجس لكان توهمها لا يوجب الاستحباب
ومثاله تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر أخذا من قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}[الاحقاف: من الآية15] وقد قال في موضع آخر {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }[لقمان: من الآية14]ومثاله المصير إلى من وطىء بالليل في رمضان فأصبح جنبا لم يفسد صومه لأنه قال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ }[البقرة: من الآية187]وقال{ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ }[البقرة: من الآية187]ثم مد الرخصة إلى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فتشعر الآية بجواز الأكل والشرب والجماع في جميع الليل ومن فعل ذلك في آخر الليل استأخر غسله إلى النهار وإلا وجب إن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بمقدار ما يتسع للغسل
فهذا وأمثاله مما يكثر ويسمى إشارة اللفظ
الضرب الثالث: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب.
كقوله تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: من الآية38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا }[النور: من الآية2] فإنه كما فهم وجوب القطع والجلد(31/202)
ص -195-…على السارق والزاني وهو المنطوق به فهم كون السرقة والزنا علة للحكم وكونه علة غير منطوق به لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام وقوله تعالى{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}]الانفطار:13[أي لبرهم وفجورهم وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح والترغيب والترهيب وكذلك إذا قال ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به
وهذا قد يسمى:إيماء وإشارة كما يسمى فحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته.
الضرب الرابع: فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب من قوله تعالى{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}]الاسراء: من الآية23[ وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً }]النساء: من الآية10[ وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}]الزلزلة:7[وقوله{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}]آل عمران: من الآية75[وكذلك قول القائل ما أكلت له برة ولا شربت له شربة ولا أخذت من ماله حبة فإنه يدل على ما وراءه
فإن قيل:هذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى
قلنا:لاحجر في هذه التسمية لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف إذ قد يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل له أف لكن اقتله وقد يقول والله ما أكلت مال فلان ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث(31/203)
ص -196-…فإن قيل:الضرب حرام قياسا على التأفيف لأن التأفيف إنما حرم للإيذاء وهذا الإيذاء فوقه
قلنا:إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى تأمل واستنباط علة فهو خطأ وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو صحيح بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق أو هو معه وليس متأخرا عنه
وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الألفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس
الضرب الخامس هو المفهوم
ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه
ويسمى مفهوما لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم وربما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الأسامي
وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة ؟كقوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً }[المائدة: من الآية95] وكقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة والثيب أحق بنفسها من وليها ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والثيوبة والتأبير بهذه الأحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها ؟
فقال الشافعي وما لك والأكثرون من أصحابهما:أنه يدل وإليه ذهب(31/204)
ص -197-…الأشعري إذا احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }]الحجرات: من الآية6[ قال هذا يدل على أن العدل بخلافه واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}]المطففين:15[قال وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم
وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء ومنهم ابن شريح إن ذلك لا دلالة له
وهو الأوجه عندنا ويدل عليه مسالك:
الأول:أن إثبات زكاة السائمة مفهوم أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الإثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواترا وجار مجرى المتواتر والجاري مجرى المتواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وأمثاله للتكثير وأن قولهم عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة أعني الأفعل أما نقل الآحاد فلا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه(31/205)
ص -198-…فإن قيل:فمن نفي المفهوم افتقر إلى نقل متواترا أيضا ؟
قلنا:لا حاجة إلى حجة فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يناهي إنما الحجة على من يدعي الوضع
الثاني:حسن الاستفهام فإن من قال إن ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقول فإن ضربني خاطئا أف أضربه ؟وإذا قال أخرج الزكاة من ما شيتك السائمة حسن أن يقول هل أخرجها من المعلوفة؟ وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم فإنه لا يحسن في المنطوق وحسن في المسكوت عنه
فإن قيل:حسن لأنه قد لا يراد به النفي مجازا
قلنا:الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ولا دليل
المسلك الثالث: أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق وتارة مع المخالفة فالثبوت للموصوف معلوم منطوق،(31/206)
ص -199-…والنفي عن المسكوت محتمل فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة ودليل آخر أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح
المسلك الرابع: أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف فإذا قال قام الأسود أو خرج أو قعد لم يدل على نفيه عن الأبيض بل هو سكوت عن الأبيض وإن منع ذلك مانع وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب والاسم العلم حتى يكون قولك رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره وإذا قال ركب زيد دل على نفي الركوب عن غيره وقد تبع هذا بعضهم وهو بهت واختراع على اللغات كلها فإن قولنا رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ودابته وخادمه ولا عن غيره إذ يلزم أن يكون قوله زيد عالم كفرا لأنه نفي للعلم عن الله وملائكته ورسله وقوله عيسى نبي الله كفرا لأنه نفي النبوة عن محمد عليه السلام وعن غيره من الأنبياء
فإن قيل:هذا قياس الوصف على اللقب ولا قياس في اللغة
قلنا:ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنببه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط كما أن أسماء الأعلام لتعريف الأشخاص ولا فرق بين قوله في الغنم زكاة في نفي الزكاة عن البقر والإبل وبين قوله في سائمة الغنم زكاة في نفي الزكاة عن المعلوفة
المسلك الخامس: أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة فتقول رأيت الظريف وقام الطويل ونكحت الثيب،(31/207)
ص -200-…واشتريت السائمة وبعت النخلة المؤبرة فلو قال بعد ذلك نكحت البكر أيضا واشتريت المعلوفة أيضا لم يكن هذا مناقضا للأول ورفعا له وتكذيبا لنفسه كما لو قال ما نكحت الثيب وما اشتريت السائمة ولو فهم النفي كما فهم الإثبات لكان الإثبات بعده تكذيبا ومضادا لما سبق
أدلة القائلين بمفهوم المخالفة
وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك:
الأول:أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ومن علماء اللغة وقد قال بدليل الخطاب
وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة وقد قال في قوله عليه السلام "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" فقال دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرمن أن يمتلىء شعرا" فقيل أنه أراد الهجاء والسب أو هجو الرسول عليه السلام فقال ذلك حرام قليله وكثيره امتلأ به الجوف أو قصر فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد
والجواب أنهما ما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي فليس على المجتهد قبول قول من لم يثبت عصمته(31/208)
ص -201-…عن الخطأ فيما يظنه بأهل اللغة أو بالرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد ويعارضه أقوال جماعة أنكروه وقد قال قوم لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم فلا تحصل الثقة بقولهم
المسلك الثاني:أن الله تعالى قال {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: من الآية80] التوبة فقال عليه السلام لأزيدن على السبعين فهذا يدل على أن حكم ما عدا السبعين بخلافه
والجواب من أوجه:
الأول:أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة والأظهر أنه غير صحيح لأنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس وقطع الطمع عن الغفران كقول القائل أشفع أو لا تشفع وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك
الثاني:أنه قال لأزيدن على السبعين ولم يقل ليغفر لهم فما كان ذلك لانتظار الغفران بل لعله كان لاستمالة قلوب الأحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين لا لانتظار غفران الله تعالى للموتى مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع
الجواب الثالث:أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعها؟(31/209)
ص -202-…فإن قلتم:على وقوعه فهو خلاف الإجماع وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية فانتفى الجواز المقدر بالسبعين والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل لا بالمفهوم
المسلك الثالث: أن الصحابة قالوا:قوله صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء" منسوخ بقول عائشة رضي الله عنهاإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء بل انحصاره عليه واختصاصه به
والجواب من أوجه:
الأول: أن هذا نقل آحاد ولا تثبت به اللغة
الثاني: أنه إنما يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ولا يجب تقليدهم
الثالث: أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا العموم والاستغراق لجنس استعمال الماء وفهموا أخيرا كون خبر التقاء(31/210)
ص -203-…الختانين نسخا لعموم الأول لا لمفهومه ودليل خطابه وكل عام أريد به الاستغراق فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ويتقابلان إن اتحدث الواقعة
الرابع:أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال لا ماء إلا من الماء وهذا تصريح بطرفي النفي والإثبات كقوله عليه السلام "لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور" وروي أنه صلى الله عليه وسلم أتى باب رجل من الأنصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام: "عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء" وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة
الخامس: أنه قال في رواية إنما الماء من الماء وقد قال بعض منكري المفوم أن هذا للحصر والنفي والإثبات ولا مفهوم للقب والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الألف واللام وقوله إنما ولم يقل أحد من الصحابة أن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلوم لا بمجرد التخصيص والكلام في مجرد التخصيص
المسلك الرابع :قولهم أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "هي صدقة تصدق الله بها عليكم أو على عباده فاقبلوا صدقته" وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }[النساء: من الآية101 ]
قلنا لأن الأصل الإتمام واستثنى حالة الخوف فكان الإتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص
المسلك الخامس: أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الربا في النسيئة" نفي ربا الفضل وكذلك عقل من قوله تعالى{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ(31/211)
ص -204-…السُّدُسُ }[النساء: من الآية11] إنه إن كان له إخوان فلأمه الثلث وكذلك قال:الأخوات لا يرثن مع الأولاد لقوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ }[النساء: من الآية176]فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ولا حجة فيه
الثاني: أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه
الثالث: أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر وقرينة أخرى
الرابع: أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الإباحة بدليل العقل أو عموم قوله تعالى{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}[البقرة: من الآية275]فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم ودليل العقل لا بالمفهوم
الخامس: أنه روي أنه قال لا ربا إلا في النسيئة وهذا نص في النفي والإثبات وقوله إنما الربا في النسيئة أيضا قد أقربه بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر(31/212)
ص -205-…المسلك السادس: أنه إذا قال اشتر لي عبدا أسود يفهم نفي الأبيض وإذا قال أضربه إذا قام يفهم المنع إذا لم يقم
قلنا هذا باطل بل الأصل منع الشراء والشرب إلا فيما أذن والأذن قاصر فبقي الباقي على النفي وتولد منه درك الفرق بين الأبيض والأسود وعماد الفرق إثبات ونفي ومستندا لنفي الأصل ومستند الإثبات الأذن القاصر والذهن إنما ينتبه للفرق عند الإذن القاصر على الأسود فإنه يذكر الأبيض فيسبق إلى الأوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به فهذا مزلة القدم وهو دقيق ولأجله غلط الأكثرون
ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة وبقرة وغانما وسالما وقال اشتر غانما والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم وسالم وبين البقرة والشاة واللقب لا مفهوم له بالإتفاق عند كل محصل إذ قوله لا تبيعوا البر بالبر لم يدل على نفي الربا من غير الأشياء الستة بالإتفاق ولو دل لا نحسم باب القياس وإن القياس فائدته إبطال التخصيص وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره لكن مزلة القدم ما ذكرناه
وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت كقوله أنت طالق إن دخلت الدار فإن لم تدخل لم تطلق لأن الأصل عدم الطلاق لا لتخصيص الدخول بدليل أنه لو قال إن دخلت فلست بطالق فلا يقع إذا لم تدخل لأنه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول وهذا واضح
المسلك السابع:وعليه تعويل الأكثرين وهو السبب الأعظم في وقوع هذا الوهم أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد أن تكون له فائدة فإن استوت السائمة والمعلوفة والثيب والبكر والعمد والخطأ فلم خصص البعض بالذكر والحكم(31/213)
ص -206-…شامل والحاجة إلى البيان تعم القسمين فلا داعي له إلى اختصاص الحكم وإلا صار الكلام لغوا
والجواب من أربعة أوجه :
الأول: أن هذا عكس الواجب فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ وينبغي أن يفهم أولا الوضع ثم ترتب الفائدة عليه والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا
الثاني: وأن عماد هذا الكلام أصلان أحدهما أنه لا بد من فائدة التخصيص والثاني أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم والنتيجة أنه الفائدة إذا
ومسلم أنه لا بد من فائدة لكن الأصل الثاني وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم فلعل فيه فائدة فليست الفائدة محصورة في هذا بل البواعث على التخصيص كثرة واختصاص الحكم أحد البواعث
فإن قيل فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه
قلنا ولم قلتم أن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم فلعلها حاضرة ولم تعثروا عليها فكأنكم جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة وهذا خطأ(31/214)
ص -207-…فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى
الثالث: وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك :أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل فلم لم تطلبوا الفائدة فيه فإذا خصص الأشياء الستة في الربا وعمم الحكم في المكيلات والمطعومات كلها وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الإبل والبقر فما سببه مع استواء الحكم فيقال لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه فليكن كذلك في تخصيص الوصف
الرابع: أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد:
الأولى: أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الألقاب والأوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم حتى لا يبقى للقياس مجال
الثانية: أنه لو قال في الغنم زكاة ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد وكذلك لو قال لا تبيعوا الطعام بالطعام ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر والتمر فنص على ما لا وجه لإخراجه وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد لا سيما ولو ذكر الطعام أو الغنم وهو لفظ عام لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة وللسائمة خاصة(31/215)
ص -208-…فأخرج المخصوص عن محل الوقف والشك ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف والصلاح
الثالثة: أن يكون الباعث على التخصيص للأشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك بل نقول لعل إليه داعيا لم نعرفه فكذلك في الأوصاف
المسلك الثامن: قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة والانتفاء بانتفائها
والجواب:أن الخلاف في العلة والصفة واحد فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها أما انتفاؤه بانتفائها فلا بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما يقتضيه الأصل وكيف ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس ولولاه لكان قوله حرمت عليكم الخمر لشدتها لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل وتعبد باتباع العلة وترك الالتفات إلى المحل
المسلك التاسع: استدلالهم بتخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات
وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب والسنة لا أثر لها على نقيضه كقوله تعالى{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً }[المائدة: من الآية95]في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطىء وقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً(31/216)
ص -209-…فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }[النساء: من الآية92] إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله وقوله{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء: من الآية101] الآية وقوله في الخلع{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا }[النساء: من الآية35] وقوله عليه السلام "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها" إلى أمثال له لا تحصى
القول في درجات دليل الخطاب
اعلم أن توهم النفي من الإثبات على مراتب ودرجات وهي ثمانية:
الأولى:مفهوم اللقب:
وهي أبعدها وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا
الثانية: الاسم المشتق الدال على جنس كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام وهذا أيضا يظهر إلحاقه باللقب لأن الطعام لقب لجنسه وإن كان مشتقا مما يطعم إذ لا تدرك تفرقة بين قوله في الغنم زكاة وفي الماشية زكاة وإن كانت الماشية مشتقة مثلا
الثالث: تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله الثيب أحق بنفسها والسائمة تجب فيها الزكاة فلأجل أن السوم يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم(31/217)
ص -210-…وهو أيضا ضعيف ومنشؤه الجهل بمعرفة الباعث على التخصيص
الرابعة: أن يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان كما لو قال في الغنم السائمة زكاة وكقوله من باع نخلة مؤبرة فثمرها للبائع واقتلوا المشركين الحربيين فإنه ذكر الغنم والنخلة والمشركين وهي عامة فلو كان الحكم يعمها لما أنشأ بعده استدراكا لكن الصحيح أن مجرد هذا التخصيص من غير قرينة لا مفهوم له فيرجع حاصل الكلام إلى طلب سبب الاستدراك ويجوز أن يكون له سبب سوى اختصاص الحكم لم نعرفه
ووجه التفاوت بين هذه الصور أن تخصيص اللقب يمكن حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه ولذلك ذكر الأشياء الستة فهذا احتمال وهو الغفلة عن غير المنطوق به والغفلة عن البكر عند التعرض للثيب أبعد لأن ذكر الصفة بذكر ضدها يضعف هذا الاحتمال فصار احتمال المفهوم أظهر وعند الاستدراك بعد التعميم انقطع هذا الاحتمال بالكلية فظهر احتمال المفهوم لانحسام أحد الاحتمالات الباعثة على التخصيص
لكن وراء هذه احتمالات داعية إلى التخصيص وإن لم نعرفها فلا يحتج بما لا يعلم فينظر إلى لفظه ومن تعرض للغنم السائمة والنخلة المؤبرة فهو ساكت عن المعلوفة وغير المؤبرة كما لو قال في السائمة وفي المؤبرة وكما قال في سائمة الغنم زكاة
الخامسة: الشرط:
وذلك أن يقول:إن كان كذا فافعل كذا وإن جاءكم كريم قوم فأكرموه(31/218)
ص -211-…{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ }[الطلاق: من الآية6]وقد ذهب ابن شريح وجماعة من المنكرين للمفهوم إلى أن هذا يدل على النفي
والذي ذهب إليه القاضي إنكاره وهو الصحيح عندنا على قياس ما سبق لأن الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط أما أن يدل على عدمه عند العدم فلا وفرق بين أن لا يدل على الوجود فيبقى على ما كان قبل الذكر وبين أن يدل على النفي فيتغير عما كان
والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإذا قال احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة واحكم له بالمال إن شهد له شاهدان لا يدل على نفي الحكم بالإقرار واليمين والشاهد ولا يكون الأمر بالحكم بالإقرار والشاهد واليمين نسخا له ورفعا للنص أصلا ولهذا المعنى جوزناه بخبر الواحد
وقوله تعالى{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ }[الطلاق: من الآية6] أنكر أبو حنيفة مفهومه لما ذكرناه
ويجوز أن نوافق الشافعي في هذه المسألة وإن خالفناه في المفهوم من حيث أن انقطاع ملك النكاح يوجب سقوط النفقة إلا ما استثنى والحامل هي المستثنى فيبقى الحائل على أصل النفي وانتفت نفقتها إلا بالشرط لكن بانتفاء النكاح الذي كان علة النفقة
السادسة: قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" "وإنما الشفعة فيما لم يقسم" "وإنما الولاء لمن أعتق" "وإنما الربا بالنسيئة" "إنما الأعمال بالنيات" وهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم على إنكاره وقالوا إنه إثبات فقط ولا يدل على الحصر(31/219)
ص -212-…وأقر القاضي بأنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد إذ قوله تعالى{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: من الآية171]و{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: من الآية28]يشعر بالحصر ولكن قد يقول إنما النبي محمد وإنما العالم في البلد زيد يريد به الكمال والتأكيد
وهذا هو المختار عندنا أيضا
ولكن خصص القاضي هذا بقوله إنما ولم يطرده في قوله الأعمال بالنيات والشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والعالم في البلد زيد
وعندنا أن هذا يلحق بقوله إنما وإن كان دونه في القوة لكنه ظاهر في الحصر أيضا فإنا ندرك التفرقة بين قول القائل زيد صديقي وبين قوله صديقي زيد وبين قوله زيد عالم وبين قوله العالم زيد
وهذا التحقيق وهو أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ بل ينبغي أن يكون أعم منه أو مساويا له فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان ويجوز أن تقول الإنسان حيوان فإذا جعل زيدا مبتدأ وقال زيد صديقي جاز أن تكون الصداقة أعم من زيد وزيد أخص من الصديق لأن المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر أما إذا جعل الصديق مبتدأ فقال صديقي زيد فلو كان له صديق آخر كان المبتدأ أعم من الخبر والخبر أخص وكان كقوله اللون سواد والحيوان إنسان وذلك ممتنع وإن كان عكسه جائزا
فإن قيل:يجوز أن يقول صديقي زيد وعمرو أيضا والولاء لمن أعتق ولمن كاتب ولمن باع بشرط العتق ولو كان للحصر لكان هذا نقضا له قلنا هو للحصر بشرط أن لا يقترن به قبل الفراغ من الكلام ما يغيره كما أن العشرة لمعناها بشرط أن لا يتصل بها الاستثناء وقوله{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة: من الآية5] ظاهر في الجميع بشرط أن لا يقول إلا زيدا(31/220)
ص -213-…السابعة: مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى كقوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ }[البقرة: من الآية222]
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}[البقرة: من الآية230] وقوله تعالى{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ }[التوبة: من الآية29] وقد أصر على إنكار هذا أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم وقالوا هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق
وأقر القاضي بهذا لأن قوله تعالى{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}[البقرة: من الآية230] {حَتَّى يَطْهُرْنَ } ليس كلاما مستقلا فإن لم يتعلق بقوله { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ } وقوله { فَلا تَحِلُّ لَهُ } فيكون لغوا من الكلام وإنما صح لما فيه من إضمار وهو قوله حتى يطهرن فأقربوهن وحتى تنكح فتحل ولهذا يقبح الاستفهام إذا قال لا تعط زيدا حتى يقوم ولو قال أعطه إذا قام فلا يحسن إذ معناه أعطه إذا قام ولأن الغاية نهاية ونهاية الشيء مقطعة فإن لم يكن مقطع فلا يكون نهاية فإنه إذا قال اضربه حتى يتوب فلا يحسن معه أن يقول وهل أضربه وإن تاب؟
وهذا وإن كان له ظهور ما ولكن لا ينفك عن نظر إذ يحتمل أن يقال كل ماله ابتداء فغايته مقطع لبدايته فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية فيكون الإثبات مقصورا أو ممدودا إلى الغاية المذكورة ويكون ما بعد الغاية كما قبل البداية
فإذا هذه الرتبة أضعف في الدلالة على النفي مما قبلها
الرتبة الثامنة: مفهوم الحصر بالنفي والإثبات:
لا عالم في البلد إلا زيد وهذا قد أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا هذا نطق بالمستثنى عنه وسكوت عن المستثنى فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام فصار الكلام مقصورا على الباقي(31/221)
ص -214-…وهذا ظاهر البطلان لأن هذا صريح في النفي والإثبات فمن قال لا إله إلا الله لم يقتصر على النفي بل أثبت لله تعالى الألوهية ونفاها عن غيره ومن قال لا عالم إلا زيد ولا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار فقد نفى وأثبت قطعا
وليس كذلك قوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء هذا صيغة الشرط ومقتضاها نفي المنفى عند انتفاء الشرط فليس منطوقا به بل تفسد الصلاة مع الطهارة لسبب آخر وكذلك النكاح مع الولي والبيع مع المساواة وهذا على وفق قاعدة المفهوم فإن إثبات الحكم عند ثبوت وصف لا يدل على إبطاله عند انتفائه بل يبقى على ما كان قبل النطق
وكذلك نفيه عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشيء بل يبقى على ما كان قبل النطق ويكون المنطوق به النفي عند الانتفاء فقط بخلاف قوله لا إله إلا الله ولا عالم إلا زيد لأنه إثبات ورد على النفي والاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وقوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط وقوله إلا بطهور ليس إثباتا للصلاة بل للطهور الذي لم يتعرض له في الكلام فلا يفهم منه إلا الشرط
مسألة: مفهوم اللقب
القائلون بالمفهوم أقروا بأنه لا مفهوم لقوله{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}[النساء: من الآية35]ولا لقوله إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها لأن الباعث على(31/222)
ص -215-…التخصيص العادة لأن الخلع لا يجري إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا إذا أبى الولي
وكذلك القائلون بمفهوم اللقب قالوا لا مفهوم لقوله صبوا عليه ذنوبا من ماء وليستنج بثلاثة أحجار لأنه ذكرهما لكونهما غالبين وإذا كان يسقط المفهوم بمثل هذا الباعث فحيث لم يظهر لنا الباعث احتمل أن يكون ثم باعث لم يظهر لنا فكيف يبني الحكم على عدم ظهور الباعث لنا ؟
عود إلى مناقشة فائدة تخصيص الوصف بالذكر
فإن قيل:فلو انتفى الباعث المخصص في علم اللهتعالى واستوت الحاجة في المذكور والمسكوت واستويا في الذكر ولم يكن أحدهما منسيا فهل يجوز للنبي عليه السلام أن يخص أحدهما بالذكر ؟فإن جوزتم فهو نسبة له إلى اللغو والعبث وكان كقوله يجب الصوم على الطويل والأبيض فقلنا وهل يجب على القصير والأسود فقال نعم قلنا فلم خصصت هذا بالذكر فقال بالتشهي والتحكم فلا شك أنه ينسب إلى خلاف الجد ويصلح ذلك لأن يلقب به ليضحك منه كما يقول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فيكون ذلك هزؤا فثبت بهذا أن هذا دليل إن لم يكن باعث فإذا لم يظهر فالأصل عدمه أما إسقاط دلالته لتوهم باعث على التخصيص سوى اختصاص الحكم به فهو رفع للدلالة بالتوهم
قلنا ما ذكرتموه مسلم وهو أيضا جار في تخصيص اللقب واليهودي اسم(31/223)
ص -216-…لقب ويستقبح تخصيصه ولا مفهوم للقب لأن ذلك يحسم سبيل القياس وإنما أسقط مفهوم اللقب لأنه ليس فيه دلالة من حيث اللفظ بل هو نطق بشيء وسكوت عن شيء فينبغي أن يقال فلم سكت عن البعض ونطق بالبعض فنقول لا ندري فإن ذلك يحتمل أن يكون بسبب اختصاص الحكم ويحتمل أن يكون بسبب آخر فلا يثبت الاختصاص بمجرد احتمال ووهم وكذلك تخصيص الوصف ولا فرق
فإذا لسنا ندرأ الدليل بالوهم بل الخصم يبني الدليل على الوهم فإنه ما لم ينتف سائر البواعث لا يتعين باعث اختصاص الحكم وتقدير انتفاء البواعث وهم مجرد وأما قول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فليس استقباحه للتخصيص بل لأنه ذكر ما هو جلي فإنه لو قال الإنسان إذا مات لم يبصر أو الحيوان إذا مات لا يبصر استقبح ذلك لأنه تعرض لما هو واضح في نفسه فإن تعرض لمشكل فلا يستقبح التخصيص في كل مقام كقوله العبد إذا وقع في الحج لزمته الكفارة فهذا لا يستقبح وإن شاركه الحر وكقوله الإنسان لا يتحرك إلا بالإرادة ولا يريد إلا بعد الإدراك فلا يستقبح وإن كان سائر الحيوان شاركه فيهما هذا تمام التحقيق في المفهوم وبه تمام النظر في الفن الثاني وهو اقتباس الحكم من اللفظ لا من حيث صيغته ووضعه بل من حيث فحواه وإشارته
ولم يبق إلا الفن الثالث وهو اقتباس الحكم من حيث معناه ومعقوله وهو القياس والقول فيه طويل
ونرى أن نلحق بآخر الفن الثاني القول في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكوته ووجه دلالته على الأحكام فإنه قد يظن أنه نازل منزلة القول في الدلالة(31/224)
ص -217-…ثم بعد الفراغ منه نخوض في الفن الثالث وهو شرح القياس
القول في دلالة أفعال النبي عليه السلام وسكوته واستبشاره
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول في دلالة الفعل
ونقدم عليه مقدمة في عصمة الأنبياء فنقول :
لما ثبت ببرهان العقل صدق الأنبياء وتصديق الله تعالى إياهم بالمعجزات فكل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بدليل العقل ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر والجهل بالله تعالى وكتمان رسالة الله والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ والتقصير في التبليغ والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه
أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه ولا يتعلق بالرسالة فلا يدل على عصمتهم عنه عندنا دليل العقل بل دليل التوقيف والإجماع قد دل على عصمتهم عن الكبائر وعصمتهم أيضا عما يصغر أقدارهم من القاذورات كالزنا والسرقة واللواط
أما الصغائر فقد أنكرها جماعة وقالوا الذنوب كلها كبائر فأوجبوا عصمتهم عنها والصحيح أن من الذنوب صغائر وهي التي تكفرها الصلوات الخمس(31/225)
ص -218-…واجتناب الكبائر كما ورد في الخبر وكما قررنا حقيقته في كتاب التوبة من كتاب إحياء علوم الدين فإن قيل:لم لم تثبت عصمتهم بدليل العقل لأنهم لو لم يعصموا لنفرت قلوب الخلق عنهم ؟
قلنا:لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفر فقد كانت الحرب سجالا بينه صلى الله عليه وسلم وبين الكفار وكان ذلك ينفر قلوب قوم عن الإيمان ولم يعصم عنه وإن ارتاب المبطلون مع أنه حفظ عن الخط والكتابة كي لا يرتاب المبطلون وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ كما قال تعالى{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ }[النحل: من الآية101] وجماعة بسبب المتشابهات فقالوا كان يقدر على كشف الغطاء لو كان نبيا لخلص الخلق من كلمات الجهل والخلاف كما قال تعالى{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]
وهذا لأن نفي المنفرات ليس بشرط دلالة المعجزة
هذا حكم الذنوب
أما النسيان والسهو فلا خلاف في جوازه عليهم فيما يخصهم من العبادات ولا خلاف في عصمتهم بما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة فإنهم كلفوا تصديقه جزما ولا يمكن التصديق مع تجويز الغلط
وقد قال قوم:يجوز عليه الغلط فيما شرعه بالاجتهاد لكن لا يقر عليه(31/226)
ص -219-…وهذا على مذهب من يقول المصيب واحد من المجتهدين أما من قال كل مجتهد مصيب فلا يتصور الخطأ عنده في اجتهاد غيره فكيف في اجتهاده ؟!
أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحكم كل منها :
رجعنا إلى المقصود وهو أفعاله عليه السلام
فما عرف بقوله أنه تعاطاه بيانا للواجب كقوله عليه السلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" أو علم بقرينة الحال أنه إمضاء لحكم نازل كقطع يد السارق من الكوع فهذا دليل وبيان
وما عرف أنه خاصيته فلا يكون دليلا في حق غيره
وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوصا به وبين أن يشاركه غيره فيه(31/227)
ص -220-…ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر
وقال قوم :أنه على الحظر
وقال قوم:على الإباحة .
وقال قوم:على الندب
وقال قوم:على الوجوب إن كان في العبادات وإن كان في العادات فعلى الندب ويستحب التأسي به
وهذه تحكمات لأن الفعل لا صيغة له وهذه الاحتمالات متعارضة ونحن نفرد كل واحد بالإبطال:
الرد على القائلين بالتحريم :
أما إبطال الحمل على الحظر فهو أن هذا خيال من رأى الأفعال قبل ورود الشرع على الحظر قال وهذا الفعل لم يرد فيه شرع ولا يتعين بنفسه لإباحة ولا لوجوب فيبقى على ما كان فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان وأخطأ في قوله بأن الأحكام قبل الشرع على الحظر وقد أبطلنا ذلك
ويعارضه قول من قال:إنها على الإباحة وهو أقرب من الحظر
ثم يلزم منه تناقض وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشيء وضده وهو تكليف المحال
الرد على القائلين بالإباحة :
أما إبطال الإباحة فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ولا سمع وإن أراد به أن الأصل في الأفعال نفي الحرج فيبقى على(31/228)
ص -221-…ما كان قبل الشرع فهو حق وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة إذا لفعله
الرد على قول الندب :
أما إبطال الحمل على الندب :فإنه تحكم إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا
وقد تمسكوا بشبهتين :
الأولى: أن فعله يحتمل الوجوب والندب والندب أقل درجاته فيحمل عليه
قلنا: إنما يصح ما ذكروه لو كان الندب داخلا في الوجوب ويكون الوجوب ندبا وزيادة وليس كذلك إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب
وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب لا سيما في العبادات
أما في العادات فلا أقل من حمله على الإباحة لا بمجرد الفعل ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز ويستدلون به على الجواز ويدل هذا على نفي الصغائر عنه وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات لكن هذا أيضا ليس بقاطع إذ يحتمل أن يكون استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات وكلامنا في مجرد الأفعال دون قرينة ولا شك في أن ابن عمر لما رآه مستقبل بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء لأنه كان في البناء ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدي به فيه لأنه خلا بنفسه(31/229)
ص -222-…فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء فتبين من هذا أنهم اعتقدوا وأن ما فعله مباح وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما يقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل
الثانية :التمسك بقوله{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: من الآية21] فأخبر أن لنا التأسي ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب
قلنا:الآية حجة عليكم لأن التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي فلا سبيل إلى التأسي به قبل معرفة قصده ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة
ثم نقول:إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا
الرد على من قال بالوجوب :
أما أبطال الحمل على الوجوب فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ولا نظر ولا بدليل قاطع فهو تحكم لأن فعله متردد بين الوجوب والندب وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا فلم يتحكم بالحمل على الوجوب ولهم شبه :(31/230)
ص -223-…الأولى قولهم لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ومصلحة ولولاه لما أقدم عليه ولا تعيد به
قلنا:جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا وإنما الكلام في حقنا وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ومصلحة كان في حقنا كذلك بل لعله مصلحة بالإضافة إلى صفة النبوة أو صفة هو يختص بها ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات والواجبات والمحظورات بل اختلف المقيم والمسافر والحائض والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي والأمة
الثانية: أنه نبي وتعظيم النبي واجب والتأسي به تعظيم
قلنا:تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر وينهي لا في التربع إذا تربع ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به
الثالث: أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله وذلك تصغير لقدره وتنفير للقلوب عنه
قلنا:هذا هذيان فإن المخالفة في القول عصيان له وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله لأن قوله متعد إلى غيره وفعله قاصر عليه وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ولو كان ترك التشبه به تصغيرا له لكنا تركنا للوصال وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا
فاستبان أن هذه خيالات وأن التحقيق أن الفعل متردد كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد
الرابعة: تمسكهم بآي من الكتاب كقوله تعالى: { فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: من الآية153]وأنه يعم الأقوال والأفعال وكقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }[النور: من الآية63]وقوله{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }[الحشر: من الآية7]وأمثاله(31/231)
ص -224-…وجمع ذلك يرجع إلى قبول أقواله وغايته أن يعم الأقوال والأفعال وتخصيص العموم ممكن ولذلك لم يجب على الحائض والمريض موافقته مع أنهم مأمورون بالإتباع والطاعة
الخامسة وهي أظهرها: تمسكهم بفعل الصحابة وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة فقالت أخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فذبحوا وحلقوا مسارعين وإنه خلع خاتمه فخلعوا وبأن عمر كان يقبل الحجر ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك وبأنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قلبة الصائم فقال "ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم" وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها "فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا" فرجعوا إلى ذلك
الجواب من وجوه:
الأول: أن هذه أخبار آحاد وكما لا يثبت القياس وخبر الواحد إلا بدليل(31/232)
ص -225-…قاطع فكذلك هذا لأنه أصل من الأصول
الثاني: أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله وعباداته فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم تصر مخالفتهم في البعض دليل جواز المخالفة
الثالث: وهو التحقيق:أن أكثر هذه الأخبار تتعلق بالصلاة والحج والصوم والوضوء وقد كان بين لهم أن شرعه وشرعهم فيه سواء فقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" "وخذوا عني مناسككم" وعلمهم الوضوء وقال هذا "وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي".
وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله امتثال الواجب وبيانه فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة .
وكذلك في قبلة الصائم ربما كان قد بين لهم مساواة الحكم في المفطرات وأن شرعه شرعهم.
وكذلك في الأحداث قد عرفهم مساواة الحكم فيها ففهموا لا بمجرد حكاية الفعل كيف وقد نقل أنه عليه السلام قال "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"
وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم أو توهموا أنه لما ساواهم في سنة التختم فيساويهم في سنة الخلع
فإن قيل:الأصل أن ما ثبت في حقه عام إلا ما استثنى
قلنا:لا بل الأصل أن ما ثبت في حقه فهو خاص إلا ما عممه(31/233)
ص -226-…فإن قيل:التعميم أكثر فلينزل عليه
قلنا: ولم يجب التنزيل على الأكثر ؟وإذا اشتبهت أخت بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ولا يجوز الأخذ به كيف والمباحات أكثر من المندوبات فلتلحق بها والمندوبات أكثر من الواجبات فلتلحق بها بل ربما قال القائل المحظورات أكثر من الواجبات فلتنزل عليها.
الفصل الثاني في شبهات متفرقة في أحكام الأفعال
الخطوات التي يتبعها المجتهد لاستفادة الأحكام من الأفعال:
الأولى: قال قائل إذا نقل إلينا فعله عليه السلام فما الذي يجب على المجتهد أن يبحث عنه؟وما الذي يستحب؟
قلنا: لا يجب إلا أمر واحد وهو البحث عنه هل ورد بيانا لخطاب عام أو تنفيذا لحكم لازم عام فيجب علينا اتباعه أو ليس كذلك فيكون قاصرا عليه فإن لم يقم دليل على كونه بيانا لحكم عام فالبحث عن كونه ندبا في حقه أو واجبا أو مباحا أو محظورا أو قضاء أو أداء موسعا أو مضيقا لا يجب بل هو زيادة(31/234)
ص -227-…درجة وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه
الثاني: اصناف ما يحتاج إلى بيان :
فإن قيل:كم أصناف ما يحتاج إلى البيان سوى الفعل
قلنا:ما يتطرق إليه احتمال كالمجمل والمجاز والمنقول عن وضعه والمنقول بتصرف الشرع والعام المحتمل للخصوص والظاهر المحتمل للتأويل ونسخ الحكم بعد استقراره ومعنى قول افعل أنه للندب أو للوجوب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو المرة الواحد والجمل المعطوفة إذا أعقبت باستثناء وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال والفعل من جملة ذلك
حكم الفعل البياني في حق النبي صلى الله عليه وسلم
فإن قيل:فإن بين لنا بفعله ندبا فهل يكون فعله واجبا ؟
قلنا: نعم هو من حيث أنه بيان واجب لأنه تبليغ للشرعه ومن حيث أنه فعل ندب
وذهب بعض القدرية إلى أن بيان الواجب واجب وبيان الندب ندب وبيان المباح مباح
ويلزم على ذلك أن يكون بيان المحظور محظورا فإذا كان بيان المحظور واجبا فلم لا يكون بيان الندب واجبا وكذلك بيان المباح وهي أحكام الله تعالى على عباده والرسول مأمور بالتبليغ وبيانه بالقول أو الفعل وهو مخير بينهما فإذا أتى بالفعل فقد أتى بإحدى خصلتي الواجب فيكون فعله واقعا عن الواجب(31/235)
ص -228-…الرابع : مايعرف به أن الفعل بيان :
فإن قيل وبم يعرف كون فعله صلى الله عليه وسلم بيانا
قلنا: إما بصريح قوله وهو ظاهر أو بقرائن وهي كثيرة
إحداها: أن يرد خطاب مجمل ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة ثم فعل عند الحاجة والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان فيعلم أنه بيان إذا لم يكن لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة وذلك محال عقلا عند قوم وسمعا عند آخرين وكونه غير واقع متفق عليه لكن كون الفعل متعينا للبيان يظهر للصحابة إذ قد علموا عدم البيان بالقول أما نحن فيجوز أن يكون قد بين بالقول ولم يبلغنا فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان فقطع يد السارق من الكوع وتيممه إلى المرفقين بيان لقوله عز وجل{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: من الآية38) المائدة ولقوله تعالى{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء: من الآية43]
الثانية: أن ينقل فعل غير مفصل كمسحه رأسه وأذنيه من غير تعرض لكونهما مسحا بماء واحد أو بماء جديد ثم ينقل أنه أخذ لأذنيه ماء جديدا فهذا في الظاهر يزيل الاحتمال عن الأول ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد(31/236)
ص -229-…وأن المستحب ماء جديدا فيكون أحد الفعلين على الأقل والثاني على الأكمل
الثالثة: أن يترك ما لزمه فيكون بيانا لكونه منسوخا في حقه أما في حق غيره فلا يثبت النسخ إلا ببيان الاشتراك في الحكم نعم لو ترك غيره بين يديه فلم ينكر مع معرفته به فيدل على النسخ في حق الغير
الرابعة: أنه إذا أتى بسارق ثمر أو ما دون النصاب.فلم يقطع فيدل على تخصيص الآية لكن هذا بشرط أن يعلم انتفاء شبهة أخرى تدرأ القطع لأنه لو أتى بسارق سيف فلم يقطعه فلا يتبين لنا سقوط القطع في السيف ولا في الحديد لكن يبحث عن سببه فكذلك الثمر وما دون النصاب
وكذلك تركه القنوت والتسمية والتشهد الأول مرة واحدة لا يدل على النسخ إذ يحمل على نسيان أو على بيان جواز ترك السنة وإن ترك مرات دل على عدم الوجوب وكذلك لو ترك الفخذ مكشوفا دل على أنه ليس من العورة
الخامسة: إذا فعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبا لأفسد الصلاة دل على الوجوب كزيادة ركوع في الخسوف وكحمل أمامة في الصلاة يدل على أن الفعل القليل لا يبطل وأنه فعل قليل هذا مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلي يكون بيانا في حقنا
السادسة: إذا أمر الله تعالى بالصلاة وأخذ الجزية والزكاة مجملا ثم أنشأ الصلاة وابتدأ بأخذ الجزية فيظهر كونه بيانا وتنفيذا لكن إن لم تكن الحاجة متنجزة بحيث يجوز تأخير البيان فلا يتعين لكونه بيانا بل يحتمل أن يكون فعلا أمر به خاصة في ذلك الوقت فإذا لا يصير بيانا للحكم العام إلا بقرينة أخرى(31/237)
ص -230-…السابعة: أخذه مالا ممن فعل فعلا أو إيقاعه به ضربا أو نوع عقوبة فإنه له خاصة ما لم ينبه على أن من فعل ذلك الفعل فعليه مثل ذلك المال فإنه لا يمتنع لأنه وإن تقدم ذلك الفعل فلا يتعين لكونه موجب أخذ المال وأنه لا يمتنع وجود سبب آخر هو المقتضى للمال وللعقوبة
أما قضاؤه على من فعل فعلا بعقوبة أو مال كقضائه على الأعرابي بإعتاق رقبة فإنه يدل على أنه موجب ذلك الفعل لأن الراوي لا يقول قضى على فلان بكذا لما فعل كذا إلا بعد معرفته بالقرينة
الخامس : هل يقتدى بزمان الفعل أو مكانه:
فإن قيل:فإذا فعل فعلا وكان بيانا ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة ؟
فيقال:أما الهيئة والكيفية فنعم وأما الزمان والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها ولا مدخل له في الأحكام إلا أن يكون الزمان والمكان لائقا به بدليل دل عليه كاختصاص الحج بعرفات والبيت واختصاص الصلوات بأوقات لأنه لو اتبع المكان للزم مراعاة تلك الرواية بعينها ووجب مراعاة ذلك الوقت وقد انقضى ولا يمكن إعادته وما بعده من الأوقات ليس مثلا فيجب إعادة الفعل في الزمان الماضي وهو محال
وقد قال قوم إن تكرر فعله في مكان واحد وزمان واحد دل على الاختصاص وإلا فلا
وهو فاسد لما سبق ذكره(31/238)
ص -231-…السادس : حكم التقرير
فإن قيل إن كان فعله بيانا فتقريره على الفعل وسكوته عليه وتركه الإنكار واستبشاره بالفعل أو مدحه له هل يدل على الجواز وهل يكون بيانا ؟
قلنا:نعم سكوته مع المعرفة وتركه الإنكار دليل على الجواز إذ لا يجوز له ترك الإنكار لو كان حراما ولا يجوز له الاستبشار بالباطل فيكون دليلا على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية ويجوز عليه الصغيرة ونحن نعلم إتفاق الصحابة على إنكار ذلك وإحالته
فإن قيل:لعله منع من الإنكار مانع كعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلذلك فعله أو بلغه الإنكار مرة فلم ينجح فيه فلم يعاوده ؟
قلنا:ليس هذا مانعا لأن من لم يبلغه التحريم فيلزمه تبليغه ونهيه حتى لا يعود ومن بلغه ولم ينجح فيه فيلزمه إعادته وتكراره كيلا يتوهم نسخ التحريم
فإن قيل:فلم لم يجب عليه أن يطوف صبيحة كل سبت وأحد على اليهود والنصارى إذا اجتمعوا في كنائسهم وبيعهم ؟
قلنا :لأنه علم أنهم مصرون مع تبليغه وعلم الخلق أنه مصر على تكفيرهم دائما فلم يكن ذلك مما يوهم النسخ بخلاف فعل يجري بين يديه مرة واحدة أو(31/239)
ص -232-…مرات فإن السكوت عنه يوهم النسخ
الفصل الثالث في تعارض الفعلين
فنقول معنى التعارض التناقض
فإن وقع في الخبر أوجب كون واحد منهما كذبا ولذلك لا يجوز التعارض في الأخبار من الله تعالى ورسوله .
وإن وقع في الأمر والنهي والأحكام فيتناقض فيرفع الأخير الأول ويكون نسخا وهذا متصور
التعارض بين فعل وفعل:
وإذا عرفت أن التعارض هو التناقض فلا يتصور التعارض في الفعل لأنه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين فيمكن الجمع بين وجوب أحدهما وتحريم الآخر فلا تعارض
فإن قيل:فالقول أيضا لا يتناقض إذ يوجد القولان في حالتين وإنما يتناقض حكمهما فكذلك يتناقض حكم الفعلين
قلنا: إنما يتناقض حكم القولين لأن القول الأول اقتضى حكما دائما فيقطع القول الثاني دوامه والفعل لا يدل أصلا على حكم ولا على دوام حكم نعم لو أشعرنا الشارع بأنه يريد بمباشرة فعل بيان دوام وجوبه ثم ترك ذلك الفعل بعده(31/240)
ص -233-…كان ذلك نسخا وقطعا لدوام حكم ظهر بالفعل مع تقدم الأشعار فهذا القدر ممكن
التعارض بين الأقوال والأفعال:
وأما التعارض بين القول والفعل فممكن بأن يقول قولا يوجب على أمته فعلا دائما وأشعرهم بأن حكمه فيه حكمهم ابتداء ونسخا ثم فعل خلافه أو سكت على خلافه كان الأخير نسخا
وإن أشكل التاريخ وجب طلبه وإلا فهو متعارض كما روي أنه قال في السارق وإن سرق خامسة فاقتلوه ثم أتى بمن سرق خامسة فلم يقتله فهذا إن تأخر فهو نسخ القول والفعل وإن تأخر القول فهو نسخ ما دل عليه الفعل
وقد قال قوم:إذا تعارضا وأشكل التاريخ يقدم القول لأن القول بيان بنفسه بخلاف الفعل فإن الفعل يتصور أن يخصه والقول يتعدى إلى غيره ولأن القول يتأكد بالتكرار بخلاف الفعل
فنقول: أما قولكم أن الفعل ليس بيانا بنفسه فمسلم ولكن كلامنا في فعل صار بيانا لغيره فلا يتأخر عما كان بيانا بنفسه(31/241)
ص -234-…وأما خصوص الفعل فمسلم أيضا ولكن كلامنا في فعل لا يمكن حمله على خاصيته
وأما تأكيد القول بالتكرار :إن عني به أنه إذا تواتر أفاد العلم فهذا مسلم إذا توتر من أشخاص فليس ذلك تكرارا وتكراره من شخص واحد لا أثر له كتكرار الفعل
هذا تمام الكلام في الأفعال الملحقة بالأقوال وبيان ما فيها من البيان والإجمال
ولنشتغل بعدها بالفن الثالث من القطب وهو المرسوم لبيان كيفية دلالة الألفاظ على المدلولات بمعقولها ومعناها وهو الذي يسمى قياسا فلنخض في شرح كتاب القياس مستعينين بالله عز وجل(31/242)
ص -235-…الفن الثالث في كيفية استثمار الأحكام من الألفاظ والاقتباس من معقول الألفاظ بطريق القياس
ويشتمل على مقدمتين وأربعة أبواب:
الأول: في إثبات أصل القياس على منكريه
الثاني: في طريق إثبات العلة
الثالث: في قياس الشبه
الرابع: في أركان القياس وهي أربعة الأصل والفرع والعلة والحكم وبيان شروط كل ركن من هذه الأركان(31/243)
ص -236-…مقدمة في حد القياس
وحده أنه جمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما
ثم إن كان الجامع موجبا للاجتماع على الحكم كان قياسا صحيحا وإلا كان فاسدا
واسم القياس يشتمل على الصحيح والفاسد في اللغة
ولا بد في كل قياس من فرع وأصل وعلة وحكم
وليس من شرط الفرع والأصل كونهما موجودين بل ربما يستدل بالنفي على النفي فلذلك لم نقل حمل شيء لأن المعدوم ليس بشيء عندنا وأبدلنا لفظ الشيء بالمعلوم ولم نقل حمل فرع على أصل لأنه ربما ينبو هذا اللفظ عن المعدوم وإن كان لا يبعد إطلاق هذا الاسم عليه بتأويل ما
والحكم يجوز أن يكون نفيا ويجوز أن يكون إثباتا والنفي كانتفاء الضمان والتكليف والانتفاء أيضا يجوز أن يكون علة فلذلك أدرجنا الجميع في الحد
ودليل صحة هذا الحد إطراده وانعكاسه(31/244)
ص -237-…نقد بعض الحدود الأخرى للقياس:
أما قول من قال في حد القياس :أنه الدليل الموصل إلى الحق أو :العلم الواقع بالمعلوم عن نظر أو رد غائب إلى شاهد فبعض هذا أعم من القياس وبعضه أخص ولا حاجة إلى الأطناب في إبطاله
وأبعد منه إطلاق الفلاسفة اسمه على تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة كقول القائل كل مسكر حرام وكل نبيذ مسكر فيلزم منه أن كل نبيذ حرام فإن لزوم هذه النتيجة من المقدمتين لا ننكره لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة إذ تقول العرب لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه وفلان يقاس إلى فلان فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين.
وقال بعض الفقهاء:القياس هو الاجتهاد وهو خطأ لأن الاجتهاد أعم من القياس لأنه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الألفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس ثم أنه لا ينبىء في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع فمن حمل خردلة لا يقال اجتهد ولا ينبىء هذا عن خصوص معنى القياس بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط
مقدمة أخرى في حصر مجاري الإجتهاد في العلل
اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة على الحكم
والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم أو في تنقيح مناط الحكم أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه(31/245)
ص -238-…الاجتهاد الأول : في تحقيق مناط الحكم:
أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص وكذا تعيين الولاة والقضاة وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم النص أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين
وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين:أحدهما:أنه لا بد من الكفاية والثاني:أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب على القريب
أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع وأما الثاني فمعلوم بالظن
وكذلك نقول يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }[المائدة: من الآية95] فنقول المثل واجب والبقرة مثل فإذا هي الواجب والأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد
وكذلك:من أتلف فرسا فعليه ضمانه والضمان هو المثل في القيمة أما كونه مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد
ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة وليس ذلك من القياس في شيء بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد والأمارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني لكن الحكم بالصدق واجب وهو معلوم بالنص وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة والعدالة لا تعلم إلا بالظن
فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم لأن المناط معلوم بنص أو إجماع(31/246)
ص -239-…لا حاجة إلى استنباطه لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بإمارات ظنية وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وهو نوع اجتهاد والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه ؟وهو ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم
الاجتهاد: الثاني في تنقيح مناط الحكم
وهذا أيضا يقربه أكثر منكري القياس
مثاله:أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب وينوطه به وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم
مثاله:إيجاب العتق على الأعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله فإنا نلحق به أعرابيا آخر بقوله عليه السلام "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" أو بالإجماع على أن التكليف يعم الأشخاص ولكنا نلحق التركي والعجمي به لأنا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي ونلحق به من أفطر في رمضان آخر لأنا نعلم أن المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك(31/247)
ص -240-…الرمضان بل نلحق به يوما آخر من ذلك الرمضان ولو وطىء أمته أوجبنا عليه الكفارة لأنا نعلم أن كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم بل يلحق به الزنا لأنه أشد في هتك الحرمة
إلا أن هذه إلحاقات معلومة تنبىء على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير
وقد يكون حذف بعض الأوصاف مظنونا فينقدح الخلاف فيه كإيجاب الكفارة بالأكل والشرب إذ يمكن أن يقال مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الإفساد كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مزهقا روحا محترمة والسيف آلة فيلحق به السكين والرمح والمثقل فكذلك الطعام والشراب آلة
ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين فيحتاج فيه إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل وهذا محتمل
والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عرف المناط بالنص لا بالاستنباط ولذلك أقر به أكثر منكري القياس بل قال أبو حنيفة رحمه الله لا قياس في الكفارات وأثبت هذا النمط من التصرف وسماه استدلالا فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يخف فساد كلامه
الإجتهاد الثالث:في تخريج مناط الحكم واستنباطه
مثاله أن يحكم بتحريم في محل ولا يذكر إلا الحكم والمحل ولا يتعرض لمناط الحكم وعلته كتحريم شرب الخمر والربا في البر فنحن نستنبط المناط بالرأي والنظر فنقول حرمه لكونه مسكرا وهو العلة ونقيس عليه النبيذ وحرم الربا في البر لكونه مطعوما ونقيس عليه الأرز والزبيب ويوجب العشر في البر فنقول أوجبه لكونه قوتا فنلحق به الأقوات أو لكونه نبات الأرض وفائدتها فنلحق به الخضراوات وأنواع النبات(31/248)
ص -241-…فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد وجميع الشيعة
والعلة المستنبطة أيضا عندنا لا يجوز التحكم بها بل قد تعلم بالإيماء وإشارة النص فتلحق بالمنصوص وقد تعلم بالسير حيث يقوم دليل على وجوب التعليل وتنحصر الأقسام في ثلاثة مثلا ويبطل قسمان فيتعين الثالث فتكون العلة ثابتة بنوع من الاستدلال فلا تفارق تحقيق المناط وتنقيح المناط وقد يقوم الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير كقولنا الصغير يولي عليه في ماله لصغره فيلحق بالمال البضع إذ ثبت بالإجماع تأثير الصغر في جلب الحكم ولا يفارق البضع المال في معنى مؤثر في الحكم فكل ذلك استدلال قريب من القسمين الأولين
والقسم الأول متفق عليه والثاني مسلم من الأكثرين
هذا شرح المقدمتين ولنشرع الآن في الأبواب(31/249)
ص -242-…الباب الأول في إثبات القياس على منكريه
وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة يستحيل التعبد بالقياس عقلا
وقال قوم:في مقابلتهم يجب التعبد به عقلا
وقال قوم:لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز
ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له
والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا
ففرق المبطلة له ثلاث:المحيل له عقلا والموجب له عقلا والحاظر له شرعا فنفرض على كل فريق مسألة ونبطل عليهم خيالهم
الرد على من قضى باستحالة التعبد بالقياس عقلا:
ونقول للمحيل للتعبد به عقلا بم عرفت إحالته بضرورة أو نظر ولا سبيل إلى دعوى شيء من ذلك ولهم مسالك:
الأول: قولهم كلما نصب الله تعالى دليلا قاطعا على معرفته فلا نحيل التعبد به إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته لأن رحم الظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى
فهذا أصلان: أحدهما:أن الصلاح واجب على الله تعالى والثاني أنه لا صلاح في التعبد بالقياس ففي أيهما النزاع ؟
والجواب: إننا ننازعكم في الأصلين جميعا
أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه فلا نسلم وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس بعض من أوجب الصلاح وقال لعل الله تعالى علم لطفا(31/250)
ص -243-…بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد وكد القلب والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[المجادلة: من الآية11] وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات
فإن قيل:كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن وذلك أصلح
قلنا:من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبقوا وعصوا وإذا فرض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم وظنونهم
ثم نقول:أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين والاستدلال على القبلة وتقدير المثل والكفايات في النفاقات والجنايات وكل ذلك ظن وتخمين ؟!
فإن قيل:ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين فإن ذلك لا يقدر عليه بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق وأوجب استقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة
قلنا:وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه وشهادته له ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة بل هو مكلف بظنه وإن فسدت الشهادة كما كلف الحاكم الحكم بظنه وإن كان كذب الشهود ممكنا ولا فرق ولذلك نقول كل مجتهد مصيب والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع وما ذكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد
وتحقيقه أنه لو قال الشارع :حرمت كل مسكر أو حرمت الخمر لكونه مسكرا،(31/251)
ص -244-…لم يكن التعبد به ممتنعا فلو قال متى حرمت الربا في البر فأسيروا حاله وقسموا صفاته فإن غلب على ظنكم بإمارة أني حرمته لكونه قوتا وحرمت الخمر لكونه مسكرا فقد حرمت عليكم كل قوت وكل مسكر ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت عليه كل مكيل لم يكن بين هذا وبين قوله إذا اشتبهت عليكم القبلة فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين فيكون كل واحد مصيبا وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقيق ارتباطه به بالنص الصريح
فإن قيل فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما
قلنا: ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات والصبح بركعتين ؟وفي تقدير الحدود والكفارات ونصب الزكوات بمقادير مختلفة ؟لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه يقرب العباد بسببه من الطاعة ويبعدون به عن المعصية وأسباب الشقاوة حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت واعتقدنا فيه لطفا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الأوصاف؟!
الشبهة الثانية: قولهم لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم لذاتها وعلل الشرع ليست كذلك فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل ؟
قلنا: لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم ويجوز أن ينصب(31/252)
ص -245-…الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا ويجوز أن يقول من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون
وكلهم مصيبون
الشبهة الثالثة: قولهم حكم الله تعالى خبره ويعرف ذلك بتوقيف فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب فكيف يقال حكم الله في الزبيب التحريم والنص لم ينطق إلا بالأشياء الستة قلنا إذا قال الله تعالى قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فقيسوا عليه كل مطعوم فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس لكن هذا النص بعينه(31/253)
ص -246-…وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس على أنهم ما فعلوا ذلك إلا وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ وقرائن وإن لم ينقلوها إلينا
الشبهة الرابعة قولهم إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة وإن وجدت علامات لأمكان الخطأ والخطأ ممكن في كل اجتهاد وقياس فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة وعدالة الشاهد والقاضي والإمام ومتولي الأوقاف لمعنيين:
أحدهما: أن ذلك حكم في الأشخاص والأعيان ولا نهاية لها ولا يمكن تعريفها بالنص
والثاني: أن الخطأ فيه غير ممكن لأنهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود
قلنا وكذلك نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الإشكال إلا بتصويب كل مجتهد وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه فالخطأ غير ممكن في حقه أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الإشكال
وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد إمكان الخطأ فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها والخطأ ممكن لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارىء أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به(31/254)
ص -247-…اتباعا لموجب الدليل ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا
مسألة: القائلين بوجوب القياس عقلا :
الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان:
الأولى: أن الأنبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها؟ فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة ؟
فنقول: هذا فاسد لأن الحكم في الأشخاص التي ليست متناهية إنما يتم بمقدمتين كلية كقولنا كل مطعوم ربوي وجزئية كقولنا هذا النبات مطعوم أو الزعفران مطعوم وكقولنا كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر وكل عدل مصدق وزيد عدل وكل زان مرجوم وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم
والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم وليس ذلك بقياس أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية كقوله كل مطعوم ربوي بدلا عن قوله لا تبيعوا البر بالبر وكقوله كل مسكر حرام بدلا عن قوله حرمت الخمر وإذا أتى بهذه الألفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس(31/255)
ص -248-…هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال من تيقنتم صدقة وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل
إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات لأنه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة ولا سبيل إلى تعطيل الأحكام وكذلك لا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الأقارب وأروش المتلفات فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا
الثانية قولهم: إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية فإنها تدرك بالعقل ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها
وهذا فاسد لأن القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم وكل حكم قدر خصوصه فتعميمه ممكن فلو عم لم يبق للقياس مجال وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ لأن من العلل ما لا يناسب وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة وكذا سائر العلل والأسباب
مسألة الرد على منكري الاجتهاد في الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع كالنص وما يجري مجراه :(31/256)
ص -249-…فأما الحكم بالرأي والاجتهاد فمنعوه وزعموا أنه لا دليل عليه وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل
وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ويعلم فقره بأمارة ظنية ولا يحكم إلا بقول عدل وتعرف عدالته بالظن وكذلك الاجتهاد في الوقت والقبلة وأروش الجنايات وكفاية القريب
وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك موجود قطعا والحكم عند الظن واجب قطعا فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات
وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة فإنما نزاعنا في معرفة مناط الأحكام بالرأي والاجتهاد فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه فننقل من ذلك بعضه وإن لم يمكن نقل الجميع
النقول عن الصحابه من عملهم بالقياس والاجتهاد المظنون :
فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه وعلى علي وعلى العباس إذ لو كان لنقل ولتمسك به المنصوص عليه ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة وفيهم علي رضي الله عنه فلو كان منصوصا عليه وقد استصلحه له فلم تردد بينه وبين غيره ؟!
ومن ذلك قياسهم العهد على العقد إذ ورد في الأخبار عقد الإمامة بالبيعة ولم ينص على واحد وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ولم يرد فيه نص ولكن(31/257)
ص -250-…قاسوا تعيين الإمام على تعيين الأمة لعقد البيعة فكتب أبو بكر هذا ما عهد أبو بكر ولم يعترض عليه أحد
ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال ما نعى الزكاة حتى قال عمر فكيف تقاتلهم وقد قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة فلا أفرق بين ما جمع الله والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام لقاتلتهم عليه
وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاؤوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص وقالوا إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات لأن صلاته كانت سكنا لنا وصلاتك ليست بسكن لنا إذ قال الله تعالى{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: من الآية103]فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص وقاس أبو بكر والصحابة خليفة الرسول على الرسول إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه والخليفة نائب في استيفاء الحقوق
ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه ككتب المصحف وجمع القرآن بين الدفتين فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام ؟حتى شرح الله له صدر أبي بكر(31/258)
ص -251-…وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب
ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد والأخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم بأنه لا نص في المسألة التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها
وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي :
فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان الكلالة ما عدا الوالد والولد ومن ذلك أنه ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس
ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء فقال عمر لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل في الإسلام كرها فقال أبو بكر إنما أسلموا الله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها واجتهاد عمر أنه لولا الإسلام لما استحقوها فيجوز أن يختلفوا وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل(31/259)
ص -252-…ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي وقضى بآراء مختلفة وقوله من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه أي الرأي العاري عن الحجة وقال لما سمع الحديث في الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا ولما قيل في مسألة المشتركة هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة أشرك بينهم بهذا الرأي
ومن ذلك أنه قيل لعمر إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور وخللها وباعها فقال قاتل الله سمرة أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فقاس عمر الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها
وكذلك جلد أبا بكرة لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا لكنه قاسه على القاذف
وقال علي رضي الله عنه: اجتماع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع ورأيت الآن بيعهن فهو تصريح بالقول بالرأي
وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الأشعري أعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك(31/260)
ص -253-…ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جمعا
وقال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية
وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي
ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب من شرب هذي ومن هذي افترى فأرى عليه حد المفتري وهو قياس للشرب على القذف لأنه مظنة القذف التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشيء منزلته كما أنزل النوم منزلة الحدث والوطء في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ونظائره
ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول "الأمر في القضاء(31/261)
ص -254-…بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم يكن شيء من ذلك فاجتهد رأيك
ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم "أجتهد رأيي عند فقد الكتاب والسنة فزكاة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الأسنان لاختلاف منافعها كيف لم يعتبروا بالأصابع وقال في العول من شاء باهلته الحديث ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال لا أحسب كل شيء إلا مثله وقال في المتطوع إذا بدا له الإفطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ثم بدا له
ومن ذلك قول زيد في الفرائض والحجب وميراث الجد
ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين قال ابن عباس أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد أقول برأيي وتقول برأيك
فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلانه أغناه غيره عن الاجتهاد ولم يعترض عليهم في الرأي فانقعد اجماع قاطع على جواز القول بالرأي
وجه الاستدلال أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها فلا يخلوا إما أن يكون فيها دليل قاطع لله على حكم معين أو لم يكن فإن لم يكن وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد وإن كان فمحال إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه ولو أظهره وكان قاطعا لما خالفه أحد ولو(31/262)
ص -255-…خالفه لوجب تفسيقه وتأثيمه ونسبته إلى البدعة والضلال ولوجب منعه من الفتوى ومنع العامة من تقليده هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله وقد قال به قوم وإن كنا لا نراه
وعلى الجملة فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا وكان المحق بالسكوت عن المخالف وترك دعوته إلى الحق فاسقا فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم
وليس هذا كالعقليات فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر
وقد قال أهل الظاهر :إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل كقوله تعالى{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ}[النساء: من الآية11] فمعقول هذا أن لأبيه الثلثين وقوله تعالى{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[ الجمعة: من الآية9] فمعقوله تحريم التجارة والجلوس في البيت وقوله{وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}]النساء: من الآية77[و{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة:7] و {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الاسراء: من الآية23]فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس
ولا يخفى هذا على عامي فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل ؟(31/263)
ص -256-…هذا تمهيد الدليل وتمامه بدفع الاعتراضات
أدلة القائلين بمنع القياس والاجتهاد بالرأي:
وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة وهو قول النظام وقد فرغنا من إثباته وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس من حيث أن ما ذكرناه منقول عن بعضهم وليس للباقين إلا السكوت وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي وتارة يسلمون السكوت لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض لا على الموافقة في الرأي وتارة يقرون بالإجماع ولا يكترثون بتفسيق الصحابة وتارة يردون رأيهم إلى العمومات ومقتضى الألفاظ وتحقيق مناط الحكم دون القياس
فهذه مدارك اعتراضتهم وهي خمسة :
الاعتراض الأول: قال الجاحظ حكاية عن النظام:إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من أعمال الرأي والقياس لم يقع بينهم التهارج والخلاف ولم يسفكوا الدماء لكن لما عدلوا عما كلفوا وتخيروا وتآمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا وتورطوا فيما كان بينهم من القتل والقتال
وكذلك الرافضة بأسرهم :زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا وغصبوا الحق أهله وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى القيامة فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف
وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي ففسق وضل ونسبهم إلى الصلال ويدل على فساد قوله ما دل على أن الأمة لا تجتمع على الخطأ وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن والأخبار عليهم كما(31/264)
ص -257-…تتركز في كتاب الإمامة وكيف يعتقد العاقل القدح فمن أثنى الله ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام
الاعتراض الثاني: قولهم لا يصح الرأي والقياس إلا من بعضهم وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم فإن فيهم من لم يخض في القياس وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ثم شرع في ثلب العبادلة وقال كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم وأثنى على العباس والزبير إذ تركا القول بالرأي ولم يشرعا
وقال الداودية لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي والتخطئة فيه إذ قال أبو بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان
وقال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطأوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوا وقالت عائشة رضي الله عنها أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع(31/265)
ص -258-…رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة
وقال ابن عباس من شاء باهلته إن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا؟!
وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة إن يك خطأ فمني ومن الشيطان
وقال عمر إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وقال علي وعثمان رضي الله عنهما لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وقال عمر رضي الله عنه اتهموا الرأي على الدين فإن الرأي منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال أيضا إن قوما يفتون بآرائهم ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون
وقال ابن مسعود قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان وقال أيضا إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله وحرمتم كثيرا مما أحله الله
وقال ابن عباس إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وقال الله(31/266)
ص -259-…تعالى لنبيه عليه السلام{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء: من الآية105]ولم يقل بما رأيت وقال إياكم والمقاييس فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس
وقال ابن عمر ذروني من أرأيت وأرأيت
وكذلك أنكر التابعون القياس قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب أحمد فأقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الجش أن السنة لم توضع بالمقاييس
وقال مسروق بن الأجدع لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها
والجواب من أوجه:
الأول: أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة كميراث الجد والأخوة وتعيين الإمام بالبيعة وجمع المصحف والعهد إلى عمر الخلافة وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الأمة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم وشجاعة علي فجاوز الأمر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد
وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع ومروية عن غير ثبت وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله؟! ولو تساوت في الصحة لوجب إطراح جميعها والرجوع إلى ما تواتر مشاورة الصحابة واجتهادهم
الثاني: أنه لو صحت هذه الروايات وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي(31/267)
ص -260-…الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد أو وضع الرأي في غير محله والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسخ على منوال سابق
وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال اتخذ الناس رؤساء جهالا وقال لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال وأحلوا الحرام
فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي والقياس والمنكرون للقياس لا يقرون بصحة شيء منه أصلا
ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي والقياس كقياس أصحاب الظاهر إذا قالوا الأصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك ولا تثبت الأصول بالظن فكذلك الفروع وقالوا لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية فقاسوا الشيء بما لا يشبهه فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين
الاعتراض الثالث: أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين وإن ذلك لو كان باطلا لأنكروه فنقول لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه والدليل عليه أن مسائل الأصول فيها قواطع وقد اختلف الأصوليون في صيغة الأمر وصيغة العموم والمفهوم واستصحاب الحال وأفعال النبي عليه السلام بل في أصل خبر الواحد وأصل القياس وأصل الأجماع وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي والإثبات ولم ينقل عن الصحابة والتابعين التأثيم والتفسيق فيها
والجواب أن حمل سكوتهم على المجاملة والمصالحة واتقاء الفتنة محال لأنهم اختلفوا في المسائل وتناظروا وتحاجوا ولم يتجاملوا ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ولم ينكر بعضهم على بعض ولو كان ذلك بالغا(31/268)
ص -261-…مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم والتفسيق كما فعلوا بالخوارج والروافض والقدرية وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم
وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال فإن قول القائل لغيرة لست شارعا ولا مؤذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ليس كلاما خفيا عجز عن دركه الإفهام وكل من قاس بغير إذن فقد شرع فلولا علمهم حقيقة بالأذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع واختراع الأحكام
وأما ما ذكروه من مسائل الأصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ولا في خبر الواحد ولا في الإجماع بل أجمعوا عليه وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد وأما العموم والمفهوم وصيغة الأمر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الأصوليين ولكن كانوا يتمسكون في مناراتهم بالعموم والصيغة ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للأحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة فما جردوا النظر في هذه المسائل كيف وقد قال بعض الفقهاء ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والإجماع أدلة قاطعة بل هي في محل الاجتهاد فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الإشكال وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الأصوليين فإن هذه أصول الأحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها
وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية
الاعتراض الرابع: قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر واستصحاب حال ومفهوم لفظ واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين وصحة رد مقيد إلى مطلق وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير(31/269)
ص -262-…على حكم العقل الأصلي وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه والحكم إذا صار معلوما بضابط فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره
فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص والأحوال إلا بالاجتهاد فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم كقول ابن عباس في دية الأسنان كيف لم يعتبروا بالأصابع ؟ إذ عللوا اختلاف دية الأسنان باختلاف منافعها وذلك منقوض بالأصابع
ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا
وكذلك قول علي أيضا أرأيت لو اشتركوا في السرقة ؟حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شيء مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا
والجواب: أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز
والإنصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الألفاظ وتحقيق مناط الأحكام إذ يجوز أن يتعبد(31/270)
ص -263-…بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما فإنه قاس العهد على العقد بالبيعة وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الأب قياسا على أم الأم وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة وتصريح علي بالقياس على الإفتراء في حد الشرب ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ولا تنحصر
ولنعين مسألتين مشهورتين نقلنا على التواتر وهي مسألة الجد والأخوة ومسألة الحرام
أما في قوله أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار وبعضهم بالطلاق وبعضهم باليمين وكل ذلك قياس وتشبيه في مسألة لا نص فيها إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }[التحريم: من الآية1] والنزاع وقع في المنكوحة فكان من حقهم أن يقولوا هذه لفظة لا نص في النكاح فلا حكم لها ويبقى الحل والملك مستمرا كما كان لأن قطع الحل والملك أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو ياس على منصوص ولا نص والقياس باطل فلا حكم
فلم قاسوا المنكوحة على الأمة ؟ولم قاسوا هذا اللفظ على لقظ الطلاق وعلى(31/271)
ص -264-…لفظ الظهار وعلى لفظ اليمين ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها
وكذلك الجد وحده عصبة بالنص والأخ وحده عصبة ولا نص عند الاجتماع فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وصرح من قدم الجد وقال ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب والجد أيضا يدلي به والمدلي به واحد والإدلاء مختلف فقاسوا الإدلاء بجهة الأبوة على الإدلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الأبوة في أحكام
وكذلك قال زيد في مسألة زوج وأبوين للأم ثلث ما بقي فقال ابن عباس أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي فقال أقول برأيي وتقول برأيك فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج إذ يكون للأب ضعف ما للأم فقال نقدر كأن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال ونقدر كأن الزوج لم يكن
وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض وغيرها علم ضرورة سلوكم طرق المقايسة والتشبيه وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص وغيره ورأوا جامعا وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الأقوى الأغلب فإنا نعلم أنهم ما طلبوا(31/272)
ص -265-…المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لأتحدت المسألة ولم تتعدد فيبطل التشبيه والمقايسة وكانوا لا يكتفون بالإشتراك في أي وصف كان بل في وصف هو مناط الحكم وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد والخلاف مجال فكانوا يدركون ذلك بظنون وأمارات ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل
الاعتراض الخامس: أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام فيجب إظهار مستندهم والتمسك به فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ووضعوه ونحن نسلم وجوب الإتباع فيما سمعوه فإنه إذا قال عليه السلام إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الأوصاف فاتبعوه فإن الأمر كما ظننتموه أو حكم الظان على ما ظنه فهي علامة في حقه وغير علامة في حق من ظنه بخلافه فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به فإنه إذا قال إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار واعلموا أني حرمت الربا في البر لكنا نقطع بتحريم البر وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس ولكن من أين فهم الصحابة هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذه مؤونة كفيناها فإنهم مهما أجمعوا على القياس فقد ثبت بالقواطع أن الأمة لا تجتمع على الخطأ بل لو وضعوا القياس واخترعوا استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الإتباع فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم
الثاني: هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر وعن دلالات وقرائن أحوال وتكريرات وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد(31/273)
ص -266-…وبالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس فلم ينقل اكتفاء بما علمته الأمة ضرورة وإلى ما نقل ولكن لم يبق في هذه الأعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر ولا يورث العلم وإلى ما تواتر ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه فلا يحصل العلم بآحادها وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها فلم ينقل إلينا فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه عل التواتر من إجماعهم
ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والألفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس
مستندات الصحابة في العمل بالقياس :
وذلك من القرآن وقوله تعالى: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر: من الآية2] إذ معنى الاعتبار العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى كما قال ابن عباس هلا اعتبروا بالأصابع وقوله تعالى{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: من الآية83]وقوله{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام: من الآية38] وليس في الكتاب مسألة الجد والأخوة ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب
وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات وليست مرضية لأنها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن
ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ بم تحكم؟ قال بكتاب الله وسنة نبيه قال: فإن لم تجد قال أجتهد رأيي فقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا(31/274)
ص -267-…وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده وهذا كقوله لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين وغير ذلك مما علمت به الأمة كافة إلا أنه نص في أصل الاجتهاد ولعله في تحقيق المناط وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة فلا يتناول القياس إلا بعمومه
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين تردد في قبلة الصائم "أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح؟" فقال :لا فقال فلم إذا فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب لكنه ليس بصريح إلا بقرينه إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشيء بالشيء فقال إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص لأنه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب
ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم قال فدين الله أحق بالقضاء فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا إذ لو كان لتعلم القياس لقيس عليه السلام الصوم والصلاة
ومن ذلك قوله عليه السلام: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة أي القافلة فادخروا" فبين أنه وان سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة وقد زالت العلة فزال الحكم
ومن ذلك قوله عليه السلام: " أينقض الرطب إذا يبس؟ فقيل نعم قال فلا إذا(31/275)
ص -268-…وقوله تعالى{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}[الحشر: من الآية7] وقال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم ألا أخبرتيه "أني أقبل وأنا صائم تنبيها على قياس غيره عليه
وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي ودل عليه قوله تعالى{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ }[لنساء: من الآية105]
وليس الرأي إلا تشبيها وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشيء وأشبه به وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالأمر وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالأمر
وقال عمر يا أيها الناس إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا فإن الله تعالى كان يسدده وإنما هو منا الظن والتكلف فلم يفرق إلا في العصمة
ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه فأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم فقال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله
ومن ذلك قوله إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران
ومن ذلك أنه عليه السلام شاور الصحابة في عقوبة الزنا والسرقة قبل نزول الحد
ومن ذلك قوله عليه السلام لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار وباعها(31/276)
ص -269-…ومن ذلك تعليلاته بعض الأحكام كقوله لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا وقوله في الشهداء مثل لك وقوله أنها من الطوافين عليكم والطوافات وقوله في الذي ابتاع غلاما واستغفله ثم رده الخراج بالضمان
فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر وآحادها لا تدل دلالة قاطعة ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في أشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس والله أعلم
القول في شبه المنكرين للقياس والصائرين إلى حظره من جهة الكتاب والسنة:
وهي سبع:
الأولى:تمسكهم بقوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية38]وقوله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: من الآية89]قالوا معناه بيانا لكل شيء مما شرع لكم فإنه ليس فيه بيان الأشياء كلها فليكن كل مشروع في الكتاب وما ليس مشروعا فيبقى على النفي الأصلي
والجواب من أوجه:
الأول: أنه أين في كتاب الله تعالى مسألة الجد والأخوة والعول والمبتوتة والمفوضة وأنت علي حرام ؟وفيها حكم لله تعالى شرعي اتفق الصحابة على(31/277)
ص -270-…طلبه والكتاب بيان له إما بتمهيد طريق الاعتبار أو بالدلالة على الإجماع والسنة وقد ثبت القياس بالإجماع والسنة فيكون الكتاب قد بينه
الثاني: أنكم حرمتم القياس وليس في كتاب الله تعالى بيان تحريمه فيلزمكم تخصيص قوله تعالى{لِكُلِّ شَيْءٍ }[الأنعام: من الآية154]كما خصص قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }[الرعد: من الآية16]{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23 ] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ }[الاحقاف: من الآية25]
الثانية: قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }]المائدة: من الآية49[وهذا حكم بغير المنزل
قلنا: القياس ثابت بالسنة والإجماع وقد دل عليه الكتاب المنزل كيف ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل
ثم هذا خطاب مع الرسول عليه السلام وقد قاسوا عليه غيره فأقروا بالقياس في معرض إبطال القياس مع انقداح الفرق إذ قال قوم لم يجز الاجتهاد للرسول عليه السلام كي لا يتهم ولأنه كان يقدر على التبليغ بالوحي بخلاف الأمة
وهذا الجواب أيضا عن قوله{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[لأعراف: من الآية3]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }[المائدة: من الآية44]
الثالثة: قوله تعالى{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}]البقرة: من الآية169[{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}]الاسراء: من الآية36[ {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[لنجم: من الآية28]و{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }[الحجرات: من الآية12](31/278)
ص -271-…قلنا إذا علمنا أنا إذا ظننا كون زيد في الدار حرم علينا الربا في البر ثم ظننا كان الحكم مقطوعا به لا مظنونا كما إذا ظن القاضي صدق الشهود وكما في القبلة وجزاء الصيد وأبواب تحقيق مناط الحكم
ثم نقول: هذا عام أراد به ظنون الكفار المخالفة للأدلة القاطعة
ثم نقول: ألستم قاطعين بإبطال القياس مع أنا نقطع بخطئكم فلا تحكموا بالظن وليس من الجواب المرضي قول القائل الظن علم في الظاهر فإن العلم ليس له ظاهر وباطن
الرابعة: قوله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }[الأنعام: من الآية121]قالوا وأنتم تجادلون في القياس
قلنا: وأنتم تجادلون في نفيه وإبطاله فإن قلتم أراد به الجدال الباطل فهو عذرنا فإنه رد عليهم في جدالهم بخلاف النص حيث قالوا نأكل مما قتلناه ولا نأكل مما قتله الله ؟!وكما قاسوا الربا على البيع فرد الله تعالى عليهم في قولهم{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا }[البقرة: من الآية275]
الخامسة: قوله تعلقهم بقوله تعالى: { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: من الآية59]قالوا: وأنتم تردون إلى الرأي
قلنا لا بل نرده إلى العلل المستنبطة من نصوص النبي عليه السلام والقياس عبارة عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم
وأنتم فقد رددتم القياس من غير رد إلى نص النبي عليه السلام ولا إلى معنى مستنبط من النص(31/279)
ص -272-…السادسة: قوله عليه السلام: "تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا"
قلنا: أراد به الرأي المخالف للنص بدليل قوله ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وما نقلوا من آثار الصحابة في ذم الرأي والقياس قد تكلمنا عليه
السابعة: قول الشيعة وأهل التعليم إنكم اعترفتم ببطلان القياس بخلاف النص والنصوص محيطة بجميع المسائل وإنما يعلمها الإمام المعصوم وهو نائب الرسول فيجب مراجعته .
قالوا:ولا يمنع من هذا كون الوقائع غير متناهية وكون النصوص متناهية لأن التي لا تتناهى أحكام الأشخاص كحكم زيد وعمرو في أنه عدل تقبل شهادته أم لا وفقير تصرف إليه الزكاة أم لا ومسلم أن هذا يعرف بالاجتهاد لأنه يرجع إلى تحقيق مناط الحكم أما الروابط الكلية للأحكام فيمكن ضبطها بالنص بأن نقول مثلا من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فيلزمه القطع ومن أفطر في نهار رمضان بجماع تام أثم به لأجل الصوم لزمته الكفارة فما تناولته الرابطة الجامعة يجري فيه الحكم وما خرج عنه مما لا يتناهى يبقى على الحكم الأصلي فتكون محيطة بهذه الطرق
والجواب: أنا لا نسلم بطلان القياس مع النص ونسلم إمكان الربط بالضوابط والروابط الكلية لكنكم اخترعتم هذه الدعوى فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الجد والحرام والمفوضة ومسائل كثيرة وكانوا(31/280)
ص -273-…يطلبون من سمع فيها حديثا من النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم المعصوم بزعمكم وكانوا يشاورونه ويراجعونه فتارة وافقوه وتارة خالفوه ولم ينقل قط حديث ولا نص إلا ساعدوه بل قبلوا النقل من كل عدل فضلا عن الخلفاء الراشدين فلم كتم النص عنهم في بعض المسائل وتركهم مختلفين إن كانت النصوص محيطة ؟فبالضرورة يعلم من اجتهادهم واختلافهم أن النصوص لم تكن محيطة فدل هذا أنهم كانوا متعبدين بالاجتهاد
القول في شبههم المعنوية :
وهي ست:
الأولى: قول الشيعة والتعليمية إن الاختلاف ليس من دين الله ودين الله واحد ليس بمختلف وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة الرأي منبع الخلاف فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشيء ونقيضه دينا وإن كان المصيب واحدا فهو محال إذ ظن هذا كظن ذاك والطنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ورب كلام تميل إليه نفس زيد وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[النساء: من الآية82]وقال{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: من الآية13]وقال{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[لأنفال: من الآية46]وقال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }[الأنعام: من الآية159]وقال تعالى{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران: من الآية105](31/281)
ص -274-…وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف فقال عمر رضي الله عنه لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا وسمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد والثوبين فصعد عمر إلى المنبر وقال اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها فقلت إن بينكما لشرا فقال علي ما بيننا إلا خير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي
والجواب:أن الذي نراه تصويب المجتهدين وقولهم أن الشيء ونقيضه كيف يكون دينا؟ قلنا يجوز ذلك في حق شخصين كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر والقبلة في حق من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة وكجواز ركوب البحر وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة وعلى ظن الآخر الهلاك وكتصديق الراوي والشاهد وتكذيبهما في حق قاضيين ومفتيين يظن أحدهما الصدق والآخر الكذب
وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به ؟!
قلنا بل يؤمر المجتهد بظنه وإن خالفه غيره فليس رفعه داخلا تحت اختياره فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به وقوله تعالى{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[النساء: من الآية82]معناه التناقض والكذب الذي يدعيه الملحدة أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ونثره وليس المراد به نفي الاختلاف في الأحكام لأن جميع الشرائع والملل من عند الله وهي مختلفة والقرآن فيه(31/282)
ص -275-…أمر ونهي وإباحة ووعد ووعيد وأمثال ومواعظ وهذه اختلافات
أما قوله {وَلا تَتَفَرَّقُوا }[الشورى: من الآية13] {وَلا تَنَازَعُوا} فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والقيام بنصرته وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد ولذلك قال تعالى{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران: من الآية105]وقوله تعالى {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[لأنفال: من الآية46]أراد به التخاذل عن نصرة الدين
وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف فكيف يصح وهم أول المختلفين والمجتهدين؟ واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين أو في أمر الخلافة والإمامة والخلاف بعد الإجماع أو الاختلاف على الأئمة والولاة والقضاة أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي وليسوا أهل الاجتهاد
وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع ولذلك قال عمر عن أي فتياكم يصدر المسلمون وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام أو لعل كل واحد أثم صاحبه وبالغ فيه فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد فتحير السائل فقال عن أي فتياكم يصدر الناس أي العامة بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا للعامي فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه فيتحير السائل(31/283)
ص -276-…وأما اختلاف عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح بل صح عن علي نقله تحريم متعة النساء ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر كيف وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد
أما كتاب علي إلى قضاته وكراهية الاختلاف فيحتمل وجوها أحدها أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال اقضوا كما كنتم تقضون إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتق آخر وحمل ذلك على تعصب مني ومخالفة ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض بعد فيجوز الخلاف فكره لهم مخالفة السابقين واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب لأنهم حاربوا على تأويل وفي رد شهادتهم تعصب وتجديد خلاف
الثانية قولهم:النفي الأصلي معلوم والاستثناء عنه بالنص معلوم فيبقى المسكوت عنه على النفي الأصلي المعلوم فكيف يندفع المعلوم على القطع بالقياس المظنون
قلنا: العموم والظواهر وخبر الواحد وقول المقوم في أروش الجنايات(31/284)
ص -277-…والنفقات وجزاء الصيد وصدق الشهود وصدق المخالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النفي الأصلي
ثم نقول نحن لا نرفع ذلك إلا بقاطع فإنا إذا تعبدنا بإتباع العلة المظنونة وظننا فنقطع بوجود الظن ونقطع بوجود الحكم عند الظن فلا يرفع ذلك إلا بقاطع
الثالثة: قولهم كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات إذ قال يغسل الثوب من بول الصبية ويرش من بول الصبي ويجب الغسل من المني والحيض ولا يجب من البول والمذي وفرق في حق الحائض بين قضاء الصلاة والصوم وأباح النظر إلى الرقيقة دون الحرة
وجمع بين المختلفات فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ وفرق في حلق الشعر والتطيب بين العمد والخطأ وأوجب الكفارة بالظهار والقتل واليمين والأفطار وأوجب القتل على الزاني والكافر والقاتل وتارك الصلاة وقال لأبي "بردة تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك" في الأضحية وقيل للنبي عليه السلام{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }[الأحزاب: من الآية50]
وكيف يتحاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكون ذلك تحكما وتعبدا؟!(31/285)
ص -278-…قلنا لا ننكر إشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات فلا جرم نقول الأحكام ثلاثة أقسام قسم لا يعلل أصلا وقسم يعلم كونه معللا كالحجر على الصبي فإنه لضعف عقله وقسم يتردد فيه ونحن لا نقيس ما لم يقم لنا دليل على كون الحكم معللا ودليل على عين العلة المستنبطة ودليل على وجود العلة في الفرع وعند ذلك يندفع الأشكال المذكور
ولما كثرت التعبدات في العبادات لم يرتضى قياس غير التكبير والتسليم والفاتحة عليها ولا قياس غير المنصوص في الزكاة على المنصوص وإنما نقيس في المعاملات وغرامات الجنايات وما علم بقرائن كثيرة بناؤها على معان معقولة ومصالح دنيوية
الرابعة:قولهم إن النبي عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم ويعدل إلى الطويل الموهم؟! فيعدل عن قوله حرمت الربا في كل مطعوم أو كل مكيل إلى عد الأشياء الستة ليرتبك الخلق في ظلمات الجهل
قلنا: ولو ذكر الأشياء الستة وذكر معها أن ما عداها لا ربا فيه وأن القياس حرام فيه لكان ذلك أصرح وللجهل والاختلاف أدفع فلم لم يصرح وقد كان قادرا ببلاغته على قطع الاحتمال للألفاظ العامة والظواهر وعلى أن يبين الجميع في القرآن المتواتر ليحسم الاحتمال عن المتن والسند جميعا؟ وكان قادرا على رفع احتمال التشبيه في صفات الله تعالى بالتصريح بالحق في جميع ما وقع الخلاف فيه في العقليات وإذا لم يفعل فلا سبيل إلى التحكم على الله ورسوله فيما صرح ونبه وطول وأوجز والله أعلم بأسرار ذلك كله
ثم نقول: إن علم الله تعالى لطفا وسرا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم(31/286)
ص -279-…بالتشمير عن ساق الجد في استنباط أسرار الشرع فيتعين عليه أن يذكر البعض ويسكت عن البعض وينبه عليها تنبيها يحرك الدواعي للاجتهاد { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: من الآية11] المجادلة هذا على مذهب من يوجب الصلاح وعندنا فلله تعالى أن يفعل بعباده ما يشاء
الخامسة:قولهم أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة فكيف يثبت في الفرع بالعلة وهو تابع للأصل .؟فكيف يكون ثبوت الحكم فيه بطرق سوى طريق الأمل وأن ثبت في الأصل ؟بالعلة فهو محال لأن النص قاطع والعلة مظنونة والحكم مقطوع به فكيف يحال المقطوع به على العلة المظنونة ؟
قلنا: الحكم في الأصل يثبت بالنص وفائدة استنباط العلة المظنونة إما تعدية العلة وأما الوقوف على مناط الحكم المظنون للمصلحة وأما زوال الحكم عند زوال المناط كما سيأتي في العلة القاصرة
وأما الحكم في الفرع وإن كان تابعا للأصل في الحكم فلا يلزم أن يتبعه في الطريق فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات ولا يلزم مساواة الفرع لها في الطريق وإن لزمت المساواة في الحكم
السادسة: وهي عمدتهم الكبرى أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها فلو قال الشارع اتقوا الربا في كل مطعوم فهو توقيف عام ولو قال اتقوا الربا في البر لأنه مطعوم فهذا لا يساويه ولا يقتضي الربا في غير البر كما لو قال المالك أعتق من عبيدي كل أسود عتق كل أسود فلو قال أعتق غانما لسواده أو لأنه أسود لم يعتق جميع عبيده(31/287)
ص -280-…السود وكذلك لو علل بمخيل وقال أعتقوا غانما لأنه سيء الخلق حتى أتخلص منه لم يلزم عتق سالم وإن كان أسوأ خلقا منه فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها فالمستنبطة كيف تعدى أو كيف يفرق بين كلام الشارع وبين كلام غيره في الفهم وإنما منهاج الفهم وضع اللسان وذلك لا يختلف
والجواب: أن نفاة القياس ثلاث فرق وهذا لا يستقيم من فريقين وإنما يستقيم من الفريق الثالث إذ منهم من قال التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام فإنه لا فرق بين قوله حرمت الخمر لشدتها وبين قوله حرمت كل مشتد في أن كل واحد يوجب تحريم النبيذ لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس بل فائدة قوله لشدتها إقامة الشدة مقام الإسم العام فقد أقر هذا القائل بالإلحاق وإنما أنكر تسميته قياسا
الفريق الثاني: من القاشانية والنهروانية فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها
وما فارقهم الفريق الأول إلا في التسمية حيث لم يسموا هذا الفن قياسا(31/288)
ص -281-…والفريقان مقران بأن هذا في العتق والوكالة لا يجري فلا يصح منهما الاستشهاد مع الإقرار بالفرق
أما الفريق الثالث: وهو من أنكر الإلحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة
وجوابهم من ثلاثةأوجه :
الأول أن الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية فقال لو قال أعتقت هذا العبد لسواده فاعتبروا وقيسوا عليه كل أسود لعتق كل عبد أسود وهو وزان مسألتنا إذا أمر بالقياس والاعتبار ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد التنصيص على العلة لا يرخص في الإلحاق إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمرخاصة
ومنهم من قال إن علم قطعا قصده إلى عتقه لسواده عتق كل عبد أسود بقوله أعتقت غانما لسواده ومنهم من قال لا يكفي أن يعلم قصده عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإن نوى كفاه هذا اللفظ لإعتاق جميع السودان مع النية ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص وذلك غير منكر كما لو قال والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائة جرعة ونوى به دفع المنة حنث بأخذ الدراهم والثياب والأمتعة وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام كما صلح قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}[النساء: من الآية10]للنهي عن الإتلاف العام وقوله{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الاسراء: من الآية23]للنهي عن الإيذاء العام
فإذا: يستتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم بالشدة المجردة(31/289)
ص -282-…ولكنه غير مرضي عندنا بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله أعتقت غانما لسواده وإن نوى عتق السودان لأنه يبقى في حق غير غانم مجرد النية والإرادة فلا تؤثر
الوجه الثاني: من الجواب أن الأمة مجمعة على الفرق إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد ولو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق ؟
وإنما اعترفوا بالفرق لأن الحكم لله في أملاك العباد وفي أحكام الشرع وقد علق أحكام الأملاك حصولا وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة وأما أحكام الشرع فتتبت بكل ما دل على رضا الشرع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه وثبت الحكم به فكيف يتساويان ؟
بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الألفاظ فإنه لو قال الزوج فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق فإذا تلفظ بالطلاق وقع وإن نوى غير الطلاق فإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا
الوجه الثالث: أن قول القائل لا تأكل هذه الحشيشة لأنها سم ولا تأكل الهليلج فإنه مسهل ولا تأكل العسل فإنه حار ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد ولا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل ولا تجالس فلانا فإنه أسود فأهل اللغة(31/290)
ص -283-…متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العله هذا مقتضى اللغة وهذا أيضا مقتضاه في العتق لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل ولا مانع منه في الشرع إذ كل ما عرف بإشارة وأمارة وقرينة فهو كما عرف باللفظ فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق لأن المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ويطلب منه الجامع ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما
.فإن قيل: إن قال من تجب طاعته بع هذه الدابة لجماحها وبع هذا العبد لسوء خلقه فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة ؟فإن قلتم يجوز فقد خالفتم الفقهاء وإن منعتم فما الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين ؟وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة
قلنا: أن كان قد قال له إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله فله أن يفعل ذلك وهو وزان حكم الشرع لكن يشترط أمر آخر وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف فإن اجتمع هذه الشروط جاز التصرف وهو وزان مسألتنا
فإن قيل: وإن كان الشارع قد قال ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح فلم يقل إني إذا ذكرت علة شيء ذكرت(31/291)
ص -284-…تمام أوصافه فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة ولله أسرار في الأعيان فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لخواص لا يطلع عليها فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ فبماذا يقع الأمر عن هذا ؟
وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس
والجواب: أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها كقوله أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه وقوله من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالأمة في معناه لأنا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع إمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للأنوثة في البيع والعتق وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطيعة لما اختلفوا فيها فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا
مسألة العلة المنصوصة
قال النظام العلة المنصوصة توجب الإلحاق لكن لا بطريق القياس بل بطريق اللفظ والعموم إذ لا فرق في اللغة بين قوله حرمت كل مشتد وبين(31/292)
ص -285-…قوله: حرمت الخمر لشدتها في أنه يقتضي تحريم النبيذ المشتد .
وهذا فاسد لأن قوله حرمت الخمر لشدتها لا يقتضي من حيث اللفظ والوضع إلا تحريم الخمر خاصة ولا يجوز إلحاق النبيذ ما لم يرد التعبد بالقياس وإن لم يرد فهو كقوله أعتقت غانما لسواده فإنه لا يقتضي إعتاق جميع السودان فكيف يصح هذا ولله أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الشدة ويجوز أن يعلم الله خاصية في شدة الخمر تدعو إلى ركوب القبائح ويعلم في شدة النبيذ لطفا داعيا إلى العبادات
فإذا قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس
فإن قيل: قول السيد والوالد لعبده ولده لا تأكل هذا لأنه سم وكل هذا فإنه غذاء يفهم منه المنع عن أكل سم آخر والأمر يتناول ما هو مثله في الإغتذاء
قلنا: لأن ذلك معلوم بقرينة إطراد العادات ومعرفة أخلاق الآباء والسادات في مقاصدهم من العبيد والأبناء وأنهم لا يفرقون بين سم وسم وإنما يتقون الهلاك وأما الله تعالى إذا حرم شيئا بمجرد إرادته فيجوز أن يبيح مثله وأن يحرم لأن فيه رفقا ومصلحة فيجوز أن يكون قد سبق في علمه أن مثله مفسدة لأن تضمنه الصلاح والفساد ليس لطبعه ولذاته ولوصف هو عليه في نفسه بل يجوز أن يكون في فعل شيء وقت الزوال مصلحة وفيه وقت العصر مفسدة وكذلك يجوز أن يختلف بيوم السبت والجمعة والمكان والحال فكذلك يجوز أن يفارق شدة الخمر شدة النبيذ
فإن قيل: فإن لم يفهم النبيذ من الخمر فينبغي أن لا يفهم تحريم الضرب والأذى من التأفيف
قلنا الحق عندنا أن ذلك غير مفهوم من مجرد اللفظ العاري عن القرينة لكن(31/293)
ص -286-…إذا دلت قرينة الحال على قصد الإكرام فعند ذلك يدل لفظ التأفيف على تحريم الضرب بل يكون ذلك أسبق إلى الفهم من التأفيف المذكور إذا التأفيف لا يكون مقصودا في نفسه بل يقصد به التنبيه على منع الإيذاء بذكر أقل درجاته وكذلك النقير والقطمير والذرة والدينار لا يدل بمجرد اللفظ على ما فوقه في قوله تعالى{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة:7]وفي قوله تعالى{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ }[آل عمران: من الآية75] وفي قوله والله ما شربت لفلان جرعة ولا أخذت من ماله حبة بل بقرينة دفع المنة وإظهار جزاء العمل
وليس إلحاق الضرب بالتأفيف أيضا بطريق القياس لأن الفرع المسكوت عنه الملحق بطريق القياس هو الذي يتصور أن يغفل عنه المتكلم ولا يقصده بكلامه وهاهنا المسكوت عنه هو الأصل في القصد الباعث على النطق بالتأفيف وهو الأسبق إلى فهم السامع فهذا مفهوم من لحن القول وفحواه وعند ظهور القرينة المذكورة ربما تظهر قرينة أخرى تمنع هذا الفهم إذا الملك قد يقتل أخاه المنازع له فيقول للجلاد اقتله ولا تهنه ولا تقل له أف
أما تحريم النبيذ بتحريم الخمر فليس من هذا بالقبيل بل لا وجه له إلا القياس فإذا لم يرد التعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر لشدتها لا يفهم تحريم النبيذ بخلاف قوله حرمت كل مشتد
مسألة:تخصيص القياس:
ذهب القاشاني والنهرواني إلى الإقرار بالقياس لأجل إجماع الصحابة لكن خصصوا ذلك بموضعين:
أحدهما: أن تكون العلة منصوصة كقوله حرمت الخمر لشدتها وفإنها من الطوافين عليكم والطوافات
الثاني: الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه وقطع سارق رداء(31/294)
ص -287-…صفوان وكأنهم يعنون بهذا الجنس تنقيح مناط الحكم ويعترفون به
قلنا: هذا المذهب يمكن تنزيله على ثلاثة أوجه:أحدها أن يشترطوا مع هذا أن يقول وحرمت كل مشارك للخمر في الشدة ويقول في رجم ماعز وحكمي على الواحد حكمي على الجماعة
فهذا ليس قولا بالقياس بل بالعموم فلا يحصل التقصي به عن عهدة الإجماع المنعقد من الصحابة على القياس
الثاني: أن لا يشترط هذا ولا يشترط أيضا ورود التعبد بالقياس فهذه زيادة علينا وقول بالقياس حيث لا نقول به كما رددناه على النظام
الثالث: أن يقول مهما ورد التعبد بالقياس جاز الإلحاق بالعلة المنصوصة فهذا قول حق في الأصل خطأ في الحصر فإنه قصر طريق إثبات علة الأصل على النص وليس مقصورا عليه بل ربما دل عليه السبر والتقسيم أو دليل آخر وما لم يدل عليه دليل فنحن لا نجوز الجمع بين الفرع والأصل ولا فرق بين دليل ودليل
فإن قيل إذا كانت العلة منصوصة كان الحكم في الفرع معلوما ولم يكن مظنونا وحصل الأمن من الخطأ وإن كانت مستنبطة لم يؤمن الخطأ
قلنا أخطأتم في طرفي الكلام حيث ظننتم حصول الأمن بالنص وإمكان الخطأ عند عدم النص فإن وإن نص على شدة الخمر فلا نعلم قطعا أن شدة النبيذ في معناها بل يجوز أن يكون معللا بشدة الخمر خاصة إلا أن يصرح ويقول يتبع الحكم مجرد الشدة في كل محل فيكون ذلك لفظا عاما ولا يكون حكما بالقياس فلا يحصل التقصي عن عهدة الإجماع وإذا لم يصرح فنحن نظن أن النبيذ في معناه ولا نقطع فللظن مثاران في العلة المستنبطة أحدهما أصل العلة والآخر إلحاق الفرع بالأصل فإنه مشروط بانتفاء الفوارق وفي(31/295)
ص -288-…العلة المنصوصة مثار الظن واحد وهو إلحاق الفرع لأنه مبني على الوقوف على جميع أوصاف علة الأصل وأنه الشدة بمجردها دون شدة الخمر وذلك لا يعلم إلا بنص يوجب عموم الحكم ويدفع الحاجة إلى القياس
أما قوله في العلة المستنبطة:أنه لا يؤمن فيها الخطأ فهذا لا يستقيم على مذهب من يصوب كل مجتهد إذ شهادة الأصل للفرع عنده كشهادة العدل عند القاضي والقاضي في أمن من الخطأ وإن كان الشاهد مزورا لأنه لم يتعبد باتباع الصدق بل باتباع ظن الصدق وكذلك هاهنا لم يتعبد باتباع العلة بل باتباع ظن العلة وقد تحقق الظن
نعم هذا الإشكال متوجه من يقول المصيب واحد لأنه لا يأمن الخطأ ولا دليل يميز الصواب عن الخطأ إذ لو كان عليه دليل لكان آثما إذا أخطأ كما في العقليات
ثم نقول: إنما حملهم على الإقرار بهذا القياس إجماع الصحابة ولم يقتصر قياسهم على العلة المنصوصة إذ قاسوا في قوله أنت علي حرام وفي مسألة الجد والإخوة وفي تشبيه حد الشرب بحد القذف لما فيه من خوف الافتراء والقذف أوجب ثمانين جلدة لأنه نفس الإفتراء لا الخوف من الافتراء ولكنهم رأوا الشارع في بعض المواضع أقام مظنة الشيء مقام نفسه فشبهوا هذا به بنوع من الظن هو في غاية الضعف فدل أنهم لم يطلبوا النص ولا القطع بل اكتفوا بالظن
ثم نقول إذا جاز القياس بالعلة المعلومة فلنلحق بها المظنونة في حق العمل كما لتحق رواية العدل بالتواتر وشهادة العدل بشهادة النبي عليه السلام المعصوم والقبلة المظنونة بالقبلة المعاينة
وهذا فيه نظر لأنا وإن أثبتنا خبر الواحد وقبول الشهادة بأدلة قاطعة فقبول الشرع الظن في موضع لا يرخص لنا في قياس ظن آخر عليه بل لا بد من دليل على القياس المظنون كما في خبر الواحد وغيره(31/296)
ص -289-…مسألة التفريق بين الفعل والترك :
فرق بعض القدرية الفعل والترك فقال إذا علل الشارع وجوب فعل بعلة فلا يقاس عليه غيره إلا بتعبد بالقياس ولو علل تحريم الخمر بعلة وجب قياس النبيذ عليه دون التعبد بالقياس لأن من ترك العسل لحلاوته لزمه أن يترك كل حلو ومن ترك الخمر لإسكاره لزمه أن يترك كل مسكر أما من شرب العسل لحلاوته فلا يلزمه أن يشرب كل حلو ومن صلى لأنها عبادة لا يلزمه أن يأتي بكل عبادة وبنوا على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب بل من ترك ذنبا لكونه معصية لزمه ترك كل ذنب أما من أتى بعبادة لكونها طاعة فلا يلزمه أن يأتي بكل طاعة
وهذا محال في الطرفين لأنه لا يبعد في جانب التحريم أن يحرم الخمر لشدة الخمر خاصة ويفرق بين شدة الخمر وشدة النبيذ وأما في جانب الفعل فمن تناول العسل لحلاوته ولفراغ معدته وصدق شهوته لا يفرق بين عسل وعسل نعم لا يلزمه أن يأكل مرة بعد أخرى لزوال الشهوة وامتلاء المعدة واختلاف الحال فما ثبت للشيء ثبت لمثله كان ذلك في ترك أو فعل لكن المثل المطلق لا يتصور إذا الأثنينية شرط المثلية ومن شرط الأثنينية مغايرة ومخالفة وإذا جاءت المخالفة بطلت المماثلة وهذا له غور وليس هذا موضع بيانه هذا تمام النظر في إثبات أصل القياس على منكريه(31/297)
ص -290-…الباب الثاني في طريق إثبات علة الأصل وكيفية إقامة الدلالة على صحة آحاد الأقيسة:
وننبه في صدر الكتاب على :
مثارات الاحتمال في كل قياس إذ لا حاجة إلى الدليل إلا في محل الاحتمال ثم على انحصار الدليل في الأدلة السمعية ثم على انقسام الأدلة السمعية ،
إلى ظنية وقطعية
فهذه ثلاث مقدمات
المقدمة الأولى في مواضع الاحتمال من كل قياس :
وهي ستة:
الأول: يجوز أن لا يكون الأصل معلولا عند الله تعالى فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل
الثاني: أنه إن كان معللا فلعله لم يصب ما هو العلة عند الله تعالى بل علله بعلة أخرى
الثالث: أنه إن أصاب في أصل التعليل وفي عين العلة فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه(31/298)
ص -291-…الرابع: أن يكون قد جمع إلى العلة وصفا ليس مناطا للحكم فزاد على الواحد
الخامس: أن يصيب في أصل العلة وتعيينها وضبطها لكن يخطىء في وجودها في الفرع فيظنها موجودة بجميع قيودها وقرائنها ولا تكون كذلك
السادس: أن يكون قد استدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل وعند ذلك لا يحل له القياس وإن أصاب العلة كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس من غير دليل وكما لو ظن القبلة في جهة من غير اجتهاد فصلى فإنه لا تصح الصلاة
وزاد آخرون احتمالا سابعا: وهو الخطأ في أصل القياس إذا يحتمل أن يكون أصل القياس في الشرع باطلا
وهذا خطأ لأن صحة القياس ليس مظنونا بل هو مقطوع به ولو تطرق إليه احتمال التطرق إلى جميع القطعيات من التوحيد والنبوة وغيرهما
لا خطاء في القياس على مذهب المصوبة
والمثارات الستة لاحتمال الخطأ إنما تستقيم على مذهب من يقول المصيب واحد وفي موضع يقدر نصب الله تعالى أدلة قاطعة يتصور أن يحيط بها الناظر أما من قال كل مجتهد مصيب فليس في الأصل وصف معين هو العلة عند الله تعالى حتى يخطىء أصلها أو وصفها بل العلة عند الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظنه علة فلا يتصور الخطأ ولكنه على الجملة يحتاج إلى إقامة الدليل في هذه وإن كانت أدلة ظنية
المقدمة الثانية
إن هذه الأدلة لا تكون إلا سمعية بل لا مجال للنظر العقلي في هذه المثارات(31/299)
ص -292-…إلا في تحقيق وجود علة الأصل في الفرع فإن العلة إذا كانت محسوسة كالسكر والطعم والطوف في السؤر فوجود ذلك في النبيذ والأرز والفأرة قد يعلم بالحس وبالأدلة العقلية أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة وذلك وضع من الشارع ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل فليس إيجابها لذاتها ولا فرق بين قوله الشارع راجموا ماعزا وبين قوله جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم
هل تثبت العلة بغير النص ؟
فإن قيل:فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك ؟
قلنا:لا يثبت الحكم إلا توقيفا لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الأحكام مجرد النص بل النص والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الأحوال وشواهد الأصول وأنواع الأدلة فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص .
المقدمة الثالثة: درجات إلحاق المسكوت بالمنوطوق:
إن الحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون والمقطوع به على مرتبتين:
إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كقوله{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ }[الاسراء: من الآية23] فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم وكقوله عليه السلام "أدوا الخيط والمخيط" فإنه أفهم تحريم الغلول في الغنيمة بكل(31/300)
ص -293-…قليل وكثير وكنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين وكقوله العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء فإن الجنون والإغماء والسكر وكل ما أزال العقل أولى به من النوم.
وقد اختلفوا في تسمية هذا قياسا وتبعد تسميته قياسا لأنه لا يحتاج فيه إلى فكر واستنباط علة ولأن المسكوت عنه هاهنا كأنه أولى بالحكم من المنطوق به ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة
وهذا الجنس قد يلتحق بأذياله ما يشبهه من وجه ولكنه يفيد الظن دون العلم كقولهم إذا وجبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد أولى لأن فيه ما فيه الخطأ وزيادة عدوان وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى لأن الكفر فسق وزيادة وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن الوثني أولى لأنه كافر مع زيادة جهل وهذا يفيد الظن في حق بعض المجتهدين وليس من جنس الأول بل جنس الأول أن يقول إذا قبلت شهادة اثنين فشهادة الثلاثة أولى وهو مقطوع به لأنه وجد فيه الأول وزيادة والعمياء عوراء مرتين ومقطوع الرجلين أعرج مرتين
فأما العمد فيخالف الخطأ فيجوز أن لا تقوى الكفارة على محوه بخلاف الخطأ بل جنس الأول قولنا من واقع أهله في نهار رمضان فعليه الكفارة فالزاني به أولى إذ وجد في الزنا إفساد الصوم بالوطء وزيادة ولم يوجد في العمد الخطأ وزيادة وكذلك الفاسق متهم في دينه فيكذب والكافر يحترز من الكذب لدينه وقبول الجزية نوع احترام وتخفيف ربما لا يستوجبه الوثني بدليل أنه لو وقع التصريح بالفرق بين هذه المسائل لم تنفر النفس عن قبوله ولو قيل تجزىء العمياء دون العوراء أو تقبل شهادة اثنين ولا تقبل(31/301)
ص -294-…شهادة ثلاثة كان ذلك مما تنفر النفس عن قبوله وإنما نفرت النفس عن قبوله لما علم قطعا من أن منع العوراء لأجل نقصانها وقبول شهادة اثنين لظهور صدق الدعوى وتحريم التأفيف لإكرام الآباء فمع فهم هذه المعاني يتناقض الفرق ولم يفهم مثل ذلك من قتل الخطأ وشهادة الكافر وجزية الوثني
المرتبة الثانية: ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به ولا يكون أولى منه ولا هو دونه فيقال إنه في معنى الأصل وربما اختلفوا في تسميته قياسا ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي" فإن الأمة في معناه وقوله "أيما رجل أفلس أو مات فصاحب المتاع أحق بمتاعه" فالمرأة في معناه وقوله تعالى وبكم النساء فالعبد في معناها وقوله عليه السلام من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فإن الجارية في معناه وقوله في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد أن العسل لو كان جامدا في معناه
وهذا جنس يرجع حاصله إلى العلم بأن الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به لا مدخل له في التأثير في جنس ذلك الحكم وإنما يعرف أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في ذلك الجنس حتى يعلم أن حكم الرق والحرية ليس يختلف بذكورة وأنوثة كما لا يختلف بالبياض والسواد والطول والقصر والحسن والقبح فلا يجري هذا في جنس من الحكم تؤثر الذكورة فيه والأنوثة كولاية النكاح والقضاء والشهادة وأمثالها
وضابط هذا الجنس أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير قطعا فإن تطرق الاحتمال إلى قولنا لا فارق إلا كذا بأن احتمل أن يكون ثم فارق آخر وتطرق الاحتمال إلى قولنا لا مدخل له في التأثير بأن احتمل أن يكون له مدخل لم يكن هذا الالحاق مقطوعا به بل ربما كان مظنونا(31/302)
ص -295-…ويتعلق بأذيال هذا الجنس ما هو مظنون كقولنا إنه لو أضاف العتق إلى عضو معين سرى فإنه إذا أضاف إلى النصف سرى لأنه بعض واليد بعض وهذا يغلب على ظن بعض المجتهدين ومساواة البعض المعين للبعض الشائع في هذا الحكم غير مقطوع به لأن هذا النوع من المفارقة لا يبعد أن يكون له مدخل في التأثير ومن هذا الجنس ما يتعلق بتنقيح مناط الحكم كقوله للأعرابي الذي جامع امرأته في رمضان أعتق رقبة فإنا نعلم أن التركي والهندي في معنى العربي إذ علمنا أن ذلك لا مدخل له في الحكم ويعلم أن العبد في معنى الحر فيلزمه الصوم لأنه شاركه في وجوب الصوم
ولا نرى الصبي فيمعناه لأنه لا يشاركه في اللزوم وللزوم مدخل في التأثير
وإن نظرنا إلى المحل فقد واقع أهله فيعلم أنه لو واقع مملوكته فهو في معناه بل لو زنى بامرأة فهو بالكفارة أولى أما اللواط وإتيان البهيمة والمرأة الميتة هل هو في معناه ؟ربما يتردد فيه والأظهر أن اللواط في معناه
وإن نظرنا إلى الصوم المجني عليه فقد جرى وقاع الأعرابي في يوم معين وشهر معين فيعلم أن سائر الأيام في ذلك الشهر وسائر شهور رمضان في معناه
والقضاء والنذر ليس في معناه لأن حرمة رمضان أعظم فهتكها أفحش وللحرمة مدخل في جنس هذا الحكم
وإن نظرنا إلى نفس هذا الفعل فهل يلتحق به الأكل والشرب وسائر المفطرات ؟هذا في محل النظر إذ يحتمل أن يقال إنما وجبت الكفارة لتفويت الصوم والوطء آلته كما يجب القصاص لتفويت الدم ثم السيف والسكين وسائر الآلات(31/303)
ص -296-…على وتيرة واحدة ويحتمل أن يقال الكفارة زجر ودواعي الوقاع لا تنخنس بمجرد وازع الدين فافتقر إلى كفارة زاجرة بخلاف داعية الأكل وهذه ظنون تختلف بالإضافة إلى المجتهدين
وهل يسمى إلحاق الأكل ههنا بالجماع قياسا ؟اختلفوا فيه فقال أصحاب أبي حنيفة لا قياس في الكفارات وهذا استدلال وليس بقياس بل هو استدلال على تجريد مناط الحكم وحذف الحشو منه ولفظة القياس اصطلاح للفقهاء فيختلف إطلاقها بحسب اختلافهم في الاصطلاح فلست أرى الأطناب في تصحيح ذلك أو إفساده لأن أكثر تدوار النظرلا فيه على اللفظ
وعلى الجملة فلا يظه بالظاهر في المنكر للقياس إنكار المعلوم والمقطوع به من هذه الإلحاقات لكن لعله ينكر المظنون منه ويقول ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير فه كاختلاف الزمان والمكان والسواد والبياض والطوال والقصر فيجب حذفه عن درجة الاعتبار أما ما يحتمل فلا يجوز حذفه بالظن وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العمل لأن المسائل التي اختلفوا فيها واجتهدوا كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية
وعلى الجملة فلإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق طريقان متباينان:
أحدهما: الإلحاق بنفي الفارق:
أن لا يتعرض إلا للفارق وسقوط أثره فيقول لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة ثم يقول ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير وهذه مقدمة أخرى فيلزم منه نتيجة وهو أنه لا فرق في الحكم
وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل كقرب الأمة من العبد لأنه لا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع(31/304)
ص -297-…الطريق الثاني: الإلحاق للاستواء في العلة:
أن يتعرض للجامع ويقصد نحوه ولا يلتفت إلى الفوارق وإن كثرت ويظهر تأثير الجامع في الحكم فيقول العلة في الأصل كذا وهي موجودة في الفرع فيجب الاجتماع في الحكم
وهذا هو الذي يسمى قياسا بالاتفاق أما الأول ففي تسميته قياسا خلاف لأن القياس ما قصد به الجمع بين شيئين وذلك قصد فيه نفي الفرق فحصل الاجتماع بالقصد الثاني لا بالقصد الأول فلم يكن على صورة المقايسة بالإضافة إلى القصد الأول
والطريق الأول الذي هو التعرض للفارق ونفيه ينتظم حيث لم تعرف علة الحكم بل ينتظم في حكم لا يعلل وينتظم حيث عرف أنه معلل لكن لم تتعين العلة فإنا نقول الزبيب في معنى التمر في الربا قبل أن يتعين عندنا علة الربا أنه الطعم أو الكيل أو القوت وينتظم حيث ظهر أصل العلة وتعين أيضا ولكن لم تتلخص بعد أوصافه ولم تتحرر بعد قيوده وحدوده
أما الطريق الثاني وهو الجمع فلا يمكن إلا بعد تعين العلة وتلخيصها بحدها وقيودها وبيان تحقيق وجودها بكمالها في الفرع
وكل واحد من الطريقين ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون
فإذا تمهدت هذه المقدمات فيرجع إلى المقصود وهو بيان إثبات العلة في الطريق الثاني الذي هو القياس بالاتفاق وهو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما
وهذا القياس يحتاج إلى إثبات مقدمتين:
إحداهما مثلا أن علة تحريم الخمر الإسكار
والثانية أن الإسكار موجود في النبيذ
أما الثانية فيجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرب وبدليل الشرع وسائر أنواع الأدلة أما الأولى فلا تثبت إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب(31/305)
ص -298-…والسنة والإجماع أو نوع استدلال مستنبط فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه طريقه
وجملة الأدلة الشرعية ترجع إلى ألفاظ الكتاب والسنة والإجماع والاستنباط فنحصره في ثلاث أقسام:
القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية :
وذلك إنما يستفاد من صريح النطق أو من الإيماء أو من التنبيه على الأسباب وهي ثلاثة أضرب:
الضرب الأول:الصريح وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله لكذا أو لعلة كذا أو لأجل كذا أو لكيلا يكون كذا وما يجري مجراه من صيغ التعليل مثل قوله تعالى{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ}[الحشر: من الآية7] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ }[المائدة: من الآية32] المائدة و {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[الأنفال: من الآية13]وقوله عليه السلام إنما جعل الاستئذان لأجل البصر وإنما نهيتكم لأجل الدافة فهذه صيغ التعليل إلا إذا دل دليل على أنه ما قصد التعليل فيكون مجازا كما يقال: لم فعلت ؟فيقول لأني أردت أن أفعل فهذا لا يصح أن يكون علة فهو استعمال اللفظ في غير محله
قال القاضي: قوله تعالى{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الاسراء: من الآية78] من هذا(31/306)
ص -299-…الجنس لأن هذا لام التعليل والدلوك لا يصلح أن يكون علة فمعناه صل عنده فهو للتوقيت
وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة وقد قال الفقهاء الأوقات أسباب ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها ولا يبعد تسمية السبب علة
الضرب الثاني: التنبيه والإيماء على العلة كقوله عليه السلام لما سئل عن الهرة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فإنه وإن لم يقل لأنها أو لأجل أنها من الطوافين لكن أومأ إلى التعليل لأنه لو لم يكن علة لم يكن ذكر وصف الطواف مفيدا فإنه لو قال إنها سوداء أو بيضاء لم يكن منظوما إذ لم يرد التعليل وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :"فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" وإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما وقوله جل جلاله {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة: من الآية91] فإنه بيان لتعليل تحريم الخمر حتى يطرد في كل مسكر
وكذلك ذكر الصفة قبل الحكم كقوله {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في(31/307)
ص -300-…المحيض} فهو تعليل حتى يفهم منه تحريم الإتيان في غير المأتي لأن الأذى فيه دائم ولا يجري في المستحاضة لأن ذلك عارض وليس بطبيعي
وكذلك قوله "تمرة طيبة وماء طهور" فإن ذلك لو لم يكن تعليلا لاستعماله لما كان الكلام واقعا في محله وهو الذي يدل على أنه كان ماء نبذ فيه تميرات فيقاس عليه الزبيب وغيره ولا يقاس عليه المرقة والعصيدة وما انقلب شيئا آخر بالطبخ
وكذلك قوله عليه السلام:"أينقص الرطب إذا يبس ؟"فقيل نعم فقال فلا إذا ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به
الثاني: قوله إذا فإنه للتعليل
الثالث: الفاء في قوله فلا إذافإنه للتعقيب والتسبيب
ومن ذلك أن يجيب عن المسألة بذكر نظيرها كقوله "أرأيت لو تمضمضت " "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه" فإنه لو لم يكن للتعليل لما كان التعرض لغير محل السؤال منتظما
ومن ذلك أن يفصل الشارع بين قسمين بوصف ويخصه بالحكم كقول "القائل القاتل(31/308)
ص -301-…لا يرث" فإنه يدل في الظاهر على أنه لا يرث لكونه قاتلا وليس هذا للمناسبة بل لو قال الطويل لا يرث أو الأسود لا يرث لكنا نفهم منه جعله الطول والسواد علامة على انفصاله عن الورثة
فهذا وأمثاله مما يكثر ولا يدخل تحت الحصر فوجوه التنبيه لا تنضبط وقد أطنبنا في تفصيلها في كتاب شفاء الغليل وهذا القدر كاف ههنا
الضرب الثالث: التنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب كقوله عليه السلام :"من أحيا أرضا ميتة فهي له" و"من بدل دينه فاقتلوه" وقوله تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: من الآية38]و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}[النور: من الآية2]وقوله تعالى{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا }[المائدة: من الآية6] ويلتحق بهذا القسم ما يرتبه الراوي بفاء الترتيب كقوله زنى ماعز فرجم وسها النبي فسجد ورضخ يهودي رأس جارية فرضخ النبي رأسه فكل هذا يدل على التسبيب وليس للمناسبة فإن قوله "من مس ذكره فليتوضأ" يفهم منه السبب وإن لم يناسب
بل يلتحق بهذا الجنس كل حكم حدث عقيب وصف حادث سواء كان من الأقوال كحدوث الملك والحل عند البيع والنكاح والتصرفات أو من الأفعال كاشتغال الذمة عند القتل والاتلاف أو من الصفات كتحريم الشرب عند طريان الشدة على العصير وتحريم الوطء عند طريان الحيض فإنه ينقدح أن يقال لا يتجدد إلا بتجدد سبب ولم يتجدد إلا هذا فإذا هو السبب وإن لم يناسب
فإن قيل: فهذه الوجوه المذكورة تدل على السبب والعلة دلالة قاطعة أو دلالة ظنية؟(31/309)
ص -302-…قلنا:أما ما رتب على غيره بفاء الترتيب وصيغة الجزاء والشرط فيدل على أن المرتب عليه معتبر في الحكم لا محالة فهو صريح في أصل الاعتبار أما اعتباره بطريق كونه علة أو سببا متضمنا للعلة بطريق الملازمة والمجاورة أو شرطا يظهر الحكم عنده بسبب آخر أو يفيد الحكم على تجرده حتى يعم الحكم المحال أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال فمطلق الإضافة من الألفاظ المذكورة ليس صريحا فيها ولكن قد يكون ظاهرا من وجه ويحتمل غيره وقد يكون مترددا بين وجهين فيتبع فيه موجب الأدلة وإنما الثابت بالإيماء والتنبيه كون الوصف المذكور معتبرا بحيث لا يجوز إلغاؤه
مثال هذا قوله عليه السلام : "لا يقض القاضي وهو غضبان" وهو تنبيه على أن الغضب علة في منع القضاء لكن قد يتبين بالنظر أنه ليس علة لذاته بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر حتى يلحق به الجائع والحاقن والمتألم فيكون الغضب مناطا لا لعينه بل لمعنى يتضمنه
وكذلك قوله "سها فسجد" يحتمل أن يكون السبب هو السهو لعينه ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من ترك أبعاض الصلاة حتى لو تركه عمدا ربما قيل يسجد أيضا.
وكذلك قوله "زنى ماعز فرجم" احتمل أن يكون لأنه زنى واحتمل أن يكون لما يتضمنه الزنا من إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا حتى يتعدى إلى اللواط .
وكذلك قوله "من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر" يحتمل أن يكون لنفس الجماع ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من هتك حرمة الشهر(31/310)
ص -303-…ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل والظاهر الإضافة إلى الأصل ومن صرفه عن الأصل إلى ما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل افتقر إلى دليل
وهذا النوع من التصرف غير منقطع عن هذه الإضافات فهذا ظاهر في الإضافات اللفظية إيماء كان أو صريحا أما ما يحدث بحدوث وصف كحدوث الشدة ففي إضافة الحكم إليه نظر سيأتي في الطرد والعكس
القسم الثاني في إثبات العلة بالإجماع على كونها مؤثرة في الحكم :
مثاله قولهم: إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ للأب في الميراث فينبغي أن يقدم في ولاية النكاح فإن العلة في الميراث التقديم بسبب امتزاج الأخوة وهو المؤثر بالاتفاق
وكذلك قول بعضهم:الجهل بالمهر يفسد النكاح لأنه جهل بعوض في معاوضة فصار كالبيع إذ الجهل مؤثر في الإفساد في البيع بالاتفاق
وكذلك نقول يجب الضمان على السارق وإن قطع لأنه مال تلف تحت اليد العارية فيضمن كما في الغصب وهذا الوصف هو المؤثر في الغصب اتفاقا(31/311)
ص -304-…وكذلك يقول الحنفي:صغيرة فيولي عليها قياسا لثيب الصغيرة على البكر الصغيرة فالمطالبة منقطعة عن إثبات علة الأصل لأنها بالاتفاق مؤثرة
ويبقى سؤال وهو أن يقال:لم قلتم:إذا أثر امتزاج الأخوة في التقديم في الإرث فينبغي أن يؤثر في النكاح؟ وإذا أثر الصغر في البكر فهو يؤثر في الثيب ؟
وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه أو يوجهه المناظر في المناظرة أما المجتهد فيدفعه بوجهين أحدهما: أن يعرف مناسبة المؤثر كالصغر فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز فنقول الثيب كالبكر في هذه المناسبة
الثاني: أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا ولا مدخل له في التأثر كما ذكرناه في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ونظائره فيكون هذا القياس تمامه بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعا وإن ظهرت المناسبة استغنى عن التعرض للفارق
وإن كان السؤال من مناظر فيكفي أن يقال القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال فلا ينبغي أن يفتح هذ الالباب بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق بأن يقول مثلا إخوة الأم أثرت في الميراث في الترجيح لأن مجردها يؤثر في التوريث فلم قلت إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير فيستعمل حيث لا يستقل ؟فتقبل المطالبة على هذه الصيغة وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء
أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق وأصر على صرف المطالبة فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله لأنه يفتح بابا من اللجاج لا ينسد ولا يجوز إرهافه إلى طلب المناسبة فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه فهو علة ناسب أو لم يناسب فقد قال عليه السلام "من مس ذكره فليتوضأ" فنحن نقيس عليه ذكر غيره ولا مناسبة ولكن نقول ظهر تأثير المس ولا مدخل للفارق في التأثير فإنه وإن ظهر مناسبته أيضا فيجوز أن يختص اعتبار المناسب(31/312)
ص -305-…ببعض المواضع إذ السرقة تناسب القطع ثم تختص بالنصاب والزنا يناسب الرجم ثم يختص بالمحصن فيتوجه على المناسب أيضا أن يقول لم قلت إذا أثر هذا المناسب وهو الصغر في ولاية المال فينبغي أن يؤثر في ولاية البضع؟ وإذا أثر في البكر يؤثر في الثيب؟ وإذا أثر في التزويج من الابن يؤثر في التزويج من البنت ومن المناسبات ما يختص ببعض المواضع وهذا السؤال يستمد من خيال منكري القياس فلا ينبغي أن يقبل
القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال:
وهي أنواع :
النوع الأول السبر والتقسيم:
وهو دليل صحيح وذلك بأن يقول هذا الحكم معلل ولا علة له إلا كذا أو كذا وقد بطل أحدهما فتعين الآخر
وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة بل له أن يقول حرم الربا في البر ولا بد من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه ولا علامة إلا الطعم
أو القوت أو الكيل وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا فثبت الطعم لكن يحتج ههنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا بد من علامة إذ قد يقال هو معلوم باسم البر فلا يحتاج إلى علامة وعلة فنقول ليس كذلك لأن إذا صار دقيقا وخبزا وسويقا نفى حكم الربا وزال اسم البر فدل أن مناط الربا أمر أعم من اسم البر
الثاني: أن يكون سبره حاصرا فيحصر جميع ما يمكن أن يكون علة أما بأن(31/313)
ص -306-…يوافقه الخصم على أن الممكنات ما ذكره وذلك ظاهر أو لا يسلم فإن كان يسلم
فإن كان مجتهدا فعليه سبر بقدر إمكانه حتى يعجز عن إيراد غيره
وإن كان مناظرا فيكفيه أن يقول:هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك مالزمني وإن أطلعت على علة أخرى فيلزمك التنبيه عليها حتى أنظر في صحتها أو فسادها فإن قال لا يلزمني ولا أظهر العلة وإن كنت أعرفها فهذا عناد محرم وصاحبه إما كاذب وإما فاسق بكتمان حكم مست الحاجة إلى إظهار ومثل هذا الجدل حرام وليس من الدين
ثم إفساد سائر العلل تارة يكون ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها
النوع الثاني من الاستنباط إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم
والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه
وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم مثاله قولنا حرمت الخمر لأنها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف وهو مناسب لا كقولنا حرمت لأنها تقذف بالزبد أو لأنها تحفظ في الدن فإن ذلك لا يناسب(31/314)
ص -307-…وقد ذكرنا حقيقة المناسب وأقسامه ومراتبه في آخر القطب الثاني من باب الاستحسان والاستصلاح فلا نعيده
لكنا نقول: المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب .
ومثال المؤثر:التعليل للولاية بالصغر ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص وإذا ظهر تأثيره فلا يحتاج إلى المناسبة بل قوله من مس ذكره فليتوضأ لما دل على تأثير المس قسنا عليه مس ذكر غيره
أما الملائم:فعبارة عما لم يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم كما في الصغر لكن ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم
مثاله: قوله: لا يجب على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم لما في قضاء الصلاة من الحرج بسبب كثرة الصلاة وهذا قد ظهر تأثير جنسه لأن لجنس المشقة تأثيرا في التخفيف أما هذه المشقة نفسها وهي مشقة التكرر فلم يظهر تأثيرها في موضع آخر نعم لو كان قد ورد النص بسقوط قضاء الصلاة عن الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكان ذلك تعليلا بما ظهر تأثير عينه في عين الحكم لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر
ومثاله أيضا: قولنا إن قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام قياسا على قليل الخمر وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك منه يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير عينه لكن ظهر تأثير جنسه إذا الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع كتحريم الزنا فكان هذا ملائما للجنس بصرف الشرع وأن لم يظهر تأثير عينه في الحكم :
وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع فمثاله قولنا إن الخمر إنماح رمت لكونها مسكرة ففي معناها كل مسكر ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب وهذا مثال الغريب لو لم يقدبر التنبيه بقوله(31/315)
ص -308-…{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ }[المائدة: من الآية91]
ومثاله أيضا قولنا:المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث لأن الزوج قصد الفرار من ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياسا على القاتل فإنه لا يرث لأنه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده فإن التعليل حرمان القاتل بهذا تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع لأنا لا نرى الشرع في موضع آخر قد التفت إلى جنسه فتبقى مناسبة مجردة غريبة ولو علل الحرمان بكونه متعديا بالقتل وجعل هذا جزاء على العدوان كان تعليلا بمناسبة ملائم ليس بمؤثر لأن الجناية بعينها وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان عن الميراث فلم يؤثر في عين الحكم وإنما أثر في جنس آخر من الأحكام فهو من جنس الملائم لا من جنس المؤثر ولا من جنس الغريب
فإذا عرفت مثال هذه الأقسام الثلاثة فأعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه وقال لا يقبل إلا مؤثر ولكن أورد للمؤثر أمثله عرف بها أنه قبل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا
وذكرنا تفصيل أمثلته والاعتراض عليها في كتاب شفاء الغليل
ولا سبيل إلى الاقتصار على المؤثر لأن المطلبو غلبة الظن ومن استقرأ أقيسة الصحابة رضي الله عنهم واجتهاداتهم علم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بالنص والإجماع
التعليل بمجرد المناسبة:
وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده(31/316)
ص -309-…فإن قيل:يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لإضافة الحكم إلى علته
قلنا: إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب ذلك على الظن
فإن قيل: قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه وهذا تحكم لأنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدا أو تحكما كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب وهي تحكمات لكن اتفق معنى الإسكار في الخمر فظن أنه لأجل الإسكار ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير فقيل أنه تحكم وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء
ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا
ويحتمل أن يكون للإسكار
فهذه ثلاثة احتمالات فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل وإلا فبم يترجح هذا الإحتمال؟ وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا كالصغر وتقديم الأخ للأب والأم .
والجواب: أنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس كما في المؤثر فإن العلة إذا أضيف الحكم إليها في محل احتمل أن يكون مختصا بذلك المحل كما اختص تأثير الزنا بالمحصن وتأثير السرقة بالنصاب فلا يبعد أن يؤثر الصغر في ولاية المال دون ولاية البضع وامتزاج الأخوة في التقديم في الميراث دون الولاية وبه اعتصم نفاة القياس لكن قيل(31/317)
ص -310-…لهم: علم من الصحابة رضي الله عنهم اتباع العلل وإطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن فكذلك ههنا ولا فرق وأما قولهم:لعل فيه معنى آخر مناسبا هو الباعث للشارع ولم يظهر لنا وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه فهو وهم محض فنقول: غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس فإن العلة الجامعة بين الفرع والأصل وإن كانت مؤثرة فإنما يغلب على الظن الاجتماع لعدم ظهور الفرق ولعل فيه معنى لو ظهر لزالت عنه غلبة الظن ولعدم علة معارضة لتلك العلة فلو ظهر أصل آخر يشهد للفرع بعلة أخرى تناقض العلة الأولى لا تدفع غلبة الظن بل يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزال الظن لكن إذا لم تظهر جاز التعويل عليه وذلك لأنه لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد إلا اتباع الرأي الأغلب وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ولم يميزوا جنسا عن جنس فإن سلمتم حصول الظن بمجرد المناسبة وجب إتباعه
فإن قيل لا نسلم أن هذا ظن بل هو وهم مجرد فإن التحكم محتمل ومناسب آخر لم يظهر لنا محتمل وهذا الذي ظهر محتمل ووهم الإنسان مائل إلى طلب علة وسبب لكل حكم ثم أنه سباق إلى ما ظهر له وقاض بأنه ليس في الوجود إلا ما ظهر له فتقضي نفسه بأنه لا بد من سبب ولا سبب إلا هذا فإذا هو السبب فقوله لا بد من سبب إن سلمناه ولم ينزل على التحكم ونقول بلا علة ولا سبب فقوله لا سبب إلا هذا تحكم مستنده أنه لم يعلم إلا هذا فجعل عدم علمه بسبب آخر علما بعدم سبب آخر وهو غلط وبمثل هذا الطريق(31/318)
ص -311-…أبطلتم القول بالمفهوم إذ مستند القائل به أنه لا بد من باعث على التخصيص ولم يظهر لنا باعث سوى اختصاص الحكم فإذا هو الباعث إذ قلتم بما عرفتم أنه لا باعث سواه فلعله بعثه على التخصيص باعث لم يظهر لكم
وهذا كلام واقع في إمكان التعليل بمناسب لا يؤثر ولا يلائم
والجواب: أن هذا استمداد من مأخذ نفاة القياس وهو منقلب في المؤثر والملائم فإن الظن الحاصل به أيضا يقابله احتمال التحكم واحتمال فرق ينقدح واحتمال علة تعارض هذه العلة في الفرع ولا فرق بين هذه الاحتمالات ولولاها لم يكن الإلحاق مظنونا بل مقطوعا كإلحاق الأمة بالعبد وفهم الضرب من التأفيف
وقول القائل أن هذا وهم وليس بظن ليس كذلك فإن الوهم عبارة عن ميل النفس من غير سبب مرجح والظن عبارة عن الميل بسبب ومن بنى أمره في المعاملات الدنيوية على الوهم سفه في عقله ومن بناه على الظن كان معذورا حتى لو تصرف في مال الطفل بالوهم ضمن ولو تصرف بالظن لم يضمن فمن رأى مركب الرئيس على باب دار السلطان فاعتقد أن الرئيس ليس في داره بل في دار السلطان وبنى عليه مصلحته لم يعد متوهما وإن أمكن أن يكون الرئيس قد أعار مركبه أو باعه أو ركبه الركابي في شغل ومن رأى الرئيس أمر غلامه بضرب رجل وكان قد عرف أنه يشتم الرئيس فحمل ضربه على أنه شتمه كان معذورا ومن رأى ماعزا أقر بالزنا ثم رأى النبي عليه السلام قد أمر برجمه فاعتقد أنه أمر برجمه لزناه وروى ذلك كان معذورا ظانا ولم يكن متوهما ومن عرف شخصا بأنه جاسوس ثم رأى السلطان قد أمر بقتله فحمله عليه لم يكن متوهما
فإن قيل لا بل يكون متوهما فإنه لو عرف من عادة الرئيس أنه يقابل الإساءة بالإحسان ولا يضرب من يشتمه وعرف من عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس إما استهانة بالخصم أو استمالة ثم رآه قتل جاسوسا فحكم بأنه قتله لتجسسه فهو متوهم متحكم أما إذا عرف من عادته ذلك فتكون عادته المطردة علامة(31/319)
ص -312-…شاهدة لحكم ظنه ووزانه من مسألتنا الملائم الذي التفت الشرع إلى مثله وعرف من عادته ملاحظة عينه أو ملاحظة جنسه وكلامنا في الغريب الذي ليس بملائم ولا مؤثر
والجواب أن ههنا ثلاث مراتب:
إحداها أن يعرف أن من عادة الرئيس الإحسان إلى المسيء ومن عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس فهذا يمنع تعليل الضرب والقتل بالشتم والتجسس ووزانه أن يعلل الحكم بمناسب أعرض الشرع عنه وحكم بنقيض موجبه فهذا لا يعول عليه لأن الشرع كما التفت إلى مصالح فقد أعرض عن مصالح فما أعرض عنه لا يعلل به
والثانية أن يعرف من عادة الرئيس والأمير ضرب الشاتم وقتل الجاسوس فوزانه الملائم وهذا مقبول وفاقا من القائسين
وإنما النظر في رتبة ثالثة وهو :من لم تعرف له عادة أصلا في الشاتم والجاسوس فنحن نعلم أنه لو ضرب وقتل غلب على ظنون العقلاء الحوالة عليه وأنه سلك مسلك المكافأة لأن الجريمة تناسب العقوبة
فإن قيل: لأن أغلب عادة الملوك ذلك والأغلب أن طبائعهم تتقارب
قلنا: فليس في هذا إلا الأخذ بالأغلب وكذلك أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن ويبقى أن يقال لعله حكم بمناسب آخر لم يظهر لنا ؟فنقول ما بحثنا عنه بحسب جهدنا فلم نعثر عليه فهو معدوم في حقنا ولم يكلف المجتهد غيره وعليه دلت أقيسة الصحابة والتمسك بالمؤثر والملائم لقول النبي عليه السلام لعمر أرأيت لو تمضمضت معناه لم لم تفهم أن القبلة مقدمة الوقاع والمضمضة مقدمة الشرب فلو قال عمر لعلك عفوت عن المضمضة لخاصية في المضمضة أو لمعنى مناسب لم يظهر لي ولا يتحقق ذلك في القبلة(31/320)
ص -313-…لم يقبل منه ذلك وعدم ذلك مجادلة وكذلك قوله أرأيت لو كان على أبيك دين فتقضينه وكذلك كل قياس نقل عن الصحابة
وبالجملة: إذا فتح باب القياس فالضبط بعده غير ممكن لكن يتبع الظن
والظن على مراتب وأقواه المؤثر فإنه لا يعارضه إلا احتمال التعليل بتخصيص المحل
ودونه الملائم
ودونه المناسب الذي لا يلائم وهو أيضا درجات وإن كان على ضعف ولكن يختلف باختلاف قوة المناسبة وربما يورث الظن لبعض المجتهدين في بعض المواضع فلا يقطع ببطلانه
ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلا بل لكل مسألة ذوق آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد
وأما المفهوم فلا يبعد أيضا أن يغلب في بعض المواضع على ظن بعض المتجهدين وعند ذلك يعسر الوقوف على أن ذلك الظن حصل بمجرد التخصيص وحده أو به مع قرينة فلا يبعد أن يقال هو مجتهد فيه وليس مقطوعا فإنه ظهر لنا أن صيغة العموم بمجردها إذا تجردت عن القرائن أفادت العموم وليس يفهم ذلك من مجرد لفظ التخصيص وإن كان يمكن انقداحه في النفس في بعض المواضع فليكن ذلك أيضا في محل الاجتهاد
وقد خرج على هذا أن المعنى باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل المعين أربعة أقسام :
ملائم يشهد له أصل معين يقبل قطعا عند القائسين،
ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فلا يقبل قطعا عند القائسين فإنه استحسان ووضع للشرع بالرأي ومثاله حرمان القاتل لو لم يرد فيه نص لمعارضته بنقيض قصده فهذا وضع للشرع بالرأي(31/321)
ص -314-…ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل الاجتهاد
وملائم لا يشهد له أصل معين وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد وقد ذكرناه في باب الاستصلاح في آخر القطب الثاني وبينا مراتبه
القول في المسالك الفاسدة في إثبات علة الأصل
وهي ثلاثة:
الأول أن نقول الدليل على صحة علة الأصل سلامتها عن علة تعارضها تقتضي نقيض حكمها وسلامتها عن المعارضة دليل صحتها
وهذا فاسد لأنه إن سلم عنه فإنما سلم عن مفسد واحد فربما لا يسلم عن مفسد آخر وإن سلم عن كل مفسد أيضا لم يدل على صحته كما لو سلم شهادة المجهول عن علة قادحة لا يدل على كونه حجة ما لم تقم بينة معدلة مزيكة فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد بل لا بد من قيام الدليل على الصحة
فإن قيل: دليل صحتها انتفاء المفسد
قلنا لا بل دليل فساده انتفاء المصحح فهذا منقلب ولا فرق بين الكلامين
المسلك الثاني: الاستدلال على صحتها بأطرادها وجريانها في حكمها
وهذا لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد وهو النقض فهو كقول القائل(31/322)
ص -315-…زيد عالم لأنه لا دليل يفسد دعوى العلم ويعارضه أنه جاهل لأنه لا دليل يفسد دعوى الجهل والحق أنه لا يعلم كونه عالما بانتفاء دليل الجهل ولا كونه جاهلا بانتفاء دليل العلم بل يتوقف فيه إلى ظهور الدليل فكذلك الصحة والفساد فإن قيل ثبوت حكمها معها واقترانه بها دليل على كونها علة قلنا غلطتم في قولكم ثبوت حكمها لأن هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونها علة فإذا لم يثبت لم يكن حكمها بل بحال غلبة الظن عليه كان حكم علته واقترن بها والاقتران لا يدل على الإضافة فقد يلزم الخمر لون وطعم يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب وهبوب ريح وبالجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ولا مفسد له بل لا بد من دليل فكذلك العلة
المسلك الثالث الطرد والعكس: وقد قال قوم الوصف إذا ثبت الحكم معه وزال مع زواله يدل على أنه علة
وهو فاسد لأن الرائحة المخصوصة مقرونة بالشدة في الخمر ويزول التحريم عند زوالها ويتجدد عند تجددها وليس بعلة بل هو مقترن بالعلة وهذا لأن الوجود عند الوجود طرد محض فزيادة العكس لا تؤثر لأن العكس ليس بشرط في العلل الشرعية فلا أثر لوجوده وعدمه ولأن زواله عند زواله يحتمل أن يكون لملازمته للعلة كالرائحة أو لكونه جزءا من أجزاء العلة أو شرطا من شروطها والحكم ينتفي بانتفاء بعض شروط العلة وبعض أجزائها فإذا تعارضت الاحتمالات فلا معنى للتحكم(31/323)
ص -316-…وعلى الجملة فنسلم أن ما ثبت الحكم بثبوته فهو علة فكيف إذا انضم إليه أنه زال بزواله أما ما ثبت مع ثبوته وزال مع زواله فلا يلزم كونه علة كالرائحة المخصوصة مع الشدة
أما إذا انضم إليه سبر وتقسيم كان ذلك حجة كما لو قال هذا الحكم لا بد له من علة لأنه حدث بحدوث حادث ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة
ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض وإن لم ينضم إليها العكس
ولا يرد على هذا إلا أنه ربما شذ عنه وصف آخر هو العلة ولا يجب على المجتهد إلا سبر بحسب وسعه ولا يجب على الناظر غير ذلك وعلى من يدعي وصفا رخر إبرازه حتى ينظر فيه
فإن قيل فما معنى إبطالكم التمسك بالطرد والعكس وقد رأيتم تصويب المجتهدين وقد غلب هذا على ظن قوم فإن قلتم لا يجوز لهم الحكم به فمحال إذ ليس على المجتهد إلا الحكم بالظن وإن قلتم لم يغلب(31/324)
ص -317-…على ظنهم فمحال لأن هذا قد غلب على ظن قوم ولولاه لما حكموا به
قلنا:أجاب القاضي رحمه الله عن هذا بأن قال نعني بإبطاله أنه باطل في حقنا لأنه لم يصح عندنا ولم يغلب على ظننا إما من غلب على ظنه فهو صحيح في حقه
وهذا فيه نظر عندي لأن المجتهد مصيب إذا استوفى النظر وأتمه وأما إذا قضى بسابق الرأي وبادىء الوهم فهو مخطىء فإن سبر وقسم فقد أتم النظر وأصاب أما حكمه قبل السبر والتقسيم بأن ما اقترن بشيء ينبغي أن يكون علة فيه تحكم ووهم إذ تمام دليله أن ما اقترن بشيء فهو علته وهذا قد اقترن به فهو إذا علته والمقدمة الأولى منقوضة بالطم والرم فإذا كأنه لم ينظر ولم يتمم النظر ولم يعثر على مناسبة العلة ولم يتوصل إليه بالسير والتقسيم ومن كشف له هذا لم يبق له غلبة ظن بالطرد المجرد إلا أن يكون جاهلا ناقص الرتبة عن درجة المجتهدين ومن اجتهد وليس أهلا له فهو مخطىء وليس كذلك عندي المناسب الغريب والاستدلال المرسل فإن ذلك مما يوجب الظن لبعض المجتهدين وليس يقوم فيه دليل قاطع من عرفه محق ظنه بخلاف الطرد المجرد الذي ليس معه سبر وتقسيم
وهذا تمام القول في قياس العلة ولنشرع في قياس الشبه(31/325)
ص -318-…الباب الثالث في قياس الشبه:
ويتعلق النظر في هذا الباب بثلاثة:
الطراف الطرف الأول في حقيقة الشبه وأمثلته وتفصيل المذاهب فيه وإقامة الدليل على صحته
أما حقيقته فاعلم أن اسم الشبه يطلق على كل قياس فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه فهو إذا يشبهه وكذلك اسم الطرد لأن الإطراد شرط كل علة جمع فيها بين الفرع والأصل
ومعنى الطرد السلامة عن النقض
لكن العلة الجامعة إن كانت مؤثرة أو مناسبة عرفت بأشرف صفاتها وأقواها وهو التأثير والمناسبة دون الأخس الأعم الذي هو الاطراد والمشابهة فإن لم يكن للعلة خاصية إلا الاطراد الذي هو أعم أوصاف العلل وأضعفها في الدلالة على الصحة خص باسم الطرد لا لاختصاص الاطراد بها لكن لأنه لا خاصية لها سواه فإن انضاف إلى الاطراد زيادة ولم ينته إلى درجة المناسب والمؤثر سمي شبها وتلك الزيادة هي مناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب نفس الحكم
بيانه أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم سرا وهو مصلحة مناسبة للحكم وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة لكن يطلع على وصف يوهم الاشتمال(31/326)
ص -319-…على تلك المصلحة ويظن أنه مظنتها وقالبها الذي يتضمنها وإن كنا لا نطلع على عين ذلك السر فالاجتماع في ذلك الوصف الذي يوهم الاجتماع في المصلحة الموجبة للحكم يوجب الاجتماع في الحكم ويتميز عن المناسب بأن المناسب هو الذي يناسب الحكم ويتقاضاه بنفسه كمناسبة الشدة للتحريم
ويتميز عن الطرد بأن الطرد لا يناسب الحكم ولا المصلحة المتوهمة للحكم بل نعلم إن ذلك الجنس لا يكون مظنة المصالح وقالبها كقول القائل الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن وكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبنى القنطرة على جنسه واحترز من الماء القليل فإنه وإن كان لا تبنى القنطرة عليه فإنه تبنى على جنسه فهذه علة مطردة لا نقض عليها ليس فيها خصلة سوى الإطراد ونعلم أنه لا يناسب الحكم ولا يناسب العلة التي تقتضي الحكم بالتضمن لها والاشتمال عليها فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة لخاصية وعلة وسبب يعلمه الله تعالى وإن لم نعلمها ونعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها
فإذا معنى التشبيه الجمع بين الفرع والأصل بوصف مع الأعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم بخلاف قياس العلة فإنه جمع بما هو علة الحكم
فإن لم يرد الأصوليون بقياس الشبه هذا الجنس فلست أدري ما الذي أرادوا وبم فصلوه عن الطرد المحض وعن المناسب
وعلى الجملة فنحن نريد هذا بالشبه
فعلينا الآن تفهيمه بالأمثلة وإقامة الدليل على صحته
أما أمثلة قياس الشبه فهي كثيرة ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إليها إذ يعسر(31/327)
ص -320-…إظهار تأثير العلل بالنص والإجماع والمناسبة المصلحية
المثال الأول: قول أبي حنيفة مسح الرأس لا يتكرر تشبيها له بمسح الخف والتيمم والجامع أنه مسح فلا يستحب فيه التكرار قياسا على التيمم ومسح الخف
ولا مطمع فيما ذكره أبو زيد من تأثير المسح فإنه أورد هذا مثالا للقياس المؤثر وقال ظهر تأثير المسح في التخفيف في الخف والتيمم فهو تعليل بمؤثر
وقد غلط فيه إذ ليس يسلم الشافعي أن الحكم في الأصل معلل بكونه مسحا بل لعله تعبد ولا علة له أو معلل بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا
والنزاع واقع في علة الأصل وهو أن مسح الخف لم لا يستحب تكراره أيقال أنه تعبد لا يعلل أو لأن تكراره يؤدي إلى تمزيق الخف أو لأنه وظيفة تعبدية تمرينية لا تفيد فائدة الأصل إذ لا نظافة فيه لكن وضع لكيلا تركن النفس إلى الكسل أو لأنه وظيفة على بدل محل الوضوء لا على الأصل
فمن سلم أن العلة المؤثرة في الأصل هي المسح يلزمه فالشافعي يقول أصل يؤدي بالماء فيتكرر كالأعضاء الثلاثة فكأنه يقول هي إحدى الوظائف الأربع في الوضوء فالأشبه التسوية بين الأركان الأربعة ولا يمكن ادعاء التأثير والمناسبة في التعلتين على المذهبين ولا ينكر تأثير كل واحد من الشبهين في تحريك الظن إلى أن يترجح(31/328)
ص -321-…المثال الثاني: قال الشافعي رحمه الله في مسألة النية طهارتان فكيف يفترقان ؟وقد يقال طهارة موجبها في غير محل موجبها فتفتقر إلى النية كالتيمم وهذا يوهم الاجتماع في مناسب هو مأخذ النية وإن لم يطلع على ذلك المناسب
المثال الثالث: تشبيه الأرز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين فإن ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة والطعم والقوت وصف ينبىء عن معنى به قوام النفس والأغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنهما لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الأجسام
المثال الرابع: تعليلنا وجوب الضمان في يد السوم بأنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق ونعديه إلى يد العارية وتعليل أبي حنيفة بأنه أخذ على جهة الشراء والمأخوذ على جهة الشراء كالمأخوذ على حقيقته ويعديه إلى الرهن فكل واحدة من العلتين ليست مناسبة ولا مؤثرة إذ لم يظهر بالنص أو الإجماع إضافة الحكم إلى هذين الوصفين في غير يد السوم وهو في يد السوم متنازع فيه
المثال الخامس: كقولنا إن قليل أرش الجناية يضرب على العاقلة،(31/329)
ص -322-…لأنه بدل الجناية على الآدمي كالكثير فإنا نقول ثبت ضرب الدية وضرب أرش اليد والأطراف ونحن لا نعرف معنى مناسبا يوجب الضرب على العاقلة فإنه على خلاف المناسب لكن يظن أن ضابط الحكم الذي تميز به عن الأموال هو أنه بدل الجناية على الآدمي فهو مظنة المصلحة التي غابت عنا
المثال السادس قولنا في مسألة التبييت أنه صوم مفروض فافتقر إلى التبييت كالقضاء وهم يقولون صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع وكأن الشرع رخص في التطوع ومنع من القضاء فظهر لنا أن فاصل الحكم هو الفرضية
فهذا وأمثاله مما يكثر
شبهه ربما ينقدح لبعض المنكرين للشبه في بعض هذه الأمثلة إثبات العلة بتأثير(31/330)
ص -323-…أو مناسبة أو بالتعرض للفارق وإسقاط أثره فيقول هي مأخذ هذه العلة لا ما ذكرته من الإيهام
فنقول:لا يطرد ذلك في جميع الأمثلة وحيث يطرد فليقدر انتفاء ذلك المأخذ الذي ظهر لهذا الناظر وعند انتفائه يبقى ما ذكرناه من الإيهام وهو كتقديرنا في تمثيل المناسب بإسكار الخمر عدم ورود الإيماء في قوله تعالى{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة: من الآية91] والمقصود أن المثال ليس مقصودا في نفسه فإن انقدح في بعض الصور معنى زائد على الإيهام المذكور فليقدر انتفاؤه
هذا حقيقة الشبه وأمثلته
إقامة الديل على الوصف الشبهي في آحاد الأقسية:
وأما إقامة الدليل على صحته فهو أن الدليل إما أن يطلب من المناظر أو يطلبه المجتهد من نفسه
والأصل هو المجتهد وهذا الجنس مما يغلب على ظن بعض المجتهدين وما من مجتهد يمارس النظر في مأخذ الأحكام إلا ويجد ذلك من نفسه فمن أثر ذلك في نفسه حتى غلب ذلك على ظنه فهو كالمناسب ولم يكلف إلا غلبة الظن فهو صحيح في حقه ومن لم يغلب ذلك على ظنه فليس له الحكم به وليس معنا دليل قاطع يبطل الاعتماد على هذا الظن بعد حصوله بخلاف الطرد على ما ذكرناه
أما المناظر فلا يمكنه إقامة الدليل على على الخصم المنكر فإنه إن خرج إلى طريق السبر والتقسيم كان ذلك طريقا مستقلا لو ساعد مثله في الطرد لكان دليلا وإذا لم يسبر فطريقه أن يقول هذا يوهم الاجتماع في مأخذ الحكم ويغلب(31/331)
ص -324-…على الظن والخصم يجاحد إما معاندا جاحدا وإما صادقا من حيث أنه لا يوهم عنده ولا يغلب على ظنه وإن غلب على ظن خصمه
والمجتهدون الذين أفضى بهم النظر إلى أن هذا الجنس مما يغلب على الظن لا ينبغي أن يصطلحوا في المناظرة على فتح باب المطالبة أصلا كما فعله القدماء من الأصحاب فإنهم لم يفتحوا هذا الباب واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة لأن إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل والمطالبة تحسم سبيل النظر وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الاتنفاع
فإن قيل: وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة وذلك أيضا شنيع
قلنا الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد وهو مسكت معلوم على الفور
والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الأصحاب أولى بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه(31/332)
ص -325-…فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول لا بد للحكم من مناط وعلامة ضابطة ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا وما ذكرته أولى من غيره أو ما عدا ما ذكرته فهو منقوض وباطل فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره ولا يلزمني أن أذكره وعليك تصحيح علة نفسك
وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة إذ يقال له إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر وإن ظهر لك شيء آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك
فإن قال: هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول
وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الأحوال من طعم أو قوت أو كيل والقوت لا يشهد له الملح فالطعم الذي يشهد له الملح أولى والكيل ينبىء عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم
فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام
فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الاجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب وإن كان ملائما فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه وما أنت إلا كمن رأى(31/333)
ص -326-…إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره لأنه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن
فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله ما تفصيل المذاهب فيه ونقل الأقاويل المختلفة في تفهيمه فقد آثرت الأعراض عنه لقلة فائدته فمن عرف ما ذكرناه لم يخف عليه غور ما سواه ومن طلب الحق من أقاويل الناس دار رأسه وحار عقله وقد استقصيت ذلك في تهذيب الأصول
الطرف الثاني في بيان التدريج في منازل هذه الأقيسة من أعلاها إلى أدناها
وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقربه كل منكر للقياس
وبيانه أن القياس أربعة أنواع:المؤثر ثم المناسب ثم الشبه ثم الطرد والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر
وأعلاها المؤثر وهو ما ظهر تأثيره في الحكم أي الذي عرف إضافة الحكم إليه وجعله مناطا
وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة:لأنه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس(31/334)
ص -327-…ذلك الحكم أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم
فإن ظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الدي يقال له أنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر والنبيذ ملحق به قطعا وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا إذ لا يقى إلا اختلاف عدد الأشخاص التي هي مجازي المعنى ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي إذ يكون الهندي والتركي في معناه
الثاني في المرتبة: أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه كتأثير أخوة الأب والأم في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية النكاح فإن الولاية ليس هي عين الميراث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة فإن هذا حق وذلك حق
فهذا دون الأول لأن المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير
الثالث في المرتبة: أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالجرح والمشقة فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه
الرابع في المرتبة:ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم وهو الذي سميناه(31/335)
ص -328-…المناسب الغريب لأن الجنس الأعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة وقد ظهر أثر المصالح في الأحكام إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح
فلأجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن
ولأجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن لأنه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الأحكام بجنسها ككون الصيام فرضا في مسألة التبييت وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين
ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها أعم من بعض وبعضها أخص وإلى العين أقرب فإن أعم أوصاف الأحكام كونه حكما ثم تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة وغير عبادة والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الأحكام وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الأحكام بجنسه حتى يدخل فيه الأشباه وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة كالردع والزجر أو معنى سد الحاجات أو معنى حفظ العقل بالإحتراز عن المسكوات فليس كل جنس على مرتبة واحدة
فالأشباه أضعفها لأنها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث أنه من جنس(31/336)
ص -329-…الأوصاف التي قد يضبط الشرع الأحكام بها
وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فإن الصغر إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فقد عرفت بهذا أن الظن ليس بتحريك والنفس ليست تميل إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر فلأجل ذلك تتفاوت درجات الظن
والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في الجنسية ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد ومن حاول حصر هذه الأجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر وما ذكرناه هو النهاية في الإشارة إلى الأجناس ومراتبها وفي مقنع وكفاية
تنبيه آخر على خواص الأقيسة:
إعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغنى عن السبر والحصر فلا يحتاج إلى نفي ما عداه لأنه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة ويعلل تحريم الوطء بالجميع لأنه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه(31/337)
ص -330-…أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى كما في إعطاء الفقير القريب فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الأمرين فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى منه ولم يتوصل بالسبر إليه أما المناظر فينبغي أن يكتفي منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر لأن المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه وإلا فليعترض بطريق آخر
فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر
وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبوان إلى أنه لا يجوز اعتباره وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع فإنه إذا أمكن قصر الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا فإذا هو العلامة كما تقول الربا جار في الدقيق والعجين فلم ينضبط باسم البر فلا بد من ضابط ولا ضابط أولى من الطعم والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي وهذا يجري في القليل والتطوع يستغني عن التبييت والقضاء لا يستغنى والأداء دائر بينهما ولا بد من فاصل للقسمين والفرضية أولى الفواصل
وهذا بخلاف المناسب فإنه يجذب الظن ويحركه وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة
فإن قيل: فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه(31/338)
ص -331-…خاصية تنفي الشبه وإيهام الإشتمال على مخيل ؟!
قلنا: لهذا السؤال قال قائلون لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق لكن من حيث الإضافة إلى القرب والبعد فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشيء كبناء القنطرة فيقضي بادىء الرأي ببطلانه لأنه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته
وعلى الجملة:فمهما ظهر الأقرب والأخص أمحق الظن الحاصل بالأبعد وقد يكون ظهور الأقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل فيصير بطلان الأبعد بديهيا فيظن أنه لذاته وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب
وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به فإن الشعور بالشيء غير الشعور بالشعور فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا(31/339)
ص -332-…الطرف الثالث في بيان ما يظن أنه من الشبه المختلف فيه وليس منه
وهي ثلاثة أقسام:
الأول: ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط
مثاله طلب الشبه في جزاء الصيد وبه فسر بعض الأصوليين الشبه
وهذا خطأ لأن صحة ذلك مقطوع به لأنه قال{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }[المائدة: من الآية95]،فعلم أن المطلوب هو المثل وليس في النعم ما يماثل الصيد من كل وجه فعلم أن المراد به الأشبه الأمثل فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وقيمة المثل وكفاية المثل في الأقارب ولا سبيل إلا المقايسة بينها وبين نساء العشيرة وبين شخص القريب المكفى في السن والحال والشخص وبين سائر الأشخاص لتعرف الكفاية فذلك مقطوع به فكيف يمثل به الشبه المختلف فيه الذي يصعب الدليل على إثباته ؟!
القسم الثاني: ما عرف منه مناط الحكم ثم اجتمع مناطان متعارضان في موضع واحد فيجب ترجيح أحد المناطين ضرورة فلا يكون ذلك من الشبه
مثاله أن بدل المال غير مقدر وبدل النفس مقدر والعبد نفس كالحر ومال كالفرس فأما أن يقدر بدله أو لا يقدر فتارة يشبه بالفرس وتارة بالحر(31/340)
ص -333-…وذلك يظهر في ترجيح أحد المعنيين على الآخر وقد ظهر كون المعنيين من مناط الحكم وإنما المشكل من الشبه جعل الوصف الذي لا يناسب مناطا مع أن الحكم لم يضف إليه وههنا بالاتفاق الحكم ينضاف إلى هذين المناطين
القسم الثالث: ما لم يوجد فيه كل مناط على الكمال لكن تركبت الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالأغلب
مثاله أن اللعان مركب من الشهادة واليمين وليس بيمين محض لأن يمين المدعي لا تقبل والملاعن مدع وليس بشهادة لأن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وفي اللعان لفظ اليمين والشهادة فإذا كان العبد من أهل اليمين لا من أهل الشهادة وتردد في أنه هل هو من أهل اللعان وبان لنا غلبة إحدى الشائبتين فلا ينبغي أن يختلف في أن الحكم به واجب وليس من الشبه المختلف فيه
وكذلك الظهار: لفظ محرم وهو كلمة زور فيدور بين القذف والطلاق وزكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة والكفارة تتردد بين العبادة والعقوبة وفي مشابههما فإذا تناقض حكم الشائبتين ولا يمكن إخلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل على غلبة إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في الطرفين فينبغي أن يحكم بالأغلب الأشبه
وهذا أشبه هذه الأقسام الثلاثة بمأخذ الشبه فإنا نظن أن العبد ممنوع من الشهادة لسر فيه مصلحة وممكن من اليمين لمصلحة وأشكل الأمر في اللعان(31/341)
ص -334-…وبان أن إحدى الشائبتين أغلب فيكون الأغلب على ظننا بقاء تلك المصلحة المودعة تحت المعنى الأغلب
فإن قيل:وبم يعلم غلبة أحد المعنيين ؟
قلنا تارة بالبحث عن حقيقة الذات وتارة بالأحكام وكثرتها وتارة بقوة بعض الأحكام وخاصيته في الدلالة وهو مجال نظر المجتهدين وإنما يتولى بيانه الفقيه دون الأصولي
والغرض أنه إذا سلم أن أحد المناطين أغلب وجب الاعتراق بالحكم بموجبه لأنه إما أن يخلى عن أحد الحكمين المتناقضين وهو محال أو يحكم بالمغلوب أو بالغالب فيتيعين الحكم بالغالب فيكيف يلحق هذا بالشبه المشكل المختلف فيه ؟
نعم لو دار الفرع بين أصلين وأشبه أحدهما في وصف ليس مناطا وأشبه الآخر في وصفين ليسا مناطين فهذا من قبيل الحكم بالشبه والإلحاق بالأشبه
والأمر فيه إلى المجتهد:فإن غلب على ظنه أن المشاركة في الوصفين توهم المشاركة في المصلحة المجهولة عنده التي هي مناط الحكم عند الله تعالى وكان ذلك أغلب في نفسه من مشاركة الأصل الآخر الذي لم يشبهه إلا في صفة واحدة فحكم هنا بظنه فهذا من قبيل الحكم بالشبه
أما كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه هذا ما أردنا ذكره في قياس الشبه .
وكان القول فيه من تتمة الباب الثاني لأنه نظر في طريق إثبات علة الأصل لكنا أفردناه بباب لكيلا يطول الكلام في الباب الأول
وإذا فرغنا من طريق إثبات العلل فلا بد من بيان أركان القياس وشروطه بعد ذلك(31/342)
ص -335-…الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن
وأركانه أربعة:الأصل والفرع والعلة والحكم فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط:
الركن الأول وهو الأصل
وله شروط ثمانية :
الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل ثابتا فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته
الثاني: أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس
الثالث: أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا لأن كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي
الرابع: أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع فلا معنى لقياس الذرة على الأزر ثم قياس الأرز على البر لأن الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا فتطويل الطريق عبث إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للأرز أولى من عكسه وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم وإثباته على وفق المعنى فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصح لأن يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به لأن ذلك يؤدي في قياس(31/343)
ص -336-…الشبه إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع وبالرابع خامس فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة
فإن قيل:فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور
قلنا: للفرض محلان
أحدهما: أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم
الثاني: أن تبني فرعا على فرع آخر وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين فالجدل شريعة وضعها المتناظرون ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك
وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا إذ الخطأ ممكن على الخصمين إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا
الخامس: أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل مخصوصا بالأصل لا يعم(31/344)
ص -337-…الفرع مثاله: أنه لو قال: السفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسا على البر ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام أو قال فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم المعاهد ثم استند في إثبات علته إلى قوله صلى الله عليه وسلم :"لا يقتل مؤمن بكافر" فهذا قياس منصوص على منصوص وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير
السادس: قال قوم شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه .
وقال قوم: بل أن يقوم دليل على وجوب تعليله .
وهذا كلام مختل لا أصل له فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه لكن الحق أنه إن القدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه وترك الالتفات إلى المحل الخاص وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم فهذا له وجه وقد ذكرناه وإن لم يرد به هذا فلا وجه له(31/345)
ص -338-…السابع: أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الأبدال وقد بينا أن المعنى إن كان سابقا إلى الفهم جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم أما المستنبط بالتأمل ففيه نظر
الثامن: أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس فإن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره
وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل فنقول :
قاعدة : الخارج عن القياس لا يقاس عليه:
قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره .
ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة:
فإن ذلك يطلق على ما استثنى من قاعدة عامة .
وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق.(31/346)
ص -339-…وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه فهي أربعة أقسام:
الأول: الخصائص
ما استثنى عن قاعدة عامة وخصص بالحكم ولا يعقل معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره لأنه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص وفي القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص
ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثناؤه في تسع نسوة وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر وفي تخصيصه بصفي المغنم وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيصه أبا بردة في العناق أنها تجزىء عنه في الضحية فهذا لا يقاس عليه لأنه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة فكيف يقاس عليه ؟!
وكونه خاصية لمن ورد في حقه:تارة يعلم وتارة يظن فالمظنون كاختصاص قوله لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وقوله في شهداء أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فقال أبو حنيفة لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء لأن اللفظ خاص ويحتمل أن يكو الحكم خاصا لاطلاعه عليه السلام على إخلاصهم في العبادة ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الإسلام فضلا عن موتهم على الإحرام والشهادة
ولما قال للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان تصدق به على أهل بيتك ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل الشبق عجزا عن الصوم قال أكثر العلماء هو خاصية وقال صاحب التقريب يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز
ومن جعله خاصية استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في كفارة(31/347)
ص -340-…المظاهر وسائر الكفارات ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب وإن اختلفت أحوالهم في العجز فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة.
القسم الثاني: ما استثنى عن قاعدة سابقة ويتطرق إلى استثنائه معنى فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشارك المستثنى في علة الاستثناء مثاله:استثناء العرايا فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها لكن استثني للحاجة فنقيس العنب على الرطب لأنا نراه في معناه
وكذلك:إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة لم يردها دما لضمان المثليات بالمثل لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر وكان متعلقا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر فلا جرم نقول لورد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية فيضمن اللبن أيضا بصاع وهو نوع الحاق وإن كان في معنى الأصل
ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الإلحاق فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والإناث وقال يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها
وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات قالأبو حنيفة لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطىء في المضمضة ولكن قال جماع الناسي في معناه لأن الإفطار باب واحد
والشافعي قال: الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذا افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى(31/348)
ص -341-…المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي ونقيس عليه المكره والمخطىء على قول
القسم الثالث: القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة فيسمى خارجا عن القياس تجوزا إذ معناه أنه ليس منقاسا لأنه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخوله فيه ومثاله المقدرات في أعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى فلا يقاس عليها غيرها لأنها لا تعقل علتها
القسم الرابع: في القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها مع أنه يعقل معناها لأنه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع
والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص فكأنه معلل بعلة قاصرة
ومثاله: رخص السفر في القصر والمسح على الخفين ورخصة المضطر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها فإن هذه القواعد متباينة المأخذ فلا يجوز أن يقال بعضها خارج عن قياس البعض بل لكل واحد من هذه القواعد معنى منفرد به لايوجد له نظير فيه فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل(31/349)
ص -342-…الآخر خارجا عن قياسه بأولى من عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته
وتحقيقه : أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا لأنه خارج عن القياس لكن لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع
وكذلك رخصة السفر: لا شك في ثبوتها بالمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى لأنها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها لأن المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما
وكذلك قولهم: تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر فلأنه ليس في معناه وإلا فلنقس الخمر على الميتة والمكره على المضطر فهو منقاس
وكذلك بداءة الشرع بإيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ولأنه عديم النظير فلا يقاس عليه وأقرب شيء إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به(31/350)
ص -343-…وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ولا نظير له في غير الدية وهذا مما يكثر
فبهذا يعرف أن قول الفقهاء:تأقت الإجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الإجارة وتأقت المساقاة خارج عن تأبد القراض بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المسافاة
فإذا هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل .
الركن الثاني للقياس: الفرع
وله خمسة شروط
الشرط الأول: أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع فإن تعدي الحكم فرع تعدي العلة فإن كان وجودها في الفرع غير مقطوع به لكنه مظنون صح الحكم
وقال قوم: لا يجوز ذلك لأن مشاركته للأصل في العلة لم تعلم وإنما(31/351)
ص -344-…المعلوم بالقياس أن الحكم يتبع العلة ولا يقتصر على المحل أما إذا وقع الشك في العلة فلا يلحق
وهذا ضعيف،لأنه إذا ثبت أن النجاسة هي علة بطلان البيع في جلد الميتة قسنا عليه الكلب إذا ثبت عندنا نجاسة الكلب بدليل مظنون وكذلك قد يكون علة الكفارة العصيان ويدرك تحقيقه في بعض الصور بدليل ظني فإذا ثبت التحق بالأصل وكذلك الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة فطرح فيه التراب فإن كان التراب ساترا كالزعفران لم تزل النجاسة وإن كان مبطلا كهبوب الريح وطول المدة زالت النجاسة وربما يعرف ذلك بدليل ظني فالظن كالعلم في هذه الأبواب
الشرط الثاني: أن لا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل ومثاله قياس الوضوء على التيمم في النية والتيمم متأخر وهذا فيه نظر، لأنه إذا كان بطريق الدلالة فالدليل يجوز أن يتأخر عن المدلول فإن حدوث العالم دل على الصانع القديم وإن كان بطريق التعليل فلا يستقيم لأن الحكم يحدث بحدوث العلة فكيف يتأخر عن المعلول ؟
لكن يمكن العدول إلى طريق الاستدلال فإن إثبات الشرع الحكم في التيمم على وفق العلة يشهد لكونه ملحوظا بعين الاعتبار وإن كان للعلة دليل آخر سوى التيمم فلا يكون التيمم وحده دليلا لعلة الوضوء السابق
الشرط الثالث: أن لا يفارق حكم الفرع حكم الأصل في جنسية ولا في زيادة ولا نقصان فإن القياس عبارة عن تعدية حكم من محل إلى محل فكيف يختلف بالتعدية وليس من شكل القياس قول القائل بلغ رأس المال أقصى مراتب الأعيان فليبلغ المسلم(31/352)
ص -345-…فيه أقصى مراتب الديون قياسا لأحد العوضين على الآخر لأن هذا إلحاق فرع بأصل في إثبات خلاف حكمه
الرابع: أن يكون الحكم في الفرع مما ثبتت حملته بالنص وإن لم يثبت تفصيله وهذا ذكره أبو هاشم وقال لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظرت الصحابة في توريث الجد مع الأخوة
وهذا فاسد،لأنهم قاسوا قوله أنت علي حرام على الظهار والطلاق واليمين ولم يكن قد ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص بل الكم إذا ثبت في الأصل بعلة تعدي بتعدي العلة كيفما كان
الخامس: أن لا يكون الفرع منصوصا عليه فإنه إنما يطلب الحكم بقياس أصل آخر فيما لا نص فيه
فإن قيل:فلم قستم كفارة الظهار على كفارة القتل في الرقبة المؤمنة والظهار أيضا منصوص عليه واسم الرقبة يشمل الكافرة
قلنا: اسم الرقبة ليس نصا في إجزاء الكافرة لكنه ظاهر فيه كما في المعيبة وعلة اشتراط الأيمان في كفارة القتل عرفنا تخصيص عموم آية الظهار فخرج عن أن يكون أجزاء الكافرة منصوصا عليه فطلبنا حكمه بالقياس لذلك(31/353)
ص -346-…الركن الثالث الحكم :
وشرطه أن يكون حكما شرعيا لم يتعبد فيه بالعلم وبيانه بمسائل :
مسألة: لا قياس في اللغويات والعقليات الحكم العقلي والاسم اللغوي لا يثبت بالقياس:
فلا يجوز إثبات اسم الخمر للنبيذ الزنا للواط والسرقة للنبش والخليط للجار بالقياس لأن العرب تسمي الخمر إذا حمضت خلا لحموضته ولا تجريه في كل حامض وتسمي الفرس أدهم لسواده ولا تجريه في كل أسود وتسمي القطع في الآنف جدعا ولا تطرده في غيره
وهذه المسألة قد قدمناها فلا نعيدها
وكذلك لا يعرف كون المكره قاتلا والشاهد قاتلا والشريك قاتلا بالقياس بل يتعرف حد القتل بالبحث العقلي وكذلك غاصب الماشية هل هو غاصب للنتاج؟ والمستولي على العقار هل هو غاصب للغلة ؟فهذه مباحث عقلية تعرف بصناعة الجدل نعم يجوز أن يقال ألحق الشرع الشريك بالمنفرد بالقتل حكما فنقيس عليه الشريك في القطع والحق المكره بالقاتل فنقيس عليه الشاهد إذا رجع وذلك إلحاق من ليس قائلا بالقاتل في الحكم
مسألة لا قياس في الأمور التعبدية ما تعبد فيه بالعلم لا يجوز إثباته بالقياس:
كمن يريد إثبات خبر الواحد بالقياس على قبول الشهادة ولذلك أورد في(31/354)
ص -347-…مثال هذا الباب إثبات صلاة سادسة أو صوم شوال أنه لا يثبت بالقياس لأن مثل هذه الأصول ينبغي أن تكون معلومة
وهذا فيه نظر إذ يمكن أن يقال إن الوتر صلاة سادسة وقد وقع الخلاف في وجوبها فلم يشترط أن تكون السادسة معلومة الوجوب على القطع؟بل سبب بطلان هذا القياس علمنا ببطلانه لأنه لو وجب صوم شوال وصلاة سادسة لكانت العادة تحيل أن لا يتواتر أو لأنا لا نجد أصلا نقيسه عليه فإنه لا يمكن قياس شوال على رمضان إذ لم يثبت لنا أن وجوب صوم رمضان لأنه شهر من الشهور أو وقت من الأوقات أو لو صف يشاركه فيه شوال حتى يقاس عليه
مسألة: قياس الدلالة وقياس العلة :
اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس وأعني بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع
والمختار أنه يجري فيه قياس الدلالة لا قياس العلة
وقياس الدلالة أن يستبدل بانتفاء الحكم عن الشيء على انتفائه عن مثله ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل وإلا فهو باستصحاب موجب العقل النافي للأحكام قبل ورود الشرع مستغن عن الاستدلال بالنظر
أما قياس العلة فلا يجري لأن الصلاة السادسة وصوم شوال انتفى وجوبهما لأنه لا موجب لهما كما كان قبل ورود الشرع وليس ذلك حكما حادثا سمعيا حتى تطلب له علة شرعية بل ليس ذلك من أحكام الشرع بل هو نفي لحكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد فحدوث العالم له سبب وهو إرادة الصانع أما عدمه في الأزل فلم تكن له علة إذ لو أحيل على إرادة الله تعالى لوجب أن ينقلب موجودا لو قدرنا عدم المريد والإرادة كما أن الإرادة لو قدر انتفاؤها لانتفى وجود العالم في وقت حدوثه فإذا لم يكن الانتفاء الأصلي حكما شرعيا على لتحقيق لم يثبت بعلة سمعية(31/355)
ص -348-…أما النفي الطارىء كبراءة الذمة عن الدين فهو حكم شرعي يفتقر إلى علة فيجري فيه قياس العلة
مسألة: قياس الحكم المعلل :
كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه
وحكم الشرع نوعان:أحدهما:نفس الحكم والثاني نصب أسباب الحكم فلله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان أحدهما إيجاب الرجم والآخر نصب الزنا سببا لوجوب الرجم فيقال وجب الرجم في الزنا لعلة كذا وتلك العلة موجودة في اللواط فنجعله سببا وإن كان لا يسمى زنا
وأنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل وقال الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب وإنما الحكمة ثمرة وليست بعلة فلا يجوز أن يقال جعل القتل سببا للقصاص للزجر والردع فينبغي أن يجب القصاص على شهود القصاص لمسيس الحاجة إلى الزجر وإن لم يتحقق القتل
وهذا فاسد
والبرهان القاطع على أن هذا الحكم شرعي أعني نصب الأسباب لإيجاب الأحكام فيمكن أن تعقل علته ويمكن أن يتعدى إلى سبب آخر فإن اعترفوا بإمكان معرفة العلة وإمكان تعديته ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمن يقول يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا استحالته أبضرورة أو نظر ولا بد من بيانه كيف ونحن نبين إمكانه بالأمثلة ؟(31/356)
ص -349-…فإن قيل: الإمكان مسلم في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يلفي للأسباب علة مستقيمة تتعدى.
فنقول: الآن قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تعقل العلة أو لا تتعدى وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف
الجواب الثاني: هو أنا نذكر إمكان القياس في الأسباب على منهجين :
المنهج الأول: ما لقبناه بتنقيح مناط الحكم فنقول قياسنا اللائط والنباش على الزاني والسارق مع الاعتراق بخروج النباش واللائط عن اسم الزاني والسارق كقياسكم الأكل على الجماع في كفارة الفطر مع أن الأكل لا يسمى وقاعا وقد قال الأعرابي واقعت في نهار رمضان
فإن قيل: ليس هذا قياسا فإنا نعرف بالبحث أن الكفارة ليست كفارة الجماع بل كفارة الإفطار
قلنا: وكذلك نقول ليس الحد حد الزنا بل حد إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهى طبعا والقطع قطع أخذ مال محرز لا شبهة للأخذ فيه
فإن قيل: إنما القياس أن يقال علق الحكم بالزنا لعلة كذا وهي موجودة في غير الزنا وعلقت الكفارة بالوقاع لعلة كذا وهي موجودة في الأكل كما يقال:أثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة وهي موجودة في النبيذ ونحن في الكفارة نبين أنه لم يثبت الحكم للجماع ولم يتعلق به فنتعرف محل الحكم الوارد شرعا أنه أين ورد وكيف ورد وليس هذا قياسا فإن استمر لكم مثل هذا في اللائط والنباش فنحن لا ننازع فيه. قلنا:فهذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش بلا فرق وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم فيرجع النزاع إلى الاسم
المنهج الثاني: هو أنا نقول:إذا انفتح باب المنهج الأول تعدينا إلى إيقاع الحكم والتعليل بها فإنا لسنا نعني بالحكمة إلا المصلحة المخيلة المناسبة كقولنا في(31/357)
ص -350-…قوله عليه السلام : "لا يقض القاضي وهو غضبان" إنه إنما جعل الغضب سبب المنع لأنه يدهش العقل ويمنع من استيفاء الفكر وذلك موجود في الجوع المفرط والعطش المفرط والألم المبرح فنقيسه عليه وكقولنا أن الصبي يولي عليه لحكمة وهي عجزه عن النظر لنفسه فليس الصبا سبب الولاية لذاته بل لهذه الحكمة فننصب الجنون سببا قياسا على الصغر
والدليل على جواز مثل ذلك اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على جواز قتل الجماعة بالواحد والشرع إنما أوجب القتل على القاتل والشريك ليس بقاتل على الكمال لكنهم قالوا إنما اقتص من القاتل لأجل الزجر وعصمة الدماء وهذا المعنى يقتضي إلحاق المشارك بالمنفرد
ونزيد على هذا القياس ونقول: هذه الحكمة جريانها في الأطراف كجريانها في النفوس فيصان الطرف في القصاص عن المشارك كما يصان عن المنفرد وكذلك نقول يجب القصاص بالجارح لحكمة الزجر وعصمة الدماء فالمثقل في معنى الجارح بالإضافة إلى هذه العلة فهذه تعليلات معقولة في هذه الأسباب لا فرق بينها وبين تعليل تحريم الخمر بالشدة وتعليل ولاية الصغر بالعجز ومنع الحكم بالغضب
فإن قيل:المانع منه أن الزجر حكمة وهي ثمرة وإنما تحصل بعد القصاص وتتأخر عنه فكيف تكون علة وجوب القصاص ؟بل علة وجوب القصاص القتل
قلنا: مسلم أن علة وجوب القصاص القتل لكن علة كون القتل علة للقصاص الحاجة إلى الزجر والحاجة إلى الزجر هي العلة دون نفس الزجر والحاجة سابقة وحصول الزجر هو المتأخر إذ يقال خرج الأمير عن البلد للقاء زيد ولقاء زيد يقع بعد خروجه ولكن تكون الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه وإنما المتأخر نفس اللقاء فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببا للقصاص والشريك في هذا المعنى يساوي(31/358)
ص -351-…المنفرد والمثقل يساوي الجارح فألحق به قياسا
مسألة: قياس الحدود والكفارات
نقل عن قوم أن القياس لا يجري في الكفارات والحدود
وما قدمناه يبين فساد هذا الكلام
فإن إلحاق الأكل بالجماع قياس وإلحاق النباش بالسارق قياس
فإن زعموا أن ذلك تنقيح لمناط الحكم لا استنباط للمناط فما ذكروه حق والانصاف يقتضي مساعدتهم إذ فسروا كلامهم بهذا فيجب الاعتراف بأن الجاري في الكفارات والحدود بل وفي سائر أسباب الأحكام المنهج الأول في الإلحاق دون المنهج الثاني وأن المنهج الثاني يرجع إلى تنقيح مناط الحكم وهو المنهج الأول فإنا إذا ألحقنا المجنون بالصبي بان لنا أن الصبا لم يكن مناط الولاية بل أمر أعم منه وهو فقد عقل التدبير وإذا ألحقنا(31/359)
ص -352-…الجوع بالغضب بان لنا أن الغضب لم يكن مناطا بل أمر أعم منه وهو ما يدهش العقل عن النظر
وعند هذا يظهر الفرق للمنصف بين تعليل الحكم وتعليل السبب فإن تعليل الحكم تعدية الحكم عن محله وتقريره في محله فإنا نقول حرم الشرع شرب الخمر والخمر محل الحكم ونحن نطلب مناط الحكم وعلته فإذا تبينت لنا الشدة عديناها إلى النبيذ فضممنا النبيذ إلى الخمر في التحريم ولم نغير من أمر الخمر شيئا أما ههنا إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنا لعلة كذا فيلحق به غير الزنا يناقض آخر الكلام أوله لأن الزنا إن كان مناطا من حيث أنه زنا فإذا ألحقنا به ما ليس بزنا فقد أخرجنا الزنا عن كونه مناطا فكيف يعلل كونه مناطا بما يخرجه عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير
ومن ضرورة تعليل الأسباب تغييرها فإنك إذا اعترفت بكونه سببا ثم أثبت ذلك الحكم بعينه عند فقد ذلك السبب فقد نقضت قولك الأول أنه سبب فإنا إذا ألحقنا الأكل بالجماع بان لنا بالآخرة أن الجماع لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو الإفطار
وإنما كان يكون هذا تعليلا لو بقي الجماع مناطا وانضم إليه مناط آخر يشاركه في العلة كما بقي الخمر محلا للتحريم وانضم إليه محل آخر وهو النبيذ فلم يخرج المحل الذي طلبنا علة حكمه عن كونه محلا لكن انضم إليه محل آخر وهو الأكل وذلك محال بل الحاق الأكل يخرج وصف الجماع عن كونه مناطا ويوجب حذفه عن درجة الاعتبار ويوجب إضافة الحكم إلى معنى آخر حتى يصير وصف الجماع حشوا زائدا وكذلك يصير وصف الزنا حشوا زائدا ويعود الأمر إلى أن مناط الرجم وصف زائد لأن مناط الرجم أمر أعم من الزنا وهو إيلاج فرج في فرج حرام(31/360)
ص -353-…فإذا مهما فسر مذهبهم على هذا الوجه اقتضى الانصاف المساعدة والله أعلم
الركن الرابع العلة :
ويجوز أن تكون العلة حكما كقولنا بطل بيع الخمر لأن حرم الانتفاع به ولأنه نجس وغلط من قال أن الحكم أيضا يحتاج إلى علة فلا يعلل به
ويجوز أن يكون وصفا محسوسا عارضا كالشدة أو لازما كالطعم والنقدية والصغر أو من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة أو وصفا مجردا أو مركبا من أوصاف ولا فرق بين أن يكون نفيا أو إثباتا
ويجوز أن يكون مناسبا وغير مناسب أو متضمنا لمصلحة مناسبة
ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم كتحريم نكاح الأمة بعلة رق الولد
وتفارق العلة الشرعية في بعض هذه المعاني العلة العقلية على ما بينا في كتاب التهذيب ولم نر فيه فائدة لأن العلة العقلية مما لا نراها أصلا فلا معنى لقولهم العلم علة كون العالم عالما لا كون الذات عالمة ولا أن العالمية حال وراء قيام العلم بالذات فلا وجه لهذا عندنا في المعقولات بل لا معنى لكونه عالما إلا قيام العلم بذاته
وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة وسائر الأقسام التي ذكرناها يجوز أن ينصبها الشارع علامة(31/361)
ص -354-…فالذي نتعرض له في هذا الركن كيفية إضافة الحكم إلى العلة ويتهذب ذلك بالنظر في أربع مسائل:
إحداها: تخلف الحكم عن العلة مع وجودها وهو الملقب بالنقض والتخصيص
والثانية: وجود الحكم دون العلة وهو الملقب بالعكس وتعليل الحكم بعلتين
والثالثة: أن الحكم في محل النص يضاف إلى النص أو إلى العلة
وعنه تتشعب الرابعة وهي العلة القاصرة
مسألة : تخصيص العلة الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل :
اختلفوا في تخصيص العلة ومعناه أن فقد الحكم مع وجود العلة يبين فساد العلة وانتفاضها أو يبقيها علة ولكن يخصصها بما وراء موقعها
فقال قوم: إنه ينقض العلة ويفسدها ويبين أنها لم تكن علة إذ لو كانت لاطردت ووجد الحكم حيث وجدت وقال قوم تبقى علة فيما وراء النقض وتخلف الحكم عنها يخصصها كتخلف حكم العموم فإنه يخصص العموم بما وراءه
وقال قوم: إن كانت العلة مستنبطة مظنونة انتقضت وفسدت وإن كانت منصوصا عليها تخصصت ولم تنتقض
وسبيل كشف الغطاء عن الحق أن نقول تخلف الحكم عن العلة يعرض على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يعرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقضا وهو ينقسم إلى ما يعلم أنه ورد مستثنى عن القياس وإلى ما لا يظهر ذلك منه :(31/362)
ص -355-…فما ظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استبقاء القياس فلا يرد نقضا على القياس ولا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى فتكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة .
مثال الوارد على العلة المقطوعة إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات المتلفة تماثل الأجزاء والشرع لم ينقض هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصورة فهذا الاستثناء لا يبين للمجتهد فساد هذه العلة
ولا ينبغي أن يكلف المناظر الاحتراز عنه حتى يقول في علته تماثل أجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح
وكذلك صدور الجناية من الشخص علة وجوب الغرامة عليه فورود الضرب على العاقلة لم ينقض هذه العلة ولم يفسد هذا القياس لكن استثنى هذه الصورة فتخصصت العلة بما وراءها .
ومثال ما يرد على العلة المظنونة:
مسألة العرايا فإنها لا تنقض التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا ودليل كونه مستثنى أنه يرد على علة الكيل وعلى كل علة
وكذلك إذا قلنا:عبادة مفروضة فتفتقر إلى تعيين النية لم تنتقض بالحج فإنه ورد على خلاف قياس العبادات لأنه لو أهل بإهلال زيد صح ولا يعهد مثله في العبادات
أما إذا لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على العلة المنصوصة أو على المظنونة:(31/363)
ص -356-…فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة
ومثاله: قولنا: خارح فينقض الطهارة أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بأن أنه لم يتوضأ من الحجامة فعلمنا أن العلة بتمامها لم يذكرها وأن العلة خارج من المخرج المعتاد فكان ما ذكرناه بعض العلة .
فالعلة إن كانت منصوصة ولم يرد النقض مورد الاستثناء لم يتصور إلا كذلك
فإن لم تكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل لذلك الحكم فقوله تعالى{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}[الحشر: من الآية2]ثم قال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[الحشر: من الآية4] وليس كل من يشاقق الله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقال إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام بل نقول تبين بآخر الكلام أن الحكم المعلل ليس هو نفس الخراب بل استحقاق الخراب خرب أو لم يخرب أو نقول ليس الخراب معلولا بهذه العلة لكونه خرابا بل لكونه عذابا وكل من شاق الله وسوله فهو معذب إما بخراب البيت أو غيره فإن لم يتكلف مثل هذا كان الكلام منتقضا
أما إذا ورد على العلة المظنونة لا في معرض الاستثناء وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإخالة أن كانت العلة مخيلة أو من طريق الشبه إن كانت شبها فهذا بين أن ما ذكرناه أولا لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقص(31/364)
ص -357-…أما إذا كانت العلة مخيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأمكن أن يكون معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة يفصلها عن غير مجراها فهذا: الاحتراز عنه مهم في الجدل للمتناظرين لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقد في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصيص ؟هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد ما غلب على ظنه
ومثاله قولنا: صوم رمضان يفتقر إلى النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة بسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد سامح في النفل بما لم يسامح به في الفرض .
فالمخيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة وموقعها ويكون ذلك وصفا شبيها اعتبر في استعمال المخيل وتميز مجراه عن موقعه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد إنما ينقدح في معنى مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل اليوم واجب وإن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية
فإن كانت العلة مناسبة بحيث تفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد لصحتها(31/365)
ص -358-…ثبوت الحكم في موضع آخر على وفقه فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنه في موضع آخر فإن إثبات الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع وقول القائل أنا أتبعه إلا في محل إعراض الشرع بالنص ليس هو أولى ممن قال أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم
وعلى الجملة:يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة واستثناء صورة حكم عنها ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة احتمل أن يكون لفساد العلة واحتمل أن يكون لتخصيص العلة
فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت العلة مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحجم في موضع على وفقها فينقطع هذا الظن بإعراض الشرع عن اتباعها في موضع آخر وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة تبييت النية كان ذلك في محل الاجتهاد
الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة: أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى دافعة
مثاله قولنا: إن علة رق الولد ملك الأم ثم المغرور بحرية جارية ينعقد ولده حرا وقد وجد رق الأم وانتفى الولد لكن هذا انعدام بطريق الاندفاع لعلة دافعة مع كمال العلة المرقة بدليل أن الغرم يجب على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لما وجبت قيمة الولد
فهذا النمط لا يرد نقضا على المناظر ولا يبين لنظر المجتهد فسادا في العلة لأن الحكم ههنا كأنه حاصل تقديرا(31/366)
ص -359-…الوجه الثالث: أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في النباش فليجب القطع فقيل يبطل بسرقة ما دون النصاب وسرقة الصبي والسرقة من غير الحرز ونقول البيع علة الملك وقد جرى فليثبت الملك في زمان الخيار فقيل هذا باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك
فهذا جنس لا يلتفت إليه المجتهد لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره
أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أو يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس عليه البحث عن المحل والشرط هذا مما اختلف الجدليون فيه والخطب فيه يسير فالجدل شريعة وضعها الجدليون وإليهم وضعها كيف شاؤوا وتكلف الاحتراز أجمع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه فيفيد الملك ويقول سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه فيفيد القطع
مايعرف به أن المسألة المستثناة ليست ناقضة للعلة
فإن قيل: فقد ذكرتم أن النقض إذا ورد على صوب جريان العلة وكان مستثنى عن القياس لم يقبل فبم يعرف الاستثناء وما من معلل يرد عليه نقض إلا وهو يدعي ذلك؟
قلنا: أما المجتهد فلا يعاند نفسه فيتبع فيه موجب ظنه
وأما المناظر فلا يقبل ذلك منه إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بأنه(31/367)
ص -360-…على خلاف قياسه أيضا فإن قياس أبي حنيفة في الحاجة إلى تعيين النية يوجب افتقار الحج إلى التعيين فهو خارج عن قياسه أيضا فإن أمكنه إبراز قياس سوى مسألة النقض على قياس نفسه كانت علته المطردة أولى من علته المنقوضة ولم تقبل دعوى المعلل أنه خارج عن القياس
هل العلة موجودة في الصورة المستثناةى ترخيصاً ؟
فإن قيل: فحيث أوردتم مسألة المصراة مثالا فهل تقولون إن العلة موجودة في مسألة المصراة وهي تماثل الأجزاء لكن اندفع الحكم بمانع النص كما تقولون في مسألة المغرور بحرية الولد ؟
قلنا: لا لأن التماثل ليس علة لذاته بل يجعل الشرع إياه علامة على الحكم فحيث لم يثبت الحكم لم يجعله علامة فلم يكن علة كما أنا لا نقول الشدة الموجودة قبل تحريم الخمر كانت علة لكن لم يرتب الشرع عليها الحكم بل ما صارت علة إلا حيث جعلها الشرع علة وما جعلها علة إلا بعد نسخ إباحة الشرب فكذلك التماثل ليس علة في مسألة المصراة بخلاف مسألة المغرور فإن الحكم فيه ثابت تقديرا وكأنه ثبت ثم اندفع فهو في حكم المنقطع لا في حكم الممتنع
ولو نصب شبكة ثم مات فتعقل بها صيد لقضى منه ديونه ويستحقه ورثته لأن نصب الشبكة سبب ملك الناصب للصيد ولكن الموت حالة تعقل الصيد دفع الملك فتلقاه الوارث وهو في حكم الثابت للميت المنتقل إلى الوارث فليفهم دقيقة الفرق بينهما
هل يجب عن التخصيص وةوالنقض في كل علة ؟
فإن قيل: إ ذا لم يكن التماثل علة في المصراة فقد انعطف به قيد على التماثل أفتقولون العلة في غير المصراة التماثل المطلق أو تماثل مضاف إلى غير المصراة فإن قلتم هو مطلق التماثل ومجرده فهو محال لأنه موجود(31/368)
ص -361-…في المصراة ولا حكم وإن قلتم هو تماثل مضاف فليجب على المعلل الاحتراز فإنه إذا ذكر التماثل المطلق فقد ذكر بعض العلة إذ ليست العلة مجرد التماثل بل التماثل مع قيد الإضافة إلى غير المصراة وعند هذا يكون انتفاء الحكم في مسألة المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا للعلة ولا تخصيصا فإذا قال القائل اقتلوا زيدا لسواده اقتضى ظاهره قتل كل أسود فلو ظهر بنص قاطع أنه ليس يقتل إلا زيد فقد بان أن العلة لم تكن السواد المطلق بل سواد زيد وسواد زيد لا يوجد إلا في زيد فإن لم يقتل غيره فلعدم العلة لا لخصوص العلة ولا لانتقاضها ولا لاستثنائها عن العلة
والجواب: أن هذا منشأ تخبط الناس في هذه المسألة وسبب غموضها أنهم تكلموا في تسمية مطلق التماثل علة قبل معرفة حد العلة وأن العلة الشرعية تسمى علة أي اعتبار
وقد أطلق الناس اسم العلة باعتبارات مختلفة ولم يشعروا بها ثم تنازعوا في تسمية مثل هذا علة وفي تسمية مجرد السبب علة دون المحل والشرط
من اين استعير اسم وأثر ذلك على المناظرة في القياس:
فنقول: اسم العلة مستعار في العلامات الشرعية وقد استعاروها من ثلاثة مواضع على أوجه مختلفة : الأول: الاستعارة من العلة العقلية وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته(31/369)
ص -362-…فعلى هذا لا يسمى التماثل علة لأنه بمجرده لا يوجب الحكم ولا يسمى السواد علة بل سواد زيد ولا تسمى الشدة المجردة علة لأنه بمجرده لا يوجب الحكم بل شدة في زمان .
الثاني: الاستعارة من البواعث فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا فيقال أعطاه لفقره فلو علل به ثم منع فقيرا آخر فقيل له لم لم تعطه وهو فقير ؟فيقول لأنه عدوي ومنع فقيرا ثالثا وقال لأنه معتزلي فلذلك لم أعطه فمن تغلب على طبعه عجرفة الكلام وجدله فقد يقول أخطأ في تعليلك الأول فكان من حقك أن تقول أعطيته لأنه فقير وليس عدوا ولا هو معتزلي ومن بقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة وطبع المحاورة لم يستبعد ذلك ولم يعده متناقضا وجوز أن يقول أعطيته لأنه فقير لأن باعثه هو الفقر وقد لا يحضره عند الإعطاء العداوة والاعتزال ولا انتفاؤهما ولو كانا جزأين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر
فمن جوز تسمية الباعث علة فيجوز أن يسمى مجرد التماثل علة لأنه الذي يبعثنا على إيجاب المثل في ضمانه وإن لم يخطر ببالنا إضافنه إلى غير المصراة فإنه قد لا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة
المأخذ الثالث: لاسم العلة علة المريض وما يظهر المرض عنده كالبرودة فإنها علة المرض مثلا والمرض يظهر عقيب غلبة البرودة وإن كان لا يحصل بمجرد البرودة بل ربما ينضاف إليها من المزاج الأصلي أمور مثلا(31/370)
ص -363-…كالبياض لكن انضاف المرض إلى البرودة الحادثة وكما ينضاف الهلاك إلى اللطم الذي تحصل التردية به في البئر وإن كان مجرد اللطم لا يهلك دون البئر لكن يحال بالحكم على اللطم لا على التردية التي ظهر بها الهلاك دون ما تقدم
وبهذا الاعتبار سمى الفقهاء الأسباب عللا فقالوا :علة القصاص القتل وعلة القطع السرقة ولم يلتفوا إلى المحل والشرط
فعلى هذا المأخذ أيضا يجوز أن يسمى التماثل المطلق علة
وإذا عرف هذا المأخذ فمن قال :مجرد التماثل هل هو علة فيقال له ما الذي تفهم من العلة ؟وما الدي تعني بها ؟فإن عنيت بها الموجب للحكم فهذا بمجرده لا يوجب فلا يكون علة
وهذا هو اللائق بمن غلب طبع الكلام ولهذا أنكر الأستاذ أبو إسحق تخصيص العلة وإن كانت منصوصة وقال يصير التخصيص قيدا مضموما إلى العلة ويكون المجموع هو العلة وانتفاء الحكم عند انتفاء المجموع وفاء بالعلة وليس بنقص لها(31/371)
ص -364-…وإن عنيت به الباعث أو ما يظهر الحكم به عند الناظر وإن غفل عن غيره فيجوز تسميته علة
هذا حكم النظر في التسمية في حق المجتهد
أما الاحتراز في الجدل فهو تابع للاصطلاح ويقبح أن يكلف الاحتراز فيه فيقول تماثل في غير المصراة وشدة في غير ابتداء الإسلام وما يجري مجراه
إن أخذت العلة الشرعية من العقلية فهل بين ركنها ومحلها وشرطها فرق ؟:
وأعلم أن العلة إن أخذت من العلة العقلية لم يكن للفرق بين المحل والعلة والشرط معنى بل العلة المجموع والمحل والأهل وصف من أوصاف العلة ولا فرق بين الجميع لأن العلة هي العلامة وإنما العلامة جملة الأوصاف والإضافات
نعم لا ينكر ترجيح البعض على البعض في أحكام الضمان وغيرها إذ يحال الضمان على المردي دون الحافر وإن كان الهلاك لا يتم إلا بهما لنوع من الترجيح وكذلك لا ينكرون أن تعجيل الزكاة قبل الحول لا يدل على تعجيل الزكاة قبل تمام النصاب وإن كان كل واحد لا بد منه لكن ربما لا ينقدح للمجتهد التسوية بين جميع أجزاء العلة ويراها متفاوتة في مناسبة الحكم
ولا يمتنع أيضا الاصطلاح على التعبير عن البعض بالمحل وعن البعض بركن العلة وهذا فيه كلام طويل ذكرناه في كتاب شفاء الغليل ولم نورده ههنا لأنها مباحث فقهية قد استوفيناها في الفقه فلا نطول الأصول بها
مسألة: تعليل الحكم بعلتين:
اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين والصحيح عندنا جوازه لأن العلة الشرعية علامة ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية
ودليل جوازه وقوعه فإن من لمس ومس وبال في وقت واحد ينتقض(31/372)
ص -365-…وضوؤه ولا يحال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضا أو جمع لبنهما وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤولة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع مثلين
نعم لو فرض رضاع ونسب فيجوز أن يرجح النسب لقوته أو اجتمع ردة وعدة وحيض فيحرم الوطء فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات ولو قتل وارتد فيجوز أن يقال المستحق قتلان ولو قتل شخصين فكذلك ولو باع حرا بشرط خيار مجهول ربما قيل علة البطلان الحرية دون الخيار فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع وإنما فرضناه في اللمس والمس والخؤولة والعمومة لدفع هذه الخيالات فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد وعلى وقوعه أيضا
فإن قيل فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض علة أخرى في الأصل بطل قياس المعلل وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل هذا الاعتراض ؟
فنقول:إنما يبطل به استشهاده بالأصل إن كانت علته ثابتة بطريق المناسبة المجردة دون التأثير أو بطريق العلامة الشبيهة أما إن كان بطريق التأثير أعني ما دل النص أو الإجماع على كونه علة فاقتران علة أخرى بها لا يفسدها كالبول والمس والخؤولة والعمومة في الرضاع إذ دل الشرع على أن كل واحد من المعنيين علة على حيالها .
أما إذا كان إثباته بشهادة الحكم والمناسبة انقطع الظن بظهور علة أخرى مثاله(31/373)
ص -366-…إن من أعطى إنسانا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللناه به وإن وجدناه قريبا عللنا بالقرابة فإن ظهر لنا الفقر بعد القرابة أمكن أن يكون الإعطاء للفقر لا للقرابة أو يكون لاجتماع الأمرين فيزول ذلك الظن لأن تمام ذلك الظن بالسبر وهو أنه لا بد من باعث على العطاء ولا باعث إلا الفقر فإذا هو الباعث أو لا باعث إلا القرابة فإذا هو الباعث فإذا ظهرت علة أخرى بطلت إحدى مقدمتي السبر وهو أنه لا باعث إلا كذا
وكذلك عتقت بريرة تحت عبد فخيرها النبي عليه السلام فيقول أبو حنيفة خيرها لملكها نفسها ولزوال قهر الرق عنها فإنها كانت مقهورة في النكاح وهذا مناسب فيبني عليه تخييرها وإن عتقت تحت حر
فقلنا: العلة خيرها لتضررها بالمقام تحت عبد ولا يجري ذلك في الحر فكيف يلحق به وإمكان هذا يقدح في الظن الأول فإنه لا دليل له عليه إلا المناسبة ودفع الضرر أيضا مناسب وليست الحوالة على ذلك أولى من هذا إلا أن يظهر ترجيح لأحد المعنيين
وأما مثال العلامة الشبهية فعلة الربا فإنه لم يذهب أحد إلى الجمع بين القوت والطعم والكيل على أن كل واحد علة لأنه لم يقم دليل من جهة النص والاجماع بل طريقة إظهار الضرورة في طلب علامة ضابطة مميزة مجرى الحكم عن موقعه إذ جرى الربا في الخبز والعجين مع زوال اسم البر فلا يتم النظر إلا بقولنا ولا بد من علامة ولا علامة أولى من الطعم فإذا هو العلامة فإذا ظهرت علامة أخرى مساوية بطلت المقدمة الثانية من النظر فانقطع الظن
والحاصل أن كل تعليل يفتقر إلى السبر فمن ضرورته اتحاد العلة وإلا انقطع شهادة الحكم للعلة وما لا يفتقر إلى السبر كالمؤثر فوجود علة أخرى لا يضر(31/374)
ص -367-…وقد ذكرنا هذا في خواص هذه الأقيسة
مسألة: اشتراط العكس في العلة:
اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية
وهذا الخلاف لا معنى له بل لا بد من تفصيل
وقبل التفصيل فاعلم أن العلامات الشرعية دلالات فإذا جاز اجتماع دلالات :لم يكن من ضرورة انتفاء بعضها انتفاء الحكم.
لكنا نقول: إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لا لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم بل لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها.
والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا تثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتخذة من المطبخ والخلاء والمطرح للتراب ومصعد السطح وغيره
فلأبي حنيفة أن يقول:هذا لا مدخل له في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة البيضاء وما لا مرافق له فهذا الآن عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لانتفى الحكم عند انتفائه
فنقول: السبب فيه ضرر مزاحمة الشركة.
فنقول: لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحيوانات والمنقولات .
فإن قلنا: ضرر الشركة فيما يبقى ويتأبد
فيقول:فلتجز في الحمام الصغير وما لا ينقسم .(31/375)
ص -368-…فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن نعلل بضرر مؤونة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها لوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس
معنى آخر للعكس:
فإن قيل: ولفظ العكس هل يراد به معنى سوى انتفاء الحكم عند انتفاء العلة؟
قلنا:هذا هو المعنى الأشهر وربما أطلق على غيره بطريق التوهم كما يقول الحنفي لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره .
وقالوا:لما سقط بزوال العقل جميع العبادات ينبغي أن يجب برجوع العقل جميع العبادات
وهذا فاسد، لأنه لا مانع من أن يرد الشرع بوجوب القصاص بكل جارح وإن صغر ثم يخصص في المثقل بالكبير ولا بعد في أن يكون العقل شرطا في العبادات ثم لا يكفي مجرده للوجوب بل يستدعي شرطا آخر .
مسألة :هل تصح العلة القاصرة أم لا :
العلة القاصرة صحيحة وذهب أبو حنيفة إلى إبطالها
ونحن نقول:أولا ينظر الناظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء أو بالمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة ثم بعد ذلك ينظر فإن كان(31/376)
ص -369-…أعم من النص عدي حكمها وإلا اقتصر فالتعدية فرع الصحة فكيف يكون ما يتبع الشيء مصححا له؟ فإن قيل:كما أن البيع يراد للملك والنكاح للحل فإذا تخلفت فائدتهما قيل أنهما باطلان فكذلك العلة تراد لإثبات الحكم بها في غير محل النص فإذا لم يثبت بها حكم كانت باطلة لخلوها عن الفائدة
وللجواب منهاجان :
أحدهما: أن نسلم عدم الفائدة ونقول إن عنيتم بالبطلان أنه لا يثبت بها حكم في غير محل النص فهو مسلم ونحن لا نعني بالصحة إلا أن الناظر ينظر ويطلب العلة ولا ندري أن ما سيفضي إليه نظره قاصر أو متعد ويصحح العلة بما يغلب على ظنه من مناسبة أو مصلحة أو تضمن مصلحة ثم يعرف بعد ذلك تعديه أو قصوره فما ظهر من قصوره لا ينعطف فسادا على مأخذ ظنه ونظره ولا ينزع من قلبه ما قر في نفسه من التعليل
فإذا فسرنا الصحة بهذا القدر لم يمكن جحده وإذا فسروا البطلان بما ذكروه لم نجحده وارتفع الخلاف
الثاني: أنا لا نسلم عدم الفائدة بل له فائدتان :
الأولى: معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثله هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة(31/377)
ص -370-…مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا
فإن قيل: هذا إنما يجري في المناسب دون الأوصاف الشبيهة مثل النقدية في الدراهم والدنانير وقد جوزتم التعليل بمثل هذه العلة القاصرة
قلنا: تعريف الأحكام بمعان توهم الاشتمال على مصلحة ومناسبة أقرب إلى العقول من تعريفها بمجرد الإضافة إلى الأسامي فلا تخلو من فائدة.
ثم إن لم تجر هذه الفائدة في العلة الشبهية فالفائدة الثانية جارية
الفائدة الثانية: المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى متعدية إلا بشرط الترجيح
فإن قيل: تمتنع تعدية الحكم لا بظهور علة قاصرة بل بأن لا تظهر علة متعدية فأي حاجة إلى العلة القاصرة وإن ظهرت علة متعدية فلا يمتنع التعليل بالعلة القاصرة بل يعلل الحكم في الأصل بعلتين وفي الفرع بعلة واحدة
قلنا: ليس كذلك فإن كل علة مخيلة أو شبهية فإنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر وشرطه الاتحاد كما سبق فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الظن فإذا ظهرت علة متعدية يجب تعدية الحكم فإن أمكن التعليل بعلة قاصرة عارضت المتعدية ودفعتها إلا إذا اختصت المتعدية بنوع ترجيح فإذا أفادت القاصرة دفع المتعدية التي تساويها والمتعدية دفع القاصرة وتقاوما بقي الحكم مقصورا على النص ولولا القاصرة لتعدي الحكم
فإن قيل: إنما تصح العلة بفائدتها الخاصة بها وفائدة العلة الحكم بالفرع دون حكم الأصل فإن حكم الأصل ثابت بالنص لا بالعلة إنما الذي يثبت بالعلة حكم الفرع إذ فائدتها تعدية الحكم فإذا لم تكن تعدية فلا حكم للعلة .(31/378)
ص -371-…قلنا: قولكم فائدة العلة حكم الفرع محال لأن علة تحريم الربا في البر طعم البر ولا تحرم الذرة بطعم البر بل بطعم الذرة فحكم الفرع فائدة علة في الفرع لا فائدة علة في الأصل وقولكم حكمها التعدية محال فإن لفظ التعية تجوز واستعارة وإلا فالحكم لا يتعدى من الأصل إلى الفرع بل يثبت في الفرع مثل حكم الأصل عند وجود مثل تلك العلة فلا حقيقة للتعدي .
ويتولد من هذا النظر:
مسألة :حكم الأصل أهو مضاف إلى النص أم إلى العلة ؟
وهي أن العلة إذا كانت متعدية فالحكم في محل النص يضاف إلى العلة أو إلى النص؟
فقال أصحاب الرأي: يضاف إلى النص لأن الحكم مقطوع به في المنصوص والعلة مظنونة فكيف يضاف مقطوع إلى مظنون
وقال أصحابنا يضاف إلى العلة
وهو نزاع لا تحقيق تحته فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم فإنه لو ذكر جميع المسكرات بأسمائها فقال لا تشربوا الخمر والنبيذ وكذا وكذا ونص على جميع مجاري الحكم لكان استيعابه مجاري الحكم لا يمنعنا من أن نظن أن الباعث له على التحريم الإسكار فنقول الحكم مضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص ولكن الإضافة إليه معلل بالشدة بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هو الشدة وقولهم إنه مظنون فنقول ونحن لا نزيد على أن نقول نظن أن باعث الشرع الشدة فلا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول إنما نظن كذا مهما ظننا ذلك
فإن قيل: الظن جهل إنما يجوز لضرورة العمل والعلة القاصرة لا يتعلق بها عمل فلا يجوز الهجرة عليها برجم الظنون .(31/379)
ص -372-…وعند هذا كاع بعض الأصحاب وقال:إن كانت منصوصة جاز إضافة الحكم إليها في محل النص كالسرقة مثلا وإلا فلا .
ونحن نقول: لا مانع من هذا الظن للفائدتين المذكورتين .
إحداهما: استمالة القلوب إلى حسن التصديق والانقياد وأكثر المواعظ على هذه الصفة ظنية وخلقت طباع الآدميين مطيعة للظنون بل للأوهام وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم في مصادرهم ومواردهم ظنون
الفائدة الثانية: مدافعة العلة المعارضة له كما سبق
خاتمة لهذا الباب فيما يفسد العلة قطعا وما يفسدها ظنا واجتهادا
القسم الاول: مثارات فساد العلل القطعية
وهي أربعة:
الأول: الأصل وشروطه أربعة :
الأول: أن يكون حكما شرعيا فإن كان عقليا فلا يمكن أن يعلل بعلة تثبت حكما سمعيا
الثاني: أن يكون حكم الأصل معلوما بنص أو إجماع فإن كان مقيسا على أصل فهو فرع فالقياس عليه باطل قطعا إن لم يكن الجامع هو علة الأصل(31/380)
ص -373-…الأول وإن كان هو تلك العلة فتعيين الفرع مع إمكان القياس على الأصل عبث بلا فائدة
والثالث: أن يكون الأصل قابلا للتعليل لا كوجوب شهر رمضان وتقدير صلاة المغرب بثلاث ركعات وأمثاله وكان هذا فاسدا من جهة عدم الدليل على صحة العلة
الرابع: أن يكون الأصل المستنبط منه غير منسوخ فإن المنسوخ كان أصلا وليس هو الآن أصلا وليس من هذا القبيل قياس رمضان على صوم عاشوراء في التبييت فإن من سلم وجوبه في ابتداء الإسلام وسلم افتقاره إلى التبييت لم يبعد أن يستشهد به على رمضان الذي أبدل وجوب عاشوراء به فإن المنسوخ نفس الوجوب وليس نقيس في الوجوب لكن في مأخذ دلالة الوجوب على الحاجة إلى التبييت(31/381)
ص -374-…وهذا أيضا وإن كان قريبا فلا يخلو عن نظر
المثار الثاني: أن يكون من جهة الفرع
وله وجوه ثلاثة :
الأول: أن يثبت في الفرع خلاف حكم الأصل مثاله قوله بلغ برأس المال في السلم أقصى مراتب الأعيان فليبلغ بعوضه أقصى مراتب الديون قياسا لأحد العوضين على الآخر فهذا باطل قطعا لأنه خلاف صورة القياس إذ القياس لتعدية الحكم وليس هذا تعدية
الثاني: أن تثبت العلة في الأصل حكما مطلقا ولا يمكن أن تثبت في الفرع إلا بزيادة أو نقصان فهو باطل قطعا لأنه ليس على صورة تعدية الحكم فلا يكون قياسا
مثاله قولهم:شرع في صلاة الكسوف ركوع زائد لأنها صلاة تشرع فيها الجماعة فتختص بزيادة كصلاة الجمعة فإنها تختص بالخطبة وصلاة العيد فإنها تختص بالتكبيرات
وهذا فاسد.،فإنه ليس يتمكن من تعدية الحكم على وجه وتفصيله
الثالث: أن لا يكون الحكم اسما لغويا فقد بينا أن اللغة لا تثبت قياسا وتلك المسألة قطعية وربما جعلها قوم مسألة اجتهادية وإثبات اسم الزنا والسرقة والخمر للائط والنباش والنبيذ من هذا القبيل فكان هذا بالمثار الأول أليق
المثار الثالث أن يرجع الفساد إلى طريق العلة
وهو على أوجه :
الأول انتفاء دليل على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها فمن(31/382)
ص -375-…استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها فمن استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد إن لم ينضم إليه سبر وربما رأي بعضهم إبطال الطرد في محل الاجتهاد
الثاني: أن يستدل على صحة العلة بدليل عقلي فهو باطل قطعا فإن كون الشيء علة للحكم أمر شرعي الثالث: أن تكون العلة دافعة للنص ومناقضة لحكم منصوص فالقياس على خلاف النص باطل قطعا وكذا على خلاف الإجماع وكذلك ما يخالف العلة المنصوصة كتعليل تحريم الخمر بغير الإسكار المثير للعداوة والبغضاء
وليس التعليل بالكيل من هذا الجنس وإن دفع قوله لا تبيعوا الطعام بالطعام لأنه إيماء إلى التعليل بالطعم وليس بصريح لا يقبل التأويل
وليس من هذا القبيل التعليل بعلة غير علة صاحب الشرع مع تقرير العلة المنصوصة فإن النص على علة واحدة لا يمنع وجود علة أخرى ولذلك يجوز تعليل الحكم بغير ما علل به الصحابة إذا لم تدفع علتهم إذ لم يكن فرض الصحابة استنباط جميع العلل
المثار الرابع: وضع القياس في غير موضعه:
كمن أراد أن يثبت أصل القياس أو أصل خبر الواحد بالقياس فقاس الرواية على الشهادة وكذلك المسائل الأصولية العقلية لا سبيل إلى إثباتها بالأقيسة الظنية فاستعمال القياس فيها وضع له في غير موضعه
هذه المفسدات القطعية(31/383)
ص -376-…القسم الثاني: في المفسدات الظنية الاجتهادية
التي نعني بفسادها أنها فاسدة عندنا وفي حقنا إذ لم تغلب على ظننا وهي صحيحة في حق من غلبت على ظنه
ومن قال: المصيب واحد فيقول هي فاسدة في نفسها لا بالإضافة إلى أني أجوز أن أكون أنا المخطىء
وعلى الجملة: لا تأثيم في محل الاجتهاد ومن خالف الدليل القطعي فهو آثم
وهذه المفسدات تسع:
الأول: العلة المخصوصة باطلة عند من لا يرى تخصيص العلة صحيحة عند من يبقى ظنه مع التخصيص الثاني:علة مخصصة لعموم القرآن هي صحيحة عندنا فاسدة عند من رأى تقديم العموم على القياس الثالث:علة عارضتها علة تقتضي نقيض حكمها فاسدة عند من يقول المصيب واحد صحيحة عند من صوب كل مجتهد وهما علامتان لحكمين في حق المجتهدين وفي حق مجتهد واحد في حالتين فإن اجتمعا في حالة واحدة فقد نقول إنه يوجب التخيير كما سيأتي
الرابع: أن لا يدل على صحتها إلا الطرد والعكس وقد يقال ما يدل عليه مجرد الاطراد فهو أيضا في محل الاجتهاد
الخامس: أن يتضمن زيادة على النص كما في مسألة الرقبة الكافرة
السادس: القياس في الكفارات والحدود وقد ذكرنا في هذا ما يظن أنه يرفع(31/384)
ص -377-…الخلاف
السابع: ذهب قوم إلى أنه لا يجوز انتزاع العلة من خبر الواحد بل ينبغي أن تؤخذ من أصل مقطوع به
وهذا فاسد ولا يبعد من أن يكون فساده مقطوعا به
الثامن: علة تخالف مذهب الصحابة وهي فاسدة عند من يوجب اتباع الصحابة وإن كان المنع من تقليد الصحابي مسألة اجتهادية فهذا مجتهد فيه ولا يبعد أن يقول بطلان ذلك المذهب مقطوع به
التاسع: أن يكون وجود العلة في الفرع مظنونا لا مقطوعا به وقد ذكرنا فيه خلافا والله أعلم
هذه هي المفسدات.
ووراء هذا اعتراضات مثل المنع وفساد الوضع وعدم التأثير والكسر والفرق والقول بالموجب والتعدية والتركيب
وما يتعلق فيه تصويب نظر المجتهدين قد انطوى تحت ما ذكرناه وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي يتبع شريعة الجدل التي وضعها الجدليون باصطلاحهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن تشح على الأوقات أن تضيعها بها وتفصيلها وإن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد كلام المناظرين إلى(31/385)
ص -378-…مجرى الخصام كيلا يذهب كل واحد عرضا وطولا في كلامه منحرفا عن مقصد نظره فهي ليست فائدة من جنس أصول الفقه بل هي من علم الجدل فينبغي أن تفرد بالنظر ولا تمزح بالأصول التي يقصد بها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين
وهذا آخر القطب الثالث المشتمل على طرق استثمار الأحكام إما من صيغة اللفظ وموضوعه أو إشارته ومقتضاه ومعقوله ومعناه فقد استوفيناه والله أعلم(31/386)
ص -379-…القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد
ويشتمل هذا القطب على ثلاثة فنون:
فن في الاجتهاد
وفين في التقليد
وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل عند التعارض(31/387)
ص -381-…الفن الأول في الاجتهاد
والنظر في أركانه وأحكامه(31/388)
ص -382-…النظر ألاول: في أركان الاجتهاد
أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس الاجتهاد
الركن الأول في نفس الاجتهاد
وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة
لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب
الركن الثاني المجتهد
وله شرطان:
أحدهما: أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره
والشرط الثاني: أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة وهذا(31/389)
ص -383-…يشترط لجواز الاعتماد على فتواه فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد
فإن قيل: متى يكون محيطا بمدارك الشرع ؟وما تفصيل العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد ؟
قلنا: إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام وأن يعرف كيفية الاستثمار
والمدارك المثمرة للأحكام كما فصلناها أربعة:الكتاب والسنة والإجماع والعقل
وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم:اثنان مقدمان واثنان متممان وأربعة في الوسط فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الأصوليون
أما كتاب الله عز وجل فهو الأصل ولا بد من معرفته ولنخفف عنه أمرين
أحدهما: إنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية
الثاني: لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة(31/390)
ص -384-…وأما السنة: فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة
وفيها التخفيفان المذكوران:إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني:لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد البيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل
وأما الاجماع: فينبغي أن تتميز عنده مواقع الاجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها
والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية
وأما العقل: فنعني به مستند النفي الأصلي للأحكام فإن العقل قد دل على نفي(31/391)
ص -385-…الحرج في الأقوال والأفعال وعلى نفي الأحكام عنها من صور لا نهاية لها أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة وإن كانت كثيرة
فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص فيأخذ في طلب النصوص
وفي معنى النصوص الإجماع وأفعال الرسول بالإضافة إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه
هذه المدارك الأربعة
فأما العلوم الأربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار فعلمان مقدمان:
أحدهما: معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الأربعة
والثاني: معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة
ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف وتثقيل
أما تفصيل العلم الأول:فهو أن يعلم أقسام الأدلة وأشكالها وشروطها فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع ووضعية وهي العبارات اللغوية
ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الأصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع ولم يعرف مقدمة الشارع ولا عرف من أرسل الشارع
ثم قالوا لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل وتصديقهم(31/392)
ص -386-…بالمعجزات وليكن عارفا بصدق الرسول والنظر في معجزته
والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم إذ به يصير مسلما والإسلام شرط المفتي لا محالة
فأما معرفته بطرق الكلام والأدلة المحررة على عادتهم فليس بشرط إذا لم يكن في الصحابة والتابعين من يحسن صنعة الكلام
فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله وذلك محصل للمعرفة الحقيقية مجاوز بصاحبه حد التقليد وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الإيمان لجاز له الاجتهاد في الفروع
أما المقدمة الثانية:فعلم اللغة والنحو:أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه
والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه
وأما العلمان المتممان:
فأحدهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة
والتخفيف فيه: أن لا يشترط أنيكون جميعه على حفظه بل كل واقعة يفتي(31/393)
ص -387-…فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ وهذا يعم الكتاب والسنة
الثاني: وهو يخص السنة معرفة الرواية وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه
والتخفيف فيه: أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر الخبر فمانزل عنه فهو تقليد وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد
وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا وذلك طويل وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير
والتخفيف فيه: أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل .
فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي وإلا طال الأمر وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة(31/394)
ص -388-…الوسائط ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار.
فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد
ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون:
علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا(31/395)
ص -389-…دقيقة في التخفيف يغفل عنها اللأكثرون : تجزؤ الاجتهاد:
أيضا دقيقة في التخفيف يغفل عنها الأكثرون اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع
وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة: من الآية6]وقس عليه ما في معناه وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في المسائل فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري(31/396)
ص -390-…الركن الثالث المجتهد فيه
والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي
واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطىء آثم وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطىء فيه آثما
ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد
فهذه هي الأركان
فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي
وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة فنرسم فيه مسألتين
مسألة الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمان الرسول عليه السلام فمنعه قوم وأجازه قوم وقال قوم يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم
والذين جوزوا: منهم من قال يجوز بالأذن ومنهم من قال يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم اختلف المجوزون في وقوعه(31/397)
ص -391-…والمختار: أن ذلك جائز في حضرته وغيبته وأن يدل عليه بالأذن أو السكوت لأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا
فإن قيل: الاجتهاد مع النص محال وتعرف الحكم بالنص بالوحي الصريح ممكن فكيف يردهم إلى ورطة الظن ؟
قلنا فإذا قال لهم أوحي إلي أن حكم الله تعالى عليكم ما أدى إليه اجتهادكم وقد تعبدكم بالاجتهاد فهذا نص وقولهم الاجتهاد مع النص محال مسلم ولكن لم ينزل نص في الواقعة وإمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص كيف وقد تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء بقول الشهود حتى قال إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن وخوف الخطأ
فأما وقوعه فالصحيح أنه قام الدليل على وقوعه في غيبته بدليل قصة معاذ فأما في حضرته فلم يقم فيه دليل
فإن قيل فقد قال لعمرو بن العاص أحكم في بعض القضايا فقال إجتهد وأنت حاضر فقال نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر(31/398)
ص -392-…وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة اجتهدوا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة
قلنا: حديث معاذ مشهور قبلته الأمة وهذه أخبار آحاد لا تثبت وأن ثبتت احتمل أن يكون مخصوصا بهما أو في واقعة معينة وإنما الكلام في جواز الاجتهاد مطلقا في زمانه
مسألة : اجتهاد النبيى صلى الله عليه وسلم
اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه والنظر في الجواز والوقوع
والمختار: جواز تعبد بذلك لأنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ومفسدة
فإن قيل: المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم الظن ؟
قلنا: فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به ؟!
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم نص قاطع يضاد الظن والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان ؟
قلنا: إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ وكذلك اجتهاد غيره عندنا ويكون كظنه صدق الشهود فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن(31/399)
ص -393-…فإن قيل: فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه
قلنا:لو تعبد بذلك لجاز ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم والحاكم لأن صلاح الخلق في اتباع دل على تحريم مخالفة الأمة كافة وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم وكافة الأمة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم
ومن ذهب إلى أن المنصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه
فإن قيل كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد ؟
قلنا:إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم وإن خالف ظن النبي صلى الله عليه وسلم كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود فإن لو قضي النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما
وأما التنفير فلا يحصل بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا(31/400)
ص -394-…فإن قيل: لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا ؟إن قلتم لا فمحال لأنه صار منصوصا عليه من جهته وإن قلتم نعم فكيف يجوز القياس على الفرع ؟
قلنا: يجوز القياس عليه وعلى كل فرع أجمعت الأمة على إلحاقه بأصل لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل
هل وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالاجتهاد:
أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الأصح فإنه لم يثبت فيه قاطع
احتج القائلون به: بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر وقيل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}[لأنفال: من الآية67] وقال النبي عليه السلام "ولو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر" لأنه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب
قلنا: لعله كان مخيرا بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بتعيين الإطلاق على سبيل المنع عن غيره فنزل العتاب مع الذي عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن ورد بصيغة الجمع والمراد به أولئك خاصة(31/401)
ص -395-…واحتجوا:بأنه لما قال لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها قال العباس إلا الأذخر فقال صلى الله عليه وسلم إلا الأذخر
وقال في الحج :"هو للأبد ولو قلت لعامنا لوجب"
ونزل منزلا للحرب فقيل له:إن كان بوحي فسمعا وطاعة وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة فقال بل باجتهاد ورأي فرحل
قلنا: أما الأذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الأذخر إلا عند قول العباس أو كان جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة العباس
وأما الحج فمعناه :لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة
وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين
أحتج المنكرون لذلك بأمور :
أحدها: أنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي
الثاني: أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض
الثالث أنه: لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي(31/402)
ص -396-…قلنا: أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه
وأما الاستفاضة بالنقل فعلعه لم يطلع الناس عليه وإن كان متعبدا به أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تبعد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا
وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها فقد اتهم بسب النسخ كما قال تعالى{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}[النحل: من الآية101] ولم يدل ذلك على استحالة النسخ
كيف وقد عورض هذا الكلام بجنسه فقيل:لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه ؟
وهذا أيضا فاسد: لأن ثواب تحمل الرسالة والأداء عن الله تعالى فوق كل ثواب
فإن قيل: فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد
قلنا: لا محيل لذلك ولا يفضي إلى محال ومفسدة ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الأمر مبينا على الصلاح
ومنع القدرية هذا وقالوا: إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أو يوافق الجميع
وهذا فساد لأنه لا يبعد أن يلقى الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده هذا هو الجواز العقلي(31/403)
ص -397-…أما وقوعه فبعيد وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل(31/404)
ص -398-…النظر الثاني في أحكام الاجتهاد
والنظر في حق المجتهد
في تأثيمه
وتخطئته وإصابته وتحريم
التقليد عليه
وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد
أحكام النظر الأول في تأثيم المخطىء في الاجتهاد
والإثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب والإثم عن المجتهد منفي
والذي نختاره:أن الإثم والخطأ متلازمان فكل مخطىء آثم وكل آثم مخطىء ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ(31/405)
ص -399-…فلنقدم حكم الإثم أولا: فنقول:
النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية:
فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها والمخطىء في القطعيات آثم :
والقطعيات ثلاثة أقسام:كلامية وأصولية وفقهية :
أما الكلامية: فنعني بها العقليات المحضة والحق فيها واحد ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة
وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع فهذه المسائل الحق فيها واحد ومن أخطأه فهو آثم فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ومخطىء من حيث أخطأ الحق المتيقن ومبتدع من حيق قال قولا مخالفا للمشهورين السلف ولا يلزم الكفر
وأما الأصولية: فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ومن جملته اعتقاد(31/406)
ص -400-…كون المصيب واحدا في الظنيات فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطىء
وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول
وأما الفقهية:فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم
ثم ينظر:فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطىء
فإن قيل كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول وصدق الرسول نظري ؟
قلنا:نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ومكذبه كافر فلذلك كفرناه به أما ما عدا من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد فليس فيها عندنا حق معين ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله .
فخرج من هذا أن النظريات قسمان:قطعية وظنية فالمخطىء في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد ولا عند من قال كل مجتهد مصيب هذا هو مذهب الجماهير(31/407)
ص -401-…وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطىء آثم
وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع وقال العنبري كل مجتهد في الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطىء فيها معذور غير آثم كما في الفروع
فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل:
مسألة:مخالفة أهل الكتاب للإسلام
ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط لأن الله تعالى{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة: من الآية233]وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة
وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ولذلك قاتل جميعهم وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند(31/408)
ص -402-…العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى كقوله تعالى{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[صّ: من الآية27] وقوله تعالى{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ }[فصلت: من الآية23]وقوله تعالى{إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثية: من الآية24[ وقوله تعالى{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ}[المجادلة: من الآية18]وقوله تعالى{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}[البقرة: من الآية10] أي شك
وعلى الجملة: ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة
وأما قوله "كيف يكلفهم ما لا يطيقون" قلنا: نعلم ضرورة أنه كلفهم أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه بل نيه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من الرسل
المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل
مسألة: الاجتهاد في العقليات:
ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع
فنقول له: إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في(31/409)
ص -403-…الطلب فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا وليست هذه الأوصاف وضعية كالأحكام الشرعية إذ يجوز أن يكون الشيء حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك أما الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها
فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ فإنه أقر بأن المصيب واحد ولكن جعل المخطىء معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لأنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات فهذا أيضا لو ورد بهالشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ
وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن وإرادة الكائنات لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه فكانوا فيه مصيبين ومعذورين
فنقول: أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا(31/410)
ص -404-…أيضا بل أحدهما والرؤية محالا وممكنا أيضا والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو بخلاف الحلال والحرام فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات
وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطىء معذور غير آثم فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع واتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه
فهذا من حيث الشرع دليل قاطع وتحقيقه أن اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به جهل والجهل بالله حرام مذموم والجهل بجواز رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول قدرته في التعلق بجميع الحوادث كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي أن يكون حراما ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا للشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا
فإن قيل: يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية وبالجهل في الأمور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الأمير في الدار وليس فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها
قلنا أما الفقهيات فلا يتصور الجهل فيها إذ ليس فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل فيها أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب والمستند فيه الإجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله
فإن قيل إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل متعارضة(31/411)
ص -405-…قلنا وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة ولكنه لم ينته الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل فكذلك في هذه المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها
مسألة إثم المجتهد في الفروع
ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطىء قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الأصم ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية وقالوا لا مجال للظن في الأحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه(31/412)
ص -406-…وإنما استقام هذا لهم لإنكارهم القياس وخبر الواحد وربما أنكروا أيضا القول بالعموم والظاهر المحتمل حتى يستقيم لهم هذا المذهب وما ذكروه هو اللازم على قول من قال المصيب واحد ويلزمهم عليه منع المقلد من استفتاء المخالفين
وقد ركب بعض معتزلة بغداد رأسه في الوفاء بهذا القياس وقال يجب على العامي النظر وطلب الدليل
وقال بعضهم: يقلد العالم أصاب المقلد أم أخطأ
ويدل على فساد هذا المذهب دليلان :
الأول: ما سنذكره في تصويب المجتهدين ونبين أن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع ولا فيها حكم معين والأدلة الظنية لا تدل لذاتها وتختلف بالإضافة فتكليف الإصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف ما لا يطاق وإذا بطل الإيجاب بطل التأثيم فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ينتج نفي الإثم ولذلك يستدل تارة بنفي الإثم على نفي التكليف كما يستدل في مسألة التصويب ويستدل في هذه المسألة بانتفاء التكليف على انتفاء الإثم فإن النتيجة تدل على المنتج كما يدل المنتج على النتيجة
الدليل الثاني: إجماع الصحابة على ترك النكير على المختلفين في الجد والأخوة ومسألة العول ومسألة الحرام وسائر ما اختلفوا فيه من الفرائض وغيرها فكانوا يتشاورون ويتفرقون مختلفين ولا يعترض بعضهم على بعض ولا(31/413)
ص -407-…يمنعه من فتوى العامة ولا يمنع العامة من تقليده ولا يمنعه من الحكم باجتهاده وهذا متواتر تواترا لا شك فيه وقد بالغوا في تخطئة الخوارج وما نعي الزكاة ومن نصب إماما من غير قريش أو رأى نصب إمامين بل لو أنكر منكر وجوب الصلاة والصوم وتحريم السرقة والزنا لبالغوا في التأثيم والتشديد لأن فيها أدلة قاطعة فلو كان سائر المجتهدات كذلك لأثموا وأنكروا
فإن قيل: لهم لعلهم أثموا ولم ينقل إلينا أو أضمروا التأثيم ولم يظهروا خوف الفتنة والهرج
قلنا:العادة تحيل اندراس التأثيم والإنكار لكثرة الاختلاف والوقائع بل لو وقع لتوفرت الدواعي على النقل كما نقلوا الإنكار على ما نعي الزكاة ومن استباح الدار وعلى الخوارج في تكفير علي وعثمان وعلى قاتلي عثمان ولو جاز أن يتوهم إندراس مثل هذا لجاز أن يدعي أن بعضهم نقض حكم بعض وأنهم اقتتلوا في المجتهدات ومنعوا العوام من التقليد للمخالفين أو للعلماء أو أوجبوا على العوام النظر أو اتباع إمام معين معصوم
ثم نقول:تواتر إلينا تعظيم بعضهم بعضا مع كثرة الاختلافات إذ كان توقيرهم وتسليمهم للمجتهد العمل باجتهاده وتقريره عليه أعظم من التوقير والمجاملة والتسليم في زماننا ومن علمائنا ولو اعتقد بعضهم في البغض التعصية والتأثيم بالاختلاف لتهاجروا ولتقاطعوا وارتفعت المجاملة وامتنع التوقير والتعظيم
فأما امتناعهم من التأثيم للفتنة فمحال فإنهم حيث اعتقدوا ذلك لم تأخذهم في الله لومة لائم ولا منعهم ثوران الفتنة وهيجان القتال حتى جرى في قتال مانعي الزكاة وفي واقعة علي وعثمان والخوارج ما جرى فهذا توهم محال
فإن قيل فقد نقل الإنكار والتشديد والتأثيم حتى قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا؟ وقال أيضا من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين وقالت عائشة رضي(31/414)
ص -408-…الله عنها أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب
قلنا: ما تواتر إلينا من تعظيم بعضهم بعضا وتسليمهم لكل مجتهد أن يحكم ويفتي ولكل عامي أن يقلد من شاء جاوز حدا لا يشك فيه فلا يعارضه أخبار آحاد لا يوثق بها
ثم نقول: من ظن بمخالفه أنه خالف دليلا قاطعا فعليه التأثيم والإنكار وإنما نقل إلينا في مسائل معدودة ظن أصحابها أن أدلتها قاطعة فظن ابن عباس أن الحساب مقطوع به فلا يكون في المال نصف وثلثان وظنت عائشة رضي الله عنها أن حسم الذرائع مقطوع به فمنعت مسألة العينة وقد أخطأوا في هذا الظن فهذه المسائل أيضا ظنية ولا يجب عصمتها عن مثل هذا الغلط أما عصمة جملة الصحابة عن العصيان بتعظيم المخالفين وترك تأثيمهم لو أثموا فواجب
الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة
وقد اختلف الناس فيها واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة
وعلى الجملة: قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب .
وقال قوم: المصيب واحد(31/415)
ص -409-…واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد ؟ فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه وهو المختار وإليه ذهب القاضي
وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه
وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن فيه حكما معينا لله تعالى لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليلا أم لا :
فقال قوم: لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يعثر الطلب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه
والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن عليه دليلا قاطعا أو ظنيا فقال(31/416)
ص -410-…قوم: وهو قاطع ولكن الأثم محطوط عن المخطىء لغموض الدليل وخفائه ومن هذا تمادي بشر المريسي في إتمام هذا القياس فقال إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطىء كما في سائر القطعيات وهو تمام الوفاء بقياس مذهب من قال المصيب واحد
ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل:
فقال قوم لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان معذورا ومأجورا
وقال قوم: أمر بطلبه ،وإذا أخطأ لم يكن مأجورا لكن حط الأثم عنه تخفيفا هذا تفصيل المذاهب
والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطىء المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى .
وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين:
الطرف الأول: مسألة فيها نص للشارع وقد أخطأ مجتهد النص فنقول ينظر فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطىء وآثم بسبب تقصيره لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه
أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة وذلك أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره(31/417)
ص -411-…بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا لأن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته
فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه
فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين لأنهم ليسوا مقصرين
وكذلك نقل عن ابن عمر أنا كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة فليس ذلك خطأ منهم قبل البلوغ لأن الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية
فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها
فإن قيل:فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه
قلنا: عليه دليل قاطع أو دليل ظني؟فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية
وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم فإن الدليل القاطع في مثل هذه(31/418)
ص -412-…المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل أفيقولون لم يعثر عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق ؟أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها
ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير دليل قاطع تكليف محال فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ
فإن قيل عليه دليل ظني بالاتفاق فمن أخطأ الدليل الظني فقد أخطأ
قلنا الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها بل يختلف ذلك بالإضافات فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لأفاد الظن
ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض
وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء إذ قال:الدنيا بلاغ كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله حيث قال عمر كيف تساوي بين الفاضل والمفضول ورأى عمر التفاوت ليكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق
والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما ولم يفده غلبة الظن وما(31/419)
ص -413-…رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن ولا مال قلبه إليه وذلك لاختلاف أحوالهما
فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه
ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواعا من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة
فالامارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل فإنه موجب لذاته فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب التصديق ضرورة بالنتيجة
فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز بالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه(31/420)
ص -414-…فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة
فإن قيل: لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية وإنما لم يؤثم المخطىء لغموض الدليل؟
قلنا: الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر فإن كان درك الحق المتعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلوا إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر .
فإن بقي التكليف مع العسر .فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتل الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصى إذا تركه لأن التكليف لم يزل بهذا العسر وكذلك صبر المرأة على الضرات وحسن التبعل مع أن ذلك جهاد شديد على النفس ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها وعجزها وكذلك التمييز بين الدليل والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض ومن أخطأ فيه أثم بل كفر واستحق التخليد في النار
وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسران أمر به فالمخطىء آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع
فإذا:الحاصل أن الإصابة محال أو ممكن ولا تكليف بالمحال ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم ومحال أن يقال هو مأمور به لكن إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا لأن هذا يناقض حد الأمر والإيجاب إذ حد الإيجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم
وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة وهو(31/421)
ص -415-…إن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر
ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول صلى الله عليه وسلم كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد
وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عز وجل
الأدلة العقلية للقائلين بالتخطئة:
ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع
الشبهة الأولى: قولهم:هذا المذهب في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب
وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال:هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير المجتهد(31/422)
ص -416-…بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده
والجواب: أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالأصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم ظان أن الحل والحرمة وصف للأعيان فيقول يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما كما يستحيل أن يكون الشيء قديما حادثا وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي وكالميتة تحل للمضطر دون المختار وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه
فإذا اختلاف الأحوال ينفي التناقص ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا ولو قال الشارع يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما
وكذلك لو صرح الشارع وقال من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض(31/423)
ص -417-…فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول كلفتك العثور على ما لا دليل عليه أو يقول كلفتك العثور على ما عليه دليل لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الأمر إذ حد الأمر ما يعصى تاركه
الجواب الثاني: أن نقول لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للأعيان أيضا لم يتناقض إذ يكون من الأوصاف الإضافية ولا يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا وأبنا لكن لشخصين وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لإثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر
الجواب الثالث: هو أن التناقض ما ركبه الخصم فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان المريسي أن كل مجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ويعصي بتركه فالمجتهدان في القبلة يجب على أحدهما استبقال جهة يحرم على الآخر استقبالها فإن المصيب لا يتميز عن المخطىء فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر
الشبهة الثانية: قولهم:إن سلمنا لكم أن هذه المذهب ليس بمحال في نفسه لو صرح الشرع به فهو مؤد إلى المحال في بعض الأمور وما يؤدي إلى المحال فهو محال
فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم عنده دليلان فيتحير عندكم(31/424)
ص -418-…بين الشيء ونقيضه في حالة واحدة وأما في حق صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها أنت بائن وراجعها والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة والرجعة فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطء ويجب عليها مع تسلط الزوج عليها منعه
وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي فإن كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين وهذا محال
ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى
والاعتراض: على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى شخصين فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد
والجواب من أوجه:وحاصله أنه لا إشكال في هذه المسائل ولا استحالة وما فيه من الأشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله بهذا المذهب:
أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان قلنا فيه رأيان
أحدهما: وهو الذي ننصره في هذه المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر لأنه مأمور باتباع غالب الظن ولم يغلب على ظنه شيء فقولنا فيه قولكم فإنه وإن كان أحدهما حقا عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه وهذا يقطع مادة الإشكال
وعلى رأيي نقول يتخير بأي دليل شاء
وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها(31/425)
ص -419-…أما الثانية فقولنا فيها أيضا قولكم فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز عن المخطىء ويجب على المخطىء في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه مخطئا إذا لا يتميز عن صاحبه فقد أوجبوا عليها المنع وأباحوا للزوج الطلب فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا فسيقولون إنه ليس بمحال
وهو جوابنا الثاني.
ووجهه: أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة الطلب للزوج ولا إيجابه بل للسيد أن يقول لأحد عبديه أوجبت عليك سلب فرس الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك منعه ودفعه ويقول لهذا إن لم تسلب عاقبتك ويقول للآخر إن لم تحفظ عاقبتك وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر ويجب على ولي الطفل المنسوب إلى الاتلاف إذا عاين صدور الاتلاف من غير الطفل أو علم كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده
نعم هذا السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من التعليمية وغيرهم إذ يقولون أصل الاجتهاد باطل لأدائه إلى هذا النوع من التناقض وجوابه ما ذكرناه
ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع وسعي الإنسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما ولو قسماه أو تركاه ماتا ولو أخذه أحدهما هلك الآخر ولو وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الأخذ على هذا وأوجب الدفع على ذاك فإن أوجب عليهما(31/426)
ص -420-…الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا وإن خص أحدهما بالأخذ فهو تحكم وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الأخذ والترك فقد سلط هذا على الأخذ وذاك على الدفع فإن أحدهما لو اختار الأخذ واختار الآخر الدفع جاز وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون ؟!
والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد فإنه إنما يجب الأخذ إذا لم يهلك غيره وإنما يجب الترك والإيثار إذا لم يهلك نفسه فإذا تعارضا تخيرا
ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين
وأما المسألة الثانية: إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين
أحدهما: أن يقول:يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما فإن لم يفعلا أثما وعصيا .
وكل ذلك احتمالات فقهية ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض
وأما المسألة الثالثة: وهي أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه والنكاح الثاني بعده باطل قطعا لأنها صارت زوجة للأول وإن كان الحنفي عقده بإجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين :أحدهما: أن نقطع ببطلانه فإنا إنما نجعله حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي وهذا قد عصى فهو مخطىء ويحتمل أن يقال ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره لأنه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه
وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي فهل يؤثر قضاؤه في الإحلال باطنا ؟(31/427)
ص -421-…فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد
وغلا قوم فقالوا: لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد
وقال قوم:يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة
وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شيء منها فنختار منها ما نشاء فلا يتناقض ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب
الشبهة الثالثة: تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر لأن صلاة كل واحد صحيحة فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة أيضا صحيحة لأنه بناها على الاجتهاد فلما اتفقت الأمة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد
والجواب: أن الاتفاق في هذا غير مسلم فمن العلماء من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب وهو منقدح لأن كل مصل يصلي لنفسه ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها فكيف يمتنع الاقتداء ولو بان كون الإمام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة
ولو سلمنا فنقول: إنما يجوز الاقتداء بمن صحت صلاته في حق المقتدي وللمقتدي أن يقول صلاة الإمام صحيحة في حقه لأنها على وفق اعتقاده فاسدة في حقي لأنها على خلاف اعتقادي فظهر أثر صحتها في كل ما يخص(31/428)
ص -422-…المجتهد أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة الباطل والاقتداء يتعلق بالمقتدي فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها في حق نفسه وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره
والدليل عليه أن الإمام وإن صلى بغير فاتحة فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق إذ الشافعي لا يقطع بخطئه فلم فسد اقتداؤه بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال فلا سبب لها إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده
ونحن نقول:هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في حق إمامه وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه
الشبهة الرابعة: قولهم:إن صح تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع لأن مقصود المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه فلم يدع إلى الانتقال بل ينبغي أن يقال ما اعتقدته فهو حق فلازمه فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة ولا يبقى لشيء من ذلك وجه مع التصويب
والجواب أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال لظنهم أن المصيب واحد بل لاعتقادهم في أنفسهم أنهم المصيبون وأن خصمهم مخطىء على التعيين أما المحصلون فلا يتناظرون في الفروع لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لستة أغراض:
أما الوجوب ففي موضعين:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه(31/429)
ص -423-…لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصي بالغفلة عنه
الثاني: أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة
وأما الندب ففي مواضع
الأول: أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد
الثاني: أن ينسب إلى الخطأ وأنه قد خالف دليلا قاطعا فيعلم جهلهم فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة
الثالث: أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عنده عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه
الرابع: أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق
الخامس: أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات
السادس: وهو الأهم وهو أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتباض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق(31/430)
ص -424-…ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة
فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال ويفتون بأنه يجب على خصمهم العمل بما غلب على ظنه وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم وهل في عالم الله تناقض أظهر منه
فهذه شبههم العقلية
الأدلة النقلية للقائلين بالتخطئة :
أما الشبه النقلية فخمس
الأولى: تمسكهم بقوله تعالى{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما}[الانبياء77:78] وهذا يدل على اختصاص سليمان بمدرك الحق وأن الحق واحد
الجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد ؟(31/431)
ص -425-…الثاني: أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال { وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً } والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما في معرض المدح والثناء
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }
قلنا لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود
الجواب الثالث: التأويل وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافه لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه
ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذ نقل المفسرون أن سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع وذلك يدركه علام الغيوب ولا يعرف بالاجتهاد(31/432)
ص -426-…الشبهة الثانية:قوله تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: من الآية83] وقوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }[آل عمران: من الآية7]فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط
وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما: أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات القطعيات إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط
والثاني: أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض
الشبهة الثالثة: قوله عليه السلام:إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصوابا وقد ادعيتم استحالة الخطأ في الاجتهاد
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطىء الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الأجر
الثاني: هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطىء ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال:أخطأ أي(31/433)
ص -427-…أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها
فإن قبل: ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء ؟
قلنا:لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطىء أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك منه تفضل
ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم كأروش الجنايات وقدر كفاية الأقارب فإن فيها حقيقة متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها وهو جار في المسائل التي لا نص فيها عند من قال في كل مسألة حكم متعين وأشبه عند الله تعالى وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى
الشبهة الرابعة: تمسكهم بقوله تعالى{وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }[آل عمران: من الآية103]{ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا }[لأنفال: من الآية46]{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا }[آل عمران: من الآية105]وكذلك {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} } [هود: من الآية118الى الآية119]والإجماع منعقد على الحث على الإلفة والموافقة والنهي عن الفرقة فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين الله مختلف{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا}[النساء: من الآية82 ]
والجواب من أوجه:
الأول: أن اختلاف الحكم باختلاف الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار
الثاني: أن الأمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل(31/434)
ص -428-…واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره والأمر باتباع المختلف أمر بالاختلاف فهذا ينقلب عليكم إشكاله وإنما يصح هذا السؤال من منكري أصل الاجتهاد
الثالث: وهو جواب منكري أصل الاجتهاد أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة أن يصلوا إلى جهات مختلفة مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر ولما جاز للمضطرين إلى ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا ولما جاز الاجتهاد في أروش الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب وكل ما سميناه بتحقيق مناط الحكم وذلك كله ضروري في الدين
وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه بل المنهي عنه الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة
الشبهة الخامسة: قولهم:حسمتم إمكان الخطأ في الاجتهاد والصحابة مجمعون على الحذر من الخطأ حتى قالأبو بكر رضي الله عنه أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان وقال علي لعمر رضي الله عنهما إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطأوا أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا وأما الدية فعليك
ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه هذا ما أرى الله عمر فقال امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك خطأ فمن عمر وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن لمبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب أصابت امرأة وأخطأ عمر وقال ابن مسعود في المفوضة إن كانت خطأ فمني ومن الشيطان بعد أن اجتهد شهرا(31/435)
ص -429-…الجواب: إنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس أن يصدر الاجتهاد من غير أهله أو لا يستتم المجتهد نظره أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس وإنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس قطعا لا ظنا فجميع هذا محال الخطأ .
وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق مناط الأحكام
فمن ذكره من الصحابة فإما إن كان اعتقد أن الخطأ ممكن وذهب مذهب من قال المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف دليلا قاطعا غفل عنه أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون أنا مؤمن بالله إن شاء الله مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم
ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي ذكرناها(31/436)
ص -430-…مسألة الخطأ والإصابة في الاجتهاد القول في نفي حكم معين في المجتهدات
أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطىء
أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه الله لأنه لا بد للطالب من مطلوب وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله
والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد
أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه لكنه عرضة أن يصير حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه
فمن قال: في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في(31/437)
ص -431-…حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق وإن أراد به غيره فهو باطل
أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها لأن حكم الله تعالى خطابه وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به كما لا يعقل(31/438)
ص -432-…علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع
فإن قيل: عليه أدلة ظنية
قلنا: قد بينا أن تسمية الأمارات أدلة مجاز فإن الأمارات لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة فمما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين فلا يكون طريقا إلى المعرفة ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الأمارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شيء
واستحسان المصالح كاستحسان الصور فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه فالأسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها فلو قال قائل الأسمر حسن عند الله أو قبيح قلنا:لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقته لبعض الطباع ومخالفته لبعضها وهو عند الله كما هو عند الناس فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو
وكذلك تحريك الرغبة للفضائل والتفاوت في العطاء هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه وهو بعينه ليس موافقا لأبي بكر رضي الله عنه بل الحسن(31/439)
ص -433-…عند أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها
فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للأعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات
فإن قيل: نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع لكن نعني بالأشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله وربما كان الشارع يقوله لو رجع في تلك المسألة .
قلنا:هذا هو الحكم بالقوة وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما فقد ظهر أنه لا حكم ومن أخطأ لم يخطىء الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله انزله ولم يجر في تقديره فلا معنى له
ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين فإن هذه التجويزات لا تنحصر فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا
احتجوا بأن قالوا:إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه ؟فإذا اعتقد الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما ؟(31/440)
ص -434-…قلنا: فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب بل إنما يطلب غلبة الظن وهو كمن كان على ساحل البحر وقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم
فإن قيل: هذا في البحر معقول لأنه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة والإباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم قلنا:من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين ونحن نكشف ذلك بالأمثلة فنقول لو قلنا: للشارع ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل فقال حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحدهما التصديق وعلى الآخر التكذيب
وكذلك إذا قلنا: ما حكمه في قليل النبيذ؟ فقال حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لأنه يدعوه إلى كثيره والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن
وكذلك إذا قلنا: ما حكم الله في قيمة العبد أتضرب على العاقلة أم على(31/441)
ص -435-…الجاني؟فقال: حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني
وكذلك نقول: ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ فقال حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لأنه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ
فإن قيل: فما علة تحريم ربا البر عند الله أهي الطعم أم الكيل أم القوت؟
فنقول: كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أنها علامة فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة بل هو أمر وضعي والوضع يختلف بالإضافة وقد وضعته كذلك
فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول وجانب الخصم لو صرح به كان محالا وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب ولا يتعلق بمخاطب ومكلف فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به لكن لا طريق له إلى معرفته فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق أو يقول له طريق إلى معرفته وقد أمر به لكنه لا يعصي بتركه فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الاجماع(31/442)
ص -436-…المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده فكيف يجب عليه مع ذلك ضده ؟وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى ؟بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء
فاستبان أن ذلك المذهب محال لو وقع التصريح به . ومذهبنا معقول يمكن التصريح به . فيجب تنزيل الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال(31/443)
ص -437-…فصل
به تمام كشف القناع عن غموض المسألة ، ألحقناه بعد الفراغ من تصنيف الكتاب وانتشار النسخ
ويتبين الغرض من هذا الفصل بأسئلة :
الأول: إن قال قائل : إذا استقر رأيكم على أن بعض المجتهادت ليس فيها حكم معين . صار الطلب محالا .لان المتيمم إذا علم يقيناًُ أن ليس حواليه ماء : والحكم هو مطلوب المجتهد ، كما أن الماء مطلوب المتيمم
قلنا : المتيمم إن جوز أن يكون حواليه ماء ، وأن لا يكون ، يتصور منه الطلب ، كما يتصور إذا علم يقينا أن حواليه ماء لكن لم يعرف مكانه ، فكذلك المجتهد يجوز في كل مسألة أن يكون الحكم باقيا على النفي الأصلي ، أو متغيرا عنه بنص قاطع ، أو إجماع ، أو ما في معنى النص والإجماع ، قطعا أو مافي معناهما ظنا . ولولا تجويزه حكما معيناً. لما تصور منه الطلب . فما من مسألة يبتدئ الاجتهاد فيها إلا ونجوز فيها حكماً معيناً
فالأحوال ثلاثة : وجود الحكم ،وأن يعلم انتفاءه ، وأن يجوز وجوده وانتفاءه وهذه. الحالة الثالثة في معنى الحالة الأولى:في تصحيح الطلب ، لا في معنى الحالة الثانية ، كما في طلب الماء . ثم بالآخرة قد يعلم أن لا ماء حواليه ، فكذلك قد يعلم أن ليس في المسألة دليل قاطع ، فليس فيها حكم معين .(31/444)
ص -438-…فإن قيل: فالطلب إن لم يكن واجبا فلم يشتغل به ؟وإن كان واجبا فلم لا يعصي إذا لم يصب الحكم ؟
قلنا: لأن الطلب واجب ، والوصول المحقق ليس بواجب لأن الطلب مقدور ، والوصول المحقق الموافق لعلم الله تعالى غير مقدور، والوصول المظنون مقدور ، كما في الطلب القبلة .
فإن قيل: سلمنا لكم أن من أخطاء النص حيث لا يقدر على الوصول إليه فهو خطأ بالإضافة إلى ما طلب ، لا بالإضافة إلى ما وجب . ولسنا نعني بتخطئة أحد المجتهدين إلا أحدهما ، فإن لم يكن فيه حكم معين ، فيلزم تخطئة المجتهدين جميعاًَ.
وبيان هذا بحصر مجال نظر المجتهدين ، وهي عشرة :
الأول: العموم ، كقوله عليه السلام : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فالشارع إن أراد إدارج ]جلد[ الكلب فالشافعي مخطئ ، وإن أراد إخراج ]جلد[فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد لا هذا ولا هذا ، بل لم يخطر الكلب بباله ، فهما مخطئان ، فإن أحدهما يقول : أراد إدراجه وقصد العموم ، والآخر يقول : أراد إخراجه .
الثاني: الظاهر : مثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لفيروز الديلمي ، وقد أسلم على أختين :"أمسك إحداهما وفارق الأخرى" فإن أراد به ابتداء النكاح فالشافعي مخطئ ، وإن أراد به الاستصحاب فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد لاهذا ولا ذاك فهو محال متناقض ، إذا يلزم منه تخطئة الفريقين ، فيقول الشافعي : ما أراد الابتداء ، ويقول أبو حنيفه : أراد الابتداء للنكاح .
الثالث: المفهوم مثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم :"الثيب أحق بنفسها" فإن أراد نفي(31/445)
ص -439-…الحق عن البكر فإبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد فالشافعي مخطئ . ولا بد أن يريد أحداهما ، أما احتمال فمحال .
الرابع: الاستدال بقول الصحابي إذا خالف القياس ، قال أبو حنيفة مخطئ .
الخامس: طلب الأصلح ، كقول أبي بكر رضي الله عنه : يسوي الإمام في العطاء ، لأنه أصلح ،إذ الدنيا بلاغ. وقال عمر: بل يفاوت ، تحريكا للرغبة في الفضائل .لأنه أصلح : إن كان الأصلح عند الله تعالى التسوية ، فعمر رضي الله عنه مخطئ . وإن كان التفاوت أصلح فأبو بكر مخطئ ، فإن استويا في الصلاح عند الله تعالى فهما مخطئان ، إذ كل واحد منهما يقول هذا أصلح .
السادس: طلب الأشبه : كقول الشافعي العبد بل الفرس أشبه ، فيضمن بكمال قيمته ، قول أبي حنيفة : هو بالحر أشبه . فإن كان عند الله تعالى بالحر أشبه ، فالشافعي مخطئ ، وإن كان بالفرس أشبه فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يكن بأحدهما أشبه بل يشبه هذا كما يشبه هذا ، فهما مخطئان
السابع: النظر في تخريج مناط الحكم واستنباطه ، كقول أبي حنيفة : الماء جعل مزيلا للنجاسة لأنه يزيل العين والأثر ، فهو العلة والمناط ، والشافعي يقول : بل هو خاصية الماء فلا علة ولا مناط . فإن قصد الشارع تخصيص الماء بخاصية فأبو حنيفة مخطئ وإن قصد تعليقه بمعنى الإزالة فالشافعي مخطئ . وإن لم يقصد لا هذا ولا ذاك فهما مخطئان
الثامن: تنقيح مناط الحكم : كقول النبي صلى الله عليه وسلم :"من جامع فعليه ما على المظاهر" فإن الكفارة وجبت على المجامع في نهار رمضان بطريان(31/446)
ص -440-…الجماع ،لكن لكونه جماعا ، أو إفساد للصوم ؟ فإن علقه الشارع بالجماع فمالك مخطئ ، إذ يعلقه بكل إفطار . وإن علقه بالإفساد فالشافعي مخطئ إذ علقه بكونه جماعاً.
والفرق بين تخريج مناط الحكم وبين تنقيحه كما ذكرناه في أول كتاب القياس ،فإن الحكم إذا رتب على الجماع وهو فعل حادث ، صار منوطاً بالوصف الطارئ ، ومضافا إليه قطعاً ويقع النظر في تنقيح المناط وتجريده عن بعض الأوصاف .
أما ذكر حكم الماء في إزالة النجاسة ، وحكم الخمر في الإسكار ،وحكم البر في الربا : فإلحاق الخل بالماء ،والنبيذ بالخمر والبطيخ بالبر مبني على استنباط المناط وتخريجه . والمانع من الإلحاق ينكر أصل العلة والمناط ويقول: الشارع صلى الله عليه وسلم ذكر حكماً ، ومحلة ، ولم يذكر علته .
التاسع: تعيين المناط ،كعتق بريرة. إذ يقول الشافعي : خيرت لما عليها من الضرر في المقام تحت عبد ، ويقول أبو حنيفه :بل لزوال الرق القاهر ، إذ زوجت بغير رضاها والآن قد صارت من أهل الرضا . والعلتان مختلفتان في الأمة إذا أعتقت تحت حر .فإن كان باعث الشرع في بريرة دفع ضرر العبد فأبو حنيفة مخطئ ، وإن كان الباعث زوال قهر الرق فالشافعي مخطئ . وإن لم يكن لا هذا باعثا فهما مخطئان .وفرق بين تنقيح المناط ،فإن تعيين المناط كالخلاف في أن علة الربا الطعم أو الكيل ، ولا يدخل شيء من الطعم في الكيل. والنظر في التنقيح يبقي شيئا متفقا عليه بين الفريقين ، ويرد الخلاف إلى تفصيله ، كالنظر في النفقة المبثوثة ،فإنه ينبني على أن النكوحة لم تستحق النفقة، ولا خلاف في أن النكاح علة استحقاق النفقة ، لكن باعتبار كونه مفيدا للحل ، أو الملك ، أو سلطنة ما أو ليس للحل ، بدليل استحقاق الرجعية ، وليس للملك ، بدليل الكافر إذا أسلم على عشرة نسوة ، فإنه ينفق على جميعهن قبل الاختبار ولا ملك في(31/447)
ص -441-…الإسلام إلا على أربع ، لكن له سلطان تقرير النكاح على كل واحدة منهن ، فهي محبوسة تحت سلطنة .
فيقول أبو حنيفة: المعتدة البائنة ]كذا[ أيضاً تحت سلطنة النكاح ، فإن هذه العدة من اثر النكاح . وكونه عاجزاً عن إسقاط هذه السلطنه أبلغ في تأكيد الحق . بل الكافر إذا أسلم أيضاً لا يقدر على إسقاط سلطنة الاختبار . فيرجع الخلاف إلى أن النكاح معتبر باعتبار أي علاقة وأي أثر ، مع الاتفاق على أنه لابد من النكاح ، فإن المعتدة بالشبهة لا تستحق ، لأن عدتها ليست أثر نكاح .
والشافعي يقول: هو باعتبار سلطنة تقرير النكاح ، وذلك موجود في الذي أسلم ،وفي الرجعية .
ويقول أبو حنيفة: ليس ذلك معتبراً ،بدليل ما لو كان له زوجتان ،فقال : إن كان هذا الطائر غراباً فزينب طالق ، وإن لم يكن غرابًا فعمرة طالق ، وغاب الطائر ولم يعرف ، فإنه يلزمه نفقتهما ، والمنوكوحة إحداهما . ولكن واحدة محبوسة بسببه .
فيقول الشافعي: لاتجب للحبس ، بل للنكاح ، فإن كل واحدة كانت منكوحة يقيناً والشك في الطلاق شك في النفقة ، فلا تسقط نفقتها بالشك
والمقصود: أنهما مع الإتفاق على اعتبار أصل مشترك وهو النكاح ، اختلفا في تعيين آثار ذلك المعنى ، لا كالمختلفين في الطعم والكيل ، فإنهما معنيان متباينان لا يدخل أحدهما في الآخر
وكأن هذا الكلام خارج عن غرضنا . وقد سنح عرضاً ، فذكرناه
العاشر: النظر في التحقيق المناط في الفرع: كما لو كانت العلة ملخصة معلومة في الاصل ، لكن وقع الشك في تحققها في الفرع، كالتردد في أن رائحة النجاسة إذا أزيلت عن الماء الكثير بطرح التراب فيه ، أنه هل يعود طاهراً: لأنه لو زال بهبوب الريح وطول المكث طهر ، ولو زال بالقاء المسك والزعفران لم(31/448)
ص -442-…يطهر لأن ستر لا إزالة ، وإذا زال ففيه خلاف منشؤه أن التراب مزيل أو ساتر ؟ عند الله تعالى فقد أخطاء من قال لا يطهر ، وإن كان ساتراً عند الله تعالى : فقد أخطاء الآخر ،ولابد من أحد الأمرين.
ومن أمثلة تحقيق المناط الخلاف في أن رماد الزبل طاهر أم لا . والعين النجسة إذا استحالت طهرت ، كالبيضة المذرة إذا استحالت فرخاً ، وكالزبل إذا تولد منه حيوان أو نبات ، وإن تغير لم يعد طاهراً . والرماد زبل متغير أو هو عين أخرى استحال إليها الزبل كما يستحيل الكلب في المملحة ملحاً ؟ فعلة الاصل ها هنا معلومة ، والخلاف في تحققها في الفرع .
فهذه مثارات جولان نظر المجتهدين استوفيناها للإحاطة بمجمعها ، ولبيان أنه لابد من تعين حق عند الله تعالى في جميعها ، فإن لم يتعين فيلزم تخطئة المجتهدين جميعها
وهذه العشرة العموم ،والظاهر ، والمفهوم ، وقول الصحابي ، وطلب الصلح ،وطلب الأشبه ، والنظر في تخريج المناط أو تنقيحه أو تعيينه أو تحقيقه . ولايعدو نظر المجتهدين هذه الجملة أو مايناسبها .
والجواب: أن نقول: إنكم إذا قنعتم بحق موضوع لم يبلغ المكلف ولم يؤمر بطلبه حتى يلزم منه خطا مجازي ، فهو مسلم في كل مسألة يدور الأمر فيها بين النفي والإثبات ، كالنظر في تحقيق المناط في الفرع ، وكالنظر في المفهوم، وقول الصحابي ، فهذه المسائل لابد فيها لابد فيها من أحد قسمين ، وهو حق موضوع(31/449)
ص -443-…متعين ،كالقبلة في حق المجتهدين فيها .
لكن من المسائل ما لا يتعين فيها حكم بحيث يتميز أحد المجتهدين عن الآخر في الخطاء المجازي أيضا ، كالعموم ، وتخريج المناط وطلب الأشبه والأصلح
بيانه أنا لو سألنا الشارع عن قوله :"أيما إهاب دبغ فقد طهر" إنك أردت إدراج الكلب أو إخراجه جاز أن يقول :أردت الإدخال ، أو أردت الإخراج ،أو :لم يخطر ببالي الكلب ، و لا الإخراج ، لكن يقول: احكم الله على من سبق إلى فهمه من اللفظ
واللفظ لايدل بعينه ، بل بالمواضعة :
واللفظ باعتبار المواضعة ثلاثة:
نص صريح: لا احتمال فيه ، كالخمسة ، لاتحتمل الستة والأربعة . فمن فهم منه غير الخمسة فهو مخطئ ، لأن دلالته قاطعة .
ولفظ مجمل: كالقرء ، والعين ،فلا يفهم إلا مع قرينة معينة أو قياس . وتلك المعاني تختلف بالإضافة إلى الطباع و الأحوال .
ولفظ محتمل: أحد احتماليه أظهر ، ويسمى ظاهراً وليست دلالته نصاً قاطعاً بل ربما أفهم في حق زيد ما لا يفهم في حق عمرو ، ولأن المقياس والمعاني قرائن تنتهض في تفهم أحد معنييه ،وتلك القرائن تختلف بالإضافة ،فيختلف الفهم .فالظاهر من هذا كالمجمل لا كالنص ،لكن موافقة اللفظ لأصل الوضع قرينة مرجحة ، بشرط انتفاء قرينة أخرى ترجح جانب التجوز عن الوضع .فاللفظ صالح للحقيقة والمجاز جميعاً، لا كلفظ الستة فإنه لا يصلح للخمسة لا مجازاًَ ولا حقيقة .(31/450)
ص -444-…فيقول الشارع: الحكم ها هنا تابع لهم ، والفهم في الستة تابع للحكم ، لأن دلالته على الحكم قاطعة . ونقول : كما أن الحكم مادام عند جبريل عليه السلام لم يصير حكماً في الارض حتى ينزل إلى الأرض ، فإذا نزل إلى الأرض . وكان في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ،لم يصر حكماً مالم يتلفظ به ، فإذا نزل تلفظ به لم يصير حكماً بالفعل، وقبل ذلك كان حكما بالقوة . فيقول الشارع : لاحكم لله تعالى في مسألة الدباغ قبل الوقوع في الفهم: فمن طبعه كطبع الشافعي ، يفهم أن الدباغ لا يزيد على الحياة ، فيكون ذلك هو الحكم في حقه ومن طبعه ابي حنيفة: يفهم العموم ، فهو الحكم في حقه.
فلو صرح الشارع به كان معقولا، ولم يتميز أحدهما عن الاخر في صواب ولا خطاء ، إذ ليس فيه حكم موضوع قبل نظرهما .
وكذلك يقول في قول ه عليه السلام أمسك أربعا : إني أردت الإمساك أو الابتداء لامحالة . ولكن مالكم ولإرادتي ولا سبيل لكم إلى معرفتها ، إنما تعبدتم بما يصل إلى فهمكم .
وهذا اللفظ أفهم الحاضرين مع قرينة شاهدوها ، أما أنتم معاشر التابعين ومن بعدهم فقد اندرست في حقكم القرينة ، وبقي مجرد اللفظ ، وليس مفهماً أحد المعنيين تفهيما قاطعا ، بل من طبعه طبع الشافعي في استحقار القياس يفهم منه ما يوافق الوضع ، وهو الإمساك ، ومن طبعه طبع أبي حنيفة في التفاته إلى قياس الرضاع الطارئ على النكاح ، يفهم من هذا في فهمه من هذا اللفظ ابتداء النكاح . وحكم الله تعالى على كل واحد ما القاه في فهمه من هذا اللفظ ، لا ما في ضمير الشارع ،وسبيل لهم إلى معرفة حقيقته .
وكذلك في مسألة الأصلح: يجوز أن يكون كل واحد منهما مثل الآخر في الصلاح ولا يتميز أحدهما عن الآخر في خطاء وإصابة .(31/451)
ص -445-…وكذلك قد يقول الشارع: الماء يزل النجاسة ، ولا يخطر له قصد الخصوص ، و لاقصد التعليق بعلة تعم الخل ، لكن يقول: من ظن أن التعليق بالعلة ، كان الحكم في حقه أن الخل يطهر ، ومن لا فلا . فيكون الحكم تابعاً
وقد ينظر المجتهدان في الطلب الأحسن ، ويختلفان فيه ، فلا يكون عند الله تعالى أحسن ، لأنه أمر إضافي . أما الأصلح فإنه أمر ذاتي ، ولا بد عند الله تعالى من أن يكون أحدهما أصلح ، أو يتساويان في الصلاح.
ومسألة الأشبه يحتمل أن يقال إنه من قبيل الأحسن ، فليس عند الله تعالى فيه شئ ، لأن الأشبه إنما يكون في حق الجاهل ببواطن الأمور ، فلا يكون في حق الله تعالى أشبه . ففي هذه المسألة لايتميز أحد المجتهدين عن الآخر لا بالخطأ المجازي ولا بالخطأ الحقيقي .
فصل:
فإن قالوا : :فإذا اعترفتم بالخطأ المجازي ، وقنع الخصم به فإلى ماذا يرجع الخلاف ؟ وماذا كان سعيكم في تدقيق هذه المسألة وتحقيقها ؟
قلنا: أما من قنع بالخطأ المجازي فسعينا معه في أمرين : أحدهما: أن نبين أن من الأقسام ما.ليس فيه خطأ مجازي أيضاً ، كمسألة الأحسن والأشبه .
والثاني: أن نبين أن الخطأ المجازي ليس بخطأ ،بل هو كذب وخلف ، إذ لو كان خطأ لوجب نسبة الرسول إلى الخطأ ، إذا قضى لأحدهم بشئ من مال أخيه ولو جب تخطئة أهل الإجماع ، وتخطئة المجتهدين جميعاً ، كما قالوه ولا خلاف في عصمة الرسول والأمة عن الخطأ . فغايتنا أن نلحق المجتهد بالرسول وبالأمة . وقد فعلنا ذلك ، وبينا أن الخطأ المجازي ليس بخطأ(31/452)
ص -446-…وأما من أثبت خطأ حقيقياً فقد ابطلنا ذلك عليه بما مهدناه من الأصول .
وترجع تلك الأصول إلى عشرة :
الأول: بيان أن الأدلة الظنية إضافية لا حقيقية ، بخلاف الأدلة العقلية .
الثاني: أن العلل الشرعية علامات إضافية ، فيجوز أن يكون الكيل من حهة الله تعالى علامة منصوبة في حق أب حنيفة ، والطعم علامة في حق الشافعي .
الثالث: التميز بين ماهو حكم بالقوة ، وبين ماهو حكم بالفعل .
الرابع: أن الحلال والحرم ليسا من أوصاف الأعيان حتى يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالاً حراماً في حق شخصين .,
الخامس: أن الحكم أمر وضعي إضافي ليس بذاتي ،فيجوز أن يكون تابعاً للظن ، ومبيناً عليه ،ولا يجب أن يكون سابقاً على الظن ، حتى يجوز أن يكون المظنون مشكوكاً فيه ، والحكم المبني عليه مقطوعاً به كحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بشهادة الشاهدين عند غلبة ظن الصدق ، فإنه يشك في صدقهما ويقطع بالحكم ،ويقطع بكونه مصيباً يفي الحكم ، فكذلك المجتهد عند شهادة الأصل للفرع .
السادس: أن الحكم هو تكليف ، وشرط التكليف بلوغ المكلف ، وليس عند الله تعالى تكليف قبل بلوغ المكلف ، فلا حكم عنده قبله
السابع : أن الطلب مع انتفاء حكم عند الله تعالى ممكن ، من حيث إنه يجوز أن يكون في الواقعة حكم معين ، وإن جوز أيضاً أن لا يكون فيها حكم .
الثامن: أن الخطأ أسم ، قد يقال بالإضافة إلى ما وجب ، وهو الحقيقي ، وقد يقال بالإضافة إلى ما طلب ،وهذا مجاز .
التاسع: أنه لايجوز أن يكون مأموراًً بالإصابة ثم يكون غير مأثوم إذا تركها مع القدرة .(31/453)
ص -447-…العاشر: أنه لا يجوز أن يكون مأموراً بإصابة ما ليس علية دليل قاطع ، فإنه تكليف بما لا يطاق .
فهذه عشرة أصول ، كل واد ماتهة لجماعة وقد بيناها
هذا حكم التأثيم والتصويب ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل :
مسألة:تعارض الأدلة :
مع بعضها إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون هذا بعجز المجتهد وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح
وأما المصوبة فاختلفوا:فمنهم من قال:يتوقف لأنه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شيء وهذا هو الأسلم الأسهل
وقال القاضي: يتخير لأنه تعارض عنده دليلان وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء
وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال كيف يتخير في حال واحدة بين الشيء وضده ؟(31/454)
ص -448-…وليس هذا محالا لأن التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لأن الحكم تارة يؤخذ من النص وتارة من المصلحة وتارة من الشبه وتارة من الاستصحاب فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح
فلو قلنايتوقف: فإلى متى يتوقف ؟وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح بل لا سبيل إلا التخيير كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد ثالثا فلا طريق إلا التخيير
وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب:فمنهم من قال نقسم المال بينهما ومعناه تصديق البينتين وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما ولا ترجيح فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع لكن ضاق المحل فيوزع عليهما
وعلى الجملة:الاحتمالات أربعة:أما العمل بالدليلين جميعا أو إسقاطهما جميعا أو تعيين أحدهما بالتحكم أو التخيير:
ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية فإن فيه تعطيلا ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما فلا يبقى إلا(31/455)
ص -449-…الرابع وهو التخيير كما في اجتماع المفتيين على العامي
فإن قيل: كما استحالت الأقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال
قلنا: المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل ولو قال الشارع من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره كان معقولا لأنه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وكيفما تقلب فإليها ينقلب وكذلك إذا قال تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم تعارض استصحابان فكيفما تقلب فهو مستصحب كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره فالأصل بقاء الحياة والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الأحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة
وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم في زكاة الإبل: "في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" فمن له من الإبل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير فكذلك عند تعارض الاستصحاب والمصلحة والشبه
فإن قيل: التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم والتخيير بين الواجب(31/456)
ص -450-…وتركه يرفع الوجوب والجمع بين أختين مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض
قلنا:يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر وهو القول بالتساقط ويطلب الدليل من موضع آخر ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول
فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه:وجه في التساقط ووجه في التخيير ووجه في التفصيل وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط
وإن أردنا الإصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا وهو أنا نقول إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل أن الحج واجب على التراخي وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي الوجوب
بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز أن يتركهما ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له تصدقت عليك بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة(31/457)
ص -451-…عن الدين الواجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء اتى بالأربعة عن الواجب ولا يتناقض فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز
وكذلك إذا سمع قوله تعالى{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء: من الآية23]حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له قصد العمل بموجب
الدليل الثاني هو قوله تعالى{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء: من الآية3] كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية وسئل ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب
الدليل الثاني: وهو الأمر بالوفاء وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب
وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لأن فيه إحياءه وحراما لأن فيه هلاك غيره فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا سبيل إلا التخييرة(31/458)
ص -452-…فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما وأن تعارض دليل الوجوب ودليل الإباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا هذا طريق نصره اختيار القاضي في التخيير
فإن قيل:تعارض دليلين من غير ترجيح محال وإنما يخفى الترجيح على المجتهد
قلنا:وبم عرفتم استحالة ذلك فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى الترجيح في علم الله تعالى
فإن قيل: فما معنى قول الشافعي المسألة على قولين ؟
قلنا: هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة فإن ذلك لا يحتمل التخيير لأنه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا .
فإن قيل: فمذهب التخيير يفضي إلى محال وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة لأن حكم الله الخيرة وكذلك يخير المفتي العامي وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه(31/459)
ص -453-…ويوم السبت باستغراق الجد للميراث ويوم الأحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الأحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر
قلنا: لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لأن الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة
أما قضاؤه يوم الأحد بخلاف قضائه يوم السبت وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك جائزا ؟فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارة مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون وعمرا بالحقاق
وعلى الجملة: يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم كما لو تغير الاجتهاد فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني
وكذلك المجتهد في القبلة:إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير ولا مجتهد يقلد فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء ولا يجوز له أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما
فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الإشارة(31/460)
ص -454-…بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية
مسألة: نقض الاجتهاد في نقض الاجتهاد:
المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده
ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها
أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته
هذا ربما يتردد فيه
والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده في نفسه وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه وكذلك إذا تنبهنا لأمر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحكم
فإن قيل: قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر لأن ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه ؟
قلنا: نعم هو مصيب بشرط دوام الجهل كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع(31/461)
ص -455-…الحدث لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا وهي حرام عليه بالقوة أي هي بصدد أن تصير حراما ما لو علم محدث فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل
وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه
إزالة سبب التخفيف هل هي واجبة ؟:
وعند هذا ننبه على دقيقة :وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والإقامة والطهر والحيض فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم
لكن بينهما فرق وهو أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب
وكذلك نقول:من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه
ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل وحكم سائر الأوصاف
نقض حكم الحاكم بمخالفة الأدلة الظنية:
فإن قيل: فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه ؟
قلنا:قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له إذ لا فرق بين ظن وظن فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف بالإضافة وما يختلف بالإضافة فلا سبيل إلى تتبعه
فإن قيل: فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد صيغة لأمر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد وأن(31/462)
ص -456-…صيغة الأمر لا تدل على الوجوب والنهي لا يدل بمجرده على الفساد
قلنا: معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم لأنا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد أو أنه حكم بمجرد صيغة الأمر بل لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لأنه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم بل حكم في محل الاجتهاد
وعلى الجملة:الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم
فإن قيل: فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض
قلنا: هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا بل يحتمل تغير اجتهاده
وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي ونحن وإن حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه فينبغي أن ينقض حكمه ولو جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض
وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور وليست من الأصول في شيء والله أعلم(31/463)
ص -457-…حكم الإجتهاد
مسألة:في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه:
وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد وهذا ليس مجتهدا
لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الأمور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي فيلحق بالعامي أو بالعالم ؟
فيه نظر والأشهر والأشبه أنه كالعامي وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه بل يجوز له ترك الاجتهاد
وعلى الجملة: بين درجة المبتدىء في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين وللنظر فيها مجال وإنما كلامنا الآن في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره فهذا هو المجتهد فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره هذا مما اختلفوا فيه(31/464)
ص -458-…فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم
وقال قوم: من وراء الصحابة والتابعين
وكيف يصح دعوى الإجماع وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري
وقال محمد بن الحسن يقلد العالم الأعلم ولا يقلد من هو دونه أو مثله
وذهب الأكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه
وقال قوم يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به
وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد
واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم وهو الأظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية
والذي يدل عليه أن تقليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا منصوص إلا العامي والمجتهد إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله
أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع
أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز فينبغي أن يطلب الحق بنفسه فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في(31/465)
ص -459-…بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه
فإن قيل:وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن وظن غيره كظنه ولا سيما عندكم وقد صوبتم كل مجتهد ؟
قلنا: مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الإبدال والمبدلات إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الإبل فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون والقدرة على شرائه لا تمنع منه
فإن قيل: حصرتم طريق معرفة الحق في الإلحاق ثم قطعتم طريق الإلحاق
ولا نسلم أن مأخذه الإلحاق بل عمومات تشمل العامي والعالم كقوله تعالى{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الانبياء: من الآية7]وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا فإن ذاك مجنون أو صبي بل من لا يعلم تلك المسألة وكذلك قوله تعالى{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }[النساء: من الآية59] وهم العلماء قلنا أما قوله تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } فإنه لا حجة فيه من وجهين:
أحدهما: أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره .
الثاني: أن معناه سلوا لتعلموا أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروي وأما أولو الأمر فإنما أراد بهم الولاة إذ أوجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد فإن كان المراد(31/466)
ص -460-…بأولي الأمر الولاة فالطاعة على الرعية وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك ثم نقول يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة كقوله تعالى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر: من الآية2]وقوله تعالى{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: من الآية83]وقوله {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] وقوله{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }[الشورى: من الآية10] وقوله{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }]النساء: من الآية59[ فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار وليس خطابا مع العوام فلم يبق مخاطب إلا العلماء والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط
وكذلك قوله تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [لأعراف: من الآية3] وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط لكن دل الكتاب على اتباع السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد
فهذه ظواهر قوية والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك بأمثالها ويعتضد ذلك بفعل الصحابة فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول والمفوضة ومسائل كثيرة وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره
فإن قيل: لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف والأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم
قلنا: كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد(31/467)
ص -461-…فإن قيل:فما تقولون في تقليد الأعلم ؟
قلنا:الواجب أن ينظر أولا فإن غلب على ظنه ما وافق الأعلم فذاك وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم وقد صار رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الأعلم وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده
ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لأكابر الصحابة ولأبي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم
فإن قيل:فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به ؟
قلنا:يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذا لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام
وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد ؟فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء فهذه مسألة محتملة والله أعلم(31/468)
ص -462-…الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه
وفيه أربع مسائل :
مسألة: تعريف التقليد:
التقليد هو قبول قول بلا حجة
وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع
وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام(31/469)
ص -463-…ويدل على بطلان مذهبهم مسالك :
الأول: هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل ودليل الصدق المعجزة فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب ويجب على العامي اتباع المفتي إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب
فنقول: قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل
المسلك الثاني: أن نقول أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه ؟فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته بضرورة أم بنظر أو تقليد ؟ولا ضرورة ولا دليل فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه وإن قلدتم فيه غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر ؟وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم ؟
ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد:هل تعلمون وجوب التقليد أم لا ؟فإن لم تعلموه فلم قلدتم ؟وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد ؟ويعود عليهم السؤال في التقليد ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم(31/470)
ص -464-…فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب للأكثرين فهو أولى بالاتباع
قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الأقلون ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل
ويدل عليه أنه عليه السلام كان محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين وقد قال تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }[الأنعام: من الآية116]كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر ؟!
ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا كيف وهو على خلاف نص القرآن؟ قال الله تعالى{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: من الآية13] ولكن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الطور: من الآية47]{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون: من الآية70]
فإن قيل: فقد قال عليه السلام عليكم :"بالسواد الأعظم" و:"من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" و "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"
قلنا: أولا: بم عرفتم صحة هذه الأخبار وليست متواترة فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها ؟
ثم لو صح فمتبع السواد الأعظم ليس بمقلد بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه وذلك قبول قول بحجة وليس بتقليد
ثم المراد بهذه الأخبار ذكرناه في كتاب الإجماع وأنه الخروج عن موافقة الإمام أو موافقة الإجماع
أدلة القائلين بوجوب التقليد :
ولهم شبه:(31/471)
ص -465-…الشبهة الأولى: قولهم:إن الناظر متورط في شبهات وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى
قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ }[الزخرف: من الآية23] ثم نقول إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطىء في العلاج وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر
الشهبة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا }]غافر: من الآية4[وأنه نهى عن الجدال في القدر والنظر يفتح باب الجدال قلنا نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ }[غافر: من الآية5]بدليل قوله تعالى{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[النحل: من الآية125]فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه إما لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص أو كان في بدء الإسلام فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين أو لأنهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الاسراء: من الآية36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية169]{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}[البقرة: من الآية111]هذا كله نهي عن التقليد وأمر(31/472)
ص -466-…بالعلم ولذلك عظم شأن العلماء وقال تعالى{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة: من الآية11] وقال عليه السلام يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم وقالابن مسعود لا تكونن إمعة قيل وما إمعة قال أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس
مسألة تقليد العامي للعلماء العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء :
وقال قوم من القدرية:يلزمهم النظر في الدليل واتباع الإمام المعصوم
وهذا باطل بمسلكين
أحدهما: إجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم .
فإن قال قائل من الإمامية: كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة
قلنا: هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الأئمة في حال ولايته إلى آخر عمره لأنه لم يزل في اضطراب من أمره فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية(31/473)
ص -467-…المسلك الثاني: إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم
وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء
فإن قيل:فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد
قلنا: التقليد قبول قول بلا حجة وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود ووجب علينا قبول خبر الواحد وذلك عند ظن الصدق والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم بدليل سمعي قاطع فهذا الحكم قاطع والتقليد جهل
فإن قيل: فقد رفعتم التقليد من الدين وقد قال الشافعي رحمه الله ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام فقد أثبت تقليدا
قلنا: قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد نعم يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة فكأنه تصديق بغير حجة خاصة ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا
مسألة: فتوى العامي للعلماء العدول:
لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا
وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم: يجوز وليس عليه البحث
وهذا فساد لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة وعلى المفتي(31/474)
ص -468-…معرفة حال الراوي وعلى الرعية معرفة حال الإمام والحاكم
وعلى الجملةكيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل ؟
فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث ؟إن قلتم يلزمه البحث فقد خالفتم العادة لأن من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم
قلنا: من عرفه بالفسق فلا يسأله ومن عرفه بالعدالة فيسأله ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر بالفتوى ولا يمكن أن يقال ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى والجهل أغلب على الخلق فالناس كلهم عوام إلا الأفراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد
فإن قيل: فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه قيل يحتمل أن يقال ذلك فإن ذلك ممكن ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين ؟
قلنا: لا بد من المعرفة الحقيقية بالتواتر ، فإن ذلك ممكمن . ويحتمل أن يقال : يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد وهذا يقرب منه من وجه
مسألة تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي:
إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد وجب على العامي مراجعته
وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء الراشدين(31/475)
ص -469-…وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل فإن استووا تخير بينهم وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك
مايصنع المستفتي إن اختلف عليه المفتون:
نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى وقال تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني فإن خيراه تخير وإن اتفقا على الأمر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر والأئمة كالنجوم فبأيهم اقتدى اهتدى
أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده: اختار القاضي أنه يتخير أيضا لأن المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثر
والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي
اتباع المقلدين أيسر الأقوال في المذاهب:
وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح فكذلك ههنا وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الأعلم أبعد لا محالة
وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون يمنعهم من جانب إلى جانب فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان(31/476)
ص -470-…أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد فلا يجب على المجتهد فيها النظر بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد والإجماع منعقد على أنه يلزمه أولا تحصيل الظن ثم يتبع ما ظنه فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر
فإن قيل: المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول على الفاضل فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام .
وهذا سؤال واقع
ولكنا نقول: من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الأخبار وبإذعان المفضول له وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء :يعلم الأفضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي فهذا هو الأصح عندنا والأليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم(31/477)
ص -471-…الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة
ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين:
أما المقدمة الأولى ففي بيان ترتيب الأدلة:
فنقول يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة
فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ(31/478)
ص -472-…ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به
وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره
ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها
فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص
فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره
فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق
المقدمة الثانية في حقيقة التعارض ومحله
اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لأن الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل لكنه بعد الحصول(31/479)
ص -473-…محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم
ولذلك قلنا: إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا
وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر
وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون فنقدم الأقوى في نفوسنا
وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لأنه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد
وهو محال لا كالعلل المظنونة لأن الظنون تختلف بالإضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي كما لو تعارض قاطعان
ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لأن اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والإثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا
أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لأن ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض :على التخيير بينهما فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبيه وبالاستصحاب فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع نعم لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما(31/480)
ص -474-…فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن ؟.
قلنا: لا فإن الظن لو خالف العلم فهو محال لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه
المقدمة الثالثة: في دليل وجوب الترجيح
فإن قال قائل: لم رجحتم أحد الظنين وكل ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف ؟
قلنا: كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه
وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم وسلوكهم الطرق المخوفة فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الأقوى(31/481)
ص -475-…فإن قيل: فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين ؟
قلنا لأن أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة وقد رجحوا في الرواية وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل
هذه هي المقدمات(31/482)
ص -476-…الباب الأول فيما ترجح به الأخبار
اعلم أن التعارض هو التناقض
فإن كان في خبرين فأحدهما كذب والكذب محال على الله ورسوله
وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين كما إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة واجبة على أمتي الصلاة غير واجبة على أمتي" فنقول أراد بالأول المكلفين وأراد بالثاني الصبيان والمجانين أو في حالتي العجز والقدرة أو في زمن دون زمن
وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن
أسباب الترجيح بين الخبرين المتعارضين لأمر في السند أو المتن:
أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر :
الأول: سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه فإن انضاف إلى اضطراب(31/483)
ص -477-…اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية.
فإن قيل: فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه
قلنا: لا يجب لأنه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره
الثاني: اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز
الثالث: أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد انفرد به الراوي لا في جملة القصة فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة
الرابع: أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته عند الناس أشد
الخامس: أن يقول أحدهما سمعنا النبي عليه السلام والآخر أن يقول كتب إلي بكذا فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع
السادس: أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع فالمتفق على كونه مرفوعا أولى(31/484)
ص -478-…السابع: أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا والآخر ينسب إليه اجتهادا بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره فما نسب إليه قولا ونصا أقوى لأن النص غير محتمل وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه
الثامن: أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه فنقل عنه أيضا ضده فيقدم عليه ما لم يتعارض لأن المتعارض متساقط فيبقى الآخر سليما عن المعارضة
التاسع: أن يكون الراوي صاحب الواقعة فهو أولى بالمعرفة من الأجنبي فرواية ميمونة تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام
العاشر: أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا
الحادي عشر: أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رآهمالك رحمه الله حجة وإجماعا إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم
الثاني عشر: أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة لأن المرسل حجة عند قوم فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا
الثالث عشر: أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس
الرابع عشر: أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل(31/485)
ص -479-…لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به
فإن قيل: ذلك قاطع في تصديقه
قلنا: لا بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والاجماع فيقول سمعت ما لم يسمعه وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الأمة على صدقه لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره ولعله عن دليل آخر
الخامس عشر: أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله رفع القلم عن ثلاثة لأن هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي فهو أخص وأمس بالمقصود
السادس عشر: أن يكون أحدهما مستقلا بالإفادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل
السابع عشر: أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر فالكثرة تقوي الظن ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد
هذا ما يوجب الترجيح لأمر في سند الخبر أو في متنه
الترجيح بأمر خارج عن السند والمتن:
وقد يرجح لأمور خارجة عنها وهي خمسة :(31/486)
ص -480-…الأول: كيفية استعمال الخير في محل الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم : "لا نكاح إلا بولي" مع قوله : "الأيم أحق بنفسها من وليها" لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الأذن لا في العقد واللفظ يعم الأذن والعقد وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الأمة أو النكاح من غير كفء ولاخلاف واقع في الكبيرة وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة فتأويلنا أقرب فإنه لا ينبو عنه اللفظ بل كان اللفظ محتملا لهما أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والأمة فبعيد
الثاني: أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة فيكون أضعف كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة. فخبرنا وهو قوله كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة فهو أولى من خبرهم
الثالث: أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة
الرابع: أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر كقوله:صلى الله عليه وسلم : "أيما إهاب دبغ فقد طهر" لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالة نهيه صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلود السباع لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها
الخامس: يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن "بريرة أعتقت تحت(31/487)
ص -481-…عبد "على ما روي أنها أعتقت تحت حر لأن ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر
القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح
وله أمثلة ستة:
الأول: أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر أو يعمل بعض الأمة أو بعض الأئمة بموجب أحد الخبرين
فلا يرجح به إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد
الثاني: أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الأصول كحديث القهقهة وغرة الجنين وضرب الدية على العاقلة وخبر نبيذ التمر ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس(31/488)
ص -482-…فهذه الأحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للأصول لأن للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف
نعم لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس وذلك ليس من الترجيح في شيء
الثالث: الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب وإن كان الحد يسقط بالشبهة
وقال قوم:الرافع أولى وهو ضيعف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب أو الإسقاط
الرابع: إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض
وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين
الخامس: خبر يتضمن العتق والآخر يتضمن نفيه قال قوم من أهل العراق:المثبت للعتق أولى لغلبة العتق ولأنه لا يقبل الفسخ
وهذا ضعيف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله
السادس: الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة(31/489)
ص -483-…الباب الثاني في ترجيح العلل
ومجامع ما يرجع إليه ترجيح العلل خمسة :
الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة
الثاني: ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها
الثالث: ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة
الرابع: ما يقوي حكم العلة الثابت بها
الخامس: أن تتقوى بشهادة الأصول وموافقتها لها
القسم الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل:
وهي عشرة:
الأول: أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة والأخرى من أصل معلوم لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر وجاحد النظري لا يكفر فذلك أقوى
فإن قيل: أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم
قلنا: العلتان مظنونتان وإنما المعلوم أصلاهما والترجيح للعلة المظنونة
الثاني: أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى
الثالث: أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة
الرابع: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة والآخر برواية واحدة فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة ولا يرجح عند من لا يرى ذلك(31/490)
ص -484-…الخامس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه
السادس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق فالنص الصريح أولى
السابع: أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه والآخر فرعا لأصل آخر فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والأظهر منع القياس عليه وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد
الثامن: أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه فالمتفق على تعليله من القائسين وإن لم يكونوا كل الأمة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه
التاسع: أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف لأنه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له
العاشر: أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا فالمغير أولى لأنه حكم شرعي وأصل سمعي والآخر نفي للحكم على الحقيقة
القسم الثاني: ما لا يرجع إلى الأصل:
ونرجع إلى بقية الأقسام الأربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها
الأول: أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع
وهذا قد أورد في الترجيح وهو ضعيف لأن الظن ينمحي في مقابلة القاطع فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه ويخرج(31/491)
ص -485-…عن كونه معلوما وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون
الثاني: أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا ويسقط الظن في مقابلته
الثالث: أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر فقد قال قوم قوله حجة فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد
الرابع: أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده لكن قال به بعض العلماء فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به بل يرى ذلك في محل الاجتهاد
الخامس: أن تشهد الأصول بمثل حكم إحدى العلتين أعني لجنسها لا لعينها فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك
السادس: أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن ككون الكلب نجسا(31/492)
ص -486-…إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا
وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري والآخر نظري أو أحدهما معلوم والآخر مظنون إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين لأن ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه لأن الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة
السابع: الترجيح بما يعود إلى التعلق بالعلم بالعلة فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والأخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية وهذا من الترجيحات الضعيفة
الثامن: أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به
هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه
التاسع: الترجيح بشدة التأثير ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة لأن الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما(31/493)
ص -487-…نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة وربما لم ينصب دليلا
فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شيء بل فسروا شدة التأثير بوجوه
أولها: انعكاس العلة مع اطرادها فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها
الثاني: أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الأطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب
الثالث: أن تكون علة ذات وصف واحد وعارضها علة ذات أوصاف فقال قوم الوصف الواحد أولى لأن الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا وقال قوم ذات أوصاف أولى لأن الشريعة حنيفية فالباقي على النفي الأصلي أكثر ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شيء من ذلك
الرابع : أن تكون إحداهما أكثر وقوعا فهي أكثر تأيرا فتكون أولى وهذا بعيد لأن تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها
الخامس: علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان فقال الشافعي رحمه الله علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير وقال الخصم بل(31/494)
ص -488-…علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب ولا يشهد لأبي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا وإن علل بالقوت لم يشهد له فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات
العاشر: من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط فهي أولى من المخصصة قال الله تعالى{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء: من الآية43] فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم وبرزت علة أخرى توافق العموم فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به وقال قوم المخصصة أولى لأنها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم
وهذا ضعيف لأن المتعدية قررت الملفوظ وألحقت به المسكوت وأفادت والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية وليس ذلك بصحيح أيضا وأما المخصصة فخالفت موجب العموم فكانت أضعف من التي لم تخالف
الحادي عشر: ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها
وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما(31/495)
ص -489-…لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والاجماع على الثابت بأحد هذه الأصول
ويقرب من هذا قولهم رد الشيء إلىجنسه أولى من رده إلى غير جنسه حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج لأنه أقرب شبها به وهذا ليس ببعيد لأن اختلاف الأصول يناسب اختلاف الأحكام فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم
الثاني عشر: علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم لأن العلة تراد لحكمها فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد وعلى مسافة قالوا علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الإباحة لأن في الواجب معنى الندب وزيادة
الثالث عشر: ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة بل ينقدح أن يقال القاصرة أوفق للنص فهي أولى
الرابع عشر: ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة لأ الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة ما أثبتت شيئا وقال قوم بل المقررة أولى لأنها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات وأخرى تنفي الزكاة وعلة توجب الربا في الأرز وأخرى تنفي
فإن قيل: فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا لأنها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا ؟
قلنا إن كان الأمر كذلك فلا يصح كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا لا يقتضيه العقل أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت فإن تخصيص غير القوت(31/496)
ص -490-…عن القوت مما لا يقتضيه العقل
الخامس عشر: تقديم العلة المثبتة على النافية قال به قوم وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة وقد قال الكرخي العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة
السادس عشر: ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى
السابع عشر: رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الأحوال وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة كحمرة الخمر بل كوجود الخمر والبر
الثامن عشر:رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها
التاسع عشر: رجح قوم علة توجب حكما أخف لأن الشريعة حنيفية سمحة ورجح آخرون بالضد لأن التكليف شاق ثقيل فهذه ترجيحات ضعيفة
العشرون: ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الأمة يوجب حكما مساويا للأصل في التسوية بين الذكر والأنثى وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والأنثى في الفرع إذ أوجب في الأنثى من الأمة عشر(31/497)
ص -491-…قيمتها وفي الذكر نصف عشر قيمته والأصل هو جنين الحرة وفي الذكر والأنثى منه خمس من الإبل والعلة التي تقطع النظر عن الأنوثة والذكورة أولى لأنها أوفق للأصل
فهذه وجوه الترجيحات وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض
ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الأقطاب الأربعة التي عليها مدار أصول الفقه وبالله التوفيق(31/498)
عنوان الكتاب:
المصالح المرسلة
تأليف:
محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
الأولى، 1410هـ(32/1)
ص -3-…المصالح المرسلة
محاضرة أملاها الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والحمد لله وبحمده تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهادة أنجو بها من المهلكات. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين.. وبعد:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية ولله الحمد والمنة، الشاملة لجميع جوانب الإنسان في حياته وبعد مماته، في عباداته ومعاملاته، وفي جميع شئونه الفردية والجماعية، في ظل كتاب الله تعالى الجامع الشامل كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. والذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى الصرط المستقيم.. كما قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.. وقد كمُل الدين وتمت النعمة كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}..
وقد مضى الصدر الأول من الأمة في ظل نصوص القرآن وصريح عباراته.. وكانوا إذا أشكل عليهم نص أو استجد لهم جديد وجدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ما أجمل وتفصيل ما التبس..
ومضى عهد الصحابة في رعايته صلى الله عليه وسلم، تبليغاً وتشريعاً وعملاً واتباعاً، حتى أتم الله عليهم النعمة وختم الرسالة، وأدى الأمانة، وترك صلى الله عليه وسلم الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وترك في الأمة ما إن تمسكوا به نجوا: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
وجاء التابعون على أثر السابقين الأولين واتبعوهم بإحسان، وهكذا من بعدهم، إلى أن اتسعت رقعة العالم الإسلامي بانتشار الإسلام، فتجددت(32/2)
ص -4-…مرافق الحياة وتعددت صورها، فرأى العلماء الأعلام وأئمة الهدى أن القرآن بحر زاخر، ومحيط متلاطم، وليس كل ذي حاجة يقدر على تحصيلها منه ولا كل ذي علم يحيط بما فيه.. وكذلك السنة المطهرة، والتي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنني أوتيت القرآن ومثله معه" - أي السنة - وإنها الوحي الثاني: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}...وهما مصدر التشريع بوحي الله ..
فوضعوا أصول الفقه التي عليها مبنى الاجتهاد في استنباط
الأحكام من أدلتها، فوضعوا مباحث القرآن من عام وخاص، ومطلق ومقيد، وناسخ ومنسوخ، وغير ذلك..
وكذلك السنة:بينوا طرق إثباتها ومراتب صحتها وحال رواتها والجمع بين مختلفها وغير ذلك أيضاً..
ثم الإجماع ووقوعه وطرقه وأقسامه ومنزلته عند التعارض والترجيح. ثم القياس بأقسامه، وبأركانه وشروطه ومواطنه، بأصوله وفروعه..
وهنالك أصول أربعة أخرى محل اجتهاد الأصوليين، وهي مما تمس الحاجة إليها وهي:
1ـ شرع من قبلنا.
2ـ قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة.
3ـ استصحاب الأصل، أو البراءة الأصلية.
4ـ المصالح المرسلة، أو الاستصلاح، وهو موضوع هذه المحاضرة التي نقدم لها. وهي في الحقيقة أخطر هذه الأصول من حيث دقة البحث وسعة الجوانب وشدة الحاجة المتجددة.
ومكمن الخطر في ادعاء المصلحة لأنه ادعاء عام، وكل يدعيه لبحثه فيما يذهب إليه... ولن يذهب مجتهد فقط إلى حكم في مسألة لا نص فيها إلا وادعى أنه ذهب لتحقيق المصلحة..
ولكن، أي المصالح يعنون..إن المصلحة الإنسانية الخاصة أمر نسبي، وكل يدعيها فيما يذهب إليه... ومن هنا كان الخطر..
ولكن حقيقة المصلحة هي المصلحة الشرعية التي تتمشى مع منهج الشرع(32/3)
ص -5-…في عمومه وإطلاقه، لا خاصة ولا نسبية... فهي التي يشهد لها الشرع الذي جاء لتحقيق مصالح جميع العباد، ومراعاة جميع الوجوه، لأن الشرع لا يقر مصلحة تتضمن مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها ظهر أمرها أو خفي على باحثها، لأن الشارع حكيم عليم...
كما أن المصلحة الشرعية تراعي أمر الدنيا والآخرة معاً، فلا تعتبر مصلحة دنيوية إذا كانت تستوجب عقوبة أخروية...
وفي هذا يكمن الفرق الأساسي بين المصلحة عند القانونيين الذين يقولون: حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. وبين الأصوليين الشرعيين الذين يصدق على منهجهم أنه حيثما وجد الشرع فثم مصلحة العباد.
فإذا لم يوجد نص للشرع اجتهد العالم في النازلة ليرى هل هي محققة لمصلحة مما جاء الشرع لتحقيقها في العقيدة أو النفس أو المال أو العرض أو النسب... وأنها خالية من مفسدة تضر ببعض هذه الضرورات أم لا...
وقد وضعت في ذلك الكتب المستقلة.
وإنه ما من مؤلف في أصول الفقه إلا وفيه بحث مستقل للمصلحة.
والقارئ الكريم في حاجة إلى خلاصة موجزة، وفكرة ناضجة من عالم محقق وإمام مدقق، هضم الفن واستوعبه، يُطمئن إليه، ويُركن إلى قوله. وهذا ما منحه الله تعالى لمؤلف هذه الرسالة فضيلة والدنا وشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وقد استقل بتدريس أصول الفقه منذ مجيئه إلى المملكة حوالي الثلاثين سنة تقريباً، وله فيه المؤلفات والمباحث والمذكرات الدراسية الجامعية، حتى كان إماما فذا، ومرجعاً معتمداً، وأستاذا لهذه النهضة العلمية كلها التي تشهدها المملكة في أصول الفقه...
ولكي يعرفه من لم يلقه، فإني أقدم موجزاً عن حياته - رحمه الله - إسعافاً للقارئ وتقديماً للرسالة:(32/4)
ص -6-…بسم الله الرحمن الرحيم
المصالح المرسلة
محاضرة أملاها فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-
وهي ضمن محاضرات الموسم الثقافي للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لعام 1390هـ
قال رحمه الله
اعلم أولا أن المصالح التي عليها مدار التشريع السماوي ثلاث:
الأولى منها: ردء المفاسد، وهي المعروف عند الأصوليين بالضروريات.
والثانية: جلب المصالح وهو المعروف عند الأصوليين بالحاجيات.
والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات، وهو المعروف عند الأصوليين بالتحسينيات، والتتميميات، وكل واحدة من هذه المصالح الثلاث قد تكون مرسلة وغير مرسلة.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن الوصف من حيث هو وصف لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات لا رابع لها:
الأولى: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف تتضمن إحدى المصالح الثلاث المذكورة آنفاً.
الثانية: أن تكون إناطة بالحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة أصلاً لا بالذات ولا بالتتبع أعني الاستلزام.
الثالثة: أن تكون إناطة الحكم بذلك الوصف لا تتضمن مصلحة(32/5)
ص -7-…بالذات ولكنها تتضمنها بالتتبع، أي الاستلزام، فإن كانت إناطة الحكم به تتضمن إحدى المصالح الثلاثة المذكورة فهو المعروف عند الأصوليين بالوصف المناسب.
كإناطة تحريم الخمر بالإسكار فإنها تتضمن مصلحة حفظ العقل، ودرء المفسدة عن العقل من الضروريات كما هو معلوم.
وإن كانت إناطة الحكم به لا تتضمن مصلحة أصلا لا بالذات ولا بالتتبع فهو المعروف في الاصطلاح بالوصف الطردي، ولا يصح التعليل به إجماعاً.
واعلم أن الوصف الطردي الذي لا مناسبة فيه ولا تتضمن إناطة الحكم به مصلحة أصلاً ينقسم إلى قسمين:
1ـ أحدهما: أن يكون طردياً في جميع أحكام الشرع كالطول والقصر، فإنك لا تجد حكماً من أحكام الشرع معللا بالطول أو القصر، لأن إناطة الحكم بذلك خالية من المصلحة أصلاً.
2ـ الثاني منهما: أن يكون الوصف طردياً في بعض الأحكام دون بعض كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، فإن أحكام العتق لا ترى شيئاً منها يناط بخصوص الذكورة أو الأنوثة فهما طرديان بالنسبة إلى العتق، مع أن الذكورة والأنوثة غير طرديين في أحكام أخرى غير العتق كالميراث لقوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وكالشهادة لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} إلى غير ذلك من الأحكام التي تعتبر فيها الذكورة والأنوثة غير العتق. وإن كانت إناطة الحكم به لا تتضمن مصلحة بالذات ولكنها تستلزمها بالتتبع فذلك الوصف هو الجامع بين الأصل والفرع في نوع(32/6)
ص -8-…القياس المسمى بقياس الشبه على ما حرره جماعة من الأصوليين منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والقرافي، وزادوا على ما ذكر كون الشرع قد شهد بتأثير جنس ذلك الوصف القريب في جنس ذلك الحكم القريب يعنون أنه لا يكتفي بالجنس البعيد في ذلك.
ومثاله قولهم: الخل مائع لا تبنى على جنسه القنطرة، ولا يصاد من جنسه السمك فلا تصح الطهارة به قياساً على الدهن. فقولهم لا تبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك ليس مناسباً في ذاته، لأن عدم بناء القنطرة عليه وعدم صيد السمك منه بالنظر إلى ذات تلك الأوصاف فهي أوصاف طردية بالنسبة إلى الطهارة وعدمها ولكنها مستلزمة للمناسب. قال القرافي في شرح التنقيح: "فإن العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة كالأنهار، فالقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما تكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد فصار قولهم لا تبنى القنطرة على جنسه ولا يصاد من جنسه السمك ليس بمناسب وهو مستلزم للمناسب, وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر به وينتقل إلى التيمم"، بواسطة نقل "نشر البنود".
وإذا علمت بما ذكرنا انقسام الوصف باعتبار تضمنه المصلحة وعدمها إلى مناسب وطردي، وشبهي، فاعلم أن الوصف المناسب الذي هو المقصود بالكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واحد منها صادق بصورتين فيصير مجموع الصور أربعاً وإيضاح ذلك: أن المصلحة التي تضمنها الوصف فصار مناسبا بسبب تضمنها لها تنقسم إلى ثلاث حالات لا(32/7)
ص -9-…رابعة لها:
الأولى: أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار تلك المصلحة وعدم إهدارها كالإسكار إلى تحريم الخمر، والصغر بالنسبة إلى الولاية على المال.
الثانية: أن يدل دليل خاص على إهدارها وعدم اعتبارها، كما لو ظاهر "الملك" من امرأته، فمصلحة الزجر والردع في تخصيص تكفيره بالصوم لأن الصوم هو الذي يردعه عن العود إلى مثل ذلك، أما الإعتاق والإطعام فهو أسهل شيء على الملوك لأنهم لا يبالون به لخفته عليهم، ولكن الشرع الكريم ألغى هذه المصلحة وأهدرها، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍِ}..
واعلم أن الشرع الكريم لا يلغي اعتبار مصلحة ويحكم بإهدارها إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم في نظر الشرع منها، لأن عتق الرقبة وإخراجها من الرق أهم في نظر الشرع من التضييق على "الملك" بالصوم لينزجر بالتكفير بذلك.
الثالثة: هي أن لا يدل دليل (خاص) على اعتبار مناسبة ذلك الوصف ولا على إهدارها.
فإن دل الدليل الخاص على اعتبار تلك المصلحة فهو المعروف بـ:"المؤثر"، و"الملائم"، وإن دل الدليل الخاص على إهدار تلك المصلحة فهو المعروف عند أكثر أهل الأصول بالغريب، وإن لم يدل الدليل الخاص على اعتبارها ولا على إهدارها فهي المصلحة المرسلة، وإنما قيل لها مصلحة لأن المفروض تضمن الوصف المذكور لإحدى المصالح الثلاث(32/8)
ص -10-…وإنما قيل لها مرسلة لإرسالها أي إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار، وتسمى: "المرسل"، و"المصالح المرسلة"، و"الاستصلاح"، وسيأتي إن شاء الله كلام أهل العلم فيها.
اعلم أولا أن بعض العلماء شنع على مالك بن أنس رحمه الله في الأخذ بالمصالح المرسلة تشنيعاً شديداً، كأبي المعالي الجويني ومن وافقه فعابوا مالكاً بأنه يحكم بضرب المتهم ليقر بالسرقة مثلاً، وقالوا: لا شك أن ترك مذنب أهون من إهانة برئ، وزعموا أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين وأنه يبيح قطع الأعضاء في التعزيرات، وقال بعضهم العمل بالمصالح المرسلة تشريع جديد لعدم استناد المصالح المرسلة إلى نص خاص من كتاب أو سنة وسنذكر أولا حجة مالك المتضمنة الجواب عما قيل عنه، ثم نذكر بعد ذلك ما يحتاج إليه من الكلام على المصالح المرسلة وموقف أهل المذاهب وأصحابهم منها. أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيء من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البناني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمناً طويلاً وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة.
أما حكمه بضرب المتهم ليقر بالسرقة فهو صحيح عن مالك كما عقده ابن عاصم في تحفته بقوله:
وإن تكن دعوى على من يتهم…فمالك بالسجن والضرب حكم
ومالك لا يجيز ضرب المتهم إلا إذا ثبتت عليه الخيانة قبل ذلك ثبوتاً لا مطعن فيه فثبوت كونه خائناً رجح عنده طرف الاحتياط للمال ليقر به، أما الذي لم يثبت عليه الخيانة سابقاً فلم يقل بضربه ليقر.
وثبوت الخيانة له أثره في الشرع، فمن قذف من ثبت عليها الزنا لا يُحد بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}.. فمفهوم(32/9)
ص -11-…قوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} أن الذين يرمون المحصنات لا تثبت عليهم تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً...} الآية. قالوا: وفي بعض الروايات لحديث الإفك أن علياً ضرب بريرة لتخبر بالحقيقة عن عائشة، وضربه لها مصلحة مرسلة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن حجر أن رواية الضرب المذكورة جاءت من رواية أبي أوس وابن إسحاق، قلت: وقد ثبت في صحيح مسلم ما لفظه: "فانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول صلى الله عليه وسلم" الحديث، وبريرة مسلمة، وانتهراها من غير ذنب أذى لها بلا موجب، وأذى المسلم حرام وكان مستند من انتهرها هو مطلق المصلحة المرسلة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو تقرير منه للعمل بالمصلحة المرسلة في الجملة1 .
واحتج مالك للعمل بالمصالح المرسلة بأن الصحابة كانوا يعملون بها من غير أن يخالف أحد، قال علماء المالكية ومن أمثلة ذلك:
نقط المصحف، وشكله، وكتابته، لأجل حفظه في الأوليين من التصحيف، وفي الثالث من الذهاب والنسيان، قالوا: ومن أمثلة ذلك حرق عثمان رضي الله عنه للمصاحف وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف. قالوا: ومن أمثلة تولية أبي بكر لعمر لأنه لا مستند له فيها إلا المصلحة المرسلة على التحقيق، وقول بعضهم إنه من القياس خلاف الظاهر، يعنون قياس العهد على العقد.
وقالوا: ومنه ترك عمر الخلافة شورى بين ستة لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وقالوا ومن أمثلة ذلك هدم عثمان وغيره الدور المجاورة للمسجد عند ضيق المسجد لأجل مصلحة توسعته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(32/10)
(1) وفي غزوة خيبر لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم كنانة بن الربيع عن المال الذي خرج به من المدينة وهو كثير فقال كنانة قد أكلته الأيام فقال النبي صلى الله عليه وسلم المال كثير والزمن قليل ووكل أمره إلى الزبير بن العوام رضي الله عنه فحبسه فأقره بالمال من خربة كان قد دفنه فيها.(32/11)
ص -12-…قالوا ومن أمثلة ذلك زيادة عثمان لأحد الأذانين في الجمعة لكثرة الناس، قالوا: ومنها اشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية واتخاذها سجنا لمعاقبة أهل الجرائم، وقالوا: السجن من العقوبات الشديدة، ولذا قرن بالعذاب الأليم في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقالوا: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر سجن، فلما انتشرت الرعية ابتاع بمكة داراً وجعلها سجناً يسجن فيها، قالوا: وفيه دليل على جواز اتخاذ السجن، وقد سجن عمر الحطيئة على الهجو كما يدل له قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ…زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة…فامنن عليك سلام الله يا عمر
وقد سجن عمر رضي الله عنه صبيغاً على سؤاله عن المتشابه، وسجن عثمان رضي الله عنه ضابيء بن حارثة، وكان من لصوص بني تميم، ومات في السجن، وقد حاول قتل عثمان وهو في سجنه كما يدل له قوله:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني…تركت على عثمان تبكي حلائل
قالوا: وسجن علي رضي الله عنه في الكوفة، وسجن ابن الزبير في مكة، قالوا: ومن أمثلة ذلك تدوين الدواوين، لأن أول من دونها في الإسلام عمر رضي الله عنه ولم يتقدم فيه ولا في شيء مما ذكر قبله، ولا في نظيره أمر من الشارع، فكتابة عمر أسماء الجند في ديوان يعرف به الجند وتميز به أهل كل ناحية ويعرف به من تخلف ممن لم يتخلف وموافقة جميع الصحابة على ذلك من غير نكير لمجرد المصلحة المرسلة مع أنه ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه(32/12)
ص -13-…وسلم لم يتفقد كعب بن مالك ولم يعلم بتخلفه حتى وصل تبوك ونحو ذلك من الوقائع التي ذكروا والتي لم يذكروها حجة ظاهرة لمالك فيما شابهها.
واعلم أن العلماء غير مالك اختلفوا في العمل بالمصلحة المرسلة، قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث تقسيم المناسب الذي ذكرنا إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل ما نصه: "فإن دل الدليل إلغائه فلا يعلل به، وإلا فهو المرسل قَبِله مالك مطلقاً، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقاً، وقوم في العبادات....الخ".
وقال شارحه صاحب الضياء اللامع: "وما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إهدار، ولكنه على سنن المصالح وتتلقاه العقول بالقبول فهو المرسل، واختلف في العمل به على مذاهب:
أحدهما: ردُّه وبه قال القاضي أبو بكر، والشافعي في أحد قوليه، وعزاه المصنف يعني ابن السبكي إلى الأكثر.
والثاني: اعتباره مطلقاً وبه قال مالك وحكاه القرافي في شرح المحصول عن معظم الحنفية، وهو أحد قولي الشافعي، وقد قال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام يعني إمام الحرمين التفريق بين المذهبين ولا يجد إلى ذلك سبيلاً أبداً، ثم يقال له: ما ذكرته من التقييد لقول الشافعي من التقريب من قواعد الشريعة ما مأخذه وما المراد به، وفي أي جهة يشترط التقارب؟ أفي مجرد المصلحة أم في وجه آخر، أقرب من ذلك؟
فإن اكتفى بمجرد التقارب في المصلحة لزمه إعمال جميع المصالح،(32/13)
ص -14-…وإن اشترط الاشتراك في الوجه الأخص فهو المؤثر بعينه، وبين الدرجتين رتب في القرب والبعد لا تنضبط بحال"، وقد أطال الكلام في المسألة ورد على القاضي والإمام فيما قالاه وقال: "إذا نظر المنصف في أقضية الصحابة رضي الله عنهم يتبين له أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدل الدليل على إلغاء تلك المصلحة، قال: وهو أمر مقطوع به عن الصحابة" ونحوه للقرافي، وقد عدد كثيراً من وقائع الصحابة التي اعتمدوا فيها على مطلق المصلحة من غير أصل تبنى عليه، وقال: "إن مجموع ذلك يفيد القطع".. انتهى محل الغرض منه.
وقال في نفس البحث المذكور: "وقال القرافي في شرح المحصول: يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك بل اشترك فيها جميع المذاهب فإنهم يعللون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المصلحة، ثم إن الشافعية يدعون أنهم أبعد الناس عنها وهم قد أخذوا منها بأوفر نصيب حتى تجاوزوا فيها.
هذا إمام الحرمين قيم مذهبهم ضمن بعض كتبه أمورا من المصالح لم يوجد لها في الشرع أصل يشهد لخصوصها، وكذا فعل الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية فإنه توسع في ذلك توسعاً كثيراً لم يوجد للمالكية منه إلا اليسير..."، وذكر بعض أمثلة مما ذكروه ثم قال: "فلو قيل أن الشافعية هم أهل المصالح المرسلة دون غيرهم لكان ذلك هو الصواب" وقال الغزالي في المستصفى: "وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولابد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:(32/14)
ص -15-…1ـ قسم شهد الشرع باعتبارها.
2ـ وقسم شهد لبطلانها.
3ـ وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها إلى أن قال:
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين، وهذا في محل النظر إلى آخر كلامه الطويل وفيه تقسيم المصالح إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أوضحنا، ومعلوم أن الضروريات يراد بها درء المفسدة عن الدين والنفس، والعقل والنسب والعرض والمال".
وإن كان الغزالي عدها خمساً فحذف العرض، ثم قال بعد ذلك: "فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين يعني الحاجيات والتحسينيات لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل.. إلى أن قال: أما الواقع في رتبة الضروريات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين. ومثاله: أن الكفار لو تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوما لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع.
ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل(32/15)
ص -16-…بأدلة خارجة عن الحصر، لكن توصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لم يحل رمي الترس إذ لا ضرورة. فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لا نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور. وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظاً للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرها..."إلى آخر كلامه.
فتراه في هذا الكلام صرح بجواز العمل بالمصلحة المرسلة بالقيود المذكورة في مسألة تترس الكفار بالمسلمين وذكر أن العمل بها لا يجوز في مرتبة الحاجيات والتحسينيات.
فهنا في المستصفى ذكر جواز العمل بها في خصوص الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات ولكنه ذكر في شفاء الغليل جواز العمل بها في الحاجيات أيضاً.
واعلم أن مسألة التترس المذكورة اعترضت على الغزالي من وجهين: اعترضها السبكي في جمع الجوامع بأنها ليست من المصالح المرسلة(32/16)
ص -17-…لدلالة النصوص على العمل بها فقال: "وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية لأنها مما دل الدليل على اعتباره فهي حق قطعاً، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع.." اهـ من جمع الجوامع.
وتراه زعم أن مسألة الترس ليست من المرسل لشهادة الشرع لها واعترضها أيضاً عليه الأبياري من المالكية وهو من شيوخ ابن الحاجب بأن قال: "ما قاله يعني الغزالي في المسألة المذكورة غير صحيح ولم يبد دليلا على ما ادعاه بل اقتصر على مجرد الدعوى، واعتباره القيود الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية أمر لا يتصور ولا وقوع له في الشريعة أصلا.." اهـ منه بواسطة نقل ابن حلولو في الضياء اللامع.
ثم قال الغزالي في المستصفى: "فإن قيل فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أو لا، قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا دخلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الفرقة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم أنه إذا تعارض شرّان أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرّين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل، عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضاً يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس، لكن هذا تصرف في(32/17)
ص -18-…الأموال، والأمول مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها.
وإنما المحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك" اهـ محل الغرض منه، وهو يدل على العمل بالمصلحة المرسلة في أخذ الإمام الأموال من الناس ليهيئ بها الجند لحفظ بلاد المسلمين من الكفار والظلمة ولا شك أن حفظ بلاد المسلمين يجب على ولاة المسلمين وإن لم يكن لذلك طريق ممكنة إلا أخذ بعض الأموال من الأغنياء. ولا خلاف في ارتكاب أخف الضررين وجواز العمل به وإن كانت مصلحة مرسلة.
واعلم أن ما فعله عمر رضي الله عنه من عدم قسمه للأرض المغنومة من الكفار مع أن ظاهر القرآن يدل على أن أربعة أخماسها للغانمين لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية. أي والأخماس الأربعة الباقية للغانمين.
ولم يفعل عمر بل لم يقسم الأرض المغنومة على الغانمين وإنما تركها لينتفع بها جميع المسلمين في المستقبل لأنها لو قسمت لم يبق خراج يكفي الجيوش لحماية بلاد المسلمين. ولذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لو لا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر"، وفي لفظ في الصحيح عن عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر المسلمين ليس لهم شيء ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها" ليس معناه أن عمر رضي الله عنه خصص عموم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية..
بمصلحة مرسلة كما يظنه بعض المتعلمين الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة، لأن كلام عمر رضي الله عنه صريح في أنه يرى أن الإمام مخير بين قسم الأرض المغنومة على الغانمين، وبين استبقائها لانتفاع(32/18)
ص -19-…جميع المسلمين لأن ذلك مفهوم من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد حضره عمر رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأرض المغنومة تارة وترك قسمتها أخرى، فدل ذلك جواز كلا الأمرين، فقد قسم بعض أرض خيبر وترك بعضها، وقسم أرض قريظة ولم يقسم مكة، فإن قيل أرض خيبر أخذ بعضها عنوة وهو الذي قسم، وبعضها أخذ ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهو الذي لم يقسم.
قلنا: قسم أرض خيبر وترك قسم أرض مكة كلاهما لا نزاع فيه، وهو يكفي لمحل الشاهد.
فإن قيل: مكة فتحت صلحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" كما ثبت في صحيح مسلم.
قلنا: إن التحقيق أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً ولذلك أدلة واضحة منها أنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان، ولو كانت قد فتحت صلحاً لم يقل من دخل داره أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن فإن الصلح يقتضي الأمان العام.
ومنها حديث: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وأنه أذن لي فيها ساعة من نهار"، وفي لفظ: "إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار"، وفي لفظ: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس".
ومنها أنه ثبت في الصحيح أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على(32/19)
ص -20-…المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ثم قال: "يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار" فجاؤوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار هل ترون إلى أوباش قريش؟" قالوا: نعم. قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصداً".
وهو صريح في أن مكة فتحت عنوة، وقتل فيها من الطرفين كما هو معروف ورجزُ حماس بن قيس يخاطب امرأته مشهور في ذلك وهو قوله:
إنك لو شهدت يوم الخندمة…إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة…لهم نهيتٌ خلفنا وهمهمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة…ضربا فلا تسمع إلا غمغمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة
ومنها أيضاً أن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلاً فأراد علي رضي الله عنه قتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وذلك يوم الفتح، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مقيس بن صبابة وابن خطل وجاريتين، ولو كانت فتحت صلحاً لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن مكة فتحت عنوة1 فتركه صلى الله عليه وسلم قسم أرضها وبعض أرض خيبر وقسم بعض أرض خيبر وأرض قريظة يدل على جواز الأمرين وأن ذلك هو الذي لاحظه عمر لكن عمر رضي الله عنه فضل أحد الأمرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل يصلح لذلك أيضا حديث أنتم الطلقاء بعد دخول مكة حيث لو كان هناك صلح من قبل لكانوا بمقتضاه طلقاء، ولما احتيج إلى السؤال: "ماذا تروني فاعل بكم" إذا كان هناك صلح؟..(32/20)
ص -21-…الجائزين استنادا إلى المصلحة المرسلة.
فالحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية، وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال.
واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعاً جديداً خالياً عن دليل أصلاً بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور.
منها: عمل الصحابة رضي الله عنهم بها من غير أن ينكر منهم أحد وهم خير أسوة.
ومنها: أنه قد علم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها ولا سيما إن كانت المصلحة متمحضة لم تستلزم مفسدة ولم تعارض مصلحة راجحة. ولم تصادم نصا من الوحي.
ومنها: أن بعض النصوص قد يدل لذلك كما ذكرنا آنفاً في صحيح مسلم من أن بعض الصحابة انتهر بريرة لتصدُق النبي صلى الله عليه وسلم فيما تعلم عن عائشة وبريرة مسلمة وإيذاء المسلم بالانتهار من غير ذنب حرام، وقد استباحه بعض الصحابة للمصلحة المرسلة وهي تخويف الجارية حتى تقول الحق، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.(32/21)
ص -22-…هكذا قيل ولكن استناد المصلحة المرسلة إلى دليل خاص يخرجها عن كونها مرسلة كما ترى... والعلم عند الله تعالى. فمثال معارضتها لمصلحة أرجح منها: غرس شجر العنب فإن منع وجوده في الدنيا يستلزم مصلحة هي السلامة من عصر الخمر منه، ولكن مصلحة السلامة من عصر الخمر من العنب بإعدامه من الأرض معارضة بمصلحة أرجح منها وهي انتفاع الناس بالعنب والزبيب فهذه المصلحة الراجحة تقدم على تلك المصلحة المرجوحة:
وانظر تدلي دوالي العنب…في كل مشرق وكل مغرب
ومن أمثلة هذا أيضاً إجماع المسلمين قديماً وحديثاً على جواز مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، ولم ينقل عن أحد أنه قال يجب عزل النساء عن الرجال وإسكانهن منفردات عليهن في حصون قوية وأبواب من حديد مفاتيحها بيد من عرف بالتقوى والعفاف وكبر السن والغني بالزوجات، مع أن عزل النساء فيه مصلحة السلامة من الزنا لأن كون الجميع في بلد واحد قد يكون ذريعة إلى التوصل إلى الفاشحة بالإشارات ورمي الأوراق التي فيها مواعيد، والاتصال من فوق السطوح كما قال نصر بن حجاج بن علاط السلمي:
ليتني في المؤذنين نهارا…وأنهم ينظرون من في السطوح
فيشيرون أو يشار إليهم…حبذا كل ذات دل مليح
لأن مصلحة تعاون الذكور والإناث على الدين والدنيا في البلد الواحد بأن يكون الرجل ونساؤه في دارهم يتعاونون بأن يقوم كل بما يليق به من الخدمة أرجح من مصلحة قطع الذريعة إلى الزنا باجتماع الجنسين في البلد الواحد.
ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية ما إذا طلب(32/22)
ص -23-…المسلمون فداء أساراهم من الكفار فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن كان ييسر لهم قتل قدر الأسارى فالمفسدة مساوية وإن كان ييسر لهم قتل أكثر منهم فالمفسدة راجحة.
ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال: أعني متجددة في المستقبل ما وقع من مؤمني قوم نوح عليه السلام فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين يغوث ويعوق، ونسر، وود، وسواع، في حالته الأولى مصلحة وهي التي قصدوها بتصويرهم لأنهم إذا رأوا صورهم تذكروا صلاحهم وعبادتهم فبكوا وعبدوا الله وأطاعوه، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد وهي: أن ذلك التصوير وسيلة للكفر البواح والشرك بالله، لأنهم لما مات أهل العلم منهم وبقي أهل الجهل زين لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبدوها وذلك أول شرك وقع في الأرض، وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة، ولم يتفطن لها عند استعمال المصلحة، وذلك يستوجب الحذر التام من العمل بالمصالح المرسلة خوف استلزامها بعض المفاسد التي تتجدد في المستقبل كما ذكرنا آنفاً.(32/23)
ص -24-…موجز ترجمة صاحب الفضيلة المؤلف رحمه الله.
هو فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ومحمد الأمين اسم مركب علم عليه ابن محمد المختار، جده عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح، ينتهي نسبه إلى جد قبيلة (تجكانت) من أشهر قبائل موريتانيا علماً وفضلاً.
ويرجع نسب تلك القبيلة إلى حمير، نزحت إلى تلك البلاد وحافظت على نسبها وعروبتها.
مولده ومسقط رأسه:
ولد رحمه الله سنة 1325هـ
وكان مسقط رأسه بمديرية كيفا من بلاد موريتانيا من أبوين أبناء عمومة وفي بيت علم رجالاً ونساء.
طلبه للعلم:
كان بدء طلبه في بيت أهله، وتوفي والده وهو في طفولته، فتلقى على أخواله وخالاته...بدأ يحفظ القرآن وتجويده ورسمه، ثم التاريخ والسيرة والأدب وعلوم العربية ومبادئ الفقه...
ثم رحل إلى طلب العلم على كبار مشايخ بلاده على المتبع في بلاده.
المنهج الدراسي:
وكان المنهج الدراسي إفراد العلم بالدرس، فلا يجمع بين فنين في وقت واحد خشية التخليط أو التشويش، فيستقل بالفقه مثلا حتى ينتهي منه ثم يبدأ بالنحو كذلك وهكذا التوحيد فالأصول فالتفسير.. الخ..
وقد برز -رحمه الله- على أقرانه في جميع الفنون، وكان منقطعاً للعلم كلية.
قدومه إلى المملكة:
وكان قدومه -رحمه الله- إلى المملكة عام 1367هـ لأداء فريضة الحج. ثم اعتزم الإقامة وبدأ التدريس في المسجد النبوي ختم فيه التفسير(32/24)
ص -25-…القرآن الكريم مرتين. وفي عام 1371هـ افتتحت المعاهد والكليات في الرياض ودرس بها إلى عام 1381هـ، إذ افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فانتقل إليها..
وقد نفع الله به في كلتا المؤسستين، وتخرج على يديه الآلاف من الطلاب خاصة في التفسير والعقائد والأصول..
وكان -رحمه الله- بجانب تدريسه بالجامعة، عضوا لمجلس الجامعة وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس التأسيسي للرابطة.. وقد ترأس وفد الجامعة إلى إفريقيا، وكان له -رحمه الله- في جميع ذلك الأثر المحمود.
وتوفي -رحمه الله- بعد أن خلف مؤلفات عديدة متنوعة، هي: 1ـ منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.
2ـ دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب بين وجوه أوجه الجمع فيما ظاهر التعارض في كتاب الله.
3ـ مذكرة في أصول الفقه على روضة الناظر المقررة في الجامعة الإسلامية.
4ـ آداب البحث والمناظرة -مقرر في الجامعة الإسلامية-.
5ـ أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن -وصل فيه إلى نهاية سورة المجادلة في سبعة مجلدات كبار-.
وله -رحمه الله- مؤلفات أخرى مخطوطة في بلاده في التاريخ والفقه والمنطق..
كما له العديد من المذكرات الدراسية في التفسير وأصوله وأصول الفقه والمنطق والنحو والصرف.. وله محاضرات طبعت على حساب الجامعة منها:
1ـ آيات الصفات.
2ـ حكمة التشريع.
3ـ المثل العليا في الإسلام.(32/25)
ص -26-…4ـ كمال الشريعة وشمولها.
5ـ المصالح المرسلة. وهي هذه التي نقدم لها.
وقد أملاها فضيلته -رحمه الله- وألقيتها نيابة عنه في الموسم الثقافي لمحاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1390هـ.
ومن مؤلفاته العديدة ومحاضراته المتنوعة تظهر مكانته العلمية، وبالتالي قيمة هذه المحاضرة الخطيرة والتي تمس إليها الحاجة في هذا الوقت الذي تعددت فيه مرافق الحياة وتنوعت أشكال المعاملات.
وفاته:
وكانت وفاته -رحمه الله- ضحى يوم الخميس السابع عشر من ذي الحجة عام 1393هـ، ودفن بمقبرة المعلى بمكة المكرمة، وصلى عليه سماحة رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وصلى عليه بالمسجد النبوي ليلة الأحد فضيلة إمام المسجد النبوي الشريف الشيخ عبد العزيز بن صالح ثم صُلي عليه في أماكن أخرى..رحمة الله تعالى عليه.. وإني لأرجو الله تعالى أن يجعلها مما ورثه من علم ينتفع به وأن يجزل الثواب عليها لكل ساع في نشرها.. وأن يتغمده تعالى بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه..
كتبها تلميذه: عطية محمد سالم -قاض بمحكمة المدينة المنورة-.(32/26)
عنوان الكتاب:
الموافقات – المقدمات
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(33/1)
ص -1-…مقدمة المحقق:
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(33/2)
ص -2-…أما بعد؛ فقد مضت حركة الاجتهاد في الدين؛ قوية سديدة، مطردة نامية، خصبة الإنتاج، ميمونة الولائد؛ من منتصف القرن الثاني، حيث بدأ استقرار المذاهب بوضع الأصول، وتمييز العام منها الجامع بين المذاهب المختلفة، والخاص الذي ينفرد به مذهب عن مذهب آخر، وتتابع تولد المذاهب إلى منتصف القرن الرابع، فكلما قطع واحد منها دور التأصيل على يد مؤسسه ومتخذ أصوله؛ دخل في دور التفريع، وهو دور الاجتهاد المقيد؛ فتلاحقت المذاهب على دور التفريع إلى استهلال القرن الخامس، وهنالك تمحض الفقه لعمل جديد هو عمل التطبيق بتحقيق الصور وضبط المحامل؛ فكان اجتهاد جديد هو الاجتهاد في المسائل، ثم دخل الفقه في أوائل القرن السادس دون الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها والاختيار فيها بالترجيح والتشهير، حتى انتهى ذلك الاختيار إلى عمل تصفية، برز في دور التقنين، بتأليف مختصرات محررة على طريقة الاكتفاء بأقوال تثبت، هي الراجحة المشهورة، وأقوال تلغى هي التي ضعفها النظر في الدور الماضي باعتبار أسانيدها أو باعتبار مداركها أو باعتبار قلة وفائها بالمصلحة التي تستدعيها مقتضيات الأحوال.
وبذلك وقف سير الفقه عند تلك المختصرات، وأقبل الفقهاء يجمعون دراساتهم حول المختصرات، مقتصرين في تخريج المسائل عليها في حال أن صورا من الوقائع الحادثة التي لم تشتمل تلك المختصرات على نصوص أحكامها كانت تتعاقب ملحة في طلب الأجوبة التي تحل مشاكلها، والأحكام التي تقرر وجهة السير فيها.
فكان ذلك ملفتا أنظار الفقهاء إلى ضيق النطاق الالتزامي الذي ضربوه على أنفسهم باقتصار على المختصرات، وحاديا بهم إلى الرجوع إلى المجال الأوسع: مجال الأقوال العديدة، والآراء المتباينة داخل كل مذهب، ذلك(33/3)
ص -3-…المجال الذي لم يزل يستفحل به الهجران منذ القرن السادس.
وبتلك الرجعة التي خرج بها الفقه عن نطاق الالتزام؛ وجد الفقهاء أنفسهم في وضع حرج دقيق، من حيث إن المجتمع الإسلامي بما شاع فيه من الضعف والانحلال قد أخذ ينزلق خارج نطاق الحدود والأخلاق الشرعية؛ حتى أصبحت صور الحياة الفردية والاجتماعية مختلفة في نسب متفاوتة عن المُثُل العليا التي رسمتها أحكام الدين الإسلامي.
ومن حيث إن الفقيه الذي يضطلع بواجبه في تقويم الحياة الفردية والاجتماعية على مبادئ الدين وتعاليمه يكون بين أمرين:
إما أن يحاول حمل الناس على الطريقة الملتزمة والأحكام التي تعاقبت الأجيال منذ قرنين وأكثر على احترامها بحرمة الدين والانكسار من الخروج عنها مخالفة وعصيانا؛ فيكون في حملهم على ذلك من أعنات المكلفين، وتحجير الواسع، والتزام ما لا يلزم ما لا يرضاه لنفسه وللناس الفقيه الموفق.
وإما أن يجر الفقيه عامة الناس وراءه إلى المجال الأوسع الذي يصبو إليه؛ حيث الاختلاف، والأنظار، وأعمال المناسبات والضرورات؛ فيكون قد جرأهم على ما كانوا مشفقين منه، مستعظمين لأمره، غير مستهترين فيه؛ من مخالفة الأحكام التي عرفوها ودانوا بها، وبذلك ينفتح للأهواء باب يلج منه كل إنسان إلى اختيار ما يوافق ميله، وينسجم مع حالته؛ فيصبح الدين أمرا نسبيا إضافيا، يختلف عند كل شخص أو جماعة عما هو عليه عند شخص آخر أو جماعة آخرين؛ حتى تختل الشريعة وتنحل عراها.
لا سيما وقد ألف الناس أمورا شائعة بينهم لم يزالوا يألفونها والعلماء ينكرونها، وهي التي يشنع العلماء على الناس أخذهم بها, باعتبار كونها من البدع على النحو الذي أورده أبو بكر الطرطوشي، فإذا فتح باب الاختيار والخروج عن(33/4)
ص -4-…الأحكام الفقهية المألوفة، والحكم على بعض الأشياء بالحسن والمشروعية، مع أن السلف لم يحسنوها ولم يقروا مشروعيتها؛ فإنهم لا يلبثون أن يجروا البدع ذلك المجرى، ويتأولوا لها أوجها تئول بها إلى الحسن والمشروعية؛ فكيف يستطاع بعد ذلك تغيير المنكر ومقاومة البدعة؟!
تلك هي دقة الموقف الحرج الذي وقفه الفقهاء في القرن الثامن، وذلك هو سر البطولة الفكرية التي تمثلت في أول متحرك للخروج بالفقه وأهله من ذلك الموقف الحرج الدقيق، وهو: الإمام أبو إسحاق الشاطبي1.
التعريف بكتاب الموافقات2:
لما كان الكتاب العزيز هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وكانت السنة راجعة في معناها إليه؛ تُفَصِّل مجمله، وتُبيِّن مشكله، وتبسط موجزه؛ كان لا بد -لِمُريد اقتباس أحكام هذه الشريعة بنفسه- من الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما تفرع عنهما بطريق قطعي من الإجماع والقياس.
ولما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب، وكانت لهم عادات في الاستعمال، بها يتميز صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ونصه وفحواه، إلى غير ذلك؛ كان لا بد -لطالب الشريعة من هذين الأصلين- أن يكون على علم بلسان العرب في مناحي خطابها، وما تنساق إليه أفهامُها في كلامها؛ فكان حذق اللغة العربية بهذه الدرجة ركنا من أركان الاجتهاد؛ كما تقرر ذلك عند عامة الأصوليين، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "رسالة الأصول".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "70-72" للشيخ محمد الفاضل بن عاشور.
2 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".(33/5)
ص -5-…هذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها:
إما حفظ شيء من الضروريات الخمس1 "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"، التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة.
وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج.
وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم الخلاق ومحاسن العادات.
وإما تكميل نوع من النواع الثلاثة بما يُعين على تحققه.
ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها.
ومعلوم أن هذه المراتب الثلاث تتفاوت في درجات تأكد الطلب لإقامتها، والنهي عن تعدي حدودها.
وهذا بحرٌ زاخر، يحتاج إلى تفاصيل واسعة، وقواعد كلية، لضبط مقاصد الشارع فيها "من جهة قصده لوضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضعها للأفهام بها، وقصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقصده في دخول المكلف تحت حكمها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الخمسة".(33/6)
ص -6-…تحقيق هذه المقاصد، وتحرِّي بسطها، واستقصاء تفاريعها، واستثمارها من استقراء موارد الشريعة فيها؛ هو معرفة سر التشريع، وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
إذ إنه لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا؛ لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع، ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع؛ فالواجب إذًا اعتبار الجزئيات بالكليات، شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات.
وإلى هذا أشار الغزالي فيما نقله عن الشافعي، بعد بيان مفيد فيما يُراعيه المجتهد في الاستنباط؛ حيث قال: "ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدة الرَّدْع، على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي".
ومن هذا البيان عُلِم أن لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها.
أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع، كما يعرف ذلك من وقف على شيء من محاوراتهم عند أخذ رأيهم واستشارة الأئمة لهم في الأحكام الشرعية التي كانوا يتوقفون فيها.(33/7)
ص -7-…وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين؛ فلا بد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه للأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر، وسموها "أصول الفقه".
ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية؛ أدرجوا في هذا الفن ما تمس إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر مما قرره أئمة اللغة، حتى إنك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئا من مقدمات علم الكلام ومسائله.
وكان الأجدر -في جميع ما دونوه- بالاعتبار من صلب الأصول هو ما يتعلق بالكتاب والسنة من بعض نواحيهما، ثم ما يتعلق بالإجماع والقياس والاجتهاد.
ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا؛ فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها، وأنها بحسب الأول ثلاثة أقسام: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات... إلخ، مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جلبت إلى الأصول من علوم أخرى.
وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك، دائر بين تلخيص وشرح, ووضع له في قوالب مختلفة.
وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه؛ حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن(33/8)
ص -8-…الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل؛ فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه "الموافقات"، تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية؛ لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة، وأن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس اختلافا في الخطاب الشرعي نفسه، بل عند اختلاف العوائد ترجع كل عادة إلى أصل شرعي يُحكمُ به عليها، وأن هذه الشريعة -كما يقول- خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تحمل الجماء الغفير؛ ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة؛ فهيما وغبيا.
المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه1:
لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشرعية، وأعرق نسب بعلم الأصول؛ فوضع في فاتحة كتابه ثلاث عشرة قاعدة، يتبعها خمسة فصول جعلها لتمهيد هذا العلم أساسا، ولتمييز المسائل التي تعتبر من الأصول نبراسا، ثم انتقل منها إلى قسم الأحكام الخمسة الشرعية والوضعية، وبحث فيها من وجهة غير الوجهة المذكورة في كتب الأصول، وأمعن بوجه خاص في المباح، والسبب، والشرط، والعزائم، والرخص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز أيضا.(33/9)
ص -9-…وناهيك في هذا المقام أنه وضع في ذلك ربع الكتاب، تصل منه إلى علم جم، وفقه في الدين، وقد رتب عليه في قسم الأدلة قواعد ذات شأن في التشريع، وهناك يبين ابتناء تلك القواعد على ما قرره في قسم الأحكام؛ حتى لترى الكتاب آخذا بعضه بحجز بعض.
ثم إن عرائس الحكمة ولباب الأصول، التي رسم معالمها وشد معاقلها في مباحث الكتاب والسنة، ما كان منها مشتركا وما كان خاصا بكل منهما، وعوارضهما؛ من الأحكام، والتشابه، والنسخ، والأوامر، والنواهي، والخصوص، والعموم، والإجمال، والبيان، هذه المباحث التي فتح الله عليه بها لم تسلس له قيادها، وتكشف له قناعها؛ إلا باتخاذه القرآن الكريم أنيسه، وجعله سميره وجليسه على ممر الأيام والأعوام، نظرا وعملا، وباستعانته على ذلك بالاطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في كلام الأئمة السابقين، والتزود من آراء السلف المتقدمين، مع ما وهبه الله من قوة البصيرة بالدين، حتى تشعر وأنت تقرأ في الكتاب كأنك تراه وقد تسنم ذروة طود شامخ، يشرف منه على موارد الشريعة ومصادرها، يحيط بمسالكها، ويبصر بشعابها, فيصف عن حس، ويبني قواعد عن خبرة، ويمهد كليات يشدها بأدلة الاستقراء من الشريعة؛ فيضم آية إلى آيات، وحديثا إلى أحاديث، وأثرا إلى آثار؛ عاضدا لها بالأدلة العقلية والوجوه النظرية حتى يدق عنق الشك، ويسد مسالك الوهم، ويظهر الحق ناصعا بهذا الطريق الذي هو نوع من أنواع التواتر المعنوي، ملتزما ذلك في مباحثه وأدلته حتى قال بحق: إن هذا المسلك هو خاصية كتابه.
ولقد أبان في هذه المسائل منزلة الكتاب من أدلة الشريعة، وأنه أصل لجميع هذه الأدلة، وأن تعريفه للأحكام كلي، وأنه لا بد له من بيان السنة، كما بيَّن أقسام العلوم المضافة إلى القرآن، وما يحتاج إليه منها في الاستنباط وما لا يحتاج إليه، وتحديد الظاهر والباطن من القرآن، وقسم الباطن الذي يصح(33/10)
ص -10-…الاستنباط منه والذي لا يصح الاستنباط منه، وأثبت أن المكي اشتمل على جميع كليات الشريعة، والمدني تفصيل وتقرير له، وأنه لا بد من تنزيل المدني على المكي، وأن النسخ لم يرد على الكليات مطلقا، وإنما ورد على قليل من الجزئيات لأسباب مضبوطة، وحدد الضابط للحد الأعدل الأوسط في فهم الكتاب العزيز الذي يصح أن يبنى عليه اقتباس الأحكام منه، ثم بين رتبة السنة ومنزلتها من الكتاب، وأنها لا تخرج في أحكام التشريع عن كليات القرآن1، وأثبت ذلك كله بما لا يدع في هذه القواعد شبهة.
وقد جعل تمام الكتاب باب الاجتهاد ولواحقه؛ فبيَّن أنواع الاجتهاد، وما ينقطع منها، وما لا ينقطع إلى قيام الساعة، وأنواع ما ينقطع، وما يتوقف منها على الركنين -حذق اللغة العربية حتى يكون المجتهد في معرفة تصرفاتها كالعرب، وفهم مقاصد الشريعة على كمالها- وما يتوقف منها على الثاني دون الأول، وما لا يتوقف على واحد منهما.
ثم أثبت أن الشريعة ترجع في كل حكم إلى قول واحد، مهما كثر الخلاف بين المجتهدين في إدراك مقصد الشارع في حكم من الأحكام، وبنى على هذا الأصل طائفة من الكليات الأصولية، ثم بين محال الاجتهاد، وأسباب عروض الخطأ فيه... إلخ.
وفيما ذكرناه إشارة إلى قطرة من ساحل كتاب "الموافقات" الذي لو اتخذ
منارا للمسلمين بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لكان منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعتنى الشيخ العلامة عبد الغني عبد الخالق بمناقشة أدلة المصنف حول هذا الزعم عناية دقيقة فائقة، وذكرنا مناقشاته عند كلام المصنف في المجلد الأخير من كتابنا هذا(33/11)
ص -11-…الميدان؛ سوى مجرد الدعوى، وتمكن الهوى، وترك أمر الدين فوضى بلا رقيب.
فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ الرأي من غير إحاطة بمقاصد الشارع لتكون ميزانا في يده لهذه الأدلة الجزئية، وفريقا آخر يأخذ الأدلة الجزئية مأخذ الاستظهار على غرضه في النازلة العارضة؛ فيحكِّم الهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تبعا لغرضه، من غير إحاطة بمقاصد الشريعة ولا رجوع إليها رجوع الافتقار، ولا تسليم لما روي عن ثقات السلف في فهمها، ولا بصيرة في وسائل الاستنباط منها، وما ذلك إلا بسبب الأهواء المتمكنة من النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل، واطراح النصفة وعدم الاعتراف بالعجز، مضافا ذلك كله إلى الجهل بمقاصد الشريعة والغرور بتوهم بلوغ درجة الاجتهاد1، وإنها لمخاطرة في اقتحام المهالك, أعاذنا الله.
ونعود إلى الموضوع؛ فنقول: إن صاحب "الموافقات" لم يذكر في كتابه مبحثا واحدا من المباحث المدونة في كتب الأصول؛ إلا إشارة في بعض الأحيان لينتقل منها إلى تأصيل قاعدة، أو تفريع أصل, ثم هو مع ذلك لم يغض من فضل المباحث الأصولية، بل تراه يقول في كثير من مباحثه: إذا أضيف هذا إلى ما تقرر في الأصول أمكن الوصول إلى المقصود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نجد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "7/ 197-198" ينظر نظرة أخرى لهذا الموقف السلبي من "المقاصد"، ويعتذر لهم بأنهم كانوا خائفين على الشريعة من الهدم، ويذكر أنهم "فروا من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا -مع اعتبارهم كلهم له- خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم، وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم؛ فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية؛ فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسائل العلة في القياس".(33/12)
ص -12-…وجملة القول أن كلا مما ذكره في كتب الأصول، وما ذكره في "الموافقات"؛ يعتبر كوسيلة لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة؛ إلا أن القسم المذكور في الأصول على كثرة تشعبه، وطول الحجاج في مسائله، تنحصر فائدته في كونه وسيلة؛ حتى لطالما أوردوا على المشتغلين به الاعتراض بأنه لا فائدة فيه إلا لمن يبلغ درجة الاجتهاد؛ فكان الجواب الذي يقال دائما: إن فائدته لغير المجتهد أن يعرف كيف استنبطت الأحكام، ولكن التسليم بهذا الجواب يحتاج إلى تسامح وإغضاء كثير؛ لأنه إنما يعرف به بعض أجزاء وسيلة الاستنباط مفككة منثورة، والبعض الآخر -وهو المتعلق بركن معرفة مقاصد الشريعة- فاقد, وما مثله في هذه الحالة إلا كمثل من يريد أن يعلمك صنعة النساجة فيعرض عليك بعض أجزاء آلة النسيج محلولة مبعثرة الأجزاء، ولا تخفى ضئولة تلك الفائدة.
أما القسم الذي ذكره الشاطبي في الأجزاء الأربعة من كتابه؛ فهو وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا؛ إلا أنه في ذاته فقه في الدين، وعلم بنظام الشريعة، ووقوف على أسس التشريع، فإن لم نصل منه إلى الاتصاف بصفة الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط؛ فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشارع، وسر أحكام الشريعة، وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن؛ يدفع عنه الحيرة، ويطرد ما يلم به من الخواطر، ويجمع ما زاغ من المدارك؛ فلله ما أفاد الشريعة الإسلامية هذا الإمام رضي الله عنه!
السبب في عدم تداول الكتاب1:
بقي أن يقال: إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تحته مأخوذ من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".(33/13)
ص -13-…على ما وصفت؛ فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة، بَلْهَ العكوف على تقريره، ونشره بين علماء الشرق، فلو لم تكن الكتب المشتهرة أكثر منه فائدة ما احتجب واشتهرت؟
وجوابه: أن هذا منقوض؛ فإنه لا يلزم من الشهرة عدمها فضل ولا نقص، فالكتب عندنا كالرجال؛ فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر؟ ويكفيك تنبيها على فساد هذه النظرية ما هو مشاهد؛ فهذا كتاب "جمع الجوامع بشرح المحلى" بقي قرونا طويلة، هو كتاب الأصول الوحيد الذي يدرس في الأزهر ومعاهد العلم بالديار المصرية، مع وجود مثل "الإحكام" للآمدي، وكتابي "المنتهى" و"المختصر" لابن الحاجب, و"التحرير"، و"المنهاج" و"مسلم الثبوت"، وغيرها من الكتب المؤلفة في نفس القسم الذي اشتمل عليه "جمع الجوامع".
وقد نسجت عليها عناكب الإهمال؛ فلم يبرز بعضها للتداول والانتفاع بها إلا في عهدنا الأخير، ولا يختلف اثنان في أن "جمع الجوامع" أقلها غناء، وأكثرها عناء.
وإنما يرجع خمول ذكر الكتاب إلى أمرين1:
أحدهما: المباحث التي اشتمل عليها.
وثانيهما: طريقة صوغه وتأليفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يضاف إليهما ما انتشر من أساليب عقيمة في درس العلوم وتحصيلها بداية من القرن التاسع؛ فقد أخذ الناس يعكفون على "المختصرات" يحفظونها، ويرددون أقوال غيرهم، وتركوا الاجتهاد والبحث والابتكار.
انظر: "أليس الصبح بقريب" "79" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص107" لحمادي العبيدي.(33/14)
ص -14-…فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يُسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول؛ إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه, فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة, فلم تتطاول همة من سمع منهم بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه، واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها فيما ألفوا، ولفْتِ طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها.
والثاني أن قلم أبي إسحاق -رحمه الله- وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا؛ كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه؛ فهناك ترى ذهنا سيالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء من المفردات ولا أغراض المركبات؛ إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه؛ فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل؛ فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه، ومع هذا؛ فالكتاب يعين بعضه على بعض؛ فتراه يشرح آخره أوله وأوله آخره.(33/15)
ص -15-…مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب:
الشاطبي -رحمه الله- واسع الاطلاع، ينقل من كثير من الكتب، ولكنه قليل التصريح بأسمائها1، ويميل إلى الإلغاز والإبهام في ذلك، ولا سيما في كتابنا هذا وكتابه الآخر "الاعتصام"، خلافا لـ"الإفادات والإنشادات".
والإمام مالك وكتبه وكتب مذهبه وأصحابه2 هي أكثر ما يذكر في كتابه هذا؛ فهو ينقل كثيرا من "الموطأ"، وصرح3 به مرارا؛ كما في "2/ 116، 295، 4/ 112، 131، 320..."، ومن شروحه كـ"القبس" لابن العربي كما في "3/ 197, 198، 199، 201..."، و"المنتقى" للباجي كما في "4/ 109"، ولم يصرح بهما.
وينقل أيضا من "المدونة" وصرح بذلك في موطنين "1/ 387، 3/ 498"، ونقل منها ولم يصرح بها في مواطن، ومن "العتبية" وصرح بها في "2/ 361 و3/ 147، 158، 271 و4/ 110 و5/ 198"، ومن شرحها "البيان والتحصيل" ولم يصرح به، ونقل منه في مواطن كثيرة منها "3/ 498 و4/ 110".
ونقل أيضا من كثير من كتب المالكية؛ كـ"الموَّازية" في "5/ 85"، و"نوازل ابن رشد" في "5/ 100"، و"مختصر ما ليس في المختصر" في "1/ 273"، و"الكافي" في "1/ 387"، و"المبسوطة" في "1/ 386، 387"، و"مقدّمات ابن رشد" في "1/ 187"، و"الأموال" للداودي "1/ 184"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مع ملاحظة أنه يعزو الأقوال لقائليها إلا في القليل النادر.
2 على اختلاف فنونها؛ كأحكام للقرآن، أو شرح للحديث، أو الفقه، أو الأصول...
3 ونقل منه ولم يصرح به مرارا أيضا، والظاهر أنه ينقل من روايات كثيرة منه؛ فها هو يعزو حديثا إليه في "4/ 320"، ولم أظفر به في رواياته الخمس المطبوعة للآن.(33/16)
ص -16-…وصرح بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي -وأكثر جدا- من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض -وصرح به في موطنين فقط، هما في "3/ 84 و5/ 96"- ومن "الرسالة" للقشيري، ومن "جامع بيان العلم"1 لابن عبد البر.
وهو ينقل من هذه الكتب أخبار وتراجم وأقوال الصحابة والتابعين، وكذا أخبار مالك وأصحابه، وأخبار الزهاد والعابدين، وقصصهم وحكاياتهم، ونقل من "جامع بيان العلم" أيضا كثيرا من الأحاديث والأخبار والآثار، ومن كتاب ابن عبد البر الآخر "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"؛ كما تراه في "3/ 203"، علما بأنه لم يصرح قط بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي من كثير من كتب التفسير وأحكام القرآن وفضائله وناسخه ومنسوخه ومشكله؛ مثل: "أحكام القرآن" لإسماعيل بن إسحاق وصرح به في "5/ 33"، و"أحكام القرآن" لابن العربي وصرح به في "5/ 196"، ونقل منه ولم يصرح به في مواطن كثيرة منها "2/ 273 و4/ 195"، ونقل مواطن من "تفسير سهل بن عبد الله التستري"؛ كما تراه في "4/ 162، 242، 245"، وكذا من كتاب "فضائل القرآن" لأبي عبيد وصرح بذلك في "1/ 51"، ونقل منه ولم يصرح في "4/ 148، 172"، ومن "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي وصرح به في "1/ 388 و3/ 340"، ولأبي عُبيد ولابن النحاس؛ كما تراه لهما في "3/ 340"، ولمكي بن أبي طالب؛ كما تراه في "3/ 346، 363" ولم يصرح بأسمائها، و"مشكل القرآن" لابن قتيبة وصرح به في "5/ 150" ولم يصرح به في "2/ 207".
أما كتب الحديث والرواية والأخبار والرجال؛ فهو ينقل من دواوين السنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مثلا: "4/ 75 و5/ 107، 122-123".(33/17)
ص -17-…المشهورة؛ مثل: "الصحيحين"، و"الموطأ"، و"سنن أبي داود"، و"سنن الترمذي"، و"سنن النسائي".
وينقل أيضا من "مسند البزار"، و"جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري"، و"الجهاد" لابن حبيب، و"مشكل الحديث"1 لابن قتيبة، و"فوائد الأخبار" للإسكاف، و"مشكل الآثار"2 للطحاوي، و"المؤتلف والمختلف" لعبد الغني بن سعيد الأزدي، و"الدلائل"3 لثابت، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض4، وصرح بأسماء هذه الكتب جميعا، وترى مواطن ذلك في فهرس الكتب في المجلد السادس.
وقد ظفرتُ من خلال التحقيق بنقولات للشاطبي في كتابه هذا من كتب الحديث وشروحاته لم يصرِّح بأسمائها؛ مثل: "القبس"، و"المنتقى" -كلاهما شرح لـ"الموطأ"، ومضى بيان مواطن ذلك- و"المعلم بفوائد مسلم" للمازري في "3/ 456، 464-465 و5/ 290، 418، 420"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" في "3/ 70"، و"تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري في "5/ 288"، و"إعلام الحديث شرح البخاري" للخطابي في "5/ 93".
ووجدته ينقل أحاديث وآثارا من "الشفا" للقاضي عياض، و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، و"الإحياء" للغزالي.
والغزالي من أكثر الأعلام المذكورين في كتاب الشاطبي هذا، وكتبه التي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "4/ 226، 234".
2 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "3/ 275".
3 انظر عنه: كتابنا "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" "رقم 536".
4 ونقل منه في "5/ 290" ولم يصرح باسمه.(33/18)
ص -18-…صرح بالنقل منها كثيرة؛ منها: "الإحياء" -وأكثر من النقل منه- و"إلجام العوام"، و"جواهر القرآن"، و"المستظهرية" -أو "فضائح الباطنية"- و"مشكاة الأنوار"، و"المنقذ من الضلال"1، و"بعض كتبه" في "5/ 289"، وهو من أكثر من يذكرهم من الأصوليين، وينقل من كتابه "المستصفى" ولم يصرح به2، ومن "شفاء الغليل" وصرح به في "5/ 20".
ويليه في الذكر: الرازي، ونقل من كتابه "المحصول" كثيرا3، وصرح به في موطن واحد فقط هو في "2/ 76"، و"التنقيح" وصرح به أيضا في "2/ 76".
ثم الجويني، ونقل منه كثيرا، وصرح بـ"البرهان" مرة واحدة في "1/ 364"، و"الإرشاد" كذلك في "3/ 537".
ثم القرافي، ولم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "الفروق"4 في "1/ 390، 395 و4/ 65، 106"، ومن "نفائس الأصول شرح المحصول" في "2/ 68-80، 86".
ثم العز ابن عبد السلام، لم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "القواعد الكبرى" وقد أبهمه.
وينقل أيضا من "القواعد" لشيخه المقري ولم يصرح باسمه، تراه في "1/ 111".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مواطن النقل من هذه الكتب في الفهارس آخر الكتاب "فهرس الكتب".
2 انظر مثلا: "5/ 54، 55".
3 مثل "5/ 105".
4 انظر مقارنة بديعة بين "الفروق" و"الموافقات" في: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 94-95" للأستاذ فتحي الدريني.(33/19)
ص -19-…ولا ينسى في هذا المقام الإمام الشافعي؛ فإن الشاطبي استفاد منه، ونقل من كتابه العظيم "الرسالة" وصرح به فقط في مرتين "2/ 104 و5/ 56".
ونقل أيضا من كتابه "الأم" ولم يصرح به، وهناك إشارات تنبئ على ذلك، انظر منها: "2/ 324"، واستفاد الشاطبي أيضا من شروحات "الرسالة"، وصرح بأنه وقف على "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب في "3/ 127".
ونقل الشاطبي أيضا من كتب الباجي وصرح بأسماء بعضها؛ مثل: "أحكام الفصول" في "5/ 421" -ونقل منه أيضا في "5/ 109، 111" ولم يصرح باسمه- و"التبيين لسنن المهتدين" في "5/ 89".
ونقل عن ابن حزم ولعل ذلك في "النبذ"1 و"مراتب الإجماع"2، وعن ابن بشكوال، ولعل ذلك في "المنقطعين إلى الله"، وهو مطبوع، ولكن لم أظفر به بعد.
ومن مصادر الشاطبي في كتابه هذا بعض كتب اللغة والأدب؛ كـ"الكتاب" لسيبويه وصرح بالنقل منه في "5/ 54"، و"الكامل" للمبرد وصرح بالنقل منه في "4/ 283"، و"الخصائص" لابن جني ولم يصرح باسمه، ونقل منه في مواطن منها "2/ 133"، و"درة الغواص" أو "مقامات الحريري" وصرح بالنقل منه في "3/ 288".
ونقل أيضا من بعض كتب الفلسفة؛ مثل كتاب ابن رشد "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "4/ 189".
2 انظر: "4/ 82".(33/20)
ص -20-…ونقل أيضا من بعض كتب الشافعية، ولم أظفر له بنقل من كتب الحنفية أو الحنابلة، وصرح في "3/ 131" أن هذه الكتب كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب.
ومن كتب الشافعية التي نقل منها: "الحاوي الكبير" للماوردي؛ كما في "4/ 111"، ولم يصرح باسمه، ونقل أيضا من "الورع" للصنهاجي فقرات طويلة، ولم يذكر اسمه ولا اسم كتابه؛ كما تراه في التعليق على "1/ 171".
هذه هي المصادر التي ظفرتُ بنقل للشاطبي منها1، ولم أفز بذلك إلا بالمرور على كثير من الكتب، وتقليب آلاف الصفحات، ومضي عشرات الساعات، ولعلي في قابل الأيام أظفر بزوائد فرائد؛ فإن النية متوجهة للعناية بهذا الكتاب حتى بعد طبعه ونشره؛ ليظهر إن شاء الله في طبعات لاحقات مجودا بالقدر الذي ينبغي أن يحتله بين سائر الكتب، وما ذلك على الله بعزيز.
مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب:
أجمع مترجمو الشاطبي والباحثون المتأخرون -ولا سيما في علم "مقاصد الشريعة"- على أن الشاطبي هو الإمام الذي فتح الباب واسعا لطلبة العلم وأهله للتطلع إلى أسرار الشريعة وحكمها، ومهد لهم طريق التعامل مع مقاصدها وكلياتها، جنبا إلى جنب مع نصوصها وجزئياتها، بل يكاد2 هؤلاء أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عدا مجالسه ومناظراته، وصرح ببعضها في كتابنا هذا منها "4/ 13"، وكذا مراسلاته ومكاتباته للعلماء، كما وقع له في مسألة "مراعاة الخلاف".(33/21)
2 ظهرت نظرية "المقاصد" قبل الشاطبي على هيئة لمحات وخطرات متناثرة، ثم أخذت تبرز لهذا الفن قواعد، وتتكامل، وتتميز شيئا فشيئا عن قواعد أصول الفقه، واعتمد الشاطبي في كتابه هذا على جهود سبقته لكثير من العلماء، انظر تفصيل ذلك في الكتب التي أفردت "المقاصد" بالدراسة؛ مثل: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة" "ص45 وما بعد" لعلال الفاسي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص149 وما بعد" ليوسف العالم، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص134 وما بعد" لحمادي العبيدي، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص259 وما بعد" لأحمد الريسوني.
1- "نيل الابتهاج" "ص48".(33/22)
ص -21-…يتفقوا على أن الشاطبي هو مبتدع هذا العلم "المقاصد" كما ابتدع سيبويه علم النحو، وابتدع الخليل بن أحمد علم العروض.
وهذه شذرات من كلام العلماء والباحثين في مدح هذا الكتاب:
يقول أحمد بابا عن هذا الكتاب:
"كتاب "الموافقات" في أصول الفقه كتاب جليل القدر جدا لا نظير له، يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم سيما علم الأصول، قال الإمام الحفيد ابن مرزوق: كتاب "الموافقات" المذكور من أقبل الكتب"1.
ويقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عن هذا الكتاب وأثره في التفكير الإسلامي بعد عصره:
"ولقد بنى الإمام الشاطبي حقا بهذا التأليف هرما شامخا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليها قبله؛ فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله؛ لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصور الحياة المختلفة(33/23)
ص -22-…المتعاقبة"1.
ويذهب أبوه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أن الشاطبي هو "الرجل الذي أفرد هذا الفن بالتدوين"2.
ويوازن الشيخ عبد المتعال الصعيدي بين الشاطبي في ابتداعه علم المقاصد، وبين الشافعي في ابتداعه علم الأصول؛ فيقول:
"بهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي؛ لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون، وهذا باهتمامه بمقاصد الشريعة"3.
ويذكر الشيخ محمد الخضري أن ما اهتدى إليه الشاطبي ألصق بالاجتهاد من أصول الفقه، وقد قال بهذا الصدد:
"ومن الغريب أنه على كثرة ما كُتِب في أصول الفقه لم يُعْنَ أحد بالكتابة في الأصول التي اعتبرها الشارع في التشريع، وهي التي تكون أساسا لدليل القياس، لأن هذا الدليل روحه العلل المعتبرة شرعا، وهذه العلل منها ما نص الشارع على اعتباره، ومنها ما ثبت عنده اعتباره في تشريعه، ومع أن هذه القواعد ينبغي أن يبذل الجهد في توضيحها وتقريرها حتى تكون نبراسا للمجتهدين، والاشتغال بها خير من قتل الوقت في الخلاف والجدل في كثير من المسائل التي لا يترتب عليها ولا على الخلاف فيها حكم شرعي، ولعلهم تركوا ذلك للفقهاء مع أن هذه القواعد بعلم أصول الفقه ألصق, وأحسن من رأيته كتب في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "ص76".
2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8".
3 "المجددون في الإسلام" "ص309".(33/24)
ص -23-…ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة "780هـ"1 في كتابه الذي سماه "الموافقات"، وهو كتاب عظيم الفائدة، سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره"2.
ويقول الشيخ علي حسب الله:
"وقد جاء أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة "790هـ" في كتابه "الموافقات" بما لم يُسْبَقْ إليه"3.
ويذهب صبحي المحمصاني إلى أن ما ابتدعه الشاطبي من علم المقاصد يفوق ما في كثير من الشرائع القريبة المعاصرة؛ "فقد حلل مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها بصورة لم تصل إليها كثير من الشرائع الغربية الحالية؛ فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقا للمقاصد التي وضعت لها"4.
ويذكر أحمد أمين أن الشاطبي سلك طريقة مخالفة لطرائق أهل المشرق جميعا؛ فكان أسلوبه أيسر وألطف، كما جاء بمباحث جديدة لم يعرفها الناس5.
ولماذا نذهب بعيدا؛ فالشاطبي نفسه كان يرى أنه هو الذي ابتكر هذا العلم؛ فيقول:
"فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصحيح أنه توفي سنة "790هـ" على ما سيأتي في ترجمته في أول المجلد السادس.
2 "أصول الفقه" "ص12".
3 "أصول التشريع الإسلامي" "ص7".
4 "مقدمة في إحياء علوم الشريعة" "ص22".
5 "ظهر الإسلام" "3/ 55".(33/25)
ص -24-…الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله، أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه -فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار- ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار"1.
ويقول شيخنا العلامة مصطفى الزرقاء:
"ومنذ أن نشر كتابه "الاعتصام" في البدع، وكتابه الآخر: "الموافقات في أصول الشريعة"2، وكانا من الكنوز الدفينة، أخذ اسم الشاطبي يدور على ألسنة العلماء والفقهاء، وأصبح الكتابان -ولا سيما "الموافقات"- من ركائز التراث الأساسية التي يلجأ إليها أساتذة الشريعة وطلابها المتقدمون، تفهما في دراستهم، وعزوا وتوثيقا لأفهامهم فيما يكتبون، ولمع نجم الشاطبي منذئذ بالمشرق في هذا الأفق العلمي، ثم أخذ يزداد سطوعا حتى أصبح يُستضاء به في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها، وتوضح به الحجة، وتقام بما فيه المحجة"3.
وقد مدحه أيضا من نظم الكتاب أو من اختصره على ما سيأتي في مبحث "الجهود التي بذلت حول الكتاب"، ويقول محمد محمود الشنقيطي:
"حق هذا الكتاب أن يستنسخ ويطبع في بلاد المسلمين لاحتياجهم إليه عموما، خصوصا المالكيين منهم، والحنفيين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموافقات" "1/ 12-13".
2 زيادة: "في أصول الشريعة" أمر شاع وانتشر، ولا أصل له، على ما بيناه تحت "تحقيق اسم الكتاب".
3 تقديم "فتاوى الشاطبي" "ص8".
4 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21".(33/26)
ص -25-…وذهب رشيد رضا إلى أن الشاطبي يُعد بكتاب "الموافقات" نظيرا لابن خلدون في "المقدمة".
فكلاهما ابتدع من التأليف ما لم يُسبق إليه، كما أنهما انتهيا إلى وضع واحد هو أن الأمة الإسلامية التي ابتدع لها هذان العبقريان كتابيهما، أو علميهما الجديدين، لم تقبل على إبداعهما العجيب، ولم تنتفع به1.
ويتمنى بعض الدارسين أن "لو اتخذ كتاب "الموافقات" منارا للمسلمين، بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لتكون منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة"2.
ويقول آخر من المعجبين بهذا الأثر النفيس:
"وأشهر ما تركه الشاطبي كتاب "الموافقات" في أصول الشريعة، والكتاب غزير العبارة، واسع الحجة، وهو من دون شك من أنفس ما كُتب في علم الأصول، وفي التشريع الإسلامي، وذلك بشهادة الأستاذ الشيخ محمد عبده نفسه، والشيخ محمد الخضري، وفي "الموافقات" تحقيق دقيق في مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها، وقد نجح الشاطبي في تحليل ذلك وإيضاحه كله ببيان وإسهاب"3.
ولقد أوردت هذه التقاريظ للمعاصرين بنصوصها لأكشف إلى أي مدى شُغف الناس بكتاب "الموافقات" هذه الأيام، ولعل مؤلف الكتاب نفسه قد سبقهم إلى الإعجاب بكتابه، والتنويه به، والإشادة بما بذل فيه من جهد؛ فهو يقول عن نفسه وعن كتابه ما يأتي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقدمة "الاعتصام" "1/ 4".
2 من كلام شيخ دراز المتقدم "ص14".
3 "النظرية العامة في الموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية" "1/ 51".(33/27)
ص -26-…"فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان، وفوائده الغريبة البرهان، وبدائعه الباهرة للأذهان؛ ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل، ويقصر عن بث معشاره اللسان، إيرادا يميز المشهور من الشاذ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل، ويُبصِّره في مقامه الخاص به بما دق وجلَّ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال؛ ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمحال"1.
فهو يريد أن يقول: إن كتابه هذا قد اتخذ سبيلا وسطا، لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو الاعتدال الذي اتسم به الإسلام، والذي ينأى بأهله عن الشدة والعسر والانحلال والتميّع إلى السماحة واليسر، ثم هو إلى ذلك مشبع نهم العقول إلى المعرفة، وواجدٌ كل طالب طلبته على قدر مستواه الذهني، وطاقته العقلية، وجهده في الطلب، وأنه قد وضعه على طريقة مُثلى؛ فهو مع سهولته ويسره عسير المنال، لا تستطيع العقول النافذة أن تكشف عن كل ما فيه، ولا الألسنة الفصيحة أن تترجم عن أقل ما حواه.
وفي مكان آخر من كتابه هذا لا يفتأ ينوه بالبناء المتماسك الذي يذكر أنه وضعه عليه، وأن محاولة تغيير جزء قليل من هذا البناء يفسده كله، وليس البناء الذي أقام عليه كتابه إلا هذه الكليات العامة للمقاصد الشرعية، والتي يذكر أنه تمكن منها بعد طول النظر والاستقصاء والدرس؛ فأحاط بها، وسبكها سبكا محكما لا يقبل الانخرام، بحيث إذا انخرم كلي منها؛ فقد انخرم النظام كله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموافقات" "1/ 9".(33/28)
ص -27-…وبهذا الصدد يقول:
"وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبيّن به من قرب بيانُ القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد؛ انخرم نظام الشريعة".
والحقيقة أن كتاب "الموافقات" -وإن كان قد خلص أصول الفقه من الجدل اللفظي، ووجه النظر إلى المعاني والمقاصد- إلا أنه حافل بالاستطرادات التي تشتت وحدة الموضوع، ثم إن مؤلفه سلك فيه المنهج القديم في طرح القضايا، فتراه يذكر القاعدة أو الأصل في بضعة أسطر ثم يأخذ في فرض الاعتراضات والردود عليها؛ مما أضفى على الكتاب روح الجدل الممل، كما أنه أكثر من التفريع والتجزئة للمسائل؛ مما جعل عمله يتخذ طابعا تعليميا لا يتيح للعقل أن يفكر وإنما يتيح للذاكرة أن تنقل فتتخم1.
ولهذا قامت جهود كثيرة حوله، من أهمها "المختصرات" و"الدراسات"، ونبين ذلك في الآتي:
الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة:
بذلت جهود قليلة حول كتاب "الموافقات"، ولا سيما من قبل الأقدمين؛ فلم نظفر -مثلا- بمن خرج أحاديثه أو علق عليه2، وإنما ظفرنا بعمل واحد قام به أحدُ تلاميذ المؤلف3 من وادي آش؛ فعمد إلى نظم كتاب "الموافقات"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص112" للدكتور حمادي العبيدي.
2 بل ظل الكتاب مغمورا إلى أن ظهر أول مرة سنة "1884هـ"، وسيأتي بيان ذلك.
3 نسبه بعض المعاصرين إلى "أبي بكر محمد بن عاصم ت 829هـ"، وفرق بعضهم بين عمل ابن عاصم وهذا النظم؛ فإن صحت التفرقة فتكون الجهود في النظم من قبل اثنين.(33/29)
ص -28-…وسمى نظمه "نيل المُنى من الموافقات"1، وتوجد منه نسخة خطية بدير الأسكوريال تحت "رقم 1164"، ونقتطف من أبياته ما يلي:
الحمد لله الذي من نعمته…أن بث في المشروع سر حكمته
وهيأ العقول للتصريف…بمقتضى الخطاب والتكليف
إلى أن يقول:
وبعدُ, فالعلم حياة ثانية…لها دوام والجسود فانية
وقد غدا ظل الشباب زائلا…ولم أنل من الزمان طائلا
جعلت في كتب العلوم أُنْسي…وعن سوى العلم صرفت نفسي
فالعلم أولى ما اقتضى به الزمن…وكتبه هي الجليس المؤتمن
والمورد المستعذب الفُرات …ومن أجلها "الموافقات"
لشيخنا العلامة المراقب …ذاك أبو إسحاق نجل الشاطبي
فهو كتاب حسن المقاصد …ما بعده من غاية لقاصد
وكان قد سماه بالعنوان …واختار من رؤيا ذا الاسم الثاني
وقد سمعت بعضه لديه…ومنه في ترددي عليه
لكن لم يكن له اختلافي…إلا يسير القدر غير شافي
لأن ثنى التقصير من عناني…وصدني عن قربه زماني
حتى غدت حياته منقضية…في عام تسعين وسبعمائة
والآن وقد نبذت عيني شغلي…وصار نيل العلم أقصى أملي
جدَّدْتُ عهدي باجتناء زهره…وردت فكري في اقتفاء أثره
…
إلى أن قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدل عنوانه أن هذا الاختصار من أعظم أماني المختصر.(33/30)
ص -29-…وجاعلا له من السمات…"نيل المُنى من الموافقات"
فعدُّه لم يعد في المَسطور…ستة آلاف من المشطور
وها أنا بما قصدت آتي…مقدما حكم المقدمات
وأسأل التوفيق والإعانه…في شأنه من ربنا سبحانه
وقد ختم النظم بما يلي:
"تم والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وذلك بمدينة وادي آش -كلأها الله- في أواخر ربيع الثاني عام 820هـ"1.
أما المعاصرون؛ فقد أقبلوا عليه، وتباروا في مدحه والثناء عليه2، ووجه أفاضل منهم العناية إليه، ويمكننا القول: إن خدمتهم لكتاب "الموافقات"
محصورة في ثلاثة محاور، هي:
المحور الأول: مختصراته.
قام باختصار الكتاب فيما وقفتُ عليه ثلاثة:
الأول: مصطفى بن محمد فاضل بن محمد مأمين الشنقيطي القلقمي3 "المتوفى سنة 1328هـ - 1910م".
نظم كتاب "الموافقات" ثم شرحه بعبارات المصنف مع اختصار شديد لها، ولكنه متين وقوي، وأفاد أنه وقف على "الموافقات" عام ستة بعد ثلاثمائة وألف، وقال: "ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21".
2 ومضت قريبا جملة من أقوالهم.
3 له ترجمة في المجلد السادس.(33/31)
ص -30-…وطبع هذا النظم مع شرحه سنة "1324هـ" بعنوان: "المرافق على الموافق" في مطبعة أحمد يمني بفاس، وأثبت على طرته: "طبع على نفقة قائد المشور السعيد السيد إدريس بنعيش".
جاء في أوله مدح لـ"الموافقات"، وبيان منهجه فيه، وهذا نص كلامه:
"الحمد لله الذي به شروح العلوم ونصوصها، وبه تعلم أصولها وفروعها كلما بدت خصوصها، وبه نيل معرفة ما هو عمومها وخصوصها، وبه تميز منها ما هو خواتمها وفصوصها، والصلاة والسلام على محمد الثابت به مرصوصها، الموافق بين ظاهرها وباطنها، المبين به خلوصها، وعلى آله وصحبه وتابعيهم الظاهر بهم قلوصها، وبعد؛ فيقول عبيد ربه ماء العينين ابن شيخه الشيخ محمد فاضل بن مامين، غفر الله لهم وللمسلمين آمين:
إنه لما تفضل الله علي بكتاب "الموافقات" للشيخ، العلامة، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، النظار، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الشاطبي، ثم الغرناطي -تفقده الله برحمته- عام ستة بعد ثلاثمائة وألف ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر؛ فأخذته واستشعرته بعد أن جعلته دثارا، وجعلت الحائل بيني معه الظلام لا ما دمت أرى له أنوارا، فإذا هو نور يذهب الظلام وينور البصائر والأبصار؛ إلا أنه بحر أبحر تغرق فيه البحار، ويرشف الأنهار؛ فقلت: من جاء البحر فليأت أهله بشيء من الدرر، إن أمكن، وإلا فليأتهم بشيء من العنبر، فلما نظرت إذا البحر لا ساحل له، ولا سفينة لي تمر بي فيه لأدخله؛ فبقيت متحيرا، وفي فضل ربي معتبرا؛ حتى تذكرت ما تفضل الله علي به فيما مضى من قولي غفر الله لي قولي وعملي:
شربت شرابا لا ذوو الخمر تشرب…وشاهدت ما الأبصار عنه تحجب(33/32)
ص -31-…وخضت بحارا لا تخاض بحيلة…ولكنها فضلا تُخاض وتُشرب
علمت أن فضل ربي ما انقضى، وقد قال لنبينا, عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ونحن له من عطائه، وهو لنا من آلائه؛ فاستقدرت على ما أردت منه بنبينا -صلى الله عليه وسلم- المستوى فيه ذكينا مع غبينا -صلى الله عليه وسلم- في صبحنا وعشينا، واقتحمت فيه بثيابي، وقلت هذا بحري وكتابي؛ فإذا هو البحر العذب الزلال، والكتاب الجامع لأصول مذاهب الرجال؛ فشرعت في استخراجي منه نظما، لعله يفيد من طلب منه علما؛ فتفضل الله علي بنظمه، لكن تعذر على الغير بعض فهمه؛ فطلب مني أن أشرحه شرحا يبين معناه؛ لتكثر الفائدة، ويسهل فهمه لمن تعناه؛ فشرحته شرحا ما جهدت فيه إلا في الاختصار، والتجافي عن منهج الإكثار، والمؤلفات تتفاضل بزهو الزهر والثمر لا بالهدر، وبالملح لا بالكبر، وبجموع اللطائف لا بتكثير الصحائف، وبفخامة الأسرار لا بضخامة الأسفار، ولذلك جعلت هذا الشرح مجلدا واحدا، ولو مددت فيه القلم لكان أربع مجلدات أو زائدا، لكني أتيت من الأصل بما فيه الكفاية، وما تحصل البغية لأهل الدراية، ولذلك سميته "المرافق على الموافق" مستعينا عليه بمبين الدقائق ومعلم الشرائع والحقائق، والمعطي من فضله جميع الخلائق، طالبا منه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ويكسونا القبول حتى يعم النفع بنا لذوي التخصيص والتعميم، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير"1.
الثاني: إبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم "المتوفى سنة 1377هـ - 1957م".
قال الزركلي في "الأعلام" "1/ 44": "له "اختصار الموافقات"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "المرافق على الموافق" "ص2-4".(33/33)
ص -32-…للشاطبي، مخطوط، جزآن، عند أسرته".
الثالث: محمد يحيى بن عمر المختار بن الطالب عبد الله الولاتي الشنقيطي1 "ت1330هـ - 1912م".
له "توضيح المشكلات في اختصار الموافقات", طبعه وراجعه حفيده بابا محمد عبد الله "المحاضر بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض"، ولم أقف منه إلا على مجلدين، وفي الآخر منهما ينتهي كتاب "المقاصد".
المحور الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه ومجاراته فيما كتب، وإحياء ضرورة معرفة المقاصد للمجتهد2.
نبه الشيخ محمد عبده في مطلع هذا القرن طلاب الأزهر وعلماءه إلى كتاب "الموافقات"، وذلك بعد طبعه في تونس، وكان يوصي به الأساتذة والعلماء؛ فيذكر محمد الخضري أنه لما كان بالسودان يدرس علم أصول الفقه للطلاب الذين يقع إعدادهم بالكلية ليكونوا قضاة, زار الشيخ محمد عبده السودان، فعرض عليه الشيخ الخضري ما كان يلقيه على الطلبة من دروس؛ فأثنى عليه، ولكنه دعاه إلى اعتماد كتاب "الموافقات" للشاطبي، وأن يمزج ما جاء في هذا الكتاب من علم المقاصد بما كان يدرسه للطلاب من علم الأصول حتى ينتبهوا إلى أسرار الشريعة الإسلامية، وتتسع آفاقهم للنظر، ويذكر الشيخ الخضري أنه استجاب لما طلب منه محمد عبده؛ فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 له ترجمة في: "الأعلام الشرقية" "1/ 403/ رقم 500-ط دار الغرب"، و"شجرة النور الزكية" "435"، و"المعسول" "8/ 281-287"، و"الأعلام" للزركلي "7/ 142-143".
2 تضمن هذا المحور الكلام على أثر الشاطبي بعامة وكتابه "الموافقات" بخاصة على الإصلاح والمصلحين في العصر الراهن.(33/34)
ص -33-…"فاستحضرت هذا الكتاب، وأخذت أطالعه مرات حتى ثبتت في نفسي طريقة الرجل، وجعلت آخذ منه الفكرة بعد الفكرة لأضعها بين ما آخذه من كتب الأصول؛ حتى جاء بحمد الله ما أمليته وفق مرامي"1.
وعن طريق محمد عبده تأثر الشيخ محمد رشيد رضا "ت 1935م" بكتاب "الموافقات"؛ فأخذ يعالج النواحي المصلحية في الشريعة، ويذكر أن مسائل المعاملات من سياسية وقضائية وغيرها ترجع كلها إلى قواعد حفظ المصالح ودرء المفاسد، وكل ما عُلم من مقاصد الشريعة2.
كما أن الشيخ محمدًا أبا زهرة وجه جهوده في مصنفاته الفقهية لإبراز المقاصد الشرعية تأثرا بالشاطبي عن طريق مدرسة المنار، ورأى أن الفقه لا يعطي ثماره إلا إذا أبرزت مقاصد أحكامه؛ فإن المقاصد هي عللها الحقيقية، ويقول هذا الكلام وهو يكتب عن ابن حزم الظاهري الذي يقوم مذهبه على رفض التعليل إطلاقا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أصول الفقه" "ص13".
2 ولكن رشيد رضا لم يقف عند التأثر بالمقاصد وإنما كان تأثير الشاطبي فيه بالغا حده بكتاب "الاعتصام"؛ لأن اتجاهه كان منصبا على الدعوة السلفية؛ فوجد في هذا الكتاب بغيته، ورأى أنه لا تنحصر فائدته في كشف البدع واستئصالها فحسب، ولكنه يتضمن أصول الدعوة السلفية التي وجه إليها هو جهوده كلها، وكانت أعماله الإصلاحية تنطلق منها.
ومن الجدير بالذكر هنا أمران:
الأول: أن الشاطبي مجدد ومصلح، وأن كتابه "الموافقات" تضمن التجديد، وكتاب "الاعتصام" تضمن الإصلاح.
والآخر: أن شيخنا الألباني -حفظه الله- عرف "الدعوة السلفية" في أول أمره عن طريق محمد رشيد رضا.
3 انظر: "ابن حزم الظاهري" لمحمد أبي زهرة "ص409".(33/35)
ص -34-…فإذا جئنا إلى المغرب العربي وجدنا أن أهم من تأثر بالشاطبي رائدان عظيمان من رواد الإصلاح العلمي والاجتماعي والسياسي، هما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، والزعيم علال الفاسي في المغرب1.
أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور؛ فإنه تأثر بالشاطبي في المقاصد، وهو وإن وجه إليه نقدا حادا أحيانا؛ إلا أن ذلك النقد لم يتجاوز بعض المآخذ المنهجية التي رأى فيها أن الشاطبي اتسع عليه الموضوع فوقع في التطويل والاضطراب، وفي هذا المعنى يقول:
"تطوح في مسائله -أي: مسائل علم المقاصد- إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود"2، ولكنه مع ذلك لم يستطع إخفاء إعجابه به؛ فنوه بعمله، وأعلن أنه سيقتدي فيه، دون أن ينقل عنه نقلا حرفيا؛ فيقول:
"على أنه أفاد جد الإفادة؛ فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهماته، ولكن لا نقله ولا اختصاره"3.
ويذهب عبد المجيد تركي إلى أن كتاب "مقاصد الشريعة" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور يُعَدُّ مُسْتَلْهَما من كتاب "الموافقات" للشاطبي، الذي يُعد بحق مبتكر هذا الفن، وإن النقد الذي وجهه إليه ربما كان لإخفاء الاعتماد الكبير الذي اعتمده عليه في تأليف كتابه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص511، 515".
2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص7".
3 المرجع السابق، وانظر: "نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور" "ص420 وما بعد" لإسماعيل الحسني.
4 "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "89، 476، 477".(33/36)
ص -35-…والواقع أن المقارنة بين الجزء الثاني المخصص للمقاصد من كتاب "الموافقات" للشاطبي، وكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور تكشف عن أمرين: أولهما يتعلق بالناحية العلمية، وثانيهما بالناحية المنهجية، فما يتعلق بالناحية الأولى؛ فإن ابن عاشور خصص بحوثا خاصة للمقاصد في أبواب المعاملات، بينما الشاطبي تناول المقاصد كلها تناولا عاما.
وأما ما يتعلق بالناحية الثانية وهي الناحية المنهجية؛ فإن الشاطبي يبدأ بالكليات وينطلق منها إلى الجزئيات؛ فتراه يطرح القاعدة ثم يأتي عليها بأمثلة جزئية من فقه الفروع تطبيقا لها أو توضيحا، وبذلك ينهج منهج الأصوليين، بينما ابن عاشور يسلك عكس هذا المنهج؛ فيعالج قواعد المقاصد من منطلق الأمثلة الفرعية, فيسلك بذلك مسلك فقهاء الفروع1.
بقي لنا أن ننظر في تأثر علال الفاسي بالشاطبي، لقد ظهر ذلك في كتابه الذي سماه "دفاع عن الشريعة"، والذي يعد تعبيرا عن الأفكار الأساسية لهذا الزعيم، بل تعبيرا عن المواقف العملية التي وقفها في جهوده الإصلاحية داخل المغرب الأقصى، والتي تتجاوز المغرب إلى العالم الإسلامي كله في مواجهته للحضارة الغربية والأخذ عنها.
أما جهوده الإصلاحية المتجهة داخليا إلى تغيير أوضاع العالم الإسلامي؛ فإنه يرى أن هذا التغيير لا يتم إلا بأمرين:
أولهما: إحياء حركة الاجتهاد.
وثانيهما: إصلاح الفكر السياسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص65 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص5" لعلال الفاسي.(33/37)
ص -36-…فالاجتهاد ينبغي أن تكون مقاصد الشريعة أساسه، وما الأدلة الاجتهادية كلها إلا راجعة للمقاصد، ذلك أن اعتبار جلب المصالح واستبعاد المفاسد هو الذي يحدو الفقيه إلى البحث عن الحكم المناسب، والتماس العلة.
وإذن؛ فالمقاصد هي الركن في بناء الصرح التشريعي كله1.
وفي مجال الإصلاح السياسي تصبح المقاصد مجال النظر للقضايا العامة؛ كمراقبة السلطة التنفيذية، وسياسة الدولة التشريعية والاجتماعية؛ هل تسير طبقا لأحكام الشرع في تحقيق مصالح المسلمين وإبعاد المفاسد عنهم، أم لا؟
فإذا جئنا إلى مواقفه الخارجية؛ فإننا نجدها مواقف تتمسك بالأصالة، وتستلهم مقاصد الشريعة أيضا في هذه المواقف، وهو يفرق هنا بين اتجاهين، هما: اتجاه الاقتباس من قوانين الغرب ونظمه، واتجاه الأخذ من حضارته بوجه عام.
أما الاتجاه الأول؛ فيرفضه رفضا باتا، ويعلن أن هذا الرفض ليس مصدره التعصب، أو الكراهية للغرب، أو الجهل بقوانينه، وإنما مصدره العقيدة؛ فعقيدتنا الإسلامية تمنعنا من أن نعطل شريعة الإسلام ونحكم بقوانين الغرب، أو نتبع مناهجه في الاستنباط.
ويحلل نظريته هذه؛ فيذكر أن منهج الغرب في الاجتهاد يعتمد القانون الطبيعي، وما يسمونه قواعد العدالة والإنصاف، وما إلى ذلك من المبادئ التي اصطلحوا عليها.
أما منهج الاجتهاد في الشرع الإسلامي؛ فيقوم على أوامر الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مناظرات في أصول الشريعة" "517".(33/38)
ص -37-…ونواهيه، أي: على إرادة الله فيما أحب لعباده وما كره لهم، ومن هنا؛ فإن الشريعة الإسلامية مصدرها العقيدة أصلا، وليس القانون الطبيعي أو غيره مما يذكره الغربيون1.
وأما الاتجاه الثاني الذي هو الأخذ من الحضارة الغربية في غير النظم والقوانين؛ فإن الشريعة بمقاصدها ينبغي أن تكون محكمة فيه؛ فلا نأخذ عنهم إلا ما يكون مصدر قوة لنا، أما ما يكون باعثا على الانحلال والفساد؛ فلا2، ولا ينبغي أن يخدعنا ما يسميه الغربيون والمقلدون لهم تطورا؛ إذ قد يكون بالنسبة إلينا مسخا3.
إن مقاصد الشريعة هي التي تنير سبلنا؛ فنتبين على ضوئها التطور الحق، ونستمد منها مواقفنا من كل ما يَفِدُ علينا من تيارات أجنبية4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "دفاع عن الشريعة" "ص116-117".
2 "دفاع عن الشريعة" "ص147".
3 "دفاع عن الشريعة" "ص148".
4 "دفاع عن الشريعة" "ص148".
ويقول الدكتور حمادي العبيدي في كتابه "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص284" بعد أن أورد ما سبق من تأثر المعاصرين بالشاطبي وكتابه "الموافقات"؛ يقول:
"وإذا أردنا أن نوازن بين درجات التفاعل مع أفكار الشاطبي عند هؤلاء المصلحين الذين ذكرناهم؛ فإننا نرى أن علالا الفاسي هو الذي نقل تلك الأفكار إلى المجال الذي تجري فيه "الصحوة الإسلامية" المعاصرة، سواء في موقفها الداخلي ودعوتها إلى النهوض بالعالم الإسلامي، أو في موقفها الخارجي من الحضارة الغربية والاقتباس منها.
وهكذا يتضح أن الشاطبي ما يزال يعيش بيننا بفلسفته في المقاصد وآرائه الإصلاحية، وأن رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي يجدون فيها معينا لدعواتهم إلى الإصلاح والتجديد على أسس من القيم الإسلامية الثابتة".
قلت: وما تقدم يثبت صحة ما أوردناه عن الشيخ الفاضل بن عاشور "ص25" من قوله: =(33/39)
ص -38-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "وظهرت مزية كتابه -أي: "الموافقات"- ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية؛ فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح...".
والواقع أن هذا الاتجاه في النهوض بالعالم الإسلامي على أساس فكر أصيل يستمد من ينابيع المقاصد الشرعية قد ظهر نتيجة التصادم مع حضارة الغرب المادية، وحماية للمسلمين من فتنة الأفكار المستوردة التي لا تتلاءم مع مقتضيات حضارتهم وأصول دينهم الحنيف.
انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص507".
قلت: بهذا الصدد لا بد من التنبيه على أن كثيرا من البعيدين عن الجادة، والمحاربين للدعوة السلفية يتعلقون بكلام للشاطبي في كتابه هذا، ويأتون به في معرض "التجديد" والكلام على "ما أصاب المسلمين من ركود وتخلف وجمود"، ويخرجون بـ"نتائج" و"أحكام" عجيبة غربية، ويمكن تسمية صنيعهم هذا بـ"التلبيس المقلوب".
فها هو -مثلا- "محمد عابد الجابري" يذهب في مقالة له نشرت في مجلة "العربي" "عدد 334، سنة 1986م، ص25-29" بعنوان "رشدية عربية أم لاتينية" إلى أن الشاطبي في كتابه "الموافقات" يُعد عقلانيا، وها هو "راشد الغنوشي" "يحتج" بكلام للشاطبي في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" في مواطن كثيرة، وكأني به يقرر أن الشاطبي "اعتبر المصلحة هي أساس الشرع"، وهذا ما يلبس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذه القاعدة ذات البريق الجذاب.
انظر: "تزييف الإسلام وأكذوبة الفكر الإسلامي المستنير" "ص95" لمحمد إبراهيم مبروك، نشر دار ثابت - القاهرة.(33/40)
لقد ذهلت بعد مطالعتي لكتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"؛ فهو يقرر فيه أحكاما وقواعد وينسبها للشرع، ويتعلق بعد هذا كله بالأصوليين وعلى رأسهم إمامنا الشاطبي -رحمه الله تعالى- وهو في كتابه هذا يوافق نظرة الغرب حول الحرية وحول المرأة.
اقرأ قوله فيه "ص129":
"ولقد استند المجيزون إمامة المرأة الولاية العظمى إلى أن عمومات الإسلام تؤكد المساواة بين الذكر والأنثى، وأن الحديث المذكور -أي: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"- لا يمثل أساسا =(33/41)
ص -39-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= صالحا لتخصيص عموم المساواة، ذلك أن الحديث المذكور ورد بخصوص حادثة معينة صورتها أنه لما ورد على النبي أن كسرى فارس مات، وأن قومه ولوا ابنته مكانه؛ قال عليه السلام ذلك القول تعبيرا عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم؛ فالحديث لا يتعدى التعليق على الواقعة المذكورة حتى يكون مرجعا في مادة القانون الدستوري، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلا عن ظنيته من جهة السند لمنع المرأة من الإمامة العظمى".
ثم يضيف راشد الغنوشي ما يؤدي إلى نفي وجود نظام حكم في الإسلام، بل وإلى إلغاء الأحكام الشرعية جملة، يقول في هامش نفس الصفحة:
"إلا أن الأحكام الشرعية وخاصة ما تعلق منها بنظام الدولة الإسلامية ما ينبغي أن تبنى على سند ظني مهما كانت درجة الظنية ضئيلة".
ويصل إلى مبتغاه في "ص130"؛ فيقول:
"والنتيجة أنه ليس هناك ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة...".
ولن أرد هنا على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب إلى أن اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشرعية يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وأن قوله: "فيما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا" يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل المثال؛ فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية؛ كقطع السارق، وجلد الزاني أو رجمه، وقتل المرتد، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: "يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص".(33/42)
ولا تمنعنا موضوعية البحث ولا تحرجنا من دعوى الجهل أو التجاهل لبعض الثوابت في الإسلام، هذا أقل ما نقوله، والبينة عليه قائمة فيما أوردناه عنه. وهذا الذي ذكره الغنوشي في كتابه يناقض الأصول التي قررها الشاطبي في "الموافقات" عند كلامه على "العام" و"الخاص" و"الظني" و"القطعي".
أعود إلى ما ذكرت سابقا من أن أحدا من العلماء المعتبرين عند الأمة لا يقول بهذا المنهج أو مثله، ولا يقرر شيئا منه، ولم يأت أحد ممن يقول به حاليا أو من يتبعونه باستدلال شرعي صحيح =(33/43)
ص -40-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عليه، وجُل ما يأتون به هو ادعاء وجود هذا المنهج عند بعض العلماء الأفذاذ، والإتيان بنصوص من أقوالهم مع المحافظة على غموضها، ومن هؤلاء العلماء الكبار الإمام الشاطبي المالكي, رحمه الله.
ولقد صور الغنوشي في كتابه هذا منهجا خطيرا على المسلمين يتلخص بالتشريع بالمصلحة مجردة من أي قيد، والأخطر أن يُنسب ذلك النهج المبتدع والخطير إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- وأن يُدعى أن هذا هو منهج المفكرين الأصوليين المعاصرين.
يقول الغنوشي في "ص38":
"وإذا تقدمنا صوب المعاني التشريعية من أجل وضع إطار قانوني لحريات الإنسان أو لواجباته؛ وجدنا مفكري الإسلام المعاصرين يكادون يجمعون على تزكية الإطار الأصولي الذي وضعه العلامة الشاطبي في "الموافقات"، والمتلخص في اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، والتي صنفها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات...".
ويقول الغنوشي أيضا في "ص43" من كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية":
"وكان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة المغربي أبو إسحاق الشاطبي في رائعته "الموافقات" قد حظي كما تقدم بقبول عام لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين كأساس وإطار لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي، ومعلوم أن أبا إسحاق الشاطبي في تتبعه كليات الشريعة وجزئياتها قد كشف عن نظرية المصلحة العامة؛ فوجدها مرتبة في ثلاثة مستويات...".
ويقول أيضا في "ص358":(33/44)
"ولقد حظي هذا العلم "علم أصول الفقه" بعقول عظيمة تتابعت على تأصيل قواعده وتطويرها وإثرائها وصقلها؛ حتى بلغت مع العلامة الأندلسي الشاطبي أوجا عظيما متقدما امتدادا للنهج الذي سنه الإمام الشافعي؛ فلقد انصبت نخبة من العقول العظيمة التي امتلأت يقينا بعظمة الإسلام، وغاصت في نصوص الوحي كتابا وسنة، وفي تراث الفقه والتطبيق الأساسي وسائر علوم الإسلام خلال القرون، كما استوعبت جملة المعرفة البشرية المعروفة في العصر، وصاغت من خلال كل ذلك قواعد للتشريع على ضوء ما استخلصته من مقاصد الدين، وجملة مقاصد الدين تدور حول مصالح العباد؛ فإنما لأجل ذلك جاء الدين، يقول الشاطبي: "إنا استقرينا من الشريعة أنها =(33/45)
ص -41-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضعت لمصالح العباد استقراء ولا ينازع فيه الرازي ولا غيره"، ويقول: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا".
ويقول الغنوشي في "ص359".
"والاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر إلى قبول أصول الشاطبي إطارا عاما لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، انطلاقا من هذا الأصل العظيم؛ أن الدين إنما أنزل للتحصيل وللمحافظة على مصالح الناس في الدنيا والآخرة, وفي هذا المنظور العام والمقصد العام للشريعة أمكن لجزئيات الدين أن تجد مكانها اللائق بها كفرع من أصل، وفي هذا المنظور نفسه يمكن أن تجد المشكلات المستجدة في حياة المسلمين حلولها المناسبة...".
ثم يقول: "فما غلب ما فيه من صلاح عما فيه من فساد؛ فهو مشروع...".(33/46)
واضح من كلام الغنوشي أنه يقرر منهجا جديدا للتفكير أو للتشريع عند المسلمين، منهجا يقوم على المصلحة، وواضح أيضا أنه يريد الاستناد إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- من أجل إضفاء شرعية ما على مواقف أو طروحات غير شرعية؛ فيفهم من كلام الإمام، ويريد من قارئه أن يفهم أن الواقع يدرس دراسة عقلية، وتدرس جوانب المصلحة وجوانب المفسدة فيه، ثم يكون حكم الشرع في ذلك الواقع بحسب المصلحة كما يراها العقل، فإذا غلب العقل جانب المصلحة كان ذلك الشيء أو الأمر أو الواقع مشروعا، وإذا غلب جانب المفسدة كان العكس، وهكذا يتحقق مراده ومراد أصحاب هذا المنهج معه في استبعاد أحكام الشريعة التي لا توافق أهواءهم أو نظرتهم العقلية، ولكن الغنوشي لا ينسى التسويغ لهذا الموقف فيُفهم قارئه أن المجتمعات تتغير وتتبدل، ما يستدعي تطور الأحكام لتجاري تطور المجتمعات؛ فالمنهج الإسلامي الذي يصلح لجماعة ما أو زمان ما لا يصلح لكل جماعة وكل زمان، فإذا لم تتطور الشريعة تصبح جامدة وغير صالحة؛ فلا بد أن تكون قابلة للتطور، ولهذا لا بد أن تكون مرنة، ولا بد أن تتوافق مع الواقع لتعطيه من الأحكام ما يناسبه.
يقول في "ص358":
"ولأن من سمات المنهج الإسلامي الواقعية والمرونة بما يحقق خلوده وصلاحه لكل زمان ومكان، ولأن حياة الجماعات البشرية عامة، ومنهم جماعة المسلمين في حركية دائمة مثل حياة الأفراد تتوارد عليها حالات الصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والضعف والقوة؛ فلا مناص لدين جاء ليغطي حياة البشرية في كل أصقاعها على امتداد الزمان أن يتسع لتغطية كل =(33/47)
ص -42-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أوضاع التطور التي يمكن أن تمر بها جماعة أو جماعات المسلمين دائما...".
ويقول أيضا في "ص120":
"إن الشريعة ليست نصوصا جامدة، ولا هي مصوغة في صيغ نهائية، وليست أيضا مدونة قانونية بحيث وضعت لكل فعل وحالة حكما، وإنما المجال لا يزال فسيحا للتفسير والتحديد والإضافة والتجديد عن طريق استخدام العقل الفردي والجماعي "الاجتهاد"".
هذه النصوص المطولة التي أوردناها أعلاه عن الغنوشي كافية لبيان منهجه "العصري" في فهم الإسلام، والذي يتلخص في أن الأفراد والجماعات -ومنهم المسلمون- في تطور وتغير دائم، وتعتريهم حالات الصحة والمرض والقوة والضعف، والإسلام يجب أن يكون بناء على ذلك قابلا للتطور والتغير، ويجب أن يكون مرنا، وإلا لم يكن صالحا؛ فالأحكام يجب أن تتغير بحسب الواقع، فما كان حراما قد يصير حلالا، والقاعدة التي تتبع في ذلك هي المصلحة التي يراها العقل، فما يراه العقل محققا للمصلحة ودارئا للمفسدة؛ فهو مشروع إن خالف نصا؛ لأن النصوص برأيه ليست جامدة ولا مصوغة في صيغ نهائية، ولم تعط حكما لكل فعل وحالة، والمجال فسيح أمام العقل.
فالنصوص عنده إذن فقط حددت المقاصد، والمقاصد هي المصالح، وإذا لم تتبع قواعد المصلحة في التشريع؛ جمدت الشريعة وفقد الإسلام صلاحيته، وهو يرى في كل ذلك أنه يستند إلى أصول الشاطبي -رحمه الله- وفي ذلك مغالطة كبيرة وجريئة، وإن أهم ما نقصده هنا هو بيان أن الشاطبي -رحمه الله- بعيد كل البعد عن هذا المنهج، ولو قال به لرد قوله لتناقضه الصارخ مع شريعة الإسلام أصولا وفروعا.
فما هي حقيقة رأي أو موقف الإمام الشاطبي؟(33/48)
إن قول الشاطبي: إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معا، لا يستفاد منه ولا بأي وجه من الوجوه أن ما يراه العقل مصلحة؛ فهو مشروع، ولا أنه يجوز ترك حكم النص إلى حكم فيه مصلحة بحجة أو بشرط المحافظة على المقصد، ولا أن ما تغلب فيه المصلحة على المفسدة؛ فهو مشروع، والذي يفهم من كلام الشاطبي هو أن وجود الشريعة الإسلامية هو وجود لشريعة صالحة لرعاية البشر؛ فتحقق لهم إشباع حاجاتهم وطمأنينة نفوسهم لأنها تعالج البشر بأحكام من عند خالق البشر الذي يشرع لهم ما يصلح لهم على الحقيقة؛ فيؤدي إلى رفاهيتهم وطمأنينتهم =(33/49)
ص -43-….........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الدنيا؛ أي: في العاجل، ويؤدي إلى ثوابهم ونجاحهم من العقاب في الآخرة؛ أي: في الآجل، وهذا كله مصلحة للعباد، مصلحة في الدنيا ومصلحة في الآخرة، وكلتاهما تنتجان عن التزام ما أمر به الله سبحانه وتعالى، وليس معنى هذا أن الإنسان يجوز أن يسير في هذه الدنيا بحسب ما يراه محققا للمصلحة؛ لأن هذا يؤدي لأن يشرع الإنسان لنفسه بنفسه، وهذا لو سلمنا أنه يؤدي إلى مصلحة العباد في العاجل؛ فإنه لا يؤدي إلى المصلحة في الآجل؛ لأنه عدول عما أمر به الله سبحانه وتعالى، والمصالح في العاجل لا تتحقق إلا بما تتحقق به المصالح في الآجل، علاوة على أن قصد المصلحة في التشريع لا يؤدي إلى حصول المصلحة، وإنما يؤدي إلى الشقاء في العاجل.
وقد بين الإمام الشاطبي قصده هذا في مقدمة الجزء الأول من كتابه "الموافقات"، عندما بين أن الإنسان كان يشرع لنفسه قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على ما يراه مصلحة؛ فأدى ذلك إلى شقائه حتى جاءت الشريعة الحنيفية، وبينت للعباد ما يؤدي إلى المصلحة الحقيقية، التي يعلم الله وحده السبيل إليها، ويجهل سبيلها الإنسان الذي قد يسلك إلى شقائه وهلاكه ظانا لضعفه وقصور إدراكه أنه يسلك إلى المصلحة والطمأنينة.
قال الشاطبي في "1/ 3":(33/50)
"الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى علَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما منّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله؛ فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء موضع الدواء، طالبين للشفاء؛ كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم".
ومما يفسر ويؤكد المعنى الذي ذكرناه آنفا عند الشاطبي، قوله "2/ 63-64":
"المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور: =(33/51)
ص -44-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحدها: ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}".
ويستطرد الشاطبي في بيان هذا الأمر بما بنا غنية فيما أوردناه عنه من هذا الموضع عما لم نورده.
إذًا، المصلحة عند الشاطبي تنتج عن تطبيق الشريعة ذاتها، وليس عن تطبيق ما يراه العقل موصلا إليها؛ فليس المشروع هو ما يؤدي إلى المصلحة كيفما كان، وإنما المصلحة عند الشاطبي مقصد من التشريع لا يسلك إليها إلا ما قد شرعه الله.
قال الشاطبي في "2/ 63":
"... أن الشريعة إنما جاءت لتخرج العباد من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت".
فالعجب العُجاب ممن يستدل بـ"الموافقات" على عكس هذا المعنى! ولا نستطيع أن نستقصي كل ما قاله هذا الإمام الفذ حول هذه المسألة، ولكني أدعوك -أخي القارئ- إلى قراءة كلام الإمام الشاطبي بعمق، ولا سيما عند حديثه على التحسين والتقبيح العقليين، انظر لزاما: "1/ 125 وما بعد" وتعليقنا عليه؛ فهو مما ينسف هذا المنهج المبتدع من جذوره، ويبيِّن أن افتراءهم على الشاطبي واه ومتهافت.(33/52)
والخلاصة: أن النقول التي أوردناها عن الغنوشي فيما سبق تبين أنه والذين يعتبرهم الأصوليين المعاصرين أو مفكري الإسلام المعاصرين يتخذون من أصول الشاطبي إطارا عاما لأجل التشريعات الجديدة المطلوبة لهذا العصر، والتي تتطلب مرونة في الشريعة تدفع إلى العدول عن أحكام النصوص إلى أحكام أخرى تقتضيها الضرورة أو المصلحة بحجة المحافظة على المقاصد، وما أوردناه آنفا عن "الموافقات" للشاطبي يدحض هذه المزاعم التي لا أصل لها عنده، ويؤكد أنها فرية؛ فالشاطبي -رحمه الله- أبدا لم يتحدث عن فقه مصالح وضرورات ولا عن فقه موازنات.
أما ما يذكره الغنوشي عن تقسيم الشاطبي للمقاصد الشرعية إلى ضروريات وحاجيات =(33/53)
ص -45-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وتحسينيات؛ فهذا صحيح، ولكن ليس صحيحا ما يبنيه الغنوشي على ما يستنبطه الإمام؛ فما أشار إليه الغنوشي من إدخال الحريات العامة؛ كحرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية الملكية في هذه المقاصد؛ إنما هو من أوهامه، والشاطبي تحدث في الضروريات عن حفظ الدين وليس عن حرية العقيدة، وحفظ الدين الذي اعتبره الأصوليون من مقاصد الشريعة استدلوا عليه بأن الشارع قد شرع حدا للمرتد وهو القتل؛ فبهذا يحفظ الدين في شريعة الإسلام، بينما الغنوشي في كتابه يدعي أن مقصد حفظ الدين هو حرية العقيدة، أي بهتان هذا؟!
ثم إنه بعد ذلك يجادل عبثا في هذه المسألة، فيحاول أن يثبت أن عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية وليست حدا، استدعتها الظروف السياسية آنذاك -زمن النبي, صلى الله عليه وسلم- وأن ما صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الردة وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" كان باعتبار ولايته السياسية ولم يكن تشريعا، وأن قتل المرتد كان يعده خروجا بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وكل هذه الدعاوى منه ليست مبنية على أي دليل، وظاهر فيها ريح الحضارة الغربية النتنة؛ فكل هذه المحاولة اليائسة هي ليثبت أن الإسلام يقرر حرية العقيدة، وأن حق الإنسان محترم ومحفوظ في تغيير عقيدته، ومن أراد أقوال الغنوشي؛ فليراجع صفحة "48 و49 و50" من كتابه.(33/54)
وكذلك ما قاله الغنوشي عن مقصد حفظ العقل؛ فالأصوليون يجعلون حفظ العقل مقصدا، ويستدلون على ذلك بتحريم المسكر وبالعقوبة الشرعية عليه، بينما يذكر الشيخ راشد أن حفظ العقل يتعلق به حق الإنسان في التعليم وحرية التفكير وحرية التعبير، ما العلاقة بين حفظ العقل المستنبط من وضع عقوبة لشارب الخمر وبين حرية التعبير؟ ما هذا؛ أهو عمق في التفكير والاستنباط، أم هو استنتاج جار على مقتضى الأهواء وليس جاريا على حسب مقتضى العقول؟ إنه الاحتمال الأخير بلا شك، والدافع إليه هو موافقة الحضارة الغربية، وهذا النوع من الموافقات مختلف تمام الاختلاف عن "موافقات الشاطبي".
دعوكم من هذا أيها "المفكرون المعاصرون"؛ فإنه ضلال، وهو يسقطكم ولا يرفعكم.
وعلى كل حال؛ فالشاطبي بريء من كل هذا كما بينا سابقا.
وقطعا لكل المحاولات المريبة في تفسير مقصد الشاطبي من تقسيمه المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية؛ لا بد من بيان مقصده منها كما بينه هو، ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن الشاطبي لم يكن أول من تناول هذا التقسيم؛ فقد سبقه كثير من الأصوليين كالغزالي والآمدي -رحمهما الله- =(33/55)
ص -46-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تعالى.
والشاطبي لم يورد هذا التقسيم ليرد أحكاما شرعية ويستبدل بها أحكاما أخرى من تقديرات العقل بحجة أن الأولى تحسينية والثانية حاجية، أو أن الأولى حاجية والثانية ضرورية، بل هذا عين ما يسميه الشهوة والهوى؛ فكما أن المصلحة هي ما جعله الشرع مصلحة والمفسدة كذلك، كما بينا عنه سابقا؛ فكذلك مرتبة المصلحة أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية هو بجعل الشارع لها كذلك.
إن حديث الشاطبي ومن سبقه في هذا التقسيم للمصالح ينطوي على فهم عميق لواقع الإنسان؛ فهم لا تجده في كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أبحاث، هذه الحضارة التي ينطلق منها أحيانا من يطلق عليهم أحيانا: "مفكرو الإسلام المعاصرون".
ثم إن الشاطبي -رحمه الله- قد بين أن المصلحة ليست في مجرد سد هذه الحاجات؛ فالشرائع الوضعية تسعى إلى سدها وإشباعها، وإنما المصلحة في سدها كما أمر الشرع، يقول الشاطبي "2/ 63":
"المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية".
ويقول "2/ 78": "فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد القائل: إن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها؛ فذلك لا نزاع فيه".
فإذا ربطنا هذا الكلام بما ذكرناه عنه سابقا أن المصلحة هي بجعل الشرع لها كذلك، وكذلك المفسدة؛ علمنا رأيه، وهو أن العقول تدرك بالتجارب, أي: بعد تطبيق الشرع أن هذا المأمور به يؤدي إلى مصلحة، وأن هذا المنهي عنه يؤدي إلى مفسدة، وقول الشاطبي "بعد وضع الشرع أصولها"؛ أي: بعد أن نصب الشرع الأدلة الدالة على طلب الفعل أو تركه.(33/56)
وعليه؛ فالشاطبي يرى أن اللازم اتباع الشرع في الأمر والنهي كي تتحصل المصلحة في الدنيا والآخرة، وإلا؛ فسوف نقع في المفسدة حيث نتوقع المصلحة، أما ما يراه بعض المهزومين أمام الحضارة الغربية وأمام ضغط الواقع؛ فهو قلب للأمور رأسا على عقب، إنه استبدال لشريعة اسمها المصلحة بشريعة الإسلام. =(33/57)
ص -47-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهؤلاء الذين يريدون تحميل أوزارهم للشاطبي؛ فيقولون: إنهم ينتهجون نهجه، ويدعون أن الاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر يجعل من أصول الشاطبي إطارا عاما وأساسا لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، وأن الشرع قد تضمن أصولا عامة يمكن أن يتأسس عليها اجتهاد جديد كلما حصل تطور في الحياة، هؤلاء يعدهم الشاطبي أهل بدع، ولله در هذا الشاطبي المستنير؛ فلنقرأ بتأن قوله "3/ 34": "فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعلُهُ موافقا أو مخالفا"؛ أي: لصورة الفعل المأمور به أو المنهي عنه بالنص، ثم يتابع:
"وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام".
فيتحدث رحمه الله عن الأقسام الثلاثة الأولى بما يلزم، ثم يتحدث عن القسم الرابع وهو ما يلزمنا هنا؛ فيقول "3/ 37": "والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا؛ فهو أيضا ضربان:
أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة.
والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك.
فإن كان مع العلم بالمخالفة؛ فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات المستأنفة، والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك؛ فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة".(33/58)
ثم يسترسل الشاطبي -رحمه الله- في إثبات بدعية هذا الطرح وهو مخالفة الشارع فيما أمر أو نهى بحجة المحافظة على المقصد، وهذا هو عين ما طرحه الغنوشي في كتابه، وهو عين ما يطرحه الذين جعلهم الغنوشي مفكري الإسلام المعاصرين، وجميعهم يقصدون إلى تغيير شرع الله؛ فيثيرون مسألة مقاصد الشريعة كمقدمة وغطاء للانحراف، ثم يخادعون فيغشون على العقول والقلوب بإثارة مسألة مرونة الشريعة، ويتترسون بالإمام الشاطبي، والشاطبي بريء منهم ويعدهم أهل أهواء وبدع؛ فمن لي بأصحاب هذه المفاهيم الغربية السقيمة، يغرفونها من مستنقعات الكفر، ثم يزينونها بالبسملة والحمدلة ويدعون أنها الإسلام؟
إن الشاطبي يرد هذا المنهج ويعده مذموما شرعا، ويقول: "إن مخالفة الشرع بالفعل أو الترك مع قصد المحافظة على مقصد الشريعة هو بمثابة روح بلا جسد"، ثم يقول "3/ 45": فإذا =(33/59)
ص -48-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لم ينتفع بجسد بلا روح؛ كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد".
وجريا على المنهج الذي اتبعته هنا في الرد على الغنوشي بكلام الشاطبي نفسه؛ لأن الأول ادعى أنه يتخذ من أصول الثاني إطارا عاما لمنهجه؛ فلننظر ما هو رأي الشاطبي في مسألة التطور في الواقع والمرونة في الشريعة، والتغير في أحوال الأفراد والجماعات، يقول الإمام الشاطبي, رحمه الله "2/ 483-484":
"إن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة؛ كالإخبار عن السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله؛ كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال؛ فإن الخلاف بينهما محال".
وقال أيضا: "لولا أن اطراد العادات معلوم؛ لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه".
وقال أيضا "2/ 488": "العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.(33/60)
أما الأول؛ فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، والتأهب للمناجاة وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة؛ فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع؛ فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا؛ حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح؛ فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل".
ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني؛ فأطال قليلا، ثم لخص فقال "2/ 491":
"إن ما جرى ذكره هنا عند اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف =(33/61)
ص -49-…ويظهر تأثر علال الفاسي بالشاطبي في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"؛ فهو يصرح فيه بأنه قرأه ودرسه، ثم إنه كتبه ليسد فراغا، ويتجاوز الحد الذي وقف عنده الشاطبي؛ فها هو يقول في مطلعه:
"هذا كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" أضعه اليوم بين يدي قرائي الأفاضل، وأنا واثق من أنه سيسد فراغا في المكتبة العربية؛ لأن الذين تعاقبوا على كتابة المقاصد الشرعية لم يتجاوزوا الحد الذي وقف عنده إمامنا أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"، أو لم يبلغوا ما إليه قصد، وبعضهم خرج عن الموضوع إلى محاولة تعليل كل جزء من أجزاء الفقه أخذا للمقاصد بمعناها الحرفي"1، ثم يقول:
"وعرضت إلى أصول الشرعة؛ فتناولتها من جهة المقاصد أكثر مما تناولتها من جهة العلة، ولم أغفل عن المباحث التي وقعت حولها من المعاصرين مما اقتضته شبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه؛ فجمعت بذلك بين نقط الجدل القديم والجديد، ودللت القارئ على نقط الضعف فيها ووسائل الإجابة عنها، ثم بينت بعد ذلك وسائل الاجتهاد وأسباب الاختلاف بما يفسح المجال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك؛ لم يحتج في الشرع إلى مزيد....".
هذا هو الشاطبي، وهذه أفكاره ومفاهيمه وأصوله؛ فكيف يجعلها من يسمون أنفسهم مفكري الإسلام المعاصرين إطارا عاما لمنهجهم القائم على الحاجة إلى فقه جديد اسمه فقه المصالح أو فقه الموازنات أو فقه المصالح والضرورات؟!
انظر: مقالة "رد افتراءات على الإمام الشاطبي" لمحمود عبد الكريم حسن، منشورة في "مجلة الوعي" "العدد 88، السنة الثامنة، ربيع الأول، سنة 1415هـ، ص21 وما بعد".
1 "مقاصد الشريعة" "ص5".(33/62)
ص -50-…للذين يرغبون في تعمق أسرار الشريعة وتفهم مغازيها"1، ثم يقول:
"ويعلم الله كم بذلت من جهد في استخلاص فصول هذا الكتاب، وجعلها قريبة من أذهان المعاصرين، مستندا إلى أهم المصادر الإسلامية والكتب العلمية الصحيحة، مجتهدا في تفهم آراء المسلمين والتوفيق بينها وتوضيح مواطن الضعف في كتابات المعاصرين منهم، ومتتبعا ما أسميته بالإسرائيليات الجديدة، أي: الأفكار المتسربة من غيرنا عن طريق الاستعمار الروحي الذي هو آفتنا في هذا العصر.
وقد أخذ هذا الكتاب مني وقتا غير قصير؛ إذ اشتغلت فيه مع غيره من الأعمال الأخرى مدة أربعة أعوام؛ فهو ليس بالمرتجل ولا بالمستعجل، وكان أصله محاضرات ألقيتها على كل من طلبة الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بنفس الجامعة بفاس، وطلبة كلية الشريعة بجامعة القرويين من نفس المدينة.
وأملي أن يجد من قرائي الكرام قبولا حسنا، وعناية بالموضوع الذي ما يزال يستحق الكثير من البحث ومن التدقيق، وحسبي أني قد زدت فيه لبنة على من سبقني، وفتحت آفاقا لمن يريد أن يعمل من بعدي"2.
ويقول أيضا مبينا ما آل إليه العالم الإسلامي من خمود، وإيمانه بضرورة الجمود:
"وقد مضى على العالم الإسلامي ردح استسلم فيه إلى الخمود وآمن بضرورة الجمود؛ فأعرض عن النظر في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وأحل أقوال الأئمة والفقهاء مقام الكتاب والسنة؛ حتى أصبح من ينظر فيها محكوما عليه بالفسق، ومن يتجرأ على الاستدلال بها منظورا إليه النظر الشزر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" ص5".
2 "مقاصد الشريعة" "ص6".(33/63)
ص -51-…وأما من يدعي الاجتهاد ولو في جزئية ما؛ فهو المارق من الدين السالك سبيل غير المؤمنين، وذلك ما فتح الباب لقلب الأحكام الشرعية، وإظهار الشريعة الإسلامية بمظهر الشريعة التي لا تقبل التطور ولا تصلح لكل العصور"1، ثم يقول:
ومن حسن الحظ أن ينتبه بعض العلماء لهذه الفاجعة، ويتجرءوا على النظر والاجتهاد؛ فيعيدوا للشرع الشريف اعتباره، وللنظر والعلم الصحيح مكانتهما، ولكن ذلك وقع بالأسف في عصر طغى على المسلمين فيه الفكر الأجنبي والقانون الأجنبي؛ فصعب على القائمين بدعوة الإسلام النجاح، وكثر عليهم المعارضون والمتآمرون، وذلك ما يوجب عليهم الصمود ويفرض عليهم بذل أقصى ما يمكن من الجهد واستكمال ما يحتاجون إليه من العلم؛ حتى لا يفضي جمود الآباء إلى جحود الأبناء، وإن في قلة الفقهاء المجددين على قلتهم ضمانا للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطا بمقاصد الشريعة وأدلتها، ومتمتعا بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم، وليس ذلك على الله وعلى همة المجاهدين المجتهدين بعزيز.
يعتمد المجتهد في استنباطه الأحكام على أمرين:
1- المعرفة بالأدلة السمعية التي تئول إلى الكتاب والسنة والإجماع وما اختلف فيه العلماء من الأصول الأخرى.
2- التأكد من دلالة اللفظ في اللغة العربية وفي استعمال البلغاء، وهذه الدلالة إما بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بالمعقول وهو القياس وأنواع الاستدلال المختلف في حجيتها بين الأئمة.
القدرة على الموازنة بين الأدلة واختيار أرجحها وأقواها على من دونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" "ص164".(33/64)
ص -52-…فالمعرفة بالأدلة السمعية، والتأكد من الدلالات اللغوية، والقدرة على الترجيح بين الأدلة المتزاحمة؛ تلك هي العناصر التي يتوقف عليها المجتهد للقيام بمهمة الاجتهاد، والدلالات السمعية، وطرق التأكد من معانيها والترجيح بينها هو ما يبحث فيه علم الأصول وعلم الاجتهاد، والأخير جزء من الأول، ولكنه خاص باعتبار ما يتوقف عليه من العلوم.
فلا بد للفقيه إذا أراد أن يكون مجتهدا من معرفة الكتاب وقراءاته وناسخه ومنسوخه والسنة واصطلاحاتها ودرجاتها ومركزها من القرآن، ولا بد كذلك من معرفة علم الأصول واللغة وأقوال الفقهاء وأسباب اختلافهم وطرق الاستدلال السمعية والعقلية ومقاصد الشريعة.
ويرى الشاطبي أن درجة الاجتهاد إنما تحصل ممن اتصف بوصفين:
أحدهما:
فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وهو شرط لم يذكره أغلب علماء الأصول، مع أنه الذي يتفق مع ما قاله الشافعي من وجوب ملاحظة المجتهد القواعد الكلية أولا، وتقديمها على الجزئيات..."1.
والمتمعن في كتاب علال الفاسي يجد أثر الشاطبي واضحا فيه، ولكنه جعله قريبا من الأذهان، وسبكه في عبارة واضحة، وربطه بالواقع الذي يحياه؛ بحيث تعرض لشبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه.
وتولدت عن هذه الكتابات والجهود التي ركزت على ضرورة معرفة "المقاصد" أبحاث متخصصة في منهج الداعين إليها، وظهر منها فيما يخص الشاطبي اثنان2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" "ص164-165".
2 ذكر الدكتور عبد المجيد تركي في كتابه "مناظرات في أصول الشريعة" "ص528" أنه يعد دراسة عن الشاطبي ومقاصد الشريعة؛ فلا أدري هل أتم ذلك أم لا؟(33/65)
ص -53-…الأول:
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني، طبع عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة "1412هـ - 1992م".
والآخر:
الشاطبي ومقاصد الشريعة لحمادي العبيدي، طبع عن دار قتيبة، سنة "1412هـ - 1992م" أيضا.
وكلاهما جلى منهج الشاطبي في قسم المقاصد من "الموافقات".
المحور الثالث:
طبعات الكتاب.
طبع كتاب "الموافقات" عدة طبعات1، هي:
الأولى:
طبع بتونس سنة "1302هـ - 1884م" بمطبعة الدولة التونسية، وبتصحيح ثلاثة من علماء جامعة الزيتونة في ذلك الوقت، هم: الشيخ علي الشنوفي، والشيخ أحمد الورتاني، والشيخ صالح قايجي، وظهر في أربعة أجزاء.
الثانية:
طبع في سنة "1327هـ - 1909م" الجزء الأول منه، ويقع في "189 صفحة" بمدينة "قازان" عاصمة جمهورية التتار بروسيا.
الثالثة:
طبع في مصر سنة "1341هـ - 1922م" في المطبعة السلفية، وأنفق على الطبع عبد الهادي بن محمد منير الدمشقي، وعلق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزء الأول والثاني، وعلق الشيخ محمد حسين مخلوف على الجزء الثالث والرابع.
الرابعة:
طبع في مصر بتعليق وتحقيق الشيخ عبد الله دراز، وظهر في أربعة أجزاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "معجم المطبوعات العربية والمعربة" "1091"، و"ذخائر التراث العربي الإسلامي" "1/ 607".(33/66)
ص -54-…الخامسة:
طبع في مصر بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد عن مطبعة محمد علي صبيح، وظهر في أربعة أجزاء أيضا.
تقويم الطبعات التي وقفت عليها:
من خلال المشوار الطويل الذي صحبته مع "الموافقات"، والنظر في الطبعات التي وقفت عليها، وهي عدا الأولى والثانية من الطبعات المتقدمة؛ أستطيع أن أقرر أن الأصل الذي اعتمده هؤلاء المحققون واحد، وأن الغلط والتحريف والسقط متكرر، اللهم إلا أن يشير المتقدم منهم -وهو الشيخ محمد الخضر أو محمد الحسين- إلى احتمال تحريف أو سقط، فيصححه المتأخر، مثل: الشيخ عبد الله دراز؛ كما تراه في مواطن من طبعتنا هذه، مثل: "3/ 176، 364، 373، 381 و4/ 179 و5/ 68، 302"، أو يتعقبه ويخطئه1؛ كما تراه من طبعتنا هذه في "3/ 237، 523، 566 و4/ 34، 192 و5/ 89، 210، 305"، وفي جميع هذه المواطن يتعقب الشيخ دراز الشيخ مخلوف، وتعقب دراز الشيخ محمد الخضر حسين أيضا، ولكن في مواطن قليلة منها "2/ 21".
أما الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وهو آخر من حقق هذا الكتاب؛ فيفترض أن تكون طبعته أدق الطبعات السابقة وأحسنها، ولكن -يا للأسف- كانت على خلاف ذلك؛ فعلى الرغم من قوله في المقدمة بعد أن ذكر الطبعات السابقة, عدا طبعة قازان: "ولم تخلُ طبعة من هذه الطبعات من تحريف وتصحيف وسقط، رغم ما بُذل في كل واحدة منها من الجهد، ورغم جلالة شأن القائمين عليها، وها أنذا أقدِّم هذه الطبعة الرابعة لمن يعنيهم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دون أن يذكر اسمه، ولكن ينقل عبارته -ويتصرف فيها غالبا- ثم يبين ما فيها من خطأ أو نحوه.(33/67)
ص -55-…يقرءوا هذا الكتاب، ويفيدوا منه، بعد أن بذلت الوسع في مراجعة أصوله وتحقيقها، والله سبحانه المسئول أن ينفع به، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه"1.
قلت: على الرغم من هذا القول؛ إلا أن طبعته لم تمتز بشيء يذكر عن سابقاتها إلا في مواطن يسيرة، أثبت في أصل الكتاب ما احتمله الشيخ مخلوف، وتابعه في نقل كثير من الهوامش -ولا سيما في الجزء الأخير- فأثبتها منه بالحرف، ولعله يزيد عليها كلمات2؛ كما تراه في "5/ 124، 125، 131، 133، 139، 158، 181، 183، 185، 195، 201، 267، 336".
والعجب كل العجب أن أخطاء وقعت في رسم الآيات في مواطن عدة؛ كما تراه في "3/ 421 و4/ 160، 305، 326-ط دراز"، وتتابعت جميع الطبعات عليها.
والحق يقال, إن أجود هذه الطبعات طبعة الشيخ عبد الله دراز، ولا سيما أنه بذل جهدا عظيما فيها، وذلك من خلال شرحه كلام المصنف، وتعقبه له وإحالته الدقيقة3 على كلام المصنف في مباحث فاتت أو ستأتي، وهذه التعليقات تدل على علم واسع، ونظر ثاقب، وقدم راسخة في علم الأصول، ودراسة دقيقة عميقة لكتاب "الموافقات"، وقد لاحظ بعض الباحثين أن "تعليقات الشيخ دراز تمتاز بالشح في الإطراء، وبالمبالغة في المعارضات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقدمة محمد محيي الدين لـ"الموافقات" "1/ 5".
2 وميزنا زياداته بوضعها بين معقوفات؛ فأينما رأيت "ف"، وتبعه "م"، وفيما يسبق ذلك معقوفات؛ فالمعقوفات من زيادات "م"؛ أي: محمد محيي الدين، وأصل الكلام لـ"ف"؛ أي: الشيخ مخلوف.
3 إلا في مواطن قليلة جدا، نبهنا عليها في مواطنها.(33/68)
ص -56-…والاستدراكات"1، ولكنه مع هذا أطرى عليه في غير موضع؛ فها هو يقول عن طريقة الشاطبي: "يتتبع الظنيات في الدلالة، أو في المتن، أو فيهما، والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعا في الموضوع... فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة"2.
وتعليقات الشيخ دراز تمتاز بالاختزال والضغط، وقد أشار هو في مقدمته على "الموافقات" تحت عنوان "سبب توجهي للكتاب وطريقة مزاولتي لخدمته" إلى الدافع عن تحقيقه، ومزايا هذا التحقيق؛ فقال:
"كثيرا ما سمعنا وصية "الشيخ محمد عبده" رحمه الله لطلاب العلم بتناول الكتاب، وكنت إذ ذاك من الحريصين على تنفيذ هذه الوصية؛ فوقف أمامي وأمام غيري صعوبة الحصول على نسخة منه، وبعد اللتيا والتي وفقنا إلى استعارة نسخة بخط مغربي من بعض الطلبة؛ فكان إلغاز الخط مع صعوبة المباحث، وإلحاح صاحب النسخة لاسترجاعها أسبابا تضافرت على الصدّ عن سبيله؛ فأنفذنا وصية القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه…وجاوزه إلى ما تستطيع
فلما يسر الله طبع الكتاب طبعة مصرية3، وأتيحت لي فرصة النظر فيه؛ عالجته أول مرة حتى جئت على آخره، فُرضتُ في هذا السفر الطويل شعابه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص252".
2 "الموافقات" "4/ 323-328-ط دارز، و5/ 405- طبعتنا هذه".
3 يشير الشيخ دراز -رحمه الله- إلى طبعة الشيخ محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف، والحق أن الكتاب طبع طبعتان قبل ذلك.(33/69)
ص -57-…وأوديته، وسبرت خزائنه وأوعيته، وقد زادني الخُبر به في تصديق الخبر، وحمدت السرى ومغبة السهر؛ فملك أعنة نفسي لإعادة النظر فيه بطريق الاستبصار، وامتحان ما يقرره بميزان النظار، والرجوع إلى الموارد التي استقى منها، والتحقق من معانيها التي يصدر عنها، والإفصاح عما دق من إشاراته، والإيضاح لما شق على الذهن في عباراته، بأكمل لفظ موجز، ومد معنى مكتنز، وجلب فرع توقف الفهم عليه، والإشارة لأصل يرمي إليه، ولم أرُم الإكثار في هذه التعليقات وتضخيمها باللم من المصنفات للمناسبات1، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب؛ إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه، والتزمت تحرير الفكر من قيوده وإطلاقه من مجاراة المؤلف في قبول تمهيده، أو الإذعان لاستنتاجه لمقصوده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومع هذا؛ فقد صرح في تعليقاته وشرحه النقل من كثير من الكتب؛ مثل "الإحكام" للآمدي، و"المستصفى" للغزالي, و"ميزان الأصول" لعلاء الدين السمرقندي، و"إرشاد الفحول"، و"منح الجليل"، و"الشرح الصغير" للدردير، و"مختصر ابن الحاجب" الأصولي، و"شروحه"، و"أحكام القرآن" لابن العربي، و"زاد المعاد"، و"تفسير البغوي"، و"السيرة الحلبية"، و"التحرير" لابن الهمام، و"المنهاج" للبيضاوي، و"شرح الطيبة" للنويري، و"إحياء علوم الدين"، و"القاموس المحيط"، و"الاعتصام" للشاطبي، و"الفروق" للقرافي، وغيرها.(33/70)
بالإضافة إلى المراجع التي اعتمد عليها في التخريج، وهي: الكتب الستة، "شرح ابن حجر على البخاري"، "شرح القسطلاني على البخاري"، "مشكاة المصابيح"، "تيسير الوصول"، "شرح العزيزي على الجامع الصغير"، و"شرح المناوي على الجامع الصغير"، "الترغيب والترهيب" للمنذري، "منتقى الأخبار" مع شرحه "نيل الأوطار"، "التلخيص الحبير", "مجمع الزوائد"، "تخريج العراقي لأحاديث الإحياء"، "المجموع الفائق من حديث خير الخلائق" للمناوي، "كنوز الحقائق" للمناوي، "تمييز الطيب من الخبيث"، "تذكرة الموضوعات"، "اللؤلؤ المرصوع"، "رسالة الصاغاني في الموضوعات"، "النهاية" لابن الأثير، "الشفا مع شرحي القاري والشهاب"، و"المواهب اللدنية"، "الموطأ"، كلاهما بشرح الزرقاني، "راموز الحديث" لأحمد ضياء الدين، "الغماز على اللماز"، "مسند الشافعي"، "تفسير الطبري"، "تفسير الآلوسي"، "إعلام الموقعين".(33/71)
ص -58-…وكان هذا سببا في عدم الاحتشام من نقده في بعض الأحيان، والتوقف في قبول رفده الذي لم يرجح في الميزان؛ فقد جعل هذا المسلك حقا على الناظر المتأمل فيما قرر، والطالب للحق فيما أورد وأصدر، وطلب منه أن يقف وقفة المتخيرين لا وقفة المترددين المتحيرين، كما نهى عن الاستشكال قبل الاختبار؛ حتى لا تطرح الفائدة بدون اعتبار، نعم؛ فليس في تحقيق العلم فلان وأين منه فلان؟ ولو كان لضاع كثير من الحق بين الخطأ والنسيان، وهذه ميزة ديننا الإسلام، قبول المحاجة والاختصام، حاشا للرسول, عليه الصلاة والسلام.
وقال تحت عنوان "تخريج أحاديث الكتاب" ما نصه:
"كان من استقراء المؤلف لموارد الشريعة أن أورد زُهاء ألف من الأحاديث النبوية، وفي الغالب لم يسندها إلى راويها، ولم ينسبها لكتب الحديث التي تحويها، بل قلما استوفى حديثا بتمامه، وإنما يذكر منه بقدر غرض الدليل في المقام، وقد يذكر جزءا آخر منه في مقام آخر حسبما يستدعيه الكلام، وقد يشير إلى الحديث إشارة دون أن يذكر منه شيئا؛ يقصد بهذا وذاك الوصول إلى قصده، دون أن يخرج في الإطناب عن حده، ولا تخفى حاجة الناظر في كلامه إلى الوقوف على الحديث بتمامه، ومعرفة منزلته قوة وضعفا؛ ليكون الأول عونا على معرفة الغرض من سياق الحديث, والثاني مساعدا على تقدير قيمة الاستدلال والاطمئنان أو عدمه في هذا المجال؛ فكان هذا حافزا للهمة، إلى القيام بهذه المهمة، على ما فيها من المشقة والعمل المضني في البحث، واستقصاء ساحات دواوين الحديث الفيحاء، مع كثرة مآخذه، وتعدد مراجعه، حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين1 كتابا من كتب الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرناها في آخر الهامش السابق.(33/72)
ص -59-…ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ محمد أمين عبد الرزاق، الذي استمر أشهرا طوالا يعاني مراجعة هذه الأصول للوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه، على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات، ليشار أمام الحديث إلى الكتاب الذي خرجه، وفي الغالب باللفظ الذي أدرجه؛ حتى يسهل الرجوع إلى محلته لمعرفة لفظه ومنزلته؛ فجزاه الله عن خدمته للعلم خير الجزاء"1.
وقال أيضا تحت عنوان "التحريفات والأخطاء الباقية في الطبعة الماضية" ما نصه:
"إنه وإن قام جليلان من أكابر العلماء بتصحيح الكتاب عند طبعه، والعناية بقدر الوسع في رده لأصله؛ فقد كانت كثرة ما وجد من الخطأ والتحريف في النسخة التي حصل عليها طابع الكتاب، مضافة إلى ضيق الوقت الذي جرى فيه التصحيح, كافية لقيام العذر لحضرتهما في بقاء قسم كبير من التحريفات، وسقوط جمل برمتها، أو كلمات لا يستقيم المعنى دون إكمالها، ولا يتم للمؤلف غرض دون إدراجها؛ فكان هذا من دواعي زيادة الأناة وإعمال الفكرة في هذه الناحية؛ حتى يسرها الله، وصار الكتاب في مبناه ومعناه خالصا سائغا للطالبين.
ولست -وإن أطرى الناظرون- بمدع أني بلغت في خدمة الكتاب النهاية، بل -إذا حسنت الظنون- قلت خطوة في البداية؛ فميدان العمل فيه سعة لمن شحذت همته، وبذل النصح شرعة لمن خلصت نيته؛ فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" انتهى كلامه.
قلت: وكلامه السابق يؤكد ما ذكرته آنفا من أن محققي الكتاب لم يحققوه على أصول خطية مضبوطة، وإنما توالوا على طبعه، معتمدين على الطبعات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما سيأتي من ملاحظات حول هذا التخريج.(33/73)
ص -60-…الأولى، ولذا وقع في جميع النسخ تحريف وسقط.
ومن القضايا الملفتة للنظر للمتمعن في طبعات الكتاب:
تحقيق اسم الكتاب:
سمى المصنف كتابه هذا أولا "عنوان التعريف بأسرار التكليف المتعلقة بالشريعة الحنيفة"، ثم حدثت حادثة أُعطي بسببها اسم "الموافقات"، وقد أوردها في مقدمته؛ فقال:
"لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل, ومناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي: رأيتك البارحة في النوم1، وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة2. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني؛ فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء؛ فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق؛ كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رأيت في المنام في أول ليلة بدأت فيها بخدمة هذا الكتاب "أسدا" على "شرفة" عالية، والناس ينظرون إليه، ويخافونه ويهابونه، وينصرفون عنه، وأحسست برباطة جأش، وقوة عزيمة؛ فسرتُ تجاهه، وقربت منه، دون خوف ولا وجل؛ فوجدته ذلولا مطوعا؛ فأولتُها على خدمة هذا الكتاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
2 لاحظ عدم ذكره الإمام مالكا بجانب الإمام أبي حنيفة، وإنما ذكر ابن القاسم.
3 "الموافقات" "1/ 10-11".(33/74)
ص -61-…وأخطأ كحالة؛ فاعتبر "عنوان التعريف بأسرار التكليف" كتابا مستقلا عن "الموافقات"1.
أما المعاصرون ممن طبع الكتاب؛ فزادوا في اسمه؛ فهو في طبعة دراز يحمل اسم "الموافقات في أصول الشريعة"، وفي طبعة كل من الشيخين محمد الخضر ومحمد حسين مخلوف يحمل اسم "الموافقات في أصول الأحكام"، وهذا العنوان هو الذي أثبته أيضا محمد محيي الدين عبد الحميد، ولا أدري من أين لهم هذه الزيادات، مع أنها لم تذكر عند المصنف2 ولا في الأصول الخطية للكتاب، ولا في المصادر والمراجع إلا باسم "الموافقات"؟!
الأصول المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في تحقيقي لكتاب "الموافقات" على نسختين خطيتين، وأربع نسخ مطبوعة، هذا وصفها:
النسخة الأولى:
وهي التي أطلقنا عليها "الأصل"3، وهي من محفوظات دار الكتب الوطنية بتونس، تحت "رقم 3189"، وتقع في جزأين: الأول في "142 ورقة"، ويبدأ بـ"مقاصد المكلف في التكليف"، والثاني في "172 ورقة"، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "29" سطرا، وخطها مغربي مقروء، تبدأ المسائل والفصول بخط كبير أحمر، وهو يختصر لفظة "تعالى" بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "معجم المؤلفين" "1/ 118".
2 مع أنه أحال عليه كثيرا في "الاعتصام"، وكذا سماه بـ"الموافقات" كما في النص المتقدم.
3 وذلك لوقوفي على هذه النسخة في وقت مبكر، وقد صوّرها لي الأخ الفاضل رياض السعيد -حفظه الله- من جامعة أم القرى بمكة المكرمة؛ فله ولقسم المخطوطات في الجامعة مني جزيل الشكر، وأسأل الله تعالى أن يجزيهم جزيل الأجر.(33/75)
ص -62-…اسم الجلالة، وكذا "الصلاة" من "عليه الصلاة والسلام" ويكتب "حينئذ" مختصرة أيضا ويشير إليها بحرف "ح"، جاء في أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما".
وعلى هوامشها تصحيحات، وهي مقابلة على نسخة أخرى، ووضع الناسخ في الهامش عناوين فرعية لفوائد وقعت عند المصنف؛ فمثلا في هامش "ق 4/ ب" تجد بإزاء كلام المصنف في شرح قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كلاما للناسخ، فيه: "اعرف معنى الحفظ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ...}"، هكذا.
وجاء على طرة المخطوط ترجمة للمصنف، وهذا نصها:
"الحمد لله، التعريف بمؤلف هذا الكتاب: هو الإمام، ناصر السنة، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الغرناطي، ويعرف بأبي إسحاق الشاطبي، قال الشيخ بابا في "كفاية المحتاج" في وصفه:
الإمام، الجليل، العلامة، المجتهد، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، المفسر، المحدث، الفقيه، النظار، اللغوي، النحوي، البياني، الثبت, الثقة، الورع، الصالح، السني، البحاث، الحجة، كان من أفراد محققي العلماء الأثبات وأكابر متقني الأئمة الثقات، له قدم راسخة في العلوم والإمامة العظمى في الفنون؛ فقها، وأصولا، وتفسيرا، وحديثا، وعربية وغيرها؛ مع تحر عظيم وتحقيق بالغ، له استنباطات جليلة، وفوائد كثيرة، وقواعد محققة محررة، واقتراحات غزيرة مقررة, وقدم راسخة في الصلاح والورع والتحري والعفة واتباع السنة وتجنب البدع والشبه والانحراف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة، وأوذي بسببها كثيرا كما ذكر في خطبة كتابه في البدع؛ حتى أنشد في ذلك:(33/76)
ص -63-…بُليت يا قوم والبلوى منوعة…بمن أداريه حتى كاد يُرديني
دفع المضرة لا جلبا لمصلحة…فحسبي الله في عقلي وفي ديني
قال شيخ الإسلام ابن مرزوق الحفيد الإمام في وصفه: المحقق، الفقيه، العلامة، الأستاذ, الصالح. ا. هـ.
وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام.
وقال أبو الحسن بن سمعة في حقه: هو نخبة علماء قطرنا، أخذ العربية عن إمام فيها بلا مدافع أبي عبد الله بن الفخار البيري، لازمه حتى مات، وعن الإمام رئيس علوم اللسان الشريف أبي القاسم السبتي.
قلت: هو الشريف الغرناطي، شارح "المقصورة الحازمية"، وأول من شرح "الخزرجية"، وكان ممن يفتخر بلقائه كما في "وفيات ابن قنفد"، قال الشيخ بابا: وأخذ بقية الفنون عن الأئمة:
الشريف أبي عبد الله التلمساني أعلم أهل وقته، والعلامة أبي عبد الله المقري وقطب الدائرة، وشيخ الشيوخ الأستاذ أبي سعيد بن لب، والعلامة المحدث الخطيب بن مرزوق، والمحقق الأصولي أبي علي منصور بن الزواوي، والمؤلف المفسر أبي عبد الله البلنسي، والحاج الخطيب أبي جعفر الشقوري.
وممن استفاد منه: الفقيه الحافظ أبو العباس القباب وغيره، اجتهد وبرع وفاق الأكابر، والتحق بالأئمة الكبار، وبالغ في التحقيق، وتكلم مع الأئمة في المشكلات، وجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته؛ كمسألة مراعاة الخلاف في المذهب، له فيها بحث جليل مع الإمامين: القباب وابن عرفة، ومسألة الدعاء عقب الصلاة بحث فيها معهما ومع القاضي الفشتالي وابن لب، وأبحاث في التصوف مع الإمام ابن عباد وغيرهم.(33/77)
ص -64-…قلت: مسألة مراعاة الخلاف قد أشار إليها في المقدمة الثالثة عشرة من هذا الكتاب، وقد استوفى كلامه وكلام القباب وابن عرفة أبو يحيى بن عاصم في "شرح منظومة" أبيه، وقد ذكر في "المعيار" أسئلته التي وجهها إلى ابن عرفة غير معزوة إليه، وذكر أجوبة ابن عرفة عنها، وقد رأيت منسوبا لابن عاصم أسقاط كثير من تلك الأجوبة؛ لغموض تلك المسائل؛ فراجعها في سفر البيوع.
قال الشيخ بابا: وبالجملة؛ فقدره في العلوم والصلاح فوق ما يذكر،
وتحليته أعلى مما يشهر، ألف تواليف جليلة في غاية النفاسة، مشتملة على تحرير القواعد، وتحقيق مهمات الفوائد، كهذا الكتاب الموسوم بـ"الموافقات" في الأصول.
قال: كتاب جليل القدر، لا نظير له، فيه من تحقيقات القواعد وتقريرات الأصول ما لا يعلمه إلا الله، يدل على بعد سمائه في العلوم كلها، خصوصا الأصول، قال فيه الإمام ابن مرزوق: إنه من أنبل الكتب في سفر ضخم، بل في سفرين، وتأليف نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة.
قلت: اسم كتاب البدع: "الاعتصام"، وفيه كلام طويل الذيل على آية {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}... إلخ، وعلى حديث "ستفترق أمتي", وحديث "البر ما تطمئن إليه نفسك"؛ في غاية النفاسة والغرابة والتحقيق والإحاطة بجميع ما يتوهم أن يقال في ذلك، وشرح فيه الاستحسان والمصالح المرسلة، وميزها عن البدع أتم شرح وتمييز.
قال الشيخ: وله كتاب "المجالس"، شرح فيه آيات وأحاديث من كتاب البيوع من "البخاري" لم يكمل.
قال: وفيه دليل على ما خصه الله تعالى به من التحقيق، و"شرحه" الجليل المشهور على "ألفية ابن مالك" في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف عليها(33/78)
ص -65-…مثله بحثا وتحقيقا، وكتاب "الإفادات والإنشادات"، فيه طُرَف وتحف وملح، وكتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"، وكتاب في أصول النحو، ذكرهما في "شرح الألفية".
قال: ورأيت في موضع آخر أنهما تلفا، ورد على أبي الأصبغ بن سهل صاحب "الإحكام" في مسألة ذكر المؤذن في الأسحار على الصومعة وغير ذلك.
قلت: ذكر في كتاب البدع أن قيام المؤذن بالإنشاد على الصومعة بدعة من ثلاثة وجوه؛ فراجعه.
ثم قال الشيخ: أخذ عنه الأئمة؛ كالقاضي الشهير أبي يحيى بن عاصم، والقاضي أبي بكر بن عاصم، والعلامة أبي جعفر القصار.
قلت: وكان يباحثه أيام تأليف هذا الكتاب ببعض المسائل، ثم يضعها فيه على عادة العظماء حسبما نقله الشيخ بابا في ترجمته عن ابن الأزرق عن شيخه ابن فتوح، ثم قال: وأخذ عنه غيرهم.
توفي يوم الثلاثاء، ثامن شعبان، سنة "790" تسعين وسبعمائة، وكان يرى جواز ضرب الخراج على الناس إذا ضعف بيت المال وعجز عن القيام بمصالح الناس؛ كما وقع للشيخ المالقي في كتاب "الورع"، وقرر ذلك في كتاب "الحوادث" بأبرع تقرير، وقال في أثناء كلامه: ولعلك تقول كما قال القائل لمجيز شرب العصير بعد طبخه حتى صار ربا: أحللتها والله يا عمر, يعني أنه أحل شرب الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ!
قال: فجوابه كما قال عمر, رضي الله تعالى عنه: والله! لا أحل ما حرمه الله، ولا أحرم ما أحله، وإن الحق أحق أن يتبع، ومن يتعد حدود الله؛ فقد ظلم نفسه.(33/79)
ص -66-…وكان يرى توظيف ما يبنى به السور على أهل الموضع؛ استنادا للمصالح المرسلة لضياعه إذا لم يقوموا به، مخالفا في ذلك الأستاذ ابن لب وله في المسألة كلام مستوفى، ولابن الفراء مع سلطان وقته كلام مشهور، ومن فرائده: "الكيل الشرعي المنقول عن شيوخ المذهب، تقر مسألة أخذ حفنة بكلتا اليدين مجتمعتين من يد متوسطة جربته -بل أربع منها بصاع- جربته؛ فصح فهو المعول عليه لابتنائه على أصل تقريبي شرعي، وتدقيق الأمور غير مطلوب لأنه تكلف وتنطع.
قال: ولا يحظى اختلافها اختلافا متباينا كما اختبرته، وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، وينهى عن الكتب المتأخرة؛ ككتب ابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ذكر ذلك في المقدمة الثانية عشرة من هذا الكتاب1.
قال: وقد أوصاني بعض العلماء بالفقه -يعني: القباب- بالتحامي عنها، وأتى بعبارة خشنة، ولكنه محض نصيحة، والتساهل في النقل عن كل كتاب لا يحتمله دين الله، وقد اختبرت ذلك فظهر لي وجهه.
قال الشيخ بابا: والعبارة الخشنة فهي قول القباب: أفسد ابن بشير وتابعاه الفقه" ا. هـ.
وأثبت الناسخ في الهوامش2 فوائد وإيضاحات لكلام المصنف، وأحيانا يتعقبه، ولكن يقع هذا في القليل النادر، انظر من طبعتنا, في الهامش "1/ 434 و2/ 140، 275، 277 و3/ 55، 333، 563".
وفي نهاية المخطوط أثبت الناسخ اسمه وتاريخ النسخ؛ فعليه ما صورته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: تعليقنا على "1/ 148".
2 وبعضها لم يظهر في التصوير.(33/80)
ص -67-…"تم نسخ الثاني من كتاب "الموافقات" بحمد الله سبحانه وتعالى على يد عبده أفقر عبيد الله وأحوجهم إليه، الراجي من مولاه الفضل والمزيد، عبده: محمد بن أحمد أبي عصيدة الفاني, غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ومؤدبيه ولإخوانه وممن حضر في محلته، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
ونَسَخته لشيخنا العالم العلامة المحقق الفقيه الشريف السيد إسماعيل التميمي نفع الله بعلومه المسلمين، آمين.
وكان الفراغ من نسخه بعد عصر يوم الخميس، السادس والعشرين من شهر شعبان المبارك عام تسعة عشر ومائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
النسخة الثانية:
وهي التي أطلقنا عليها "ط"، وهي من محفوظات الخزانة العامة بالرباط1 "رقم375- مخطوطات الأوقاف"، ومن محفوظات الزاوية الناصرية قديما تحت "رقم 89"، وهي تقع في "509" ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "27 سطرا" في الأغلب، وقد تزيد الأسطر؛ فتصل على "31" سطرا، وتنقص إلى "24" سطرا.
وخطها مغربي ومقروء، وهي منسوخة بخطين متغايرين.
جاء على طرة المخطوط ما صورته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصوّرها لي المقرئ عبد الكبير أبو ياسر المغربي جزاه الله خيرا.(33/81)
ص -68-…"كتاب الموافقات
تأليف الشيخ، الإمام، العالم، العلامة، القدوة, الحجة، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه".
وتحته:
"كان هنا بخط المؤلف في الأصل الذي هو -أيضا- بخطه1 ما نصه: "نقلت من كتاب "ألف باء" لأبي الحجاج بن الشيخ, رحمه الله: يُروى أن بعض الصديقين دعا إلى الله -عز وجل- بحقيقة التوحيد، فلم يستجب له، ولا الواحد بعد الواحد؛ فعجب من ذلك؛ فأوحى الله -عز وجل- إليه: تريد أن تستجيب لك العقول؟ قال: نعم. قال: أتحجبني عنهم؟ قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك؟ قال: تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب. قال: فدعا إلى الله من هذه الطريق؛ فاستجاب له الجم الغفير.
وكان أيضا فيه بالخط المذكور: ومن "تاريخ دمشق"2 عن مؤرج قال: قال رجل للمهلب, يعني: ابن أبي صُفرة: بم بلغْتَ ما بلغت؟ قال: بالعلم, قال: قد رأينا من هو أعلم منك لم يبلغ ما بلغْتَ. قال: ذاك علم صفة، وهذا علم وضع مواضعة، وأصبته به فرصة. وأخرى لم أُخْبرك بها: إيثاري فعلا أحمد عليه دون القول به".
وتحته: "للزاوية الناصرية صانها الله تعالى بمنه آمين، وفيه في آخره كراريس بخط الإمام ابن مرزوق, رحمه الله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولعل هذا يفيد أن هذه النسخة مقابلة على نسخة المصنف؛ لأنها مضبوطة وقليلة السقط والتحريف، ولا سيما القسم الأول منها.
2 "17/ ق 448".(33/82)
ص -69-…وبجانب العنوان المذكور: "ألف هذا الكتاب و"الحوادث والبدع"1 وشرح "ألفية ابن مالك" في النحو، وله تصانيف، أبدع في كل ما ألف، مات يوم الثلاثاء ثامن شعبان تسعين وسبعمائة، ودفن بجبانة باب الفخارين تجاه باب جسر قبة الزيتون".
وفي أوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله.
قال الشيخ، الفقيه، الإمام، العالم الأوحد الكبير، قدوة الأئمة المهتدين، وخاتمة المحققين المعتمدين، وناصر السنة إحياء لمعالم الدين، المعدود على تأخر زمانه في أهل السبق، المصنف، العلامة، الخطيب، الصالح، الكامل، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه".
والناسخ مجهول وهو من المشاركين في العلم، ولم يثبت اسمه على الكتاب، ولا تاريخ النسخ، وأقدّر أن يكون في القرن العاشر الهجري، وجاء في آخر هذه النسخة ما نصه:
"تم كتاب "الموافقات" بحمد الله وحسن عونه، اللهم إني أسألك بحق أسمائك كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وبحق أنبيائك2 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم، وبحق أوليائك3 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم؛ أن تتوب علي توبة صادقة، وأن تميتني على الإيمان والإسلام، وأن تشفيني من جميع الأمراض والأسقام، وأن لا تحرمني من زيارة قبر سيدنا ونبينا ومولانا محمد عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو "الاعتصام".
2 هذا من التوسل الممنوع؛ فيجب اجتنابه، والله الهادي.
3 نفسه(33/83)
ص -70-…أفضل الصلاة وأزكى السلام، آمين، آمين، آمين، يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم كثيرا كثيرا إلى يوم الدين".
وهذه النسخة مضبوطة، وأخطاء القسم الأول منها قليلة، وهي مقابلة على نسخة جيدة، لعلها نسخة المصنف، ومن مميزات هذه النسخة أيضا؛ أن الكتاب في طبعاته السابقة كلها لم يُقابل عليها، ولذا انفردت بكلمات وزيادات -قد تصل إلى فقرات- لا يستقيم النص ولا المعنى إلا بها، وتكون قد سقطت من جميع النسخ الأخرى، وفيها وحدها في غير موطن الصواب وفي غيرها الخطأ، انظر, على سبيل المثال: "1/ 75 و2/ 45، 134، 282، 309، 429، 411 و3/ 237، 273، 313، 327، 335، 351، 508، 516 و4/ 178، 386 و5/ 68، 262، 270، 384"، ولا تخلو هوامشها من بعض الفوائد العلمية.
أما المطبوعات الأربعة المعتمدة في التحقيق؛ فهي طبعة الشيخ دراز ورمزت لها بـ"د"، وطبعة الشيخين محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف ورمزتُ للأول "خ" وللثاني "ف"، وطبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ورمزتُ لها بـ"م"، وما نقله الشيخ ماء العينين في "المرافق على الموافق" من كتاب "الشاطبي" ورمزتُ له بـ"ماء"، وقد مضى وصف هذه الطبعات.
عملي في التحقيق:
يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالآتي:
أولا: عملت على ضبط نصه وتقسيمه إلى فقرات توضح معانيه وتعين على فهمه، وجهدت على سلامة النص من السقط والتحريف والتصحيف،(33/84)
ص -71-…وكان ذلك من خلال مقابلة النسخ المطبوعة على بعضها بعضا1، ثم قابلتها على النسختين الخطيتين المتقدم وصفهما، وأثبت الفروق في الهوامش، وأشرت إلى السقط الواقع في بعضها، وأثبت زيادات نسخة "ط" الخطية على سائر النسخ بين المعقوفات، وأهملت التنصيص على ذلك؛ فليكن ذلك على بالك.
ثانيا:
ومما ساعد على ذلك أني جهدت في توثيق النصوص، وبيان المصادر التي نقل منها المصنف، واستطعت بحمد الله أن أظفر بجم غفير من النصوص, وبعشرات من الكتب التي ينقل عنها المصنف وعملت على مقابلة ما عند المصنف بما في هذه المراجع، وأثبت الفروق في الهوامش أيضا، ووجدت أن المصنف غالبا يتصرف في النقل باختصار العبارة، وأثبت رحمه الله قدرة فائقة ومتميزة في ذلك، انظر, على سبيل المثال: "5/ 111" مع تعليقي.
ثالثا:
عملتُ على تخريج الأحاديث والآثار وأقوال السلف والأئمة العلماء من مصادرها، وأزعم أني قمت بذلك على وجه لم أُسبق إليه ولله الحمد، ذلك أني أشرت في الهوامش إلى عشرات النصوص التي أومأ إليها المصنِّف إيماء، وذكر معاني لا صلة بألفاظها إلى ألفاظ هذه الأحاديث والآثار؛ فذكرت نصوصها في الهامش2، وخرجتها تخريجا علميا، مع بيان الحكم عليها وفقا للمقرر في علم المصطلح، وناقلا أحكام الحفاظ والعلماء، وكانت خطتي في تخريج الأحاديث على النحو الآتي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأهملت الأخطاء الطبعية الظاهرة، واعتبرت جدول التصويبات المثبت في آخر الكتاب عند المقابلة.
2 انظر, على سبيل المثال: "2/ 54، 55، 96، 87، 92، 121، 369، 445، 503 و3/ 39، 70، 71، 81-84، 190، 191، 470، 471 و5/ 328".(33/85)
ص -72-…أولا:
لم أسهب في تخريج أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما؛ إلا لضرورة أو فائدة.
ثانيا:
اعتنيت بتخريج الأحاديث والآثار التي أومأ وأشار إليها المصنف.
ثالثا:
بيّنتُ درجة الحديث والأثر من حيث الصحة والحسن والضعف.
رابعا:
اعتنيت بتخريج اللفظ الذي أورده المصنف, انظر, على سبيل المثال: "2/ 41-42، 115، 368، 451 و3/ 335 و4/ 310، 471 و5/ 258-259، 295".
خامسا:
حاولت الوقوف على مصدر المصنف من النقل، وتمييز حد الصحيح من الضعيف الوارد في نقله.
سادسا:
إذا كان المصنف ينقل حديثا ضعيفا؛ كنتُ أُبيِّنُ ذلك، ثم أورد ما يغني عنه انظر, على سبيل المثال: "2/ 225-226، 398 و4/ 99، 399 و5/ 156-157".
ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية:
زعم المصنف في مقدمة الكتاب "ص11" أنه سيورد في الكتاب "من أحاديثه الصحاح والحسان"، والحق أنه أورد فيه كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، ووجدت أن بضاعة المصنف الحديثية ضعيفة، لا يعول عليها ولا أقول هذا جزافا، وإنما بعد علم وتحر، وسبب ذلك أنه يعتمد على ما اشتهر من أحاديث في كتب الأصوليين، وينقلها دون النظر في حكم الحفاظ عليها من ضعف أو بطلان، وتجد ذلك في عدد غير قليل من الأحاديث في هذا الكتاب، مثل: "كن عبد الله المقتول..." في "2/ 172"،(33/86)
ص -73-…و"أصحابي كالنجوم..." في "4/ 452"، وتعقب عائشة وابن عباس أبا هريرة في "3/ 192"، و"تمكث إحداكن شطر دهرها" في "2/ 152"، و"ما أجهلك بلغة قومك" في "4/ 30"، و"فلأولى عصبة ذكر" في "4/ 385"، وحديث معاذ: "بم تحكم..." في "4/ 298"، وحديث: "حكمي على الجماعة..." في "3/ 241".
واعتمد في كثير من الأحايين على كتب الوعظ والرقائق التي لا تعتني بصحة الأحاديث، ونقل منها نصوصا على أنها أحاديث. انظر مثلا: "1/ 44، 81، 88، 347، 352 و2/ 191، 425 و3/ 65-66، 148، 149، 403".
واعتمد أيضا على نقل أحاديث من "الشفا" للقاضي عياض، وقد عاب المحدّثون عليه تساهله في الأحاديث1، ووقع في أغلاط بسبب ذلك، انظر منها: "3/ 69، 92"
ووقعت له أوهام أخر في الأحاديث والآثار "1/ 199، 265 و3/ 41، 194، 342، 406 و4/ 117، 120".
والعجب أن المصنف لم يعتن بالحكم على الحديث إلا في النادر، وإن فعل؛ فإنما يتابع غيره؛ كما تراه مثلا: "3/ 472 و4/ 235 و5/ 46، 288"، بل قد يورد الحديث في موطن ويسكت عنه، ثم يذكر حكما لحافظ عليه بالضعف في موطن آخر. انظر, على سبيل المثال: "1/ 98 و5/ 147".
وقد يعلق الحكم على صحته أو صحة الأثر؛ كما تراه -مثلا- في:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "السير" "20/ 216" للذهبي.(33/87)
ص -74-…"2/ 227 و3/ 257"، بل قد ينقل الحديث من كتاب أو من ديوان من دواوين السنة ويكون مؤلفه قد ضعفه ولا يلقي بالا لهذا التضعيف؛ كما تراه في "2/ 115 و3/ 342"، وقد يعزو لديوان من دواوين السنة المشهورة، وينقل منها بالواسطة ويقع له بسبب ذلك وهم؛ كما تراه في "3/ 406".
ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز1:
ذكر الشيخ عبد الله دراز -رحمه الله- عند تخريج أحاديث الكتاب أن الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق2 قد ساعده في هذا العمل، وقال:
"ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق".
وقال قبل ذلك: "حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين كتابا من كتب الحديث".
وذكر أن عملهما "استمر أشهرا طوالا"، وأنهما حرصا على الوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه؛ على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات3.
قلت: لي على التخريج المذكور ملاحظات كثيرة، أُشير إلى قسم منها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يعتن غيره بالتخريج، ولذا خصصته بالذكر.
2 لعله الشيخ المحدث محمد عبد الرزاق حمزة، المدرس في الحرم المكي، وهو من علماء مصر، سافر إلى مكة سنة "1344هـ"، وقبل هذا الوقت بقليل كان الشيخ دراز مشغولا بكتاب "الموافقات".
انظر ترجمته في: "مشاهير علماء نجد" "514"، و"الأعلام" "6/ 203".
3 مقدمة الشيخ دراز على "الموافقات" "1/ 14"، ومضى كلامه "ص62-63".(33/88)
ص -75-…أولا:
تخريج الأحاديث المذكورة كانت بواسطة الكتب المتأخرة، ولم يقفوا على أغلب الأحاديث من مصادرها الأصلية؛ فتراهم مثلا يقولون في "2/ 258-ط دراز":
"أخرجه في "كنوز الحقائق" عن ابن أبي عاصم"، وفي حديث آخر: "رواه الشيخان، ملا علي في "شرحه على الشفا"، وفي ثالث في الجزء والصفحة نفسها: "رواه في "المشكاة" عن مسلم"، وهكذا أغلب تخريجاتهم.
ثانيا:
قد ينظرون في المصادر الأصلية، ولكن لا يتتبعون الحديث بألفاظه في مواطنه كلها؛ فينفون وجود لفظة في "صحيح البخاري" مثلا، وهي فيه؛ كما تراه في "2/ 259-ط دراز"نفوا وجود لفظة "قط" في حديث من "صحيح البخاري"، وهي فيه برقم "3294"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، انظر مثلا: "2/ 447- هذه الطبعة".
ثالثا:
يعزون الحديث إلى مصادر غير مشهورة ويكون الحديث في "الصحيحين" أو في أحدهما؛ كما في "2/ 265-ط دراز" عند قول المصنف: "وأن عمارا تقتله الفئة الباغية"، قالوا في الهامش: "جزء من حديث أخرجه أبو بكر البرقاني والإسماعيلي".
قلت: وهو في "الصحيحين" وهو متواتر، انظره "2/ 453- طبعتنا هذه"، وفي الصفحة نفسها يقول المصنف: "وأخبر بملك معاوية ووصاه"، قالوا: "روى ابن عساكر بإسناد ضعيف..."، وهذا قصور؛ فروى الحديث -وهو صحيح- جمع ممن هم أعلى من ابن عساكر؛ كالإمام أحمد وغيره، وعبارة المصنف مأخوذة من "الشفا" "1/ 656"، وانظر تعليقنا عليه في: "2/ 452-453"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، ولا سيما في أحاديث "الصحيحين"؛ فما بالك في غيرهما؟(33/89)
ص -76-…فمثلا في "4/ 56" عزيا الحديث لأبي داود وهو ليس فيه، وإنما في "صحيح مسلم"، وفي "4/ 99- هامش3" عزياه لمسلم وهو في "البخاري" -ومثل هذا كثير- وفي "4/ 54" عزيا حديثين لمسلم عن جرير بن عبد الله، وإنما هو عن جابر بن عبد الله، وفي "4/ 72" عزياه للترمذي وهو في "مسلم".
رابعا:
والعجب منهما أنهما إذ نصا على ضعف أحاديث ثابتة، كما وقع لهما في "4/ 39-ط دراز"، بينما سكتا عن عشرات الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
خامسا:
أهملا تخريج الآثار إلا النادر منها.
سادسا:
أهملا تخريج الأحاديث التي أشار إليها المصنف، وفاتهما التنبيه على العشرات منها، وصرحا بأنهما لم يظفرا ببعضها، انظر مثلا: "4/ 444".
والحاصل أن ميزة طبعة الشيخ دراز -رحمه الله- في تعليقاته الأصولية عليها، أما الحديثية؛ فليس لها كبير أهمية، ولا يوجد فيها نفس مشتغل بعلم الحديث، وقد يعذر بأن كثيرا من كتب الحديث لم تكن قد طبعت آنذاك، والمطبوع منها لم يخدم بالفهارس العلمية، والكشافات التحليلية؛ كما هو في يومنا هذا.
والخلاصة... أن الناظر في هذا الكتاب ينبغي له؛ بل يجب عليه مراجعة الأحاديث المذكورة فيه، ومعرفة درجتها من الصحة والضعف؛ فإن المصنف والمعلق فيما يظهر لي لم يكن لهما -رغم علو مقامهما في الرأي- كبير حظ من علم الحديث، وهذه آفة الأصوليين، بل داؤهم العضال، وأرجو أن أكون بطبعتي هذه للكتاب قد ملأت فراغا، وسددتُ نقصا.(33/90)
ص -77-…ومن عملي في تحقيق الكتاب أيضا:
رابعا:
قمت بتجميع تعليقات وشروح محققي الكتاب، ووضعتها في الهامش، ورمزت لتعليقات الشيخ دراز بـ"د" وتعليقات الشيخ محمد محيي الدين بـ"م", وتعليقات الشيخ محمد الخضر حسين بـ"خ", وتعليقات الشيخ محمد حسين مخلوف بـ "ف"، وتعليقات الشيخ الشنقيطي بـ"ماء".
وكنتُ أضيف عليها أحيانا، وميزت إضافاتي غالبا بـ"قلت"، وكنت أتعقب بعض ما وقع في هذه التعليقات والشروح، انظر -مثلا- تعقبي لـ ف" في: "5/ 394"، ولـ"خ" في: "1/ 271 و2/ 159، 346"، ولـ"د" في: "2/ 335، 419 و3/ 199-200، 501-502 و4/ 104، 105، 129، 377 و5/ 175، 208"، وكذا تعقبته والمصنف في مواطن.
خامسا:
تأويل الصفات، وقع المؤلف في هذا الكتاب والمعلق عليه1 في تأويل كثير من صفات الله تعالى؛ فبينت بإسهاب أن هذا مخالف لمنهج السلف الصالح في هذا الباب, انظر على سبيل المثال: "2/ 195، 257 و3/ 319، 323 و4/ 10، 11 "تعقب المعلق"، و137 "تعقب المعلق"، و5/ 144، 202-203".
سادسا:
ذكرتُ في الهوامش ما وقفت عليه من مواطن بحث شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم للمسائل التي عند المصنف2، ونقلت كلامهما -أو كلام أحدهما- في بعض الأحايين، إن كانت فيه فائدة زائدة, أو فيه توجيه وبحث يخالف ما عند المصنف3، ووجدتُ أنهما على الرغم من بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أعني: الشيخ محمد عبد الله دراز, رحمه الله تعالى.
2 أشار علي بهذا الشيخ بكر أبو زيد, حفظه الله ورعاه.(33/91)
3 الخلاف بين ابن تيمية ومدرسته من جهة والشاطبي من جهة أخرى يمكن في اعتماد ابن تيمية على النص والتأكد من صحته على وجه رئيس، وتوضيح ابن تيمية لمنهج السلف في العقيدة، والاستغراق في نصرته والذب عنه، بينما هو غير ظاهر عند الشاطبي إلا في المسائل الفقهية ومن الناحية الأصولية، وموقف ابن تيمية من التصوف وأعلام الصوفية والمسائل المطروحة في هذا الباب أدق من موقف الشاطبي؛ إذ عنده تحسين ظن زائد بهؤلاء كأبي يزيد البسطامي وغيره، ونجد تباينا بينهما في الكرامات، انظر: "2/ 440، 443" والتعليق عليه من "الموافقات".(33/92)
ص -78-…مواطنهما؛ فإنهما يلتقيان في كثير من المباحث، وتفطن لهذا شيخنا الألباني -حفظه الله- فقال في "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 37-38" بعد أن أورد كلاما لابن تيمية وآخر للشاطبي:
"قلت: هذا كله من كلام الإمام الشاطبي، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- ومن الطرائف أن هذا مشرقي وذاك مغربي، جمع بينهما -على بُعد الدار- المنهج العلمي الصحيح".
مسألة:
وهنا مسألة... لا بد من الإشارة إليها، وهي: هل اجتمع الشاطبي مع شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم، وهل نظر في كتبهما؟!
والجواب عن هذا السؤال: إننا نستطيع أن نقرر بكل طمأنينة أن ابن تيمية وابن القيم لم يرد لهما ذكر ألبتة في جميع كتب الشاطبي المطبوعة، ولم أظفر بعد شدة بحث، وكثرة استقصاء إلى ما يمكننا أن نجعل هذا اللقاء ثابتا، أو في حكم الواقع، ولم أعثر للشاطبي في كتابه هذا على ذكر للحنابلة، وقد صرح فيه "3/ 131" أن كتب الحنفية والشافعية كالمعدومة الوجود في زمانهم؛ فكيف بكتب الحنابلة؟
لا شك أنه ظفر ببعضها، ولكن بعد كتابته "الموافقات"؛ فها هو يصرح في "الاعتصام" "1/ 462-ط ابن عفان" -وقد أحال فيه كثيرا على(33/93)
ص -79-…"الموافقات" -بقوله: "قال بعض الحنابلة..."، ونقل نصا طويلا جهدتُ في البحث عنه؛ فلم أعثر على لفظه في كتب ابن تيمية وابن القيم1، وعلى فرض صحة العثور عليه في كتبهما؛ فلا يلزم أنه التقى بهما أو عثر على كتبهما؛ فلا يبعد أن يكون أخذه بواسطة بعض من له رحلة من المغاربة إلى المشرق، أو بواسطة بعض شيوخه.
وبهذه المناسبة أذكر أن بعض شيوخ الشاطبي قد التقى بابن القيم؛ فها هو أبو عبد الله المقري يحكي عن نفسه أنه "لقي شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية"2.
من خلال ما تقدم أستبعد صحة ما ذهب إليه سعد محمد الشناوي في كتابه "مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي" "1/ 150" عند كلامه على تأثر الشاطبي بمن سبقوه، قال ما نصه:
"وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبد السلام، وابن تيمية!! وابن القيم!! والقرافي، ولهذا نجد كتابه مزيجا وتحليلا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة...".
وسألتُ شيخنا الألباني -حفظه الله- عن هذه المسألة؛ فأجاب بأنه لم يثبت عنده ولم يطلع على ما يسمح بالجزم أو باحتمال أن تكون اللقيا قد تمت بين الشاطبي وابن تيمية أو ابن القيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع نحوه في "المسودة" "316"، و"إعلام الموقعين" "1/ 24-ط دار الحديث"، و"العدة" "4/ 1059-1060" للقاضي أبي يعلى. ثم ظفرت به في "إقامة الدليل على بطلان التحليل" بواسطة ما ذكره العلامة بكر أبو زيد في التقديم.
2 انظر: "نفح الطيب" "3/ 254"، و"نيل الابتهاج" "250"، وبحث هذا الموضوع الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص269-270".(33/94)
ص -80-…ومن عملي في التحقيق أيضا:
سابعا: أنني نشطت في بحث كثير من المسائل المطروقة في الكتاب، وأثبت أماكن بحثها من كثير من أمهات كتب الأصول أو الفقه، وربما نقلت بعض الاستطرادات أو التوضيحات أو الاستدراكات على كلام المصنف فيها.
ثامنا: قرأتُ ما كُتب عن الشاطبي ونظريته "المقاصد"، والأبحاث التي اعتنت بالنقل عنه، أو ناقشت كلامه، وأثبت في الهوامش النافع واللازم منها، وأضفت ذلك إلى قائليها وذلك من بركة العلم وشكره1.
تاسعا: أشرتُ إلى كلام الشاطبي في كتبه الأخرى، فيما يخص المسائل المبحوثة هنا، وحاولت أن أنقل منه ما يلزم في توضيح مبهم أو حل مشكل، وحاولت إثبات المواطن التي أحال عليها في كتابه هذا ليسهل النظر فيه؛ فإن "آخره يشرح أوله، وأوله آخره"، ووجدته أثبت شيئا هنا في "5/ 666" وتراجع عنه في "الاعتصام" "2/ 472-ط ابن عفان"، وكذا أثبت هنا مسألة "3/ 528" وتراجع عنها أو قرر خلافها في "5/ 199".
عاشرا: أثبت الجزء والصفحة من المصادر التي صرح الشراح بالنقل منها، ووضعته بين معقوفتين [ ]، وصوبت الأخطاء الطبعية الواقعة في عباراتهم، ولعلي خرَّجتُ أيضا -في بعض الأحايين2- الأحاديث والآثار التي يوردونها على سبيل الاستشهاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسند القاضي عياض في "الإلماع" "ص228-229"، ومحمد بن القاضي عياض في "تعريفه بوالده" "ص82" إلى أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "مِنْ شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذُكر لك؛ قلت: خفي علي كذا وكذا، ولم يكن لي به علم حتى أفادني منه فلان كذا وكذا؛ فهذا شكر العلم".
2 ولا سيما في المجلد الثالث والرابع والخامس من طبعتنا هذه.(33/95)
ص -81-…حادي عشر: وأخيرا... صنعت فهارس علمية تحليلية في مجلد خاص يحتوي على فهرس للآيات، وللأحاديث، وللآثار، وللأعلام، وللأشعار، وللفرق والطوائف والجماعات والمذاهب والملل، ولعناوين الكتب الواردة في نص كتاب الشاطبي هذا، وللفوائد والمسائل العلمية ورتبتها على الأبواب والمواضيع.
والمرجو من الله تعالى أن أكون قد قدَّمت خطوة في استفادة طلبة العلم من هذا الكتاب، ومن الله أستمد العون والتوفيق والسداد, وأرجو الأجر والثواب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب
أبو عبيدة
مشهور بن حسن آل سلمان
ضحى يوم الخميس, العشرين من محرم
سنة "1417هـ"
الأردن - عمان(33/96)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الأول
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(34/1)
ص -1-…تقديم:
بقلم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبي زيد
الحمد لله القائل في كتابه المبين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فإن "معرفة الحكم والغايات والأسرار التشريعية الثابتة العامة الشاملة، المقصودة في جنس التشريع العام لتحقيق مصالح العباد في الدارين التي وُضعت الشريعة من أجلها" هي من جهة التصديق -الماصدق- حقيقة: "علم مقاصد الشريعة" من جميع جهات مقاصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء، وللإفهام بها، وللتكليف بها، ولدخول المكلف تحت حكمها في دائرة حفظ الضروريات -ويقال: الكليات- الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض, والمال، المبني حفظها وجودًا في جلب المصالح وتكثيرها؛ فكل طاعة ترجع إليها، وعدمًا في درء المفاسد وتقليلها؛ فكل مخالفة خارجة عنها، وذاك في أصنافها الثلاثة: "الضروريات"، و"الحاجيات"، و"التحسينيات"؛ فيكون في كل كلية ستة جوانب: ثلاثة وجودية، وثلاثة عدمية, الجميع ثلاثون مقصدًا، عشرة ضرورية، وعشرة حاجية، وعشرة تحسينية، وأجمع آية لها في(34/2)
ص -2-…كتاب الله -تعالى- قوله, سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، كما أشار إلى ذلك العلامة العز ابن عبد السلام في "قواعده" رحمه الله.
فهذا العلم الشريف: "علم مقاصد الشريعة" يصح أن نلقبه باسم: "علم اقتصاد الشريعة"؛ لأنه يُستثمر فيما وُضع له: معرفة غايات جنس الأحكام، وحكمها، ومقاصدها، ووظيفتها، وما تهدي إليه، وتدل عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدارين، وذلك في جنس التشريع العام.
وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل نوع من أنواع علوم الشريعة، مثل: "العبادات"، و"المعاملات"، و"الأنكحة"، وغيرها.
وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل جزئية من جزئيات الشريعة، وأحكامها التفصيلية.
وكذلك الحال في: "علم الاقتصاد" يُستثمر للفروع التجارية وردا وإصدارا.
وهذا العلم المتميز، هو أحد رُكْني: "علم أصول الفقه" الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل، وركنه الآخر: "علم لسان العرب".
وهذا العلم برُكْنَيْه قد وضع له الأصوليون كتبا تخصه، عُرفت باسمه. وهي بكليتها قد عُنيت عناية فائقة بركنه الأول: "علم لسان العرب"، وكثير منها جمع بين الركنين: "اللسان، والمقاصد".
فمن هؤلاء في المشرق: الجويني "ت سنة 478" في: "البرهان في(34/3)
ص -3-…أصول الفقه"، والغزالي "ت سنة 505" في: "المستصفى" و"شفاء الغليل"؛ فإنه تناول الكليات الخمس، وجعلها أصلا للمقاصد الشرعية، والرازي "ت سنة 606" في: "المحصول"، والآمدي "ت سنة 631" في: "الإحكام"، وغيرهم.
وما مباحث الأصوليين في: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"سد الذرائع"، و"رفع الحرج"، و"مراعاة مقاصد المكلفين"، و"مسالك العلة في القياس"، وما في كل واحدة منها من كتب مفردة إلا ميادين فسيحة لترقية هذا العلم: "علم مقاصد الشريعة".
بل إن من المشارقة من أفرد تأصيل: "المقاصد" في كتاب؛ منهم: العز ابن عبد السلام "ت سنة 660" في: "القواعد الصغرى" وهي: "الفوائد في اختصار المقاصد"، وبَسَطَها في: "القواعد الكبرى"، وذكر له مترجموه أيضا كتابا باسم: "المصالح والمفاسد"، ومنهم الشيخ طاهر الجزائري ثم الدمشقي "ت سنة 1338" في كتابه: "مقاصد الشرع"، وكان للنجم الطوفي الحنبلي "ت سنة 716" عناية فائقة في اعتبار المصالح، وكانت رسالته: "المصلحة المرسلة" محل عناية العلماء بين النقد والاعتبار.
واستظهر آخرون مقاصد التشريع، وعنوا بالكشف عن حكمة الشريعة وغاياتها، وأسرارها، وعللها في جنس التشريع العام، أو في نوعه، أو في جزئية منه، بمؤلفات مستقلة منهم:
الحكيم الترمذي "ت سنة 320" في عدد من كتبه، وأبو منصور الماتريدي "ت سنة 333" في كتابه: "مآخذ الشرائع"، والقفال الشاشي الشافعي "ت سنة 365" في: "محاسن الشريعة"، والعامري "ت سنة 381" في: "الإعلام بمناقب الإسلام"، والراغب "ت سنة 502" في: "الذريعة إلى(34/4)
ص -4-…مكارم الشريعة"، ومحمد بن عبد الرحمن البخاري "ت سنة 546" في: "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" في آخرين، رحم الله الجميع.
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية "ت سنة 728" رحمه الله تعالى, عناية بالغة، ولهج شديد بالكشف والبيان عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها، ولعله أول من أبرز المزج بين بيان الحكم التكليفي ومقصد الشارع، وأن الشريعة تجري أحكامها مطردة على نسق واحد وفق القياس؛ فلا تجمع بين المتضادين، ولا تفرق بين المتماثلين، وتلاه تلاميذ مدرسته الأثرية، وفي مقدمتهم العلامة صاحب التصانيف المفيدة: ابن قيم الجوزية "ت سنة 751" رحمه الله تعالى؛ فقد أبدى في كتبه وأعاد.
وكان من لفتات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عدم التسليم بحصر الكليات في الخمس المذكورة كما في: "الفتاوى" "32/ 234"، وقفاه ابن فرحون المالكي "ت سنة 799" في: "تبصرة الحكام" "2/ 105".
وبين يدينا الآن في "المقاصد" عالم وكتاب؛ ذلكم هو الإمام المجدد، العلامة المصلح، الزاهد، الورع، المحتسب، الناصر للسنة، القامع للبدعة: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي نسبا، المالكي مذهبا، الأثري مشربا، الشاطبي، ثم الغرناطي مولدا نحو "سنة 730"، ووفاة "سنة 790"، نجم لمع من أندلس الإسلام مولدا، ونشأة، ووفاة، وشيوخا، منهم:
ابن الفخار، والمقري الجد، وابن لُب، وابن مرزوق، ومنصور الزواوي, وابن الزيات، والشقوري، والبلنسي، وكان معاصرا لأعلام ثلاثة: لسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون، وابن القباب.
وأبو إسحاق هو أستاذ غرناطة في جامعها الأعظم: في القراءات، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والنحو, ولسان العرب.(34/5)
ص -5-…وكان له تلاميذ مشاهير؛ منهم: القاضيان الأخوان: أبو يحيى ابن عاصم، وأبو بكر ابن عاصم، وأبو جعفر ابن الفخار، والبياني، والمجاري، والقصار, وابن فتوح، وغيرهم.
وأبو إسحاق: هو مؤلف غرناطة الإبداعي في كُتبه: "الموافقات" في أصول الشريعة ومقاصدها، و"الاعتصام" في السنة وقمع البدعة، و"الإفادات والإنشادات"، وجمع له بعض المعاصرين: "الفتاوى" مستخرجة من: "المعيار" للونشريسي, وهذه الأربعة مطبوعة، وله "المجالس في شرح البيوع من صحيح البخاري"، و"شرح الخلاصة لابن مالك"، وهو قيد الطبع في جامعة أم القُرى، و"عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق" وهو في فقه لسان العرب، يقال: غَسَلهُ، ويقال: ضاع في حياته، كما ضاع كتابه الآخر: "أصول النحو".
وهو -رحمة الله عليه- في مؤلفاته هذه بعيد عن طرق التأليف التقليدية، والعمل المكرور، وإنما يفترعها افتراعا، ويُبدع فيها إبداعا؛ لأنه قد اتخذ القرآن والسنة له نبراسا وإماما، وحذق "لسان العرب"؛ لغة، ونحوا، وفقها، واشتقاقا؛ بما لم يدرك شأوه من لحقه، ولم ينسج على منواله ومسلكه؛ فلا جرم كان نجما لامعا، أضاء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب؛ فلفت الأنظار، وعكفت على كتبه الأبصار، واستضاءت بأنوارها بصائر أهل الأمصار.
وهذا الإمام الفذ -رحمة الله عليه- قد اشتهر في قطره، ثم ذاع صيته في المشارق والمغارب؛ لمناداته بالسنة، والاعتصام بها، ورفضه الجمود والتقليد، وإنكاره التصوف والبدع المضلة، ودعوته الملحة إلى الدليل، وله في ذلك منازلات ومراسلات مع شيوخ عصره، ابن عرفة، والقباب, وابن عباد الرَّنْدي, إلى آخرين سماهم صاحب: "المعيار" واحتفظ بتدوين هذه المراسلات؛ فجزاه الله خيرا.(34/6)
ص -6-…وقد حصل له لقاء ذلك ثارات، وخصوم، وخصومات، وبخاصة من شيخه ابن لُبَّ، ورُمِيَ بدعاوى هو منها بريء، ولبس عليه بها المغرضون.
ومن هذه التهم الباطلة التي نفاها في صدر كتابه: "الاعتصام":
1- نسب إليه: أن الدعاء لا ينفع، وهو إنما ينكر الدعاء الجماعي.
2- ورُمِيَ بالتشيع، والنيل من الصحابة -رضي الله عنهم- وهو إنما لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة.
3- ورُمِيَ بالغلو, وهو إنما كان يرفض الفتوى بالأقوال الضعيفة.
4- واتهم بمعاداة الأولياء، وهو إنما ينكر على المتفقرة أو المتصوفة غلوَّهم ومخالفتهم للسنة.
5- ورُمِيَ بالخروج عن جماعة المسلمين، وهو إنما يدعو إلى طريق الفرقة الناجية.
هذه إلماعة معتصرة عن هذا الإمام في حياته العلمية والعملية، وبتأملها يظهر فيها جَليا نزعته التجديدية، ودعوته الإصلاحية -شأن كل مجدد ومصلح- وهي تشبه إلى حد كبير دعوة التجديد التي قام بها في المشرق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع تباعد الدار، وأن ولادة هذا الإمام بعد وفاة شيخ الإسلام، وكل منهما لم يرحل قط إلى قطر الآخر، لكني وجدت أثارة من علم تدل على أن لشيخ الإسلام ابن تيمية صوتا مسموعا في غرناطة، ذلك أن الإمام الشاطبي قد نقل عنه في: "الاعتصام" "1/ 356" قوله:
"قال بعض الحنابلة..." وهو بنصه في كتاب ابن تيمية: "إقامة الدليل على بطلان التحليل" المطبوع ضمن: "الفتاوى الكبرى" "3/ 370".
وربما أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- لَمْ يُسَمِّه، ولَمْ يَسْتَرْسِلْ بِذِكْرِهِ(34/7)
ص -7-…والنَّقْلِ عنه؛ اتِّقَاءً لِمَا وَقَعَ في الخُلُوفِ مِنْ عَدَاوَتِهِ، والنفرة منه...
ومن أعظم وجوه التشابه بينهما: ربط الترجيح والاختيار في مسائل الخلاف بالنظر إلى مقاصد الشريعة، وتنقيحها، وتحقيقها، والتدقيق فيها، وهذه من أبرز السمات التي جعلت كتب هذين الإمامين تحتل مكان الصدارة عند أهل العلم.
وإذا كانت هذه الالتفاتة النفيسة ملحوظة في كتابات الشاطبي، فإن محط الرحل فيها هو كتابه الفريد الفارد: "الموافقات"، وقد حوى بين دفتيه بعد خطبته خمسة أقسام:
- القسم الأول: وفيه ثلاث عشرة مقدمة.
- القسم الثاني: في الأحكام: أحكام التكليف الخمسة: الواجب، المستحب، المحرم، المكروه، المباح، وأحكام الوضع الخمسة: السبب، الشرط، المانع، الصحة والفساد، والعزيمة والرخصة.
- القسم الثالث: في مقاصد الشريعة.
- القسم الرابع: في الأدلة، وقصر بحثه فيها على الكتاب والسنة.
- القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد.
وإذا نظرنا إلى هذه الأقسام, وجدناها في -الجملة- عمدة مباحث الأصوليين في: "كتب أصول الفقه"، وأن من مباحثهم: "مقاصد الشريعة"، وأنها قد أفردت بالتأليف من عدد من علماء المشرق.
فلماذا إذًا اشتهر هذا الإمام بها واشتهرت به، ولا يكاد تُعرف إلا من طريقه، وشغف الناس بكتابه هذا: "الموافقات" نظما واختصارا، وصار لأهل عصرنا من النصف الثاني من القرن الرابع عشر فما بعد، توجه عظيم إلى(34/8)
ص -8-…دراسة: "المقاصد" والتأليف فيها استقلالا، وبحثا، ومحاضرة بلغت نحو الأربعين، من أهمها كتاب ابن عاشور وكتاب علال الفاسي؛ حتى قُررت مادة مستقلة في الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل هذه الجهود من خلال "المقاصد عند الشاطبي"؟؟
والجواب من وجوه:
1- أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- أبرز هذا العلم، ولهج به، وأوسعه بحثا، وتحليلا، وتحقيقا، وتفصيلا؛ فعقد آصرة النسب بين الأصول والقواعد، ووسع لائحة المقاصد.
2- في النسج والصياغة فَارَقَ عامَّةَ مَنْ سبقَهُ؛ إذ ساقه بنقاوة اللسان العربي متخليا عن الاصطلاحات الكلامية، والأدوات المنطقية، وكيف لا يكون كذلك وديدنه في كتابه على أن هذه الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، ودعوته قائمة على ساقها بالتزام اللسان العربي وحِذْقه؟!
3- بناه إعدادا على الاستقراء الكلي للأدلة من الكتاب والسنة, بجمع نصوص الوحدة الموضوعية منهما، وضميمة كلام السلف إليهما، وشهود العقل لها.
4- أرْدَفَ هذا باستيلاد أبحاث بسط القول فيها، بما يعز نظيره، ومن هذه الأبحاث التي افترعها، وانفتق ثاقب فكره عنها:
أ- المصلحة وضوابطها.
ب- القصد في الأفعال وسوء استعمال الحق.
ج- النوايا بين الحكم والقصد.
د- المقاصد والعقل.(34/9)
ص -9-…هـ- الغايات العامة للمقاصد.
5- دعوته الجادة إلى التطبيق العملي بمزج الفروع الفقهية بالمقاصد الشرعية؛ ليستخرج القول الحق فيها.
6- والكتاب وضعه هذا الإمام؛ ليكون "وسيلة إلى فقه الاستنباط" بحذق اللسان، وتشخيص علم المقاصد؛ إلا أنه في حقيقته: فقه في الدين، ومثال متميز في توظيف الاستقراء الكلي؛ لفهم نصوص الوحيين، وعلم متكامل بنظام الشريعة وأسس التشريع ومقاصده في مصالح العباد في الدارين.
لهذه الوجوه وغيرها بهر العلماء, وتسابقوا إليه، وعكفوا عليه، وتسابقوا إلى طباعته شرقا وغربا؛ إذ طُبع في تونس عام "1302" ثم في قازان عام "1327"، وطُبع في مصر ثلاث طبعات عام "1341" بتعليق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزأين الأولين، وبتعليق الشيخ محمد حسنين مخلوف على الثالث والرابع، ثم بتحقيق الشيخ محمد بن عبد الحميد، ثم بتحقيق الشيخ عبد الله دراز بمقدمته الحافلة وتعليقاته المحررة التي تليق بمكانة الكتاب ومنزلته.
ولعله في قُطْره "الغرب الإسلامي" أول من نسج في الأصول بركنيه على هذا الطراز، وهو في قطره أول من بسط الكلام على: "علم المقاصد"، ونهض به، وفتق مسائله، وشيد عمارته، وجال في تفاصيله، وشخصها، ولفت الأنظار إلى قواعده الكلية، وبَسَطَها، وتعمق في بحثها، مناشدا باستخراج علل الأحكام، وحكمتها، ومصالحها، وصَرَف أنظار الفقهاء من الخلاف والجدل الفقهي الجامد في الفروعيات إلى تطعيمه بالنظر في مقاصد الشارع، وأنها كالحياض الواسعة لهذه الفروعيات والخلافيات فيتقلص ظل الخلاف، وتلتقي الأحكام الاجتهادية ما أمكن في قالب واحد، وفق مقاصدها التي وضعت لها،(34/10)
ص -10-…نابعة من مشكاة واحدة، بجامع مقاصد الشريعة الكلية، محققة خلود الشريعة، وعصمتها, ووحدة أحكامها.
والشاطبي -رحمه الله تعالى- ينص في مقدمته على افتراعه لهذا العلم، أي: بهذا الاعتبار. كما افترع الإمام الشافعي: "علم أصول الفقه"، والخليل بن أحمد: "علم العروض"، وابن خلدون: "علم الاجتماع" في "مقدمته"، وهكذا.
وبعد؛ فكم تطلعت إلى أن أرى هذا الكتاب مطبوعا محققا مخدوما بما يليق بمكانته من تعاليق، وفهارس علمية ونظرية، مع المحافظة على خدمات السابقين، وجهودهم المبذولة تقديما وتعليقا؛ لتحوي هذه الطبعة ما سبقها وزيادة؛ حتى يسر الله الكريم بفضله هذا المطلوب، على يد العلامة المحقق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان؛ فبعث إلي بنسخة من هذا الكتاب بعد صفه وتنضيده؛ فوجدته -أحسن الله إليه- قد بذل فيه جهده، وجمع له نفسه، ووفر المطالب المذكورة، وأضاف إليها تعليقات جمة بتحقيقات مهمة، وتخريجات للمرويات، وعزو للمنقولات وإحالات إلى كتب الشاطبي وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأتبع ذلك بمفاتيح للكتاب، ومسرد علمي للفوائد واللطائف؛ فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه، ونفع به عباده.
وإني أول مستفيد من عمله في هذا التقديم، ومن كتابين مهمين أحدهما: "الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي, وثانيهما: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني؛ فما في هذا التقديم مستخلص من ثلاثتهم، مع ما فتح الله به وهو خير الفاتحين, والحمد لله رب العالمين.(34/11)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عَمَاية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى عَلَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما مَنَّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله.
فلقد كنا قبل شروق هذا النور نَخْبِطُ خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء، كالقابض على الماء، ولا زلنا1 نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا2 على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ما زلنا".
2 من أكب على وجهه، إذا تمادى في الغواية، وهو أحد الأفعال التي تهمز؛ فتكون لازمة وتجرد فتتعدى، ونظائره: انسل الطير، وأحجم زيد، وأنزفت البئر "خ".(34/12)
ص -4-…حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار؛ لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار، وثبت في مكتسبات الأفعال حكمُ الاضطرار؛ فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم، ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم؛ إذ لم نستطع من دونه حيلا، ولم نهتد1 بأنفسنا سُبلا، بأن جعل العذر1 مقبولا، والعفو عن الزلات قبل [بعث الرسالات مأمولا]1؛ فقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فبعث الأنبياء -عليهم السلام- في الأمم، كل بلسان قومه من عرب أو عجم؛ ليبيِّنوا لهم طريق الحق من أمم2، ويأخذوا بحُجزهم عن موارد جهنم، وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم، ومسك3 ختامهم؛ محمد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدلا منها في نسخة "خ" بياضات, وكتب المعلق: "هكذا الأصل، وفيه حذف من الناسخ، ولعل نظم الكلام هكذا: "ولم نسلك بأنفسنا سُبُلا، بأن جعل لما أُمرنا به قبولا، وللعفو عن الزلات قبل الابتهال حصولا"".
2 أي: من قُرب. انظر: "لسان العرب" "أ م م".
3 في نسخة "خ": "مسكة"، وكتب المعلق عليها ما نصه:(34/13)
"قال الغزالي في كتاب "الاقتصاد": الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قاطع وضرب المثل لهذا بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ فأنكر عليه بعض المفسرين، ووسم هذه المقالة بأنها إلحاد، وما قاله الغزالي مبني على الوجه الذي سيقرره المصنف قريبا من أن الألفاظ لا تدل على المراد منها بوجه قاطع لتوقف القطع على التحقق؛ من عدم النقل، والمجاز، والإضمار، والتقديم، والتأخير، والإطلاق، والتقييد ونحو ذلك، وإنما يحصل القطع بمضمونها بعد أن ينضم إليها ما ينفي تلك الوجوه المحتملة؛ كأن ينعقد على مدلولها إجماع أو تتوارد عليه نصوص أخرى، والمحققون على أن الآية نص قاطع بنفسها وعلى أي مذهب؛ فقد بلغ مضمونها مبلغ القطع المعتد به في تقرير العقائد التي يخرج المتردد فيها عن دائرة الإسلام حيث تضافر عليها صريح القرآن والسنة والإجماع".(34/14)
ص -5-…عبد الله، الذي هو النعمة المُسْداة، والرحمةُ المهداة، والحكمةُ البالغة الأميَّة، والنخبة الطاهرة الهاشمية، أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل عليه كتابه العربي المبين، الفارق بين الشك واليقين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفِّه، وطيَّبه بطيب ثنائه وعرَّفه بعَرْفه1؛ إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته، وكلي وصفه، فصار عليه السلام مبيِّنا بقوله وإقراره وفعله وكفه؛ فوضُح النهار لذي عينين، وتبيَّن الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غَيْن2.
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له والشكر أول الزيادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، خالق الخلق أجمعين، وباسطُ الرزق للمطيعين والعاصين، بسطا يقتضيه العدل والإحسان، والفضل والامتنان، جاريا على حكم الضمان.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58].
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
كل ذلك ليتفرغوا لأداء الأمانة التي عُرضت عليهم عرضا، فلما تحمَّلوها على حكم الجزاء؛ حُمِّلوها فرضا، ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية، وتأمَّلوا في البداية خطر النهاية، لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال، كما خطر للسموات والأرض والجبال3؛ فلذلك سُمِّي الإنسان ظلوما جهولا، وكان أمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طيَّبه بطيب رائحته.
2 الغين لغة في الغيم. انظر: "لسان العرب" "غ ي ن".(34/15)
3 أشار إلى أن المراد بالأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} عهدة التكليف، وإباية السموات والأرض والجبال لحملها تمثيل لعدم استعدادها بحسب الفطرة لتقلدها، وفي هذا التمثيل تنويه بقدر هذه التكاليف وتعظيم لشأنها. "خ".(34/16)
ص -6-…الله مفعولا؛ فدل1 على هذه الجملة المستبانة شاهدٌ قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72].
فسبحان من أجرى الأمور بحكمته وتقديره، على وفق علمه وقضائه ومقاديره؛ لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون!
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الصادق الأمين، المبعوثُ رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة الحاكمين2 بها حفية، ينطق بلسان التيسير بيانها، ويعرِّف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها؛ فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة فهيما وغبيا، وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا، وترفق بجميع المكلفين مُطيعا وعصيا، وتقودهم بخزائمهم3 منقادا وأبيا، وتُسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا، وتُبوئ حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا، وتُلبس المتصف بها ملبسا سنيا، حتى يكون لله وليا؛ فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا، وما أفقر من عادها وإن كان غنيا.
فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها4، ويبث للثقلين ما لديها، ويناضل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "دل"، وما أثبتناه من الأصل و"خ" و"م".
2 في النسخ المطبوعة: "شرعة بالمكلفين"، والمثبت من الأصل.
3 جمع خِزامة، وهي حلقة من شعر تُجعل في وترة أنف البعير يُشد فيها الزمام. انظر: "مختار الصحاح" "خ ز م".
4 يتحقق هذا المعنى بالنظر إلى القرآن الذي هو مطلع الشريعة الغراء؛ فإنه من جهة اشتماله على الحجج المحكمة والمواعظ الحسنة مدعو به، ومن حيث تقريره للعقائد والأحكام والآداب مدعو إليه "خ".(34/17)
ص -7-…ببراهينها عليها، ويحمي بقواطعها جانبيها، بالغ الغاية في البيان، بقوله1 بلسان حاله ومقاله: "أنا النذير العُريان"2 صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه؛ الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصَّلوها، وأسسوا قواعدها وأصَّلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفَّعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا3، وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان؛ فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟! رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم4، الطالب لأسنى نتائج الحُلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "يقول"، والمثبت من الأصل.
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي 11/ 316/ رقم 6482، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 250/ رقم 7253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل, باب شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، 4/ 1788-1789/ رقم 2283" من حديث أبي موسى مرفوعا: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان؛ فالنجاء...".
3 في الأصل: "فتسبقوا"، وله وجه كما في "اللسان" "س ب ق".(34/18)
4 تتفاضل العلوم على حسب شرف غايتها، أو قوة دلائلها، أو كمال موضوعاتها؛ ولهذا كان أشرف العلوم وأرفعها منزلة علم التوحيد، ثم ما ينبني عليه من سائر علوم الشريعة "خ".(34/19)
ص -8-…طمعا في إدراك باطنه المرقوم، معاني1 مرتوقة في فتق تلك الرسوم2؛ فإنه قد آن لك أن تُصغي إلى من وافق هواك هواه، وأن تُطارح الشجي مَنْ مَلَكه -مثلك- شجاه، وتعود -إذْ شاركْتَه في جواه- محل نجواه؛ حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتسري في غَبَشِهِ الممتزج ضوءه بالظلمة كما سرى، وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى.
فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامِهَ فِيحا، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا، ولاقى من وجوهه المعترضة جَهْما وصَبِيحا، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا3، فإن شئت ألفيته لتعب السير طَلِيحا4، أو لما حالف من العناء طريحا، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا؛ فلا عيش هنيئا، ولا موت مريحا.
وجُملة الأمر في التحقيق: أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث5 عليل؛ فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل، إلى أن مَنَّ الرب الكريم، البر الرحيم، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ فبُعثت له أرواح تلك الجسوم، وظهرت حقائق تلك الرسوم، وبدت مسميات تلك الوسوم؛ فلاح في أكنافها الحق واستبان، وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان، وقويت النفس الضعيفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الطبعات الثلاث والأصل.
2 أي: ملتئمة في تضاعيف معالمه.
3 في الأصل: "سخيا".
4 أي: منهكا هزيلا. انظر: "لسان العرب" "ط ل ح".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من قولهم: طلح البعير طلحا وطلاحة، إذا أعيا؛ فهو طليح".
5 الأضغاث: الأخلاط، ومنه أضغاث الأحلام لما التبس منها، والمراد منها في هذه الجملة مثارات الحيرة، وشبه الباطل. "خ".(34/20)
ص -9-…وشجُع القلب الجبان، وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان، فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان1، وفوائده الغريبة البرهان، وبدائعه الباهرة للأذهان؛ ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل، ويقصر عن بث معشاره اللسان، إيرادا يميز المشهور من الشاذ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، ويُوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل، ويُبصره في مقامه الخاص به بما دقَّ وجلَّ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال؛ ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمُحال؛ فله الحمد كما يجب لجلاله، وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله.
ولما بدا من2 مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى, لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجُملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحُكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها؛ فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهيه، وانتظمت في أسلاكها السَّنِية البهية؛ فصار كتابا منحصرا في خمسة أقسام3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل فيه أحاديث موضوعة وضعيفة؛ كما بيناه في التخريج، والله الموفق.
2 في "ط": "من".
3 "القسم؛ بالفتح: مصدر قسم الشيء يقسمه قسما، وبالكسر: النصيب والحظ، والجمع أقسام... وحقيقته أنه جزء من جملة تقبل التقسيم". "ماء".(34/21)
ص -10-…الأول:
في المقدمات1 العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود.
والثاني:
في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف.
والثالث:
في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام.
والرابع:
في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يُحكم بها على أفعال المكلفين.
والخامس:
في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب.
وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات، وأطراف وتفصيلات؛ يتقرر بها الغرض المطلوب، ويقرب بسببها تحصيله للقلوب.
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، سميته بـ"عنوان التعريف بأسرار التكليف"، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب، يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومُناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه؛ فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "جمع مقدمة بكسر الدال وفتحها، وهي بالكسر أفصح، وهي من كل شيء أوله.
والعلمية المنسوبة للعلم أي: المعرفة احترازا مما ينسب إلى العمل.
والمحتاج المفتقر.
وتمهيد الأمر: تسويته وإصلاحه وجعله وطئا سهلا، والمقصود الشيء الذي يقصد إتيانه لفائدة مرغوبة" "ماء".(34/22)
ص -11-…ألفته فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم1 وأبي حنيفة. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مُصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء. فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق؛ ليكون -أيها الخل الصفي، والصديق الوفي- هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق، لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق، ومرجعك في جميع ما يعنُّ لك من تصور وتصديق؛ إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم، وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم، لا جَرَمَ أنه قرب عليك في المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظَّهر، وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر.
فقدِّمْ قَدَم عزمك؛ فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قِبَلك منه؛ فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت، وإياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الظن والحسبان2، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وَهَد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خالف ابن القاسم الإمام مالكا في مسائل كثيرة؛ فوصفه بعض الفقهاء بأنه مجتهد مطلق، وذهب الأكثرون إلى أنه مجتهد في المذهب؛ أي: مقيد النظر بأصول مالك، ولهذا كان أهل الأندلس -وهم مقتدون بمذهب مالك- يشرطون في سجلات قرطبة أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم ما وجده، ولم يتركوا العمل بقوله إلا في ثماني عشرة مسألة. "خ".(34/23)
2 كذا في "ط" وحدها، وفي سائر النسخ: "مع الطرق الحسان"!! وفسرها "خ" بقوله: "لا يشغلك جمال الطريق عن السير إلى الغايات الشريفة، وكثير من القارئين من يلهيه حسن أساليب القول عن الغوص في أعماقه واقتناص حكمه البديعة ومراميه السامية".(34/24)
ص -12-…التقليد راقيا إلى يَفَاع الاستبصار1، وتمسك من هديك بهمة2 تتمكن بها من المدافعة والاستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار، والبس التقوى شعارا، والاتصاف بالإنصاف دثارا، واجعل طلب الحق لك نِحْلَة، والاعتراف به لأهله ملة، لا تملك [قلبك]3 عوارض الأغراض، ولا تُغير4 جوهرة قصدك طوارق الإعراض، وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين؛ إلا إذا اشتبهت المطالب، ولم يلح وجه المطلوب للطالب؛ فلا عليك من الإحجام وإن لجَّ الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنارُ5 على من اقتحم المناهي فأوردته النار، لا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية، فذلك مرعى لسوامها وَبيل، وصدود عن سواء السبيل.
فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار وغر6 الظان أنه شيء ما سُمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نُسج على منواله أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعل التقليد بمنزلة الوهد، وهو المنخفض من الأرض؛ لأن المقلد لا يرمي ببصره إلى ما وراء قول متبوعه أو فعله، فكأنه في منحدر تمنعه جوانبه من أن يمد عينه إلى ما خلفه من ملكوت السموات والأرض، وجعل التبصر بمكان اليفاع وهو الرابية؛ لأن المتبصر لا يقف بفكره جامدا على ما يسبق إليه من قول أو يشهده من عمل، بل ينفذ ببصيرته الصافية إلى مرتقى الاستدلال؛ فكأنه قائم على أكمة يشرف منها على مواقع شتى ليتخير من بينها أبدع المناظر وأصفى الموارد "خ".
2 في نسخة "خ": "من تهديك بمنة تتمكن".
3 ليست في الأصل ولا في "ط"، وضبط ناسخ "ط" "تُمِلْكَ" من "الميلان".
4 في "د": "تغر".(34/25)
5 في حاشية الأصل: الشنار, بالفتح: أقبح العيب والعار، الأمر المشهور بالشنعة. ا. هـ. "قاموس".
6 في "ط": "وظنَّ".(34/26)
ص -13-…اختبار، ولا ترْمِ بمظنة الفائدة على غير اعتبار؛ فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار1، وإذا وضُح السبيلُ لم يجب2 الإنكار، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل ويطرق صحة أفكارهم من العلل؛ فالسعيد من عُدَّت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته.
وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل، إذا وجد فيه نقصا أن يكمل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام؛ حتى أهدى إليه نتيجة عُمره، ووهب له يتيمة دهره؛ فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه، و"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"3.
جعلنا الله من العاملين بما علمنا، وأعاننا على تفهيم ما فهمنا، ووهب لنا علما نافعا يبلغنا رضاه، وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود، وآخذ في إنجاز ذلك الموعود، والله المستعانُ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تأمل الحفظة. انظر: "مختار الصحاح" "ن ظ ر".
2 من "أجبى" بمعنى أخفى، مأخوذا من الإجباء، وهو أن يغيب الرجل إبله عن المتصدق، والمعنى: أن السبيل الواضح لا يتمكن المنكر من إخفائه. "خ".
3 الحديث في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يصح إلا عن عمر -رضي الله عنه- وسيأتي تخريجه "ص459".(34/27)
ص -17-…المقدمة الأولى1
إن أصول الفقه2 في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نحو ما عند المصنف تحت هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 228-234، و20/ 62-64".
2 "قوله: "أصول" جمع أصل، وهو في الاصطلاح ما يبنى عليه غيره عكس الفرع؛ فإنه ما ينبني على غيره.
والفقه لغة: الفهم، وفي الاصطلاح: الأحكام الشرعية التي طريقها طريق المجتهدين والدين والجزاء والعبادة، وهو المراد هنا.
والقطعي: الذي لا شك فيه، وتراها وتبصرها.
وظنية: منسوبة إلى الظن، وهو الراجح من الأمر، والمرجوح يسمى وهما، والمستوي يسمى شكا". "ماء".
وكتب "د" ما نصه: "تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ"لا ضرر ولا ضرار"، و{لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، و{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، "إنما الأعمال بالنيات"، "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضا؛ كالكتاب، والسنة، والإجماع... إلخ. وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي فن الأصول؛ فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية؛ فالقاضي ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والمؤلف بصدد معالجة إثبات كون مسائل الأصول قطعية بأدلته الثلاثة الأول وبالأدلة الأخرى التي جاء بها في صدد الرد على المازري في اعتراضه على القاضي، ثم قرر أخيرا أن ما كان ظنيا يطرح من علم الأصول؛ فيكون ذكره تبعيا لا غير".(34/28)
ص -18-…راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك؛ فهو قطعي1.
بيان2 الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع3.
وبيان الثاني من أوجه:
أحدُها4: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية5، وهي قطعية، وإما إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خفي الوجه الذي بسطه المصنف في هذه المقدمة على بعض الكاتبين في الأصول؛ فقال: من أصول الفقه ما ليس بقطعي؛ كحجية الاستصحاب، ومفهوم المخالفة، وستطلع إن شاء الله على أن من قرر أصلا كالاستصحاب أو سد الذرائع أو المصالح المرسلة؛ إنما انتزعه من موارد متعددة من الشريعة حتى قطع بأنه من الأصول المقصودة في بناء الأحكام. "خ".
قال "ماء": "قطعية أبدا في جميع الدهر ولا تكون ظنية".
قلت: الخلاف في هذه المسألة يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط؛ فالقائلون بأن "أصول الفقه" قطعية لا تحتمل الظنيات -ومنهم المصنف-؛ يقصدون "أصول" الأدلة، والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية ليس من "أصول" الفقه، وإن بُحث في علم "أصول الفقه" وكتبه، وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات؛ فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى المصنف إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن "أصول الفقه" قطعية لا ظنية، تأمل اعتراض أستاذنا الدريني في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأدلته" "1/ 20" تجد مصداق التوجيه السابق، وقد ذكره الأستاذ أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص140".
2 في "م": "وبيان".
3 فإنا إذا تصفحنا جميع مسائل علم الأصول نقطع بأنها مبنية على كليات الشريعة الثلاث، واستقراء جميع الأفراد فيه ممكن؛ فإنها مسائل محصورة "د".(34/29)
4 حاصله أن كليات الشريعة مبنية؛ إما على أصول عقلية، وإما على استقراء كلي من الشريعة، وكلاهما قطعي؛ فهذه الكليات قطعية، فما ينبني عليها من مسائل الأصول قطعي "د".
5 أي: راجعة إلى أحكام العقل الثلاثة كما سيذكره في المقدمة الثانية تفصيلا. "د".(34/30)
ص -19-…الاستقراء الكلي1 من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث2 لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه.
والثاني3: أنها لو كانت ظنية؛ لم تكن راجعة إلى أمر عقلي؛ إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات4؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة؛ لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول5، وذلك غير جائز عادة6 -وأعني بالكليات7 هنا: الضروريات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يتأتى عادة أن يكون المستنبطون لقاعدة "أن الأمر للوجوب" مثلا وقفوا على كل أمر صدر من الشارع حتى يتحقق الاستقراء الكلي المعروف الموجب لليقين، لكن المطلوب هنا القطع؛ أي: الجزم، ويكفي لذلك الكثرة المستفيضة الإفراد من كل نوع من أنواع الأمر الواردة في مقاصد الشريعة الثلاثة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومثل هذا كافٍ في عده استقراء كليا يوجب القطع؛ لأن ما لم يطلع عليه المستنبط من الأوامر لا يخرج عن كونه فردا من أنواع الأوامر التي اطلعوا عليها؛ فلا يترتب عليه إخلال بالقاعدة.
2 سيأتي في المقدمة الثانية زيادة: العادي؛ فلعله توسع هنا بإدراجه في العقلي "د".
3 إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه؛ لأنه يترتب على كونه ظنية حصول ما لا يجوز عادة، وهو تعلق الظن بأصل الشريعة، وأيضا حصول الشك فيها، وأيضا جواز تبديلها، وكلها باطلة "د".
قلت: وانظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 112-126".
4 لا الكليات الشرعية بدليل قوله: "إذ لو جاز..."؛ فهو روح الدليل "د".
5 أي: بملاحظة أنها جاءت بعد الاستقراء الكلي؛ فيصح قوله: "لجاز..." إلخ، وأصل الشريعة المقطوع بها هي الكلي الأول الذي تفرعت عنه القوانين والكليات الأخرى، وحيث كان الأصل الأول مقطوعا به، وكان التفريع عليه بطريق الاستقراء الكلي؛ فحكم الفرع حينئذ يكون حكما للأصل، والعكس "د".(34/31)
6 لأنه بعد قيام الدليل على الأصل والقطع به يستحيل عادة أن يحصل فيه ظن بدل القطع، ولم يقل عقلا؛ لأنه لا يمنع العقل حصول الظن للشخص في شيء بعد القطع بالدليل؛ فإنه لا يلزم من عرض ذلك محال عقلا. "د".
7 أي: التي قلنا: إنها مرجع لمسائل الأصول "د".(34/32)
ص -20-…والحاجيات، والتحسينيات1-، وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة؛ لجاز تعلق الشك بها، وهي لا شك فيها، ولجاز تغييرها وتبديلها، وذلك خلاف ما ضمن الله -عز وجل- من حفظها.
والثالث:
أنه لو جاز جعل الظني2 أصلا في أصول الفقه؛ لجاز جعله أصلا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا؛ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة؛ فقد استوت في أنها كليات معتبرة3 في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات.
وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نُتَعبد بالظن إلا في الفروع4، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "الظن".
2 استدلال خطابي؛ لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول؛ حتى ما اتفقوا عليه منها، إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وكان يجدر به وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل "خ".
3 "أما الضروريات؛ فمعناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل.
وأما الحاجيات؛ فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال.
وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة" "ماء".(34/33)
4 ذهبت طائفة إلى أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالطرق المفيدة للعلم، متمسكين بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وأجاب الجمهور عن الآيتين بأنهما من قبيل العام المخصوص بالأدلة القائمة على العمل بما يفيد الظن في الفروع؛ كأدلة العمل بخبر الآحاد، أو أن العمل بمثل خبر الآحاد حيث كان يستند إلى الدلائل الموجبة للعمل عند ظن الصدق كان وجوبه معلوما قطعا؛ فالظن واقع في طريق الحكم، وقد انضمت إليه الدلائل القاطعة على وجوب العمل بمقتضى هذا الظن؛ فلم يكن العامل بما يفيده خبر الآحاد مثلا متبعا لمجرد الظن، بل مستندا إلى ما يفيد العلم بأن ذلك الحكم المنتزع بطريق مظنون هو ما ناطه الشارع بعهدته "خ".(34/34)
ص -21-…من الأصول تفاصيل العلل، كالقول في عكس العلة، ومعارضتها، والترجيح بينها وبين غيرها، وتفاصيل أحكام الأخبار، كأعداد الرواة، والإرسال؛ فإنه ليس بقطعي.
واعتذر ابن الجويني1 عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى2 فيما دل عليه الدليل القطعي.
قال المازري: وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وإن كان ظنيا، على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم3؛ لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها4، لكن ليُعْرَض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر. قال: فهي في هذا كالعموم5 والخصوص. قال: ويحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "البرهان" "1/ 85-86".
2 لا يخفى أن اعتبار مثل هذا يؤدي إلى دعوى أن الفروع قطعية أيضا "د".
3 أصول العلم قوانينه التي يتألف منها؛ ككون الإجماع أو القياس حجة، والمطلق يحمل على المقيد والعام يقبل التخصيص، ودلالته على جميع أفراده قطعية أو ظنية، أما الأصول بمعنى الأدلة؛ فهي الكتاب, والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. فقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أصل بمعنى الدليل، وقولك بعد: "والأمر للوجوب" أصل من أصول العلم "خ".
4 أي: لا لتعتقد حتى يلزم فيها ثبوتها على وجه قطعي "د".
5 لعله يريد أن القاعدة بالنسبة لجزئيات الأدلة كالعام بالنسبة لجزئياته، وحيث إن جزئيات الأدلة يلحقها الظن في دلالتها؛ فلا مانع أن تكون الكليات التي تنطبق عليها كانطباق العام على الخاص يلحقها الظن أيضا "د".(34/35)
ص -22-…من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول؛ لأن الأصول عنده [هي الأدلة، والأدلة عنده]1 ما يفضي إلى القطع، وأما القاضي؛ فلا يحسن به إخراجها من الأصول، على أصله الذي حكيناه عنه. هذا ما قال.
والجواب2: أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به؛ لأنه إن كان مظنونا تطرق إليها احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها3 وبين الأصول الكلية التي نص عليها، ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة4، وهو المراد بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أيضا، لا أن المراد5 المسائل الجزئية؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يتخلف عن الحفظ جزئي من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست في الأصل.
2 أي: عن القاضي؛ أي: إن القاضي وإن قال: إن الأصول هي تلك القوانين؛ فهذا لا ينافي أنه يقول: إنها قطعية؛ لأن كل ما كان ظنيا لا يعد من الأصول؛ فسواء أريد بالأصول الأدلة من الكتاب والسنة... إلخ أو أريد بها تلك القواعد؛ لا بد أن تكون قطعية، ومنه يُعلم أن قوله: "لأن تلك الظنيات... إلخ" من كلام المازري لا من كلام القاضي، ومعلوم أن الغرض من جلب كلام القاضي والمازري تصفية المقام ورد شبهة المازري ليتم له أن أصول الفقه على أي تقدير في معناها قطعية، سواء كانت هي القواعد أو الأدلة من الكتاب والسنة، أو الكليات الشرعية المنصوصة. "د".
3 مجرد دعوى؛ إلا أن يجعل تفريعا على ما قبله فتكون الفاء ساقطة "د".
4 مسلم، ولكنك تعمم في المستنبطة الصرفة أيضا "د".
وانظر في معنى الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447"، و"المحرر الوجيز" "3/ 351-352" لابن عطية.(34/36)
5 سيأتي له ما يخالف هذا؛ إذ يقول في المقدمة التاسعة: "ولذا كانت الشريعة محفوظة أصولها وفروعها"، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن مراده هنا نفي حفظ الفروع بذاتها، وهناك إثبات حفظها بنصب أدلتها الكافية لمن توجه إليها بفهم راسخ، فإن أخطأها بعض؛ أصابها بعض آخر، فهي محفوظة في الجملة "د".(34/37)
ص -23-…جزئيات الشريعة، وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز، ويؤيده الوقوع؛ لتفاوت الظنون، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية، ووقوع الخطأ فيها قطعا؛ فقد وُجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات؛ فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا1، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا.
هذا على مذهب أبي المعالي، وأما على مذهب القاضي, فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه2؛ فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها, واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مُقام الحاكم على الأدلة، بحيث تُطرح الأدلة إذا لم تجز على مقتضى تلك القوانين؛ فكيف يصح أن تُجعل الظنيات قوانين لغيرها3؟
ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها؛ فإنها حاكمة على غيرها؛ فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تُجعل قوانين، وأيضا، لو صح كونها ظنية؛ لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة، وذلك غير صحيح، ولو سلم ذلك كله؛ فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تُجعلُ أصولا، وهذا كافٍ في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كليا منصوصا كما قال أولا؛ فيمنع قوله بعد: يلزم أن يكون كل أصل قطعيا، فإذا كان غرضه تقرير مذهب أبي المعالي، وأن القطع إنما هو في الكليات المنصوصة في الشريعة بدون تعرض للقوانين المستنبطة؛ لا يكون لذكره هنا فائدة تعود على غرضه من قطعية مسائل الأصول، وإذا كان يقيس القوانين على النصوص كما هو المفهوم من قوله: "لا فرق بينها وبين الأصول التي نص عليها"؛ فهو قياس لم يذكر له علة صحيحة "د".
2 في "ط": "أصول العلم".(34/38)
3 أي: من القطعيات التي تعرض فيما يعرض عليها، وقد يقال: إنها جعلت قوانين لاستخراج الفروع من القطعيات والظنيات، وليست قوانين لنفس القطعيات، والفروع المستنبطة بها ظنية ولا ضير في هذا "د".(34/39)
ص -24-…جرى1 فيها مما ليس بقطعي تفريعا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول؛ فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر، وتشعب وجوه الأدلة إثباتا وردا، راجع "الأسنوي على المنهاج" في تعريف الأصول على أنه -بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيرا من القواعد المذكورة في الأصول جزافا دون تحديد لنوع ما يطرح- صار لا يُعرف مقدار ما بقي قطعيا وما سلم فيه أنه ظني، وهذا يقلل من فائدة هذه المقدمة. "د".
2 بعد ختم "ماء" هذا الفصل قال: "تنبيه: اعلم أني ذكرت في النظم تبعا للأصل أن أصول فقه الدين قطعية، ولا تكون ظنية، وتقدم ما تقدم من الكلام، ثم إني أقول: إن أصول الفقه عرفها صاحب "جمع الجوامع" أعني السبكي بقول: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها، والأصولي: العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
وقال في تعريفها سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي في "مراقي السعود" "أصوله دلائل الإجمال"، قال في شرحه: "يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية؛ لأن الأصل في الاصطلاح هو الدليل أو الأمر الراجح... والدليل الإجمالي هو الذي لا يعين مسألة جزئية كقاعدة "مطلق الأمر والنهي".
وفعله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمبين والمجمل، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، وخبر الواحد..." إلى أن قال: "والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام... إلى غير ذلك من كلامهم في كتبهم, جزاهم الله خيرا" "ماء".(34/40)
ص -25-…المقدمة الثانية:
إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية1؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بين، وهي:
- إما عقلية؛ كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة.
- وإما عادية، وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا؛ إذ من العادي ما هو واجبٌ في العادة أو جائز أو مستحيل.
- وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
فإذًا الأحكام المتصرفة2 في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لازم أو ملزوم لما تقدم له في المقدمة الأولى؛ فيجري عليه ما جرى عليها "د".
2 أي: التي تتركب منها مقدماته لا تتجاوز الأحكام الثلاثة، سواء كانت عقلية أو عادية أو سمعية، وقد يذكر في الأصول أن كذا حجة أو ليس بحجة؛ فهذا ليس من المقدمات، وإنما هو مما يتفرع على تلك المقدمات؛ إذ هو العرض الذاتي الذي يُراد إثباته لموضوعاته التي هي الأدلة بواسطة تلك المقدمات "د".(34/41)
ص -26-…والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع، فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة؛ فراجع إلى وقوعه كذلك، أو عدم وقوعه كذلك، وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع1 إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما؛ فلا مُدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن2 باب خلط بعض العلوم ببعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنها بمعنى ثبوته أعم من أن يكون واجبا أو جائزا أو مستحيلا، يعني عقليا أوعاديا، لا خصوص العقلي "د".
2 إنما ذكروها من باب المقدمات لحاجة الأصولي إلى تصورها والحكم بها إثباتا ونفيا؛ كقوله: الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا، وقد ذكرها هو وأطال في تحديدها؛ إلا أن يكون مراده كون كذا من الأفعال فرضا أو حراما مثلا، فإن هذا من الفروع الصرفة التي ليست من المقدمات في شيء "د".(34/42)
ص -27-…المقدمة الثالثة1
الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركبة2 على الأدلة السمعية، أو مُعِينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع, وهذا مبيَّن في علم الكلام، فإذا كان كذلك؛ فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية، ووجود القطع3 فيها -على الاستعمال المشهور- معدوم، أو في غاية الندور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المقدمة كبيان ودفع لما يرد على المقدمة قبلها "د".
وقارن ما فيها بكلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "19/ 228-234".
2 أي: لا تكون أدلة هذا العلم مركبة من مقدمات عقلية محضة، بل قد تكون إحدى المقدمات والباقي شرعية مثلا، وقد تكون معينة بأن يأتي الدليل كله شرعيا، ويستعان على تحقيق نتيجته بدليل عقلي، وقد تكون المقدمات العقلية أو العادية لا لإثبات أصل كلي، بل لتحقيق المناط؛ أي: لتطبيق أصل على جزئي من جزئياته، وذلك بالبحث في أن هذا الجزئي مندرج في موضوع القاعدة ليأخذ حكمها، وسيأتي أن هذا البحث قد يرجع للطب أو للصناعات المختلفة أو للعرف في التجارات والزراعات وغير ذلك؛ إلا أنه يلاحظ على ذلك أن تحقيق المناط من صناعة الفقيه المجتهد، لا من تحقيق مسائل الأصول في ذاتها، ومثل ذلك يقال في تنقيح المناط وتخريج المناط الآتيين له في الجزء الرابع؛ لأنها كلها من وظيفة الفقيه لا الأصولي؛ إلا أن يقال: لا مانع من تحقيق المناط في مسائل الأصول أيضا، لكن على وجه آخر غير طريقة ذلك الاصطلاح "د".
3 يستعمل القطع في دلالة الألفاظ؛ فيأتي على نوعين:
أولهما:
الجزم الحاصل في النص القاطع، وهو ما لا يتطرقه احتمال أصلا نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهذا ما يقصده المصنف في هذه المقدمة.
ثانيهما:(34/43)
العلم الحاصل من الدليل الذي لم يقم بإزائه احتمال يستند إلى أصل يعتد به ولا يضره الاحتمالات المستندة إلى وجوه ضعيفة أو نادرة، وهذا المعنى هو الذي يقصده القائلون بأن دلالة العام على أفراده قطعية. "خ".(34/44)
ص -28-…"أعني: في آحاد الأدلة"؛ فإنها إن كانت من أخبار الآحاد؛ فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة؛ فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعُها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا؛ فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير والمُعارض العقلي1، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة؛ فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادرٌ أو متعذر2.
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموعٌ يفيد العلم؛ فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر3 المعنوي، بل هو كالعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العقليات التي يصح لها أن تعارض لفظ الشارع ويتعين صرفه عن ظاهره لأجلها كمال* ما إذا عارضه الحس والمشاهدة إنما هي القضايا الثابتة بأدلة قاطعة، أما مجرد استحسان العقل واستقباحه؛ فلا يقف أمام نص الشارع لأنه قد يكون ناشئا عن عدم صفاء الفطرة والذوق، أو تغلب الهوى، وكثيرا ما يكون أثرا من آثار النشأة والبيئة الخاصة. "خ".
2 أي: فلا يفيد الاعتصام به بحالة مطردة في سائر الأدلة كما هو المطلوب "د".(34/45)
3 وليس تواترا معنويا؛ لأن ذاك يأتي كله على نسق واحد؛ كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعُها دالة على شجاعة علي مثلا بطريق مباشر، أما هذا؛ فيأتي بعضه دالا مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب؛ كمدح الفاعل لها، وذم التارك، والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها... إلخ، ولذلك عده شبيها بالمعنوي ولم يجعله معنويا "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابه: "كما لو".(34/46)
ص -29-…بشجاعة علي -رضي الله عنه- وجود حاتم1 المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما.
ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس؛ كالصلاة، والزكاة، وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] أو ما أشبه ذلك؛ لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه2، لكن خف3 بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين.
ومن ههنا4 اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع؛ لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب.
وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة؛ فهو راجع إلى هذا المساق5؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 193": "يشير إلى التواتر المعنوي، ومثله بالأخبار الواردة في سخاء حاتم؛ فإنها كثيرة، لكنها لم تتفق على سياق واحد، ومجموعها يفيد القطع بأنه كان سخيا، وكذلك الأخبار الواردة في شجاعة علي، واستيعاب ذلك متعسر؛ فرأيت أن أشير إلى شيء من ذلك..."، ثم سرد بعضا منها.
2 أي: كان استدلالا ظنيا لتوقفه على المقدمات الظنية المشار إليها "د".
3 في "ط": "حَفَّت".
4 أي: فبدل أن يسردوا الأدلة الجزئية، فيؤخذ في مناقشة كل دليل يورد بالمناقشات المشار إليها؛ يعدلون عن هذا الطريق القابل للمشاغبة إلى طريق ذكر الإجماع القاطع للشغب، وما ذلك إلا لأن كل دليل على حدته ظني لا يفيد القطع "د".
5 وهو شبه التواتر المعنوي "د".(34/47)
ص -30-…وهي مع ذلك مختلفة المساق1، لا ترجع إلى باب واحد؛ إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب2، وهي مآخذ الأصول؛ إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما3 تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين؛ فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها4، وبالأحاديث على انفرادها؛ إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع5، فكر عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي إذا أخذت على هذا السبيل6 غيرُ مشكلة، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض؛ لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة؛ إلا أن نشرك العقل7، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع؛ فلا بد من هذا الانتظام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما أشرنا إليه؛ فلذا كان شبيها بالتواتر المعنوي وليس إياه "د".
2 فإنه بناها على هذه الطريقة بحالة اطردت له فيها "د".
3 إنما قال: ربما, ولم يقل: إنهم تركوه قطعا لأن الغزالي أشار إليه في دليل كون الإجماع حجة، كما تجيء الإشارة إليه, ولله در الغزالي؛ فإنه بإشارته لهذا في الإجماع جعل الشاطبي يستفيد منه كل هذه الفوائد الجليلة، ويتوسع فيه هذا التوسع، بل جعله خاصة كتابه؛ كما سيقول في آخره "د".
4 أي: كل آية على حدة بدون ضمها إلى سائر الآيات والأحاديث؛ حتى يصير النظر إليها نظرا إلى المجموع الذي يشبه التواتر "د".
5 في الأصل و"م": "الإجماع".
6 أي: سبيل الاجتماع الذي يصير كالإجماع من آحاد الأدلة على المعنى المطلوب "د".(34/48)
7 أي: بالاستقراء والنظر إلى الأدلة منظومة في سلك واحد، ويحتمل أن يكون المعنى: إلا أن نحكم العقل في الأحكام الشرعية، ونقول: إنه يدركها بنفسه؛ فيحصل القطع بها من جهته وإن كان دليل السمع ظنيا، لكن العقل عندنا لا يدركها مباشرة، وإنما ينظر فيها من وراء الشرع؛ فتعين هذا الطريق الاستقرائي في إفادة السمعيات القطع "د".(34/49)
ص -31-…في تحقيق الأدلة الأصولية.
فقد اتفقت1 الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك2؛ لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين3 هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته، إلى غير ذلك.
فنحن إذا نظرنا4 في الصلاة؛ فجاء فيها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] على وجوه، وجاء مدح المتصفين بإقامتها، وذم التاركين لها، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وقتال من تركها أو عاند في تركها، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى, وكذلك النفس: نُهي عن قتلها، وجُعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تمثيل بأهم مسألة أصولية لا يمكن إثباتها بدليل معين، وإنما ثبتت بشبه التواتر المعنوي بأدلة لم ترد على سياق واحد وفي باب واحد "د".
2 بعدها في "ط": "الأنظار والقرائح".
3 في الأصل: "يعتني".
4 مثالان آخران في أهم المسائل الشرعية من الفروع "د".(34/50)
ص -32-…كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى سائر ما ينضاف لهذا [المعنى]1، علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل، وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة.
وبهذا امتازت الأصول من الفروع؛ إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول؛ فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته؛ فهو صحيح يُبنى2 عليه، ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم؛ لأن ذلك كالمتعذر3.
ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل4 الذي اعتمده مالك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 في الأصل: "ينبني".
3 في "م": "كالمنعذر" بالنون، ومثل ما مضى عند الغزالي في "المنخول" "ص364".(34/51)
4 أي: المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها أصل شرعي من نص أو إجماع، لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وذلك كجمع المصحف وكتابته؛ فإنه لم يدل عليه نص من قِبَل الشارع، ولذا توقف فيه أبو بكر وعمر أولا، حتى تحققوا من أنه مصلحة في الدين تدخل تحت مقاصد الشرع في ذلك، ومثله ترتيب الدواوين وتدوين العلوم الشرعية وغيرها؛ ففي مثل تدوين النحو مثلا لم يشهد له دليل خاص، ولكنه شهد له أصل كلي قطعي يلائم مقاصد الشرع وتصرفاته، بحيث يؤخذ حكم هذا الفرع منه، وأنه مطلوب شرعا وإن كان محتاجا إلى وسائط لإدراجه فيه "د".(34/52)
ص -33-…والشافعي1؛ فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين؛ فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين, وقد يربو2 عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحا3 في بعض المسائل, حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك، ينبني على هذا الأصل، لأن معناه يرجع4 إلى [تقديم]5 الاستدلال المرسل على القياس6، كما هو مذكور في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الأبياري في "شرح البرهان" في الاستدلال بالمصالح: "هو عين ما ذهب إليه مالك، وقد رام إمام الحرمين التفريق بين المذهبين، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا؛ فالمصلحة المرسلة يتمسك بها كثير من الأئمة؛ إلا أن الإمام مالكا عمل بها في بناء الأحكام أكثر من غيره". "خ".
2 في جميع الأصول: "بربي".
3 في "م" و"خ": "موجودا".
4 بناء على بعض تفاسير الاستحسان، وسيأتي غير ذلك له في الجزء الرابع، وأنه يقدم على الظاهر وعلى القياس؛ فمالك يستحسن تخصيصه بالمصلحة، وأبو حنيفة يستحسن تخصيصه بخبر الواحد؛ فلذا نسبه هنا لمالك "د".
5 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
6 أي: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، وذلك كبيع العرية بخرصها تمرا؛ فهو بيع رطب بيابس وفيه الغرر الممنوع بالدليل العام؛ إلا أنه أبيح رفعا لحرج المعرِي والمعرَى، ولو منع لأدى إلى منع العريّة رأسا وهو مفسدة، فلو اطرد الدليل العام فيه لأدى إلى هذه المفسدة؛ فيستثنى من العام، وسيأتي شرحه بإيضاح في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد من الجزء الرابع، ومنه الاطلاع على العورات في التداوي أبيح على خلاف الدليل العام لأن اتباع العام في هذا يوجب مفسدة وضررا لا يتفق مع مقاصد الشريعة في مثله؛ فالاستحسان ينظر إلى لوازم الأدلة ويراعي =(34/53)
ص -34-…فإن قيل1:
الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح؛ لأن الأصل الأعم كلي، وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة، والأعم لا إشعار له بالأخص؛ فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة، من أين يُعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها؟
فالجواب:
أن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء [يكون]2 كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد، [أما كونه كليا؛ فكما يأتي في موضعه إن شاء الله، وأما كونه يجري مجرى العموم في الأفراد]3؛ فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد، ومن هنالك استنبط لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي والواقعين على جميع المكلفين؛ فهو كلي في تعلقه، فيكون عاما في الأمر به والنهي للجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مآلاتها إلى أقصاها، فلو أدت في بعض الجزئيات إلى عكس المصلحة التي قصدها الشارع؛ حجز الدليل العام عنها، واستثنيت وفاقا لمقاصد الشرع، وفي الشرع من هذا كثير جدا في أكثر أبوابه، وهو وإن لم ينص على أصل الاستحسان بأدلة معينة خاصة؛ إلا أنه يلائم تصرفاته ومأخوذ معناه من موارد الأدلة التفصيلية*؛ فيكون أصلا شرعيا وكليا يُبنى عليه استنباط الأحكام "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لعل في العبارة حذفا، وأصلها: "يرجع إلى تقدم أصل الاستدلال المرسل على القياس"، قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، وحاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي".
1 هذا الاعتراض يتجه على كل من المصالح المرسلة والاستحسان؛ لأن كلا منهما استدلال بأصل كلي على فرع خاص، والفرق بينهما أن الثاني تخصيص لدليل بالمصلحة، والأول إنشاء دليل بالمصلحة على ما لم يرد فيه دليل خاص "د".
2 ساقط من الأصل، "وفي "ط": "انتظم الاستقراء جرى مجرى...".
3 سقط من الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع "التفصيلة".(34/54)
ص -35-…لا يقال: يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة، وهو باطل؛ لأنا نقول: لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك, حسبما هو مذكور في موضعه1 من هذا الكتاب [بحول الله]2.
فصل
وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي3؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها4 ما يفيده القطع، فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة5 ومن بعده، ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية في الأخذ بأمور عادية، أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع6، وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها [هذا الإشكال فادعى فيها]7 أنها ظنية، وهي قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال، وهو واضح إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثامنة من كتاب المقاصد "د".
2 من "ط" فقط.
3 انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 267، 268، 270".
4 في "د": "بانفردها".
5 كذا في الأصول، ولعل صوابه: "الأئمة".
6 أي: إن عدم التفاتهم إلى التواتر المعنوي في حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" الذي استدل به الغزالي على حجية الإجماع، ونظرهم في الأحاديث الواردة نظرا إفراديا لكل حديث منها جعلهم يتركون الاستدلال بها على حجية الإجماع ويجنحون؛ إما إلى الاستدلال عليه بأمور عادية كالقرائن المشاهدة أوالمنقولة التي تدل عادة على اعتباره، وإما إلى الاستدلال عليه بالإجماع على القطع بتخطئة المخالف له، مع ما فيه من شبه المصادرة "راجع ابن الحاجب"، وبهذا البيان يعلم أن قوله في الأخذ إن لم يكن محرفا عن "والأخذ" أو "إلى الأخذ"؛ فهو بمعناه "د".
7 ساقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م".(34/55)
ص -37-…المقدمة الرابعة:
كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك1؛ فوضعها في أصول الفقه عارية.
والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك؛ فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه؛ كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق, والتصريف، والمعاني، والبيان، والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي يتوقف عليها تحقيق الفقه2، وينبني عليها من مسائله، وليس كذلك؛ فليس [كل ما يفتقر إليه الفقه يُعد من أصوله, وإنما اللازم أن كل أصل يُضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه؛ فليس]3 بأصل له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بطريق مباشر لا بالوسائط كما هو الحال في الاستعانة على الاستنباط بالعلوم الآتية؛ فهو يريد أن المقدمات التي ذكرها في كتابه فيها العون المباشر الذي يجعلها من الأصول، بخلاف المقدمات البعيدة مثل ما سيذكره من المباحث بعد "د".
2 تحقيقه غير استنباطه، ولهذا الغرض لم يقل: مسائله، بل: "من مسائله" "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط على ناسخ الأصل.(34/56)
ص -38-…وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها؛ كمسألة ابتداء الوضع1، ومسألة الإباحة2 هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل، كما أنه لا ينبغي3 أن يُعد4 منها ما ليس منها، ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه الفقه؛ كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز، وعلى المشترك والمترادف، والمشتق، وشبه ذلك.
غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أضف إليها مسألة الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجازا، ونحو ذلك "د".
2 تكلم على المباح في خمس مسائل تأتي قريبا؛ فعليك أن تنظر فيها بضابطه في هذه المقدمة لتعرف الفرق بين البحث في كون الإباحة تكليفا أو لا، وبين تلك المسائل؛ حتى عد هذا خارجا عن الأصول وعد مباحثه الخمسة من الأصول. "د".
3 ذكر فيما قبل الكاف نوعا من المسائل التي لا يصح إدخالها في أصول الفقه، وجعل ضابطه كل مسألة لا ينبني عليها فقه، ومثل له بكثير من مبادئ الأحكام وبعض المبادئ اللغوية؛ كمسألة ابتداء الوضع، وهذا نوع آخر وهو ما ينبني عليه فقه، ولكنه ليس من مسائل الأصول، بل من مباحث علم آخر، وقد استوفى البحث فيه في علمه الخاص به، وذلك كمبادئ النحو واللغة، وبهذا البيان تعلم أن قوله: "ثم البحث فيه في علمه" جملة اسمية معطوفة على صلة ما، ولعل أصل النسخة: "وتم* البحث... إلخ" بجملة فعلية من التام؛ فحُرِّفت إلى ما ترى.(34/57)
وبعد؛ فالمعروف أن مباحث النحو واللغة ذكرت في الأصول لا على أنها من مسائله، بل من مقدماته التي يتوقف عليها توقفا قريبا، نعم، كان ينبغي ألا يتوسعوا في بحثها وتحريرها كأنها مسائل من هذا العلم؛ لأنها محققة في علم آخر، ولعل هذا هو مراد المؤلف "د".
4 في الأصل: "لا يعد"، و"لا" ساقطة من جميع النسخ المطبوعة ومن "ط" و"ماء".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل المعتمد في التحقيق: "ثم" بمثلثة واضحة في أوله.(34/58)
ص -39-…في الأصول، وهي أن القرآن [الكريم ليس فيه من طرائق كلام العجم شيء، وكذلك السنة، وأن القرآن]1 عربي، والسنة عربية, لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل؛ لأن هذا من علم النحو واللغة، بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربي, بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثير من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع، وهذه مسألة مبينة2 في كتاب المقاصد، والحمد لله.
فصل
وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه؛ إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها اختلاف3 في فرع من فروع الفقه؛ فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عاريّة أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، وسيأتي بسط من المصنف لهذه المسألة في "2/ 101 وما بعد".
2 في المسألة الأولى من النوع الثاني في "المقاصد" "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "خلاف".
4 فالجمهور قالوا: الواجب واحد مبهم يتحقق في الخارج في أحد هذه المعينات التي خير بينها. وقال المعتزلة: بل الواجب الجميع, قال الإمام في البرهان: "إنهم معترفون بأن من ترك الجميع لا يأثم إثم تارك واجبات، ومن فعل الجميع لا يثاب ثواب واجبات؛ فلا فائدة في هذا الخلاف عمليا، بل هو نظري صرف، لا يبنى عليه تفرقة في العمل؛ فلا يصح الاشتغال بأدلته في علم الأصول" "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "ذهبت المعتزلة إلى أن الوجوب والتحريم يرجعان إلى =(34/59)
ص -40-…والمحرم المخير1؛ فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= صفات الأعيان، ونفى الجمهور أن يكونا راجعين إلى ذات المحكوم أو إلى صفة ذاتية أو عرضية، ويقولون: إنما هما تعلق أمر الله أو نهيه بالمخاطبين, ومناط الوجوب عند المعتزلة في مثل خصال الكفارة الجميع على وجه البدل، ويرجع إلى القول بأن الواجب هو القدر المشترك المتحقق في الخصال الثلاث، ومذهب الأشاعرة والفقهاء أن مناط الوجوب واحد منها لا بعينه؛ فالواجب كل خصلة على تقدير أن لا تسبق بأخرى، وحاول بعض الأصوليين أن يجعل لهذا الخلاف أثرا في الفروع؛ فقال: إذا ترك من وجبت عليه الكفارة جميع الخصال وقلنا للإمام المطالبة بالكفارات؛ أجبر بمقتضى مذهب الجمهور على فعل واحدة منها بدون تعيين، أما على مذهب المعتزلة؛ فيصح جبره على واحد بعينه؛ لأن الواجب عندهم القدر المشترك وهو يتأدى بأي خصلة فعلت".
وكتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "انظر هذا؛ فإن المسألة ذات أقوال أربعة:
الأول لأهل السنة:
إن الواجب واحد لا بعينه.
والثاني للمعتزلة:
إن الواجب هو الكل، ويسقط بواحد.
والثالث لهم أيضا:
إن الواجب معين عند الله تعالى، فإن فعل غيره؛ سقط.
والرابع:
وهو ما وقع التزاحم به بين أهل السنة والمعتزلة: إن الواجب هو ما يختاره المكلف.
وبنوا على الأول: إنه إذا فعل الجميع أنه يثاب على أعلاها ثواب الواجب، وعلى العمل في ثواب المندوب من حيث إنها أحدها، وإذا ترك الجميع يعاقب على أدناها، وبنوا على الثاني أنه يُثاب ثواب من فعل واجبات، ويعاقب على تركها عقاب من ترك واجبات؛ فإن الخلاف جاوز الاعتقاد إلى غيره؛ تأمل".(34/60)
قلت: نقل إمام الحرمين في الهامش السابق عن المعتزلة يشوش على استدراك الناسخ على المصنف، فإن لم يصح عنهم النقل المذكور؛ فكلامه وجيه قوي؛ فتأمل.
1 قال الأولون: يجوز أن يُحرَّم واحد لا بعينه، ويكون معناه: أن عليه أن يترك أيها شاء، جمعا وبدلا؛ فلا يجمع بينها في الفعل، وقال المعتزلة: لا يجوز، بل المحرم الجميع، وترك واحد كاف في الامتثال، والأدلة من الطرفين والردود هي بعينها المذكورة في الواجب المخير، وإذن؛ فليس من فائدة عملية في هذا الخلاف أيضا، هذا ما يريده المؤلف، وهو واضح "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "جرى الخلاف في جوازه ووقوعه، والحق أنه لم يقع
والمحرم في مسألة الأختين، إنما هو الجمع بينهما كما هو صريح قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}".(34/61)
ص -41-…أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفة الأعيان1، أو إلى خطاب الشارع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع2 عند الفخر الرازي، وهو ظاهر؛ فإنه لا ينبني عليه عمل، وما أشبه ذلك من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه.
لا يقال: إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد [ينبني عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم، وأيضا]3 ينبني عليه عصمة الدم والمال، والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى ما دونه، وأشباه ذلك، وهو من علم الفروع؛ لأنا نقول: هذا جار في علم الكلام في جميع مسائله؛ فليكن من أصول الفقه، وليس كذلك، وإنما المقصود ما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل صوابه الأفعال، وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ فالمعتزلة القائلون بها يقولون: إن الأمر بواحد مُبهم غير مستقيم؛ لأنه مجهول، ويقبح العقل الأمر بالمجهول، والجمهور يقولون: إن الوجوب والتحريم بخطاب الشرع، ولا دخل للعقل فيه، ولا حسن ولا قُبح في الأفعال إلا بأمر الشارع ونهيه؛ فلا مانع من الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كخصال الكفارة، على أن له جهة تعيين بأنه أحد الأشياء المعينة؛ فهذا وجه بناء مسألة المخير على قاعدة التحسين "د".
قلت: وفي النسخ المطبوعة جميعها: "صفات الأعيان" وما أثبتناه من الأصل و"ط".(34/62)
2 راجع الأسنوي؛ فقد ذكر له فوائد عملية كثيرة، من تنفيذ عتقه، وطلاقه... في نحو عشرة فروع خلافية، نعم، إنه قيد كلامه بقوله: "عند الفخر الرازي"، والرازي يقول: "لا فائدة في التكليف إلا تضعيف العذاب عليهم في الآخرة"، وعليه؛ فليس له عنده فائدة عملية فقهية، لكن بعد ظهور هذه الفروع، واطلاع المؤلف عليها بدليل تقييده بكلام الرازي؛ كان ينبغي للمؤلف حذف مسألة تكليف الكفار من بحثه هذا "د" وقال "خ" هنا: "بنى بعض الفقهاء على هذا الخلاف فروعا؛ منها: غرم من أتلف لهم خمرا أو خنزيرا، وإباحة وطء الكتابية لزوجها المسلم القادم من السفر في نهار رمضان".
قلت: وكذا تقديم الطعام والشراب لهم في نهار رمضان، وغيرها.
3 ساقط من الأصل.(34/63)
ص -43-…المقدمة الخامسة:
كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب1 شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يُعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به2؛ ففي القرآن الكريم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المباح ليس مطلوبا شرعا كما يأتي له في بحثه؛ فقاعدته هذه تقتضي أن البحث الذي ينبني عليه استنباط المباح ومعرفة أن العمل الفلاني مباح؛ لا يكون مستحسنا شرعا، وهو غير ظاهر؛ فتقييده بالحيثية فيه خفاء "د".
2 أليس هذا من باب النظر في مصنوعات الله المؤدي إلى قوة الإيمان وزيادة البصيرة بكمالات الخالق -جل شأنه- امتثالا للآيات الطالبة من المكلفين النظر في السموات والأرض وما فيها؟ ولذا قالوا: إن الجواب بالآية عن السؤال من الأسلوب الحكيم، أي: إنه أليق بحال هذا السائل لمعنى عرفه -صلى الله عليه وسلم- فيه، وعليه؛ فلو أجابه -صلى الله عليه وسلم- بما يطلب؛ لكان فيه فائدة عملية قلبية، إلا أنه رأى الأليق بحاله توجيه فكره إلى ثمرة من ثمرات طريقة سير الهلال، بدل بيان نفس الطريقة التي لا يفهمها هو، وقد يعسر فهمها على كثير من العرب، ومثله لا يناسب منصب النبوة؛ فالعدول لحال السائل وأمثاله كما هو اللائق بمنصب النبوة، وإن كان الجواب المطابق للسؤال قد يؤدي إلى فائدة عملية قلبية؛ فتأمل "د".(34/64)
ص -44-…فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: "لِمَ يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدرا، ثم يعود إلى حالته الأولى؟"1.
ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى؛ فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال في التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها2، والبر إنما هو التقوى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد".
قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق 6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269" من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490".
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ"، عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. فيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.
وأخرج نحوه ابن جرير عن قتادة بسندٍ رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.
وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي "1/ 118-119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".(34/65)
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، 3/ 621/ رقم 1803، وكتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، 8/ 183/ رقم 4512" عن البراء -رضي الله عنه- قال: "نزلت هذه الآية فينا, كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها؛ فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك؛ فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}".
قال "خ": "ومتى ثبت سبب نزول الآية بسند صحيح؛ امتنع تأويلها على وجه التمثيل، وتعيَّن فهمُها على ما يطابق السبب حتما".(34/66)
ص -45-…لا العلم بهذه الأمور التي لا تفيد نفعا في التكليف، ولا تجرُّ إليه.
وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيَّان مُرْساها: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]؛ أي: إن السؤال عن هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من علمها أنه لا بد منها، ولذلك لما سُئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة؛ قال للسائل: "ما أَعْدَدْتَ لها؟"1؛ إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة، ولم يُجبه عما سأل.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
نزلت في رجل سأل: من أبي؟ رُوي أنه -عليه السلام- قام يوما يُعرف الغضب في وجهه؛ فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم". فقام رجل، فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: "أبوك حُذافة". فنزلت2.
وفي الباب3 روايات أُخر.
وقال ابنُ عبَّاس في سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وهذا يبيِّن أن سؤالهم لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخار في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله، 10/ 557/ رقم 6171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، 4/ 2032-2033/ رقم 2639" من حديث أنس بن مالك, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال من تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وسيذكره المصنف "ص257-258" بأطول من هذا.
3 في "د" والأصل: "البابين".
4 أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 215-216/ رقم 698"، وابن جرير في =(34/67)
ص -46-…يكن فيه فائدة.
وعلى هذا المعنى يجري الكلام في الآية قبلها1 عند من روى أن الآية نزلت2 فيمن سأل3: أحجُّنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال عليه السلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "1/ 338" بإسناد ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" أيضا -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر" "2/ 168"- بإسناد صحيح عن ابن عباس بلفظ: "لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم".
قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 114": "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد"، وأورده في كتابه "تحفة الطالب" "رقم 234" بإسناد ابن أبي حاتم الضعيف، وسكت عليه، وقال ابن حجر عقبه: "هذا موقوف صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عفان بن مسلم عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ورجاله كوفيون من رجال الصحيح".
وورد مرفوعا ولكن من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 111"، والبزار في "مسنده" "3/ 40/ رقم 2188- زوائده"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ 223/ رقم 727". وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 314"، وقال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة"، وقال البزار: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 189" للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 193- ط المحققة" عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ضعيف لإرساله.
وانظر: "الدر المنثور" "1/ 190"، و"بحر العلوم" "1/ 384", و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 66".
1 آية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ...}.(34/68)
2 هذا البحث مستوفى في المسألة الثانية من أحكام السؤال والجواب في قسم الاجتهاد آخر الكتاب "د" قلت: انظره في "5/ 374-392".
3 سأل بعد نزول آية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} كما يأتي للمؤلف "2/ 257".(34/69)
ص -47-…"للأبد، ولو قلت نعم؛ لوجبت"1، وفي بعض رواياته: "فذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم"2 الحديث، وإنما سؤالهم هنا زيادة3 لا فائدة عمل فيها؛ لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل، فصار السؤال لا فائدة فيه.
ومن هنا نهى عليه السلام: "عن قيل وقال وكثرة السؤال"4؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد، وقد سأله جبريل عن الساعة؛ فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الجملة ملفقة من حديثين في قصتين مختلفتين كما يُفهم من الأسلوب العربي، وكما يعلم من مراجعة "صحيح مسلم" في "باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي باب فرض الحج مرة"، والأصل أنه لما فُرض الحج؛ قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. ثم قال: "ذروني ما تركتكم، لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم..." إلخ، والسائل هنا هو الأقرع بن حابس، وهذه القصة هي المناسبة للمقام "د".
قلت: وسيأتي تخريج ذلك "ص257".
"أما الحديث الآخر؛ ففي صفة متعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج قال سُراقة بن مالك: أرأيت مُتعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: "بل هي للأبد" "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص275".
2 سيأتي عند المصنف "ص256" بلفظه، ولكن فيه "بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" مع تتمة له، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
3 فقد سأل بعدما أخذ من العلوم حاجته؛ لأن ظاهر الآية الإطلاق، وهو أن حجهم لا يجب إلا مرة في العمر، والآية تنزل على هذا الوجه، بمعنى أن الإجابة على الأسئلة الكثيرة مظنة الإساءة بزيادة تكليف لم يكن، أو بجواب يكرهه السائل، ولو في غير التكليف، وإن كان ليس في خصوص سببها هنا ما يكرهون؛ لأن الجواب بما فيه يُسْر، وهو أن الحج واجب مرة فقط "د".(34/70)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292" أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية: "إنه -أي: النبي, صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".(34/71)
ص -48-…"ما المسئول عنها بأعلم من السائل"1؛ فأخبره أن ليس عنده من ذلك عِلْم، وذلك يبيِّن أن السؤال عنها لا يتعلق به2 تكليف، ولما كان ينبني على ظهور أماراتها الحذرُ منها ومن الوقوع في الأفعال3 التي هي من أماراتها، والرجوع إلى الله عندها؛ أخبره بذلك، ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عُمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم؛ فصح إذًا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به "أعني: علْم زمان إتيانها"؛ فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها.
وقال: "إن أعظم الناس جُرما: من سأل عن شيء لم يُحرم فحُرِّم من أجل مسألته"4، وهو مما نحن فيه، فإنه إذا لم يُحرم؛ فما فائدة السؤال عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان... 1/ 39-40/ رقم 9" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 وإلا لعلمه -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هو لا يعنيه علمها وهو المعني بالعلم والمعارف الربانية, فغيره أولى. "د".
3 كما ينبه عليه حديث الترمذي مجملا: "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم..." إلخ إلى أن قال: "يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا". "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 264/ رقم 7289"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1831/ رقم 2358" من حديث سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه.(34/72)
قال "خ": "الحكمة من مثل هذا الإنذار تأكيد النهي عن إلقاء الأسئلة في وقت غير لائق من غير أن تدعو إليها حاجة، وتحريم الشيء عقوبة وتأديبا وقع في بعض الشرائع الماضية، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ولكن لم يقع في الشريعة الإسلامية بحال".(34/73)
ص -49-…بالنسبة إلى العمل؟
وقرأ عمر بن الخطاب: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، وقال: "هذه الفاكهة؛ فما الأب؟"1، ثم قال: "نُهينا عن التكلف"2.
وفي القرآن الكريم: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية [الإسراء: 85].
وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يُجابوا، وأن هذا مما لا يُحتاج إليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه لفت نظرهم أولا إلى أن هنا شيئا مجهولا ليبني عليه هذه الفائدة العلمية. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264-265" بسنده إلى أنس؛ قال: "كنا عند عمر؛ فقال: "نهينا عن التكلف"".
وأخرج الإسماعيلي وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، وعبد بن حميد في "التفسير" -كما في "فتح الباري" "13/ 271"، وأورد ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372" إسناد عبد بن حميد- وعبد الرزاق في "التفسير" "2/ 348"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 181/ رقم 43"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 327"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 825، 227- ط غاوجي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512-513"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 514"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 229-230/ رقم 2084"، وابن جرير في "التفسير" "30/ 59"، والهروي في "ذم الكلام" "ص133" من طرق عن عمر بعضها صحيح نحو ما عند المصنف من ذكر الأب.
وعزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 159" للثعلبي وابن مردويه والطبراني في "مسند الشاميين".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372": "وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا؛ فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل"، وقاله ابن كثير في "تفسيره" أيضا.(34/74)
قلت: ويستشكل هذا بما أخرجه الحاكم -مختصرا- في كتاب الصوم في "المستدرك" عن عمر بن الخطاب؛ أنه سأل ابن عباس عن الأب؛ فقال: هو نبت الأرض مما يأكله الدواب والأنعام، ولا يأكله الناس، وقال: "صحيح على شرط مسلم".(34/75)
ص -50-…التكليف.
وروي1 أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ملُّوا مَلَّة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا.
فأنزل الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الآية] [الزمر: 23].
وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا، وأنه لا ينبغي السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله، ثم ملُّوا ملَّة، فقالوا: حدِّثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن؛ فنزلت سورة يوسف2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص22/ رقم 13" -ثنا حجاج- وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم، قبل الاختلاط، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد؛ كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل؛ كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؛ فهو مرسل، بل معضل بلا شك، وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند.
وقد أخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.(34/76)
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -وكما في "المطالب العالية" "3/ 343، ق 136/ ب-المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209- الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183"، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ...} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 1-3]؛ فتلاها عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زمانا، فقالوا: يا رسول =(34/77)
ص -51-…انظر الحديث في "فضائل القرآن" لأبي عُبيد.
وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع صبيغ في سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبني عليها حُكم تكليفي، وتأديب عمر [رضي الله عنه] له1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر: 23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن.
قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكِّرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرا من طريق محمد بن سعيد العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86- مسند سعد، و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المُذَكِّر والتذكير" "رقم 24" ثنا حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عن عمرو بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير خلاد، وهو ثقة، وثقه ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به", وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديثه مقارب".
وأعلَّه الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(34/78)
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن".
1 أخرج ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 426"، والدارمي في "السنن" "1/ =(34/79)
ص -52-…وقد سأل ابنُ الكوَّاء علي بن أبي طالب عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا...} [الذاريات: 1-2] إلخ؛ فقال له علي: "ويلك، سَل تفقها ولا تسأل تعنتا". ثم أجابه؛ فقال له ابنُ الكوَّاء: أفرأيت السواد الذي في القمر؟ فقال: "أعمى سأل عن عمياء". ثم أجابه، ثم سأله عن أشياء1، وفي الحديث طُول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 55-56"، والخلال -كما قال أبو يعلى في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" "ق 122-123"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 329، 330، 332، 333، 789"، وابن عساكر في "تاريخه" "ترجمة صبيغ"، وهو صحيح.
وأخرجها البزار في "البحر الزخار" "1/ 423-424/ رقم 299"، والدارقطني في "الأفراد" "ق 20/ ب-أطراف الغرائب" مرفوعا، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك.
قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 606" بعد عزوه للبزار: "قلت: المستغرب من هذا السياق رفع هذا التفسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا؛ فقصة صبيغ بن عسل التميمي مع عمر مشهورة وكأنه -والله أعلم- إنما ضربه لما ظهر له من حاله أن سؤاله سؤال استشكال، لا سؤال استرشاد واستدلال، كما قد يفعله كثير من المتفلسفة الجهال، والمبتدعة الضلال؛ فنسأل الله العافية في هذه الحياة الدنيا وفي المآل".
وانظر: "مجمع الزوائد" "7/ 112-113"، و"تفسير ابن كثير "4/ 231-232" و"الاعتصام" "1/ 80، و2/ 53-54" للمصنف.(34/80)
1 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 241"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 115-117"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 466-467"، والفريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "الدر المنثور" "6/ 111"- وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 464/ رقم 726-ط الجديدة"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 334"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص126-ط المغرب" من طرق عن علي -رضي الله عنه- وبعضها إسناده صحيح.
وانظر: "مسند الشاشي" "2/ 96/ رقم 620"، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 65-66"؛ فقد أطال في ذكر الروايات التي فيها إنكار علي -رضي الله عنه- على هذا المبتدع.(34/81)
ص -53-…وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكي كراهيته عمَّن تقدَّم1.
وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
- منها: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف الذي طُوِّقَه المكلَّف بما لا يعني، إذ لا ينبني على ذلك فائدة؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، أما في الآخرة؛ فإنه2 يُسأل عما أُمر به أو نُهي عنه، وأما في الدنيا؛ فإن علمه بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه، وأما اللذة الحاصلة منه في الحال؛ فلا تفي مشقة اكتسابها وتعبُ طلبها بلذة حصولها، وإن فُرض أن فيه فائدة في الدنيا؛ فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك، وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد؛ كالزنى، وشرب الخمر، وسائر وجوه الفسق، والمعاصي التي يتعلق بها غرض عاجل، فإذًا قطع الزمان فيما لا يجني ثمرة في الدارين، مع تعطيل ما يجني الثمرة من فعل ما لا ينبغي.
- ومنها: أن الشرع3 قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فما خرج عن ذلك قد يُظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية؛ فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصُّب، حتى تفرقوا شيعا4، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق5 إلا بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "2/ 142-143، 5/ 332".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "إنما".
3 في "ط": "الشارع".(34/82)
4 وذلك كاختلافهم في نجاة أبويه -صلى الله عليه وسلم- فإنه طالما شقي به الناس فرقة وتدابرا. "د". قلت: وكذلك مسألة عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنا؛ هل هي قدرية أم شرعية؟ فإنها وقع بسببها خلاف وهجر بين بعض فضلاء علماء عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
5 في "ط": "الفِرَق".(34/83)
ص -54-…السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم، وإعراض الشارع -مع حصول السؤال- عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل.
- ومنها: أن تتبع النظر في كل شيء وتطلب عمله من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم1، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يُخالف السنة؛ فاتباعهم في نحلة هذا شأنها خطأ عظيم، وانحراف عن الجادَّة.
ووجوه عدم الاستحسان كثيرة.
فإن قيل: العلم محبوب على الجملة، ومطلوب على الإطلاق، وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق، فتنتظم صِيَغه كل علم، ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل، وما لا يتعلَّق به عمل؛ فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم2، وأيضا؛ فقد قال العلماء: إن تعلم كل علم فرض كفاية، كالسحر والطلسمات، وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل3، فما ظنك بما قرب منه؛ كالحساب، والهندسة، وشبه ذلك؟ وأيضا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتبرأ الإسلام من الفلسفة المتولدة من أوهام وظنون، لا يشهد لها حس أو تجربة صحيحة أو برهان، وأما ما يقوم منها على نظر صادق؛ فيأذن بتعلمه ولا سيما حيث يكون له مدخل في تنظيم شئون الحياة وترقية وسائل العمران. "خ".
2 قلت: أي: قول بالتشهي والهوى.
3 السحر والطلسمات من العلوم المحرمة، قال الذهبي في رسالته "مسائل في طلب العلم وأقسامه" "ص214-215- ضمن ست رسائل": "من العلوم المحرمة علم السحر والكيمياء والطيرة والسيمياء والشعبذة والتنجيم والرَّمل، وبعضها كفر صراح". وانظر, غير مأمور: كتابنا "كتب حذر العلماء منها" "المجموعة الأولى، 1/ 99"؛ فقد أتينا على نقل كثير من النقول على حرمة تعلم السحر والطلسمات، وذكرنا فيه أشهر كتبه الرائجة، ليحذر منها المتقي ربه -عز وجل- والله الهادي.(34/84)
ص -55-…فعلم التفسير من جُملة العلوم المطلوبة، وقد لا ينبني عليه عمل، وتأمل حكاية الفخر الرازي1: إن بعض العلماء مر بيهودي وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم، فسأل اليهودي عما يقرأ عليه؛ فقال له: أنا أفسر له آية من كتاب الله، فسأله ما هي؟ وهو متعجب، فقال: قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]. قال اليهودي: فأنا أُبيِّن له كيفية بنائها وتزيينها. فاستحسن ذلك العالم منه. هذا معنى الحكاية لا لفظها.
وأيضا؛ فإن قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] يشمل كل علم ظهر في الوجود، من معقول أو منقول، مُكْتسب أو موهوب، وأشباهها من الآيات، ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق، من حيث تدل على صانعها، ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات؛ فهذه وجوه تدل على عموم الاستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم.
فالجواب عن الأول: أن عموم الطلب مخصوص، وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة، والذي يوضحه أمران:
أحدهما: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب، بل قد عد عمر ذلك في نحو {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] من التكلف الذي نُهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكرها في "تفسيره" عند الآية المذكورة "28/ 133".(34/85)
ص -56-…عنه1، وتأديبه صبيغا ظاهر فيما نحن فيه، مع أنه لم يُنكر عليه2، ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَخُض في شيء من ذلك، ولو كان لنُقل، لكنه لم يُنقل؛ فدل على عدمه.
والثاني: ما ثبت في كتاب "المقاصد" أن هذه الشريعة أمية لأمة أميّة، وقد قال عليه السلام: "نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3 إلى نظائر ذلك، والمسألة مبسوطة هنالك، والحمد لله.
وعن الثاني: أنا لا نُسلِّم ذلك على الإطلاق، وإنما فرض الكفاية رد4 كل فاسد وإبطاله، عُلم ذلك الفاسد أو جُهل؛ إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد، والشرعُ متكفل بذلك. والبرهان على ذلك أن موسى -عليه السلام- لم يعلم علم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص49".
2 مضى تخريجه "ص51-52".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" "4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصوم، باب الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه, 7/ 139-140" من حديث ابن عمر بلفظ: "إنا أمة أمية..." وتقديم "نكتب" على "نحسب".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 122" من حديثه بلفظ: "نحن أمة أميون...".(34/86)
وعلّق "خ" هنا: "وصف عليه -الصلاة والسلام- العرب بأنها أمة أمية لقلة العارفين منها بالكتابة، وإنما ذكر هذا الوصف ليكون كالعلة لتعليق حكم الصيام على رؤية الهلال دون الحساب، ولم يأت به في مساق الفخر حتى يفهم منه مدح الأمية والترغيب في البقاء عليها، بل القرآن وصفهم بالأميين ونبه على أن الرسول -عليه السلام- بعث فيهم ليخرجهم من طور الأمية ويرتقي بهم إلى صفوف الذين أوتوا العلم والحكمة؛ فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]".
4 في "ط": "فيه رد".(34/87)
ص -57-…السحر الذي جاء به السحرة، مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر، وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعْين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم؛ خاف موسى من ذلك، ولو كان عالما به لم يخف، كما لم يخف العالمون به، وهم السحرة؛ فقال الله له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68].
ثم قال: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وهذا تعريف1 بعد التنكير, ولو كان عالما به لم يُعرَّف به، والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة، وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب، فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل، ولو بخارقة على يد ولي لله، أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشئ عن فرقان التقوى؛ فهو المراد، فلم يتعيَّن إذًا طلبُ معرفة تلك العلوم من الشرع.
وعن الثالث: أن علم التفسير مطلوبٌ فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب، فإذا كان المراد معلوما؛ فالزيادة على ذلك تكلف، ويتبين ذلك في مسألة عمر، وذلك أنه لما قرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، توقف في معنى الأب2، وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية؛ إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة؛ كالحب3، والعنب، والزيتون، والنخل، ومما هو من طعامه بواسطة، مما هو مرعى للأنعام على الجملة؛ فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قوله: "إنما صنعوا... إلخ" تعريف لموسى بأن هذا سحر وصاحبه لا يفلح، بعد تنكير وعدم معرفة من موسى -عليه السلام- بذلك. "د".
2 مضى تخريجه "ص49".
3 في الأصل: "كالحب مباشرة والعنب".(34/88)
ص -58-…فلا على الإنسان أن لا يعرفه، فمن هذا الوجه والله أعلم؛ عد البحث عن معنى الأب من التكلف، وإلا؛ فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف، بل من المطلوب علمه لقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، ولذلك سأل الناس على المنبر عن معنى التخوف في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]؛ فأجابه الرجل الهُذلي بأن التخوُّف في لغتهم التنقص، وأنشده شاهدا عليه:
تخوَّف الرَّحْل منها تامِكا قَرِدا…كما تخوَّف عودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: "يا أيها1 الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "أيها".
2 قال المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 755/ رقم 642": "لم أقف عليه", وقال ابن همات في كتابه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "ق 194/ ب": "قال السيوطي: لا يحضرني الآن تخريجه، لكن أخرج ابن جرير [في "التفسير" "14/ 113"] عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية...." وذكر نحوه.
قلت: إسناد ابن جرير ضعيف، فيه رجل لم يسم عن عمر، وفيه سفيان بن وكيع ضعيف، وذكره القرطبي في "التفسير" "10/ 110" عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 386": "وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر؛ أنه سأل عن ذلك, فلم يجب، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله. قال: فخرج فلقي أعرابيا؛ فقال: ما فعل فلان؟ قال: تخوفته -أي: تنقصته- فرجع؛ فأخبر عمر فأعجبه"، ثم قال: "وفي شعر أبي كبير الهذلي ما يشهد له". وورد نحوه عن ابن عباس فيما أخرجه الحاكم "2/ 499"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص345"، وابن الأنباري في "الوقف"؛ كما في "المزهر" "2/ 302"، وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد؛ كما في "الدر" "6/ 254".(34/89)
قلت: ويشير ابن حجر في مقولته السابقة إلى البيت المذكور، وقد عزاه الجوهري في "الصحاح" "مادة: خوف، 4/ 1359" لذي الرمة، وفيه: "ظهر النبعة"، وعزاه ابن منظور في "لسان =(34/90)
ص -59-…ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] مما يُشوش على العامة من غير بناء عمل عليه، أدَّب عمر صبيغا بما هو مشهور1.
فإذًا تفسير قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} الآية [ق: 6] بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل؛ غير سائغ؛ ولأن ذلك من قبيل ما لا تعرفه العرب، والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها، وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله.
وكذلك القول في كل علم يُعزى إلى الشريعة لا يؤدي فائدة عمل، ولا هو مما تعرفه العرب؛ فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما استدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العرب" "مادة خوف، 9/ 101" لابن مقبل، ونسبه الأصفهاني في "الأغاني" -كما قال الزبيدي في "تاج العروس"- لابن مزاحم الثمالي، ونسبه الآلوسي في "تفسيره" "14/ 152" والبيضاوي في "تفسيره" "357" وغيرهما لأبي كبير الهذلي، ووقع في بعض المصادر: "تخوف السير".
ومعنى "تامكا" -بالمثناة الفوقية، اسم فاعل- من "تمك السنام يتمك تمكا"؛ أي: طال وارتفع، فهو تامك؛ أي: سنام مرتفع، وقوله "قردا" -بفتح القاف، وكسر الراء- أي: متراكما أو مرتفعا، و"النبعة" -بضم النون وفتحها-: واحد "النبع"، وهو شجر يتخذ منه القسي، و"السَّفَن" -بفتح السين والفاء-: ما ينحت به الشيء كالمبرد، وهو فاعل "تخوف"، ومفعوله "عود" أو "ظهر"، ومعنى البيت: إن رحل ناقته أثر في سنمهم المتراكم -أوالمرتفع- وتنقص كما ينقص المبرد عود النبعة، أفاده ابن همات.(34/91)
وقال "خ" في هذا الموطن: "اختلف علماء اللغة في قائل هذا البيت؛ فنسبوه إلى زهير وذي الرمة وابن مزاحم الثمالي وعبد الله بن عجلان النهدي؛ كما اختلفت الرواية في بعض ألفاظه؛ فروى لفظ "السير" بدل "الرحل"، و"ظهر" بدل "عود"، والبيت وارد في وصف ناقة أضناها السير، والتامك المرتفع والمراد به السنام، والقرد المتلبد بعضه على بعض، والسفن الحديدة التي تبرد بها القسي".
1 مضى تخريجه "ص51-52".(34/92)
ص -60-…أهل العدد بقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113].
وأهل [النسب العددية أو الهندسية]1 بقوله تعالى: [{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ..... مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] إلى آخر الآيتين.
وأهل الكيمياء بقوله, عز وجل]: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية [العدد: 17].
وأهل التعديل النجومي بقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية موجبة بقوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الآية] [الأنعام: 91].
وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أُخر.
وأهل خط الرمل بقوله سبحانه: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، وقوله, عليه السلام: "كان نبي يخط في الرمل"2 إلى غير ذلك مما هو مسطور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" -وكذا ما بين المعقوفتين فيما سيأتي- فقط، وبدله في سائر النسخ: "الهندسة".
2 رواه عن معاوية بن الحكم السلمي اثنان، ضمن حديث طويل جليل في باب الصفات، في بعض طرقه ذكر بالسؤال "أين الله؟" وإجابة الجارية "في السماء"، وفيه اللفظ المذكو عند المصنف، على النحو التالي:
أولا: عطاء بن يسار، وعنه هلال بن أبي ميمونة، ورواه عنه ثلاثة:
1- يحيى بن أبي كثير.
قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار" "16": "رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية السلمى". قلت: وقفت على ثمانية منهم:
الأول: حجاج الصَّوَّاف:(34/93)
كما عند ابن أبي شيبة في "الإيمان" مختصرا "رقم 84"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1/ 381-382/ رقم 537 بعد 33، وكتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1749"، وأحمد في "المسند" "5/ 447، 448"، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في =(34/94)
ص -61-….............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "تحفة الأشراف" "8/ 427"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 61"، وأبي داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 244/ رقم 930، وكتاب الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، 3/ 230/ رقم 3282، وكتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، 4/ 16/ رقم 3909"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 490"، والدارمي في "السنن" "1/ 354" -ولم يسق لفظه- وأبي عوانة في "المسند" "2/ 142-143"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ ورقم 859"، و"التوحيد" "ص122"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 383/ رقم 165- مختصرا، 6/ 124/ رقم 2248- الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398-399، الأرقام: 938 و943 و947"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 212"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 237/ رقم 726"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 360 مختصرا"، ولفظه:... ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه؛ فذاك".
ورواه عن يحيى وفيه اللفظ المذكور جماعة، منهم:
الثاني: الأوزاعي:
كما عند مسلم في "الصحيح" "1/ 383" -ولم يسق لفظه- وأشار إليه في "4/ 1749"، وأبي عوانة في "المسند" "2/ 141"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الكلام في الصلاة، 3/ 14-18", وابن حبان في "الصحيح" "6/ 22/ رقم 2247- الإحسان"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ رقم 859"، و"التوحيد" "ص121"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398/ رقم 937 و941 و945"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249"، و"الأسماء والصفات" "421".
وأخرجه من طريقه مختصرا البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 193"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والدارمي في "المسند" "1/ 353"، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" "84".(34/95)
الثالث والرابع: حرب بن شداد وأبان بن يزيد العطار:
كما عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1105".
ومن طريقه: البيهقي مختصرا في "السنن الكبرى" "2/ 250"، و"الأسماء والصفات" "422"، وابن قدامة مختصرا في "إثبات صفة العلو" "رقم 16".
وأخرجه أبو عوانة في "المسند" "2/ 141-142" بسنده إلى أبان والأوزاعي، جميعا عن =(34/96)
ص -62-….............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يحيى به، وفيه اللفظ المذكور.
وأخرجه مختصرا دونه عن أبان وحده به: أحمد في "المسند" "5/ 448"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 60"، و"الرد على بشر المريسي" "ص95"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 489"، ومن طريقه الحافظ أبو العلاء ابن العطار في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 20"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 939 و942 و946"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 652"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "ص63".
الخامس: هشام الدستوائي:
كما عند الحربي في "غريب الحديث" "2/ 720"؛ قال: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى "هو ابن سعيد القطان" عن هشام به مختصرا، وفيه اللفظ المذكور.
السادس: حسين المعلم:
كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 401/ رقم 944"، وفيه اللفظ المذكور.
السابع: همام بن يحيى:
كما عند أحمد في "المسند" "5/ 448"، وفيه اللفظ المذكور.
ورواه عن يحيى، لكن بلفظ: "... فمن وافق علْمَه علِم".
الثامن: معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 403/ رقم 19501، وبإسناده إليه الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 940"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 181/ رقم 3359".
ورواه تاسع عن يحيى وهو من أقرانه، وهو:
التاسع: أيوب السختياني:
ولكن عن يحيى عن هلال عن معاوية به، ولم يذكر فيه عطاء بن يسار؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 402-403/ رقم 948" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور.
وهذا حديث سمعه يحيى من هلال؛ إذ صرح بالتحديث عند أحمد وابن خزيمة؛ فانتفت شبهة تدليسه، كما صرح كل من هلال بن أبي ميمونة وعطاء بالتحديث عند ابن خزيمة.
2- فليح بن سليمان:(34/97)
رواه مختصرا ولم يرد فيه السؤال المذكور، ولا جواب الجارية، ولا اللفظ الذي أورده المصنف؛ كما عند البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 530"، وأبي داود في "السنن" "كتاب =(34/98)
ص -63-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 245/ رقم 931"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249".
3- مالك بن أنس:
وذكر فيه السؤال وجواب الجارية، ولم يذكر اللفظ الذي أورده المصنف أو نحوه؛ كما في "الموطأ" "2/ 776-777"، وعنه الشافعي في "الرسالة" فقرة "242"، و"الأم" "5/ 280"، والنسائي في "التفسير" "2/ 255-256/ رقم 485"، و"السنن الكبرى" في "السير" و"النعوت"؛ كما في "تحفة الأشراف" "رقم 11378"، وابن خزيمة في "التوحيد" "ص122"، والخطيب في "الموضح" "1/ 195"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 387".
ولكن قال مالك في روايته في اسم الصحابي "عمر بن الحكم"؛ فتعقبه الشافعي؛ فقال في "الرسالة" "ص76": "وهو معاوية بن الحكم، وكذلك رواه غير مالك، وأظن مالكا لم يحفظ اسمه".
قلت: رواه عن مالك على الصواب يحيى بن يحيى التميمي، وعنه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 62"، والبيهقي في "السنن الكبرى "7/ 387"، وقال: "ورواه يحيى بن يحيى عن مالك مجوّدا".
وانظر غير مأمور: "الجوهر النقي"، وشروح "الموطأ"، و"تحفة الأشراف" "رقم 11348"، وترجمة "معاوية بن الحكم" من "تهذيب الكمال" ومختصراته؛ ففيها كلام تفصيلي بخصوص هذا الشأن.
ثانيا: أبو سلمة بن عبد الرحمن:
وعنه الزهري، وعنه جماعة؛ كما عند مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، 4/ 1748-1749/ رقم 537 بعد 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 402/ رقم 19500"، وأحمد في "المسند" "3/ 443 و5/ 447-448، 449"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1104"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 396-397/ رقم 933-936".(34/99)
والحديث صحيح، وقد شكك بعضهم في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الجارية، وجوابها، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- لها بقولهم تارة: إن الحديث مضطرب، وبقولهم أخرى: إنها زيدت فيما بعد في "صحيح مسلم"! =(34/100)
ص -64-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن زعم الاختلاف في متنه؛ فلم يصب لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف على أنها عند التحقيق لا تُعدّ اختلافا، وإنما أراد بعض أهل البدع التعلق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن الله فوق خلقه، وكذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في "صحيح مسلم" هو أوهى من بيت العنكبوت، لمن علم وَفَهِمَ وأنصف، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب؛ فكيف تسلم منها السنن؟!
أما اللفظ الذي أورده المصنف آنفا في الخط؛ فهو صحيح عند مسلم وغيره، ورواته جميعا ثقات معروفون؛ فقول ابن رشد "ت520هـ" في رسالته "الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط" "ص42- بتحقيقي"، وكذا قول ابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 696" بأن جميع أحاديث الخط ضعيفة؛ ليس بجيد، ويعوزه التحقيق العلمي، والله تعالى أعلم، وكذا قال القرطبي المفسر في "الجامع لأحكام القرآن" "16/ 179" متعقبا ابن العربي: "هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم".
تنبيه: أورد الرافعي في "الشرح الكبير" هذا الحديث عن معاوية بن الحكم، وورد في أوله: "لما رجعت من الحبشة؛ صليت مع رسول الله, صلى الله عليه وسلم..." وهو غلط محض لا وجه له، ولم يذكر أحد "معاوية بن الحكم" في مهاجرة الحبشة؛ لا من الثقات، ولا من الضعفاء، وكأنه انتقال ذهني من حديث متقدم لابن مسعود، يورده الفقهاء قبل هذا؛ فإن فيه "رجعت من الحبشة"، والله أعلم، أفاده ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 281".
ومن الجدير بالذكر أن الذهبي عد هذا الحديث في "العلو للعلي الغفار" "16" من الأحاديث المتواترة الواردة في العلو، وذكر طرفا منه، وقال: "هذا حديث صحيح".(34/101)
وأخرجه ابن وهب في "جامعه" "1/ 113-114"؛ قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن أناسا قالوا لرسول الله, صلى الله عليه وسلم... "وذكر نحوه".
وهذا النبي هو إدريس -عليه السلام- كما قال أبو ذر ابن الشيخ الإمام سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 258، 932- بتحقيقنا"، والأبي في "إكمال الإكمال" "2/ 239"، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" "1/ 912"، واقتصروا عليه، وذكره الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 118"، وشبير العثماني في "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" "2/ 135"، وذكرا معه قولا آخر، وهو "دانيال".(34/102)
ص -65-…في الكتب، وجميعُه1 يقطع بأنه مقصود لما تقدم.
وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع، وأن قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها2، ولا يليق بالأميين الذين بُعث فيهم النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- بملة سهلة سمحة، والفلسفة -على فرض أنها جائزة الطلب- صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تُتعرف آيات الله ودلائل توحيده3 للعرب الناشئين في محض الأمية؛ فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة، مُنبَّه على ذمها بما تقدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وجميع المسطور في هذه الكتب يأتون فيه بما يدل على القطع بأن هذه الآيات مقصود منها ما استدلوا عليه، يعني: وإنما هي تكلفات لا تليق بلسان العرب ومعهودها. "د".
قلت: وهنالك أمثلة من إسقاطات العقلانيين و"العلمانيين" يضحك منها العقلاء بله العلماء، والله الهادي. وفي "ط": "بأنه غير مقصود ما تقدم".(34/103)
2 إذا نظرنا للحديث الصحيح: "بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع"، مع العلم بأن القرآن للناس كافة، وأنه ليس مخاطبا به خصوص طائفة العرب في العهد الأول لها، بل العرب كلهم في عهدهم الأول وغيره وغير العرب كذلك، إذا نظرنا بهذا النظر؛ لا يمكننا أن نقف بالقرآن وبعلومه وأسراره وإشاراته عند ما يريده المؤلف وكيف نوفق بين ما يدعو إليه من ذلك وبين ما ثبت من أنه لا ينضب معينه؟ والخير في الاعتدال؛ فكل ما لا تساعد عليه اللغة، ولا يدخل في مقاصد التشريع؛ يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف، أما ما لا تنبو عنه اللغة، ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه؛ فلا يوجد مانع من إضافته إلا الكتاب العزيز، ومنه ما يتعلق بالنظر في مصنوعات الله للتدبر والاعتبار وتقوية الإيمان وزيادة الفهم والبصيرة. "د".
3 من الآيات المبثوثة في السماء والأرض ما يكفي في إدراكه النظر الفطري، ومنها ما يُدرك بمزاولة قوانين علمية، ولا مانع من أن يبقى هذا القسم في الآيات المرغب في تدبرها؛ فإن النظر الذي يحث عليه مثل قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] لم يحد بنهاية أو ينص فيه على طريق معين. "خ".(34/104)
ص -66-…في أول المسألة.
فإذا ثبت هذا؛ فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل؛ غيرُ مطلوب في الشرع.
فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب؛ كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك؛ فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا، حسبما تبيَّن في موضعه، لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو:(34/105)
ص -67-…المقدمة السادسة:
وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور، وإن فُرِضَ1 تحقيقا.
فأما الأول؛ فهو المطلوب، المنبَّه عليه، كما إذا طُلب معنى المَلَك؛ فقيل: إنه خَلْقٌ مِنْ خَلْق الله يتصرف في أمره، أو معنى الإنسان؛ فقيل: إنه هذا الذي أنت من جنسه، أو معنى التخوف؛ فقيل: هو التنقص، أو معنى الكوكب؛ فقيل: هذا الذي نشاهده بالليل، ونحو ذلك؛ فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة؛ كما قال عليه السلام: "الكِبْرُ بَطر الحق وغمطُ الناس"2؛ ففسَّره بلازمه الظاهر لكل أحد، وكما تُفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة، من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وقد بيَّن عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سينازع في كونه تحقيقا، وأنه يتعذر الوصول لحقائق الأشياء؛ فلذا قال: "وإن فرض" "د".
قلت: وفي نسخة "م": "وإن قرض" بالقاف، وهو خطأ.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.(34/106)
ص -68-…السلام, الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب، والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية؛ فلا يليق بها من البيان إلا الأمي، وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا، والحمد لله.
فإذًا؛ التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني -وهو ما لا يليق بالجمهور- فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له؛ لأن مسالكه صعبة المرام، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، كما إذا طلب معنى الملك، فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجردة عن المادة أصلا، أو يقال: جوهرٌ بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان؛ فقيل: هو الحيوان الناطق المائت1، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه جسم بسيط، كُرِيٌّ، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن يُنير، متحرك على الوسط، غير مشتمل عليه، أو سئل عن المكان؛ فيقال: هو السطح الباطن من الجرم الحاوي، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به2.
وأيضا؛ فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء3، وقد اعترف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بمعنى الميت؛ أي: الذي مآله الموت. انظر "لسان العرب" "م و ت".
2 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على فساد المنطق وعلم الكلام في المجلد التاسع من "مجموع الفتاوى"، وفي كتابه "الرد على المنطقيين"، وغير ذلك.
3 معرفة كنه الأشياء ينفع في علوم الطبيعة، والعلوم المعروفة اليوم كالطب والهندسة والفلك، أما في "الإلهيات"؛ فهو علم لا ينفع.(34/107)
ص -69-…أصحابه بصعوبته، بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر، وأنهم أوجبوا أن لا يُعرف شيء من الأشياء على حقيقته؛ إذ الجواهر لها فصول مجهولة, والجواهر عرفت بأمور سلبية؛ فإن الذاتي الخاص1 إن عُلم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا، وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس, فهو مجهول، فإن عُرِّف ذلك الخاص بغير ما يخصه؛ فليس بتعريف، والخاص به كالخاص المذكور أولا؛ فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة، أو ظاهرة من طريق أخرى, وذلك لا يفي بتعريف الماهيات، هذا في الجوهر، وأما العرض؛ فإنما يعرف باللوازم؛ إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك.
وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها، وللمنازع أن يطالب بذلك, وليس للحادّ أن يقول: لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه؛ إذ كثير من الصفات غير ظاهر. ولا يقال أيضا:
لو كان ثم ذاتي آخر ما عُرفت الماهية [دونه]2؛ لأنا نقول: إنما تُعرف الحقيقة إذا عُرف جميع ذاتياتها، فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف؛ حصل الشك في معرفة الماهية.
فظهر أن الحدود على ما شرطه أربابُ الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يُجعل من العلوم الشرعية التي يُستعان بها فيها، وهذا المعنى تقرر، وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها؛ فتسوُّر الإنسان على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الذي يُراد جعله فصلا إن علم بوجوده في غير الماهية التي يُراد جعله فصلا لها؛ لم يكن خاصا، وإن لم يعلم في غيرها؛ كان مجهولا، فإن عرّفناه بشيء لا يخصه؛ فليس تعريفا له، وإن عرّفناه بشيء خاص به؛ انتقل الكلام إليه، كالخاص الذي هو موضوع الكلام، فيتسلسل؛ فلا بد من الرجوع في كون الفصل ذاتيا خاصا إلى أمور محسوسة... إلخ، وذلك نادر الحصول؛ فلا يفي بما يُطلب من تعريف الماهيات الكثيرة "د".
2 ليست في الأصل.(34/108)
ص -70-…معرفتها رمي في عماية، هذا كله في التصور.
وأما [في]1 التصديق؛ فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية، حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.
فإذا كان كذلك؛ فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة، وهو الذي نبَّه القرآن على أمثاله؛ كقوله [تعالى]2: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].
وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلى آخرها.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ [مِنْ شَيْءٍ]3} [الروم: 40].
وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58-59].
وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا؛ فتقرير الحكم كافٍ.
وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف4 والمخالف، ومن نظر في استدلالالهم على إثبات الأحكام التكليفية؛ علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلَّف، ولا نظم مؤلف5، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يُبالون كيف وقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل.
2، 3 ساقطات من الأصل.
4 في "م": "للموافق".
5 كقياسات المنطق "د".(34/109)
ص -71-…ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعا1 إلى نظم الأقدمين في التحصيل؛ فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدَّمهم.
وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة؛ إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل؛ فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح2؛ فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية3؛ فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي؛ لكان مناقضا لهذه المطالب، وهو غير صحيح.
وأيضا؛ فإن الإدراكات ليست على فن واحد، ولا هي جارية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قد يتفق أن يكون على نظم الأقيسة لا من حيث إنهم قصدوا الاقتداء بالفلاسفة في تركيب الأدلة، بل من جهة أنهم قصدوا الوصول إلى المقصود، فاتفق لهم المشاكلة في النظم كما سيأتي في حديث: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"؛ إلا أنه نادر، كما يأتي في آخر مسألة في الكتاب "د" قلت: انظر "5/ 418"، وسيأتي تخريج الحديث "4/ 360".
2 جرى السلف في البحث عن العقائد على طريقة الكتاب العزيز حتى رفع المعاندون من المتفلسفة والمبتدعة رءوسهم بإلقاء الشكوك والشبه على حقائق الدين؛ فلم يسع علماء الكلام إلا أن تصدوا لمكافحتهم بمثل السلاح الذي كانوا يهاجمونهم به، وأخذ البحث في العقائد هيئة غير هيئته الأولى، وإنما يكون هذا الصنيع بدعة مكروهة حيث يتحقق أنه رفع أو بدل حقيقة شرعية "خ".(34/110)
3 أي: مطلوب تحصيلها في الوقت التالي للخطاب بها، بدون التراخي الذي يقتضيه السير في طريقة الاستدلال المنطقي، ونظام المناقضات والمعارضات والنقوض الإجمالية، التي قد تستغرق الأزمان الطويلة، ولا تستقر النفس فيها على ما ترتاح إليه، مع كثرة المطالب الشرعية اليومية وغيرها. "د".(34/111)
ص -72-…التساوي في كل مطلب؛ إلا في الضروريات وما قاربها؛ فإنها لا تفاوت فيها يُعتدُّ به، فلو وُضعت الأدلة على غير ذلك1؛ لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، أو أدى إلى تكليف ما لا يُطاق2، أو ما فيه حرج، وكلاهما مُنتفٍ عن الشريعة، وسيأتي في كتاب "المقاصد" تقرير هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غير ما كان من الضروريات وما قاربها. "د".
2 في "م": "يطلق".(34/112)
ص -73-…المقدمة السابعة:
كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [من]1 حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما تقدَّم في المسألة قبل أن كل علم لا يُفيد عملا2؛ فليس في الشرع ما يدلُّ على استحسانه، ولو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنا شرعا، ولو كان مستحسنا شرعا؛ لبحث عنه الأولون3 من الصحابة والتابعين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"م" و"خ".
2 كالفلسفة النظرية الصرفة، أما الفلسفة العملية؛ كالهندسة، والكيمياء، والطب، والكهرباء, وغيرها؛ فليست داخلة في كلامه، ولا يصح أن يقصدها؛ لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشرع في الضروريات والحاجيات... إلخ، والمصالح المرسلة تشملها، وهي وسيلة إلى التعبد أيضا؛ لأن التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما، بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رَسم له مولاه، لا على مقتضى هواه؛ كما سيأتي للمؤلف. "د".
3 ممنوع؛ فكم من علم شرعي لم يبحث عنه الأولون لعدم الحاجة إليه عندهم؟ وأقربها إلينا علم الأصول، ولم يبدأ البحث في تأصيل مسائله في عهد الصحابة والتابعين. "د".
وقال "خ": "من العلوم ما تقتضيه حال العصر؛ كعلم الكيمياء، والهندسة، ومباحث الحرارة والكهرباء، وقاعدة وزن الثقل، وما يشاكلها من العلوم التي لا يمكن الخلاص من الأعداء إلا بالقيام عليها، ولم يبحث عنها الأولون من الصحابة والتابعين؛ لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم".(34/113)
ص -74-…وذلك غير موجود، فما يلزم عنه كذلك.
والثاني: أن الشرع إنما جاء بالتعبُّد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء -عليهم السلام- كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1].
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1-2].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{[الْحَمْدُ لِلَّهِ] الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي: يُسوون به غيره في العبادة؛ فذمهم على ذلك.
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92].
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 2].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآية [الزمر: 2-3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.(34/114)
ص -75-…وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصى، كلها دال على أن المقصود التعبد لله، وإنما أُتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده، سبحانه لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14].
وقال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد، لا بد أن أُعقبت بطلب التعبد لله وحده، أو جُعل مقدمة لها، بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها: ألا تُذكر إلا كذلك1؛ وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تُحصى.
والثالث: ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل، وإلا؛ فالعلم عارية وغير منتفع به؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
قال قتادة: يعني لذو عمل بما علَّمناه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" فقط، وفي سائر النسخ: "إلا تذكرة إلا كذا"، وهو خطأ.
2 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "13/ 15"، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "4/ 557". وقال "خ" معلقا عليه: "ولا وجه لهذا التأويل على ما يطابق وضعها المألوف قيما لا عوج فيه، وهو الثناء على يوسف -عليه السلام- بفضيلة العلم، وبيان أنه مفاض عليه بتعليم الله إياه على طريق الوحي، أو نصب الأدلة الكونية".(34/115)
ص -76-…وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ...} إلى أن قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]؛ قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره1.
وعن أبي هريرة؛ قال: "إن في جهنم أرْحاء تدور بعُلماء السوء، فيُشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا، فيقول: ما صيَّركم في هذا، وإنما كنا نتعلم منكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم بالأمر, ونخالفكم إلى غيره"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1194".
2 أخرج نحو هذا الحديث عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، 6/ 331/ رقم 3267، وكتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، 13/ 48/ رقم 7098"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، 4/ 2290/ رقم 2989"، ولفظ البخاري: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاهُ؛ فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".(34/116)
وأخرجه من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور عند المصنف الديلمي في "المسند" "رقم 845"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1177" بسند ضعيف جدا، ونحوه عن أنس عند ابن عدي وابن عساكر، وعن ابن عمر عند ابن عساكر بإسناد فيه متهم بالكذب؛ كما في "إتحاف السادة المتقين" "10/ 519"، ويغني عن هذه الأحاديث حديث أسامة السابق، وكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، ولكنه يتابع الغزالي -في بعض الأحايين- في نقل الأحاديث من "الإحياء"، وضعفها مشهور معلوم، والله الموفق.(34/117)
ص -77-…وقال سفيان الثوري: "إنما يُتعلَّم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره؛ لأنه يُتقى الله به"1.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خِصال"، وذكر فيها: $"وعن علمه, ماذا عمل فيه؟"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص82".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، 4/ 612/ رقم 2416"، وأبو يعلى في "المسند" "9/ 178/ رقم 5271"، والطبراني في "الكبير" "10/ 8-9/ رقم 9772"، و"الصغير" "1/ 269"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 763-764"، والخطيب في "التاريخ" "12/ 440"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص96" من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن ابن مسعود مرفوعا به.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه".
قلت: إسناده ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد يصحح بها، منها:
حديث أبي بَرْزة الأسلمي: أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2417" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والدارمي في "السنن" "1/ 135"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 428/ رقم 7434"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 1، ص16-17"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 30"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 494"، وأبو نعيم في الحلية "10/ 232"، وإسناده حسن.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "رقم 2212" بإسناد واه عن أبي برزة، وفيه زيادة: "وعن حب أهل البيت"، وفيه معروف بن خرَّبوذ، ترجمه الذهبي في "الميزان" "1/ 443"، وقال: "أتى بخبر باطل..." وذكره، إلا أنه جعله من مسند أبي ذر.(34/118)
قلت: وهو كذلك في "تاريخ ابن عساكر" "12/ ق 126"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "11/ 102/ رقم 11177" بهذه الزيادة بإسناد ضعيف جدا، فيه حسين بن الحسن الأشقر، كان يشتم السلف، كذا في "المجمع" "10/ 346".
حديث معاذ بن جبل: أخرجه الطبراني في "الكبير" "20/ 60-61/ رقم 11"، والخطيب في "التاريخ" "11/ 441-442"، و"الاقتضاء" "رقم 2"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 493" بإسناد لا بأس به في الشواهد، وصححه المنذري في "الترغيب" "4/ 185".
وقد اضطرب فيه ليث بن أبي سُليم؛ فكان يرفعه مرة، ويوقفه مرة عن معاذ؛ كما عند هناد في "الزهد" "رقم 724"، والدارمي في "السنن" "1/ 135"، والبزار في "المسند" "رقم 3437، 3438"، والخطيب في "الاقتضاء" "رقم 3"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1208".
وانظر: "مجمع الزوائد" "10/ 346"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 946".(34/119)
ص -78-…وعن أبي الدرداء: "إنما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أَعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، [ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع]1، ومن دعاء لا يُسمع"2.
وحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 أخرجه أحمد في "الزهد" "2/ 58"، وابنه عبد الله في "زوائده" "2/ 65" -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 213-214"- وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 253" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 489"- وابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 311"، والدارمي في مقدمة "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 39" -ومن طريقة ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1201"- وأبو داود في "الزهد" "رقم 226، 254"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "5/ 17، 18/ تهذيب ابن بدران"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 51، 53، 54، 55"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 630"، والآجري في "أخلاق العلماء "ص97-ط المغرب" من طرق عن أبي الدرداء مطولا ومختصرا، والمطول الذي فيه: "فلا تبقى آية في كتاب الله..."، أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1207"، وهو عند أبي داود وعبد الله بن أحمد، وإسناده لا بأس به.
وأخرجه دونه أيضا البيهقي في "المدخل" "رقم 492" و"الشعب" "4/ 411", وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1204"، وهو صحيح مختصرا.(34/120)
ص -79-…القيامة، قال فيه: "ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت فيك العلم وعلَّمته، وقرأتُ القرآن. قال: كذبت، ولكن ليقال: فلان قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار"1.
وقال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة/ رقم 2383"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23، 24".
2 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 305/ رقم 507- الروض الداني"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1807"، والبيهقي في "الشعب" "2/ 284-285/ رقم 1778"، والخطيب في "الكفاية" "6-7"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 162" من طريق عثمان البري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا، مداره على عثمان بن مقسم البري، قال الطبراني: "لم يروه عن المقبري إلا عثمان البري"، وهو ضعيف جدا، واتهمه ابن معين بالوضع، وألان الهيثمي في "المجمع" "1/ 185" فيه الكلام بقوله بعد عزو الحديث للطبراني في "الصغير": "وفيه عثمان البري، قال الفلاس: صدوق كثير الغلط، صاحب بدعة، ضعّفه أحمد والنسائي والدارقطني".(34/121)
وضعف الحديث العراقي في "تخريجه لأحاديث الإحياء" "1/ 3 و3/ 377"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 78"، وابن حجر كما قال المناوي في "فيض القدير" "1/ 518"؛ إلا أنه لم يرتض حكم هؤلاء الحفاظ، فاستدرك عليهم بقوله: "لكن للحديث أصل أصيل"، وعزا للحاكم حديث ابن عباس بلفظ: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا، أو قتله نبي، أو قتل أحد والديه, والمصوّرون، وعالم لم ينتفع بعلمه".
قلت: أخرجه أبو القاسم الهمذاني في "فوائده" "1/ 196/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1617"- من طريق عبد الرحيم أبي الهيثم عن الأعمش عن الشعبي عن ابن عباس مرفوعا. =(34/122)
ص -80-…وروي أنه -عليه السلام- كان يستعيذ من علم لا ينفع1.
وقالت الحكماء: "من حَجب الله عنه العلم؛ عذَّبه به على الجهل، وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به"2.
وقال معاذ بن جبل: "اعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يأجُركم الله بعلمه حتى تعملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال شيخنا الألباني: "وهذا إسناد واهٍ، آفته عبد الرحيم هذا، وهو ابن حماد الثقفي، قال العقيلي في "الضعفاء": "حدث عن الأعمش مناكير، وما لا أصل له من حديث الأعمش"، ثم ساق له أحاديث ونقلها الذهبي عنه، ثم قال: "ولا أصل لها من حديث الأعمش"، ثم قال: "عبد الرحيم هذا شيخ واه، لم أر لهم فيه كلاما، وهذا عجيب"".
ثم بيَّن أن الحديث ليس في "المستدرك" وقال: "وقد ثبت الحديث من رواية ابن مسعود مرفوعا دون جملة الوالدين، وكذا جملة العالم... وهو مخرج في "الصحيحة" "رقم 281"".
قلت: فالحديث المذكور ضعيف جدا مرفوعا، ولكنه ثبت عن أبي الدرداء من قوله، أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 40"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 223"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 165" بإسناد رجاله ثقات.
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل، 4/ 2088/ رقم 2722" مطولا من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع". وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب منه، 5/ 519/ رقم 4382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، 8/ 255"، وتصدير المصنف للحديث بصيغة التمريض "روي" ليس بجيد، والحديث صحيح ثابت، والله الموفق.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "1214".(34/123)
3 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 62" -ومن طريقه أبو داود في "الزهد" "رقم 196"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 693/ =(34/124)
ص -81-…وروي أيضا مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه زيادة: "إن العلماء همتهم الرعاية، وإن السفهاء همتهم الرواية"1.
وروي موقوفا أيضا عن أنس بن مالك2، وعن عبد الرحمن بن غَنْم؛ قال: حدَّثني عشرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كنا نتدارس العلم في مسجد قُباء؛ إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تعلَّموا ما شئتم أن تعلَّموا؛ فلن يأجركم الله حتى تعملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 1227-ط الجديدة"- والدارمي في "السنن" "1/ 81"، وأحمد في "الزهد" "ص181" بإسناد رجاله ثقات إلى معاذ موقوفا، وفيه انقطاع، يزيد بن جابر لم يدرك معاذا.
1 أخرجه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 7، 8"، و"التاريخ" "10/ 94"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 458-459"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن الشجري في "أماليه" "1/ 62" عن معاذ مرفوعا، وله إسنادان، كل منهما ضعيف جدا، وفيه انقطاع في الأول بكر بن خنيس، وهو متروك، وحمزة النصيبي مثله, بل أشد؛ إذ هو متهم بالوضع، وفي الآخر عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عامة ما يرويه مناكير؛ كما قال ابن عدي.
والزيادة التي في آخره: "إن العلماء همتهم الرعاية" إنما هي من قول الحسن؛ كما عند الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 39"، وأرسلها في رواية عند ابن عساكر "19/ 78/ 2"، وهي خطأ، ومدارها على أبي محمد الأطرابلسي، وهو مجهول.
2 أشار إليه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694-695"، وأفاد أنه جاء عن أنس مرفوعا وموقوفا، وأسند الموقوف، وفيه وفي المرفوع عباد بن عبد الصمد، قال ابن حبان: "واه، وله عن أنس نسخة أكثرها موضوعة".
وقال ابن عبد البر إثر الموقوف: "وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به، بل هو ممن لا يشتغل بحديثه؛ لأنه متفق على تركه وتضعيفه".(34/125)
وأخرج الموقوف أبو الحسن بن الأخرم في "أماليه".
3 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694/ رقم 1228" عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم مثله، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 289": "لم أجد له إسنادا". وانظر: "إتحاف السادة المتقين" "1/ 373".(34/126)
ص -82-…وكان رجل يسأل أبا الدرداء؛ فقال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حُجَّة الله عليك؟1.
وقال الحسن: "اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم؛ فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدّقه أو يكذّبه، فإذا سمعت قولا حسنا؛ فَرويدا بصاحبه، فإن وافق قوله عمله؛ فنِعْم ونعمةَ عَين"2.
وقال ابن مسعود: "إن الناس أحسنوا القول كلهم, فمن وافق فعله قوله؛ [فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف فعله قوله]3؛ فإنما يُوبِّخ نفسه"4.
وقال الثوري: "إنما يطلب الحديث ليُتَّقى به الله -عز وجل- فلذلك فُضِّل على غيره من العلوم، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء"5.
وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد؛ قال: "أدركت الناس وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1232".
2 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 77"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1234"، وفيه يحيى بن المختار، قال عنه ابن حجر في "التقريب": "مستور".
3 ساقطة من الأصل، واستشكل الناسخ السياق؛ فكتب في الهامش: قوله: "يوبخ نفسه" كذا في النسخ!! وهو إما تحريف، أو مرتب على كلام نقص من هذه النسخ.
4 قلت: وفي "خ": "يربح نفسه"!! أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 75" -ومن طريقه الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 627"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1233"- ووكيع في "الزهد" "رقم 266" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "2/ 108"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 414-415"- من طريقين عن ابن مسعود، أحدهما حسن. وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار" "4/ 179" عن زبيد اليامي؛ قال: "أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة..." وذكرها.(34/127)
5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1152، 1159"، وأبو نعيم "6/ 362، 366"، والبيهقي في "المدخل" "470"، وتمام في "الفوائد" "97- روض"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "298، 299" بإسناد حسن بألفاظ، مضى واحد منها في "ص77".(34/128)
ص -83-…يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل"1، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، وكل ذلك يُحقق أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم؛ فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به2.
فلا يقال: إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله، وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن مرتبة العلماء تلي مرتبة الأنبياء، وإذا كان كذلك، وكان الدليل الدال على فضله مطلقا لا مقيَّدا؛ فكيف يُنكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة؟ هذا وإن كان وسيلة من وجه؛ فهو مقصود لنفسه أيضا، كالإيمان3؛ فإنه شرط في صحة العبادات، ووسيلة إلى قبولها، ومع ذلك؛ فهو مقصود لنفسه.
لأنا نقول: لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل، بدليل ما تقدَّم ذكره آنفا، وإلا؛ تعارضت الأدلة، وتناقضت الآيات والأخبار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2062، 2063" عن ابن وهب؛ قال: "قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم". قال ابن وهب: "يريد المسائل".
قال: "وقال مالك: إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام في الناس اليوم".
2 تكلَّم ابن القيم عن العلم والعمل في مواطن عديدة من كتبه؛ منها: "إعلام الموقعين" "1/ 165-169 و3/ 394 و2/ 158"، و"مفتاح دار السعادة" "52-196، 175، 183، 188، 189، 190، 304"، و"الداء والدواء" "3"، و"المدارج" "2/ 60، 293، 464-478 و3/ 260، 302، 325"، و"روضة الطالبين" "68، 156، 195، 305"، و"البدائع" "2/ 62"، و"الزاد" "1/ 152"، و"الصواعق" "1/ 93-96"، و"طريق الهجرتين" "618".
3 في الأصل: "المقصود لنفسه كالإيمان أيضا".(34/129)
ص -84-…وأقوال السلف الأخيار؛ فلا بد من الجمع بينها، وما ذُكر آنفا شارح لما ذُكر في فضل العلم والعلماء، وأما الإيمان؛ فإنه عمل من أعمال القلوب، وهو التصديق، وهو ناشئ عن العلم، والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها، أما العلم؛ فإنه وسيلة، وأعلى ذلك العلم بالله، ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدِّق بمقتضاه، وهو الإيمان بالله.
فإن قيل: هذا متناقض؛ فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به.
قيل: بل1 قد يحصل العلم مع التكذيب2؛ فإن الله قال في قوم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20].
فأثبت لهم المعرفة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بيَّن أنهم لا يؤمنون، وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم؛ كما أن الجهل مُغايرٌ للكفر.
نعم، قد يكون العلم فضيلة، وإن لم يقع العمل به على الجملة، كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف، إذا فُرض أنها لم تقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "بلى".
2 يرى بعض أهل العلم أن المعتبر في الإيمان هو التصديق اللغوي، وهو بعينه التصديق المنطقي؛ كما قال السيد في حواشي شرح "التلخيص": إن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة، وذهب فريق إلى أن التصديق اللغوي -وهو الشرعي- أخص من التصديق المنطقي؛ إذ يزيد عليه بقيد الاختيار والتسليم، وهذا ما جرى عليه المصنف في هذه المقدمة. "خ".(34/130)
ص -85-…الخارج؛ فإن العلم بها حسن، وصاحب العلم مُثابٌ عليه وبالغ مبالغ العلماء، لكن من جهة ما هو مظنَّة الانتفاع عند وجود محله، ولم يُخرجه ذلك عن كونه وسيلة، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد، أو جاء ولم يمكنه أداؤُها لعذر، فلو فُرض أنه تطهَّر على عزيمة أن لا يُصلي؛ لم يصح له ثواب الطهارة، فكذلك إذا علم على أن لا يعمل؛ لم ينفعه علمه، وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من اليهود والنصارى يعرفون دين الإسلام، ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه، ولم يكن ذلك نافعا لهم مع البقاء على الكفر1 باتفاق أهل الإسلام.
فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل.
فصل
ولا يُنكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل، ولكن له قصد أصلي وقصد تابع.
فالقصد الأصليُّ ما تقدم ذكره.
وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنيء، وإن كان في أصله شريفا، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار2 وحكمه ماض3 على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالمستشرقين والمتخصصين من الكافرين في علوم الشريعة، وهو مشهور معلوم هذه الأيام.
2 أي: البشر. انظر: "لسان العرب" "ب ش ر".
3 في "ط": "قاض".(34/131)
ص -86-…العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر،... إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة؛ فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه1 يناله.
وأيضا؛ فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة2؛ إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس ومُيلت3 إليها القلوب، وهو مطلبٌ خاص، برهانه التجربة التامة والاستقراء العام؛ فقد يُطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها مُتسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع.
ولكن كل تابع من هذه التوابع؛ إما أن يكون خادما للقصد الأصلي، أو لا.
فإن كان خادما له؛ فالقصد إليه ابتداء صحيح، وقد قال تعالى في معرض المدح: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وجاء عن بعض السلف الصالح: اللهم اجعلني من أئمة المتقين، وقال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن النخلة: "لأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "صاحبها".
2 ذهبت طائفة من الحكماء إلى أن اللذة الدنيوية محصورة في المعارف، وقالوا: ما يتوهم من لذة حسية كقضاء شهوتي البطن والفرج، أو خيالية كالازدهاء بالرئاسة والاستعلاء؛ فهو دفع ألم فقط؛ فالأولى دفع ألم الجوع والعطش ودغدغة المني لأوعيته، والثانية دفع ألم القهر والغلبة. "خ".
3 في "م": "مالت".(34/132)
ص -87-…تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا"1.
وفي القرآن عن إبراهيم, عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة، وأشباه ذلك.
وإن كان غير خادم له؛ فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلمه رياء، أو ليُماري به السفهاء، أو يُباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم، أو ما أشبه ذلك؛ فإن مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب زهد في التعلم، ورغب في التقدم، وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه، وأنف من الاعتراف بالتقصير؛ فرضي بحاكم عقله، وقاس بجهله؛ فصار ممن سُئل فأفتى بغير علم؛ فضَلَّ وأضلَّ، أعاذنا الله من ذلك بفضله.
وفي الحديث: "لا تعلَّموا العلم لُتباهوا به العلماء، ولا لتُماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك؛ فالنار النار"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.
قال "م": "كان ابن عمر حدثا؛ فاستحيا أن يذكر ما جال بخاطره".
2 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93/ رقم 254"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 90- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص100"، والخطيب في "الجامع" "1/ 86-87"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 187" من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 116"، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "1/ 111": "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم"؛ فهو صحيح.(34/133)
ص -88-…وقال: "من تعلم علما ما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة"1.
وفي بعض الحديث: سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية؛ فقال: "هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يُجلس إليه"2 الحديث.
وفي القرآن العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [الآية] [البقرة: 174].
والأدلة في المعنى كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبوداود في "السنن" "كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، 3/ 323/ رقم 3664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 92-93/ رقم 252"، وأحمد في "المسند" "2/ 338"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 89- موارد" والآجري في "أخلاق العلماء" "ص107"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 102"، و"تاريخ بغداد" "5/ 347 و8/ 78"، و"الجامع" "1/ 84"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 190" بسند صحيح، وصححه الذهبي في "الكبائر" "ص120- بتحقيقي".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، سنده ثقات، رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وهو كما قالا.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس"، وقال ابن حجر: "وفيه إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك"، قاله المناوي في "فيض القدير" "1/ 189".(34/134)
ص -89-…المقدمة الثامنة:
العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا -أعني الذي مدح الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يُخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها، ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب1:
المرتبة الأولى:
الطالبون له ولمّا يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به؛ فبمقتضى الحَمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف؛ فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله؛ من زجر، أو قصاص، أو حد، أو تعزير، أو ما جرى هذا المجرى، ولا احتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك؛ إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه.
والمرتبة الثانية:
الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم ابن تيمية نحو ما عند المصنف في مواطن من "مجموع الفتاوى"، منها: "5/ 270، 274، 3/ 30-34 و4/ 36-39".(34/135)
ص -90-…المجرد، واستبصارا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل، الذي يصدِّقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه؛ إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس، بمعنى أنه لم يصِر كالوصف الثابت للإنسان، وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، و[عليه]1 يعتمد في استجلابها، حتى تصير من جملة مودعاته، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل؛ خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما2؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي؛ العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف، ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين؛ فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج، غير أنه يتسع في حقهم؛ فلا يُقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثَم أمور أُخر كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك.
وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة، إلا أنها أخفى مما قبلها، فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الاتصافات السلوكية.
والمرتبة الثالثة:
الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول، أو تُقاربها، ولا يُنظر إلى طريق حصولها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 لو عقدنا موازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة؛ لوجدنا الفرق بينهما من جهة الورع والقيام بفريضة الإرشاد واضحا جليا، ولم يكن هذا التفاضل فيما أحسب إلا لأن علماء السلف لا يقنعون بتصور الأحكام العملية حتى ينفذوا منها إلى معرفة أسرارها وأدلتها، وبعد أن كانت هذه الحجة تتدفق بسالكيها تتدفق السيل الجرار؛ ضرب التقليد الصلب أطنابه في النفوس، وأصبحت الرابطة بين العلم والعمل واهية.(34/136)
"خ". قلت: انظر تفصيل ذلك عند ابن رجب في "فضل علم السلف على الخلف".(34/137)
ص -91-…فإن ذلك لا يُحتاج إليه، فهؤلاء لا يُخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخلقية1، وهذه المرتبة هي المترجم لها.
والدليل على صحتها من الشريعة كثير؛ كقوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
[ثم قال]2: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم، لا من أجل غيره.
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
والذين يخشون ربهم هم العلماء، لقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية [المائدة: 83].
ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة؛ بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى -عليه السلام- حق، ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الخليقية".
2 ليست موجودة في الأصل.
3 مبادرة السحرة إلى الانقياد والإيمان تستند مباشرة إلى تحققهم في العلم بصدق موسى -عليه السلام- وصحة رسالته؛ فهي أثر من آثار هذا العلم المترتب على مشاهدة المعجزة وتمييزهم بينها وبين ما هو سحر، وهذا التمييز الذي أومض في قلوبهم بسرعة هو الناشئ عن رسوخهم في علم السحر. "خ".(34/138)
ص -92-…وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
فحصر تعقلها في العالمين، وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال.
وقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
ثم وصف أهل العلم بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرعد: 20].
إلى آخر الأوصاف، وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون.
وقال في أهل الإيمان, والإيمان من فوائد العلم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18].
فشهادة الله تعالى وفق علمه1 ظاهرة التوافق؛ إذ التخالف مُحال، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة؛ لأنهم محفوظون من المعاصي، وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حُفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم2 ذلك وأقلقهم، حتى يسألوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أجرى الشهادة على ظاهرها، والمفسرون يقولون: إنها بمعنى إقامة الأدلة ونصب الدلائل في الكون على ذلك؛ فشهد بمعنى أقام ما يدل عليه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. "د" وفي "ط": "على وفق علمه".
2 في الأصل: "أحزنتهم".(34/139)
ص -93-…النبي -صلى الله عليه وسلم- كنزول1 آية البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ...} الآية [البقرة: 284].
وقوله2: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...} الآية [الأنعام: 82].
وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 115-116/ رقم 125" -واللفظ له- وأحمد في "المسند" "2/ 412"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 143" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:(34/140)
لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى؛ فأنزل الله, عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قال: "نعم". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال: "نعم".(34/141)
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، 8/ 294/ رقم 4629" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال أصحابه: وأيُّنا لم يظلم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}".
3 لأنه لما كان علمهم علما ملجئا لهم إلى الجري على مقتضاه طوعا أو كرها، وعرفوا أنهم قد يحصل منهم ما ليس على مقتضاه؛ لأنه فوق الطاقة البشرية، فلا يكون لهم الأمن من غضب الله كما في الآية الثانية، ولا بد من حسابهم عليه كما في الآية الأولى؛ حصل لهم القلق إلى أن فهموا ما يزيله عنهم. "د".(34/142)
ص -94-…والأدلة أكثر من إحصائها هنا، وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به.
فإن قيل: هذا غير ظاهر من وجهين:
أحدهما: أن الرسوخ في العلم؛ إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة، أو لا.
فإن لم يكن كذلك؛ فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم، ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به، ولا مُلجئ إليه.
وإن كان محفوظا به من المخالفة؛ لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي، ما عدا الأنبياء -عليهم السلام- ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43].
وقال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].(34/143)
ص -95-…وسائر ما في هذا المعنى؛ فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم، فلو كان العلم صادا عن ذلك؛ لم يقع.
والثاني: ما جاء من ذم العلماء السوء، وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله, عليه السلام: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"1.
وفي القرآن: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [البقرة: 174].
وحديث الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة2، والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غيرُ معصومين بعلمهم، ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب؛ فكيف يقال: إن العلم مانع من العصيان؟!
فالجواب عن الأول: أن الرسوخ في العلم يأبى أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا3، فإن تخلف؛ فعلى أحد ثلاثة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص79"، والصواب أنه من قول أبي الدرداء؛ كما بيناه هناك.
2 مضى تخريجه "ص78"، وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1905".(34/144)
3 من طبيعة العالم الراسخ أن يتدفق غيرة على الحقائق والمصالح حتى يبلغ به التفاني في حب إقامتها أن يكافح الرئيس المستبد حيث حاول العبث بها، ولا يعبأ بما يسومه به من اضطهاد وأذى، ومما يصلح مثلا لهذا أن الملك إسماعيل صاحب دمشق خان السلطان نجم الدين الأيوبي واتفق مع الإفرنج على أن يسلم إليهم في مقابلة نجدتهم له صيداء وغيرها من الحصون؛ فقام في وجهه الإمام عز الدين بن عبد السلام بالإنكار البالغ، واحتمل في سبيل مصارعة الباطل الاعتقال وما كان يشهره عليه ذلك الملك من ضروب التهديد والإرهاب إلى أن تخلص إلى الديار المصرية "خ".(34/145)
ص -96-… أوجه1:
الأول: مجرد العناد، فقد يُخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى، وعلى ذلك دل قوله تعالى: [{وَجَحَدُوا بِهَا} الآية [النمل: 14]، وقوله تعالى]2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]}3 [البقرة: 109] وأشباه ذلك.
والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى، من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}4 الآية [النساء: 17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 علل شيخ الإسلام ابن تيمية مرد هذا الأمر إلى الإرادة الجازمة والعلم التام، وأنه كلما قل العلم التام، وضعفت الإرادة الجازمة؛ ضعف العمل، إذ هما المؤثر الفعال، وفصل ذلك بتفصيل حسن واف في كتابه "الحسنة والسيئة" وغيره.
2 ليست في الأصل.
3 زيادة من الأصل.
4 ذهب جماعة من المفسرين إلى تأويل آخر؛ فحملوا الجهالة في الآية على معنى السفه وارتكاب ما لا يطابق الحكمة، والأقرب في النظر إبقاؤها على حقيقتها، والمراد عدم العلم بكنه الخاتمة السيئة والعقوبة التي تلحق مرتكب المعصية؛ إذ لو تبصر الهاجم على خرق سياج العفة والعدالة بارتكاب المآثم، وتمثل أمام عينيه ما يحيط به من الخزي والشقاء؛ لملك داعية الهوى، وأحجم عن مواطن اللذائذ الفانية غير مأسوف عليها. "خ".(34/146)
ص -97-…وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 102].
ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة؛ كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية؛ فقد لا تبصر العين، ولا تسمع الأذن، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما؛ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يُصاب1، ومع ذلك لا يُقال: إنه غير مجبول على السمع والإبصار؛ فما نحن فيه كذلك.
والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عده من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
وفي الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس", إلى أن قال: "اتخذ الناس رؤساء جُهالا، [فسئلوا، فأفتوا بغير علم]2؛ فضلُّوا وأضلُّوا3".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيصاب بسقطة في وهدة؛ لأنه لم يبصرها، أو تؤذيه دابة أو غيرها لم يسمع حركتها أو صوتها من بُعد فيتقيها، كل هذا من غفلة طرأت على غير مقتضى طبيعته؛ فكذلك فلتات العالم "د".
2 ليست في الأصل.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان" "4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما. وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على "الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم" "ص55-58"؛ فانظره هناك إن أردت الاستزادة، والله الهادي.(34/147)
ص -98-…وقوله: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين1 فرقة، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم2" الحديث، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يقدح في هذا الحديث أن الفرق الأصلية لم يبلغ عددها هذا الحد، والفرق الفرعية تتجاوزه؛ إذ يكفي في صحته أن تبلغ الفرق الإسلامية هذا المقدار ولو في بعض الأزمنة، وقد بلغته بلا ريب، وساقها العلامة عضد الدين في خاتمة كتاب "المواقف" بتفصيل. "خ".
قلت: أحصى هذه الفِرَق البغدادي في كتابه "الفرق" "ص25"، وخلط بين الفرق الخارجة عن الإسلام والداخلة فيه مع ابتداع، وذكر ما يزيد على ثمانين فرقة، وقال: "فهذه ثنتان وسبعون"، مع ملاحظة أن فرقا كثيرة نشأت بعد البغدادي لو عايشها لأدخلها في حسابه.
2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "18/ 90"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 1072"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2483"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 430"، والبزّار في "المسند" "رقم 172- زوائده"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 307-308"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 179-180"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 207"، والهروي في "ذم الكلام" "ص83"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1673"، وابن حزم في "إبطال القياس" من طرق عن نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا.
والحديث ضعيف، وأشار إلى ذلك المصنف بقوله "5/ 147": "ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه". ثم قال: "وإن كان غيره قد هوّن الأمر فيه".(34/148)
قلت: الحديث ضعيف، آفته نعيم بن حماد، وقد تكلم الحفاظ فيه بسببه، قال ابن عدي: "وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد، رواه عن عيسى بن يونس، فتكلم الناس بجراه، ثم رواه رجل من أهل خراسان، يقال له: الحكم بن المبارك، يُكنَّى أبا صالح، يقال له: "الخواشتي"، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث؛ منهم: عبد الوهاب بن الضحاك، والنضير بن طاهر، وثالثهم سويد الأنباري"، وقال البيهقي عقبه: "تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وبالله =(34/149)
ص -99-…الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ1 لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التوفيق".
وقال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس؛ فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يرد به الأصل".
قلت: مراد أحمد ويحيى هذا الحديث بلفظه المذكور، وفيه ذكر وذمٌّ للقياس، وإلا؛ فقد أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 3992"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 63"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 149" بسند جيد من حديث عوف بن مالك مرفوعا: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وإحدى وسبعين في النار، والذي نفسي بيده؛ لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وثنتين وسبعين في النار". قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: "هم الجماعة".
وأخرجه من حديثه أيضا الحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129" من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد الله المزني، لا تقوم به الحجة.
ولحديث عوف باللفظ السابق -وليس بلفظ المصنف- شواهد عديدة من حديث أبي هريرة ومعاوية وأنس وعبد الله بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ؛ كما بيَّن ذلك بتطويل وتحقيق متين شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204".(34/150)
وقد ضعّف حديث عوف -بلفظ المصنف- الزركشي فقال في "المعتبر" "ص227": "هذا حديث لا يصح، مداره على نُعيم بن حماد، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" "13/ 311": بهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل الحديث، وكان يحيى بن معين لا ينسبه إلى الكذب، بل إلى الوهم، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا وسألته عن صحته؛ فأنكره. قلت له: من أين يؤتى؟ قال: شبه له. وقال محمد بن علي بن حمزة المروزي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، قال: ليس له أصل. قلت: فنُعيم بن حماد؟ قال: نُعيم ثقة. قلت: كيف يحدّث ثقة بباطل؟ قال: شُبِّه له".
1 في "م": "حظ".(34/151)
ص -100-…فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة؛ فهو الداخل تحت حفظ العلم، حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به؛ حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها" أو قال: آخرها، "حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان؛ فهما مَقْمُوعان ذليلان، إن تكلَّما أو نطقا؛ قُمعا وقُهرا واضطُهدا"1 الحديث.
وفي الحديث: "سيأتي على أمتي زمان يكثر القُرَّاء، ويَقِلُّ الفُقهاء، ويُقبض العلم، ويكثر الهَرْج, إلى أن قال: ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يُجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يُجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 234/ رقم 7807"، والهروي في "ذم الكلام" "ص157"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1026، 1028"، وابن السني وأبو نعيم -كما في "كشف الخفاء" "2/ 192/ رقم 2070"- من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهاني.
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 262، 271": "رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن زيد، وهو متروك".
2 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ ق 187" -وكما في "مجمع البحرين" "رقم 273"- من طريق ابن لهيعة، والحاكم في "المستدرك" "4/ 457"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1043" من طريق عمرو بن الحارث، كلاهما عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 187" بعد عزوه للطبراني في "الأوسط": "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف".
قلت: توبع، ودراج صدوق في غير روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها؛ فالحديث إسناده حسن.
وقال الهيثمي: "الحديث: في "الصحيح" بعضه".(34/152)
قلت: في "الصحيح": "قبض العلم، وكثرة الهرج، وقراءة القرآن من أناس لا يجاوز حناجرهم"، نسأل الله العافية والسلامة، ولو اقتصر المصنف على ما في "الصحيح"؛ لكان أحرى وأولى، والله الموفق، وما في "الصحيح" سيأتي "5/ 173".(34/153)
ص -101-…وعن علي: "يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإن العالم من عَلِم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حلقا يُباهي بعضهم بعضا؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالُهم تلك إلى الله, عز وجل"1.
وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم رُعاة، ولا تكونوا له رواة؛ فإنه قد يَرْعَوي ولا يَروي، وقد يروي ولا يَرْعَوي"2.
وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا"3.
وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله؛ فذلك راوية حديث، سمع شيئا فقاله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 106"، والخطيب في "الجامع" "رقم 31"، وفي "الاقتضاء" "رقم 9" عن يحيى بن جعدة عن علي به، وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف، ويحيى بن جعدة غير معروف بالرواية عن علي -رضي الله عنه- فالإسناد ضعيف.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1238".
3 أخرجه من طرق عن أبي الدرداء الدارمي في "السنن" "1/ 88"، والخطيب في "الاقتضاء" "16، 17"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1239" بإسناد رجاله ثقات.
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1241".(34/154)
ص -102-…وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شُغلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هَربوا"1.
وعن الحسن؛ قال: "الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل"2.
وعنه في قول الله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91]؛ قال: "عُلِّمتم فَعَلِمتم ولم تعملوا؛ فوالله ما ذلكم بعلم"3.
وقال الثوري: "العلم يَهتف بالعمل، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل"4. وهذا تفسير كون العلم هو الذي يُلجئ إلى العمل.
وقال الشَّعبيُّ: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"5، ومثله عن وكيع بن الجراح6.
وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1249".
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1270".
3 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1273".
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1274"، وأسند نحوه عن علي -رضي الله عنه- وابن المنكدر الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 40، 41".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1284".
6 أخرجه عن وكيع, ابن عساكر في "جزء حفظ القرآن" "11"، وأخرجه الخطيب في "الجامع" "الأرقام 1787، 1788، 1789"، و"الاقتضاء" "رقم 149"، والبيهقي في "الشعب" "رقم 1659، 1741"، مرة بذكر العمل، ومرة بذكر الصوم -عن شيخ لوكيع به- وأخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 539" عن شيخ لهم؛ قال: "كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم"، وجاء مصرحا في بعض الروايات بأنه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمَّع.
وانظر: كلام محقق "الزهد" الشيخ عبد الرحمن الفريوائي حفظه الله ورعاه.(34/155)
ص -103-…الله"1.
والآثار في هذا النحو كثيرة.
وبما ذُكر يتبيَّن الجواب عن الإشكال الثاني؛ فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك؛ فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة -والفقه فيما رَوَوْا أمرٌ آخر- أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله.
على أن المثابرة على طلب العلم، والتفقه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجرُّ إلى العمل به ويُلجئ إليه، كما تقدم بيانه، وهو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2.
وعن مَعْمَر؛ أنه قال: "كان يقال: من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يُصيِّره إلى الله"3.
وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "الزهد" "185"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 182"، والطبراني في "الكبير" "9/ 105/ رقم 8534"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص21"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 131"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 486"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1400، 1401"، بإسناد كلهم ثقات؛ إلا أن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، كما قال أئمة هذا الفن، وبالانقطاع أعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 235"؛ فإسناده ضعيف بسببه.
وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 416".
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1375" بسند فيه عبد الله بن غالب مستور، والربيع بن صبيح صدوق، سيئ الحفظ؛ كما في ترجمتيهما في "التقريب".
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 256"، ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "519"، والخطيب في "الجامع" "774، 775"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1376، 1377، 1378، 1379" بإسناد صحيح.(34/156)
ص -104-…النية بعد"1.
وعن الثوري؛ قال: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2، وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنتُ أغبطُ الرجل يُجتمع حوله، ويكتب عنه، فلما ابتليت به؛ وَدِدْتُ أني نجوت منه كفافا، لا علي ولا لي"3.
وعن أبي الوليد الطيالسي؛ قال: سمعت ابن عُيَيْنَةَ منذ أكثر من ستين سنة يقول: "طلبنا هذا الحديث لغير الله؛ فأعقبنا الله ما ترون"4.
وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده"5؛ فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم.
فصل:
ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة، وما هي.
والقول في ذلك على الاختصار أنها أمرٌ باطن، وهو الذي عُبَّر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية، وعنه عبر في الحديث في أول ما يُرفع من العلم الخشوع6، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "الجامع" "رقم 773"، والبيهقي في "المدخل" "521"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1380"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 61" بإسناد صحيح.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1381".
3 أخرج نحوه عن الثوري بإسناد حسن ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 982".
4 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "38"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1382".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1383".
6 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب العلم"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 211"، وأحمد في "المسند" "6/ 26-27"، والطبراني في "الكبير" "18/ رقم 75"، و"الأوائل" "رقم =(34/157)
ص -105-…الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب"1، وقال أيضا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة: وهو التجافي عن دار الغُرور، والإنابة إلى دار الخلود"2, وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة.
وأما تفصيل القول فيه؛ فليس هذا موضع ذكره، وفي كتاب الاجتهاد منه طرف3؛ فراجعه إن شئت، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 81"، وابن أبي عاصم في "الأوائل" "رقم 109"، والبزار في "المسند" "رقم 232- زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 433/ رقم 4572- الإحسان" في آخر حديث طويل لشداد بن أوس الأنصاري، وإسناده صحيح.
وله شاهد عن أبي الدرداء عند الترمذي في "الجامع" "رقم 2653"، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن؛ كما في "الترغيب" "رقم 543- صحيحه"، و"مجمع الزوائد" "2/ 36"، وقال المنذري: "الموقوف أشبه"، وعلق على مقولته شيخنا الألباني: "قلت: بل المرفوع أشبه؛ لأن له شواهد, ولا سيما وهو لا يقال بالرأي". وفي "ط": "العلم ليس...".
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 469" عن حذيفة، وصححه ووافقه الذهبي.
1 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "558"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 319"، وابن منده في "الفوائد" "رقم 68"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1398"، عن "جامع ابن وهب"، وأورده البغوي في "شرح السنة" "1/ 284"، وابن الجوزي في "صفوة الصفوة" "2/ 179"، والفلاني في "إيقاظ الهمم" "24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "32"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 184".
2 أورده ابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 267"، و"الجامع" "70" عن "جامع ابن وهب" وعنه: الفلاني في "إيقاظ الهمم" "ص24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "ص32"، وكلمة "والعلم" ساقطة من "ط".
3 انظر: "5/ 24، 260 وما بعد".(34/158)
ص -107-…المقدمة التاسعة:
من العلم ما هو من صُلْب1 ومنه ما هو2 مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صُلْبه ولا مُلَحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.
- القسم الأول:
هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مَدَارُ الطَّلَب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الصلب؛ بضم، فسكون: عظم الظهر من لدن الكاهل إلى العجب، والصلب أيضا الشديد القوي.
والملح؛ بفتح وسكون اللام؛ أي: ملحة التي تستملح, أي: تعد مليحة، أي: حسينة؛ إذ الملح بضم ففتح: هي الأخبار المليحة، وهي الملح بفتح فسكون" "ماء".
2 في "م" و"خ" زيادة: "من".
3 حمل المصنف في المقدمة الأولى الحفظ في الآية على الأصول الكلية، ونفى أن يكون المراد المسائل الجزئية وهو كما يظهر مخالف لعبارته في هذه المقدمة؛ إذ جعل الحفظ شاملا للأصول والفروع، والتحقيق أن الفروع محفوظة بنصب الأدلة الكافية لمن توجه إلى استنباطها ببصيرة صافية وفهم راسخ، فإذا ضل نبؤها على قوم؛ اهتدى إليه آخرون. "خ".(34/159)
ص -108-…وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.
هذا وإن كانت وضعية لا عقلية؛ فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء التام1 الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة، عامة، ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقليات2.
وأيضا؛ فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي؛ فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما.
فإذًا لهذا القسم3 خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها:
العموم والاطراد؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا عمل يُفرض, ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا، وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم؛ كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "العام"، وما أثبتناه من المخطوط الأصل.
2 في "م": "العقلية"، وأثبت "م" هنا في الهامش ما نصه: "من لوازم ذلك وصف الشريعة بثلاثة أوصاف: عمومها، وثباتها، وكونها حاكمة".
3 أصوله وفروعه. "د".(34/160)
ص -109-…والمساقاة1، والصاع في المصراة2، وأشباه ذلك؛ فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها3، وهي أمور عامة4؛ فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك.
والثانية:
الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال5، بل ما أثبت سببا؛ فهو سبب أبدا لا يرتفع، وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعموم النهي عن الغرر، وعدم مسئولية الشخص عن فعل غيره، وفساد المعاملات المشتملة على الجهالة في الثمن أو الأجرة مثلا، يشمل بظاهره هذه المسائل، ولكن لما كان لها في الواقع علل معقولة تجعل حكمها مغايرا لحكم العمومات المذكورة، وقد أخذت حكمها المعقول على خلاف حكم ما كان يشملها في الظاهر؛ أطلقوا عليها أنها مستثناة، وقالوا: إنها خاصة، وهي في الحقيقة قواعد كلية أيضا انبنت على أصول من مقاصد الشريعة الثلاثة. "د".
2 انظر وجه نظمه في هذا السلك مع أنهم قالوا: إنه حكم تعبدي محض "د".
و"المصراة": الناقة -مثلا- يربط صاحبها ضرعها ليجتمع لبنها، فيظن من يريد شراءها أن حلبتها كثير، فإذا اشتراها فحلبها، ثم أراد ردها للتدليس؛ رد معها صاعا من تمر. "م".(34/161)
3 تندرج صور الوقائع تحت أصل واحد، وتتفق في الحكم إذا كانت متماثلة من كل وجه له مناسبة بالحكم، فإذا اختلف بعض المسائل في الحكم؛ عرفنا أنها لم تكن متماثلة تماثلا تاما، وأن اختلافها في الحكم كان لوجه يفرق بينها في نفس الأمر؛ فوصف بعض الفقهاء العرايا ونحوها بأنها مخالفة للقياس أو خارجة عن الأصل لا يصح إلا إذا أرادوا القياس أو الأصل الذي يتراءى لهم في بادئ النظر "خ". قلت: حقق ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "20/ 555" وتلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.
4 بعدها في "ط" وحدها كلمة لم نتبينها.
5 لا يرد على هذا اختلاف الأحكام عند اختلاف العرف والعادة؛ فإنه ليس باختلاف في أصل الخطاب، وتحقيقه أن العوائد إذا اختلفت؛ رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يختص بها وينطبق حكمه عليها "خ".(34/162)
ص -110-…كان شرطا؛ فهو أبدا شرط، وما كان واجبا؛ فهو واجب أبدا، أو مندوبا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام؛ فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية؛ لكانت أحكامها كذلك.
والثالثة:
كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل, أو يصوب نحوه, لا زائد على ذلك, ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم.
فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم، وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب، والحمد لله.
- والقسم الثاني:
وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه1: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صح أن يعد في هذا القسم.
فأما تخلف الخاصية الأولى -وهو الاطراد والعموم- فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص2 فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم، ويقربه من الأمور الاتفاقية الواقعة عن غير قصد؛ فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية -وهو الثبوت- فيأباه صُلب العلم وقواعده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "القواعد" للمقري "2/ 406".
2 في "د": "النقض" بالمعجمة.(34/163)
ص -111-…فإنه إذا حكم في قضية، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال؛ كان حكمه خطأ وباطلا، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص؛ فعدم الناظر الوثوق بحكمه، وذلك معنى خروجه عن صلب العلم.
وأما تخلف الخاصية الثالثة -وهو كونه حاكما ومبنيا عليه- فقادح أيضا؛ لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة، غير مجرد راحات النفوس, فاستوى مع سائر ما يتفرج به، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح، كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم.
ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها:
أحدها:
الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات1 كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه2 فيأتي بعض الناس فيطرق3 إليه حكما يزعم4 أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "2/ 406-408، القاعدة التاسعة والخمسون بعد المائة".
2 أي: لا تحوم جهته من الطور، وهو الحوم حول الشيء. "د".
وكتب "م" في الهامش" "يطور: يتجه".
3 أي: يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليه.
4 في "ط": "يزعم فيها أنها".
5 فيكون من باب ما انتفى فيه خاصتان، ومع ذلك؛ فهو مبني على ظني، وربما يستفاد منه أن قوله سابقا: "إلا أنه تخلف عنه خاصة" ليس خاصا بما كان مبنيا على قطعي، وأنه لو كان ظنيا وانتفى فيه خاصة أو أكثر؛ يصح أن يعد من هذا القسم؛ فتأمل. "د".(34/164)
ص -112-…وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ، وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم، ولا دليل لنا عليه1.
والثاني:
تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد؛ فالتزمها المتأخرون بالقصد، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا له، بحيث يتعنى في استخراجها، ويبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل، وإن صحبها العمل؛ لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث، كما في حديث:
"الراحمون يرحمهم الرحمن"2؛ فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالنهي عن اتخاذ التماثيل، يقولون: إن العلة في التحريم خشية أن تجر إلى احترامها، ثم إلى عبادتها؛ لقرب الألف بعبادة الأوثان, فلما أيس الآن من ذلك؛ صار لا مانع مع اتخاذها، فهذا استنباط للعلة بطريق الظن واتباع الهوى. "د".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من هذا الصنف ما يصنعه بعض أصحاب الأهواء حين يريدون التملص من بعض ما نهت عنه الشريعة؛ إذ يقصدون إلى أمر كان واقعا في زمن التشريع، ثم ارتفع، يزعمون من غير بينة أنه علة التحريم؛ ليتسنى لهم القول بالإباحة بناء على قاعدة أن الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما".(34/165)
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، 4/ 323-324/ رقم 1924"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في الرحمة، 4/ 285/ رقم 4941"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، والحميدي في "المسند" "رقم 591"، والبخاري في "التاريخ" "9/ 64"، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" "69"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "775"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 159"، والبيهيق في "الأسماء" =(34/166)
ص -113-…التلميذ من شيخه، فإن سمعه من بعد ما أخذ عنه غيره؛ لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه، [وكذا سائرها؛ غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك وتحسين الظن خاصة]1، وليس2 بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها؛ حتى يُقال: إنه مقصود؛ فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه.
والثالث:
التأنق3 في استخراج الحديث من طُرق كثيرة، لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة، ومن جهات شتى، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص423"، والخطيب في "التاريخ" "3/ 260"، وابن أبي الدنيا في "العيال" "1/ 426" من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وحسنه ابن حجر في كتابه "الإمتاع" "ص63"، وذكر تصحيح الترمذي وعلق عليه بقوله: "وكأنه صححه باعتبار المتابعات والشواهد، وإلا؛ فأبو قابوس لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار, ولا يعرف اسمه، ولم يوثقه أحد من المتقدمين".
قلت: وأقوى هذه الشواهد ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}، 13/ 358/ رقم 7376"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، 4/ 1809/ رقم 2319" عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: "من لا يرحم الناس؛ لا يرحمه الله عز وجل".
وما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، 10/ 426/ رقم 5997"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2318" عن أبي هريرة مرفوعا: "من لا يَرْحم؛ لا يُرحَم". وانظر: "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" لابن طولون.
1 زيادة من الأصل المخطوط و"خ" و"م"، وسقطت من "د".
2 فيكون انتفى فيه الخاصتان المنتفيتان في المثال قبله. "د".(34/167)
3 وهو مما انتفى فيه فائدة بناء عمل عليه؛ لأنه ما دام ذلك راجعا إلى كثرة الرواة في بعض طبقاتهم في الحديث لا إلى جميع الطبقات حتى يفيد قوة في الحديث، لا يكون فيه فائدة، ولا ينبني عليه ترجيح للحديث على غيره. "د".(34/168)
ص -114-…كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة، أو التابعين، أو غيرهم؛ فالاشتغال بهذا من الملح، لا من صلب العلم.
خرج أبو عمر ابن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني؛ قال: خرجت حديثا واحدا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق, أو من نحو مائتي طريق -شك الراوي- قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك؛ فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! قد خرجت حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}1 [التكاثر: 1]، هذا ما قال. وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في المقصود منه؛ فصار الزائد على ذلك فضلا.
والرابع: العلوم المأخوذة من الرؤيا، مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة2؛ فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا، فإنها وإن كانت صحيحة؛ فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1988"، وذكرها السلفي في "الوجيز" "93"، وابن رشيد في "ملء العيبة" "3/ 215"، والذهبي في "السير" "16/ 181".
2 الأدلة المعتد بها ما يمكن التوصل إلى تمييز صحيحها من فاسدها، وهي اللفظ المروي أو الاستنباط، والرؤيا لا يمكن تمييز صالحها من باطلها كالإلهامات، ومن ثَم أفتى الفقهاء بأن من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- في المنام وأخبره بأن زوجه طالق عليه، أو أن هذا اليوم من رمضان؛ ألغى العمل على مقتضى الرؤيا، وعول على ما يعرفه في اليقظة "خ".
قلت: وانظر في هذا: "مجموع ابن تيمية" "24/ 376"، و"الاعتصام" "1/ 261-263"، و"مدارج السالكين" "1/ 51"، و"التنكيل" "2/ 242"، وما سيأتي عند المصنف "4/ 470 وما بعدها".(34/169)
ص -115-…الشريعة في مثلها1، كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا، فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح، ولكنه لم نحتج2 به حتى عرضناه على العلم في اليقظة؛ فصار الاستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام، وإنما ذُكرت الرؤيا تأنيسا، وعلى هذا يُحمل ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرؤيا.
والخامس: المسائل التي يُختلف فيها؛ فلا ينبني على الاختلاف فيها فرع عملي، إنما تعد من الملح، كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه3، ويقع كثير منها في سائر العلوم، وفي العربية منها كثير؛ كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر4، ومسألة اللَّهُم5، ومسألة أشياء6، ومسألة الأصل في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مثل هذه الاستدلالات؛ فلم يجعلها الشرع من الأدلة على الأحكام، وإنما جعلها بشارة للمؤمنين مثلا "د".
2 فهذا من باب الظني غير المطرد، ولا ينبني عليه عمل. "د".
3 انظرها: "ص38".
4 ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرعٌ عليه، وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 235"، "شرح الرضى على الكافية" "2/ 178".
5 ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشددة في "اللهمَّ" ليست عوضا من "يا" التي للتنبيه في النداء، وذهب البصريون إلى أنها عوض من "ياء" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم؛ لأنه نداء.
انظر تفصيل المسألة في "الإنصاف" لابن الأنباري "1/ 341"، "لسان العرب" "أ ل ه".
6 ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه "أفْعاء"، والأصل "أفعلاء"، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه "أفعال"، وذهب البصريون إلى أن وزنه "لفعاء"، والأصل "فعلاء".
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف" لابن الأنباري "2/ 812"، "لسان العرب" "ش ي أ".(34/170)
ص -116-…لفظ الاسم1، وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة، ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للاختلاف فيها؛ فهي خارجة عن صلب العلم.
والسادس: الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية، وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم2، وفي بيان مقاماتهم؛ فينتزعون معاني الأشعار، ويضعونها للتخلق بمقتضاها، وهو في الحقيقة من الملح3؛ لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع، وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب, ولذلك اتخذه الوعاظ دَيْدَنا، وأدخلوه في أثناء وعظهم، وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه؛ فالاستشهاد بالمعنى، فإن كان شرعيا؛ فمقبول، وإلا فلا.
والسابع: الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح، بناء على مجرد تحسين الظن، لا زائد عليه؛ فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في كتاب الاجتهاد4، فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يُحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة، وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو وهو العلو.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 6"، "لسان العرب" "س م و".
2 ذكروا لمأخذ اسم الصوفية وجوها أقربها أنه نسبة إلى الصوف الذي هو لباس العباد أو إلى آل الصوفة على وجه التشبيه بهم، وهم حي من مضر كانوا يخدمون الكعبة، ويتنسكون كما في "أساس البلاغة" و"القاموس". "خ".
قلت: وهذه المآخذ ليست بصحيحة، والأسقم منها نسبة الصوفية إلى "أهل الصفة"، وقد بينت خطأ ذلك من وجوه أربعة في مقدمة تحقيقي لكتاب السخاوي "رجحان الكفة"؛ فانظره إن أردت الاستزادة، والله الهادي.
3 لأنها ليست قطعية، ولا مبنية على قطعي غالبا، ولا هي مطردة عامة "د".
4 انظر: "5/ 258 وما بعدها".(34/171)
ص -117-…الظن به؛ فهو -عندما يسلم من القوادح1- من هذا القسم؛ لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل، ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله، ولجواز تغيره، فإنما يؤخذ -إن سلم- هذا المأخذ2.
والثامن: كلام أرباب الأحوال3 من أهل الولاية4؛ فإن الاستدلال به من قبيل ما نحن فيه، وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم، حتى أعرضوا عن غيره جملة، فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الاطراح لكل ما سوى الله، وأعربوا عن مقتضاه، وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور، وهم إنما يكلمون به الجمهور، وهو وإن كان حقا؛ ففي رتبته لا مطلقا؛ لأنه يصير -في حق الأكثر- من الحرج أو تكليف ما لا يطاق، بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه، وفي حال دون حال؛ فصار أخذه بإطلاق موقعا في مفسدة، بخلاف أخذه على الجملة؛ فليس على هذا من صلب العلم، وإنما هو من ملحه ومستحسناته.
والتاسع: حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده؛ حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي، كما يحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "الفوادح", بالفاء.
2 انظر في هذا والذي يليه "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 430 و11/ 15".
3 وهو مما انتفى فيه الاطراد، وأخذ كلامهم على الاطراد والإطلاق موقع في مفسدة الحرج أو تكليف ما لا يطاق؛ فالبحث في كلامهم وشرحه من الملح "د".
4 الولي في العرف الشرعي وكلام السلف من صفت بصيرته وامتلأ قلبه وثوقا بالله ثم استقام على السنة الصحيحة والآداب الرفيعة، وبهذا المعنى يفسر الولي في مثل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، والحديث القدسي: "من آذى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب". "خ".(34/172)
ص -118-…عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي, وكان حاضرا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟
قال الفراء: لا شيء عليه.
قال: وكيف؟
قال: لأن التصغير عندنا1 لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك2.
فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف؛ إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر.
فلو جمعهما أصل واحد؛ لم يكن من هذا الباب، كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد.
روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة "عندنا" ليست في "م" و"خ".
2 المحاورة بين الفراء ومحمد بن الحسن موجودة في "تاريخ بغداد" "14/ 151-152"، لكن رواها قبل ذلك "14/ 151" على أن بشرا المريسي هو الذي سأل الفراء.
وذكرها كذلك ابن خلكان في "وفيات الأعيان" "6/ 179"، وكان ذكرها قبل ذلك "3/ 296" في ترجمة الكسائي أنها جرت بينه وبين محمد بن الحسن، ثم قال: "هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع، وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء".(34/173)
ص -119-…له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك.
فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.
فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟
فقال: نحو أم فقه؟
قال: بل فقه.
فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟
قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟
قال: إذا دخلت طلقت.
قال: أخطأت يا أبا يوسف.
فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟
قال: إذا قال "أن"؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: "إن"؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق.
قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471".
والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك.
وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق".(34/174)
ص -120-…فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين.
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر؛ فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها1 ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ: أن أبا العباس بن البناء سئل، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في {هَذَانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟
فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول؛ لم يؤثر العامل في المعمول.
فقال2 السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق, أو كلاما هذا معناه3!
فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العمل.
والقسم الثالث:
وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر4 على أصله أو على غيره بالإبطال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "استسحانها" بتقديم السين الثانية.
2 في "م" و"خ" زيادة: "له".
3 أورد المصنف في "الإفادات" "ص110" هذه القصة وسمى شيخه، وهو المقري.
4 أي: يرجع. "ماء".(34/175)
ص -121-…مما صح كونه من العلوم المعتبرة، والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة؛ فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضا، ولا هو من ملحه؛ لأن الملح هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس؛ إذ ليس يصحبها منفر، ولا هي مما تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة، بخلاف هذا القسم؛ فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه؛ فلشبه عارضة، واشتباه بينه وبين ما قبله، فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء؛ كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص... وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور1 منه صاحبه إلا بالافتضاح2 عند الامتحان، حسبما بينه الغزالي3، وابن العربي4، ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما.
ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما يُنال من الإمام المعصوم، تقليدا لذلك الإمام، واستنادهم -في جملة من دعاويهم- إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرجع، انظر: "مختار الصحاح" "ح و ر"، وبالأصل: "يجوز"، وفي "ط": "يحلا".
2 في "ط": "بافتضاح".
3 انظر: "إحياء علوم الدين" "كتاب العلم، بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة" "1/ 41".
4 انظر: "قانون التأويل" "ص196-197".(34/176)
ص -122-…علم الحروف، وعلم النجوم1، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع؛ فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية2؛ حتى آل3 ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلا عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة4 والمتحكمون5، وكل ذلك ليس له أصل ينبني عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكتب السحر والشعبذة أكبر دليل على ذلك؛ مثل: "شمس المعارف الكبرى" للبوني، و"الرحمة في الطب والحكمة" المنسوب كذبا للسيوطي، و"الجفر" المنسوب كذبا تارة لعلي -رضي الله عنه- وتارة لجعفر الصادق، وغيرها كثير؛ كما بينته في المجلد الأول من "المجموعة الأولى" من كتابي "كتب حذر العلماء منها"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
وقد عالج ابن القيم في كتابه: "مفتاح دار السعادة" هذا الموضوع معالجة وافية.
وأورد في آخره "2/ 148- إلى آخر الكتاب" رسالة في الرد على المنجمين لأبي القاسم عيسى بن علي بن الجراح البغدادي "ت391هـ" كتبها لما بصره الله رشده وأراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال، كتبها نصيحة لبعض إخوانه، وهي نفيسة جدا، ولا سيما مع تعقبات ابن القيم عليها، وانظر تفصيلا عن علم الحروف "مبادئه وأشهر أعلامه" في "علم الحروف وأقطابه" لعبد الحميد حمدان-مكتبة مدبولي، القاهرة، "1410هـ".
2 مبدأ هذا المذهب كما حكى السيد في "شرح المواقف": إن طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أن للقرآن ظاهرا وهو المعلوم في اللغة، وباطنا وهو المراد. "خ".(34/177)
قلت: وكلام ابن تيمية فيهم كثير جدا، انظر منه ما في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 235"، وسيأتي للمصنف كلام بديع حول الظاهر والباطن في "4/ 231 وما بعدها".
3 ساقطة من الأصل المخطوط، وأشار إلى ذلك الناسخ.
4 السفسطة: شعبة من شعب الفلسفة اليونانية نشأت في المائة الخامسة قبل الميلاد، ومن أشهر مؤسسيها "بروتغورس" القائل: كل واحد مخطئ ومصيب في آن واحد؛ لأن الحقيقة تابعة للشعور الوقتي الذي نحس به، وقد تصدى لنقض مغالطاتهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ونشأة هذا المذهب هي التي بعثت أرسطو على وضع علم المنطق "خ".
5 أي: مدعو الحكمة.(34/178)
ص -123-…ولا ثمرة تُجنى منه؛ فلا تعلق به بوجه.
فصل:
وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثاني، ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض؛ كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية مثلا، فيرجع إلى تقريرها مسألةً -كما يقررها النحوي- لا مقدمة مسلمة، ثم يرد مسألته الفقهية إليها، والذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها، فلما لم يفعل ذلك، وأخذ يتكلم فيها, وفي تصحيحها، وضبطها، والاستدلال عليها، كما يفعله النحوي؛ صار الإتيان بذلك فضلا1 غير محتاج إليه، وكذلك إذا افتقر إلى مسألة [عددية؛ فمن حقه أن يأتي بها مسلمة]2 ليفرع عليها في علمه، فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد؛ كان فضلا معدودا من المُلَح إن عُدَّ منها، وهكذا سائر العلوم التي يخدم بعضها بعضا.
ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث، ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على ضد التربية المشروعة، فمثل هذا يوقع في مصائب3، ومن أجلها قال علي, رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يفهمون،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: زيادة غير مغتفر إليها. "م".
2 ساقطة من الأصل.
3 تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في معاهدنا؛ فقتلت أوقاتا نفيسة في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين, وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثوابًا في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجأتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم. "خ".(34/179)
ص -124-…أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"1، وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين، حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب2.
وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يعد من الثالث؛ لأنه أقرب إليه من الأول.
فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مربيا، واحتاج هو إلى عالم يربيه.
ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225/ رقم 127"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 610"، والخطيب في "الجامع" "رقم 1318"، وآدم بن أبي أياس في "العلم"، وأبو نعيم في "المستخرج"؛ كما في "فتح الباري" "1/ 225" بألفاظ مقاربة منها المذكور، وسيأتي "5/ 168" مرفوعا ولا يصح.
2 انظر: "5/ 167".
3 التعصب للمذهب ينشأ عن قصر النظر وعدم التفقه في الأصول العالية، ولهذا نجد المتبحر في علم الكتاب والسنة، المطلع على مذاهب الفقهاء ومداركها؛ يكاد احترامه للمذهب الذي يتبعه لا يزيد على احترامه للمذاهب الأخرى، وذلك لما يبدو له من رجحانها وتفوقها على مذهبه في كثير من المسائل "خ".(34/180)
ص -125-…المقدمة العاشرة:
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1، والدليل على ذلك أمور:
الأول:
أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل؛ لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة؛ لأن الفَرَض أنه حد له حدا، فإذا جاز تعديه؛ صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله.
والثاني:
ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح2، ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع؛ لكان محسنا ومقبحا، هذا خلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة بما لا مزيد عليه في "درء تعارض العقل والنقل"، وكذا في المجلد الأول من "مجموع الفتاوى"، وأيضا فيها "13/ 64 وما بعدها".
وللمصنف كلام رائع في "الاعتصام" "2/ 318-322، 327-334" حيث قسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام، وتكلم عليها بإسهاب.
ولابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 331 وما بعدها و2/ 3 وما بعدها، 47 وما بعدها"، و"الصواعق" "3/ 796 إلى نهاية الجزء الرابع"، و"مختصره" "1/ 129 وما بعدها" كلام مسهب قيم متين في هذا الموضوع.
2 هذه مسألة مشهورة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه، وهي معروفة بمسألة =(34/181)
ص -126-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التحسين والتقبيح"، ولم ينج المصنف من بعض الآثار السلبية لها، أعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع، ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح*.
وأفضل الكلام على هذه المسألة في هذا الموطن، جامعا الكلام فيها، ولا سيما كلام الشاطبي؛ فأقول: هذه المسألة لها جوانب اتفاق وافتراق بين العلماء.
أما محل الاتفاق؛ فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم لطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع؛ فحسن؛ كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح؛ كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم**.
أما محل الافتراق والتنازع؛ فهو في الحسن والقبح المتعلق بالشرع، بمعنى كون الفعل سببا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، أم يعلم بهما معا***؟ وحاصل أقوال الناس في هذه المسألة على سبيل الإجمال ثلاثة أقوال أساسية، هي:
القول الأول:
وهو قول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، وهو قول عموم الأشاعرة، وحاصل هذا القول: "إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة، وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه الصفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع"****، أي: إنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويقولون: إن ذلك لا يعرف إلا بالشرع فقط، مع أنه "من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما =(34/182)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216".
** انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 308، 309"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 44"، و"مدارج السالكين" "1/ 230"، و"إرشاد الفحول" "7".
*** "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 309".
**** انظر: "درء التعارض" "8/ 492"، ونحوه في "مجموع الفتاوى" "11/ 676-677 و8/ 90"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 5"، و"مدارج السالكين" "1/ 91, 230"، و"شفاء الغليل" "435 وما بعدها".(34/183)
ص -127-…
............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشارع فرق بينهما؛ فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر, وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث، لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية؛ حتى يكون إباحة هذا أو تحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهي المفرق بين المتماثلين..."*.
إلا أن هذا هو مذهب الأشاعرة الذي يصرحون به في كتبهم الاعتقادية والأصولية؛ ففي "المواقف" يقول الإيجي: "القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر"**.
وفي "الإرشاد" "228" للجويني: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما تلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع".(34/184)
وهذا ما ردده الشاطبي هنا؛ فهو يقول: "إن العقل لا يحسن ولا يقبح"، ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وعلى وجه أوضح؛ فيقول "3/ 28": "الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح", وعلى الرغم من مرور الشاطبي على المسألة مرورا سريعا على خلاف ما يفعله المتكلمون والأصوليون؛ فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، قارن كلامه السابق بقول الجويني في "الإرشاد" "ص259": "فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح، فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر؛ فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا، والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما".
واقرأ له قوله الآتي "2/ 534-535": "... كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "مفتاح دار السعادة" "2/ 5".
** "المواقف" "323"، وانظر: "إتحاف المريد" "32-33"، و"الاقتصاد في الاعتقاد" "102-110" للغزالي، و"أصول الدين" "262-263" للبغدادي، و"أصول الدين" للرازي "92-94".(34/185)
ص -128-…
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما؛ فهو الواضع لها مصلحة، وإلا؛ فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء العقل فيها بحسن ولا قبح، فإذًا؛ كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس".
وهذا بالضبط هو كلام الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة، ولهذا القول لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها، منها كما يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 42-52": إنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وإنه ليس بقبيح، وإنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وإنه لا يقبح منه، وإنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع، وإنه لا يقبح الشرك ولا عبادة الأصنام، ولا مسبة المعبود سبحانه، وإنه لا يقبح الزواج بالأم والبنت، وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط.
وهذه كلها لوازم فاسدة تدل على فساد الملزوم، بل ويلزم على قولهم هذا أنه يصح أن يأمر الله بالشرك؛ فلا يكون قبيحا، وبالزنى والسرقة والظلم وسائر المنكرات؛ فلا يكون ذلك قبيحا، ويجوز عندهم أن ينهى سبحانه عن التوحيد والعفة والصدق والعدل؛ فتكون هذه كلها قبيحة، كما قال الإيجي في "المواقف" "323": "ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر".
القول الثاني:(34/186)
وهو مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في التفصيلات، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وهذا القول يقع في مقابل القول الأول؛ إذ الحسن والقبح عند هؤلاء عقليان، لا يتوقف في معرفتهما وأخذهما عن الدليل السمعي، ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية للفعل لازمة له، ويجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات، ترى تفصيل ذلك في "مجموع الفتاوى" "8/ 431 و11/ 677"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492"، و"مدارج السالكين" "1/ 238"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 8، 39، 105"، و"شرح الأصول الخمسة" "41، 46"، و"سلم الوصول شرح نهاية السؤل" "1/ 83"، و"إرشاد الفحول" "7".
ورتب المعتزلة على هذا الأصل أمورا عديدة، منها: أن القبح في العقل يترتب عليه الذم والعقاب في الشرع، والحسن في العقل يترتب عليه المدح والثواب في الشرع، وأن الله -سبحانه وتعالى- يجب عليه أن يفعل ما استحسنه العقل ويحرم عليه أن يفعل ما استقبحه العقل، وأن =(34/187)
ص -129-…
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به فقط؛ كالصدق، والعفة، والإحسان، والعدل؛ فإن مصالحها ناشئة منها، وغير ذلك من الأمور المترتبة على هذا الأصل الفاسد واللوازم الملازمة له، كما بينه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 59-60 و105".
القول الثالث:
هو القول الوسط بين هاتين الطائفتين، والطريق القاصد بين الطريقين الجائرين, إذ قال أصحابه, كما في "مفتاح دار السعادة" "2/ 57": "ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه؛ فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم, لبنا خالصا سائغا للشاربين".
وحاصل هذا القول:
أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم.
وهذا هو قول عامة السلف وأكثر المسلمين؛ كما في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 677"، وأهل هذا القول يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم بالثواب والعقاب والأمر والنهي في الفعل إلا جهة الوحي، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة، وأن الله لا يعذبهم قبل بعثة الرسل، ولا يطالبهم إلا بما بلغهم من أمر، ولا يعاقبهم إلا على ارتكاب ما نهاهم عنه.(34/188)
ويوافقون المعتزلة في أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه، وأن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر، والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، ويوافقونهم في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة.
ومن الجدير بالذكر أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد لا يعني أن إدراكه تام مطلق، بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ... وقد بين ابن القيم هذه النقطة؛ فقال في "مفتاح دار =(34/189)
ص -130-…
............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السعادة" "2/ 117": "... بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله أو قبحه؛ فيدركه العقل جملة، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما؛ فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه.
فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي الشرائع بتقريره، وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه، وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك؛ فتأتي الشرائع ببيانه؛ فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل؛ فلا تعلم إلا بالشرع؛ كالجهاد والقتل في الله، ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة، هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك؛ فالحاجة إلى الرسل ضرورية، بل هي فوق كل حاجة؛ فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين, صلوات الله عليهم أجمعين...".
وقد تعرض الشاطبي مرارا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، ترى ذلك في "الاعتصام" "2/ 321-322"، وكما سيأتي "ص537 و2/ 77 و3/ 210".(34/190)
انظر بسط المسألة في: "مفتاح دار السعادة" "2/ 2-118"، و"مدارج السالكين" "1/ 230-257، 91 و3/ 407، 488، 492"، و"شفاء الغليل" "435"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 91 و428-432 و3/ 114-115 و11/ 675-687 و75/ 8 و16/ 235-363"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492-493"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 300، 322"، و"لوامع الأنوار" "1/ 284-291"، و"روح المعاني" "14/ 94 و15/ 37-42"، و"تيسير التحرير" "1/ 283-387", و"حقيقة البدعة وأحكامها" "2/ 127-133"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216-229".(34/191)
ص -131-…والثالث:
أنه لو كان كذلك؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل، وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا؛ في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته، فإن جاز للعقل تعدي حد واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله؛ أي: ليس هذا الحد بصحيح، وإن جاز إبطال واحد؛ جاز إبطال السائر، وهذا لا يقول به أحد لظهور مُحاله.
فإن قيل: هذا مشكل؛ من أوجه:
الأول:
أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية1؛ لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه.
والثاني:
أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، و{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وهو نقص من مقتضى العموم؛ فلتجز الزيادة لأنها بمعناه2، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوزة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم أصحاب داود بن علي الأصفهاني، ولكن الذي صح عن داود أنه يحتج بالقياس الجلي وينكر القياس الخفي فقط، والذي أنكر القياس مطلقا -خفيه، وجليه- طائفة من أصحابه زعيمهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي "خ".
2 في أن كلا منهما تصرف، ومن له النقص له الزيادة، هكذا يفهم هذا الاستدلال مجملا حتى يكون للدليل بعده فائدة جديدة، وهي أنهم* يشتركان في المعنى الخاص المطلوب بناء الإشكال عليه في قوله، ولما لم يعد... إلخ؛ إلا أن تكون الواو في قوله: ولإن زائدة في النسخ، ثم يبقى النظر في أن أصل الدعوى هي تعدي حد الشرع وإبطاله بالعقل، سواء في ذلك النقص =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "أنها".(34/192)
ص -132-…له؛ فكلاهما إبطال للحد على زعمك، فإذا جاز إبطاله مع النقص؛ جاز مع الزيادة، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد؛ فلا يعد الآخر.
والثالث:
أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص؛ صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثلوا ذلك بقوله, عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"1؛ فمنعوا -لأجل معنى التشويش2- القضاء مع جميع المشوشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب؛ فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف، وذلك خلاف ما أصلت, وبالجملة؛ فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه.
فالجواب: أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والزيادة، وعليه؛ فكان المفهوم أنه يجعل نفس النقص مما يقتضيه العموم تعديا أيضا يعترض به، ويقول: إن ما أصلته هنا ينافيه أصل آخر، وهو تخصيص العقل؛ لأنه نقص, ثم يبني على تخصيص العقل، وكونه نقصا مما حده الشرع، الإشكال بالزيادة على الطريق الذي قرره كما راعى الإشكال بالزيادة والنقص في الإشكال الثالث، وقد وجه همته في الجواب عن الإشكال الثاني إلى طرف النقص فأبطله، ثم قال: "فلا يصح قياس المجاوزة عليه"، وهو يقتضي أنه راعى الاعتراض بالنقص مدرجا في قوله: "وهو نقص" يعني، وهذا إشكال، ثم أخذه مقدمة؛ فقال: فلتجز الزيادة". "د".
1 سيأتي تخريجه "ص411"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.(34/193)
2 أنكر هذه الكلمة جماعة من علماء اللغة؛ كأبي منصور، والحريري، وصاحب القاموس، وقالوا: إنها مولدة وصوابها التهويش، ومن المتأخرين من أجاز استعمالها وثوقا بذكر الجوهري لها في "صحاحه"؛ إذ هو مثبت فيقدم على النافي والمتحري للعربية الفصحى لا يكفيه في صحة الكلمة متى أنكرها طائفة من أئمة اللغة ولم يظفر لها بشاهد صحيح أن ترد في كتاب "الصحاح" الذي تركه مؤلفه في المسودة حتى يبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق، وتسربت فيه أغلاط كثيرة. "خ".(34/194)
ص -133-…أما الأول:
فليس القياس1 من تصرفات العقول محضا، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس، فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع، وأمر بها، ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمل بها؛ فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مهتدٍ فيه بالأدلة الشرعية، يجري بمقدار ما أجرته، ويقف حيث وقفته.
وأما الثاني:
فسيأتي في باب العموم والخصوص2 إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص3، وإن سلم أنها تخصص؛ فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب، بأدلة شرعية دلت على ذلك؛ فالعقل مثله، فقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته؛ لأن ذلك محال4, بل المراد جميع ما عدا ذلك؛ فلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل لتأخذ جواب أصل الإشكال الأول؛ لأنه أوسع من إنكار القياس الذي تصدى للجواب عنه صراحة، أي؛ فالعقل تابع للأدلة وخادم لها، وهو ما ندعيه. "د".
2 انظر: "4/ 44".
3 ادعى المصنف فيما يأتي أن الشارع نقل ألفاظ العموم عن مدلولاتها اللغوية إلى معانٍ أخر، وصار له في هذه العمومات عرف يخالف عرف اللغة؛ فيكون العام الذي يراه الأصوليون مخصوصا بمنفصل مستعملا عنده في المراد منه فقط، وبهذا يخرج عن العام الذي دخله التخصيص، وستطلع إن شاء الله تعالى على ما يطعن في هذه الدعوى. "خ".(34/195)
4 ودل الاستقراء للشريعة على أنها لا تصادم العقل بقلب الحقائق، وجعل المحال جائزا أو واجبا، وبذلك يكون العقل آخذا تصرفه في التخصيص من النقل وتحت نظره، أما مجرد قياس العقل على الأدلة الشرعية بدون هذه المقدمة؛ فإنه تسليم للإشكال، ونقض للأصل الذي أصله في المسألة؛ فتأمل. "د".(34/196)
ص -134-…يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه، وإذا كان كذلك؛ لم يصح قياس المجاورة1 عليه.
وأما الثالث:
فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير؛ فليس من تحكيم العقل، بل من فهم معنى التشويش، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب.
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى، وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ، لكن خصصه المعنى.
والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص؛ فإن لفظ غضبان وزنه فعلان، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه؛ فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا؛ كريان في الممتلئ ريًّا، وعطشان في الممتلئ عطشا، وأشباه ذلك، لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه2، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا؛ حتى كأنه قال: لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب، أو ممتلئ من الغضب، وهذا هو المشوش، فخرج المعنى عن كونه مخصصا، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ، لا بحكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة "المجاوزة" بالزاي.
2 ممن صرح بهذا المعنى عز الدين ابن جماعة؛ فقال في "كشف المعاني" "ص85" موجها تقديم الرحمن على الرحيم في البسملة: إن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمه والامتلاء منه، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، ونومان، وصيغة فعيل لدوام الصفة ككريم، وظريف؛ فمعنى الرحمن الرحيم: العظيم الرحمة، الدائمها.
قلت: انظر: "نظم الدرر" "1/ 26" للبقاعي.(34/197)
ص -135-…المعنى، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش؛ فلا تجاوز للعقل إذًا.
وعلى كل تقدير؛ فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم.(34/198)
ص -137-…المقدمة الحادية عشرة:
لما ثبت أن العلم المعتبر1 شرعا هو ما ينبني عليه عمل؛ صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته؛ فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة، وهذا ظاهر؛ غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت؛ انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية، حسبما يأتي إن شاء الله2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إن المعتبر من العلم هو الذي دل عليه أدلة الشرع حال كونها تستقل -أي: تثبت- بحصر أي بعد، وحيث تحصر عند أحد؛ فإن العلم يحصر عنده بكل مدرك من مداركه" "ماء".
2 انظر: "3/ 165 وما بعد".(34/199)
ص -139-…المقدمة الثانية عشرة:
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين1 به على الكمال والتمام.
وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا؛ غير أن ما علمه من ذلك على ضربين:
ضرب منها ضروري2، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا -هذا من المحسوسات، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان- من جملة المعقولات.
وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أو لا؛ كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يأتي شرح التحقق "ص140 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-139".(34/200)
ص -140-…وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر؛ فلا بد من معلم فيها، وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟ فالإمكان مسلم، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل؛ كاختلاف جمهور الأمة والإمامية -وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك؛ فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم، علما كان المعلم أو عملا، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع، وجريان العادة به كافٍ في أنه لا بد منه، وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛ إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم، وأصل هذا في الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء"1 الحديث، فإذا كان كذلك؛ فالرجال هم مفاتحه بلا شك.
فإذا تقرر هذا؛ فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال.
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97"، وهو في "الصحيحين".(34/201)
ص -141-…وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، وربما تصور تفريعها على أصول1 مختلفة في العلم الواحد فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه، وهي في نفس الأمر على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح, وأشباه ذلك؛ فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به، فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص.
فصل:
وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر2، وهي ثلاث:
إحداها:
العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد3، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر صورا ثلاثا: إحداها فرع ينبني على فرع مبني على أصل؛ فيفهم أن كلا من الفرعين له أصل خاص به، فيشكل عليه الأمر، فيهمل الاستنباط ويقف، وقد لا يهتدي في بعض الفروع إلى أصل يرجعها إليه؛ فيقف ويهمل الاستنباط، وقد يكون الفرع من المشتبه بأصلين، ويذهب عن العالم الأرجح من وجوه الترجيح، فيأخذ بالمرجوح في الواقع أو يقف، والتمثيل للثلاثة لا يخفى عليك، وكلها لا تضر في كونه إماما؛ فقد توقف مالك كثيرا، ورجع عما ترجح عنده أولا كثيرا لأحد الأسباب السالفة "د".
2 لأن بعضها سبب للتحقق بالعلم وهي الثانية، وبعضها مرتب عليه وهي الأولى؛ فهي تتفق مع الشروط المتقدمة، من حيث حصول كل وإن اختلفت في الاعتبار. "د".
3 انظر: "5/ 262".(34/202)
ص -142-…والثانية:
أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم1 فهموا مغزى ما أراد به أولا2 حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال: "بلى".
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: "بلى".
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال: "يابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل قوله: "فهم" زائد أو محرف عن لفظ منه، وعليه يتعين أن يكون الشاهد في قصة عمر بدليل سائر المقدمات التي منها قوله، وفيه قال سهل بن حنيف. وقوله: والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال، وقوله: ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم... إلخ، وبه ينتظم المقام كله, ويأخذ بعضه بحجز بعض؛ فالأمر لم يشكل على أبي بكر، بل على عمر، ولكنه صبر حتى لاح البرهان "د".
2 في "م": "أولا"! ولا وجود لها في الأصل.(34/203)
ص -143-…فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع1.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس! اتهموا رأيكم، والله؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل2 ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"3، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3182، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785", وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 222"، وعنده: "فطابت نفسه، ورجع"، وفي سائر النسخ: "ولم يضيعني" في الموطنين والمثبت من "ط".
2 سمي يوم الحديبية يوم [أبي] جندل؛ إذ لم يقع في ذلك اليوم أشد على المسلمين من قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو؛ إذ جاء يوسف في قيوده فارا من مشركي قريش، ورده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيه سهل وفاء بما شرطوه في عقد الصلح من أن يرد عليهم من يأتيه منهم وإن كان على دين الإسلام. "خ".(34/204)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3181، وكتاب المغازي، [باب] غزوة الحديبية، 7/ 457/ رقم 4189، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 13/ 282/ رقم 7307"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785"، وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والحميدي في "المسند" "رقم 404"، والبيهقي في "السنن" "9/ 222".
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".(34/205)
ص -144-…الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة1 إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري2، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه3، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".
2 هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، كان شافعي المذهب ثم صار ظاهريا، وبلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة؛ فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه؛ فكان يرمي بشرر من عبارات الازدراء والغضاضة من شأن أئمة السلف، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة؛ فنهضوا في وجهه ودارت بينه وبينهم المناظرات حتى امتدت إليه يد الدولة وأبعدته عن وطنه، وتوفي بالبادية رحمه الله سنة "456". "خ".(34/206)
3 أخص من الأمارة الأولى؛ لأن الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه بعض العمل بما علم، وقد يؤخذ من وصفه لمالك بميزته عن أضرابه المجتهدين في هذه الأمارة، أنه لا يلزم من العمل بما علم أن يكون مقتديا بمن أخذ عنه، بل يغلب عليه العمل بما يراه باجتهاده، وإن لم يظهر عليه التأسي بنوع آداب أستاذه؛ تكون أمارة مستقلة. "د".(34/207)
ص -145-…الوصف امتاز مالك عن أضرابه -أعني: بشدة الاتصاف به- وإلا؛ فالجميع ممن يهتدى به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما ترك هذا الوصف؛ رفعت البدع رءوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى1.
فصل:
وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما:
المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين2:
الأول:
خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة, وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: "إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3، وحديث حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثانية من الطرف الثاني من الاجتهاد.
2 لم يذكر إلا وجها واحدا؛ فتأمل.
3 وقع نحوه وما يفيده؛ ففي "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذ أدرج في أكفانه/ رقم 1242" بسنده إلى عمر بن الخطاب؛ قال: "والله؛ ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 44]- فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.(34/208)
وأخرجه بلفظ المصنف عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2387"، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" "6/ 89"، وتتمته: "وكيف لا ننكر أنفسنا والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]".(34/209)
ص -146-…رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها"1.
وقد قال عُمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث"2، وهي من فوائد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، 4/ 2106-2107/ رقم 2750"، وأحمد في "المسند" "4/ 346" عن حنظلة الأسيدي، بلفظ: "والذي نفسي بيده؛ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". واللفظ المذكور عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1345"، وأحمد في "المسند" "4/ 346"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2452".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، 8/ 168/ رقم 4483, وباب في سورة الأحزاب, 8/ 527/ رقم 4790, وباب في سورة التحريم, 8/ 660/ 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه- 4/ 1865/ رقم 2399"، والنسائي في "التفسير" "الأرقام 18، 435، 623"، والترمذي في "الجامع" "4/ 69"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 322/ رقم 1009"، وأحمد في "المسند" "1/ 23-24، 36"، والدارمي في "السنن" "2/ 44" من قول عمر, رضي الله عنه.
وقد جمع موافقات عمر وتكلم عليها في رسالة مفردة السيوطي في "قطف الثمر"، وهي =(34/210)
ص -147-…مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك1؛ فقيل له: فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخِيفَ على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني:
مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول:
أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: "كان العلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوى"، واعتنى بها عناية جيدة ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وذكر طرفا منها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص97 وما بعدها، ترجمة عمر".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "بيان الثلاث في بقية هذا الأثر المروي في "صحيح البخاري"، وهي آية الحجاب، وآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، ولا بدع أن ينطق الفاروق بما يوافق الوحي؛ فإن الشرائع تنزل لبيان الحقائق والإرشاد إلى المصالح، وكثير من القضايا والوقائع لا يلتبس على ذوي البصائر النقية والمدارك الراقية وجه كونها حقا أو مصلحة".
1 كان يكره الكتابة، ويقول: "لا تكتبوا "يعني ما يفتيهم به"؛ فلعله يتغير رأيي، فتذهب الكتابة إلى الأقطار قبل أن يستقر الحكم؛ فيحصل للناس بذلك ضرر، وإلا؛ فقد دون "الموطأ". "د". قلت: وانظر ما سيأتي "5/ 332".(34/211)
ص -148-…في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال"، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر1: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد2 به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر.
أما التجربة3؛ فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "والشرط الثاني"، وما أثبتناه في الأصل المخطوط.
2 أي: أثبت. "ماء".
3 قال أبو عبيدة: خاطب الشاطبي بعض مستفتيه؛ فقال في "فتاويه" "120-122": "... ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة؛ فلم يكن ذلك مني -بحمد الله- محض رأيي، ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة".
وقد بين الونشريسي -رحمه الله تعالى- في "المعيار العرب" "11/ 142" ما أبهمه المصنف؛ فقال: "العبارة الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: أفسدوا الفقه".
ونقل السراج في "الحلل السندسية" "1/ 2/ 665" عن الشيخ أحمد بابا توضيحا لوجه الفساد المذكور؛ فقال: "كأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل من "وجيز الغزالي" في المذهب مع مخالفتهما له، كما نبه عليها الناس، والأول بنى فروعا على قواعد أصولية وأدخلها في المذهب كذلك، ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد الأصول".(34/212)
وفي "الحلل السندسية" "1/ 3/ 656" و"سلوة الأنفاس" "3/ 245" ذكر لمحاورة جرت بين أبي العباس أحمد بن قاسم القباب "ت حوالي سنة 779هـ" وابن عرفة، وكان قد شرع آنذاك في تأليفه؛ فقال له القباب: "ما صنعت شيئا. فقال ابن عرفة: ولم؟ قال: لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي".(34/213)
ص -149-…الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري؛ فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر؛ ففي الحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك، وروي عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض"2، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب فضائل أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 7/ 3/ رقم 3651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1962/ رقم 2533" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بلفظ: "خير الناس...".(34/214)
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم 237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه: "وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ.(34/215)
ص -150-…شيء1، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق.
وعن ابن مسعود؛ أنه قال: "ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخضب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم2؛ فيهدم الإسلام ويثلم"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانظر في ترجيح فعل السلف المتقدمين على غيرهم: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4، 9، 10، 23، 157 و5/ 1-11 و11/ 366-373".
2 يطلق القياس في سياق الذم مضافا إلى الرأي، وإنما يراد به القياس الباطل، وهو ما لم يتحقق فيه شروط الصحة؛ كأن يكون مخالفا لنص، أو لا يقوم بجانبه دليل يشهد بأن المعنى المشترك بين صورتي المقيس والمقيس عليه هو العلة في تقرير الحكم المنصوص عليه. "خ".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 65"، والفسوي في "المعرفة" "3/ 393"، وابن أبي زمنين في "السنة" "10"، وابن وضاح في "البدع" "ص33"، والطبراني في "الكبير" "9/ 109"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 182"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 205"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2007، 2008، 2009، 2010"، والهروي في "ذم الكلام" "ق 37/ أ" من طرق مدارها على مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود به.
وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 180":
"وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، ومع هذا؛ فقد جوده ابن حجر في "فتح الباري" "13/ 20".
نعم، هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، أفاده ابن حجر أيضا "13/ 21".
وأوله محفوظ في حديث أنس مرفوعا.(34/216)
أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، 13/ 19-20/ رقم 7068"، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي؛ قال: "أتينا أنس بن مالك؛ فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج؛ فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم, صلى الله عليه وسلم".(34/217)
ص -151-…ومعناه موجود في "الصحيح" في قوله: "ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيَضلون ويُضلون"1.
وقال عليه السلام: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء". قيل: من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل".
وفي رواية: قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون عند فساد الناس"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97".
2 الحديث دون ذكر "من هم الغرباء" أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، 1/ 130/ رقم 415" من حديث أبي هريرة وابن عمر, رضي الله عنهم.
وأخرجه مع تفسيرهم بـ"النزاع من القبائل" الترمذي في "العلل الكبير" "2/ 854"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1320/ رقم 3988"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 236" -ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 398"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 4975"، والآجري في "الغرباء" "رقم 2"، وابن وضاح في "البدع" "ص65"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 174-175"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 64"، وابن حزم في "الإحكام" "8/ 37"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 298"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 208".
وقال البخاري, كما نقل عنه الترمذي في "العلل": "وهو حديث حسن"، وصححه البغوي. وأخرجه مع تفسيرهم بـ"الذين يصلحون عند فساد الناس": الداني في "السنن الواردة في الفتن" "رقم 288"، والآجري "رقم 1" من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح.
وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 184"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 99/ رقم 756"، والبزار في "المسند" "رقم 56- مسند سعد" -دون زيادة- والدورقي في "مسند سعد" "رقم 87"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 424"، والداني في "الفتن" "رقم 290" بإسناد صحيح.(34/218)
ص -152-…وعن أبي إدريس الخولاني: "إن للإسلام عُرًى يتعلق الناس بها، وإنها تمتلخ عروة عروة"1.
وعن بعضهم: "تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة"2.
وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الآية [النصر: 1],
ثم قال: "والذي نفسي بيده؛ ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 174-ط عمرو سليم، ورقم 190-ط بدر" بسند ضعيف فيه نعيم بن حماد.
2 القائل هو عبد الله بن محيريز، وأسند هذه المقولة عنه الدارمي في "السنن" "رقم 98"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 93"، وابن وضاح في "البدع" "ص66"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 226"، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 144"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص12".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 41"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 496"، والداني في "الفتن" "رقم 417" مرفوعا -وليس موقوفا كما ذكر المصنف- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: تلا رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...} وذكره، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي.
قلت: وفيه أبو قرة -وتصحف في جميع مصادر التخريج إلى "فروة"؛ فليصحح- مولى أبي جهل، ترجمه ابن أبي حاتم "9/ 428" ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكذا ابن عبد البر في "الاستغناء" "3/ 1516"، ثم ظفرت به موقوفا عند ابن وضاح في "البدع" "رقم 199-ط بدر"، وفيه: "قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة" "وذكره".
وهذا إسناد ضعيف لإعضاله، وسقط سنده ومتن الأثر الذي قبله في "ط عمرو عبد المنعم" وهو فيه برقم "182".(34/219)
وله شاهد عن جابر بن عبد الله مرفوعا، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 343"، والداني في "الفتن" "رقم 420"، وابن بطة في "الإبانة" "137"، والثعلبي في "تفسيره" -كما في "تفسير القرطبي" "20/ 231"- وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "8/ 664"- عن جار لجابر عنه، وسنده ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 281": "رواه أحمد، و[جار] جابر لم أعرفه".(34/220)
ص -153-…وعن عبد الله؛ قال: "أتدرون كيف ينقص الإسلام؟". قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سِمَن الدابة. فقال عبد الله: "ذلك منه"1.
ولما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3]، بكى عمر؛ فقال عليه السلام [له]2: "ما يبكيك؟" قال: يا رسول الله! إنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل؛ فلم يكمل شيء قط إلا نقص. فقال عليه السلام: "صدقت"3.
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك.
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة4، الذي هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 201-ط بدر، ورقم 184-ط عمرو". وإسناده صحيح.
2 ساقطة من الأصل.
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140-ط دار الفكر"، وابن جرير في "التفسير" "6/ 52"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154"، وابن وضاح في "البدع" "رقم 202" بإسناد ضعيف، وهو منقطع.
قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 14": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا".
قلت: ومضى تخريجه قريبا.
4 كتب المتقدمين في العلوم الإسلامية مقاصد كانت أو وسائل هي أحكم صنعا وأشد صلة بروح الموضوع من كتب المتأخرين، ولا سيما منذ أصبحت سوق الاختصار نافقة، وقد صرح المصنف في مراسلة دارت بينه وبين بعض أصحابه في هذا الغرض بأنه يعني بالمتأخرين من الفقهاء مثل ابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهما. "خ".(34/221)
ص -154-…العروة الوثقى، والوَزَر الأحمى1، وبالله تعالى التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوزر: الملجأ. والأحمى: الممنوع. انظر: "لسان العرب" "و ز ر"، و"ح م".(34/222)
ص -155-…المقدمة الثالثة عشرة:
كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل؛ فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرى؛ فذلك الأصل صحيح، وإلا؛ فلا.
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبية أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف؛ فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه، وإلا؛ لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه، وذلك فاسد؛ لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله: أنه قد تبين في أصول الدين1 امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يُطاق، وألحق2 به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد، فإذًا؛ كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "الأصول الدينية".
2 في الأصل و"ط": "لحق".(34/223)
ص -156-…ولا قاعدة يستند إليها.
ويقع ذلك في فهم الأقوال، ومجاري1 الأساليب، والدخول في الأعمال.
فأما فهم الأقوال؛ فمثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، إن حُمل على أنه إخبار؛ لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي؛ فعليه يجب أن يُحمل2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معطوف على الأقوال، والأول معناه أن القول في ذاته بقطع النظر عن أقوال أخرى سبقته أو لحقته يختلف الفهم فيه بين صحيح وغيره، أما الفهم في مجاري الأساليب؛ فإنه ينظر فيه إلى أن فهمه على صحته يقتضي التوفيق بين المساق جميعه وعدم مخالفته السابق واللاحق. "د".
2 كتب بعض الفضلاء* في التعليق على هذا الموضع أنه: "يجوز بقاء الآية على معنى الخبر، ويكون المراد من المؤمنين: جماعة المسلمين العاملين بما يقتضيه الإيمان الراسخ؛ من الاستعداد، والاتحاد، والثبات"، وقال: "إن التاريخ يشهد بأن المسلمين لا يغلبون على أمرهم ما داموا كذلك"**.
ولكن هذا يقتضي أمورا قد لا تسلم؛ منها أنهم يعطون من ذلك ما لم يعطه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حياته، وأنت تعلم ما حصل لهم في مكة، وانفرادهم في شعب أبي طالب، وإذلال الكثير منهم، وهجرتهم إلى الحبشة، وغيرها.
ومنها: أن تاريخ الحروب الصليبية -وكان في عز الإسلام واستمر قرونا- كان الأمر فيه تارة للمسلمين وتارة عليهم بأخذ بلادهم، والاستيلاء على بيت المقدس، وانكماش دولتهم، وآية: =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو الشيخ محمد الخضر حسين, رحمه الله تعالى.(34/224)
** ونص عبارته الثانية: "والتاريخ الصادق يشهد بأن الممالك الإسلامية لا تزال تتمتع باستقلالها آمنة من أن يغلبها العدو على أمرها وينشب مخالبه في مقاتلها؛ إلا حيث ينفضون أيديهم من وسائل الدفاع، أو يسري بينهم داء التفرق، أو يخالط قلوبهم الفزع واليأس". "خ".(34/225)
ص -157-…ومثله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، إن حُمل على أنه تقرير حكم شرعي؛ استمر وحصلت الفائدة، وإن حُمل على أنه إخبار بشأن الوالدات؛ لم تتحكم فيه فائدة زائدة1 على ما عُلم قبل الآية.
وأما مجاري الأساليب؛ فمثل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إلخ [المائدة: 93].
فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}... [النور: 55] لا تدل على المعنى الذي يراد تحميله لهذه الآية، وما في هذه الآية الأخيرة قد أعطيه -عليه السلام- وأصحابه في حياته وبعد وفاته والمسلمون بعدهم؛ لأن تمكين الدين وتبديل الخوف أمنا لا يلزمه كل ما يراد من الآية الأولى باعتبار المعنى الذي يراد تحميلها إياه، وأنت ترى أن آية الوعد قيدت الإيمان بعمل الصالحات؛ بخلاف الآية المذكورة؛ فليس فيها إلا مجرد الإيمان المقابل للكفر، على خلاف آيات الوعد في القرآن؛ فإنها مقيدة بعمل الصالحات، ولا يخفى أن مجرد الإيمان كاف في تطبيق حكم أنه لا يتولى الكافر شئون المسلم في العقود وغيرها؛ فيكون هو الذي ينبغي تنزيل الآية عليه "د".(34/226)
1 لم يقل: "لم يستمر"؛ لأن الاستمرار حاصل على كلا الفهمين، غايته أنه على الفهم الثاني لم توجد فيه فائدة زائدة؛ لأنه يكون مجرد إخبار بمجرى العادة المعروفة للناس بدون هذه الآية، فلتحقق الفائدة يلزم أن يكون إنشاء لتقرير ما جرت به العادة حكما شرعيا يرجع إليه في تقرير النفقات وغيرها؛ إلا أنه يبقى الكلام في التمثيل به لما ذكره؛ فإنه بصدد التمثيل لما يقتضي تخلف خبر الله ورسوله، أو لما يلزم عليه تكليف بما لا يطاق، أو بما فيه حرج زائد عن المعتاد، وليس في هذا واحد من هذه الثلاثة، بل شيء آخر، وهو أنه لم يفد فائدة جديدة، فلو زاد على الأمور الثلاثة أنه يلزم في خبر الله ورسوله أن يفيد فائدة جديدة؛ لم تكن معروفة، ثم فرع عليه هذا المثال لكان ظاهرا "د".
2 لأن آية تحريم الخمر السابقة في نفس الموضوع تقتضي تحريم الخمر نصا، وهذا =(34/227)
ص -158-…الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر؛ قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93]، فكان هذا نقضا للتحريم، فاجتمع الإذن والنهي معا؛ فلا يمكن للمكلف امتثال.
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر، وقال له: "إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله"1.
إذ لا يصح أن يقال للمكلف: "اجتنب كذا"، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا، ثم يقال: "فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الظاهر ينافيها؛ فلا ينتظم السياق إلا بعدم دخول الخمر في العموم الظاهر؛ لئلا يلزم نقض التحريم، واجتماع النهي والإذن؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق فضلا عن إهمال السبب في النزول، وهو أنهم قالوا لما نزل تحريم الخمر: "كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟". فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يعني: ليس عليهم وزر لأنهم آمنوا واتقوا وما تعدوا ولا فعلوا ذلك بعد التحريم، وفضلا أيضا عن معارضة النص بالظاهر، ومعلوم أن النص هوالمقدم، ويكفي للتمثيل بالآية أن يكون فيها عدم جريان الفهم في الأسلوب، وإن كان هناك أسباب أخرى، كما أشار إليه بقوله: "مع إهمال السبب"، وبقوله: "بعد"، وأيضا؛ فإن الله أخبر، وكما أشرنا إليه في تقديم النص على الظاهر وتخصيص النص له. "د".
1 أي: ومنه الخمر التي تقتضي صحة الأسلوب تقرير حرمته، ولما كان هذا ضمن الوجوه التي يصح أن يني عمر عليها أن التقوى لا تكون إلا باجتنابها لتقرر تحريمها وعدم دخولها في هذا الظاهر؛ قال: "ومن هنا"، ولم يجزم فيقول: "ولذلك قال عمر"؛ فتأمل "د".(34/228)
قلت: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة "9/ 546"، وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 174"، وسيأتي عند المصنف بأطول من هذا "ص272"، وأفاد هناك أنه عند القاضي إسماعيل في "الأحكام" وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-844"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 154".(34/229)
ص -159-…وأيضا؛ فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي1 لقوله:
{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]؛ فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت؛ لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يُطاق.
وأما الدخول في الأعمال؛ فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج2 أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص، إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا.
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية؛ لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين.
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من حيث الكمال؛ كما يفيده كلامه "د".
2 تقتضي قاعدتا تعيين قدر المبيع في البيع وتحديد مدة الانتفاع بالمحل في الإجارة أن لا يجوز الدخول للحمام إلا بشرط تحديد مدة المكث به، وبيان مقدار ما يستعمل من الماء، ولكن وقع استثناء هذه المسألة وأعطيت حكم الإباحة بإطلاق لما في تقدير الماء المستعمل في الحمام، وتحديد مدة المقام به من المشقة القاضية بالرخصة والتيسير. "خ".(34/230)
3 أفاد التنبكي في "نيل الابتهاج" "ص48" أن الشاطبي "تكلم مع كثير من الأئمة في =(34/231)
ص -160-…إحداهما: أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب1 في فصل يتضمن "ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه، والشغل به"، فقال فيه: "وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته؛ فرغ سره منه، بالخروج عنه، ولو كان يُساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون".
فاستشكلت هذا الكلام، وكتبت إليه بأن قلت2: أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه؛ فصحيح، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب؛ فلا أدري ما هذا الوجوب؟ ولو كان واجبا بإطلاق؛ لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم، وديارهم، وقُراهم، وأزواجهم، وذرياتهم، وغير ذلك3 مما يقع لهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم؛ كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد؛ فجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها"، وأفاد ناسخ الأصل كما سيأتي أن ابن عرفة كتب للشاطبي في مسألة "مراعاة الخلاف"، ونقل عن "نوازل البرزالي" ذلك.
قلت: وفي "المعيار المعرب" "6/ 387" ما يدل عليه وعلى أن أبا العباس القباب باحثه في ذلك، ثم وجدت في "الاعتصام" "2/ 146" قوله: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب -رحمة الله عليه- فكتب إلي ما نصه...".
وأورد الونشريسي في "المعيار" "12/ 293" مراسلة بين المصنف والشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي النفري في علم التصوف ومدى ضرورة الشيخ في ذلك.
1 هو ابن القباب كما صرح به الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 20".
2 في "ط": "قلت له".(34/232)
3 وهذا منتهى الحرج للأفراد، وتكليف الجميع به تكليف بما لا يطاق، وهو أيضا مخالف لما يقصده الشرع من المحافظة على الضروريات والحاجيات... إلخ؛ فهو جار على غير استقامة. "د". وانظر رد المصنف على القشيري في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج من ماله في: "الاعتصام" "1/ 214-215".(34/233)
ص -161-…به الشغل في الصلاة، وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال.
وأيضا؛ فإذا كان الفقر هو الشاغل؛ فماذا يفعل؟ فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء؛ أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة؟ هذا ما لا يفهم، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة، وقد يُندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله، من مال أو غيره، إن أمكنه الخروج عنه شرعا، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم، ثم ينظر بعدُ في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل: كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة، أو استحبابها، أو سقوطها؟ وله موضع غير هذا. ا. هـ حاصل المسألة.
فلما وصل إليه ذلك؛ كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه، وهو صحيح؛ لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة؛ لاختلاف أحوال الناس؛ فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة.
والثانية: مسألة الورع بالخروج عن الخلاف1؛ فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذه المسألة: "مجموع ابن تيمية" "10/ 644، 522 و20/ 138، 139", و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257"، و"تهذيب السنن" "1/ 60"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130" -كلها للإمام ابن القيم- و"الإحكام" لابن حزم "6/ 745"، و"إيضاح السالك" للونشريسي "160"، و"فتح الباري" "1/ 27"، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"الورع" للصنهاجي "ص37"، و"تمام المنة" "159"، و"رفع الحرج" ليعقوب الباحسين "ص137-182"، وما سيأتي "5/ 107 وما بعدها".(34/234)
ص -162-…ولا زلت منذ زمان أستشكله؛ حتى كتبت فيها إلى المغرب، وإلى أفريقية؛ فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر، بل كان من جملة الإشكالات الواردة؛ أن جمهور مسائل الفقه1 مختلف فيها اختلافا يعتد به، فيصير إذًا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف2 وضع الشريعة.
وأيضا؛ فقد صار الورع من أشد الحرج؛ إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة، ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه، وفي هذا ما فيه.
فأجاب بعضهم3: بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه، المختلف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمهور الشيء أكثره، وهي دعوى تحتاج لإحصاء مسائل الشريعة مسألة مسألة، والوقوف على حصول خلاف في أكثرها بين مجتهدين مسلم لهم في الاجتهاد، ومنقول لنا خلافهم بطريق صحيح، ويكون الخلاف معتدا به كما يقول، وسيذكر في كتاب الاجتهاد أن هناك عشرة أسباب تجعل كثيرا من الخلافات غير معتد به خلافا، على أن الورع بعد هذا كله في مراعاة شرط أو ركن لم يقل به آخر، أو في تحريم شيء لم ير حرمته آخر، أو إيجاب شيء لم ير وجوبه آخر، أما الخلافات بين مباح ومندوب، وبين سنة ومباح، وبين طلب تقديم شيء وتأخيره، وهكذا من أمثال هذا الذي لا يترتب عليه حرمة ولا بطلان عبادة؛ فليس مما يقصد دخوله في ورع الخروج من الخلاف، وإذًا؛ فهل بقي بعد هذا أن الورع في ذلك من أشد أنواع الحرج؟ ذلك ما يحتاج إلى دقة نظر. "د".
2 سيأتي بيانه في المتشابه والمحكم في فصول ضافية. "د".
3 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "المراد بهذا البعض هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه:
أحدها:(34/235)
أن الورع إما لتوقع العقاب أو ثبوت الثواب، وإلا؛ فليس بورع، أما الأول؛ فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح. =(34/236)
ص -163-…فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي موارد1 التأمل, وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل، وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط؛ فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأما الثاني:
فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين.
وثانيها: أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع "الصحيح لغة: رجح" الضرب المحرم؛ إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع.
وثالثها: أن المتورع إن كان مجتهدا يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير، وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر.
ورابعها: أن الورع بمثل هذا لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث "أصحابي كالنجوم"1 مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي.
خامسها: أن ترجيح المتورع لأحد القولين فممنوع؛ لأنه إن كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق.
سادسا: ما ذكره المصنف هنا وهو أن جمهور مسائل الفقه... إلخ.
سابعها: لأن عامل الورع في مسائل الخلاف الآخذ بالأشد وتتبع الأشد أبدا لمذهب لا يقصر عمن تتبع الرخص في الذم.(34/237)
فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين، وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ.
1 في النسخ المطبوعة الثلاث: "مواد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث منكر، كما سيأتي تفصيله "4/ 452".(34/238)
ص -164-…عنه، وقد قال عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره"1، هذا ما أجاب به.
فكتبت إليه: بأن ما قررتم من الجواب غير بين؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال؛ فليس مما نحن فيه، وأما المقلد؛ فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين، والعامي -في عامة أحواله- لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف، ولا يعلم: هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؛ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر، وليس العامي كذلك، وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل2؛ كالخلاف في المتعة3، وربا النساء، ومحاش4 النساء، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها, باب منه 4/ 2174/ رقم 2823" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 أشرنا آنفا إلى أنه أكثر مواضع الخلاف، رجوعا إلى ما سيقرره في موضعه، وأن القليل هو الذي يعتد به خلافا. "د".
3 أبيحت المتعة في صدر الإسلام بداعية قلة النساء وطول مدة الاغتراب في سبيل الجهاد، ثم حرمت تحريما مؤبدا بقوله -عليه الصلاة والسلام- كما في "صحيح مسلم" "رقم 1406 بعد 21": "قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، ومن حكمة تحريمه أنه يحط من شأن المرأة، ويجعلها كالأدوات المبتذلة يتناولها الرجال واحدا بعد آخر، ثم إن المقصد الأعظم من النكاح التناسل، ومصلحة الولد تستدعي أن يتربى بين أبوين يرتبطان بعاطفة وداد روحي وإخلاص في المعاشرة، وهذه الرابطة لا تستقيم حيث يعقد النكاح لأمد معلوم. "خ".(34/239)
4 جمع محشة، وهي من الألفاظ المكنى بها عن الاست، ومنه حديث ابن مسعود: "محاش النساء عليكم حرام" "خ".(34/240)
ص -165-…وأيضا؛ فتساوي الأدلة1 أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين، ولا يكونان كذلك عند بعض؛ فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد؛ لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده، من غير أن يخرج عن الخلاف، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر؛ فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور، وهو شديد جدا، و"من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا هو الذي أشكل على السائل، ولم يتبين جوابه بعد.
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد؛ إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل؛ لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة.
وإذا تأملنا مناط المسألة؛ وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا، فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع، وإن كان شديدا في مخالفة النفس، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدفع بهذا ما يتوهم وروده على قوله: "ولا يعلم هل تساوت أدلتهم..." إلخ؛ فقد يقال: يرجع في ذلك إلى المجتهد ليعرف التساوي والتقارب؛ فقال هنا: إنه لا يتأتى الرجوع في ذلك له. "د".
2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..."؛ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(34/241)
ص -166-…مخالفة النفس؛ فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. ما كتبت به، وهنا وقف الكلام بيني وبينه.
ومن تأمل هذا التقرير؛ عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد1، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه؛ فلا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلا يبنى2 عليه3.
والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع، وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه4 وما لا يعتبر، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج "د".
2 في "خ": "ينبني".
3 أنكر جماعة من الفقهاء دخول الورع في بسملة المالكي في الصلاة بحجة أنه لا يخرج من خلاف الإمام الشافعي؛ إلا أن يقرأ البسملة معتقدا وجوبها، كما أنكروا دخوله في مسح الشافعي جميع رأسه خروجا من خلاف المذهب المالكي؛ لأنه لا يتخلص من خلاف هذا المذهب إلا أن يمسح الجميع باعتقاد الوجوب، وحاول شهاب الدين القرافي في "قواعده" تصوير الجمع بين المذهبين في الفرع الثاني؛ فلم يهتد إلى وجه مرضي، ومن المتعذر عليه وعلى غيره أن يجمع بين حكمين متضادين مثل الندب والوجوب في عبادة واحدة "خ".
4 تعارض الأدلة على المجتهد لا تعارض الأقوال على المقلد؛ فلا يلزم عليه الحرج.
نعم، سيأتي له أن على المقلد إذا تعارضت عليه الأقوال أن يرجح واحدا منها، ولكنه اعتبر في الترجيح أمورا واضحة لا يبقى معها اشتباه، كأن يأخذ بقول من عرف بأنه يعمل بعلمه مثلا "د".(34/242)
ص -169-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم1.
كتاب الأحكام:2
والأحكام الشرعية قسمان: أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف3 والآخر يرجع إلى خطاب الوضع؛ فالأول ينحصر في الخمسة؛ فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل، وهي جملة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولا في "م" و"خ".
2 "الأحكام: جمع حكم، وإلى تعريف الحكم أشرت في "منور الأفهام" بقولي:
فالحكم بالإثبات أو بالنفي…للأمر يعرف لَدُنْ ذي الرأي
أعني أن الحكم يعرف عند أهل العقل بالإثبات للشيء أو بالنفي له، نحو: قام زيد، أو ما قام" "ماء".
3 "تعلق الخطاب بالأفعال؛ إما أن يطلب منها طلبا، أو بأن يبيحها، وهذا هو المسمى بخطاب التكليف، وإما بأن يضع لها سببا أو شرطا أو مانعا، ويسمى خطاب الوضع، وتخصيص هذا النوع من الأحكام باسم الوضع محض اصطلاح.
وإلا؛ فالأحكام كلها -أعني: المتعلقات بالأفعال التنجيزية لوضع الشرع- لا مجال للعقل ولا للعادة في شيء منها، قاله في "شرح المقدمات"..." "ماء".(34/243)
ص -171-…القسم الأول: خطاب التكليف
المسألة الأولى1: [في المباح]2
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب3؛ فلأمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استفاد المصنف كثيرا في هذه المسألة من الإمام شمس الدين علي بن إسماعيل الصنهاجي الأبياري المالكي "ت 616هـ" في كتابه المطبوع بعنوان: "الورع"، بتحقيق فاروق حمادة، طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت، وبين عبارة المصنف وعبارة الأبياري تطابق إلى حد كبير في كثير من الأحايين؛ فاقتضى التنويه.
2 ما بين المعقوفتين ليس في "د".
تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في المباح في "مجموع الفتاوى" "12/ 300 و14/ 108، 109 و15/ 448 و18/ 9، 10 و21/ 314-318، 538-541 و29/ 16-18، 150، 151".
3 ممن حقق النظر في هذه المسألة أبو بكر الأبهري، ونفى دخول الورع في ترك المباح بحجة أن الله سوى بين الفعل والترك، والورع مندوب، والندب مع التسوية متعذر، وتصدى شهاب الدين القرافي للتوفيق بينه وبين مخالفيه قائلا: "لا ورع ولا زهد في المباحات من حيث هي مباحة، ولكن يدخلها الورع والزهد من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات ويفضي إلى بطر النفس"، وهذا هو المبدأ الذي رتب عليه المصنف بحثه المسهب في هذا المقام "خ".(34/244)
ص -172-…أحدها:
أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير؛ لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك؛ فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب، ولا طلب؛ فلا طاعة1.
والثاني:
أن المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا؛ لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا.
لا يقال: إن الواجب والمندوب يفارقان المباح، بأنهما مطلوبا الفعل؛ فقد قام المعارض لطلب الترك، وليس المباح كذلك؛ فإنه لا معارض لطلب الترك فيه.
لأنا نقول: كذلك المباح؛ فيه معارض لطلب الترك, وهو التخيير في الترك؛ فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه2.
والثالث:
أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه، وهذا غير صحيح باتفاق، ولا معقول في نفسه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16".
2 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16-17".
3 سيأتي أنه مؤد إلى التناقض "د".
قلت: وقارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17".(34/245)
ص -173-…والرابع:
إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره، بأن يترك ذلك المباح، وأنه كنذر1 فعله.
وفي الحديث2: "من نذر أن يُطيع الله؛ فليطعه"3، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر، لكنه غير لازم؛ فدل على أنه ليس بطاعة.
وفي الحديث: "أن رجلا نذر أن يصوم قائما، ولا يستظل، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه"4. قال مالك: أمره -عليه السلام- أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية؛ فجعل5 نذر ترك المباح معصية6 كما ترى7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "كناذر".
2 هو تمام الدليل، ومحصله أن النذر إنما يكون في الطاعة كما في الحديث، وقد أجمعوا على أن ناذر ترك المباح نذره لغو؛ فلو كان تركه طاعة وداخلا فيما يُطلب بالحديث الوفاء به؛ لم يجمعوا على عدم لزوم الوفاء به. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية, 11/ 585/ رقم 6700" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح. "د".
قلت: وعبارة مالك في "الموطأ" "2/ 29".(34/246)
6 ترك الكلام والاستظلال والجلوس لا يبلغ أن يكون معصية بنفسه؛ إلا أن يجر إلى نصب ومشقة، ولكن في نذر المباح قلبا لحقائق الشرع؛ فيدخل صاحبه من هذه الجهة في قبيل الذي يقصدون إلى حقيقة قررها الشارع على وضع خاص، ويخرجون بها على ذلك الوضع المرسوم؛ إما عبثا وتلاعبا، وإما جهلا بالحكم الذي تمكنهم معرفته بسهولة. "خ".
7 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17-19".(34/247)
ص -174-…والخامس:
أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه -وقد فرضنا1 أن تركه وفعله عند الشارع سواء- لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله، وهذا باطل قطعا؛ فإن القاعدة المتفق عليها2 أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا، فإذا تحقق الاستواء في [جميع الطاعات؛ تحقق الاستواء في]3 الدرجات، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا4 فرضنا تساويهما في الطاعات، والفرض5 أن التارك مطيع دون الفاعل؛ فيلزم أن يكون أرفع درجة منه، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة، اللهم إلا أن يظلم6 الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع7؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا حاجة لذكره هذا الفرض في صوغ الدليل، وسيذكره في بيان بطلان اللازم؛ فيقول: وفعل المباح وتركه... إلخ "د".
2 من أين هذه القاعدة، وقد قالوا: إنه تعالى يعطي على القليل كثيرا وأن أمور الثواب ليست في التقدير؛ إلا بمجرد الفضل لا بالوزن؟ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ فلا مانع أن يكون اثنان متساويين في الطاعات، وأحدهما أرفع من الآخر منزلة، بل قد يكون الأقل عملا أرفع منزلة؛ لأن الكل بمحض الفضل لا بوزان الأعمال؛ فهذا الدليل كما ترى يحوطه الضعف من جهات. "د".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط".
4 في "د": "وإذا" بزيادة واو.
5 ملخص الدليل: أنه لو كان تارك المباح مطيعا بالترك؛ للزم أن يكون أرفع درجة ممن فعله، واللازم باطل؛ لأنهما متساويان في الدرجة، فما أدى إليه وهو المقدم باطل؛ فعليك بالنظر فيما توسط من كلامه أثناء الدليل، والتعرف عن وجه الحاجة إلى ذلك. "د".
6 أي: نفسه بالحمل عليها ومشاقتها بترك المباح، ثم يدعي أنه يؤجر على ذلك، أي: وهذا لا يقول به أحد. "د".(34/248)
قلت: وهذا التفسير خطأ، وضبط الكلمة منه خطأ [ضبطها بعد بالفتحة، ثم فسرها]، ولو ضبطها بالضمة؛ لبان المعنى، يدل على ذلك سياق العبارة في "الورع" "ص21".
7 مقابل قوله: "أولا مطيعا" بتركه أي: وإن لم يكن مطيعا بالترك؛ فلا يكون المباح مطلوب الاجتناب، يعني وهو مع هذا الفرض مفروغ منه لا داعي للكلام فيه. "د".(34/249)
ص -175-…كلام في هذا1.
والسادس:
أنه لو كان ترك المباح طاعة؛ للزم رفع المباح من أحكام الشرع، من حيث النظر إليه في نفسه، وهو باطل بالإجماع، ولا يخالف في هذا الكعبي2؛ لأنه إنما نفاه3 بالنظر إلى ما يستلزم، لا بالنظر إلى ذات الفعل، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
وأيضا؛ فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح؛ لأنه مستلزم ترك حرام، بخلافه بالنظر إلى تركه، إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا؛ فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق، وذلك باطل باتفاق.
والسابع:
أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار؛ فترك المباح إذًا فعل مباح4.
وأيضا؛ القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص21".
2 يأتي مذهبه ودليله والرد عليه في الفصل اللاحق لهذه المسألة. "د".
قلت: ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 530-548".
3 هنا جزم بالحصر، وسيأتي له جعله استظهارا فقط. "د".
4 وإذًا؛ فليس بمطلوب، وهو مدَّعانا. "د".
5 أي: مقاصد الشريعة من تشريع الأحكام، وهي* حفظ الضروريات والحاجيات؛ فالحكم الشرعي يتوجه إلى الفعل من إيجاب أو غيره حسبما فيه من المصلحة، وكيف يكون الشيء فعله وتركه مصلحة حتى يطلب تركه وفعله؟ "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وهو".(34/250)
ص -176-…حسبما يأتي إن شاء الله، وذلك يستلزم رجوع1 الترك إلى الاختيار، كالفعل، فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا، وذلك تناقض2 محال.
فإن قيل: هذا كله معارض بأمور:
أحدها:
أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة:
- منها: أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات، وصدا عن كثير من الطاعات.
- ومنها: أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الممنوعات؛ لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضرواة الخمر، وبعضها يجر إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة3، والعياذ بالله.
- ومنها: أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، والتمتع بلذاتها؛ كقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
[وقوله]: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15].
وفي الحديث: "إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم4 الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم"5 الحديث. وفيه: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حتى صح أن تعلق به مقاصد الشرع وتبنى عليه الأحكام "د".
2 لأنه يقتضي أن يكون الشيء مقصود الفعل للشارع لحفظ المصلحة، ومقصود الترك له أيضا لحفظها، حتى تعلق بكل منهما حكمه، وهو طلب الفعل والترك؛ فيعد المكلف مطيعا لهما. "د".
3 في "ط": "الهلكة".
4 في الأصل: "لكم".(34/251)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، 6/ 257/ رقم 3158، وكتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، 7/ 319/ رقم 4015، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، 11/ 243/ رقم 6425"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب منه، 4/ 2273-2274"، وأحمد في "المسند" "4/ 137"، والترمذي في "الجامع" "4/ 640/ رقم 2462"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1324/ رقم 3797"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 319"، من حديث عمرو بن عوف, رضي الله عنه.(34/252)
ص -177-…حبطا أو يلم"1.
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة، وهو كافٍ في طلب ترك المباح؛ لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح.
- ومنها: ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء: "إن حلالها حساب، وحرامها عذاب"2، وعن بعضهم3: "اعزلوا عني حسابها"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث في أوله نحو المذكور عند المصنف آنفا، وسيأتي "2/ 281".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 2/ 327/ رقم 1465، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6724" من حديث أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "رقم 8192" من طريق الدراقطني في "الأفراد" عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "يابن آدم! ما تصنع الدنيا! حلالها حساب، وحرامها عذاب".
وإسناده واه جدا، فيه عمر بن هارون البلخي، قال ابن مهدي وأحمد والنسائي: "متروك الحديث"، وقال يحيى: "كذاب خبيث"، وقال أبو داود: "غير ثقة"، وقال ابن المديني والدارقطني: "ضعيف جدا"، وقال صالح جزرة: "كذاب". وانظر: "الميزان" "3/ 228".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 17"، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 7/ 371/ رقم 10622" بسند منقطع عن علي موقوفا بلفظ: "حلالها حساب، وحرامها النار".
وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"؛ كما في "إتحاف السادة" للزبيدي "8/ 120 و10/ 25" موقوفا، وقال عن المرفوع: "لم أجده"!!
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 211" عن الحسن قوله، وهو الأشبه، ولكن إسناده ضعيف، فيه أبو عباد الزاهد، لا يحل الاحتجاج به؛ كما قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 158".
3 القائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال ابن الجوزي في "سيرة عمر" "ص141": "عن الحسن أن عمر أتي بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: "اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها"".(34/253)
وذكره الأبياري في "الورع" "ص22"، وقال قبله: "في قول الصديق أو غيره".
وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 803، 804" بلفظين آخرين، آخرهما: "استسقى، فأتي رجل بقدح من زجاج -أو قال: من قوارير- فيه عسل، فقال -أي: عمر: "ما رأيت كاليوم إناء أحسن ولا شرابا أحسن". ثم قال: "شرابا هو أيسر في المسألة من هذا"؛ فأتي بماء، فشرب.
ونحوه في "الزهد" "ص119" لأحمد، و"الزهد" "رقم 618" لابن المبارك، و"الزهد" "رقم 94، 95" لأبي داود، و"الطبقات الكبرى" "3/ 319" لابن سعد، و"مناقب عمر بن الخطاب" "ص142" لابن الوزي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "رقم 618" لعبد بن حميد بأسانيد بعضها حسن.(34/254)
ص -178-…حين أتي بشيء يتناوله، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، والمباح صاد عن ذلك؛ فإذًا تركه أفضل شرعا؛ فهو طاعة، فترك المباح طاعة1.
فالجواب: أن كونه سببا في مضار لا دليل فيه؛ من أوجه:
أحدها:
أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين2، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع؛ صار ممنوعا من باب سد الذرائع، لا من جهة كونه مباحا,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20".
2 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "10/ 460-462".(34/255)
ص -179-…وعلى هذا يتنزل قول من قال: "كنا ندع ما لا بأس به1؛ حذرا لما به البأس".
وروي مرفوعا2.
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب؛ فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف.
وأيضا3؛ فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح، كالمال4 إذا لم تؤد زكاته، والخيل5 إذا ربطها تعففا، ولكن نسي حق الله في رقابها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة؛ فليس تركه أفضل بإطلاق, بل هو ثلاثة أقسام:
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه؛ فيكون من تلك الجهة مطوب الترك.
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به؛ كالمستعان به على أمر أخروي؛ ففي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"6، وفيه: "ذهب أهل الدثور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا بأس به في ذاته؛ حذرا أن يوقعنا فيما هو ذريعة إليه مما فيه بأس. "د".
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص189".
3 أعم مما قبله الخاص بالذريعة؛ أي: باللواحق. "د".
4 و5 المثالان من نوع واحد، والظاهر أنهما من أمثلة المقارن، ويصح أن يكونا من اللواحق. "د". وفي "ط": "والخيل إذا ارتبطها".
6 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 299"، وأحمد في "المسند" "4/ 197، 202"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 2، 236"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 320-322/ رقم 7336"، وعنه ابن حبان في "الصحيح" "8/ 6، 7/ رقم 3210، 3211- الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 259/ رقم 1315"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2495"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 43" بإسناد صحيح، وأوله: "يا عمرو"، وجود إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 228" وغيره.(34/256)
ص -180-…بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم..." إلى أن قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"1، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا، وإن كان قاضيا لشهوته؛ لأنه يكف به عن الحرام2، وذلك في الشريعة كثير؛ لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به؛ كان لها حكم ما توسل بها إليه.
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء؛ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة، فإذا فرض ذريعة إلى غيره؛ فحكمه حكم ذلك الغير، وليس الكلام فيه.
والثالث:
أنه إذا قيل: إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه، فهو معارض بمثله؛ فيقال: بل فعله طاعة بإطلاق؛ لأن كل مباح ترك حرام3، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح؛ فقد شغل النفس به عن جميعها، وهذا الثاني أولى4؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال: كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق؛ فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة.
وأما قوله: "إنه سبب في طول الحساب"؛ فجوابه من أوجه5:
أحدها:
أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه؛ لزم أن يكون التارك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 416-417، رقم 595" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص461".
3 أليس قد يكون فعل المباح ترك واجب؛ فيكون غير تارك للحرام بفعل المباح؟
تأمل. "د".
4 أي: إن هذا المعارِض أقوى من الدليل المعارَض؛ لأنه كلي بخلاف أصل الدليل. "د".
5 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20-22".(34/257)
ص -181-…محاسبا على تركه، من حيث كان الترك فعلا، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح، وذلك محال؛ فما أدى إليه مثله.
وأيضا؛ فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب، مع أنه آت بحلال، وهو الترك؛ فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض، وهذا تناقض من القول.
والثاني:
أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك؛ لزم أن يُطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها، فقد قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، فقد انحتم على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك، وكذلك سائر المكلفين.
لا يقال: إن الطاعات يُعارض طلب تركها طلبها.
لأنا نقول: كذلك المباح، يعارض طلب تركه التخيير فيه، وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة.
والثالث:
أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح، فإن المباح هو أكل كذا مثلا، وله مقدمات، وشروط، ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا روعيت؛ صار الأكل مباحا، وإن لم تراع؛ كان التسبب والتناول غير مباح.
وعلى الجملة؛ فالمباح كغيره من الأفعال له أركان، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه.(34/258)
ص -182-…ولا يقال: إن الفعل كثير الشروط والموانع، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك؛ فإن ذلك فيه قليل، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك.
لأنا نقول: حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات، كان فعلا أو تركا، ولو بمجرد القصد.
وأيضا؛ فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل، من حقوق الله، أو حقوق الآدميين، أو منهما جميعا، يدل عليه قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه"1.
وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء2 -رضي الله عنهما- يبين3 لك هو وما في معناه أن الفعل والترك -في المباح على الخصوص- لا فرق بينهما من هذا الوجه؛ فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل، وإذا كان الأمر كذلك؛ ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح؛ فالفعل والترك سواء، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا؛ فالفعل والترك أيضا سواء.
وأيضا؛ إن كان في المباح ما يقتضي الترك؛ ففيه ما يقتضي عدم الترك؛ لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام}... إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 10-22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ 1968، وكتاب الآداب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم182".
2 سيأتي بلفظه وتمامه عند المصنف "2/ 247-248"، والمذكور آنفا قطعة منه.
3 في الأصل: "يتبين".(34/259)
ص -183-…وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ} إلى قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع، ثم الشكر عليها، وإذا كان هكذا؛ فالترك له قصدا يسأل عنه: لِم تركته، ولأي وجه أعرضت عنه، وما منعك من تناول ما أحل لك؟ فالسؤال حاصل في الطرفين، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله1.
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
أي: لا تبعة فيها، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7-8].
وفسره النبي -عليه السلام- بأنه العرض2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص224 وما بعد".(34/260)
2 وذلك فيما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، وذكره تعليقا في "كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، 11/ 400/ رقم 6536"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، 5/ 535/ رقم 3337" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح" - والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير/ رقم 679" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عُذب". قالت: قلت: قال الله, عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}. قال: "ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".(34/261)
ص -184-…وعذاب، وإلا؛ لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6].
أعني: سؤال المرسلين، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات؛ كما سيذكر على إثر هذا1.
والثاني من الأمور العارضة:
أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين؛ فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا، وذلك منقول عنهم تواترا؛ كترك الترفه في المطعم، والمشرب، والمركب، والمسكن، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب، وأبو ذر، وسلمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وعلي بن أبي طالب، وعمار، وغيرهم -رضي الله عنهم- وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب "الجهاد"، وكذلك الداودي في كتاب "الأموال"2؛ ففيه الشفاء، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح، ولو كان ترك المباح غير طاعة؛ لما فعلوه.
والجواب عن ذلك من أوجه3:
أحدها: أن هذه أولا حكايات أحوال؛ فالاحتجاج بمجردها من غير نظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام في هذا في "مجموع الفتاوى" "10/ 514، 515".
2 انظره بتحقيق رضا محمد سالم شحادة، طبع مركز إحياء التراث العربي - الرباط.
3 ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب في "مجموع الفتاوى" "10/ 150، 151، 514 و20/ 146".(34/262)
ص -185-…فيها لا يجدي، إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد، وسيأتي1 إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج.
والثاني: أنها معارضة بمثلها في النقيض.
فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل2.
ويأكل اللحم، ويختص بالذراع، وكانت تعجبه3.
وكان يستعذب له الماء4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "1/ 391 و2/ 458، 495".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب الحلوى والعسل، 9/ 557/ رقم 5431، وكتاب الأشربة، باب شرب الحلواء والعسل، 10/ 78/ رقم 5614، وكتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 8/ 139/ رقم 5682"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق/ رقم 1474 بعد 21"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل/ رقم 1832"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب شراب العسل/ رقم 3715"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب الحلواء/ رقم 3323"، وأحمد في "المسند" "6/ 59" عن عائشة, رضي الله عنها.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} "6/ 371/ رقم 3340", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها, 1/ 184/ رقم 194"، عن أبي هريرة، وذكر حديث طويلا فيها: "فرفعت إليه الذراع، وكانت تعجبه؛ فنهس منها نهسة".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب استعذاب الماء، 10/ 74/ رقم 5611"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب منه/ رقم 998" من حديث أنس؛ قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". =(34/263)
ص -186-…وينقع له الزبيب والتمر1.
ويتطيب بالمسك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرج أبو داود في "السنن" "رقم 3735"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 138"، وأحمد في "المسند" "6/ 108"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 158"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 149/ رقم 5332- الإحسان"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "رقم 245"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 394"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 125"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 1017، 1018"، و"شرح السنة" "رقم 3049" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يستعذب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السقيا".
وإسناده قوي، وجوده ابن حجر في "فتح الباري" "10/ 74".
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2207/ رقم 3013" ضمن حديث طويل جدا فيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الماء في أشجاب له على حمارة من جريد".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب نقيع التمر ما لم يسكر، 10/ 62/ رقم 5597" عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعرسه؛ فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور.
وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1950-1951/ رقم 2006"، وخرجته مسهبا في تحقيقي لكتاب ابن حيويه "ت 366هـ" "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص43-44".(34/264)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب، 1/ 381/ رقم 270، 271"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام/ رقم 1190" عن عائشة: "أنا طيبت رسول الله ثم طاف في نسائه", وقالت: "وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي, صلى الله عليه وسلم" لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "يتطيب بأطيب ما يجد"، وعنده أيضا "برقم 1191"، عنها: "كنت أطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك".(34/265)
ص -187-…ويحب النساء1.
وأيضا؛ فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا؛ لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة؛ إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم، ولا شارك أحد أخاه المؤمن -ممن قرب عهده أو بعد- في رفده2 وماله مشاركتهم، يعلم ذلك من طالع سيرهم، ومع ذلك؛ فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا، ولو كان مطلوبا؛ لعلموه قطعا، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء، لكنهم لم يفعلوا؛ فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات؛ فنهوا عن ذلك، وأدلة هذه الجملة كثيرة، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى3 في "مقدمات ابن رشد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يأتي عند المصنف "2/ 240" في حديث: "حُبب إلي..."، وتخريجه هناك.
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "في البشر داعية فطرية إلى الأنس بالمرأة وملابستها، وليس في هذه الفطرة ما يمس الكمال الروحي بغضاضة متى وقفت بالنفس في غاية معتدلة، وكان تمتع صاحبها بالنساء في دائرة الحكمة والنظام؛ فحبه -عليه الصلاة والسلام- للنساء غريزة بشرية، ولكنها لم تتجاوز حد الاعتدال؛ فتلهيه عن معالي الهمم والجهاد في سبيل العبادة والدعوة إلى صراط الله المستقيم، ومن حكمة انتظامها في جملة دواعيه الفطرية؛ أن يتعلم المسلمون من معاشرته لأزواجه الطاهرات كيف تعاشر المرأة بعواطف المودة والرحمة والاحترام". ا. هـ.
وانظر فيما تقدم جميعا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 641 و22/ 124".
2 الرفد: العطاء والصلة. انظر: "لسان العرب" "ر ف د".(34/266)
3 لم يختلفوا في المفاضلة بين أصحاب الوصفين إلا باعتبار العمل الصالح اللاحق بكل منهما، وهو محل النظر والأخذ والرد بينهم؛ فلا محل للاعتراض الذي أوردها هنا بأن الفقر والغنى لا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح، وسيأتي للمؤلف في التعارض والترجيح آخر الكتاب بحث جيد في هذا المعنى. "د". =(34/267)
ص -188-…والثالث:1
إذا2 ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه؛ فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة، بل لأمور خارجة, وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك:
- منها: أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات، وحائل دون خيرات، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب، كما كانت عائشة -رضي الله عنها- يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح، فتتصدق به، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش3، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا، وهذا هو محل النزاع.
- ومنها: أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرًا لا يختاره لنفسه، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة؛ فيترك المباح لما يؤديه إليه، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام، أتي بفرس, فلما ركبه فهملج4 تحته؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي "م": "الفقير والغني".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الفقر والغنى حالان لا يحسبان في مراقي الكمال، ولا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح وما يفيض على جوانبه من أشعة الإخلاص وصفاء السريرة؛ فأعظم الرجلين عملا وأقواهما إخلاصا يكون أرفع مقاما في التقوى وأكرم منزلة عند الله من صاحبه، وفي استطاعة الغني أن يكون أفضل من الفقير مما يتيسر له من إقامة المشروعات العظيمة والمساعي التي يعم نفعها ويتجدد أثرها كل حين". وانظر: "5/ 367".
1 ينظر وجه الفرق بينه وبين الأول، غير الإجمال والتفصيل في المقاصد؛ إلا أن يقال: إنه روعي في الأول مجرد كونها حكايات أحوال، وهي لا يؤخذ بها دليلا بمجردها؛ فلا بد من عرضها على قواعد الشرع، ويكون قوله: "لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد"، وهي ما فصلها هنا ليس محل القصد فيما سبق. "د".
2 في "ط": "أنه إذا".
3 سيأتي تخريجه "ص191".(34/268)
4 أي: سار سيرا حسنا سريعا. انظر: "لسان العرب" "هـ م ل ج".(34/269)
ص -189-…عنه، ورجع إلى حماره1، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم، حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه2، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم- ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع؛ فيترك من حيث هو وسيلة، كما قيل: "إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال، ولا أحرمها"3، وفي الحديث: "لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرا لما به البأس"4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الخبر في "تاريخ المدينة" "3/ 822-823" لابن شبة.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، 1/ 482-483/ رقم 373"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، 1/ 391/ رقم 556"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام 2/ 72", وابن ماجه في "السنن" "كتاب اللباس، باب لباس رسول الله, صلى الله عليه وسلم 2/ 1176/ رقم 3550"، ومالك في "الموطأ" "1/ 91- مع "تنوير الحوالك""، وأبو عوانة في "المسند" "2/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 423" من حديث عائشة -رضي الله عنها- وليس عندهم "فكاد يفتنه"، وإنما "إنها ألهتني آنفا عن صلاتي"، وفي رواية عند البخاري: "فأخاف أن تفتنني"، ونقل المصنف العبارة السابقة عن "الأموال" للداودي "ص89".
3 في النسخ الثلاث: "ولا أحرمها"، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 209" عن ابن عمر، وفيه: "لا أخرقها"، وأورد نحوه عن مجموعة من التابعين، وانظر: "الحلية" "4/ 84، 7/ 284، 288".
ثم ظفرت بطرف من الخبر في "زهد أبي داود" "رقم 320" عن مالك بلاغا، ولم يهتد المحقق إلى لفظه بتمامه.(34/270)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 634/ رقم 2451"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، 2/ 1409/ رقم 4215"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 319"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 335"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 484"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 74-76/ رقم 909-912"، =(34/271)
ص -190-…وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية؛ نظر إلى محرم، أو تكلم فيما لا يعنيه، أو نحوه.
- ومنها: أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر "لغيره" أنه مباح، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة، ولم يتخلص له حله، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف؛ كقوله: "كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس"1، ولم يتركوا كل ما لا بأس به، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع.
- ومنها: أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله؛ إما للعون به على طاعة الله، وإما لأنه2 يحب أن يكون عمله كله خالصا لله، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له، فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة، أو عونا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدولابي في "الكنى" "2/ 34"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 446" من حديث عطية السعدي.
وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي، وروى ابن عقيل عن ابن يزيد أحاديث منكرة؛ كما قال ابن عدي في "الكامل" نقلا عن الدولابي: "ابن يزيد هذا ضعيف"، وضعف هذا الحديث شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 178"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق هذا الحديث ابن حزم في كتاب "الإحكام" ولفظه: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا لما به بأس"، ثم قال: "وفي سنده أبو عقيل وليس بالمحتج به".
1 مضى ما يشهد له.(34/272)
2 يغاير ما قبله في أن هذا دائما لا يكون عمله إلا لأحد هذه الأمور: أن تحضره نية عبادة، أو عون ما على عبادة، أو أخذه له من جهة الإذن؛ فيترك الفعل حتى يجد أحد هذه الأمور، ولعل الأخير يدعو إلى الترك في بعض الأحيان، وأن مجرد نية أخذه من جهة الإذن لا تكفي، بل تحتاج لشرط غير ميسور في كل وقت؛ فيوكل هذا لأهله، أما الأول؛ فإنه قد يتفق أن يتركه لأنه لم تحضره نية العون به على عبادة، ولا شك أن الثاني أرقى من صاحب الحال الأول. "د".(34/273)
ص -191-…عبادة، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ؛ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا؛ كالأكل والشرب ونحوهما؛ فإنه -إذا كان لغير حاجة- مباح كأكل بعض الفواكه، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية، والعون في الطاعة، وهذه كلها أغراض صحيحة، منقولة عن السلف, وغير قادحة في مسألتنا.
- ومنها: أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة: من علم، أو تفكر، أو عمل، مما يتعلق بالآخرة؛ فلا تجده يستلذ بمباح، ولا ينحاش1 قلبه إليه، ولا يلقي إليه بالًا، وهذا وإن كان قليلا؛ فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة، بل هو في طاعة بما اشتغل به، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أُتيت بمال عظيم فقسمته، ولم تبق لنفسها شيئا, فعُوتبت على تركها نفسها دون شيء، فقالت: "لا تُعنِّيني2، لو كنت ذكرتني لفعلت"3، ويتفق مثل هذا للصوفية، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له4 هو في حكم المغفول عنه.
- ومنها: أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا، والإسراف مذموم، وليس في الإسراف حد يوقف دونه، كما في الإقتار؛ فيكون التوسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتحرك. انظر: "لسان العرب" "ح و ش".
2 لا تعنيني؛ أي: لا تعترضيني. انظر "لسان العرب" "ع ن ن".
وفي بعض مصادر التخريج: "لا تعنفيني".
3 أخرجه الدارقطني في "المستجاد" "رقم 36، 37"، وابن سعد في "الطبقات" "8/ 67"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47، 48، 49"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 13"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738" بأسانيد بعضها صحيح.
4 كترك تناول بعض المأكولات؛ لأن نفسه لا تقبل عليها ولا تتلذذ بها، وإن كان الغير على خلاف ذلك. "د".(34/274)
ص -192-…راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين؛ فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف، فيتركه لذلك، ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح، ولا يكون كما ظن؛ فكل أحد فيه فقيه نفسه.
والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك، ولا مطلوب الفعل؛ كدخول المسجد1 لأمر مباح هو مباح، ومن شرطه أن لا يكون جُنبا، والنوافل من شرطها الطهارة، وذلك واجب، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين؛ فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا.
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم؛ فلا تعدو هذه الوجوه، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم، والله أعلم.
والثالث من الأمور المعارضة:
ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا، وترك لذاتها وشهواتها، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا، وذم تاركه على الجملة، حتى قال الفضيل بن عياض: "جُعل الشر كله في بيت، وجُعل مفتاحه حب الدنيا، وجُعل الخير كله في بيت، وجُعل مفتاحه الزهد"2.
وقال الكتاني الصوفي: "الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي، ولا مدني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنظير لا تمثيل. "د".
2 أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 290"، والسلمي في "طبقاته" "ص13"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 247" بإسنادهم إلى الفضل.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها، ولا جَرَمَ أن من أحكم هذا الخلق يتمكن من اجتناب الحرام بسهولة، ويترفع عن الوصول إلى هذه الملاذ من طرق تخدش في وجه المروءة".(34/275)
ص -193-…ولا عراقي، ولا شامي؛ الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق".
قال القشيري1: يعني: أن هذه الأشياء لا يقول أحد: إنها غير محمودة.
والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال، أما الحرام؛ فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام، عام في أهل الإيمان، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص، وهو الزهد في المباح، فأما المكروه؛ فذو طرفين، وإذا ثبت هذا؛ فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه، ومحال أن يُمدح شرعا مع استواء فعله وتركه.
والجواب من أوجه:
أحدها:
أن الزهد -في الشرع2- مخصوص بما طُلب تركه حسبما يظهر من الشريعة؛ فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال؛ فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات، أو لغير ذلك مما تقدم.
والثاني:
أن أزهد البشر -صلى الله عليه وسلم- لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين، مع تحققهم في مقام الزهد.
والثالث:
أن ترك المباحات [من حيث إنه مباح]3؛ إما أن يكون بقصد أو بغير قصد، فإن كان بغير قصد؛ فلا اعتبار به، بل هو غفلة لا يقال فيه: "مباح"، فضلا عن أن يقال فيه: "زهد"، وإن كان تركه بقصد؛ فإما أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الرسالة" "ص57"، وأورد فيها مقولتي الفضيل والكتاني السابقتين.
2 انظر تعريفه في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 616-619، 11/ 28، 20/ 142".
3 زيادة من الأصل فقط.(34/276)
ص -194-…القصد مقصورا على كونه مباحا، فهو محل النزاع، أو لأمر خارج؛ فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد، وإن كان أخرويا؛ فالترك إذًا وسيلة إلى ذلك المطلوب؛ فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك، ولا نزاع في هذا.
وعلى هذا المعنى فسره الغزالي؛ إذ قال1: "الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه"، فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه، وقال في تفسيره: "ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة؛ لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه، وإلا؛ فترك المحبوب لغير الأحب محال"2. ثم ذكر أقسام الزهد، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال، ومن تأمل كلام المعتبرين؛ فهو دائر على هذا المدار.
فصل:
وأما كون المباح غير مطلوب الفعل؛ فيدل عليه كثير مما تقدم3؛ لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "إحياء علوم الدين" "4/ 216".
2 "4/ 217".
3 يجري فيه الدليل الأول لا الثاني، ويجري فيه الثالث باعتبار قوله: "ولا معقول في نفسه"، لا باعتبار قوله: "غير صحيح باتفاق"؛ لأنه في الترك غير متفق عليه، ولا يجري فيه الخامس، ويجري فيه السادس، وقد أعاده هنا بقوله: "أحدها"؛ لأنه احتاج هنا إلى كلام فيه وإلى رد على الكعبي ليس محله هناك، ويجري فيه الشق الأخير من الدليل السابع؛ فصح قوله: "يدل عليه كثير مما تقدم"، وعليك بالنظر في تطبيق ذلك. "د".(34/277)
ص -195-…وقد استدل من قال: إنه مطلوب1، بأن كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب؛ فكل مباح واجب... إلى آخر ما قرره الأصوليون عنه، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح -مع قطع النظر عما يستلزم- مستوي الطرفين، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح2؛ لوجوه:
أحدها:
لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا3 ألبتة؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب الكعبي وأتباعه، وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تصوير مأخذه على ثلاثة وجوه:
أحدها: أن كل فعل يوصف بأنه مباح عند النظر إليه بانفراده هو واجب باعتبار أنه ترك به حرام.
ثانيها: أن المباح مأمور به بناء على أنه حسن؛ فيحسن أن يطلبه الطالب لحسنه.
ثالثها: أن المباح من أضداد المحروم؛ فيكون مأمورا به بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده، والقول الفاصل في هدم هذه المآخذ من أساسها هو ما نبه عليه المصنف من أن تمايز الأحكام يرجع إلى قصد الشارع, ومقصود الشارع بخطاب الإباحة أن يكون المباح موكولا إلى خبرة المكلف ولا قصد له في فعله دون تركه ولا في تركه دون فعله. "خ". وانظر في الرد على الكعبي: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 530-548"، و"البرهان" "1/ 294"، و"المحصول" "2/ 207"، و"المستصفى" "1/ 75"، و"المنخول" "116"، و"البحر المحيط" "1/ 155"، و"شرح المنهاج" "1/ 115-117" لشمس الدين الأصبهاني.
2 لم يقل: وعند ذلك يكون الخلاف* لفظيًّا؛ لأنه وإن وافقهم في هذا؛ يرى أن استلزامه للواجب حتم؛ لأن فيه ترك محرم دائما، بخلافه عندهم؛ فإنه يجري عليه ما يجري على الذريعة، وتكون تسميته مباحا لا محصل لها على رأيه؛ فلا يوجد فعل في الخارج مباح أبدا؛ لأنه مهما وقع ما يسمى مباحا؛ فهو واجب، وهو مبنى الرد في الوجه الأول، وسيرتب عليه الوجه الثاني، وهو أن يكون وضع هذا القسم بين الأحكام الشرعية عبثا، ولا يقول هو بذلك كغيره "د".(34/278)
3 أي: في أي فعل معين. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخلف".(34/279)
ص -196-…يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا، وهذا باطل باتفاق؛ فإن الأمة -قبل هذا المذهب- لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة، كما تحكم عليها بسائر الأحكام، وإن استلزمت ترك الحرام؛ فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح.
والثاني:
أنه لو كان كما قال؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة، وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره.
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين؛ كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا؛ لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف، وقد فرضناه واجبا؛ فليس بمباح، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا؛ إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف.
والثالث:
أنه لو كان كما قال؛ لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية؛ لاستلزامها ترك الحرام؛ فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة، وتصير واجبة1.
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه؛ فهو باطل؛ لأنه يعتبر جهة الاستلزام، [فلذلك نفى المباح؛ فليعتبر جهة الاستلزام]2 في الأربعة الباقية فينفيها، وهو خلاف الإجماع والمعقول؛ فإن اعتبر3 في الحرام والمكروه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الموجود في الخارج فعل واحد، ولا يصح أن يكون حراما واجبا مثلا؛ إذ المعنى الذي يتقوم به مفهوم الواجب يعاند المعنى الذي يتقوم به مفهوم الحرام، ويستحيل وجود فرد يصدق عليه مفهومان يتقومان من أمرين متناقضين. "خ".
2 غير موجود في الأصل.
3 أي: لتبقى الأحكام الأربعة ولا تنفى؛ حتى يخلص من القول بما يخالف المعقول، وذلك بألا يعتبر فيها جهة الاستلزام، بل جهة النهي أو الأمر. "د".(34/280)
ص -197-…جهة النهي، وفي المندوب جهة الأمر -كالواجب- لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح؛ إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما.
فإن قال: يخرج المباح عن كونه [مباحا]1 بما يؤدي إليه، أو بما يتوسل به إليه؛ فذلك غير مسلم، وإن سُلِّم؛ فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والخلاف فيه معلوم؛ فلا نسلم أنه واجب، وإن سلم؛ فكذلك الأحكام الأخر، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع.
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه، ولا في تركه دون فعله، بل قصده جعله لخيرة المكلف، فما كان من المكلف من فعل أو ترك، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه؛ فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة، أيهما2 فعل فهو قصد الشارع، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه، ولا في الترك بخصوصه.
لكن يرد على مجموع الطرفين3 إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص، وإلى تركه على الخصوص.
فأما الأول؛ فأشياء:
- منها: الأمر بالتمتع بالطيبات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير موجودة في الأصل.
2 ليست في "م".
3 أي: استواء الفعل والترك في المباح؛ فالإشكال السابق كان على كون الترك ليس مطلوبا، أما هنا؛ فعلى كون كل منهما غير مطلوب، فيقال: كيف وقد طلب الفعل وطلب الترك أيضا؟ فهل مع هذا يقال: إن المباح يستوي طرفاه؟ "د".(34/281)
ص -198-…فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 51].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال.
وأيضا؛ فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها، وقررت عليهم؛ فهم منها القصد إلى التنعم بها، لكن بقيد الشكر عليها.
- ومنها: أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطييات، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم؛ فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32]؛ أي: خلقت لأجلهم، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، لا تِبَاعة1 فيها ولا إثم؛ فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها2.
- ومنها: أن هذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟! هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع, بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه؛ فليقبل، ثم ليشكر له عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التباعة كالتبعة: ما فيه إثم يتبع به. انظر: "لسان العرب" "ت ب ع".
2 الإنكار في الآية واقع على تحريم الزينة والطيبات؛ أي: الحكم عليها بالحرمة، وهذا الحكم مخالف للواقع, وقول على الله بغير بينة؛ فيكون محظورا، ويستحق صاحبه الإنكار والإنذار، وليس في الآية وجه يمكن الاستئناس به لرجحان استعمال الزينة والطيبات سوى ذكرها على وجه أنها نعمة خلقها الله ليتمتع بها عباده المخلصون. "خ".(34/282)
ص -199-…وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى، حيث قال عليه السلام: "إنها صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته"1، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه: "أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك؟ ألم تغضب؟"2، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 686"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب في تقصير الصلاة في السفر، 3/ 116-117"، والترمذي في "الجامع" أبواب التفسير، باب سورة النساء/ رقم 3034، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة/ رقم 1199/ 1200" من حديث عمر, رضي الله عنه.
2 لم يرد في مسألة القصر كما قال المصنف، وإنما في الفطر.
أخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 103" بسند حسن عن بلال بن عبد الله بن عمر؛ أنه سأل أباه عبد الله بن عمر؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نكون في السفر، فيكون الطعام والخبيص، فلعلنا نرحل غدوة، فلا ننزل حتى تغرب الشمس؛ فنحب أن نصوم بعض الذي علينا. فقال ابن عمر: أرأيت لو أنك أهديت لرجل هدية فردها عليك، ألم تجد في نفسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزيمته.
وأخرجه الديلمي في "الفردوس" "1/ 2/ 226" بسند ضعيف، وفيه أن هذه الزيادة وقعت بين ابن عمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إسنادها إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وأبو بكر بن محمد وهو مجهول، قاله عبد الحق في "الأحكام"؛ كما في "اللسان" "6/ 349"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 2196".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي.(34/283)
وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى.(34/284)
ص -200-…وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب؛ كالفطر في السفر، أو التحريم؛ كما قاله طائفة في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخرها, وإذا تعلقت المحبة بالمباح؛ كان راجح الفعل.
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه.
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص؛ فجميع ما تقدم من ذم [التنعمات]1 والميل إلى الشهوات على الجملة، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة؛ كالطلاق السني2؛ فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"3، ولذلك لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 وهو الذي رسمته السنة بأن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، أما البدعي؛ فليس بمباح حتى يمثل به. "د".
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق, باب في كراهية الطلاق، 2/ 255/ رقم 2178" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322"- وابن عدي في "الكامل" "6/ 2453" من طريق محمد بن خالد الوهبي عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، شذ محمد بن خالد الوهبي في وصله, فرواه من هو أوثق منه وأكثر عددا فأرسلوه، وهذا البيان:(34/285)
أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 2177", ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322": ثنا أحمد بن يونس، والبيهقي أيضا "7/ 322" من طريق يحيى بن بكير، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 253" من طريق وكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك في "البر والصلة" -كما في "المقاصد الحسنة" "12"- وأبو نعيم الفضل بن دكين -كما قال الدارقطني في "العلل" "4/ ق 52/ ب"-، خمستهم عن معرف بن واصل عن محارب مرسلا دون ذكر "ابن عمر" فيه، وهذا هو الصواب، وهو الذي رجحه أبو حاتم -كما في "العلل" "1/ 431" لابنه- والدارقطني في =(34/286)
ص -201-…يأتِ به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم، وإنما جاء مثل قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "العلل" "4/ ق 52/ ب"، والخطابي في "معالم السنن" "4/ 231"، وإليه مال البيهقي حيث رجح رواية أبي داود عن أحمد بن يونس المرسلة على رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أحمد بن يونس الموصولة -وهي عند الحاكم "2/ 196"، والبيهقي- حيث قال عقبها: "ولا أراه -أي: ابن أبي شيبة- حفظه".
وقد جاء الحديث موصولا من حديث ابن عمر، ولكن من طريق المعتمد عليها: "كالقابض على الماء"، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2018"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 14"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 64" -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" "رقم 1056"- وتمام في "الفوائد" "رقم 798- ترتيبه" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ ق 103/ أ"- وابن عدي في "الكامل" "4/ 1630" من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب به.
والوصافي ليس بشيء؛ كما قال ابن معين، وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث؛ فإسناده ضعيف جدا.
وفي الباب عن معاذ عند الدارقطني في "السنن" "4/ 35"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 694" بلفظ: "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق"، وله ألفاظ أخرى، وإسناده ضعيف.(34/287)
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "وهو محمول على الصور التي لا يتحقق فيها الموجد للفراق؛ فإنه يكون وقتئذ من المكروه الذي يناله نصيب من بغض الله لما يترتب عليه من الإساءة للزوجة أو أقاربها، أو الولد الذي تتركه من خلفها، وإنما سمي بالحلال؛ لأن الحلال يطلق على ما يقابل الحرام؛ فيتناول المباح والمكروه".(34/288)
ص -202-…ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة1.
وجاء: "كل لهو باطل إلا ثلاثة"2.
وكثير من أنواع اللهو مباح، واللعب أيضا مباح، وقد ذم.
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر، وذلك مما يدل على [أن]3 المباح يتعلق به الطلب فعلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تجعله مرجوحا، كما أن تعلق الحب بالرخصة المباحة يجعل المباح راجحا. "د".
2 وتتمته: "رميه الصيد بقوسه، وتأديبه فرسه, وملاعبته امرأته؛ فإنه من الحق".
أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 95"، والطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 120/ ب"- بإسناد ضعيف عن أبي هريرة فيه سويد بن عبد العزيز، قال أحمد: "متروك"، وضعفه الجمهور، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" "5/ 269".
وقد وهم فيه سويد، إنما هو عن ابن عجلان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين مرسلا، كما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، 4/ 174/ رقم 1637".
أفاده أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان؛ كما في "العلل" "1/ 302/ رقم 905" وزاد ابن أبي حاتم:
"قال أبي: ورواه ابن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الشعثاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أيضا مرسل".
قلت: وروايته أخرجها سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 2454-ط الأعظمي".
وأخرجه موصولا من طريق آخر عن أبي هريرة القراب في "فضائل الرمي" "رقم 12"، وإسناده ضعيف جدا، فيه عمر بن صبح، متروك، وقد اتهم.
انظر: "المجروحين" "2/ 88"، و"الميزان" "3/ 206".
وللحديث شواهد بألفاظ مقاربة يصل بها إلى درجة الصحة، خرجتها في "فضائل الرمي" للقراب، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 315".
3 ليست في الأصل.(34/289)
ص -203-…وتركًا على غير الجهات المتقدمة1.
والجواب من وجهين2، أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فالإجمالي أن يقال: إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين؛ فكل ما ترجح أحد طرفيه؛ فهو خارج عن كونه مباحا، إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح، وإما لأنه مباح في أصله, ثم صار غير مباح لأمر خارج، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة3.
وأما التفصيلي؛ فإن المباح ضربان:
أحدهما: أن يكون خادما لأصل ضروري، [أو حاجي]4، أو تكميلي.
والثاني: أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يُراعى من جهة ما هو خادم له؛ فيكون مطلوبا ومحبوبا5 فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء6، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الخارجة عنه، الآتية بطريق الاستلزام يعني: بل ذلك راجع لنفس المباح؛ فلا تصلح هنا الأجوبة المتقدمة "د".
2 في الأصل: "جهتين".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".
4 ليست في الأصل.
5 في "م" و"خ": "محبوبا ومحبوبا"!
6 يعني أنه باعتبار هذا المأكول بعينه، وهذا الجزئي من الملبس والمشرب بخصوصه مباح، وباعتبار أنه يخدم ضروريا وهو إقامة الحياة -وهي جهة كلية- يكون مطلوبا ويؤمر به، لا من جهة خصوصيته، بل من جهة كليته؛ فليس الأمر آتيا من جهة كونه خوخا أو تفاحا أو خبزا في وقت كذا، بل من الوجهة العامة، ومن هنا يجيء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى غير ذلك من صيغ الأوامر. "د".(34/290)
ص -204-…مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب؛ فالأمر به راجع إلى حقيقته1 الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
والثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء كالطلاق2؛ فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة، واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص، وفي هذا الزمان مباح وحلال، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا، وقد تقدم، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري؛ كالدين3 -على الكافر والتقوى على العاصي- كان من تلك الجهة مذموما، وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح، ولكنه مذموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا غير الاستلزام وغير الأمور الخارجية التي سبق الكلام عليها في الرد على الكعبي. "د".
2 فالطلاق خادم لترك النكاح الحلال الذي يخدم ضروريا كليا هو إقامة النسل؛ فالطلاق خدم ما ينقض أصلا كليا وحاجيا أيضا كما سيقول. "د".
3 فإن المال واقتناءه حلال في ذاته، ولكنه قد يكون فتنة تلحق الشخص؛ فيكون سببا في الكفر أو الاستمرار عليه، وهذا في الكافر، وقد يكون سببا في خرم التقوى وهدمها بالنسبة للمسلم العاصي "د".(34/291)
ص -205-…ولم يرضه العلماء1، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد؛ لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية.
وفي القرآن: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]؛ إذ2 يشير إلى هذا المعنى.
وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة"3، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث، ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى، بخلاف اللعب مع الزوجة؛ فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل، وبخلاف تأديب الفرس، وكذلك اللعب بالسهام؛ فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد4، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل، وجميع هذا بين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه5.
وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية؛ فلنضعه [ها] هنا، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العقلاء".
2 في الأصل: "قد".
3 مضى تخريجه قريبا.
4 عده هنا من التكميليات، وسيعده في كتاب المقاصد من الضروريات، ولا تعارض بين المقامين؛ إذ لا مانع من جعله ضروريا في حال، وتكميليا في حال؛ فالأول فيما إذا ترتب على تركه هرج وفساد، وفوت حياة دنيوية أو أخروية، والثاني فيما إذا دعت إليه حاجة كون كلمة الإسلام هي العليا، أو توقف عليه كف بعض الأذى عن المسلمين. "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "عد المصنف في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد الجهاد في قسم الضروريات، وهو الذي يقتضيه تعريف الضروري بما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا؛ فإن هذا المعنى متحقق في الحرب التي يقصد بها دفاع الهاجمين أو مناجزة المتحفزين".
5 هذه هي فائدة الإشكال والجواب عنه، ولم تستفد من أول المسألة، ولا من الجدل الماضي كله، وفي الحقيقة قد أخذ من هنا تقييد الكلام السابق وتنقيحه، وأنه لا بد أن نزيد هذه الكلمة الوجيزة "بخصوصه" "د".(34/292)
قلت: ونحو ما سبق عند البغوي في "شرح السنة" "10/ 383"، وابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 371"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 516, 21/ 48، 30/ 216، 32/ 223".(34/293)
ص -206-…المسألة الثانية في الإباحة:
فيقال: إن الإباحة1 بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي؛ فالمباح يكون مباحا بالجزء، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب2، ومباحا بالجزء، منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة3 أو المنع.
فهذه أربعة أقسام:
فالأول:
كالتمتع بالطيبات4؛ من المأكل، والمشرب، والمركب، والملبس، مما سوى الواجب من ذلك, والمندوب المطلوب في محاسن العبادات، أو المكروه في محاسن العادات؛ كالإسراف؛ فهو مباح بالجزء، فلو ترك بعض الأوقات5 مع القدرة عليه, لكان جائزا كما لو فعل، فلو ترك جملة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة: مصدر أباحه له إباحة؛ أي: أحله له، والمباح: الحلال. "ماء".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 461".
3 في "ط": "الكراهية".
4 أي: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واجبا "كما إذا اقتضته ضرورة حفظ الحياة أو دفعت إليه حاجة رفع الحرج"، ولا مندوبا "كما إذا كان داخلا فيما هو من محاسن العادات"، ولا مكروها "كما إذا كان فيه إخلال بمحاسنها، كالإسراف في بعض أحواله" نقول: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واحدا من هذه الثلاثة يكون مباحا بالجزء مندوبا بالكل، فلو تركه الناس جميعا وأخلوا به, لكان مكروها، فيكون فعله كليا مندوبا إليه شرعا. "د".
5 مقتضاه مع سياق الأحاديث أنه مباح بالجزء مندوب بالكل في حق الشخص الواحد بعينه، وقوله بعد: "لو تركه الناس جميعا؛ لكان مكروها"، يقتضي أن طلبه كفائي، لو قام به البعض سقط عن الباقي، ولو كان قادرا عليه فلم يفعله رأسا؛ لم يكن مكروها، ولعل الأول هو المعول عليه، ويشهد له قوله في الثاني: "إذا اختار أحدها، أو تركها الرجل في بعض الأحيان أو تركها بعض الناس" "د". وفي "ط": "ترك ذلك في بعض...".(34/294)
ص -207-…لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه؛ ففي الحديث: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم"1، و: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"2، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته: "أليس هذا أحسن؟"3، وقوله: "إن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء 1/ 475/ رقم 365" عن أبي هريرة ضمن حديث، فيه: "إذا وسع الله فأوسعوا".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب الحنطة، 5/ 52-53" عن ابن عباس ضمن حديث آخر، في آخره: "قال علي: أما إذا أوسع الله, فأوسعوا".
وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 911" بسند صحيح إلى عمر -رضي الله عنه- قال: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة؛ منها: حديث عمران بن حصين, أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله -عز وجل- على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح.
وانظر سائر الشواهد في "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75".(34/295)
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 949" من طريق عطاء بن يسار؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع؛ فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان".
وإسناده ضعيف بهذا اللفظ؛ لإرساله، وسائر رجاله ثقات.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 50": "ولا خلاف عن مالك أن هذا الحديث مرسل، =(34/296)
ص -208-…جميل يحب الجمال"1، بعد قول الرجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة"، وكثير من ذلك، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان مكروها.
والثاني: كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع، والشراء، ووجوه الاكتسابات الجائزة؛ كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
وكثير من ذلك، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء؛ أي: إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها؛ فذلك جائز، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد يتصل معناه من حديث جابر وغيره".
قلت: أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب اللباس، باب في غسل الثوب/ رقم 4062"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب تسكين الشعر, 8/ 183-184"، وأحمد في "المسند" "3/ 357"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 23/ رقم 2026"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1438- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 186"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 78"، وابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 52-53"، بسند صحيح على شرط الشيخين عن جابر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه، فقال: "أما وجد هذا ما ينقي ثيابه؟!" ورأى رجلا ثائر الشعر، فقال: "ما وجد هذا ما يسكن به شعره؟!".
وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "1/ 122" للترمذي وغيره، وقال: "بإسناد جيد".
قلت: أخشى أن يكون العراقي قد رمز له بـ"ن"؛ فتحرفت إلى "ت"، وعلى كل؛ فعزو الحديث للترمذي خطأ، والله الموفق.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان, باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.(34/297)
ص -209-…أو تركها بعض الناس1؛ لم يقدح ذلك, فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل.
والثالث:
كالتنزه2 في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، واللعب المباح بالحمام، أو غيرها؛ فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فعل يوما ما، أو في حالة ما؛ فلا حرج فيه, فإن فعل دائما كان مكروها، ونسب فاعله إلى قلة العقل, وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح.
والرابع:
كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة؛ فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة، وأجري صاحبها مجرى الفساق، وإن لم يكن كذلك، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا، وقد قال الغزالي: "إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تصيره3 كبيرة"4، ومن هنا قيل5: "لا صغيرة مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا في غير الأكل والشرب مثلا، أما هما؛ فلا، بل الذي يجري فيهما قوله تركها في بعض الأحوال؛ فقوله: "فلو فرضنا ترك الناس كلهم" يعني: أو فرضنا ترك الشخص لمثل الأكل والشرب دائما وكليا لكان... إلخ، فهو مع كونه ذكر أحوالا كثيرة؛ اكتفى بافتراض الترك في بعضها فقط، مع اعتباره عموم الحكم لما بقي من وجوه الافتراض، ويمكن أن يقال نظيره في القسم الأول.
فكأنه قال في القسمين: ولو فرضنا ترك الشخص دائما وكليا, لكان تاركا للمندوب في الأول، وللواجب في الثاني فيما يكون فيه ذلك كالأكل والشرب. "د".
2 في هذا القسم والذي بعده جعل الكلام في الشخص الواحد جزئيا وكليا؛ فتنبه. "د".
3 في "ط": "تصيرها".(34/298)
4 في "إحياء علوم الدين" "4/ 22"، وانظر منه: "3/ 129"، وهذا النوع الأخير عند المصنف قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثلة ولا أدلة، كما يصعب التفريق بينه وبين سابقه؛ ففي كل منهما "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها -أي: تلك المباحات- تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها؛ لأنها حينئذ تصير هوى متبعا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر، وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى، ومن الأمثلة الجلية على هذا احتراف بعض الناس اليوم لبعض أنواع اللعب, فيصير الإنسان حرفته "لاعب"، وتصير حياته لعبا في لعب، وقريب من هذا ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال من كل أيامهم أو معظمها في المقاهي وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها، أفاده الريسوني.
5 في "ط": "قالوا".(34/299)
ص -210-…الإصرار"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب "خ" هنا ما نصه: "هذه مقالة لبعض الصوفية، وليست بحديث كما تخيله بعض من لا يتحرى في الرواية". وفي "ط": "إصرار".
قال أبو عبيدة: وردت المقولة السابقة على أنها حديث مرفوع عن:
- ابن عباس، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 853"، وأبو الشيخ، والديلمي، والعسكري في "الأمثال" -كما في "المقاصد" "467"- بسند ضعيف, فيه أبو شيبة الخراساني، أتى بخبر منكر؛ كما قال الذهبي في "الميزان" "4/ 537"، وذكره.
- أبي هريرة، أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" بسند واه بمرة، فيه مبشر بن عبيد الدارسي، وهو متروك، أفاده السخاوي.
وأخرجه من حديثه أيضا: الثعلبي وابن شاهين في "الترغيب" من طريق آخر لا يفرح بها، فيها بشر بن إبراهيم وضاع مشهور؛ كما في "اللسان" "2/ 18".
- عائشة، أخرجه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في "المبتدأ"، قاله السخاوي، وزاد: "وإسحاق حديثه منكر" قلت: وهو متهم بالوضع.
- أنس، أخرجه البغوي ومن جهته الديلمي، قال السخاوي: "وينظر سنده"، قال محشيه: "نظرت سنده؛ فوجدت فيه راويا مجهولا"؛ فالحديث لم يثبت مرفوعا، وثبت موقوفا على ابن عباس, وليس عن بعض الصوفية، وقد قلد المحشي في عبارته السابقة الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص47"؛ إذ المقولة مقولته!! -أخرج ابن جرير في "التفسير" "رقم 9207"، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 498، النساء: 31"- والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 7150"، وابن المنذر -كما في "المقاصد"- بسند صحيح؛ أن ابن عباس سئل: كم الكبائر؛ أسبع هي؟ قال: "إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار".
وانظر في ضابط الإصرار المصير للصغيرة كبيرة: "الذخيرة" "10/ 223" للقرافي.(34/300)
ص -211-…فصل:
إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل1؛ كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، والفجر2، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب؛ فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها, ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول -عليه السلام- من دوام على ترك الجماعة؛ فهم أن يحرق عليهم بيوتهم3، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار4، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إما كفائيا كالأذان وإقامة الجماعة، وإما عينيا كباقي الأمثلة؛ إلا ما يأتي بعد من النكاح، فوجوبه الكفائي بقدر ما يتحقق منه مقصود الشارع. "د".
قلت: وفي بعض الأمثلة المذكورة عند المصنف نزاع في كونها على الكفاية، وانتصر غير واحد من المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه- للقول بوجوب صلاة الجماعة والعيدين على الأعيان، والله الموفق.
2 هذا التمثيل غير صحيح, ولا وجه له إلا أن يكون فيه سقط تقديره "وسنة الفجر".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، 1/ 451/ رقم 651"، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ناسا في بعض الصلوات؛ فقال: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها؛ فآمر بهم، فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها" يعني: صلاة العشاء، لفظ مسلم.(34/301)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب ما يحقن الأذان من الدماء، 2/ 89-90/ رقم 610، وكتاب الجهاد، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، 6/ =(34/302)
ص -212-…مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني، وما أشبه ذلك؛ فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين، إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات؛ فلا تأثير له، فلا محظور في الترك.
فصل:
إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل؛ كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه1، فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة؛ لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها؛ قدحت في عدالته، وذلك2 دليل على المنع بناء على أصل الغزالي3، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج: "إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة؛ لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 111/ رقم 2943، 2944"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان" "1/ 288/ رقم 382" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه.
وعلق "خ" على الحديث بقوله: "فترك الأذان لم يكن السبب في الإغارة على القوم، وإنما كان كالدليل على أنهم لا زالوا على مناوأة الإسلام التي هي السبب في الإغارة عليهم، ولم يكن عليه السلام ليغير على قوم من العرب إلا بعد أن تبلغهم دعوته، ويجاهروا بعداوته، ويشهد بهذا قوله لعلي بن أبي طالب في هذه الغزوة نفسها: "على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام".
1 والحق أن اللعب بالنرد والشطرنج والغناء حرام، كما هو مقرر عند كثير من المحققين من أهل العلم. انظر: "الفروسية" لابن القيم "ص302 وما بعد-بتحقيقي".
2 وذلك "أي: قدح المداومة على المكروهات في العادة، وإخراج صاحبها عن أهل الشهادة" دليل على أنه اقترف ذنبا. "د".
3 وهو أن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، بل هذا أولى من المداومة على بعض المباحات "د".(34/303)
ص -213-…تقبل شهادته"، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة1، والحلول بمواطن التهم لغير عذر، وما أشبه ذلك.
فصل:
أما الواجب إن قلنا: إنه مرادف للفرض؛ فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء، فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي، وإذا كان واجبا بالجزء؛ فهو كذلك بالكل من باب أولى، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا؟
أما بحسب الجواز2؛ فذلك ظاهر, فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها, ويعد مرتكب كبيرة؛ فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله؛ فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة، مع من كثر ذلك منه وداوم عليه، وما أشبه ذلك؛ فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها.
وأما بحسب الوقوع؛ فقد جاء ما يقتضي ذلك؛ كقوله -عليه السلام- في تارك الجمعة: "[من ترك الجمعة]3 ثلاث مرات طبع الله على قلبه"4؛ فقيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كتابنا: "المروءة وخوارمها"؛ فقد فصلنا -ولله الحمد- في ذلك.
2 أي: جواز ذلك وإمكان وقوعه شرعا، ويأتي مقابله، وهو الوقوع بالفعل في قوله: "وأما بحسب الوقوع". "د".
3 ساقطة من الأصل، والسياق واضح بدونها.
4 ورد عن أبي الجعد الضمري، بلفظ: "من ترك ثلاث جمع تهاونا؛ طبع الله على قلبه".
أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة، 1/ 277/ رقم 1052"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، 3 =(34/304)
ص -214-…بالثلاث كما ترى، وقال في الحديث الآخر: "من تركها1 استخفافا بحقها أو تهاونا"2، مع أنه لو تركها3 مختارا غير متهاون ولا مستخف؛ لكان تاركا للفرض؛ فإنما قال ذلك لأن [تركها]4 مرات أولى في التحريم، وكذلك5 لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون، وانبنى على ذلك في الفقه: أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر؛ لم تجز شهادته. قاله سحنون، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا6 تركها مرارا لغير عذر؛ لم تجز شهادته7. وكذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 277/ رقم 1052"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، 1/ 357/ رقم 1125"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الص لاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، 2/ 373/ رقم 500"، وأحمد في "المسند" "3/ 424"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 175، 176/ رقم 1875، 1876"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 230"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 280"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 237-238/ رقم 258 و4/ 198/ رقم 2775- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 172"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 213/ رقم 1053"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "1/ 21-22"، والمروزي في "فضل الجمعة" "رقم 62" بإسناد قوي، كما قال الذهبي في "الكبائر" "ص208- بتحقيقي"، وصحح الحديث جماعة، انظر: "التلخيص الحبير" "2/ 52".
1 ذكر الحديث بهذه الرواية على ما فيها ليفيد أن الشارع رتب على تكرار الترك ما رتبه على الترك تهاونا واستخفافا، ولا يخفى عظم جرم الاستخفاف؛ فدل على أن جريمة التكرار أكبر من جريمة المرة الواحدة، ولا يخفى عليك حكمة ذلك؛ فإن تكرار الترك لغير عذر وإن لم تشعر النفس فيه بالاستخفاف، ولم يخطر بالبال؛ إلا أنه في الواقع لا بد أن يكون مركوزا في نفس الشخص الذي يتكرر منه الترك؛ لأنه هو السبب الحقيقي للتكرار، كما يشير إليه كلامه بعد. "د".
2 تقدم نحوه في الحديث السابق.(34/305)
3 أي مرة واحدة؛ لكان تاركا للفرض؛ أي: ولم يرتب عليه الطبع على القلب. "د".
4 ما بين حاصرتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 لعل صوابه "كما"، ويكون بيانا لحكمة ذكر الحديث الثاني. "د".
6 في "د": "إذ".
7 بعدها في النسخ المطبوعة: "قاله سحنون"، وليس لها معنى، وهي ليست في الأصل، وأشار إلى ذلك محقق "د" بقوله: "انظر ما معنى إعادتها؟ فلعل هنا تحريفا".(34/306)
ص -215-…يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك: إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة، فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته، وصار في عداد من فعل كبيرة، بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
وأما إن قلنا: إن الواجب ليس بمرادف للفرض؛ فقد يطرد فيه ما تقدم، فيقال: إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل1، لا مانع يمنع من ذلك؛ فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم؛ فيقال في الفرض2: إنه يختلف بحسب الكل والجزء، كما تقدم بيانه أول الفصل.
وهكذا القول في الممنوعات: إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما، أو في حالة ما؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر، بل يختلف الحكم فيها, كالكذب من غير عذر, وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها، وقد ينضاف3 الذنب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فينزل الواجب منزلة المندوب فيما سبق, ويكون جزئيه واجبا وكليه فرضا، بل يكون هذا أولى من المندوب، وعليه لا يخرج الواجب عن الطريقة التي شرحت في المندوب والمكروه والمباح، واختلافها جزئيا عنهما كليا، وأخذ الكلي حكما* آخر من الأحكام الخمسة غير ما كان في الجزئي. "د".
2 أي: أيضا كما قيل في الواجب والأقسام قبله، لكن بالطريقة التي ذكرها في هذا الفصل، وأن جريمة التكرار أكبر من الترك، وهكذا مما سبق له، لا أنه يأخذ لقبا آخر من ألقاب الأحكام الخمسة لم يكن له قبلا في الجزئية، ومثله يقال في الحرام. "د".
3 في الأصل: "يضاف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "حكم"!(34/307)
ص -216-…الذنب؛ فيعظم بسبب الإضافة؛ فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه، ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر -مع أن السرقة معدودة من الكبائر- وقد قال الغزالي: "قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر، -قال:- ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة، ولم يتفق عوده إليها، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره"1.
فصل:
هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق2.
ولمدع3 أن يدعي اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية.
أما في المباح؛ فمثل قتل كل مؤذ، والعمل بالقراض، والمساقاة، وشراء العرية، والاستراحة بعد التعب، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب، والتداوي، إن قيل: إنه مباح4؛ فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إحياء علوم الدين" "4/ 32"، وفي الأصل المخطوط: "غيره" بدل "عمره".
2 أي: في الحكم بين الجزئي والكلي، ويجعل ذلك قاعدة كلية مطردة لا تتخلف "د".
3 أي: له أن ينازع في اطراد القاعدة، ويقول: بل قد يستوي حكم الكلية والجزئية، وذاك في مثل الأمثلة التي ذكرها ووجدها في كل نوع من أنواع الأحكام الخمسة "د".
4 هذا مذهب طائفة من الفقهاء، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأخذ بالتداوي أفضل من تركه، ونظر فريق من المحققين إلى صحة قوانين الطب وكثرة إصابة الأطباء الماهرين في تطبيقها عمليا؛ فقالوا: متى خيف على النفس الوقوع في خطر، وغاب على الظن نفعه؛ كان أمرا واجبا، وأجازوا جميعا حتى الطائفة القائلة بالإباحة تمكين الطبيب من بعض الوسائل المحرمة بحسب الأصل؛ كلمس الأجنبية، والنظر إلى العورة. "خ".(34/308)
ص -217-…فعلها ولا من تركها إثم، ولا كراهة، ولا ندب، ولا وجوب، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا؛ فهو كما لو فعلوه كلهم.
وأما في المندوب؛ فكالتداوي إن قيل بالندب فيه؛ لقوله, عليه السلام: "تداووا"1، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية؛ لقوله: "إذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة"2؛ فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها3 ولا ممنوعا، وكذلك لو فعلها دائما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، 4/ 3/ رقم 3855"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، 4/ 382/ رقم 2038"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "1/ 62-63"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 2/ 1137/ رقم 3436"، وأحمد في "المسند" "4/ 278"، والبخاري في "الأدب المفرد" "291"، والحميدي في "المسند" "824"، والطيالسي في "المسند" "1747"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 323"، والطبراني في "الصغير" "1/ 202، 203"، و"الكبير" "1/ 144-151"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 399" بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، ولفظه: "نعم يا عبد الله! تداووا؛ فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد". قالوا: وما هو؟ قال: "الهرم".(34/309)
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة، 4/ 23/ رقم 1409" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، 7/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 3170"، وأحمد في "المسند" 4/ 123، 124، 125"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 60" من حديث شداد بن أوس مرفوعا، وأوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم...".
3 الجاري على ما تقدم أن يقول: لم يكن ممنوعا، وأيضا؛ فالذي يراد نفيه هنا أن تكون واجبة بالكل، أي: فيكون تركها دائما ممنوعا على وزان ما تقدم، أما كونه ليس مكروها؛ فمن جهة أن ضد المندوب المكروه. "د".(34/310)
ص -218-…وأما في المكروه؛ فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ1، والاستجمار بالحممة2 والعظم وغيرهما مما ينقي؛ إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن3، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم، وكذلك البول في الجحر4، واختناث الأسقية في الشرب5، وأمثال ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في حديث ابن عباس: "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أربع من الدواب: النملة..." أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب, باب في قتل الذر، 4/ 367، 5267"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله، 2/ 1074/ رقم 3224"، والدارمي في "السنن" "2/ 88-89", والطحاوي في "المشكل" "1/ 371"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 649"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، كلهم من طريق عبد الرزاق -وهو في "المصنف" "رقم 8415"- عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس به.
قال أبو زرعة, كما في "العلل" "2/ 302" لابن أبي حاتم: "أخطأ فيه عبد الرزاق، والصحيح من حديث معمر عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل".
والحديث صحيح، وله طرق أخرى عن ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 332، 347" -ومن طريقه القطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 58"- وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5617"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 142/ رقم 2490".
2 الحممة: الفحمة الباردة، وكل ما احترق من النار. انظر: "لسان العرب" "ح م م".
3 كما في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في "كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، 1/ 255/ رقم 155، وكتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، 7/ 171/ رقم 3860".
ولفظ "الحممة" جاء في حديث ابن مسعود، أخرجه أبو داود في "كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، 1/ 10/ رقم 39" بإسناد صحيح.(34/311)
4 كما في حديث عبد الله بن سرجس، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الحجر، 1/ 8/ رقم 29"، وأحمد في "المسند" "5/ 82"، وإسناده ضعيف.
5 كما في حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، 3/ 1600/ رقم 2023"، ونصه: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اختناث الأسقية".(34/312)
ص -219-…وأما في الواجب والمحرم؛ فظاهر أيضا التساوي، فإن الحدود وضعت على التساوي؛ فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة، وقاذف الواحد1.
كقاذف الجماعة، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس في إقامة الحدود عليهم، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك، وما أشبه ذلك.
وأيضا؛ فقد نص الغزالي على أن الغيبة، أو سماعها، والتجسس2، وسوء الظن، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكل الشبهات، وسب الولد والغلام، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة، وإكرام السلاطين الظلمة، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين؛ جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها؛ لأنها غالبة في الناس على الخصوص، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة؛ فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات، فإذا ثبت هذا؛ استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي، وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية.
ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تراجع هذه الأحكام في الفروع. "د".
2 التجسس: البحث عن عورات الناس، واستطلاع معائبهم ولو بقصد مجازاتهم عليها متى كانت تستوجب التأديب والعقوبة، قيل لابن مسعود كما أخرجه أبو داود وغيره: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال: "قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به، أما التجسس بالتنقيب عن أحوال الأمة والسعي بها إلى عدوها ليستعين بمعرفة شئونها الخفية على تمزيق وحدتها ووضع قيد الاستعباد في عنقها؛ فجناية تقتلع أصل العدالة من حيث نشأت، وأمر مرتكبها -كما نص فقهاء المالكية- موكول إلى اجتهاد من بيده الحكم النافذ، وله أن يحمله على أشد العقوبات، ويقضي على حياة تلك النفس السامة قبل أن تقضي على حياة أمة بأجمعها". "خ".(34/313)
ص -220-…أما الأول؛ فإن الكلى والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك، داخلهم الحرج من وجوه عدة، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا؛ فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد، فيكون الفعل إذًا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا، وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه؛ فلا استواء إذًا بين الكلي والجزئي فيه، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك؛ لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي، وناهيك به، نعم قد يسبق ذلك النظر1 إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي، وأما إذا تباعد ما بينهما؛ فالواقع ما تقدم، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه.
وأما ما ذكره في الواجب والمحرم؛ فغير وارد، فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر، وإن اتفقت في بعض، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة2، وإن سلم؛ ففي العدالة وحدها لمعارض راجح، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة؛ فتعذرت الشهادة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: نظر الاتفاق في الحكم بين الكلي والجزئي في هذه المسائل إذا كان الكلي قليل الشمول ضعيف العموم؛ فربما يقال: إن الشخص الواحد لو ترك قتل المؤذي أو العمل بالقراض أو المساقاة طول حياته؛ لما خرج عن حكم المباح، وكذا يقال في الباقي، أما إذا اتسع العموم؛ فإن الحكم لا يتفق، ولا يخفى عليك أنه تسليم في شيء مما يوهن القاعدة العامة الكلية التي قررها أول الفصل.
"د".
2 وهي اختلاف مراتب الممنوعات بالكلية والجزئية كما سبق. "د".(34/314)
3 يكتفي الفقهاء بالميسور من شروط العدالة من تعطيل الشهادة المفضي إلى إضاعة الحقوق واختلال شأن الأمن، قال القرافي في باب السياسة من كتاب "الذخيرة": "نص ابن أبي زيد في "النوادر" على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول؛ أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم وأقلهم فجورا، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح". ثم قال القرافي: "وما أظن أحدا يخالفه في هذا؛ فإن التكليف شرطه الإمكان". "خ". وانظر: "النوازل" للعلمي "3/ 28".(34/315)
ص -221-…فصل:
إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة؛ فقد يطلب الدليل على صحتها، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب، وانشراح الصدر؛ فيدل على ذلك جمل:
- منها: ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان، مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة، ولولا أن للمداومة تأثيرا؛ لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال، لكنهم اعتبروا ذلك؛ فدل على التفرقة، وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف.
- ومنها: أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق, وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات؛ إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر1 الكليات على حكم الاطراد، كالحكم بالشهادة, وقبول خبر الواحد، مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد، لكن الغالب الصدق؛ فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق, ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم، ولا طرح الظن بإطلاق، وليس كذلك, بل حكم بمقتضى ظن الصدق، وإن برز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تجز" بالزي، ولها وجه.(34/316)
ص -222-…بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية1 في حكم الكلية، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية، وأن شأن الجزئية أخف.
- ومنها: ما جاء في الحذر من زلة العالم، [فإن زلة العالم]2 في علمه أو عمله -إذا لم تتعد لغيره- في حكم زلة غير العالم، فلم يزد فيها على غيره، فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره، فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل، أو على مقتضى القول؛ فصارت عند الاتباع عظيمة جدا، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به، ويجري مجراه كل من عمل عملا فاقتدى به فيه؛ إن صالحا فصالح، وإن طالحا فطالح، وفيه جاء: "من سن سنة حسنة أو سيئة"3، و"إن نفسا تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كان هذا في أحكام وضعية لا الأحكام الخمسة التكليفية التي الكلام فيها؛ لأن الشهادة وقبولها من الأحكام الوضعية. ا. هـ. إلا أن يقال: إن مجاري العادات تدخلها الأحكام التكليفية أيضا، وأنت ترى أن هذه الأدلة الثلاثة إنما تدل على مجرد أصل الاختلاف بين الفعل الواحد كلا وجزءا، ولكن هل ذلك مطرد ومطرود بمعنى؟ وفي كل الأحكام الخمسة كما هي أصل الدعوى، أو في بعضها فقط؟ ا. هـ. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".(34/317)
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة، 5/ 75-77"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هوى فاتبع أو إلى ضلالة/ رقم 2675"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة/ رقم 203"، وأحمد في "المسند" "4/ 357-359"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 175-176" من حديث جرير -رضي الله عنه- بلفظ:
"من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص =(34/318)
ص -223-…أول من سن القتل"1، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب, وإن كانت في نفسها صغيرة، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية، وهو المطلوب.
المسألة الثالثة: اختلافات المباح
المباح يطلق بإطلاقين:
أحدهما: من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك.
والآخر: من حيث يقال: لا حرج فيه، وعلى الجملة؛ فهو على أربعة أقسام2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "فيدخل في معنى "سن" السنن استنباط الرجل لأصل أو حكم شرعي ينبني عليه عمل صالح, أو ابتكاره مشروعا، أو نظاما له أثر في إصلاح شأن وتأييد قوة الدفاع عن حقوق البلاد كما يتناول إظهاره عملا نافعا يترتب على قيامه به بين الناس اقتداؤهم بأثره، وإن عرف حكمه من قبل، وسبب ورود الحديث كان من هذا القبيل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين جاء رجل من الأنصار بصرة من وَرِق لتنفق على أناس من الأعراب كانوا في حاجه، ثم جاء آخر، وتتابع المسلمون على ذلك، وكذلك يجري معنى سن السنن السيئة على نظير هذا البيان".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب منه، 7/ 81-82"، وابن أبي عاصم في "الديات" "ص23" وغيرهم من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
في "د": "لا تقتل ظلما", ولا معنى لزيادة "لا" في هذا الموضع؛ إلا إن كانت: "لا تقتل..."، والتصحيح من الأصل.
2 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".(34/319)
ص -224-…أحدها: أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل.
والثاني: أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك.
والثالث1: أن يكون خادما لمخير فيه.
والرابع: أن لا يكون فيه شيء من ذلك.
فأما الأول؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الفعل بالكل، وأما الثاني؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الترك بالكل، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها، وأما الثالث والرابع؛ فراجعان إلى هذا القسم الثاني.
ومعنى هذه الجملة؛ أن المباح -كما مر- يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما، والخدمة هنا2 قد تكون في طرف الترك؛ كترك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستعرف أنه على ما قرره لا يكون هذا التقسيم ظاهرا؛ فلا يتأتى وجود الثالث والرابع. "د".
وكتب ناسخ الأصل ما صورته:
"قوله: والثالث أن يكون خادما لمخير فيه... إلخ, فإن قيل عليه: انظر ما قرره في هذه من أن خادم المخير فيه من مطلوب الترك؛ فالكل مع ما يقرره فيما بعدها من أن المخير فيه مطلوب الفعل بالكل؛ إذ مقتضاه أن يكون خادمه مثله.
قيل: الذي فيما بعدها هو أن مطلوب الفعل بالكل هو المخير فيه، وذلك يقتضي حصر المطلوب الكلي في المخير، فلا يلزم أن يكون كل مخير مطلوب الفعل؛ فلا تنافي بين كلاميه، ويدل عليه ما ذكره في هذه من أن القسم الثالث مثل الرابع؛ لأنه خادم له؛ فدل هذا على أن المخير فيه تارة يكون خادما لمطلوب الفعل بالكل، وتارة يكون خادما فيه غير خادم لشيء.
2 أي: في موضوع المباح قد تكون في طرف الترك، وقد تكون في طرف الفعل؛ أي: في كل من القسمين الأول والثاني، وإن اقتصر في التمثيل على جانب الترك في القسم الثاني, وجانب الفعل في القسم الأول، وتوضيح ذلك على هذا الفهم أن يقال: ترك سماع الغناء جزئيا خادم لترك =(34/320)
ص -225-…الدوام1 على التنزه في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، فإن ذلك هو المطلوب2، وقد يكون3 في طرف الفعل؛ كالاستمتاع بالحلال من الطيبات، فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب، من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات4، بخلاف المطلوب الترك؛ فإنه5 خادم لما يضادها6، وهو الفراغ من الاشتغال بها، والخادم للمخير فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدوام المطلوب، ونفس السماع خادم للمطلوب الترك وهو الكلي من اللهو، والتمتع بالطيبات خادم لكلي إقامة الضروري، وترك الجزئي خادم للترك الكلي المنهي عنه.
وقد أشار إلى مطلوب الترك كليا فيما يخدمه من جانب الفعل؛ فقال: "بخلاف المطلوب الترك" يعني: الجزئي الذي يخدم كليا مطلوب الترك؛ فإنه يكون خادما لما يضادها وهو الفراغ في الاشتغال بها.
ويحتمل أن يكون قوله "هنا"؛ أي: في خصوص مطلوب الفعل كليا، فإنه يكون بالترك؛ كمثال الغناء, وبالفعل كمثال الاستمتاع بالطيبات، وربما رشح هذا الاحتمال قوله بعد المثال الأول: "فإن ذلك هو المطلوب". "د".
1 لو قال: كترك التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام؛ فإنه مباح خادم لترك الدوام على التنزه وهو المطلوب، لكان جاريا مع بيانه بعد في طرف الفعل، ولظهر غرضه من أن مطلوب الفعل كما يخدمه الفعل يخدمه الترك إذا أجرينا كلامه على الاحتمال الثاني الذي أشرنا إليه. "د".
2 لأنه يخدم كليا مطلوبا هو إقامة الحياة. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "تكون"؛ بالتاء المثناة الفوقية.
4 هو إقامة الحياة. "د".
5 أي: فعل جزئيه خادم؛ أي: فالمطلوب الترك كليا يخدمه فعل المباح، وعلى ما قررنا أولا قد يخدمه أيضا، أي: يحققه ويعين على حصوله ترك المباح، وذلك كترك الاستمتاع بالمباح كليا؛ فإنه مطلوب الترك، ويخدمه مباح أهله وترك الاستمتاع بها جزئيا، وإن كان قد اقتصر على بيان خدمته جانب الفعل كما أشرنا إليه. "د".(34/321)
6 فإن الاشتغال باللهو الجزئي يتكون منه ومن جزئيات اللهو أمثاله فراغ من الاشتغال بالضروريات؛ فاللهو الجزئي خادم للهو الكلي الذي يضاد الضروريات. "د".(34/322)
ص -226-…على حكمه1.
وأما الرابع؛ فلما كان غير خادم لشيء يعتد به؛ كان عبثا، أو كالعبث عند العقلاء، فصار مطلوب الترك [أيضا]2؛ لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا، فهو إذًا خادم [لمطلوب3 الترك؛ فصار مطلوب]4 الترك بالكل، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له؛ فصار مطلوب الترك أيضا.
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، وأما بالكل؛ فهو إما مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك.
فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مخير فيه، هذا إذا كان المخدوم المحذوف جزئيا؛ كالمشي المباح لسماع الغناء مثلا؛ فلا ينافي أنه يأخذ -وهو كلي- حكما من الأحكام الباقية غير المباح، كما سبق، وبهذا يمكن تصوير مباح خادم لمخير، لكن قوله بعده: "والقسم الثالث مثله لأنه خادم له" يقتضي أنه خادم لمخير كلي, ويكون قوله في أول المسألة: "والثالث أن يكون خادما لمخير فيه"؛ أي: كلي, وقوله: "والرابع ألا يكون خادما لشيء من ذلك"؛ أي: إنه مباح لا يخدم كليا مطلقا، أو لا يخدم كليا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، ولا يخفى عليك أن هذا التقسيم بهذا المعنى لا يستقيم مع ما سبق من القاعدة التي أسهب في أدلتها، وهي أن المباح بالجزء لا بد أن يأخذ حكما آخر إذا نظر إليه كليا؛ فكيف يتصور أن يخدم المباح كليا مخيرا فيه أو كليا لا حكم له من الأحكام؟ على أنه سيصرح بأن القسمين الثالث والرابع من باب المطلوب الترك بالكل هو حكمه؛ فيقال: فيما يخدم المطلوب مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه، يقال: مطلوب بالترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".
2 ليست في الأصل.
3 في الأصل: "المطلوب".
4 ليست في الأصل.(34/323)
ص -227-…فالجواب أن لا؛ لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه، من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرت إليه في نفسه؛ فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة؛ فهو المسمى بالمطلوب بالكل1، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه؛ فلا قصد له في أحد الأمرين، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك، وهو -من جهة ما هو وقاية للحر والبرد، وموار للسوأة، وجمال في النظر- مطلوب الفعل، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين, ولا بهذا الوقت المعين؛ فهو نظر بالكل لا بالجزء.
المسألة الرابعة: انواع المباح
إذا قيل في المباح: إنه لا حرج فيه -وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين- فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك؛ لوجوه:
أحدها: أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة:
فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك؛ كقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وقوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني مثلا، وإلا؛ فالنظر إليه بالأمور الخارجية يجعله؛ إما من هذا، وإما من المسمى بالمطلوب الترك بالكل كما تقدم في اللهو، وبالجملة؛ فهذه المسألة لم تقرر قاعدة وأصلا زائدة على ما تقدم في المسألة قبلها، بل هي زيادة إيضاح لمسلك فهم مغايرة حكم الكلي للجزئي، وذلك باعتبار ضابط هو الخدمة، فما يخدمه الجزئي يأخذ هو حكمه؛ فيقال فيما يخدم المطلوب: مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه يقال: مطلوب الترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".(34/324)
ص -228-…{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58].
والآية الأخرى في معناها؛ فهذا تخيير حقيقة.
وأيضا؛ فالأمر في المطلقات -إذا كان الأمر للإباحة- يقتضي التخيير حقيقة؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 160].
وما أشبه ذلك؛ فإن إطلاقه -مع أنه يكون على وجوه- واضح في التخيير في تلك الوجوه؛ إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك.
وأما القسم المطلوب الترك بالكل؛ فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا، بل هو مسكوت عنه، أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح؛ كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها، فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه، وجاء: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، وهو الطبل أو ما في معناه، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وما تقدم من قول بعض الصحابة1: حدثنا يا رسول الله -حين ملوا ملة- فأنزل الله, عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
وفي الحديث: "كل لهو باطل"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه "ص50".
2 تقدم تخريجه "ص202".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وذكر القوس بجانب الرمي؛ لأنه المعروف في ذلك العصر، والحكم =(34/325)
ص -229-…وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب، فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة1، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات2 أو بعض الأحوال؛ فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"3؛ أي: مما عفا عنه، وهذا إنما يعبر به في العادة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من حيث المعنى شامل لسائر أنواع الرماية على اختلاف آلاتها، كما أن العلة في استثناء تأديب الفرس من الباطل، وهي التوسل به إلى القيام بواجب الجهاد تقتضي أن يلحق بالفرس في استحسان العناية بها والتدرب على إدارة عنانها حسب الإرادة كل ما اخترع من المراكب البحرية والبرية والجوية، وتعين اتخاذه في وسائل الدفاع عن البلاد وحماية الحقوق. "خ".
قلت: ويلحق بالرمي بالنشاب الأسلحة النارية في أيامنا، ومن الغباوة الجمود على الرمي بالنصل على ظاهر الحديث؛ فإن التحريض عليه ليس إلا للجهاد، وليس فيه معنى وراءه، ولما لم يبق الجهاد بالنشاب والأقواس؛ لم يبق فيه معنى مقصود، فلا تحريض فيها، ومن هذه الغباوة ذهبت سلطنة "بخارى", حيث استفتى السلطان من علماء زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه؛ فمنعوه، وقالوا: إنها بدعة، فلم يدعوه أن يشتريها، حتى كانت عاقبة أمرهم أنهم انهزموا، وتسلط عليهم الروس، ونعوذ بالله من الجهل، قاله الكشميري في "فيض الباري شرح صحيح البخاري" "3/ 435" ونحوه عند المطيعي في "تكملة المجموع" "15/ 203"، والساعاتي في "الفتح الرباني" "13/ 130".
1 أي: بحال مخصوصة كما ورد: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف"، وكما ورد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما حضرت زواج الجارية الأنصارية: "أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" "د".
2 كما ورد في لعب الحبشة في المسجد يوم العيد. "د".(34/326)
3 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 375"، والبزار في "مسنده" "رقم 123، 2231، 2855- زوائده"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 12" عن أبي الدرداء مرفوعا: "ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئا".
وإسناده حسن، ورجاله موثقون؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 171"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال البزار: "إسناده صالح"، وحسن إسناده شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 2".
وفي الباب عن سلمان وعائشة وابن عمر ومرسل الحسن وعن ابن عباس موقوفا.(34/327)
ص -230-…إشعار بأن فيه ما يعفى عنه، أو ما هو مظنة عنه، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات.
وحاصل الفرق؛ أن الواحد1 صريح في رفع الإثم والجناح، وإن كان قد2 يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به؛ إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة، وأما الإذن؛ فمن باب "ما لا يتم3 الواجب إلا به"، أو من باب "الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا"، و"النهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده4 أم لا"، والآخر صريح في نفس التخيير، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل؛ فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة، وأما رفع الحرج؛ فمن تلك الأبواب.
والدليل عليه أن رفع الجناح5 قد يكون مع الواجب؛ كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من هذين الإطلاقين للمباح، وهو ما لا حرج فيه. "د".
2 أي: وقد لا يلزمه الإذن فيهما، كما سيأتي له أنه يكون مع مخالفة المندوب ومع الواجب الفعل. "د".
3 أي: شبيه بهذه الأبواب وقريب من طريقها لا أنه منها حقيقة كما هو ظاهر. "د".
4 أورد المصنف هذه المسائل الثلاث على سبيل التنظير لوجه استلزام معنى نفي الحرج للإذن في الفعل والترك؛ فاللفظ المعبر به عن رفع الجناح يتضمن الإذن في الفعل والترك، كما أن الأمر بالواجب يتضمن طلب ما لا يتم ذلك الواجب إلا به، والأمر بالشيء يتضمن ترك كل ما هو ضد له، والنهي عن الشيء يتضمن فعل أحد أضداده. "خ".
5 أي: على هذا الفرق بين الإطلاقين، وهذا أظهر الأدلة الثلاثة، وإن كان لا يطلق عليه لفظ المباح حتى يدرج في هذا القسم؛ فالاستدلال من حيث إن كلمة رفع الجناح عامة ولا تقتضي التخيير. "د".(34/328)
ص -231-…{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وقد يكون مع مخالفة المندوب؛ كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}1 [النحل: 106].
فلو كان رفع الجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك؛ لم يصح مع الواجب، ولا مع مخالفة المندوب، وليس كذلك التخيير المصرح به؛ فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك، ولا مندوبا، [وبالعكس]2.
والثاني:
أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على سواء في قصده، ورفع الحرج مسكوت عنه، وأما لفظ رفع الجناح؛ فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه، فيمكن أن يكون مقصودا له، لكن بالقصد الثاني, كما في الرخص؛ فإنها راجعة إلى رفع الحرج، كما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر، وبالعكس، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع: "لا حرج فيه"؛ فلا يؤخذ منه حكم الإباحة، إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروها3، فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه؛ فليتفقد هذا في الأدلة.
والوجه الثالث:
مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في الآية لفظ رفع الجناح، ولكن فيها ما يفهمه، ولذلك أدرجها فيما فيه رفع الجناح مع أنه خلاف المندوب، وسيذكر في الدليل الثاني لفظ التخيير ولفظ رفع الحرج؛ فلا يتوهمن أن كلامه قاصر هناك على ما فيه اللفظان، بل غرضه اللفظ الدال على التخيير، وكذا اللفظ الدال على رفع الحرج، ولو لم يكن بعبارة التخيير ولا بعبارة الحرج. "د".
2 ليست في الأصل.
3 الجاري على ما سبق أن يقول: "وقد يكون واجبا أيضا". "د".(34/329)
ص -232-…الإطلاق، أن1 المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل؛ صار خارجا عن محض اتباع الهوى، بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل؛ فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء، ولما كان مطلوبا بالكل؛ وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات، والقصد إليها في التكاليف؛ فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه، ولا هو مضاد له، بل هو مؤكد له؛ فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له.
وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة، لكنه لقلته، وعدم دوامه، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه؛ لم يحفل2 به، فدخل تحت المرفوع الحرج؛ إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا، وإن كان فتحا لبابه في الجملة؛ فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه، والاجتماع مقو، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه، وهو المضاد للمطلوب فعله، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول3 تحت كلي أمر، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وأن".
2 في الأصل: "يجعل".
3 بخلاف المخير؛ فإنه داخل تحت كلي أمر؛ فإنه كلية* مأمور به. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: ".... تحت على أمر؛ فإن كلية..."!!(34/330)
ص -233-…مخيرا فيه؛ تصريحا1 بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى، وأنه مضاد للشريعة، [والله أعلم وبه التوفيق]2.
المسألة الخامسة: وصف المباح
أن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط، فإن خرج عن ذلك القصد؛ كان له حكم آخر، والدليل على ذلك أن المباح -كما تقدم- هو ما خير فيه بين الفعل والترك، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام؛ فهو إذًا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك، ولا حاجي، ولا تكميلي، من حيث هو جزئي؛ فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة، وكذلك المباح الذي يقال: "لا حرج فيه" أولى أن يكون راجعا إلى الحظ، وأيضا3؛ فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي، أو تكميلي، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه، فما خرج عن ذلك؛ فهو مجرد نيل حظ، وقضاء وطر.
فإن قيل: فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف؟ ولعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فتصريحا"، وفي "د": "فتصريح"، وكتب المعلق عليه: "ينظر في تصحيح التركيب"، والمثبت من "ط".
2 زيادة من الأصل و"ط".
3 ليس بعيدا عن الدليل الأول؛ فإنه يفيد أن الشارع قصد المأمور به والمنهي عنه لما يترتب على ذلك من حفظ الأمور الثلاثة، بخلاف المباح؛ فلم يقصده بفعل ولا ترك؛ لأنه لا يترتب عليه شيء من ذلك؛ فكان بمجرد اختيار المكلف وتابعا لهواه المحض وحظه الصرف، وهو الدليل الأول بعينه، غايته أن الأول سلك إلى الغرض من جهة المباح مباشرة، وهذا بواسطة الأمر والنهي؛ فهو تصوير آخر لنفس الدليل. "د".(34/331)
ص -234-…بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ.
فالجواب: أن القاعدة المقررة؛ أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد؛ فالأمر، والنهي، والتخيير، جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه؛ لأن الله غني عن الحظوظ، منزه عن الأغراض؛ غير أن الحظ على ضربين:
أحدهما:
داخل تحت الطلب، فللعبد أخذه من جهة الطلب؛ فلا يكون ساعيا في حضه, وهو مع ذلك لا يفوته حظه، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ، وقد يأخذه من حيث الحظ؛ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه1 من ذلك الوجه؛ صار حظه تابعا للطلب، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ، وسمي باسمه، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
والثاني:
غير داخل تحت الطلب؛ فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره؛ لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض، فهو قد أخذه إذًا من جهة حظه، فلهذا يقال في المباح: إنه العمل المأذون فيه، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة.
المسألة السادسة: الأحكام الخمسة
الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال، والتروك بالمقاصد2، فإذا عريت عن المقاصد؛ لم تتعلق بها، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما ثبت من أن الأعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بصيغة الفعل؛ فصح قوله: "صار حظه... إلخ". "د".
2 أي: النيات. "ماء".(34/332)
ص -235-…الجملة، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع1، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال؛ إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة2، أما في غير ذلك؛ فالقاعدة مستمرة، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد؛ كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا؛ فكذلك ما كان مثلها.
والثاني: ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها: جائز، أو ممنوع، أو واجب، أو غير ذلك؛ كما لا اعتبار بها من البهائم.
وفي القرآن: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
قال: "قد فعلت"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 256 و26/ 23-29".
2 يمتاز خطاب التكليف عن خطاب الوضع بأنه لا يتعلق إلا بفعل المكلف المكسوب له، وشرط صحته علم المكلف به وقصده إليه، أما خطاب الوضع؛ فقد يتعلق بفعل غير المكلف كوجوب ضمان ما يتلفه الصبي أو الدية، ويتعلق بغيره بما لا كسب له فيه؛ كوجوب الدية على العاقلة في قتل الخطأ، ولا يشترط في نفاذه علم المكلف أو قصده؛ فيتقرر له الإرث بموت من يحق له إرثه، ويطلق عليه الحاكم زوجته بثبوت الضرر وإن كان غائبا. "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2992"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5046" من حديث ابن عباس, رضي الله عنهما.(34/333)
ص -236-…وفي معناه روي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"1، وإن لم يصح سندا؛ فمعناه متفق على صحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 573"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 90-91" من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعا: "رفع الله -عز وجل- عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"، وإسناده ضعيف، فيه جعفر بن جسر في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر, وحدث بمناكير، وأبوه مضعف. انظر: "الميزان" "1/ 403-404".
وأخرجه الفضل بن جعفر التميمي المعروف بـ"أخي عاصم" في "فوائده" -كما في "التلخيص الحبير" "1/ 283"- من حديث ابن عباس: "رفع الله عن أمتي..."، وعزاه بلفظ المصنف السيوطي في "الجامع الصغير" "2/ 16" إلى الطبراني من حديث ثوبان، وهو خطأ، ولفظ الطبراني في "الكبير" "2/ 94/ رقم 1430": "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ..."، وتابع السيوطي على هذا الوهم: المناوي في "الفيض" "4/ 35"، وأقر السيوطي شيخنا الألباني في "صحيح الجامع" "رقم 3515"، ولكنه نبه في "الإرواء" "رقم 82" أنه منكر بلفظ: "رفع عن أمتي...".
وأخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، 1/ 659/ رقم 2045" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ: "إن الله تجاوز لي عن أمتي...".
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 95"، والدارقطني في "سننه" "4/ 170-171"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 356"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 2045"، وابن حزم في "الإحكام" "5/ 149" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعا.(34/334)
وهذا إسناد صحيح، وقد أعله أحمد في "العلل" "1/ 227" بالنكرة، وأبو حاتم في "العلل" "1/ 431" بالانقطاع؛ فقال: "لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء"!! ورجح شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 82" صحة هذا الطريق، وعلى كلٍّ؛ الحديث له شواهد عديدة، ولحديث ابن عباس طرق كثيرة يصل معها إلى درجة الصحة، وحسنه النووي في "أربعينه" "رقم 39"، ولأحمد الغماري جزء بعنوان: "شهود العيان بثبوت حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وصححه ابن حبان والضياء المقدسي والذهبي والسخاوي في "المقاصد" "ص229" وجماعة.(34/335)
ص -237-…وفي الحديث أيضا: "رفع القلم عن ثلاث"1؛ فذكر "الصبي حتى يحتلم، والمغمى عليه حتى يفيق"؛ فجميع هؤلاء لا قصد لهم، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم.
والثالث:
الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق2.
فإن قيل: هذا في الطلب، وأما المباح؛ فلا تكليف فيه، قيل: متى صح [تعلق التخيير؛ صح]3 تعلق الطلب، وذلك يستلزم قصد المخير، وقد فرضناه غير قاصد، هذا خلف.
ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك؛ لأن هذا من قبيل خطاب الوضع، وكلامنا في خطاب التكليف، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق، 4/ 558/ رقم 4398"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق, باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، 6/ 156"، وابن ماجه في السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم, 1/ 657/ رقم 2041"، وأحمد في "المسند" "6/ 100-101، 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1713"، والدارمي في "السنن" "2/ 171", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 148"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1496- موارد", والحاكم في "المستدرك" "2/ 59"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" "رقم 1003" من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وإسناده صحيح.
وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وأبي قتادة -رضي الله عنهم- ولا يتسع المقام للتفصيل.
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 344-348 و22/ 100-102".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(34/336)
ص -238-…بالسكران1؛ لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛ فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه2؛ ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون، وفي سواهما3 لما أدخل السكر على نفسه؛ كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية؛ فعومل بنقيض المقصود، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة، فصار استعماله4 له تسببا في تلك المفاسد، فيؤاخذه الشرع بها وإن لم يقصدها، كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم، ونظائر ذلك كثيرة؛ فالأصل صحيح، والاعتراض عليه غير وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السكران المنتشي وهو من لا يزال حاضر الذهن بحيث يتصور معنى الخطاب يجري في التكليف على حكم العقلاء بإجماع، أما الطافح الذي اختل شعوره وأخذ يقذف بالهذيان؛ فلا ينفذ عليه ما يصدر عنه من إقرار وعقود ومعاملات، ولكن يخاطب بعد الإفاقة بقضاء ما أدركه من الواجبات؛ كالصوم، والصلاة، ويؤاخذ بما يقترفه من الجناية على الأنفس أو الأموال، واختلف الأئمة في حكم طلاقه؛ فنفذه عليه قوم، وعده آخرون لاغية، قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان لا يرى طلاق السكران، وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة"، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" الثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم؛ أن السكران لا يقع طلاقه. "خ".
2 الجواب: أن النهي عائد إلى السكر عند إرادة الصلاة كما يقال لمن أراد التهجد: لا تتهجد وأنت شبعان، والمراد: لا تملأ بطنك بالطعام إن كنت تريد التهجد حتى تنهض إليه بنشاط وتقبل عليه بصفاء نفس وارتياح, والنهي على هذا الوجه يقتضي أن لا يتناولوا الخمر حيث يعلمون أن أثرها من السكر يستغرق وقت الصلاة "خ".(34/337)
3 في "ط": "وفيما سواها".
4 فقد استعمله وهو عاقل يعلم أنه يجر إلى مفاسد كثيرة وإن لم يقصد حصولها فيؤاخذ بها، والزاني ما شددت عليه العقوبة بالجلد والقتل إلا للمآلات التي قد تسبب عن فعله، وهو يعرف هذا التسبب وإن لم يقصده من الفعل، ولا خطر بباله حينه، وسيأتي في المسألة الثامنة من السبب؛ أن إيقاع المسبب بمنزلة إيقاع السبب، قصد ذلك المسبب أو لا. "د".(34/338)
ص -239-…المسألة السابعة: المندوب
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم1 من الاعتبار المتقدم؛ وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له، [أو تكميل له]2، أو تذكار به، كان من جنس الواجب أو لا.
فالذي من جنسه؛ كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج، وغير ذلك مع فرائضها.
والذي من غير جنسه؛ كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى، والسواك، وأخذ الزينة، وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك.
فإذا كان كذلك؛ فهو لاحق بقسم الواجب بالكل، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء، ويحتمل هذا المعنى تقريرا، ولكن ما تقدم مغن3 عنه بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد في هذه المقدمة أن يتوسع في أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل؛ فيجعله شاملا لغير السنن المؤكدة ورواتب النوافل التي اقتصر عليها في الفصل الأول من المسألة الثانية، ويقول: إنه قلما يشذ مندوب عن ذلك. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".
3 مدار الدليل فيما تقدم أن تركها جملة واحدة يجرح التارك لها، وأيضا؛ فإنه مؤثر في أوضاع الدين, فهل هذا وذاك يجري هنا في المندوبات التي لا كراهة في تركها وليست كالسنن التي بنى عليها القاعدة السابقة؟ فإذا كان لا كراهة في تركها؛ فكيف يجرح التارك لها؟ وكيف تؤثر على أوضاع الدين؟ فالموضع يحتاج إلى فضل نظر في ذاته وفي دعوى أن ما تقدم يغني* هنا. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يعني" بالعين المهملة.(34/339)
ص -240-…فصل:
المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع؛ كان كالمندوب مع الواجب، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا، وهو أعظمها، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود1؛ كطهارة الحدث، وستر العورة، واستقبال القبلة، والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون2 وجوبه بالكل، وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا، ومنه ما يكون وسيلة له؛ كالواجب حرفا بحرف؛ فتأمل ذلك.
المسألة الثامنة: الواجبات أو المندوبات
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات؛ فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا، ولا عتب، ولا ذم، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا3؛ لأمرين:
أحدهما:
أن حد الوقت؛ إما أن يكون لمعنى قصده الشارع، أو لغير معنى، وباطل أن يكون لغير معنى؛ فلم يبق إلا أن يكون لمعنى، وذلك المعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "المقصود".
2 أي: فلا يتأكد الوجوب فيه تأكده في المقصود، وينبني عليه أن إثم تركه والثواب على فعله لا يساوي الواجب المقصود. "د".
3 بنى المسألة على مذهب الجمهور في الموسع، وهو أن هناك وقتا موسعا لبعض المطلوبات لو أوقعها المكلف في أي جزء منه لا إثم فيه، ويريد هنا أن يقول: بل ولا تقصير ولا عتب أيضا، والأفضلية في السبق أول الوقت شيء آخر لا يلزم منه أن يكون إيقاعه آخر الوقت تقصيرا موجبا للعتاب. "د".
قلت: وانظر في تحقيق المسألة "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299-302".(34/340)
ص -241-…هو أن يوقع الفعل فيه، فإذا وقع فيه؛ فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت، وهو يقتضي -قطعا- موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه، فلو كان فيه عتب أو ذم؛ للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه، وقد فرضناه موافقا، هذا خلف.
والثاني:
أنه لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب، ليس من الوقت المعين؛ لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا، والعتب مع التخيير متنافيان؛ فلا بد أن يكون خارجا عنه، وقد فرضناه جزءا من أجزائه، هذا خلف محال، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل.
فإن قيل: قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، وهو أصل قطعي، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض، وإذا1 كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد؛ فالمقصر عنه معدود في المقصرين والمفرطين، ولا شك أن من كان هكذا؛ فالعتب2 لاحق به في تفريطه وتقصيره؛ فكيف يقال لا عتب عليه؟
ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله"3؛ قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا" بدون واو، وفي الأصل و"خ": "وإن".
2 تحرفت في "د": "فالمتعب" بتقديم المثناة.
3 أخرجه الدارقطني في "السنن" "1/ 249"، ومن طريقه أحمد عيسى المقدسي في "فضائل جرير" "2/ ق 238/ ب"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 647- مع التنقيح" عن جرير بن عبد الله بسند واه بمرة، فيه عبيد بن القاسم، متروك، كذبه ابن معين واتهمه أبو داود بالوضع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 272"، والدارقطني في "السنن" "1/ 249"، وابن =(34/341)
ص -242-…رضوان الله أحب إلينا من عفوه؛ فإن رضوانه للمحسنين، وعفوه عن المقصرين.
وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا؛ فقد قال في المسافرين يقدمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عدي في "الكامل" "7/ 2606"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 189"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 435"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق يعقوب بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا... فذكره، قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 138":
"ما رواه إلا يعقوب بن الوليد المدني".
قلت: وهو متهم بالكذب، قال أحمد: "كان من الكذابين الكبار", وقال الحاكم: "يعقوب بن الوليد هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب؛ إلا أنه شاهد".
قلت: لا يفرح به؛ فالشاهد كالعاضد؛ فما فائدته إذا لم تكن فيه قوة؟! وهذا ساقط ولذا تعقبه الذهبي بقوله: "يعقوب كذاب"، وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل".
وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509"، وعنه ابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق بقية بن الوليد عن عبد الله مولى عثمان بن عفان حدثني عبد العزيز حدثني محمد بن سيرين عن أنس بن مالك؛ فذكره مرفوعا. قال ابن عدي: "وهذا بهذا الإسناد لا يرويه غير بقية، وهو من الأحاديث التي يحدث بها بقية عن المجهولين؛ لأن عبد الله مولى عثمان، وعبد العزيز الذي ذكر في هذا الإسناد لا يعرفان..." وتبعه ابن الجوزي.
وآخر من حديث أبي محذورة -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي "1/ 255" من طريق إبراهيم بن زكريا ثنا إبراهيم بن أبي محذورة مؤذن مسجد مكة؛ قال: حدثني أبي، عن جدي مرفوعا... فذكره. قال ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه إبراهيم بن زكريا".(34/342)
قلت: وإبراهيم كان يحدث عن الثقات بالبواطيل كما قال ابن عدي، قال ابن حبان: "يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، إن لم يكن بالمتعمد؛ فهو المدلس عن الكذابين...".
وبالجملة؛ فالحديث ضعيف جدا، بل قال أبو حاتم: "موضوع"؛ كما في "نصب الراية" "1/ 127".
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 243" أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث؛ فقال: "من روى هذا؟ ليس هذا يثبت".
وقد ضعفه جماعة، وورد نحوه في أحاديث فيها مقال، انظر: "تنقيح التحقيق" "1/ 646 وما بعدها"، و"الإرواء" "رقم 259"، وسيأتي تضعيف المصنف له "ص246".(34/343)
ص -243-…الرجل لسنه يصلي1 بهم فيسفر بصلاة الصبح، قال: "يصلي الرجل وحده في أول الوقت، أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة"؛ فقدم كما ترى حكم المسابقة، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا؛ فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا.
وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء، فلم يصمه حتى مات؛ فعليه الإطعام، وجعله مفرطا، كمن صح أو قدم في شعبان؛ فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني، مع أن القضاء ليس على الفور عنده.
قال اللخمي: جعله مترقبا2 ليس على الفور ولا على التراخي، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان؛ فلا إطعام لأنه غير مفرط، وإن مات قبل شعبان؛ فمفرط وعليه الإطعام، نحو قول الشافعية في الحج: إنه على التراخي، فإن مات قبل الأداء3؛ كان آثما، فهذا أيضا -رأي الشافعية- مضاد لمقتضى الأصل المذكور.
فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا؛ إما بالنص4، وإما بالاجتهاد5، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا، بل آثما في بعضها، وذلك مضاد لما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس المراد أنه يطول بهم حتى يسفر، بل المراد أنه يبتدئ الصلاة بعد الإسفار وحينئذ يتم الدليل "د".
2 بل لعله مترتبا؛ أي: إنه لم يعامل معاملة الفور الصرف، ولا التراخي الصرف، بل حالة بين الحالتين؛ فلذا كان الحكم مترددا بين الأمرين كما شرحه بقوله: "فإن قضى... إلخ" "د".
3 في الأصل: "التراخي".
4 كما في الحديث السابق: "أول الوقت" إلخ "د".
5 كما في المسائل التي نسبها لمالك والشافعي في الصلاة والصوم والحج؛ فأوقاتها معينة بالاجتهاد. "د".(34/344)
ص -244-…تقدم.
فالجواب: أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر، غير أن ما عين له وقت معين من الزمان؛ هل يقال: إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة؛ فكيف الأصل المذكور شاملا له، أم يقال: ليس شاملا له؟
والأول هو الجاري على مقتضى الدليل1؛ فيكون قوله -عليه السلام- حين سئل عن أفضل الأعمال؛ فقال: "الصلاة لأول وقتها"2 يريد به وقت الاختيار مطلقا، ويشير إليه أنه -عليه السلام- حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها، وحد ذلك حدا لا يتجاوز، ولم ينبه فيه على تقصير، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضروريات3، إذا صلى فيها من لا ضرورة له؛ إذ قال: "تلك صلاة المنافقين"4 الحديث؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المتقدم أول المسألة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 2/ 9/ رقم 527"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
3 تقسيم الأوقات إلى اختيارية وضرورية يقول به أكثر علماء الأمصار، وإنما اختلفوا في تحديدها وفي الصلوات التي يكون لها وقتان: اختياري وضروري، وفي أهل العذر الذين يختصون بأوقات الضروريات، ونفى أهل الظاهر أن تكون الأوقات منقسمة إلى اختياري وضروري، وأسباب الخلاف بين الفريقين مفصلة في كتب الخلاف. "خ".(34/345)
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434/ رقم 622"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، 1/ 112-113/ رقم 413"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في تعجيل العصر، 1/ 301/ رقم 160"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب التشديد في تأخير العصر، 1/ 254"، وأحمد في "المسند "3/ 102-103، 247" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ولفظه: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس, حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا".(34/346)
ص -245-…فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان.
فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد، وعند ذلك يسمى مفرطا، ومقصرا، وآثما أيضا عند بعض الناس، وكذلك الواجبات الفورية.
وأما المقيدة بوقت العمر، فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول؛ كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة1 في أول أزمنة الإمكان، فإن العاقبة مغيبة، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدي ذلك المطلوب، فلم يفعل -مع سقوط الأعذار- عد ولا بد مفرطا، وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب، لا أنه -على التحقيق- مخير بين أول الوقت وآخره؛ فإن آخره غير معلوم، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور؛ فلا تعود عليه بنقض2.
وأيضا؛ فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة؛ فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها، وإن كان الأجر فيها يتفاوت؛ فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض، كما يقول بذلك [مالك] في الإطعام في كفارة رمضان، مع وجود التخيير في الحديث, وقول مالك به، وكذلك العتق في كفارة الظهار، أو القتل، أو غيرهما، هو مخير في أي الرقاب شاء، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "المبالغة".
2 في "م": "بنقص" بالصاد المهملة.(34/347)
ص -246-…وأنفسها عند أهلها، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ولا مفرطا, وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها، مع حصول الفضل في الأعلى منها، وكما أن الحج ماشيا أفضل، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولا مقصرا، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة1 خطاه له مقصرا، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه، وليس في مسألتنا ذلك.
وأما حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فلم يصح, وإن فرضنا صحته؛ فهو معارض بالأصل القطعي, وإن سلم؛ فمحمول على التأخير2 عن جميع الوقت المختار، وإن سلم؛ فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر.
وأما مسائل مالك؛ فلعل استحبابه لتقديم الصلاة، وترك الجماعة، مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة، وكان الإمام قد أخر إليه، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان، بناء على القول بالفور في القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال؛ فلا اعتراض بذلك، وبالله التوفيق.
المسألة التاسعة: الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين, كانت من حقوق الله؛ كالصلاة, والصيام، والحج، أو من حقوق الآدميين؛ كالديون، والنفقات، والنصيحة، وإصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك:
أحدهما:
حقوق محدودة شرعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فقلت".
2 في "ط": "على التقصير".(34/348)
ص -247-…والآخر: حقوق غير محدودة.
فأما المحدودة المقدرة؛ فلازمة لذمة المكلف1، مترتبة عليه دينا، حتى يخرج عنها؛ كأثمان المشتريات، وقيم المتلفات، ومقادير الزكوات، وفرائض الصلوات، وما أشبه ذلك؛ فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته، دينا عليه.
والدليل على ذلك التحديد والتقدير؛ فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين، فإذا لم يؤده؛ فالخطاب باق عليه، ولا يسقط عنه إلا بدليل2.
وأما غير المحدودة؛ فلازمة له، وهو مطلوب بها، غير أنها لا تترتب في ذمته؛ لأمور:
أحدها:
أنها لو ترتبت في ذمته؛ لكانت محدودة معلومة؛ إذ المجهول لا يترتب في الذمة ولا يعقل نسبته إليها، فلا يصح أن يترتب دينا، وبهذا استدللنا على عدم الترتب؛ لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار، والتكليف بأداء ما3 لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع, وهو ممتنع سمعا.
ومثاله: الصدقات المطلقة, وسد الخلات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذمة كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا، وهذا المعنى إنما يتحقق في البالغ الرشيد؛ فإن قلنا: إن للصبي ذمة أيضا كما يراه بعض الفقهاء؛ اقتصرنا في تعريفها على كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق، فيتناول التعريف الصبي؛ لأنه وإن كان لا يقبل التزام الحقوق من نحو البيع والهبة والحمالة؛ يقبل لزوم بعضها كأرش الجنايات وقيم المتلفات. "خ".
قلت: الأرش هو بدل الدم أو بدل الجناية مقابل بآدمية المقطوع أو المقتول، لا بماليته، قاله الكفوي في "الكليات" "ص78".
2 كإبرام الدائن للمدين "د".
3 تحرفت في "د": "بأدائنا" بالنون بدل الميم.(34/349)
ص -248-…فإذا قال الشارع: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، أو قال: "اكسوا العاري"1، أو: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195]؛ فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها، من غير تعيين مقدار، فإذا تعينت حاجة؛ تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها، بالنظر لا بالنص، فإذا تعين جائع؛ فهو مأمور بإطعامه وسد خلته، بمقتضى ذلك الإطلاق، فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع؛ فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين، فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع، فيحتاج إلى مقدار من الطعام، فإذا تركه حتى أفرط عليه؛ احتاج إلى أكثر منه، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا، [وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به]2.
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان؛ لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة، وهذا معنى كونه مجهولا؛ فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر، لا بمقتضى النص، فإذا زال الوقت الحاضر؛ صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول، أو سقط3 عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة.
والثاني:
أنه لو ترتب في ذمته أمر؛ لخرج إلى ما لا يعقل؛ لأنه في كل وقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أظفر به بهذا اللفظ، وله شواهد كثيرة تؤيد معناه، وأقرب الألفاظ له ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 438/ رقم 17933" ضمن حديث طويل مرسل، فيه: "واكسوهم ولا تعروهم".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 أي: فكيف يتأتى الاستقرار في الذمة والأمر يختلف باختلاف الحال والزمان بين سقوط المكلف به رأسا، وبين تغير المكلف به قلة وكثرة؟ "د".(34/350)
ص -249-…من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا، ثم لم يفعل؛ فترتب في ذمته، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد، فأما أن يقال: إنه مكلف أيضا بسدها أو لا، والثاني باطل؛ إذ ليس هذا الثاني بأولى1 بالسقوط من الأول؛ لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة، فيرتفع التكليف والخلة باقية، هذا محال؛ فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد، قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية، وهذا غير معقول في الشرع.
والثالث:
أن هذا2 يكون عينا أو كفاية، وعلى كل تقدير يلزم -إذا لم يقم به أحد- أن يترتب؛ إما في ذمة واحد غير معين، وهو باطل لا يعقل، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا؛ فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد، أو غير مقسط؛ فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم، وهو باطل كما تقدم3.
والرابع:
لو ترتب في ذمته لكان عبثا، ولا عبث في التشريع، فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة؛ فعمران الذمة ينافي هذا المقصد؛ إذ المقصود إزالة هذا العارض4 لا غرم قيمة العارض، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب؛ كان عبثا غير صحيح.
لا يقال: إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها؛ إذ المقصود بها سد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو قال: ليس بأضعف سببية في التكليف من الأول؛ لكان أوضح. "د".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "الواجب؛ إما أن".
3 في قوله: "فهذا غير معقول في الشرع". "د".
4 أي: العارض* الوقتي ولا فائدة تعود على إزالته من شغل ذمة الغير به. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعارض"!!(34/351)
ص -250-…الخلات، وهي تترتب في الذمة.
لأنا نقول: نسلم أن المقصود ما ذكرت، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة1 على الجملة، ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة؛ فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها، فلو ارتفع العارض بغير شيء؛ لسقط الوجوب، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت، ولذلك عينت، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم.
فإن قيل: لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة؛ لكان مانعا من أصل التكليف أيضا؛ لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف؛ إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق، فلو قيل لأحد: أنفق مقدارا لا تعرفه, أو صل صلوات لا تدري كم هي، أو انصح من لا تدريه ولا تميزه، وما أشبه ذلك؛ لكان تكليفا بما لا يطاق؛ إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي، وإذا علم بالوحي؛ صار معلوما لا مجهولا، والتكليف بالمعلوم صحيح، هذا خلف.
فالجواب: أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع؛ كما لو قال: اعتق رقبة، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان؛ فهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فيكون القسم الأول وهو الزكاة مثلا متعينا محدودة المقدار ولا زيادة فيها ولا نقص؛
فكانت متقررا وإن كانت الحاجة فيه غير متعينة ولا صاحبها معلوما، وهنا بالعكس، وصاحب الحاجة معلوم، ومقدار ما يلزمه غير معلوم ولا ثابت؛ فالمكلف به هناك معلوم محدود المكلف بسببه غير معلوم، والقسم الثاني بالعكس. "د".(34/352)
ص -251-…هو الممتنع، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف؛ فالتكليف به صحيح، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة؛ إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي؛ فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة، فما لم يتعين1 [فيه]2 خلة فلا طلب، فإذا تعينت وقع الطلب، هذا هو المراد هنا، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره.
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين؛ فلم يتمحض لأحدهما، هو محل اجتهاد، كالنفقة على الأقارب والزوجات، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين اختلف الناس فيه، هل له ترتب في الذمة أم لا؟ فإذا ترتب؛ فلا3 يسقط بالإعسار4؛ فالضرب الأول لاحق بضروريات5 الدين، ولذلك محض بالتقدير والتعيين، والثاني لاحق بقاعدة التحسين والتزيين، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين؛ فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "يتعين" بياء -آخر الحروف- في أوله.
2 سقطت من النسخ المطبوعة، وأثبتناها من الأصل.
3 بدلها في الأصل: "فقد"
4 ذهب جمهور العلماء إلى أن نفقة الزوجة غير مقدرة، وأمرها موكول إلى ما يقتضيه حال الزوجين، وذلك مما يجعلها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، واقتضى عدم تقديرها أن لا تستقر في الذمة، وأن تسقط بالإعسار، وكذلك يقول المالكية، والمشهور في مذهب الشافعية أنها مقدرة؛ فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد، وينبني على تقديرها أنها تتعلق بالذمة ولا تسقط بالإعسار، وكذلك يقول الشافعية، وحجة الجمهور في القول بعدم تقديرها حديث هند بنت عتبة وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وقد روي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- ما يوافق مذهب الجمهور. "خ".
5 في "د": "بضروريات".(34/353)
ص -252-…فصل:
وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية1؛ فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين، وحاصل الثاني إقامة الأوَد العارض في الدين وأهله، وإلا أن هذا الثاني قد2 يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين, ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية؛ كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وأما إذا لم يتحتم؛ فهو مندوب، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان؛ فتأمل هذا الموضع، وأما الضرب الثالث؛ فآخذ شبها من الطرفين أيضا؛ فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فائدة: السنة أيضا قد تكون كفاية، كما مثلوه بتشميت العاطس, وبالأضحية في حق أهل البيت الواحد كما في "المنهاج". "د".
قلت: والصواب في التشميت أنه ليس على الكفاية، بل على أعيان الحاضرين السامعين، لما أخرج البخاري في "الصحيح": "حق على كل من سمعه أن يشمته"، والله أعلم.
2 أي: قد يكون مخيرا بالجزء؛ كالصناعات المختلفة التي لها أثر في إقامة العمران، وقد يكون مندوبا بالجزء؛ كالعدل، والإحسان، وسائر النوافل، والنكاح وغيرها مما تقدم في المندوب بالجزء، ولكن هذا الثاني إنما يكون واجبا كفاية إذا نظر إليه كليا في الغالب، وقد يكون متحتما جزئيا؛ كالعدل بالنسبة للأمير نفسه، فهو مطلوب بإقامة العدل جزئيا أيضا طلبا حتما؛ إلا أن قوله: "وفروض الكفايات مندوبة على الأعيان" ليس كليا، بل قد تكون مندوبة, وقد تكون مخيرا فيها؛ كما سبق في فصله, وكما أشرنا إليه في هذه الجملة.(34/354)
وملخصه أن فريضة الكفاية قد يكون مخيرا بالجزء، وقد يكون مندوبا بالجزء، ولا يتحتم إلا بالكل، وقد يتحتم على البعض أيضا نادرا، ويبقى بعد هذا أنه يقتضي أن مؤدى فرض الكفاية إنما يثاب عليه ثواب المندوب، فإذا تركه الكل؛ عوقب عليه الجميع، وقد لا يثاب عليه الفاعل وذلك إذا كان بالجزء مخيرا؛ فتأمل هذا الموضع جيدا. "د".(34/355)
ص -253-…المسألة العاشرة: مرتبة العفو
يصح أن يقع1 بين الحلال والحرام مرتبة العفو؛ فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة، هكذا على الجملة2، ومن الدليل على ذلك أوجه:
أحدها:3
ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل، وأما دون ذلك؛ فلا، وإذا لم يتعلق بها حكم منها، مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به؛ فهو معنى العفو المتكلم فيه؛ أي: لا مؤاخذة به.
والثاني:4
ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص؛ فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لما كان لهذه المرتبة شبه بالحلال؛ لأنه لا طلب يتعلق بها ولا إثم في فعلها، وشبه بالحرام؛ لأن مثلها لو تعلق به حكم لكان اللوم والذم، قال: "يقع بين الحلال والحرام، وليس لها شبه بما يطلب من الواجب والمندوب رأسا". "د".
2 لما لم يحكم عليها إلا بأنها غير الخمسة، ولم يقل: إنها حكم شرعي سادس، أو ليست حكما؛ قال: "على الجملة"، وسيأتي الإشارة إليه آخر المسألة. "د".
3 الدليل قاصر على خصوص بعض النوع الثاني من أنواع مواضع مرتبة العفو المذكورة في الفصل الثاني: ولا يدل على الباقي, وسيأتي في الفصل الأول ما يصح أن يكون دليلا على البعض الباقي من النوع الثاني؛ حيث يقول: "ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضها" إلخ. "د".
4 هذا الدليل قاصر على النوع الثالث من مراتب العفو الآتية في الفصل الثاني. "د".
5 أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 183-184" والطبراني في "الكبير" "22/ 221-222/ رقم 589"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 9"، والبيهقي في "الكبرى" "10 =(34/356)
ص -254-…وقال ابن عباس: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلها في القرآن: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217].
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"1.
يعني: إن هذا كان الغالب2 عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 12-13"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 314"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1045/ رقم 2012" من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 150": "له علتان:
إحداهما: أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما.
والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني [في "العلل" "رقم 1170"]: "الأشبه بالصواب المرفوع"، قال: "وهو الأشهر".
وقد حسن الشيخ, رحمه الله [أي: النووي في "أربعينه" "رقم 30"] هذا الحديث، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في "أماليه". ا. هـ.
قلت: والحديث حسن بشواهده، وتقدم بعضها في "ص229", وانظر التعليق عليها.
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" من طريق جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي "ط": "كلهن في القرآن".
وإسناده ضعيف، جرير وابن فضيل رويا عن عطاء بعد اختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات". وانظر عن تحرير عدد الأسئلة: "5/ 375".(34/357)
2 قيده لما سيأتي بعضه أثناء المسألة من مثل سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه "د".(34/358)
ص -255-…وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "ما لم يذكر في القرآن؛ فهو مما عفا الله عنه"1، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم2؛ فيقول: عفو، وقيل له: ما تقول في أموال أهل الذمة؟ فقال: العفو "يعني: لا يؤخذ منهم زكاة"3.
وقال عبيد بن عمير: "أحل الله حلالا, وحرم حراما، فما أحل؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو"4.
والثالث5: ما يدل على هذا المعنى في الجملة؛ كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، 3/ 354-355/ رقم 3800" بإسناد صحيح عن ابن عباس؛ قال: "... وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}" إلى آخر الآية.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 115"، وابن مردويه؛ كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 184"، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 372".
وفي الباب عن سلمان -واختلفوا في رفعه ووقفه- وعن غيره، انظره مبسوطا في "سنن سعيد بن منصور" "2/ 320-330/ رقم 94" مع التعليق عليه للشيخ سعد آل حميد، وفقه الله لكل خير.
2 أي: فيه شبهة الحرمة، ولم يرد فيه تحريم بل سكت عنه. "د".
3 إن كان معناه أنه لا تؤخذ منهم زكاة بمقتضى النص؛ فليس مما نحن فيه ولا محل لذكره، وإن كان معناه أنه مما سكت عنه؛ فلا تؤخذ الزكاة لذلك كان لذكره وجه, وقد يقال: إنه يرجع إلى قاعدة أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا. "د".
4 ذكره عن عبيد بن عمير, ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 152".
5 هذا الدليل خاص ببعض النوع الثاني كما في حديث: "أكل عام"، وبالنوع الثالث، وقد انتهى به مقام الاستدلال ولم يجئ فيه بما يدل على النوع الأول، وهو الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض وإن قوي معارضه. "د".(34/359)
ص -256-…{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}1 الآية [التوبة: 43]؛ فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص.
وقد ثبت من الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون, ومنه قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].
وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال2 فيما لم ينزل فيه حكم، بناء على حكم البراءة الأصلية؛ إذ هي راجعة إلى هذا المعنى، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها، وقد قال, صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته"3.
وقال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محط الدليل بقية الآية؛ كأنه أذن قبل أن يتبين الذين صدقوا؛ فهو من محل العفو المصدرة به الآية. "د".
2 انظر ما تقدم "ص47".
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أخرجه البخاري "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 251/ رقم 7288"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، 2/ 975/ رقم 1337"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج، 5/ 110-111"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 5/ 47/ رقم 2679" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 1/ 3/ رقم 2"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 313، 517"، من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(34/360)
ص -257-…وقرأ عليه السلام قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]؛ فقال رجل: يا رسول الله! أكل عام [فرض]؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام [فرض]1؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم؛ فذروني ما تركتكم"2، ثم ذكر معنى3 ما تقدم.
وفي مثل هذا نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ثم قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101].
أي: عن تلك الأشياء؛ فهو إذًا عفو.
وقد كره -عليه السلام- المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال, وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب؛ فذكر الساعة، وذكر قبلها أمورا عظاما، ثم قال: "من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله؛ لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا". قال أنس: فأكثر الناس من البكار حين سمعوا ذلك، وأكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "سلوني". فقام عبد الله بن حذافة السهمي؛ فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فلما أكثر أن يقول: سلوني؛ برك عمر بن الخطاب على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال عمر ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين في الموضعين زيادة من الأصل.
2 المذكور هنا هو صدر الحديث السابق، وتتمته: "فإنما هلك...".
3 أي: من قوله: "فإنما هلك" إلخ "د".(34/361)
ص -258-…فنزلت الآية1، وقال أولا: "والذي نفسي بيده؛ لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض [هذا]2 الحائط وأنا أصلي؛ فلم أر كاليوم في الخير والشر"3، وظاهر من هذا المساق أن قوله: "سلوني" في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال، حتى يروا عاقبة السؤال4، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101], وقد ظهر من هذه الجملة5 ما يعفى عنه، وهو ما نهي عن السؤال عنه.
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه6 أيضا، فلما سكت عن التكرار؛ كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته, وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد؛ فهو ما يُعفى عنه.
ومثل هذا قصة أصحاب البقرة، لما شددوا بالسؤال -وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا- شدد عليهم7 حتى ذبحوها {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لفظ البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، وأخرجه أيضا مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورية إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضى مختصرا "ص45".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هو جزء من الحديث المتقدم.
4 التي منها نزول تحريم ما لم يحرم، وغيره مما يكرهونه ويسيئهم؛ كالتعرض للفضيحة، وزيادة التكاليف. "د".
5 وهي من قوله: "وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال إلى هنا". "د".
6 لأن المطلق يتحقق في فرد واحد مما يطلق عليه "د".
7 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 105".(34/362)
ص -259-…فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه؛ فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة، وأنها ليست من الأحكام الخمسة.
فصل:
ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة؛ منها ما يكون متفقا عليه، ومنها ما يختلف فيه.
- فمنها: الخطأ والنسيان؛ فإنه متفق على عدم المؤاخذة به، فكل فعل صدر عن غافل، أو ناس، أو مخطئ؛ فهو مما عفي عنه، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا؛ لأنها إن لم تكن منهيا عنها ولا مأمورا بها ولا مخيرا فيها؛ فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع, وهو معنى العفو، وإن تعلق بها الأمر والنهي؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي، والقدرة على الامتثال، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال، ومثل ذلك النائم والمجنون والحائض، وأشباه ذلك.
- ومنها: الخطأ في الاجتهاد1، وهو راجع إلى الأول, وقد جاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب المتقدمون إلى أن المخطئ في أصول الفقه آثم كالمخطئ في أصول الدين، وجنح المتأخرون إلى أنه غير آثم كالمخطئ في الفروع, ووجه ما ذهب إليه المتقدمون؛ أن القواعد الكلية لقلتها وجلاء شواهدها أقرب مأخذا وأيسر على الراسخ في فهم الكتاب والسنة من الأحكام الجزئية التي تتجاوز حد الحصر ويتوقف استنباطها بحق على النظر في أسباب الوقائع وما يترتب عليها من المصالح أو المفاسد ثم الرجوع إلى النصوص والأصول، وهي كثيرا ما تتجاذب الواقعة؛ فلا يهتدي المجتهد لتخليص الحكم مع معاقدها؛ إلا بحذقه في صناعة التطبيق والترجيح, واستثنى بعض القائلين بتأثيم المخطئ في الأصول كالإمام القرافي المسائل التي لم يدل فيها المتنازعون على قاطعة كالإجماع السكوتي وما يجري على شاكلته. "خ".(34/363)
ص -260-…القرآن: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].
وقال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 68].
- ومنها: الإكراه، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه، إذا قلنا بجوازه؛ فهو راجع إلى العفو، كان الأمر1 والنهي باقيين عليه أو لا؛ فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه2.
- ومنها: الرخص كلها على اختلافها، فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح، ورفع الحرج، وحصول المغفرة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة؛ لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال، وإن كانت مطلوبة؛ فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب؛ فأكل الميتة -إذا قلنا بإيجابه- فلا بد أن يكون نقيضه وهو الترك معفوا عنه، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما، وهو محال ومرفوع عن الأمة.
- ومنها: الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ولم يمكن الجمع، فإذا ترجح أحد الدليلين؛ كان مقتضى المرجوح في حكم العفو، لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح، فيؤدي إلى رفع أصله, وهو ثابت بالإجماع؛ ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين، وهو باطل، وسواء علينا أقلنا3 ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح وأنه في حكم الثابت، أم قلنا: إنه في حكم العدم؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو.
- ومنها: العمل على مخالفة دليل لم يبلغه، أو على موافقة دليل بلغه وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح؛ لأن الحجة لم تقم عليه بعد؛ إذ لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على القولين في ذلك. "د".
2 انظر كلاما حسنا حول الإكراه في آخر "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 في "م" و"خ": "قلنا".(34/364)
ص -261-…بد من بلوغ الدليل إليه وعلمه به، وحينئذ تحصل المؤاخذة به, وإلا لزم تكليف ما لا يطاق.
- ومنها: الترجيح1 بين الخطابين عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بنهما، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم؛ لأنه الممكن في التكليف بهما، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وهو مرفوع شرعا.
- ومنها: ما سكت عنه؛ فهو عفو؛ لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته؛ فهو دليل على العفو فيه، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به، والله أعلم.
فصل:
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه:
أحدها:
أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون؛ إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف وهو الاقتضاء أو التخيير، أو لا تكون بجملتها داخلة، فإن كانت بجملتها داخلة؛ فلا زائد على الأحكام الخمسة، وهو المطلوب، وإن لم تكن داخلة بجملتها؛ لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف، ولو في وقت أو حالة ما، لكن ذلك باطل؛ لأنا فرضناه مكلفا، فلا يصح خروجه، فلا زائد على الأحكام الخمسة.
والثاني:
أن هذا الزائد؛ إما أن يكون حكما شرعيا أو لا، فإن لم يكن حكما شرعيا؛ فلا اعتبار به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا خوطب في وقت واحد بفعل شيئين مما لم يكن إيجادهما معا، كأن خوطب بأن يكلم اثنين بجملتين مختلفتين؛ فيرجح هو تقديم خطاب أحدهما على الآخر، فهذا الترجيح أيضا عفو. "د".(34/365)
ص -262-…والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو, والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه؛ فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام.
وأيضا؛ فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا.
وأما إن كان العفو حكما شرعيا؛ فإما من خطاب التكليف، أو من خطاب الوضع، وأنواع خطاب التكليف محصورة1 في الخمسة، وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون، وهذا ليس منها؛ فكان لغوا.
والثالث:
أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية، وهي أن يقال: هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا؟ فالمسألة مختلف فيها؛ فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل2، والأدلة فيها متعارضة؛ فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه.
وأيضا إن كانت اجتهادية؛ فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة؛ فليست بمفهومة، وما تقدم من الأدلة إلى إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه؛ فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لإمكان الجمع بينهما, ولأن العفو أخروي.
وأيضا، فإن سلم للعفو ثبوت؛ ففي زمانه -عليه السلام- لا في غيره، ولإمكان تأويل تلك الظواهر، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محل النزاع؛ فلا يصح أن يكون دليلا على إلغاء هذه المرتبة. "د".
2 في الأصل: "بالدليل".(34/366)
ص -263-…فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج، وذلك يقتضي؛ إما الجواز بمعنى الإباحة، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض، فارتفع الحكم بمرتبة العفو، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة، وفي هذا المجال أبحاث أخر.
فصل:
وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو -إن قيل به- نظر؛ فإن الاقتصار به على محال النصوص نزعة ظاهرية، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول؛ فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله، والقول في ذلك1 ينحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه2 وإن قوي معارضه.
والثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل.
والثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا.
فأما الأول؛ فيدخل تحته العمل بالعزيمة، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا، فإن3 العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة، وكذلك العمل بالرخصة وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" زيادة: "أنه".
2 الواو للحال، وأن زائدة. "د".
3 في "د": "إن" بدون الفاء.(34/367)
ص -264-…توجه حكم العزيمة؛ فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي؛ فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد.
لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل؛ ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف.
وقد اعتبر في مذهب مالك هذا1؛ ففيه: إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد، فظن أن الفطر مباح به2 فأفطر؛ فلا كفارة عليه، وكذلك من أفطر فيه بتأويل, وإن كان أصله3 غير علمي، بل هذا جار في كل متأول؛ كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر، وأشباه ذلك، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده.
وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه جاء يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فسمعه يقول: "اجلسوا". فجلس بباب المسجد، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال [له]4: "تعال يا عبد الله بن مسعود"5. فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الوقوف مع دليل معارض بقوي، وإن كان نفس الدليل غير علمي؛ لأنه مجرد ظن غير مبني على شيء من الشرع. "د".
2 في "ط": "له".
3 الذي بني عليه الفطر أو التأويل غير دليل أو مستند علمي؛ أي: لا يلزم فيه ذلك. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "3/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف, مرسل، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخلد =(34/368)
ص -265-…مع مجرد الأمر، وإن قصد غيره؛ مسارعة إلى امتثال أوامره.
وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "اجلسوا". فجلس في الطريق، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما شأنك؟". فقال: سمعتك تقول: اجلسوا فجلست. فقال [له]1 النبي, صلى الله عليه وسلم: "زادك الله طاعة"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هو شيخ".
قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/ رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء عن النبي, صلى الله عليه وسلم".
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد وكان يدلس تدليس التسوية, وهشام بن عمار كان يتلقن".
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 866/ رقم 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة..."، ثم قال: "ذكره أبو داود في كتاب الجمعة من "السنن""؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -أي: الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك، بل هو -عند أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثير من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر, رحمه الله تعالى.
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"خ" و"ط".(34/369)
2 أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" -كما في "الكنز" "رقم 37170، 37171"- بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.(34/370)
ص -266-…وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله، ولذلك سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رآه جالسا في غير موضع جلوس.
وقد قال عليه السلام: "لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركهم وقت العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك. "فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدة من الطائفتين1"2.
ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد، ثم يتبين له خطؤه، ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع3، وكذلك الترجيح بين الدليلين؛ فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر، فإذا فرض مهملا للراجح؛ فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح؛ فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "م" إلى: "الطائعتين"؛ بالعين بدل الفاء.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء, 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظ مسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر..."!(34/371)
3 إذا حكم الحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده؛ فليس له أن ينقض حكمه بنفسه, ولا يسوغ لغيره نقضه؛ لأنه يؤدي إلى عدم استمرار الأحكام؛ فتفوت المصلحة المقصودة من نصب الحكام وفصل الخصومات قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان: "لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك", وإنما يمضي حكم الحاكم في القضايا الموكولة إلى الاجتهاد, فإن خالف نصا جليا أو إجماعا أو قاعدة قطعية؛ وجب نقضه كما ينقض حكم القاضي المقلد إذا خالف الراجح المفتى به في مذهب إمامه. "خ".(34/372)
ص -267-…مثله في الجملة، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور.
وإنما قلنا: "الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض"؛ فشرط فيه المعارضة؛ لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو؛ لأنه أمر أو نهي أو تخيير عُمل على وفقه، فلا عَتبَ يُتوهم فيه، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر؛ فلا موقع للعفو فيه.
وإنما قيل: "وإن قوي معارضه"؛ لأنه إن لم يقْوَ معارضه لم يكن من هذا النوع، بل1 من النوع الذي يليه على إثر هذا؛ فإنه ترك لدليل2، وإن كان إعمالا لدليل أيضا؛ فإعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر كإعمال الدليل غير المعارض؛ فلا عفو فيه.
وأما النوع الثاني وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته، أو يتركه معتقدا إباحته إذا3 لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه؛ كقريب العهد بالإسلام، لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها، أو لا يعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل هكذا: "بل ولا من النوع الذي... إلخ"؛ أي: إنه إذا كان المعارض ضعيفا لا يكون أيضا من النوع الثاني؛ لأن الثاني ترك لدليل وخروج عن مقتضاه قصدا بتأويل أو بغير قصد, وما نحن بصدده إعمال لدليل ضعيف معارضه؛ فلا هو من الأول الذي لوحظ فيه قوة معارضه، ولا هو من الثاني الذي لوحظ فيه أنه ترك لدليل وخروج عنه بغير قصد أو بقصد، لكن بتأويل، والحاصل أنه لما كان إعمال المعارض بضعيف كان إعمال* لدليل غير معارض صار لا يتوهم فيه مؤاخذة حتى يكون من مواضع العفو. "د".
2 في "د" بعد كلمة "وهنا" -واستظهر المحقق عدم مناسبتها للسياق- فقال: "يشبه أن يكون هنا سقط، والأصل: "وهذا"".
3 في "ط": "إذ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، والأحسن أن تكون العبارة: "إعمال المعارض بضعيف إعمالا لدليل...".(34/373)
ص -268-…أن غسل الجنابة واجب فيتركه، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين1، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، ويراه من التعمق، حتى بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلل2؛ فرجع إلى القول به، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع، حتى رجع إلى القول بذلك3.
ومن ذلك العمل على المخالفة4 خطأ أو نسيانا، ومما يروى من الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"5، فإن صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن أبي موسى الأشعري؛ قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار؛ فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل...
2 ورد ذلك في أحاديث عديدة سردها الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 26-27"، منها حديث لقيط بن صبرة؛ قال: قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فأسبغ الوضوء, وخلل بين أصابعك"، وهو حديث صحيح؛ كما قال ابن حجر في "الإصابة" "3/ 329"، وقال في "التلخيص الحبير" "1/ 81": "صححه الترمذي والبغوي وابن القطان".
قلت: وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن؛ كما قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "1/ 184"، وقد خرجته وتكلمت عليه بتوسع في تحقيقي لكتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 284".
3 ذكره ابن تيمية في "صحة أصول أهل المدينة" "33"، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 394".(34/374)
4 أي: يخرج عن مقتضى الدليل خطأ بأن لا يفهم الدليل مثلا على وجهه، أو نسيانا للدليل، أما خطأ المجتهد المعدود سابقا في النوع الأول؛ فقد وقف فيه مع دليل لكن ظهر خطؤه في التمسك به لضعفه بإزاء دليل آخر مثلا؛ فهذا خرج عن الدليل، وذاك وقف مع دليل ظهر خطؤه في الاعتداد به؛ فتنبه لتفرق بين النوعين في جميع الأمثلة فيهما. "د".
5 مضى تخريجه "ص236".(34/375)
ص -269-…فذلك, وإلا فالمعنى متفق عليه.
ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد وإن وجد القصد: الإكراه المضمن في الحديث، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات؛ فإنه ثبت في الشرع إقالتهم1 في الزلات، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم، جاء في الحديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"2. وفي حديث آخر: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح"3، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم؛ فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه؛ فأرسله وقال: أنت من ذوي الهيئات.
وفي خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله4 بن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: استأدى علي مولى لي جرحته يقال له سلام البربري إلى ابن حزم، فأتاني فقال: جرحته؟ قلت: نعم. قال: سمعت خالتي عمرة تقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على فرض تسليم أصل الحديث وما بعده؛ فليس هذا من العفو الذي فيه الكلام، وهو أنه لا حرج فيه شرعا، يعني: لا إثم, وفيه المغفرة... إلخ، أما كونه لا يقتص منه لعبده أو لمن شجه؛ فهذا غير موضوع مرتبة العفو التي فيها الكلام من أول المسألة. "د".
2 سيأتي تخريجه قريبا من حديث عائشة -رضي الله عنها- وهو حسن.
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 130-ط الهندية، و6/ 150/ رقم 2378-ط المحققة" من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة وهم ذوو الصلاح"، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز ضعفوه، كما قال الذهبي، وباقي رجاله ثقات.
وأخرج ابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 326"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "154" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعا: "تجاوزوا في عقوبة ذوي الهيئات"، هذا لفظ ابن الأعرابي، ولفظ السهمي: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم".
والحديث حسن يحتج به، وسيأتي تخريجه من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 في الأصل والنسخ الثلاث: "عبد الله"، والتصويب من مصادر التخريج الآتية.(34/376)
ص -270-…قالت عائشة: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"1 فخلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 181"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 43" من طرق عن عبد الملك بن زيد عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا، مع زيادة في آخره: "إلا الحدود".
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، 4/ 133/ رقم 4375", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 267، 334" من طريقين عن ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد -وهو من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة مثله، بزيادة: "عن أبيه".
وعبد الملك بن زيد ترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 95"، وقال عنه النسائي: "ليس به بأس"، وضعفه علي بن الجنيد.
ورواه بهذا اللفظ ولكن بإسقاط "عن أبيه" من السند المذكور:
أبو بكر بن نافع العمري عن محمد بن أبي بكر به؛ كما عند البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 465"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 599"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 126"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 94- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334".
ولفظ إسحاق وابن حبان: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم".
وأبو بكر بن نافع مولى آل زيد بن الخطاب ضعيف.
وتابع أبو بكر بن نافع وعبد الملك بن زيد, عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر؛ كما عند النسائي في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف" "12/ 413"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 127, 128، 129".
وتابع المذكورين: عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله؛ كما عند الطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، وهو ثقة، وكذا من دونه؛ فإسناده صحيح، وذكر القصة التي أوردها المصنف، وهي سبب إيراده للحديث، لا سبب ورود الحديث.(34/377)
وللحديث شواهد؛ منها حديث ابن عمر مر قريبا, وحديث ابن مسعود مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم"، رواه الخطيب "10/ 85-86"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234" بسند حسن في الشواهد، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 638"، وحسنه ابن حجر في "أجوبته على =(34/378)
ص -271-…سبيله ولم يعاقبه.
وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه؛ فإنه قال: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الآية [النجم: 31، 32]، لكنها1 أحكام أخروية، وكلامنا في الأحكام الدنيوية.
ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات؛ فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد، ومع ذلك، فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت؛ غلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحاديث المشكاة" "ص1790"، ومن قبله العلائي في "النقد الصحيح" "رقم 5".
وانظر كذلك: "عون المعبود" "12/ 39"، و"المقاصد الحسنة" "73".
وعلق "خ" في هذا الموطن ما نصه: "هذا الأثر مما نرتاب في صحته، ولا نكاد نفهم كيف يسوغ القاضي أن يعفو من تلقاء نفسه على من اعتدى على شخص بالضرب أو بالجرح، ويخلي سبيله متكئا على أنه من ذوي الهيئات؛ فصورة الواقعة بحسب الوجه الذي حكيت به مخالفة لما جاءت به الشريعة العادلة من التساوي في الحقوق، وأن لا فرق فيها بين شريف ووضيع، ولو كان في يد الحاكم أن يطلق سبيل المعتدي على غيره بضرب أو جرح؛ لكان لعمر بن الخطاب وجه لو أغضى عن لطم جبلة ملك غسان لذلك العامل الضعيف ولم يقل له بملء فمه الطاهر: "الإسلام سوى بينكما"، ولو عفا ابن الخطاب عن جبلة في هذه الواقعة؛ لهدم قاعدة المساواة من أساسها، وتكدرت عليه خواطر الأمة؛ فيضطرب حبل السياسة، ولا يستطيع أن يكون ذلك الرجل الذي مد جناحي خلافته على دول عظيمة في أمد غير بعيد".
قلت: توجيه الطحاوي في "المشكل" "6/ 142-154" هذا الحديث يرد على المزبور، وكلامه قوي ولا سيما وقد صح الحديث, ولله الحمد.(34/379)
1 والعفو بالمعنى الذي نقرره هو أمر أخروي؛ فراجع أمثلته السابقة، حتى إنه عبر عنه فيما سبق آنفا بحصول المغفرة, وهي حكم أخروي بالقصد الأول، وإن كان قد يتبعها عدم الحد في مثل الشرب مثلا، إلا أن هناك أمورا لا شيء فيها دنيويا، كخطأ الاجتهاد مثلا؛ فإن عفوه أخروي صرف. "د".(34/380)
ص -272-…حكمها، ودخل1 صاحبها في حكم العفو.
وقد يعد هذا المثال2 مما خولف فيه الدليل بالتأويل، وهو من هذا النوع أيضا3، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل: ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب: إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله4.
قال القاضي إسماعيل: وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه؛ لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ في التأويل، بخلاف من استحلها، كما في حديث علي -رضي الله عنه- ولم يأت في حديث قدامة أنه حُدَّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذا لا يسقط الإثم أيضا، وظاهر أنه يسقطه في غالب صور الشبهة، فإذا استقلت الشبهة بإسقاط الحد؛ لا يكون من مرتبة العفو التي هي موضوعنا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "المجال"، والتصحيح من الأصل.
3 لأنه الضرب الثاني من النوع الثاني؛ إلا أنه يقال عليه: كيف يعد خروجا عن مقتضى الدليل بالتأويل مع أنه وقوف مع الدليل الصريح: "ادرءوا الحدود بالشبهات"؛ فهو لم يخرج عن الدليل العام في الحدود المخصص بها الدليل؛ لأنه بعد تخصصه لا يقال خرج عنه، بل هو إعمال للدليل المخصص الذي أفاد أن دلالة العام لا تشمل هذا الموضع؛ فلا نسلم أن درء الحدود بالشبهات من النوع الثاني بقسميه؛ لأنه لا ترك فيه للدليل* بغير قصد ولا بقصد التأويل. "د".
4 مضى تخريجه "ص158".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الدليل".(34/381)
ص -273-…ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت، قال في "مختصر ما ليس في المختصر": لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم، فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهرا؛ لم يقضيا ما مضى -إذا تأولتا في1 ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم- وقيل في المستحاضة: إذا تركت بعد أيام أَقْرَائها يسيرا أعادته، وإن كان كثيرا؛ فليس عليها قضاؤه بالواجب، وفي سماع أبي زيد عن مالك: أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام. واستحب ابن القاسم لها القضاء؛ فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل؛ فجعلوه من قبيل العفو، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم2 قبل الفجر، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر؛ فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب، فلا كفارة هنا، وإن خالف الدليل؛ لأنه متأول، وإسقاط الكفارة هو3 معنى العفو.
وأما النوع الثالث، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه فيه نظر، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله مما اختلف فيه4، فأما على القول بصحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تصحفت في "د": "تأولنا" بالنون.
2 تأمل لتدرك الفرق بين هذه الأمثلة وما مضى فيمن سافر أقل من أربعة برد، حيث كان من الأول الواقف مع مقتضى الدليل المعارض بقوي، وبين هذا الخارج عن الدليل متأولا؛ فالفرق غير ظاهر. "د".
3 ولِمَ لم نقل: وإسقاط الإثم أيضا، وكأنه بان على ما سبق له آنفا من أن الكلام في الأحكام الدنيوية، وقد علمت أن هذا لا يطرد في أصل المسألة، وأمثلته الكثيرة لها، بل وتصريحه سابقا بقوله: "ورفع الحرج والمغفرة". "د".(34/382)
4 لا يحق لأحد بعد التفقه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}, وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أن يذهب إلى أن يكون بعض الوقائع خاليا من الحكم الشرعي على معنى أن الشريعة أهملته إهمالا مطلقا، بحيث لم تصب دليلا أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه؛ هل هو الإيجاب، أو الحظر، أو رفع الحرج؟ ولم يبق سوى أن من يقول في الوقائع ما يخلو عن الحكم إنما يقصد عدم نصب دليل يخصه أو يخص نوعه، وهو المسكوت عنه الذي عرف بأدلة عامة أن الشريعة تصدت رفع الحرج فيه عن المكلفين، ورأت طائفة إلى أن الأدلة العامة تجعله من قبيل المحظور. "خ".(34/383)
ص -274-…الخلو؛ فيتوجه النظر، وهو مقتضى الحديث: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"1، وأشباهه مما تقدم.
وأما على القول الآخر؛ فيشكل الحديث؛ إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال، بل هو إما منصوص، وإما مقيس على منصوص، والقياس من جملة الأدلة الشرعية؛ فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم، فانتفى المسكوت عنه إذًا.
ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم, عليه السلام.
فالأول:
كما في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، وإذا نظر إلى المعنى [أشكل]2؛ لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام؛ فكان للنظر هنا مجال، ولكن مكحولا سئل عن المسألة؛ فقال: كله، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم، يريد -والله أعلم- أن الآية لم يخص3 عمومها، وإن وجد هذا الخاص المنافي، وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص225".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 في الأصل: "تخص".(34/384)
ص -275-…اللفظ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة.
وإلى نحو هذا يشير قوله, عليه السلام: "وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"1 وحديث الحج أيضا مثل هذا، حين قال: "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟"2؛ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد، فكَرِهَ عليه السلام سؤاله، وبين له علة ترك السؤال عن مثله، وكذلك حديث: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما..."3 إلخ يشير إلى هذا المعنى، فإن السؤال عما لم يحرم، ثم يحرم لأجل المسألة، إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه4 فيه يقتضي التحريم، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية، وإن اختلفت فروعه في أنفسها، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل، ونحو حديث: "ذروني5 ما تركتكم"6 وأشباه ذلك.
والثاني:
كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج؛ كالخمر، فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية، ثم جاء الإسلام؛ فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص253" وهو حديث حسن.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، 3/ 606/ رقم 1785"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، 2/ 883-884/ رقم 1216" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أي؛ فهو يسكت عنه؛ أي: يترك الاستفصال فيه مع وجود مظنته. "د".
5 فلا تستقصوا*؛ فيترتب على ذلك تفصيل لا يكون فيه مصلحتكم. "د".
6 مضى تخريجه "ص256"، وهو في "الصحيحين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يستقصوا".(34/385)
ص -276-…ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]؛ فبين ما فيها من المنافع والمضار، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع1، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم؛ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة؛ فالحكم للمفسدة، والمفاسد ممنوعة2؛ فبان وجه المنع فيهما، غير أنه لما لم ينص على المنع -وإن ظهر وجهه- تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات، ودخل لهم تحت العفو، إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوه}؛ فحينئذ استقر حكم التحريم، وارتفع العفو, وقد دل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]؛ فإنه لما حرمت قالوا: كيف بمن مات وهو يشربها؟ فنزلت الآية3، فرفع الجناح هو معنى4 العفو.
ومثال5 ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم؛ كبيع المضامين، والملاقيح، والثمر قبل بدو صلاحه، وأشباه ذلك، كلها كانت مسكوتا عنها، وما سكت عنه؛ فهو في معنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النفع".
2 ولذا قال بعضهم: إن التحريم بدأ من هذه الآية؛ لأنه ذكر ما يقتضي الحرمة، لكن لما لم ينص؛ تمسكوا بالأصل بمقتضى العادة، فكان عفوا. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...}، 8/ 278/ رقم 4620"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر... 3/ 1570/ رقم 1980" عن أنس, رضي الله عنه.
4 تنبه لهذا؛ فهو يؤيد ما قلناه في معنى العفو، وأن الأصل فيه الحكم الأخروي، والأحكام الدنيوية إن وجدت تكون تابعة له. "د".
5 في النسخ المطبوعة: "ومثل".(34/386)
ص -277-…العفو، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى؛ لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام؛ كالقراض، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء.
والثالث:
كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما؛ إلا ما غيروا؛ فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام؛ فيفرقون بين النكاح والسفاح، ويطلقون، ويطوفون بالبيت أسبوعا، ويمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة، ويلبون، ويقفون بعرفات، ويأتون مزدلفة، ويرمون الجمار، ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها، ويغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم، ويقطعون السارق، ويصلبون قاطع الطريق، إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم؛ فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام؛ فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم، وانتسخ ما خالفه؛ فدخل ما كان قبل ذلك1 في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة، وقد نسخ منها ما نسخ، وأُبقي منها ما أبقي على المعهود الأول.
فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة وانضبطت والحمد لله على أقرب ما يكون إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته؛ إلا أنه بقي النظر في العفو؛ هل هو حكم أم لا؟ وإذا قيل حكم؛ فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم خطاب الوضع؟ هذا محتمل كله، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي؛ لم يتأكد البيان فيه، فكان الأولى تركه، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما استمروا عليه مدة ثم نسخ."د".(34/387)
ص -278-…المسألة الحادية عشرة: فرض الكفاية
طلب الكفاية, يقول العلماء بالأصول: إنه متوجه على الجميع، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين, وما قالوه صحيح من جهة كلي1 الطلب، وأما من جهة جزئيه؛ ففيه تفصيل, وينقسم أقساما، وربما تشعب تشعبا طويلا، ولكن الضابط للجملة من ذلك؛ أن الطلب وارد على البعض، ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب، لا على الجميع عموما.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية [التوبة: 122]؛ فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع.
وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}2 الآية [آل عمران: 104].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار مجموعة فروض الكفايات، وإلا؛ فهذا إنما يتوجه على بعض المكلفين المتأهلين للقيام به، ويتفرع على هذا أنه إذا لم يقم به أحد؛ فإن الإثم لا يعم المكلفين، بل يخص المتأهلين فقط، هذا مراده ومحل استدلاله؛ فعليك بتطبيق أدلته على هذا المعنى، وهذا غير الخلاف بين الأصوليين في أنه متوجه على الكلي الإفرادي؛ كما هو التحقيق، أو المجموعي كما هو مقابله؛ لأن خلافهم يجري هنا أيضا بعد تسليم مسألته هنا؛ فيقال: هل البعض المتأهل لهذا الفرض الوارد عليه الطلب المراد به كل البعض الإفرادي أو المجموعي. "د".(34/388)
2 هذه الآيات لا تدل على أن الطلب متوجه إلى البعض، بل للمانع أن يقول: المعنى يجب عليكم جميعا أن يكون بعضكم المتأهل لذلك داعيا إلى الخير... إلخ مثلا، ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل المسائل ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة؛ أثم جميع المكلفين، المتأهل وغيره، وفي مثله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلخ. "د".
قلت: انظر حول تفسير الآيات في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 165-166"، و"بدائع التفسير" "1/ 508 و2/ 384-385" لابن القيم.(34/389)
ص -279-…وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 102] الآية إلى آخرها.
وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع.
والثاني:
ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى؛ كالإمامة1 الكبرى أو الصغرى، فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب2 بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها3, وكذلك الجهاد -حيث يكون فرض كفاية- إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأيه يكون الإثم الآن حيث لا خلافة قائمة على من كان فيه الأوصاف المعتبرة للخلافة لا غير، وليست الأمة بآثمة، فإذا فرض أن الشروط المرعية غير متوفرة الآن؛ فلا إثم على أحد، وهذا ما لا يمكن أن يسلم به، والتعين الذي يقوله شيء آخر غير فرض الكفاية الذي هو موضوعنا. "د".
2 بل الذي يقال: إنما تسند إلى من كان أهلا، ولكن المطالب بذلك الجميع. "د".(34/390)
3 المستحق للولاية من تحقق فيه أمران: أحدهما: القدرة على القيام بأعبائها، وهذا يرجع إلى العلم وجودة الرأي في تدبير شئونها. ثانيهما: الاستقامة، وهي العمل بما عرف من حق ومصلحة، وإجراؤه بعزم ثابت على الرغم من كل هوى يثور في النفس أو خيال يزين له إيثار مرضاة الوجيه أو الغني على الفوز برضا الأمة الذي هو أمارة رضوان الخالق وسلامة العاقبة، هذان الشرطان هما اللذان يصح لمن تحققا فيه أن يتقلد منصبا أو عملا، ولكن جاء في الحديث الصحيح المصرح بأن يكون الإمام الأكبر قرشيا، وحقق آخرون النظر؛ ففهموا أن ذكر القرشية في الحديث لكون شدة العصبية التي هي ملاك المنعة وعزة الجانب كانت بالغة غايتها في قريش، لو انحلت الرابطة القرشية ونهض رئيس غير قرشي، وقد التفت حوله قوة يمكنها أن تذود عن الأمة كل من يتهافت به الجشع على استعبادها؛ لكان جديرا بالإمامة وحقيقا بأن تمد له الشعوب الإسلامية أيديها بالمبايعة والطاعة. "خ".(34/391)
ص -280-…يتعين1 القيام به على من فيه نجدة وشجاعة، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية؛ إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعا.
والثالث:
ما وقع من فتاوى2 العلماء، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى؛ فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال لأبي ذر3: "يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم"3، وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك؛ فقد نهاه عنها، فلو فرض إهمال الناس لهما؛ لم يصح4 أن يقال بدخول أبي ذر في حرج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لسنا في فرض العين، فهذا مسلم أنه إنما يتعين على هؤلاء، ولكن علينا جميعا أن يحصل ذلك، وبالجملة؛ فالقيام فعلا بالمصلحة إنما يسند إلى من يتأهل له، وقد يكون الطلب المتوجه إليه في ذلك طلب عين إذا لم يوجد متأهل خلافه، فإن وجد؛ كان الطلب لا يزال كفائيا، كغيره ممن لم يتأهل، ويكون الفرق بين المتأهل وغيره؛ أن غير المتأهل عليه أن يعمل ليقوم بها المتأهل، والمتأهل عليه ذلك، وعليه إذا تعين لها أن يقوم بها. "د".
2 هل فتاوى العلماء تعتبر دليلا في مثل هذا، وهو أصل كبير في الدين ينبني عليه كما قلنا أحكام تشمل الأمة أو لا تشملها؟ "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826", وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا/ رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
4 وهذا صريح فيما قررناه من أنه ينبني على كلامه أن المخاطب بفرض الكفاية خصوص(34/392)
من فيه أهلية له، فلو أهمل؛ لم تأثم الأمة، حتى لو فرض أن المسلمين كان فيهم واحد فقط أهلا للخلافة ولم يتوسدها؛ كان هو الآثم فقط، وهل ينال الخلافة بغير الأمة التي تعهد إليه بها؟ فإذا لم تنهضه الأمة وتبايعه؛ كانت آثمة قطعا. "د".(34/393)
ص -281-…الإهمال، ولا من كان مثله.
وفي الحديث: "لا تسأل الإمارة"1، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب، ونهى أبو بكر -رضي الله عنه- بعض الناس عن الإمارة، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليها أبو بكر، فجاءه الرجل، فقال: نهيتني عن الإمارة ثم وليت؟ فقال له: "وأنا الآن أنهاك عنها". واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا2.
وروي أن تميمًا الداري استأذن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في أن يقص؛ فمنعه من ذلك3، وهو من مطلوبات الكفاية -أعني: هذا النوع من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- وتتمته: "فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "ص235"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 321" مطولا، دون قصة مراجعة الرجل له بذلك بعد توليه الخلافة، وفيه أن اسم الرجل: رافع الطائي.
وزاد نسبته في "الإصابة" "1/ 497"، للطبراني وابن خزيمة.
3 أخرج أحمد في "المسند" "3/ 449", وابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر/ رقم 3"، والطبراني في "الكبير" "7/ 177" عن السائب بن يزيد؛ قال: "لم يقص على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عهد أبي بكر، ولا عهد عمر -رضي الله عنهما- وأول من قص تميم الداري، استأذن عمر أن يقص؛ فأذن له أن يقص قائما على رجليه".
وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن.
وأخرج ابن وهب في "الجامع" "1/ 89"، والطبراني في "الكبير" "2/ 49"؛ أن تميمًا الداري استأذن عمر في القصص فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال: =(34/394)
ص -282-…القصص الذي طلبه تميم -رضي الله عنه- وروي نحوه عن علي بن أبي طالب, رضي الله عنه1.
وعلى هذا المَهْيَع2 جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات؛ فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم: أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس؛ فلا"3، يعني به الزائد على الفرض العيني، وقال أيضا: "أما من كان فيه موضع للإمامة؛ فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"؛ فقسم كما ترى، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه، ومن لا جعله مندوبا إليه, وفي ذلك بيان أنه ليس على كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "إن شئت"، وأشار بيده "يعني الذبح".
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عمرو بن دينار لم يسمع عمر، قاله الهيثمي في "المجمع" "1/ 89".
وأخرج ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر" "رقم 5" عن حميد بن عبد الرحمن؛ قال: "إن تميمًا الداري استأذن عمر -رضي الله عنه- أن يقص، فلم يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال له عمر: تقول ماذا؟ فقال: أقرأ عليهم القرآن وأذكرهم وأعظهم. قال: فأذن له في الأسبوع يوما واحدا، ثم استأذن عثمان -رضي الله عنه- فأذن، ثم استزاده؛ فزاده يوما واحدا، وقد كان استزاد عمر يوما واحدا؛ فلم يأذن له".
وحميد بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، وفي إسناده أيضا عبد الله بن نافع الصائغ، في حفظه لين؛ فإسناده ضعيف، ولكن أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 9-15"، وابن وهب في "الجامع" "1/ 88، 89" من طرق كثيرة عن عمر، تدلل على أن للقصة أصلا.
1 وعن عثمان -رضي الله عنه- كما تقدم، والوارد عن علي أخرجه ابن وهب في "الجامع" "1/ 88".
2 المهيع: الطريق الواسع المنبسط. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
3 أخرجه بنحوه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 32، 34، 35"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 45-46".(34/395)
ص -283-…الناس1، وقال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم؛ ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه؟!
وبالجملة؛ فالأمر في هذا المعنى واضح، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول.
لكن قد يصح أن يقال: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز2؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون بسدها على الجملة3؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القيام به فعلا، وهذا لا نزاع فيه؛ لأن طبيعة فرض الكفاية أنه يقوم به أحد المتأهلين له. "د".
2 هذا مع قوله سابقا: "فلو فرض إهمال... إلخ" يقتضي أنه ليس وجوبا حقيقيا بحيث يأثم الجميع بالترك؛ لأن هذا معنى "التجوز" الذي يقوله، يعني أنه* ليس واجبا بمعناه الشرعي؛ فلا يتم قوله بعد: "فلا يبقى للمخالفة وجه"، وإن كان يريد أنه فرض على الجميع حقيقة يأثم الكل بتركه؛ لأن عليهم إقامة القادر على الواجب، يعني: فإذا تركوا أثم الكل صح الكلام، لكن يخالف ما تقدم، ويجعل البحث كله والمسألة جميعها غير منتجة ثمرة في الدين، وتدخل المسائل التي لا هي من صلب العلم ولا من ملحه. "د".
3 يمتاز فرض الكفاية عن فرض العين بأن القصد منه وقوع الفعل المأمور به من غير نظر إلى فاعله، فمتى وقع ذلك الفعل على الوجه الصحيح؛ ارتفع الطلب سواء قام به فرد أو الجماعة بأكملها، أما فرض العين؛ فإن قصد الشارع منه يتوجه إلى الفاعل بعينه، حتى إذا عجز عن القيام بالفعل؛ سقط الطلب جملة، ولم ينتقل إلى غيره؛ لأن مصلحة الفعل في صدوره عن المكلف به المعين لا في وجوده كيف اتفق, كما هو الشأن في فرض الكفاية. "خ".(34/396)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وأنه" بزيادة واو!(34/397)
ص -284-…-وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف؛ فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر.
فصل:1
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها وتتبين صحتها بحول الله.
وذلك أن الله -عز وجل- خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد؛ إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح -كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب الشرعية أو العادية- وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر تحته مبادئ وأسسا مهمة في التربية غاية، قل أن تجدها عند غيره؛ فلله دره ما أفهمه وأبعد غوره وأغزر علمه!
وانظر حول هذه المبادئ: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-151".(34/398)
ص -285-…تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم1 على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها, وآخر للصراع والنطاح، إلى سائر الأمور.
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه؛ فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها ويراعونها [إلى]2 أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط3، ثم يخلى4 بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدركات الضرورية؛ فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.
فإذا فرض -مثلا- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع -وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف- ميل به نحو ذلك القصد, وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ظهر. انظر: "لسان العرب" "ن ج م".
2 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.
3 أي: الأمور والأحوال. انظر: "لسان العرب" "خ ط ط".
4 في الأصلي: "تخلي".(34/399)
ص -286-…به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ ترك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به؛ فعل معه فيه ما فعل فيما قبله، وهكذا إلى أن ينتهي.
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا -فإنه الأحق بالتقديم- فإنه يصرف إلى معلميها؛ فصار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له, فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعد إلى أن [صار]1 يحذق القرآن؛ صار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له كذلك، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيمال به نحو ذلك، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية، أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض, وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم؛ لأنه سير أولا في طريق مشترك, فحيث وقف السائر وعجز عن السير؛ فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وفي التي يندر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة.
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، ولا على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل، ولا بالعكس، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع، وإلا؛ لم ينضبط الأول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم [وأحكم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.(34/400)
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(34/401)
ص -287-…المسألة الثانية عشرة: للحاجة والضرورة
ما أصله1 الإباحة للحاجة أو الضرورة؛ إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض, أم2 هذا محل نظر وإشكال؟ والقول فيه أنه لا يخلو؛ إما أن يضطر إلى ذلك المباح، أم لا، وإذا لم يضطر إليه, فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا؛ فهذه أقسام3 ثلاثة:
أحدها:
أن يضطر إلى فعل ذلك المباح؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل، وعدم اعتبار ذلك العارض؛ لأوجه:
- منها: أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل، ولم يبق على أصله من الإباحة، وإذا صار واجبا؛ لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه، وليس فرض المسألة هكذا؛ فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى؛ فلا بد من الرجوع إليه، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان أصله مباحا؛ كالأكل والشرب والبيع والشراء والنكاح، ولكنه اضطر إليه الشخص أو احتاج إليه حاجة يلحقه بسببها ضيق شديد وحرج لو ترك فعله، وهو مع كونه مضطرا إليه أو محتاجا إليه تعرض له مفسدة واقعة بالفعل أو متوقعة؛ فهل يعتبر جانب اللاحق من المفسدة فتنقض حكم الإباحة فيصير ممنوعا مع أنه ضروري أو حاجي، أو لا يعتبر الطارئ ويبقى لا حرج في استعماله؟ وقد مثل الضروري في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الأدلة بالبيع والشراء الذي لا يسلم غالبا من لقاء المنكر أو ملابسته بسببه، وسيمثل هنا لما في تركه الحرج بمخالطة الناس.
"د".
2 في النسخ المطبوعة: "أو".
3 وهي ما إذا اضطر إليه، وما إذا لحقه بتركه حرج، وما ليس واحد منها، وسيذكر الثالث أثناء المسألة الثالثة عشرة. "د".(34/402)