ص -62-…فقهاء العراق وغيره حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته
قيل سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك وابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد وهذا كما أن عامة(29/72)
ص -63-…الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا
ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف كما سمعه غيرهما
ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا
وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة وكان مروان يستخلف وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه(29/73)
ص -64-…بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة
وقوله في المكتوبة وغيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث وأبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره فيكبر حين يقوم ويكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد وذكر نحوه
وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت وفعله في كل خفض ورفع
يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أردفه البخاري بحديث مطرف قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم
فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير وأما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد وليس هذا أيضا مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله(29/74)
ص -65-…فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة ونفي التسبيح في الركوع والسجود ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك ولهذا استدل بعض من كان لا يتم بالتكبير ولا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يتم التكبير رواه أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل وهذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا وأن علي بن أبي طالب وأبا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات ولازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها ولا رفعها
و هذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات وليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد(29/75)
ص -66-…بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع والسجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره
و يدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير وكان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه
و قد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض والرفع وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض وأما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله
قال وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما وغير إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك ولكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة ولهذا فرق أحمد بين الفرض والنفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض وإن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره
وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو(29/76)
ص -67-…مشهور عنه وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ويدل عيه مارواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن وتركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما رفع وخفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال
قال وقد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن علي بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل وحديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة
قلت ما ذكره مالك فكما ذكره وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في الصلوات وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير وقد قال ابن عبد البر روى(29/77)
ص -68-…ابن وهب أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر
قال ابن عبد البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال(29/78)
ص -69-…قلت لعمر بن عبد العزيز ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول وأبى أن يقبل مني
قلت وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا وقبله ما ذكره أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد
قلت زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره وروى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها وإما تركناها عمدا وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد
و معلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم(29/79)
ص -70-…فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول
ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا ولكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض السنة ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين
وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه" وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود وكذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله(29/80)
ص -71-…وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا
فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس
ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله(29/81)
ص -72-…هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية
فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم والكبير وذو الحاجة ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال صلى الله عليه وسلم إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود
وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير(29/82)
ص -73-…و ذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة
و لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس {وروى أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة وكان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً}فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف
فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها
ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن ابراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعول على من لا حجة فيه(29/83)
ص -74-…قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين
فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه
فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك
آخر ما وجد في الأصل والحمد لله رب العالمين
فصل
وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة فرضها ونقلها المشتملة على الأركان الفعلية أو على ركن واحد وعند أهل الكوفة تسليمتان في جميع ذلك وافقهم الشافعي(29/84)
ص -75-…والمختار في المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد كصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما حاءت أكثر الآثار بذلك فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها
[ صلاة الجماعة ]
فصل
فأما صلاة الجماعة فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر وتقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ففرق بين العلم بالكتاب والعلم بالسنة كما دل عليه الحديث وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك وغيره
وقد يقول بعض العلماء هي سنة مؤكدة وقد يقول آخرون هي فرض على الكفاية ولهم في تقديم الأئمة خلاف
و يأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس وهي تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول(29/85)
ص -76-…و توسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المنفرد خلف الصف ويأمره بالإعادة كما أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة وكما أمر المسيء في وضوءه الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة
فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها
و الذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف
و أما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر فيقول في مثل هذه المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف
و نقول إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن(29/86)
ص -77-…الصلاة ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام ونحوه وإن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى في بعض صفات صلاة الخوف ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر
ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين
وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة
و كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقولون بجواز اقتداء المفترض(29/87)
ص -78-…بالمتنقل للحاجة كما في صلاة الخوف وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال
فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة والمنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي
و يشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة والرواية الثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة والرواية الثالثة الجواز مطلقا كقول الشافعي ولهذا جوز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجل لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا تؤمن امرأة رجلا وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء
و لهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في الإمام إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة الإمام والتشبه بالأعاجم في القيام له وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير
و لكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام(29/88)
ص -79-…به ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة ولم ير هذا منسوخا بكونه صلى الله عليه وسلم في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله فيفرق بين القعود من أول الصلاة والقعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء
فصل
في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام
الناس فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ارتباط بينهما وأن كل امرئ يصلي لنفسه وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعي لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي والرجل بالمرأة وإبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر والمحدث وفي هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه
ومن الحجة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة إن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم
والقول الثاني: أنها منعقدة بصلاة الإمام فرع عليها مطلقا فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم لقوله صلى الله عليه وسلم الإمام ضامن وعلى هذا فالمؤتمن بالمحدث الناسي لحدثه يعيد كما يعيد إمامه وهذا مذهب(29/89)
ص -80-…أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ بالمتيمم لنقص طهارته عنه
والقول الثالث: أنها منعقدة بصلاة الإمام بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر فلا يسري النقص فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة والمأموم معذور في الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه ينزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم نفسه
وعلى هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ من خروج النجاسات من غير السبيلين ولا من مس الذكر ونحو ذلك فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فإنه هناك تجب عليه الإعادة وهذا أصل نافع أيضا
ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطأه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا لطهارته وكان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة وقلنا عليه الإعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته وأما المأمومون فلهم هذه الصلاة وليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص في إجزاء صلاتهم
وكذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره ويصلي أو يحتجم ويصلي أو يترك قراءة البسملة أو يصلي(29/90)
ص -81-…وعليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم ونحو ذلك فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم وليس عليه من خطأ إمامه شيء وكذلك روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم لكن لم يذكر أبو داود وأتم الصلاة فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ ومفهوم قوله وإن أخطأ فعليه ولا عليهم أنه إذا تعمد لم يكن كذلك ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا ينبغي الصلاة خلفه
فصل
وأما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده
وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما وإن اختاروا القنوت بعد الركوع لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد سمع الله لمن حمد فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بينت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء وآخرها دعاء
وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر منهم من قال هو منسوخ فإنه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم يبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعد الركوع فقال قبل الركوع قال فإن فلانا أخبرني(29/91)
ص -82-…أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا جاء لفظه مفسرا أنه ما زال يقنت قبل الركوع
والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك جاء مفسرا
ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال قلت لأنس بن مالك رضى الله عنه قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال نعم بعد الركوع يسيرا فأخبر أن قنوته كان سرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمى كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} ولهذا لما سئل ابن عمر رضى الله عن القنوت الراتب قال ما سمعنا ولا رأينا وهذا قول ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت وروى عنه أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا وهذا قول الشافعي(29/92)
ص -83-…ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر لكن لم يرو أحد انه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن على وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيرهم فقالوا قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم" وكما قال في صفات الأبدال: "بهم ترزقون وبهم تنصرون" وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه وتعالى في قوله {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه صلى الله عليه وسلم تركه لزوال ذلك(29/93)
ص -84-…السبب وكذلك كان عمر رضى الله عنه إذا أبطأ خبر عليه جيوش السلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم
قالوا وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول ص = أمرا لحاجة ثم تركه لزالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل
قالوا ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم أن حى على خير العمل لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة
فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة
وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة مالا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا(29/94)
ص -85-…[ القراءة خلف الإمام ]
فصل
وأما القراءة خلف الإمام
فالناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعي وقول طائفة معه ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاته الجهرية وللبعيد الذي لا يسمع الإمام وأما للقريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الإمام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى إنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام
واصل الشافعي أن كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامة لا في فرض ولا سنة ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك
وأما مالك وأحمد فإنها عندهما مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرنا من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندها سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه(29/95)
ص -86-…النصوص الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة
[ الصلوات في الأحوال العارضة ]
فصل
وأما الصلوات في الأحوال العارضة
كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الباب فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختارون قصر الصلاة في السفر إتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فأنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفي ذلك عن أحمد روايتان
وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يفعله إلا مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر مختلفون في جواز الإتمام ومجمعون على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفون في جواز الجمع بينهما
ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان وفي الصحيح أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما جاء(29/96)
ص -87-…عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك الجنازة فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على المشهور عند احمد التخميس في التكبير ومتابعة الإمام في ذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على بن أبي طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولما في ذلك من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم
فصل
الأصل الثاني الزكاة
وهم أيضا متبعون فيها لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة أو بأحسنها في السائمة فاخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق رضى الله عنه ومتابعيه المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإنه متقدم على هذا لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة وأما كتاب الصديق فإنه صلى الله عليه وسلم كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر(29/97)
ص -88-…وتوسطوا في المعشرات بين أهل الحجاز وأهل العراق فإن أهل العراق كأبي حنيفة يوجبون العشر في كل ما أخرجت الأرض إلا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على أن العشر حق الأرض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج وأهل الحجاز لا يوجبون العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد ولا يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب وفي الزروع في الأقوات ولا يوجبون في عسل ولا غيره والشافعي على مذهب أهل الحجاز
وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوافقون في النصاب قول أهل الحجاز لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة في الخضراوات لما في الترك من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه والأثر عنه لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر وإن لم تكن تمرا أو زبيبا كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على إحدى الروايتين لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم
ويوجبها في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما أنزله الله من السماء وما أخرجه من الأرض
ويجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض وصاحبا أبي حنيفة قولمها هو قول أحمد أو قريب منه
وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول أهل الحجاز في الأطعمة والمياه وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم(29/98)
ص -89-…والثاني: أنه ثمانية أرطال والمد ربعه وهو قول أهل العراق في الجميع
والقول الثالث: أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الطهارة ثمانية أرطال كما جاء بكل واحد منهما الأثر فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الأخبار الواردة في ذلك
ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه أم لا فكرهه محمد ولم يكرهه أبو يوسف وأما مالك والشافعي فاتفقا على أنه لا يشترط لها التكليف بما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة
ولم يوجبها في الخيل ولا في الحلى المباح ولا في الخارج إلا ما تقدم ذكره وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة في اسقاطها
وأما أحمد فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها في مال المكلف وغير المكلف
واختلف قوله في الحلى المباح وإن كان المنصور عند أصحابه أنه لا يجب وقوله في الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة نون وغيرها من الدلائل
والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة سواء كان التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو(29/99)
ص -90-…الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مدبرا كالتجار الذين في الحوانيت سواء كانت التجارة بزا من جديد أو لبس أو طعاما من قوت أو فاكهه أو أدم أو غير ذلك أو كانت آنية كالفخار ونحوه أو حيوانا من رقيق أو خيلا أو بغالا أو حميرا أو غنما معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هى أغلب الأموال الظاهرة
فصل
ولا بد في الزكاة من الملك
واختلفوا في اليد فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال
أحدها: أنها تجب في كل دين وكل عين وإن لم تكن تحت يد صاحبها كالمنصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر أو مماطل وانه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا أحد قولى الشافعي وهو أقواهما
فصل
والناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال
أحدها: أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة
والثاني: لا يجزئ بحال كما قاله الشافعي
والثالث: أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس
وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحا فإنه منع من إخراج القيم وجوزه في مواضع للحاجة لكن من أصحابه من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لأنه المشهور عنه كقول الشافعي وهذا القول(29/100)
ص -91-…أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعا
فصل
وأما الأصل: الثالث فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة منهم أبو حنيفة أنه يجزئ كل صوم فرضا كان أو نفلا بنية قبل الزوال كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال إني إذا صائم
وبإزائها طائفة أخرى منهم مالك قالت لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث حفصة وابن عمر الذي يروي مرفوعا وموقوفا لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل
وأما القول الثالث فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله إني إذا صائم كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء إن كان واجبا فإنما وجب عليهم من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين أن ذلك كان في رمضان فباطل لا اصل له
وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي وأحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة(29/101)
ص -92-…واختلف أصحابهما في الثواب هل هو ثواب يوم كامل أو من حين نواه والمنصوص عن أحمد أن الثواب من حين النية
وكذلك اختلفوا في التعيين وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
أحدها أنه لا بد من نية رمضان فلا تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين اختارها كثير من الصحابة
والثاني انه يجزئ بنية مطلقة ومعنية لغيره كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد
والثالث انه يجزئ بالنية المطلقة دون نية التطوع أو القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه
فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فقال قوم يجب صومه بنية من رمضان احتياطا وهذه الرواية عن أحمد وهى التي اختارها أكثر متأخرى أصحابه وحكوها عن أكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب الظن
وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي استدلالا بما جاء من الأحاديث وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك
وهناك قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز طلوعه جاز له الإمساك والأكل وإن أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب(29/102)
ص -93-…الإمساك لكن وأكثر نصوص أحمد تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه والمنقول عنهم أنهم كانوا يصومون في حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا عليهم الترك
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو بل نهى عنه لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك
واختلف الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين وكذلك اختلف أصحابه في ذلك
وأما يوم الصحو عنده فيوم شك أو يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة أو كفارة أو صلاة أو غير ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطا فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك
وأيضا فإن أول الشهر كأول النهار ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما يخاف من الزيادة في الفرض
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب فإن الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم لم يصرحوا بالوجوب(29/103)
ص -94-…وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بعد عن أصول الشريعة والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم إكمال العدة كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر
فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد
ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر لكان عن التحريم والإيجاب يؤثر عن الصديق أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر لكن
[ الأصل الرابع: الحج ]
فصل
وأما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفته وأحكامه
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدى فإنه لا يحل حتى(29/104)
ص -95-…يبلغ الهدى محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال أنظروا ما أمرتكم به فافعلوه وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى فلم يحل من إحرامه ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال لو استقبلت من أمري مااستدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدى لأحللت وقال أيضا إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك فلما زالت الشمس ركب وهو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة واسمه إلال على وزن هلال وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند قزح وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمى جمرة العقبة ثم رجع(29/105)
ص -96-…إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذي ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهى الصغرى وهى الدنيا إلى منى والقصوى من مكة ويختم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاث عرفة ومزدلفة ومنى ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمى الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بنى كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة وقد بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرام إلى الحل إلا عائشة وحدها
فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة
فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سف واحدة وأحرم في أشهر الحج(29/106)
ص -97-…كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من يقول إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقول الكوفيون وأما على قول أكثر الفقهاء أنها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك
وكذلك علموا أن من لم يسق الهدى وقرن بين النسكين لا يفعله وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من قال إنها كانت قارنة
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه ومن قال من أصحاب أحمد إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط وكذلك من قال إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط
وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للأفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله عليه وسلم فأنه لا خلاف بينهم أنه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هى ولا كان صلى الله عليه وسلم أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة
فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط
وسبب غلطه ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة(29/107)
ص -98-…النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت عن أنس ابن مالك أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجا" وعن عمر أنه اخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال قل عمرة في حجة ولم يحك أحد لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس
فلهذا قال الإمام أحمد لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأما ألفاظ الصحابة فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القرآن ولذلك وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته فمن قال منهم تمتع بالعمرة إلى الحج لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه فهذا يسمى متمتعا لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ولهذا يسميه بعض أصحابنا متمتعا ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالإسمين وهو الأصوب وهذا التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد(29/108)
ص -99-…ومع هذا فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج قبل الطواف لقوله لبيك عمرة وحجا ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ} لأن العمرة دخلت في الحج كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
وإذا كانت عمرة التمتع جزءا من حجه فالهدى المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لأن نحره إنما يكوه عند بلوغه محله وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة فإنه حل حلا مطلقا
وأما ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثم المقام بعرنه التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنه فهذا كالجمع عليه بين الفقهاء وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وأن ينفردا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد
وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في(29/109)
ص -100-…الجمع واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد
وهذا ليس بحق فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف لأجل أن لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال أحمد أنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفرق الصلوات
ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر فإنه لا يشرع إلا للمسافر
وبهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع حتى أمر أحمد وغيره أن الموسم لا يقيمه أمير مكة لأجل قصر الصلاة
وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عبادته الخمس إلا أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك لأجل النسك
والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى خلفه بعرنه ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلى بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر(29/110)
ص -101-…فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا
ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه أخذا فيه بالعمومات اللفظية أو القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بممنى ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الجمرة كان كما يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد ورمى الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام
ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلى تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا أما أولا فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف
وأما ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي الصلاة
وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا والمروة أ ن يصلى ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح فأن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه طافوا(29/111)
ص -102-…وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه بعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس التراويح على إمام واحدا وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع
فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس بمثله وإنجاز القياس في النوع الأول وهو مثل قياس صلاة العيدين والإستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الإستلام والتقبيل ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}
و أخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة
و ذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وأهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة لأنها إجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد وسنة رسول الله عليه وسلم هي التي يجب إتباعها
و أما المعنى فإن الواصل إلى عرفة وإن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فإذا قضى الوقوف بمزدلفة(29/112)
ص -103-…فقد دعي إلى الجمرة فإذا شرع في الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم يبق مكان يدعى إليه محرما لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول
ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر وإن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا يلبي إلى أن يصل إلى الحرم فإنه وإن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت
نعم يستفاد من هذا المعنى أنه إنما يلبي حال سيره لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها وهذا مما اختلف فيه أهل الحديث
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه
و اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال وذكاه على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة من السلف هو حرام إتباعا لما فهموه من قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه رد لحم الصيد لما أهدى إليه
و قال آخرون منهم أبو حنيفة بل هو مباح مطلقا عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأهدى لحمه للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه لم يصده له كما جاء في الأحاديث الصحيحة
و قالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم إذا لم يصده له المحرم ولا ذبحه من أجله توفيقا بين الأحاديث كما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم قال الشافعي هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم(29/113)
ص -104-…وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله تعالى
[ القاعدة الأولى: الأصل في العقود الإيجاب والقبول ]
فصل
وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرهم
فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات
فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال
أحدها أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح والوقف والعتق وغير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجة كالهبة والإجارة
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في الأخرس ويقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه وكذلك الهدية ونحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوها كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات
و القول الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات(29/114)
ص -105-…المحقرات وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس وكبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس ولأن الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود
وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف
و القول الثالث أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وبكل ما عده الناس بيعا أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع والإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة
ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد ولهذا يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جزرة البقل أو الحلواء أو غير ذلك(29/115)
ص -106-…كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع وكذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة
ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية وكذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري وركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه إجارة ومثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة
فذهب العكبريون كأبي حفص العكبري وأبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن قبله من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم ولعله هو الغالب على نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول وبالفعل واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به" قال وإذا كتب فقد عمل
و ذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح والنكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه
و أما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد والقاضي وأصحابه مثل أبي الخطاب(29/116)
ص -107-…و عامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية والشهادة شرط في صحة النكاح والشهادة على النيه غير ممكنة ومنعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال أكثر هؤلاء كابن حامد والقاضي والمتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين وأن فيه ثواب التعبد
وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك وبقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته
فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه وقال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين
و أما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد وأن ذلك من صور الاستحسان
و ذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله
و مذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل(29/117)
ص -108-…ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبني على مقدمتين
إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة إلى النية ومذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة وتقوم مقام إظهار النية ولهذا جعلا الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح
و معلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ولهذا روى الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة أنكحتكها بما معك من القرآن وتارة ملكتكها وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا
ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع(29/118)
ص -109-…ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها
نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع
وقد ذكر أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل والمتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا
و معلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر وإنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} وقال {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فأمر بالولي الشهود ونحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح وصيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها وأمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح وبأنه يحفظ النسب عند التجاحد
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة(29/119)
ص -110-…فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقال {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقال {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقال {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وقال {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقال {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وقال {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وقال {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقال {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ} وقال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقال {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقال {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا وإما إباحة والمنهي فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه(29/120)
أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وبطيب نفس في التبرع في قوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في(29/121)
ص -111-…جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال
فنقول قد وجد التراضي وطيب النفس والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن وبعض الناس قد يحمله اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب
الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه"
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع وليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر(29/122)
ص -112-…بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع
و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن يكون مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}(29/123)
و العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ(29/124)
ص -113-…َشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول
البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها
و إذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي
و أما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا
فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا بنى الله(29/125)
ص -114-…له بيتا في الجنة" فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر ولم يصدر من ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا وكان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى ويكون الإعطاء هو الإيجاب والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم وللعباس وغيرهم
وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى" ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر
ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف(29/126)
ص -115-…بطريق الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا
وعلى هذا يخرج مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه وسلم اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك وكذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس
وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزم وعروة بن الجعد لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم في شراء شاه بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار
فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة وتارة بالتبرع وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص
فصل
القاعدة الثانية: في المعاقد حلالها وحرامها
و الأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق
و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا(29/127)
ص -116-…و الميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة وسور آل عمران والروم والمدثر وذم اليهود عليه في سورة النساء وذكر تحريم الميسر في المائدة
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال المشتري قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء
و ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر وأما الربا فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات وكلاهما أمر مجرب عند الناس
و ذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة(29/128)
ص -117-…بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها والربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم ويعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الأخذ وموكله وهو المحتاج المعطي الزيادة وشاهديه وكاتبه لإعانتهم عليهم
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل
و أما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة وبيع السنين وإما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق وإما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي
فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك ففيه خلاف مشهور وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة وعن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح(29/129)
ص -118-…بيعه بحال كقول الشافعي الجديد والثانية يصح وإن لم يوصف وللمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة وقد روي عن أحمد لا خيار له والثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي في الذمة وهو قول مالك
و مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد
و جوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل
فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره
و لما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي وأحمد وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب
إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة والحسن أجمع لذلك كله ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته ولهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما يحرمان(29/130)
ص -119-…الربا ويشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته ويمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه وإن لم تكن حيلة وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها
و جماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود
فالأول مسألة مد عجوة وضابطها أن يبيع ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار
فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما وإنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا
و أما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد والمنع قول مالك والشافعي والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد
و أما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
و النوع الثاني من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه وهي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك(29/131)
ص -120-…فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل ويسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك
و قد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل" وفي الصحيحين عنه أنه قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها" وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
و دلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب وحديث تمر خيبر ومعاريض السلف وذكرنا جواب ذلك
ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله(29/132)
ص -121-…عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم وإن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه
ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق
ففي الجملة أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة
و أما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر وكالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري وروى عنه أنه ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه اشتداده وإن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع
قال ابن المنذر جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله ابن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وقال الشافعي مرة لا يجوز(29/133)
ص -122-…ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه وقال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به
و ذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترط غيره ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا ودينا ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر
و أما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد
و أبو حنيفة يجوز بعض ذلك ويجوز من الوكالات والشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا
فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك
و أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع(29/134)
ص -123-…المقاتي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك
و أحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب ومنهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز ويجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر ونحوه إلا إذا قلع وقال هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه والمنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة والشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول مالك
وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد الشرط وإنما سقط في الأقل التابع
و كلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية(29/135)
ص -124-…فقد يقال إن لم يره كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد
وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر
وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين
أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب
والثاني أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين
أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها(29/136)
ص -125-…ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد
الثاني أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع الى أكل الثمر فحاجة البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك(29/137)
ص -126-…وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين
أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا
والرواية الثانية يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعها
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد
واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد
أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد
والثاني الجواز وهو قول أبي الخطاب
وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار
ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح
ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يبدو صلاحها" يقتضي بدو صلاح الجميع(29/138)
ص -127-…والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت
والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان فى وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلى"
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن(29/139)
ص -128-…هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان
أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثاني لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه
هذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل(29/140)
ص -129-…بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين
و سبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من(29/141)
ص -130-…الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه
وثم قسم آخر وهم غالب الناس وهو أن يكون له هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات"
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية
و أكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة وإما أن يحتال وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها وإنما هي من جنس اللعب
و لقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود وكما قال تعالى(29/142)
ص -131-…{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهذا الذنب ذنب عملي وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له وأدى ما أوجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم والسبب الثاني هو عدم العلم والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله تعالى: 33: 72 {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(29/143)
و أصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه 5: 91 {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم واختلافهم وذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا وأبو داود إلى قوله خصومتهم وروى أحمد في المسند عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه(29/144)
ص -132-…و سلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال: "ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابنا الدمان والقشام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها"
فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى قال: "حتى تحمر أو تصفر" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر وتصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك والداروردي قول أنس أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أدرجاه فيه ويرون أنه غلط
فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكل للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون
و إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعروض وإن لم يجز غيره بعوض وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل وإن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه(29/145)
ص -133-…و سلم بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا
و معلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل لأن الغرر فيها يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق" وفي رواية لمسلم عنه: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح" والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه أخذ في ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض التخلية بين المشتري وبينه قبض وهذا على أصل الكوفيين أمشى لأن الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري(29/146)
ص -134-…للثمرة إنما يتمكن من جذادها عند كمالها ونضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع
و أبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة وأن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة" وفي لفظ لمسلم عنه نهى عن بيع النخل حتى تزهى وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين 68: 17 إلى 18 {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} وما ذكره في سورة يونس في قوله 10: 24 {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وإنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب وقبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر(29/147)
ص -135-…فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه
و أيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء
ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجب لرد المثل والحيوان ليس بمثلي وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال
وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة
وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب وإلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة
و أيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجداد وفيه روايتان عن أحمد أحدهما يجوز كقول مالك وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه
و أيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى: 2: 236 {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ(29/148)
ص -136-…إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} والسنن في حديث بروع بنت واشق وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم وإذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس والنجس وإلقاء الحجر فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما(29/149)
و سببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فلذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود وإنما هو نحلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه ولذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي قال لهم إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ونستشفع بالمسلمين على رسول الله وقام فخطب الناس فقال إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متقارب غير محدود وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلو منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتبوا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم(29/150)
ص -137-…وعن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة رواه أبو داود
فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات المسلم وكذلك عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما إنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون أيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده
فصل
و مما تمس الحاجة إليه من فروع هذا القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزدرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض ووغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال(29/151)
ص -138-…أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه
و القول الثاني يجوز إذا كان الشجر قليلا وكان بياض الثلثين أو أكثر وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب ونحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرماني قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر وكأنه لم يعجبه أظنه أراد الشجر لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا
وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن ولأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر
و هذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها واشتراء النخل ودخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا
و حجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع السنين وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع وفيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار وتصفار ويؤكل منها وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد ابن المثنى المحدث عن جابر(29/152)
ص -139-…وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاومة وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زبد قلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وفيهما عن أبي البحتري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز وفي مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبتاعوا الثمر بالتمر"
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكره الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الضرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد
وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل(29/153)
ص -140-…و ذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير إجماع
و القول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقا وهذا قول ابن عقيل وإليه مال حرب الكرماني هذا القول كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال حدثنا عباد بن عباد بن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين وفيها النخل والشجر
و أيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد وغيرها فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض وجعل على كل جريب من جرب الأرض السواد والبيضاء خراجا مقدرا والمشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى جريب الزرع درهما وقفيزا من طعام
و المشهور عند مالك والشافعي وأحمد أن هذه ا لمخارجة تجري مجرى المؤاجرة وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة وأن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده ولهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء
و حجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر وقد لا يساقى عليها
وهذا كما أن مالكا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك(29/154)
ص -141-…الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه وإن كان كثيرا والنخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان
هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد وسوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث والربع فأما إن فاضل بين الجزءين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما في عقدين وقدم المساقاة فيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا
فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض
وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ولأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه ومرتكب لما يظن أنه حرام وصابر ومتضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة ويبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة والثوري وغيرهما وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك
وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف ومحمد والشافعي في القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال وكذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل والعنب فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض ويتبرع له إما بإعراء الشجر وإما بالمحاباة في مساقاتها
و لفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة والمنصوص عن أحمد وأكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك وغيره(29/155)
ص -142-…والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك رواه الأئمة الخمسة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة وغير ذلك هي مثل القرض
فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالاقتراض إلا بالثمن الزائد للسلعة والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف وهكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر ورضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها وإن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر
و الذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل(29/156)
ص -143-…عليهم من الضرر والإضرار ما لا يعلمه إلا الله وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها 22: 78 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال تعالى: 2: 185 {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال تعالى: 4: 38 {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وفي الصحيحين إنما بعثتم ميسرين ويسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا(29/157)
و الغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: 2: 173 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة ويباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة يقضي عنه دينه من الزكاة وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال وحاله كحال الذين قال الله فيهم {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقوله 4: 16 {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها
وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد وبعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد(29/158)
ص -144-…الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول
الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه قبل الأرض والشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر وأسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار ومياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا وكذلك ما ضربه من الخراج على السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله 23: 72 لآ{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره وإنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه والحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء
فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة والمزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور وإما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة والمزارعة
و إن قيل إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل قد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر
و أيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار ونعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم(29/159)
ص -145-…بأنفسهم ولا غالبهم ونعلم أن المساقاة والمزارعة لا تتيسر في كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين وما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر بارد لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر بمال أسيد بن الحضير وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذا الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم
ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر
فإن قيل فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر القبالات ربا قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج قيل فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول القبالات ربا قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوها إنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء وذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله وإما ربا الفضل وذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها(29/160)
ص -146-…نخل بثمر فيكون المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا
فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل والفلاحون من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض وفيها فلاحون يعملون تغل له ما تغل من الحنطة والتمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة والتمر ونحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر
ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة وإن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخد بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء به عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يكتريه ليكويه فقط فقد قيل هو ربا
والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كانت(29/161)
ص -147-…بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان
وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه
و أيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا(29/162)
ص -148-…كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر والسقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا وإن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة وإن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض والمساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة
فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة وإن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد وأكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقويم العبد كله وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ومعلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى وإنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة وإنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها وإن أمكن تفريقهما بالحلب وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز(29/163)
ص -149-…وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن وأما إن كان المقصود هو الثمر فقط ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود وإنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل
الأصل الثاني أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع واستئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات والبهائم والصوف والماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار والعيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ونحوه فلا يوقف
و أما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر وما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية وغير ذلك عارية وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها ويأخذ(29/164)
ص -150-…ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه 65: 6 {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها واللبن دخل ضمنا وتبعا كنقع البئر وهذا مكابرة للعقل والحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك وإنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة وليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها
فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها واستيفاء المنفعة وحال تشبه في الأعيان المحضة وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا وأن كان المشتري هو الذي يجد ويحصد كما لو باعها على الأرض وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلىالمكري حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة فكما أن كراء الأرض ليس(29/165)
ص -151-…ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة والمزارعة وليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في الإنبات ومع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر وقد ينقص فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا
يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا
و إن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت
قيل المعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك
فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها
وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا(29/166)
ص -152-…فظهر به أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل زهوها وبيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها والعمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية ومؤنه التوفية على البائع كالكيل والوزن وأما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا وإنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر والزرع
ولكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها ويسقيها ويحتلب لبنها
قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون
و إن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع وحينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا وأما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة واحتلابه كقطافها وهو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر(29/167)
ص -153-…هذا إذا أكرى الأرض والشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل وبعضه عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر ولهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام في المعاوضات وغيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء وفيه بيع أيضا
فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا وإنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا ويريد أن يقيم في الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة(29/168)
ص -154-…إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى والشجر قليل مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب ونحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك وقياس أكثر نصوص أحمد وغيره وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك وأحمد وإن كان المقصود السكنى والأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق وأما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين وإجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين
ولو لم تكن السكنى المقصودة وإنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس والسقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا وغيرهم وقررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة وربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم(29/169)
ص -155-…مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد وإن كانت المشقة في المقتاة أوكد ولهذا جوزها من منع الأجناس كمالك
فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى
قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين
أحدهما أن يقال إن النهى لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى: 24: 62 {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وفي قوله 73: 16 {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى(29/170)
ص -156-…وتعريف المضاف إليه فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه
ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي
يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى قال تحمر وتصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ويسميه الدمشقيون الدراق أو باللين! بلا تغير لون كالتين ونحوه ولذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار وتصفار ويؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب وكذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر" والتمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته وصفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر(29/171)
ص -157-…وأما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه صلى الله عليه وسلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض وإنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون وعامة معنى لكل ما كان في معناه وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير وقد بينا انتفاءه
الطريق الثاني أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ويجوز أيضا تخصيصه بالإجماع وبالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز واللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض وتارة لا يتغير(29/172)
ص -158-…وإذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار وإنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل
فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها البلوى وفي نظائرها وانظر في عموم كلام الله ورسوله لفظا ومعنى حتى تعطيه حقه وأحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى: 7: 157 {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
و أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة وأما اكتراء الأرض والشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق وإنما هو نوع من الإجارة
و نظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض وأنه نهى عن المخابرة وأنه نهى عن المزارعة وأنه قال لا تكروا في الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة والمزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين
وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة والمزارعة وقد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة(29/173)
ص -159-…والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله 5: 91 {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
فصل
و من القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك
فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره وعن النجش واللمس وإلقاء الحجر وأن العوض في المساقاة والمزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع والثمر قليلا وقد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا
و أما مالك والشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة
فجوز مالك والشافعي في القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه والمالك قد يتعذر عليه سقي شجره وخدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة
و مذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث
و الشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه(29/174)
ص -160-…جازت المزارعة عليه ولأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان
وهذا إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان
أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد
و الثاني يجوز إذا ساقى ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث والربع فإن فاضل بينهما ففيه وجهان
وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير
وروى حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها وسقيها
وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله(29/175)
ص -161-…عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه" أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها بالثلث أو الربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من(29/176)
ص -162-…كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسك أرضه أخرجاه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها وفي رواية الصحيح ولا يكريها وفي رواية في الصحيح نهى عن كراء الأرض
وقد ثبت أيضا في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية في الصحيحين عن زيد ابن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شئ والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبي رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم
فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها فلم يرخص إلا في أن يزرعها أو يمنحها لغيره ولم يرخص في المعارضة عنه لا بمؤاجرة ولا بمزارعة
ومن يرخص في المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو الإجارة أو المزارعة الفاسدة التي كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة من بعده يؤيد ذلك أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع كان يروي(29/177)
ص -163-…حديث أهل خيبر رواية من يفتي به وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومةوجميع ذلك من أنواع الغرر والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم
ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت ابن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها فهذا صريح في النهى عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتي عن رافع بن خديج الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن كرائها بشيء معلوم مضمون وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة
وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن حنبل وأصحابه كله من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة وسليمان بن دواد الهاشمي وأبي خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبي داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب
فمن ذلك معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر وهو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن ابن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع أخرجاه وأخرجا أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: "لما(29/178)
ص -164-…افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها رواه الإمام أحمد وابن ماجة وعن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجة وطاوس كان بالمين وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين وقوله وعمر وعثمان أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة الصديق وقدم الشام في خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري في صحيحه وقال قيس ابن مسلم عن أبي جعفر يعني الباقر ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع قال وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين في الآثار
فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزرعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا(29/179)
ص -165-…على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده إلى أن أجلا عمر اليهود إلى تيماء
وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة مثل أن قال كان اليهود عبيدا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده
و معلوم بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر ولم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم
ومثل أن قال هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فإن خيبر كانت قد صارت دار إسلام وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل بين المهاجرين والأنصار وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب وذلك من وجوه
أحدها أن هذه المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين منفعة العين التي لهذا كبدنه وبقره ومنفعة العين التي لهذا كأرضه وشجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم بخلاف الإجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة فمن استأجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد واستحق الأجير أجره ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك في المبيع وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده هو مثل منفعة أرض المالك وشجره ليس مقصود واحد منهما(29/180)
ص -166-…استيفاء منفعة الآخر وإنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا فيه وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان في المغنم وفي المغرم كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة
فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان معاوضات ومشاركات فالمعاوضات كالبيع والإجارة والمشاركات شركة الأملاك وشركة العقد ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال واشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات وما يحيا من الموات أو يوجد من المباحات واشتراك الورثة في الميراث واشتراك الموصى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داود عليه السلام 38: 24 {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}
و التصرفات الأخرى هي الفضلية كالقرض والعارية والهبة والوصية وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال الباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه لم ينبت الزرع فإن رب الأرض يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئا وبخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين بأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما(29/181)
ص -167-…وهذا المعنى نتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة لا في غرر ولا في غير غرر
ومن تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة وأعرف في العقول وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين في المال المشترك وعمل الشريكين في شركة الأبدان وكاشتراك الغانمين في المغانم ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله كان هذا إجارة
الوجه الثاني أن هذه من جنس المضاربة فإنها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير والمضاربة جوزها الفقهاء الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة لأنها تبتت بالنص فتجعل أصلا يقاس عليه وإن خالف فيها من خالف وقياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويها
فإن قيل الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب ويجيء بدله فالمال المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر والزرع فإنه من نفس الأصل
قيل هذا الفرق فرق في الصورة وليس له تأثير شرعي فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال ولهذا(29/182)
ص -168-…يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا
ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين والمال مشترك وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك وقال له ابنه عبد الله الضمان كان علينا فيكون الربح لنا فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة
وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل أولهما على ثلاثة أقوال وأحسنها وأقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به عمر لأن النماء متولد عن الأصلين
و إذا كان أصل المضاربة الذي اعتمدوا قد عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة ورق ويقول الناس أعرني دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية والمقترض انتفع بها وردها وسموا المضاربة قراضا لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات
ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاءه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس لأن النماء إذ حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما وإن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن فقد يقال والربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل هذا(29/183)
ص -169-…باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد
ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل ويشترط أن يكون معلوما والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل والأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة وإنما هي بعض ما يحصل من النماء ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو أجرة معلومة في الذمة وهذا بين في الغاية فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل وكان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين وإلحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب
الوجه الثالث أن نقول لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص فإنها على ثلاث مراتب
أحدها أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل في ذلك المهر كما في قوله تعالى: 4: 24 {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ} وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم
المرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي عبدي فله كذا فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا
الثالثة الإجارة الخاصة وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة فيكون الأجر معلوما والإجارة لازمة وهذه(29/184)
ص -170-…الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة أو قالوا باب الإجارة أرادوا هذا بالمعنى
فيقال المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل من قال هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ وإذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلا بد أن يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه كما لو قال الأمير في الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى وأحرى ويسلك في هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح
فتحرير المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة فإن أراد الخاصة لم يصح وإن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن تجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحال
و يسلك في هذا طريقة أخرى وهو قياس العكس وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل(29/185)
ص -171-…المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس وهذه المعاني منتفية في الفرع فإذا لم يكن التحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم
و أما الأحاديث حديث رافع بن خديج وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكرى الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري وفي رواية له قال كنا أكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكرى أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق وفي صحيح مسلم عن رافع قال كنا أكثر أهل الأمصار حقلا قال كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ويسلم هذا فلم يكن الناس كراء إلا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به
فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة وحرموا نظيره في المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات(29/186)
ص -172-…وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على عباده فإن كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر لم يجز ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ودخله الخطر ومعنى القمار كما ذكره رافع في قوله فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما ويخيب الآخر وهذا معنى القمار وأخبر رافع أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعنى القمار وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ورافع أعلم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أي شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على الأربعاء وبشيء من التبن فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين وكان ابن عمر يفعله لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغه النهي
يدل على ذلك أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروى حرب الكرماني قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل قال أتيت ابن عمر فقلت أتاني رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها بالنصف فبذرت فيها بذري وعملت فيها ببقري فناصفته قال حسن وقال حدثنا ابن أخي حزم حدثنا(29/187)
ص -173-…يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل فقال الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه وهكذا أخبر أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل لرافع فكيف بالدينار والدرهم فقال ليس بأس بالدينار والدرهم وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن أسيد بن ظهير قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع وكان العيش إذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع رواه أحمد وابن ماجة وروى أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم زاد أحمد وينهاكم عن المزابنة والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر والقصارة ما سقط من السنبل وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما سعد بالماء مما حول البئر فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا ذلك وقال اكروا بالذهب والفضة رواه أحمد وأبو داود والنسائي فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين وعن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصيب(29/188)
ص -174-…من القصري ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو فليدعها رواه مسلم
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها والعلة التي نهى من أجلها وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لا تكروا المزارع فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم بمقصوده وكما جاء مفسرا عنه أنه رخص في غير ذلك الكراء وكما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها واللفظ وإن كان في نفسه مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به حرارة فقال له لا تأكل الدسم فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال
و ذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه وإن كان نكرة كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتني بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على الربيع وعلى الأوسق من التمر(29/189)
ص -175-…و الشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها"
فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة إما عين وإما دين فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز وكذلك إن كان عينا من غير الزرع وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز
فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر
بقي أن يقال فقول النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم
فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر أيجاب أو كان أمر أيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية قال في الآنية التي كانوا يطبخون فيها أهريقوا ما فيها واكسروها وقال صلى الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من(29/190)
ص -176-…الحلال كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة
فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة ولهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته ثم قال يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس
يدل على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال كروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة فإن رافع ابن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالذهب والفضة وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم وأعينهم وإن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض رواه مسلم مجملا والترمذي وقال(29/191)
ص -177-…حديث حسن صحيح فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع قال وأنا أعينهم وأعطيهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به فقال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها فكان الأخ هو الممنوح ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنحهم لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غني فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا وقد ينهى النبي صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي وأما ما رواه جابر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة فهذه هي المخابرة التي نهى عنها واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك
يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه من أجله"(29/192)
ص -178-…فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد الخير بكسر الخاء بمعنى المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمى الأكار خيبرا لأنه يخابر على الأرض والمخابرة هي المؤاكرة
وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرها في أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمى بذلك لأنه يخبر الأرض
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل والمزارعة على أن يكون البذر من المالك قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة لا المزارعة
وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح من أنه نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابرة وكما نهى عن كراء الأرض وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على ذلك
فصل
والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك وقالوا هذه في المزارعة فإما إن كان البذر من العامل لم يجز وهذا إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث يجوزون المزارعة وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج أحمد(29/193)
ص -179-…أيضا قال الكرماني قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث والربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض والبقر والحديد والعمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة
ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع كما أن المال هو أصل الربح فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل
و الرواية الثانية عنه لا يشترط ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكرى أرضه بالثلث والربع كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز وإن كان على وجه المزارعة لم يجز وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة وباب الإجارة
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار قال أبو الخطاب ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها وإن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا وأن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه(29/194)
ص -180-…المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه واختيار طائفة من أصحابه
و القول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى بين الإجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف
أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ الإجارة ويمنع فعله باللفظ المشهور
و أيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم ولم يدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذرا فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها أحمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال لليهود نقركم فيها ما أقركم الله لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت إجارة لازمة لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من المالك فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا أفتى العالم بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل وإلا لم يصح الاستدلال فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات(29/195)
ص -181-…كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما حالا ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين
و أما الدليل على جواز ذلك فالسنة والإجماع والقياس
أما السنة فما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم بذرا ولما عامل المهاجرون والأنصار على أن البذر من عندهم قال حرب الكرماني حدثنا محمد بن نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر واستعمل يعلى بن منية فأعطى العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث وأعطى البياض يعني بياض الأرض على إن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن منية عامله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل وقال حرب حدثنا أبو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التي أخذت فقال أرض أخذتها أكرى أنهارها(29/196)
ص -182-…و أعمرها وأزرعها فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن ذلك ويكفي إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب
و أما القياس فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز أن يكون البذر منهما وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها كالثمن في المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع وإنما ترجع الأرض أو بدن البقرة والعامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل وليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها وبدن العامل والبقر واكتراء الحرث والبقر يذهب كما تذهب المنافع وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب التراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب والحب يستحيل فلا يبقى بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر هو الأصل والباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب مع قلة قيمته ولرب الأرض أجرة أرضه
و النبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بضد هذا حيث قال من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته فأخذ أحمد وغيره من(29/197)
ص -183-…فقهاء الحديث بهذا الحديث وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور الاستحسان وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع للبذر والشجر تبع للنوى وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه ويكون الجنين البهيم لمالك الأم دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب وإنما للأب حق الابتداء فقط ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا وكذلك الحب والنوى فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء وقد يؤثر ذلك في الأرض فيتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب إما مستحيلا من غيره وإما بالموجود ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة وأما للكثرة لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب والنوى الملقى فيها فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية وهي الأرض بدن العامل والبقر والحديد ومنافع فانية وأجزاء فانية أيضا وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى ما نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم من(29/198)
ص -184-…أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما
فصل
وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع 8اليسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضى الله عن أحمد حيث يقول ينبغى للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم هذا التمسك يفضى إلى مالا يمكن اتباعه ألبتة
ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا
فصل
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا
والذى يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا(29/199)
ص -185-…لا عقد ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤخرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشترى بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة والمعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار وانفساخه بالشروط التي(29/200)
ص -186-…تنافيه كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه
و طائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث وكاستثناء البائع منفعة المبيع واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة المتعاقدين
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق وفي رواية للبخاري اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها(29/201)
ص -187-…فقال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط وفي لفظ شرط الله أحق وأوثق وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولائها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق"
ولهم من هذا الحديث حجتان
إحداهما قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع
ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله
و الحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا(29/202)
ص -188-…على هذا الأصل بقوله تعالى: 5: 3 {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقوله 2: 229 {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
قالوا فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين
و ما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله
و احتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوص عنه أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أولم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند(29/203)
ص -189-…غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة
و يجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم مسلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش
و يجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعها لنفسه مدة حياته كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه عنه روايتان(29/204)
ص -190-…و يجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة والصداق وفدية الخلع والصلح عن القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة
و يجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها وتزيد على ما يملكه بالإطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى
و يجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فطهرت أمة وبالخلف بالصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت واشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح الشغار وهو رواية عن مالك والثانية لا ينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرز كقول أبي حنيفة والشافعي
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في كلامه ففي(29/205)
ص -191-…جامع الخلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسه يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به وقال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل لا تقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته وشرط لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لا تنكحها وفيها شرط وقال حنبل قال عمي كل شرط في فرج فهو على هذا والشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر أن يطأها وفيها شرط وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا ردها إلى الشرط وربما تأولوا قوله جائز إي العقد جائز وبقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبه في أخبار عثمان أنه اشترى من صهيب دارا وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده"(29/206)
ص -192-…وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا فإن أراد الأول فكل شرط كذلك وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافي مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي(29/207)
أما الكتاب فقال الله تعالى 5: 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} والعقود هي العهود وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع وإنما أمر بالوفاء به ولهذا قرنه بالصدق في قوله {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} وقال(29/208)
ص -193-…سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا(29/209)
لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} والإل هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} إلى قوله {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة وأما قوله سبحانه {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فتلك عهود جائزة لا لازمة(29/210)
ص -194-…فإنها كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا فأما من كان من عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} الآية وجاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} في سورتي المؤمنون والمعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ(29/211)
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} هذا يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب وكذلك في سورة المؤمنين قال في أولها {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر الآية(29/212)
ص -195-…الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يشعر الحصر ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي صلى الله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وعنه كان على خلق من نفاق فطبع المؤمن ليس الخيانة ولا الكذب وما زالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة وهذا عام وقال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره وقال أيضا {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقال {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}وقال(29/213)
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ(29/214)
ص -196-…بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
و الأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة" وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية وفي رواية: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة" وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم الحديث فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول(29/215)
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر فقال لا يغدر ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة(29/216)
ص -197-…و قال هرقل في جوابه سألتك هل يغدر فذكرت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فدل على استحقاق الشروط بالوفاء وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها
و روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره فذم الغادر وكل من شرط شرطا ثم نقصه فقد غدر
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك
و لما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس ويحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقا وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويحج السكوت أو التعريض
و إذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده ومقصود العقد هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة(29/217)
ص -198-…و قد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة وضعفه في رواية أخرى
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" قال الترمذي حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة منه الفصل الأول لكن كثيرا ابن عمرو ضعفه الجماعة وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن أبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على شروطهم ما وافق الحق وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله وإنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضل لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت(29/218)
ص -199-…المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء فقد نهى النبي صلى لله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال صلى الله عليه وسلم: "من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبنى الرجل ابن غيره وانتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون اشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال(29/219)
ص -200-…مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضى الله عنه مقطع الحقوق عند الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عام في الأعيان والأفعال وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة وكانت صحيحة
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمى ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن احمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره احمسى ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت(29/220)
ص -201-…مجنبة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مما لم يأذن به فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة
فإن قيل العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا يعتبر في إباحتها
فيقال لا فرق بينهما وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها وهو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل وإن غير(29/221)
ص -202-…حكم العين فكذلك أفعالنا في الملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك
وسبب ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم يثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لإثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه ورفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أى وجه احب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لايحرم عليه التصرف فيه وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم يمنع مانع وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا مثل قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن الشارع أثبته ابتداء(29/222)
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين فإنما ثبت لأن العبد ادخله في المطلق فإدخاله في المطلق إليه فكذلك إخراجه إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين على حكم المعين(29/223)
ص -203-…فتدبر هذا وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن ولإيجاب العقل أيضا
وأيضا فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال في كتابه العزيز {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوص التي دل عليها القرآن وكذلك قوله {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك(29/224)
وأيضا فإن العقد له حالان حال إطلاق وحال تقييد ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره وإن أريد ينافى مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع(29/225)
ص -204-…صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شئ ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق بل هو مبطل للعقد عندنا
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذا لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلوا إما أن يقال لا يحل ولا يصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول أو يقال لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعى وإن كان عاما أو يقال تصح ولا تحرم إلا يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام
والقول الأول باطل لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم فقال سبحانه في آية الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأمرهم بترك ما بقى لهم من الربا في الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه(29/226)
ص -205-…يوجب أنه غير منهي عنه ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام" وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل هل عقد به في عدة أو غير عدة بولى أو بغير ولى بشهود أو بغير شهود ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذوات المحارم ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع
فإن قيل فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله ولم يؤمروا باستئنافها لأن الإسلام يجب ما قبله فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء
قلنا ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه يغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابها وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة(29/227)
ص -206-…ونحوها كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك بخلاف الأموال فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم وإن كان قد صادف الحق
وأما إن قيل لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا فعنه جوابان
أحدهما المنع كما تقدم والثاني أن نقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشوط جملة إلا ما استثناه الشارع وما عرضوا به سنتكلم عنه إن شاء الله فلم يبقى إلا القول الثالث وهو المقصود
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى وكذلك الوعد والخلف ومنه قولهم درهم ضرب الأمير والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس التكلم ولهذا قال: "وإن كان مائة شرط" أى وإن كان قد شرط مائة شرط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد الشروط والدليل على ذلك قوله:(29/228)
ص -207-…: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" أى كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فيكون المعنى من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة فهو باطل لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب وإن كان الله لم يبحه لم يجز اشتراطه فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله
فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال ليس في كتاب الله أى ليس في كتاب الله نفيه كما قال سيكون أقوام يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم أى بما تعرفون خلافه وإلا فما لا يعرف كثير
ثم نقول إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى أنه لا يلزم بها شئ لا إيجاب ولا تحريم فإن هذا خلاف الكتاب والسنة بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه وسماه منكرا من القول وزورا ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد وكذا النذر فإن النبي صلى الله عليه(29/229)
ص -208-…وسلم نهى عن النذر كما ثبت عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال إنه لا يأتي بخير ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم نعم لا يكون سببا لإباحة كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي عنه الاستباحة لأن المنهي عنه معصية والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته والإباحة من نعمة الله ورحمته وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا لكن ذلك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال الله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وإن كان قد يكون رحمة أيضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية
و المخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم
وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها وإن كان لم يحرمها باطلة فنقول
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة وذلك لأن قوله ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا(29/230)
ص -209-…عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} وقوله {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعل اللوح المحفوظ فلا يجيء ههنا
يدل على ذلك أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار
يبقى أن يقال على هذا الجواب فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم
فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفعه دليل خاص فإن الخاص يفسر العام وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله: "من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين" ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده دون من تبناه وحرم التبني ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخاه في الدين ومولاه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "أنت أخونا ومولانا" وقال صلى الله عليه وسلم: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس"(29/231)
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد فإذا كان قد حرم الانتقال(29/232)
ص -210-…عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالأعتاق لأنه في معناه فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره
و إلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"
و إذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله والتقدير من اشترط شيئا لم يبحه الله فيكون المشروط قد حرمه لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه أو من اشترط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان الأدلة الشرعية العامة والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقي وهذا أيضا لا خلاف فيه وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة فيه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل(29/233)
ص -211-…البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذا الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي أو اصطلاح جدلي لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة
فمن ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها مما لا يصلح فيه القربة كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال بعته يعني بعيره من النبي صلى الله(29/234)
ص -212-…عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف
ومن ذلك أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة وإن كان عنهما قول بخلافه
ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا
قالوا وإنما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره ولذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره
و أصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح وإن كان فيه منع من غيره قال ابن القاسم قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها فأجازه فقيل له فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط قال لم لا يجوز قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها فلم لا يجوز هذا قال وإنما هذا شرط واحد والنهي إنما هو عن شرطين قيل له فإن شرط شرطين أيجوز قال لا يجوز(29/235)
ص -213-…فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر وبحديث بريرة وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمله وغيره
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي قال هذا مدبر فجوز اشتراط التدبير كالعتق ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح
و كذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها تكون نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه
وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب
وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا(29/236)
ص -214-…علمت وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة
و قد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قد رأياها إلا شيئا منها قد عيناه
و اختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا أو استخدام العبد شهرا أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع كما إذا اشترى أمة مزوجة فأن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة لكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق ينافي نكاحها فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث سريره يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة
فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه وخالفه وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع
ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من البائع والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه بخلاف المسبية(29/237)
ص -215-…فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم وكذلك ما ملكوه من الأبضاع
و كذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المؤبر فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح وكذلك 3بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر
فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما في صور الوفاق وكاستثناء بعض أجزاءه معينا ومشاعا وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة واستثناء بعضها سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجير لخياطة أو بناء ونحو ذلك فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل وملكها للاستمتاع في الجملة فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء بل يكتفي بالباعث الطبيعي كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار وقيل يتقدر الوطء الواجب بمرة كل أربعة أشهر اعتبارا بالإبلاء ويجب إن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره والصحيح الذي يدل(29/238)
ص -216-…عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل
وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها ونحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الرواية عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك والرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له(29/239)
ص -217-…وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع كما ذكرته لك فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق
كذلك يجوز أكثر السلف أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين أن ينقص ملك الزوج فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه فلا يتزوج عليها ولا يتسرى وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى لا يصح هذا الشرط لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر
و القياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك ما ذكرت فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود ومثله التبرع المفروض والتطوع
و أما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه كما نص عليه أحمد فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت(29/240)
ص -218-…جارية لها فقال النبي صلى الله عليه سلم: "لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك" ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق وما أعلم في هذا خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم فإن فيه عن أحمد روايتين إحداهما تجب كقول طائفة من السلف والخلف والثانية لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم ولو وصى لغيرهم دونهم فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له على روايتين عن أحمد وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة
و أيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك فهذا أوكد من اشتراط العتق
و أما السرية فإنما كانت لتكميل الحرية وقد شرع مثل ذلك في الأموال وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري لما في الشركة من الضرار ونحن نقول شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة فإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك إذ الشركة تزول بالقسمة تارة وبالتكميل أخرى
و أصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على التصرف دون تصرف شرعا كما يثبت ذلك حسا ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا كما أن القدرة تتنوع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك ثم قد يملك الأمة المجوسية(29/241)
ص -219-…أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد
و يملك المرهون ويجب عليه مؤونته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة وفي العتق خلاف مشهور
و العبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهونظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير الموقوف ملكا لله أو ينتقل إلى الموقوف عليه أو يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للوهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده
و نظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه كالمبيع بشرط(29/242)
ص -220-…فصل
القاعدة الرابعة: أن الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له
في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره ومذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو قول في مذهب الشافعي نص عليه في صداق السر والعلانية ونقلوه إلى شرط التحليل المتقدم وغيره وإن كان المشهور من مذهبه ومذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر بل يكون كالوعد المطلق عندهم يستحب الوفاء به وهو قول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر إلا أن ينويه الزوج وقت العقد وقول طائفة
عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العقد انتزاعه وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معني الكتاب وصريح السنة
و طوائف من السلف يقولون هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا(29/243)
ص -221-…كثيرة بما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر وإنما يؤثر تسميته في العقد ومن أصحاب أحمد طائفة كالقاضي أبي يعلى يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد والمقيد له فإن كان رافعا كالمواطأة على كون العقد تلجئة أو تحليلا أبطله وإن كان مقيدا له كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه لكن المشهور في نصوص أحمد وأصوله وما عليه قدماء أصحابه كقول أهل المدينة أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن فإذا اتفقا على شيء وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه كما ينصرف الدرهم والدينار في العقود إلى المعروف بينهما وكما أن جميع العقود وإنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان
فصل
القاعدة الخامسة: في الأيمان والنذور(29/244)
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ(29/245)
ص -222-…كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
و فيها قواعد عظيمة لكن تحتاج إلى تقديم مقدمات نافعة جدا في هذا الباب وغيره
المقدمة الأولى أن اليمين تشتمل على جملتين جملة مقسم بها وجملة مقسم عليها ومسائل الأيمان إما في حكم المحلوف به وإما في حكم المحلوف عليه
فأما المحلوف به فالأيمان التي يحلف بها المسلمون مما قد يلزم بها حكم ستة أنواع ليس لها سابع
أحدها اليمين بالله وما في معناها مما فيه التزام كفر على تقدير الحنث كقوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا على ما فيه من الخلاف بين الفقهاء
الثاني اليمين بالنذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب كقوله علي الحج لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة إن فعلت كذا ونحو ذلك
الثالث اليمين بالطلاق
الرابع اليمين بالعتاق
الخامس اليمين بالحرام كقوله الحل علي حرام لا أفعل كذا
السادس الظهار كقوله أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا
فهذا مجموع ما يحلف به المسلمون مما فيه حكم
فأما الحلف بالمخلوقين كالحلف بالكعبة أو قبر الشيخ أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بحياة أحد من المخلوقات فما أعلم بين العلماء خلافا أن هذه اليمين مكروهة منهي عنها وأن الحلف بها لا يوجب حنثا ولا كفارة وهل الحلف بها محرم أو مكروه كراهة تنزيه فيه قولان في مذهب أحمد وغيره(29/246)
ص -223-…أصحهما أنه محرم ولهذا قال أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره أنه إذا قال أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار ولم يذكر الحرام لأن يمين الحرام ظهار عند أحمد وأصحابه فلما كان موجبها واحد عندهم دخل الحرام في الظهار ولم يدخلوا النذر في اليمين بالله وإن جاز أن يكفر يمينه بالنذر لأن موجب الحلف بالنذر المسمى بنذر اللجاج والغضب عند الحنث هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور وموجب اليمين بالله هو التكفير فقط فلما اختلف موجهما جعلوهما يمينين
نعم إذا قالوا بالرواية الأخرى عن أحمد وهو أن الحلف بالنذر موجبه الكفارة فقط دخلت اليمين بالنذر في اليمين بالله
و أما اختلافهم واختلاف غيرهم من العلماء في أن مثل هذا الكلام هل ينعقد به اليمين أو لا ينعقد فسأذكره إن شاء الله تعالى وإنما غرضي هنا حصر الأيمان التي يحلف بها المسلمون
و أما أيمان البيعة فقالوا أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوهما إما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها ثم يقولون بايعناك على ذلك كما بايعت الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فلما أحدث الحجاج ما أحدث من الفسق كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله صدقة المال فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء والملوك وغيرهم أيمانا كثيرة أكثر من ذلك وقد تختلف فيها عاداتهم ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر
المقدمة الثانية أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين فالأول كقوله(29/247)
ص -224-…و الله لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو علي الحج لا أفعل كذا والثاني كقوله إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو فما لي صدقة ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين أحدهما باب تعليق الطلاق بالشروط فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كإن وإذا ومتى أشبه ذلك وإن دخل فيه صيغة القسم ضمنا وتبعا والباب الثاني باب جامع الأيمان مما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم وإن دخلت صيغة الجزاء ضمنا وتبعا
و مسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما في المعنى كثيرا أو غالبا ولذلك كان طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب وغيره لما ذكروا في كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان وطائفة أخرى كالخرقى والقاضي أبي يعلى وغيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان لأنه به أمس ونظير هذا الباب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر ومنهم من يؤخره إلى كتاب الحدود لأنه به أخص
و إذا تبين أن لليمين صيغتين صيغة القسم وصيغة الجزاء فالمقدم صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم والشرط المنفي في صيغة الجزاء مثبت في صيغة القسم فإنه إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق أن لا يفعل فالطلاق مقدم والفعل مؤخر منفي ولو حلف بصيغة الجزاء لقال إن فعلت كذا فامرأتي طالق فكان تقدم الفعل مثبتا وتأخر الطلاق منفيا كما أنه في القسم قدم الحكم(29/248)
ص -225-…و أخر الفعل وبهذه القاعدة تنحل مسائل كثيرة من مسائل الأيمان
فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل وأما صيغة القسم فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو والله ونحو ذلك وتكون اسمية كقوله لعمر الله لأفعلن والحل علي حرام لأفعلن
ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد وبين الله بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط والجزاء كقوله في الجعالة من رد عبدي الآبق فله كذا وقوله في السبق من سبق فله كذا وتارة بصيغة الجزم والتحقيق إما صيغة خبر كقوله بعت وزوجت وإما صيغة طلب كقول بعني واخلعني
المقدمة الثالثة وبها يظهر مسائل الأيمان ونحوها أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما وإما أن لا يقصد وجود واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو عدم الجزاء فقط أو عدمهما فالأول بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها فإن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أو فقد خلعتك أو قال لعبده إن أديت ألفا فأنت حر أو قال إن رددت عبدي الآبق فلك ألف درهم أو قال إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا أو الصدقة بكذا فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة النفس والمال وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن والتزم أداء المبيع على سبيل العوض
فهذا الضرب هو شبيه بالمعاوضة في البيع والإجارة وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول إذا ضربت أمتي فأنت طالق أو إن(29/249)
ص -226-…خرجت من الدار فأنت طالق فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال لأنها تريد الطلاق وهنا عوضها عن بعضيتها بالطلاق
و أما الثاني فمثل أن يقول لامرأته إذا طهرت فأنت طالق أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالي صدقة ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض فهذا الضرب هو بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق وإنما أخره إلى الوقت المعين بمنزلة تأجيل الدين وبمنزلة من يؤخر التطليق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير لا لعوض ولا لحلف على طلب أو خبر ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر أو فأنت طالق وأنه إذا قال إن دخلت أو إن لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله إذا طلعت الشمس فأنت طالق أو أنت طالق إن طلعت الشمس فاختلفوا فيه قال أصحاب الشافعي ليس بحالف وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع هو حالف
و أما الثالث وهو أن يكون مقصوده وجودهما فمثل الذي قد آذته المرأة حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها فيقول إن أبرأتيني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق وهو يريد كلا منهما
و أما الرابع وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أو لا يحبه ولا يكرهه فمثل أن يقول لامرأته إن زنيت فأنت طالق أو إن ضربت أمي فأنت طالق ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط ويقصد وجود الجزاء عند وجوده بحيث إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب أن يفارقها لأنها لا تصلح له فهذا فيه معنى اليمين وفيه معنى التوقيت فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد(29/250)
ص -227-…إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو عند طلوع الهلال
و أما الخامس وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعلقه بالشرط لئلا يوجد وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا
و أما السادس وهو أن يكون مقصودهما عدم الشرط والجزاء وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج والغضب ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب مثل أن يقال له تصدق على فلان أو أصلح بين فلان وفلان أو حج في هذه السنة فيقول إن تصدقت عليه فعليه صيام كذا أو فامرأته طالق أو فعبيده أحرار أو يقول إن لم أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا أو امرأتي طالق أو عبدي حر أو يحلف على غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته فيقول له إن فعلت أو إن لم تفعلي فعلي كذا أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك
فهذا نذر اللجاج والغضب وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق يخالف في المعنى نذر التبرر والتقرب وما أشبهه من الخلع والكتابة فإن الذي يقول إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا أو إن أعطاني الله كذا فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبذل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك
و أما النذر في اللجاج والغضب فكما إذا قيل له افعل كذا فامتنع من فعله ثم قال إن فعلته فعلي الحج أو الصيام فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل وكذلك إذا قال إن فعلته فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار إنما مقصوده الامتناع والتزم بتقدير الفعل ما هو(29/251)
ص -228-…شديد عليه من فراق أهله وذهاب ماله ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب مأخوذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "والله لا يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة التي فرض الله عليه"
فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ ومعناه شديد المباينة لمعناه ومن هذا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء وبهذا يتبين فقه الصحابة الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها
إذا تبينت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم وبعضها ليس معناه معنى اليمين بصيغة القسم فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم هو وجزاؤه كنذر اللجاج والغضب والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب
القاعدة الأولى أن الحالف بالله سبحانه قد بين الله حكمه بالكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وقال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقال {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(29/252)
ص -229-…و أما السنة ففي الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك"
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم حكم الأمانة الذي هو الإمارة وحكم العهد الذي هو اليمين وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة ولهذا قالت عائشة كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين وذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به كما يجب في سائر العقود وأشد لأن قوله أحلف بالله وأقسم بالله وأولي الله ونحو ذلك في معنى قوله أعقد بالله لهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد فينعقد المحلوف عليه بالله كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة ولهذا سماه الله سبحانه عقدا في قوله {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فإذا كان قد عقدها بالله فإن الحنث فيها نقض لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة ولهذا سمي حلها حنثا والحنث هو الإثم في الأصل فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية وإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما(29/253)
و نظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين فإن الإيلاء إذا أوجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك الذي هو الطلاق وكذلك الظهار إذا أوجب التحريم فالتحريم مستلزم لزوال الملك فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق ولهذا قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ(29/254)
ص -230-…تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} والتحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة كما يقال كرمته تكريما وتكرمة وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد أو الحل ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث لأن التحلة لا تكون بعد الحنث فإنه بالحنث تنحل اليمين وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتتحلل اليمين وإنما هي بعد الحنث كفارة لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله
فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الأخبار التي نبه عليها بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} فالأفعال ثلاثة إما طاعة وإما معصية وإما مباح فإذا حلف ليفعلنه مباحا أو ليتركنه فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب وهو المذكور في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
و أما إن كان المحلوف عليه ترك واجب أو فعل محرم فهنا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق بل يجب التكفير عند عامة العلماء
و أما قبل أن تشرع الكفارة فكان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أم لم يف كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة وإن كان المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة
فصل
فأما الحالف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب مثل أن يقول إذا فعلت(29/255)
ص -231-…كذلك فعلى الحج أو فمالي صدقة أو فعلى صيام يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل أو أن يقول إن لم أفعل كذل فعلى الحج ونحوه فمذهب أهل العلم من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة أنه يجزيه كفارة يمين وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم وهذا هو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه
ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بما نذره وبين كفارة يمين وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى وطائفة بل يجب الوفاء بهذا النذر
وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتى فيها بالكفارة فقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير منى عطاء ابن أبي رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد وقال إن عدت أفتيك بقول مالك وهو الوفاء به ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على عمومات الوفاء بالنذر كقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه لأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام والأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره
قال أبو بكر الأثرم في مسائله سألت أبا عبد الله عن رجل قال ماله في رتاج الكعبة قال كفارة يمين واحتج بحديث عائشة قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه اليمين فقال إذا حنث فكفارة يمين إلا أنى لا أحمله على الحنث ما لم يحنث قال له لا يفعل قيل لأبي عبد الله فإذا حنث كفر قال نعم قيل له(29/256)
ص -232-…أليس كفارة يمين قال نعم قال وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا كل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان فقال أما الجارية فعتق قال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا حسن عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة قالت من قال مالي في رتاج الكعبة وكل مالي فهو هدى وكل مالي في المساكين فليكفر عن يمينه
وقال حدثنا عارم بن الفضل حدثنا معتمر بن سلميان قال قال أبي حدثنا بكر بن عبد الله أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى هى يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت في البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين امرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقالت بأبي أنت وبأبي أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أى شئ أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداءك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وبين امرأته(29/257)
ص -233-…قال الأثرم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عمران عن قتادة عن زرارة ابن أوفى أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته فقال ابن عباس أفي غضب أم في رضى قالت في غضب قال إن الله تعالى لا يتقرب إليه بالغضب لتكفر عن يمينها وقال حدثني ابن الطباع حدثنا أبو بكر بن عياش عن العلاء بن المسيب عن يعلى بن نعمان عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن الرجل جعل ماله في المساكين فقال أمسك عليك مالك وأنفقه على عيالك واقض به دينك وكفر عن يمينك وروى الأثرم عن أحمد قال حدثنا عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج قال سئل عطاء عن رجل قال على ألف بدنه قال يمين وعن رجل قال على ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالي هدى قال يمين وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن وجابر بن زيد في الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال يمين يكفرها وقال حرب الكرمانى حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام قال إنما المشي على من نواه فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين
وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه وهذا الحالف ليس مقصوده قربة الله وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه وهذا معنى اليمين فإن الحالف يقصد الحض على فعل شئ أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلأن تجزيه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب(29/258)
ص -234-…حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله حيث لم يف بعهده وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضي الحنث فساده في التوحيد ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى
وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين وكل نذر فهو يمين فقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله أحلف بالله لأفعلن موجب هذين القولين التزام الفعل معلقا بالله
والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم النذر حلفة فقوله إن فعلت كذا فعلى الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن
وطرد هذا انه اذا حلف ليفعلن برا! لزمه فعله ولم يكن له ان يكفر فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله
وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين وكذلك لو قال على لله أن أفعل كذا
ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين
فصل
فأما اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب فمثل أن يقصد بها حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا مثل قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا فعلت كذا أو إن فعلت كذا فعبيدي أحرار أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار فمن(29/259)
ص -235-…قال من الفقهاء المتقدمين إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضا وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزيه الكفارة فاختلفوا هنا مع أنه لم يبلغني عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام وإنما بلغنا الكلام فيها عن التابعين ومن بعدهم لأن اليمين به محدثة لم تكن تعرف في عصرهم ولكن بلغنا عن الصحابة الكلام في الحلف بالعتق كما سنذكره إن شاء الله
فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر وقالوا إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزيه الكفارة بخلاف اليمين بالنذر هذا رواية عوف عن الحسن وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم
فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال(29/260)
ص -236-…كل يمين وإن عظمت ولو حلف بالحج والعمرة وإن جعل ماله في المساكين ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف أو عتق غلام في ملكه يوم حلف فإنما هي يمين وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر فقال لا يقوم هذا مقام اليمين ويلزمه ذلك في الغضب والرضا وقال سليمان بن داود يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق وبه قال أبو خيثمة قال إسماعيل حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر بن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر الحميري أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا فسألت ابن عمر وابن عباس فقالا أما الجارية فتعتق وأما قولها في المال فإنها تزكي المال قال أبو إسحاق إبراهيمم الجوزجاني الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ولو كان المجزئ فيها مجزئا في الأيمان لوقع على الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها
قلت أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة وإن كان أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بجواز الكفارة كان غريبا بين أصحابه المالكية وقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير مني قول عطاء بن أبي رباح فلما أفتى فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وابن أبي شيبة وعلي المديني ونحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك لا يعلم خلافا في الطلاق والعتاق وإلا فسنذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى عن الصحابة(29/261)
ص -237-…و التابعين ومن بعدهم وقد اعتذر أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين
أحدهما انفراد سليمان التيمي بذلك
و الثاني معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد فقال المروزي قال أبو عبد الله إذا قال كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال ليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بالكفارة إلا التيمي وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق قال سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها شيء قال نعم أذهب إلى أن فيه كفارة يمين قال أبو عبد الله ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي قلت فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث قال يعتق كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا الجارية تعتق ثم قال ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر قلت فإبش إسناده قال معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس وقال إسماعيل ابن أمية وأيوب ابن موسى وهما مكيان وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر لأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة وقال صالح ابن أحمد قال أبي وإذا قال جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا قال قال ابن عمر وابن عباس تعتق وإذا قال كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته(29/262)
ص -238-…فإن هذا لا يشبه هذا ألا ترى أن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران وأصحاب أبي حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالي في المساكين إنه يتصدق به على المساكين وإذا قال مالي على فلان صدقة وفرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج وبين قوله فامرأته طالق أو فعبدي حر بأنه هناك وجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج
فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما تكون بدلا عن غيره من الواجبات كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب والإطعام بدلا عن الصوم عن العاجز عنه وكما تكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بأدائه وأداء غيره
و أما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما لأنهما لا يقبلان الفسخ بخلاف ما لو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق فإنه هنا لم يعلق العتق وإنما علق وجوبه بالشرط فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدلا عنه ولهذا لو قال إذا مت فعبدي حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي ورواية أحمد وفي بيعه الخلاف المشهور ولو وصى بعتقه فقال إذا مت فأعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا وكان بيعه هنا وإن لم يجز كبيع المدبر
ذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة في تاريخه أن المهدي لما رأى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد عزم على خلع عيسى ودعاهم إلى البيعة لموسى فامتنع عيسى من الخلع وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه وتطلق نساءه فأحضر له المهدي ابن علاثة ومسلم ابن خالد الزنجي وجماعة من الفقهاء(29/263)
ص -239-…فأفتوه بما يخرجه عن يمينه واعتاض مما يلزمه في يمينه بما ذكره ولم يزل به إلى أن خلع نفسه وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده
و أما أبو ثور فقال في العتق المعلق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة يمين في قولها إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر وهذه القصة هي مما اعتمده الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق وعارض أحمد ذلك وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه مع أن القياس عنده مساواته للعتق لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع
و الصواب أن الخلاف في الجميع في الطلاق وغيره كما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة ولا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه ويكون قوله إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله فعلي أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم
على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذاك والله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم فأحد القولين أنه يقع به كما تقدم والقول الثاني أنه لا يلزمه الوقوع ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف(29/264)
ص -240-…بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري
فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر كداود وأبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق
و اختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما ورد نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها
إحداها كون الأصل تحريم العقود
الثانية أنه لا يباح إلا ما كان في معنى النصوص
الثالثة أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص
و أما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب وسنتكلم عليه
وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع ذكرناها وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه وإحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه
و أيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي(29/265)
ص -241-…طوالق لأفعلن فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن وعلي الحج لأفعلن
و الذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع فقال في البويطي وهو كتاب مصري من أجود كتبه وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة ويسمون ذلك الشرط صفة ويقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك
وهذه التسمية لها وجهان
أحدهما أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة أو إذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف وكذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه
و الثاني أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف
و الوجه الأول هو الأصل فإن هذا يعود إليه إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به
فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية المذكور في القرآن وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة وقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين فكذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفة كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه(29/266)
ص -242-…و عدم شرطه فإنه انما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء والدليل على هذا القول الكتاب والسنة والأثر والاعتبار
أما الكتاب فقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(29/267)
فوجه الدلالة أن الله قال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لهم تحلتها وقد ذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس له تحلة لكان مخالفة للآية كيف وهذا عام لا يحض منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي فإن اليمين معقودة فوجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء الأمانة ونحوها فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والآخرة ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا في غاية الاتصال وبينهما من الأولاد والعشرة ما يجعل في طلاقهما في أمر الدين ضررا عظيما وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين(29/268)
ص -243-…أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطء بقتل النفس ولهذا قال أحمد في إحدى الروايتين متابعة لعطاء إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه
وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك أو أعتق عبيدي فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لا أعتقت عبيدي وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون وسنتكلم عليه إن شاء الله
وأيضا فإن الله تعالى قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهى تقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم لأن قول لا شئ استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال وانتفاء موجب المغفرة والرحمة عن هذا الفاعل(29/269)
وأيضا قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والحجة فيها كالحجة في الأولى وأوفى فإنه قال {لا تُحَرِّمُوا(29/270)
ص -244-…طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وهذا عام يشمل تحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ثم يبين وجه المخرج من ذلك بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته أى فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ثم قال ذلك كفارة أيمانكم إ ذا حلفتم وهذا عام كعموم قوله واحفظوا أيمانكم
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك" فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما الحلف بالطلاق موافقة لابن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء أو ما كان في معنى ذلك مما سنذكره إن شاء الله
وهذه الدلالة بينة على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله تعالى: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} و{كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء
فإن قيل المراد بالآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام أو الإضافة في قوله {عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} و{تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} منصرفا إلى اليمين المعهود عندهم وهى اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة اليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت(29/271)
ص -245-…فيقال لفظ اليمين يشمل هذا كله بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله كقوله صلى الله عليه وسلم: "النذر حلفة" وقول الصحابة لمن حلف بالهدى والعتق كفر يمينك وكذلك فهمته الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سنذكره ولإدخال العلماء لذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك"
ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثم قال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به ابن عباس وغيره وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية وعلى كل تقدير فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا
وأيضا فإن قوله تعالى: { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إما أن يراد به لم تحرمه بلفظ الحرام وإما لم تحرمه باليمين بالله ونحوها وإما لم تحرمه مطلقا فإن أريد الأول أو الثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله يمين فنعم وأن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في عموم قوله { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
وحينئذ فقوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} لا بد أن يعم كل يمين(29/272)
ص -246-…حرمت الحلال لأن هذا حكم ذلك الفعل فلا يد أن يطابق جميع صوره لأن تحريم الحلال هو سبب قوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضى للتعميم وهكذا التقرير في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} إلى قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}
وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها
وأيضا فنقول سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله وأن ما سوى اليمين بالله لا يلزم بها حكم فمعلوم أن الحلف بصفات الله سبحانه كالحلف به كما لو قال وعزة الله أو لعمر الله أو والقرآن العظيم فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الأستعاذة لا تكون إلا بالله وصفاته في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" و: "أعوذ بكلمات الله التامات" و: "أعوذ برضاك من سخطك" ونحو ذلك وهذا أمر مقرر عند العلماء
وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته وكذلك لو قال فعلى تحرير رقبة وإذا قال فامرأتي طالق وعبدي حر فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فإن قوله على الحج والصوم(29/273)
ص -247-…عقد لله ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فإذا حنث ولم يف به فقد ترك ما عقده لله كما أنه إذا فعل المحلوف به فقد ترك ما عقده بالله
يوضح ذلك أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه لأنه لعظمته في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله فإذا حل ما ربطه فقد انقضت عظمته في قلبه وقطع السبب الذي بينه وبينه كما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وقال صلى الله عليه وسلم في عد الكبائر فيما روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقطع بها مالا يغير حق"
وذلك لأنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقض الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله لكن أباح الله له حل هذا العقد الذي عقده به كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها ولهذا قال أكثر أهل العلم إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا فهى يمين بمنزلة قوله والله لأفعلن لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله(29/274)
ص -248-…يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من إجلال الله وإكرامه الذي هو حق الله ومثله الأعلى في السموات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح له وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} كما أن الذكر يكون تارة لاسم الله كما في قوله {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وكذلك الذكر مع التسبيح في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وقصدا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وكما قال في موضع آخر {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}
فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالإيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث يتغير إيمانه بزوال حقيقته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" كما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر إذ قد اشترى بها ثمنا قليلا فلا خلاق له في الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم
لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعل ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به كغرض الحالف في اليمين الغموس فشرع له الكفارة لأنه حل هذه العقدة وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الخيانة على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة(29/275)
وإذا ظهر أن موجب اليمين انعقاد الفعل بهذا الإيمان الذي هو إيمانه بالله(29/276)
ص -249-…فإذا عدم الفعل كان مقتضاه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله إن فعلت كذا وجب على كذا أنه عند الحلف يجب ذلك الفعل لولا ما شرع من الكفارة
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال" أخرجاه في الصحيحين فجعل اليمين الغموس في قوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل
وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك في أحد تولى العلماء وبهذا يحصل الجواب على قولهم المراد به اليمين المشروعة
وأيضا فقوله {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها حراما او نحوه فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله فيجعل الله عرضة ليمينه
فإذا كان الله قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم بالحلف به من البر والتقوى فالحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف وجب أن لا يكون مانعا وإن لم يكن داخلا فهو أولى أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى فغيره أولى أن نكون منتهين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا ثبت أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى(29/277)
ص -250-…ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به
فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين إن وفى ذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقى ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور فقد يكون خروج أهله وماله عنه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقى فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة
ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى كفارته التي افترض الله عليه" ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استلج في أهله فهو أعظم إنما" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم إثما من التكفير واللجاج هو التمادي في الخصومة ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في المخاصمة ولهذا تسمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الإمتناع من الحنث فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك" أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين فكفر عن يمينك وائت هو الذي خير وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه(29/278)
ص -251-…وليفعل الذي هو خير" وفي رواية: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا شر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه
وقوله هنا على يمين هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمى الأمر المحلوف عليه يمينا كما سمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك
وكذلك أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى في قصته وقصة أصحابه لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه فقال: "والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه" ثم قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وفي رواية في الصحيحين: "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير"
وروى مسلم في صحيحه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير" وفي رواية لمسلم أيضا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير"
وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي
فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير" ولم يفرق(29/279)
ص -252-…بين الحلف بالله أو النذر ونحوه ورواه النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته" وهذا صريح في أنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك أصحابه فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام
فروى أبو داود في سنته حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك"
ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمين ولا نذر" لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة
وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم" يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدى أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق(29/280)
ص -253-…و مقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن فعل المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك أنه لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم
وهذا الثاني هو الظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب به على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله
و أيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله ورسوله ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال أن شاء الله فلا حنث عليه" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ولفظ أبي داود قال حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى" ورواه أيضا من طريق عبد الوارث عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ولفظه فله ثنياه والنسائي وقال فقد استثنى
ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث وقالوا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء(29/281)
ص -254-…فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" فكذلك يدخل في قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله
فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" لفظ العموم فيه مثله في قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وإذا كان لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء كما نص عليه أحمد في غير موضع
ومن قال إن الرسول قصد بقوله: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق وأما قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ" إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد والحكم فيهما من جنس واحد وهو رافع اليمين إما بالاستثناء وإما بالتكفير
وعند هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام
فقوم قالوا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما حتى لو قال أنت طالق إن شاء الله وأنت حر إن شاء الله دخل ذلك في عموم الحديث وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما
وقوم قالوا لا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما(29/282)
ص -255-…لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد
والقول الثالث أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق وهذا الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان
وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين فإن ابن عباس وأكثر التابعين كسعيد بن المسيب والحسن لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان
ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدى والعتاقة ونحو ذلك يمينا مكفرة وهذا معنى قول أحمد في غير موضع لا استثناء في الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان
وقال أيضا الثنيا في الطلاق لا أقول بها وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان
وقال أيضا إنما يكون الاستثناء فيما تكون فيه كفارة والطلاق والعتاق لا يكفران وهذا الذي قاله ظاهر
و ذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص والإبراء من الدين ولهذا لو قال والله لا أحلف على يمين ثم إنه أعتق عبيدا له أو طلق امرأته أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض فإنه لا يحنث ما علمت أحدا خالف في ذلك
فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث" فقد حمل العام ما لا يحتمله كما أن من أخرج من هذا العام قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله إن(29/283)
ص -256-…شاء الله أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه فإن هذا اليمين بالطلاق والعتاق وهما ليسا من الأيمان فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا ولهذا لو قال والله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق حنث
وقد تقدم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سموه يمينا وكذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا فمعنى اليمين موجود فيه فإنه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معنى هذا معنى الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق والعتاق وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك وكذلك قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق بخلاف ما لو عنى الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه فإن هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله
وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة والطلاق والعتاق لا يكفران كلام حسن بليغ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة واحدة فلا يفرق بين ما جمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها فإنها واجبة بوجود أسبابها فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها(29/284)
ص -257-…و الكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة والمخالفة بالحنث أخرى فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة
فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم يقال بعد ذلك قول أحمد وغيره الطلاق والعتاق لا يكفران كقوله وقول غيره لا استثناء فيهما وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما وإنما هو تكفير للحلف بهما كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والهدي والحج وإنما كفر الحلف بهما وإلا فالصلاة لا كفارة فيها وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها وكما أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب وليس ذلك تكفير للعتق وإنما هو تكفير للحلف به
فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه
و أما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد فهو قول مرجوح
و نحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة(29/285)
ص -258-…وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه لأنه لا استثناء فيه لزم من هذا القول أنه لا استثناء في الحلف بهما وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح في الحلف بهما الاستثناء ولا يصح فيه الكفارة فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن أحمد ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين
لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أولا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم
و الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء وعنه في الاستثناء روايتان فهذا مبني على تخريج مالم يتكلم بنفي ولا إثبات هل يسمى ذلك مذهبا له أو لا يسمى
و لأصحابنا فيه خلاف مشهور فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له
و التحقيق أنه قياس قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه
و أيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به وملزما له إذا أوقعه صاحبه وكذلك العتق وكذلك النذر(29/286)
ص -259-…وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذ قصده أو قصد سببه فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شئ بالاتفاق ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها ابتداء فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلى الحج أو الطلاق ليس قصده التزام حج ولا طلاق ولا تكلم بما يوجبه ابتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع إن فعلت كذا فهذا لى لازم أو هذا على حرام لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم
وأيضا فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج ابن يوسف وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق وإني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارا عظيما ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد والحيل في الأيمان حتى اتخذوا آيات الله هزوا
وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها إما شرعا(29/287)
ص -260-…و إما طبعا وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود وقد قيل إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوج غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل أخذت عن الكوفيين وغيرهم
الحيلة الأولى في المحلوف عليه فيتؤول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس وعاداتهم وهذا هو الذي وضعه بعض المتكلمين في الفقه وسموه باب المعاياة وسموه باب الحيل في الأيمان وأكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان
الحيلة الثانية إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة وحيلة الخلع لا تمشي على أصلهم لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع عليه به الطلاق لأن المعتدة من فرقة ثانية يلحقها الطلاق عندهم فيحتاج المحتال بهذه الحيلة إلى أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ وليس بطلاق فيصيير الخالع كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه
و هذا الخلع الذي هو خلع الأيمان هو شبيه بنكاح المحلل سواء فإن ذلك(29/288)
ص -261-…عقد عقدا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا في إبطالها وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع
الحيلة الثالثة إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به فيبطلوه بالبحث عن شروطه فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه والفسوق غالب على كثير من الناس فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع يمين الطلاق ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع في الفاسد في الجملة وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح بالنكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك وكذلك لا ينظرون في ذلك عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح بل إنما ينظرون إليه فقط عند وقوع الطلاق خاصة وهو نوع من اتخاذ آيات الله هزوا ومن المكر في آيات الله وإنما أوجبه الحلف بالطلاق والضرورة إلى عدم وقوعه(29/289)
الحيلة الرابعة السريجية في إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذ1 قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها(29/290)
ص -262-…ليست من دين الإسلام حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق
و سبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا الكلام ليس بصحيح فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقه بثلاث ممتنع في الشريعة والكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا
ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أن يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما
و ما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته واحتال بها من بعده لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق ولهذا صاغوها بقولهم إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا لأنه لو قال إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كلاهما في الدور سواء وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته إذا طلقتك فعبدي حر أو فأنت طالق لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد فإن كل واحد من المنجز والمعلق الذي وجد شرطه تطليق أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ووجود الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه فأما إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه(29/291)
ص -263-…فصوروا المسألة بصورة قوله إذا وقع عليك طلاقي حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك فيقولون له افعل الآن ما حلفت عليه فإنه لا يقع عليك طلاق
فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا
الحيلة الخامسة إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت عليه السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله كما نبهنا على بعضه في كتاب بيان الدليل على إبطال التحليل وأغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده ومن قصده لم يترتب عليه عنده من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر إلى وقوعه لحاجته إلى الحنث
فهذه المفاسد الخمسة التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجها عن مفهومها ومقصودها ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق ثم الاحتيال بنكاح المحلل في هذه الأمور من المكر والخداع والاستهزاء بآيات الله واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الله ويوجب طعن الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى وغيرهم ويتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان وأن أكثر ما أوقع(29/292)
ص -264-…الناس بها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء عليها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه فإن تلك الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة
فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه بأهل الكتاب كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ولا العلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة استندت على قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله وإلى رسوله وقد خالفهم فيه من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم فإنا قد ذكرنا عن أعيان الصحابة كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق والطلاق ما هو أولى منه وذكرنا عن طاوس وهو من أفاضل أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد وحاله في(29/293)
ص -265-…الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزرعها ويستثمرها وبيع الخضر ونحوها
وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه أو ليعقن أباه أو ليقتلن عدوه المسلم المعصوم أو ليأتين الفاحشة أو ليشربن الخمر أو ليفرقن بين المرء وزوجه ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ثلاثة أمور إما أن يفعل هذا المحلوف عليه فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة مع أن كثيرا من الناس بل من المفتين إذا رآه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه وإقامة عذره
وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما استخرجه قوم من المفتين ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته والمكر السيء بدينه والكيد له وضعف العقل والدين والاعتداء لحدود الله والانتهاك لمحارمه والإلحاد في آياته ما لا خفاء به وإن كان من إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك فقد دخل من الغلط في ذلك وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين
وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن به الله ولا رسوله
أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" وقال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة"
وقد اختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه وفيه روايتان عن أحمد وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض(29/294)
ص -266-…فقال يطلقها ولا يطأها قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض
وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين أما على قوله إن الطلاق ليس بحرام وإنما يكون تحريمه دون تحريم الوطء وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام
وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط أن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة وهي متاعه التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة إن نظرت إليها أعجبتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" وهي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لما سأله المهاجرون: "أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وامرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه" رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان وبينهما من المودة والرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا وأشد من ذهاب المال وأشد من فراق الأوطان خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب وعلاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ومن العسر المنفي بقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(29/295)
وأيضا فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان من صدقة وعتاقة وتعليم علم وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس ونحو ذلك(29/296)
ص -267-…من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك بل ولا يؤمر به شرعا لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال وهي المفسدة التي أزالها الله بقوله {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} وأزالها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله"
فإن قيل فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث فما كان ينبغي له أن يحلف
قيل ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه خرجا وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق إما لكراهته للمرأة أو غضبه عليها ونحو ذلك وقد جعل الله الطلاق ثلاثا فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ووالى ثلاث مرات متفرقات كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول فإن مقصوده لم يكن الطلاق وإنما كان أن يفعل المحلوف عليه أولا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار له ولا لسببه
وأيضا فإن الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت رضي الله عنه من امرأته
و أيضا فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب فإنه ليس بينهما من الفرق إلا(29/297)
ص -268-…ما ذكرناه وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره والقياس بالفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين
وذلك أن الرجل إذا قال إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئة كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق أو فالطلاق لي لازم أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار وإن قال علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا والحج لي لازم لا أفعل كذا وكلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عند الصحابة وإنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل وقوله مرأتي طالق يقتضي وجود الطلاق فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة
وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء الفرقون من وجهين
أحدهما منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها
والثاني بيان عدم التأثير
أما الأول فإنه إذا قال إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فأنا محرم أو فبعيري هدي فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبها كما أن المعلق في قوله فعبدي حر وامرأتي طالق وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال هذا(29/298)
ص -269-…هدي وهذا صدقة لله هل يخرج عن ملكه أولا يخرج فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجه وعبده عن ملكه أكثر ما في الباب أن الصدقة والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد وهذا لا تأثير له وكذلك لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله علي الحج لأفعلن كذا فهلا جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلق
فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود
وأما الجواب الثاني فنقول هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق والمعلق هناك وجود الصدقة والحج والصيام والإهداء أليس موجب الشرط ثبوت هذا وجوب وذاك الوجود عند وجود الشرط
فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب بل يجزيه كفارة يمين فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل يجزيه كفارة يمين كما لو قال هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين ولا يلزمه شيء ولو قال ابتداء هو يهودي أو نصراني أو كافر للزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدي حر وامرأتي طالق وهده البدنة هدي وعلي صوم يوم الخميس ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أن يحكم بكفره لكن لا يتأخر الكفر لأن توقيته دليل على فساد عقيدته
فإن قيل في الحلف بالنذر إنما عليه الكفارة فقط
قيل مثله في الحلف بالعتق وكذلك في الحلف بالطلاق كما لو قال فعلي أن أطلق امرأتي
ومن قال إنه إذا قال فعلي أن أطلق امرأتي لا يلزمه شيء فقياس(29/299)
ص -270-…قوله في الطلاق لا يلزمه شيء ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا
وإن قيل إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها فإن وطئها لزمته الكفارة لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه وأما هنا فقوله إن فعلت فهي طالق فهو بمنزلة قوله فعلي أن أطلقها أو قال والله لأطلقنها فإن طلقها فلا شيء عليه وإن لم يطلقها فعليه كفارة يمين
يبقى أن يقال فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال والله لأطلقنها الساعة ولم يطلقها أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها أو لا يجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل كالذي يخير بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبد أو لا يجب بحال حتى يفوت الطلاق قبل الحكم في ذلك كما لو قال فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك
والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما كسائر أنواع الخيار
فصل
موجب نذر اللجاج والغضب على المشهور عندنا أحد شيئين
إما التكفير وإما فعل المعلق ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل فهو مخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة فإذا لم يستلزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة فاللازم له أحد الوجوبين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر كما في الواجب المخير
وكذلك إذا قال إذا فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه(29/300)
ص -271-…المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق والمال للتصدق والبدنة للهدي
ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة وهذه البدنة هدي وعلي عتق هذا العبد فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج فيه خلاف وهو يشبه قوله هذا وقف
وأما إذا قال هذا العبد حر وهذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله برئت ذمة فلان من كذا ومن دم فلان أو من قذفي فإن إسقاط حق الدم والمال والعرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين
فإذا قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة كما لو قال فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي
ونظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار ونسائي طوالق وقلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب التكفير وأمثال ذلك
وأيضا إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون فيها الفرقة أحد اللازمين إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إلى إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة
ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك
فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج والغضب اخترت التكفير أو اخترت فعل المنذور فهل يتعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل
إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين النساء وبين الطلاق والعتق وإن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل كالتخيير(29/301)
ص -272-…بين خصال الكفارة وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر أو امرأتي طالق أو دمي هدر أو مالي صدقة أو بدنتي هدي تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل والله سبحانه وتعالى أعلم
آخر ما تيسر بحمد الله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(29/302)
عنوان الكتاب:
المستصفى من علم الأصول – الجزء الأول
تأليف:
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي
دراسة وتحقيق:
محمد بن سليمان الأشقر
الناشر:
مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان
الأولى، 1417هـ/1997م(30/1)
ص -31-…المستصفى في علم الأصول
تأليف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي
صفحة الكتاب
نص المستصفى في علم الأصول
المستصفى في علم الأصول
الحمد لله القوي القادر الولي الناصر اللطيف القاهر المنتقم الغافر الباطن الظاهر الأول الآخر الذي جعل العقل أرجح الكنوز والذخائر والعلم أربح المكاسب والمتاجر وأشرف المعالي والمفاخر وأكرم المحامد والمآثر وأحمد الموارد والمصادر فشرفت بإثباته الأقلام والمحابر وتزينت بسماعه المحاريب والمنابر وتحلت برقومه الأوراق والدفاتر وتقدم بشرفه الأصاغر على الأكابر واستضاءت ببهائه الأسرار والضمائر وتنورت بأنواره القلوب والبصائر واستحقر في ضيائه ضياء الشمس الباهر على الفلك الدائر واستصغر في نوره الباطن ما ظهر من نور الأحداق والنواظر حتى تغلغل بضيائه في أعماق المغمضات جنود الخواطر وإن كلت عنها النواظر وكثفت عليها الحجب والسواتر
والصلاة على محمد رسوله ذي العنصر الطاهر والمجد المتظاهر والشرف المتناصر والكرم المتقاطر المبعوث بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين وناسخا بشرعه كل شرع غابر ودين داثر المؤيد بالقرآن المجيد الذي لا يمله سامع ولا آثر ولا يدرك كنه جزالته ناظم ولا ناثر ولا يحيط بعجائبه وصف واصف ولا ذكر ذاكر وكل بليغ دون ذوق فهم جليات أسراره قاصر وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا كثرة ينقطع دونها عمر العاد الحاصر
أما بعد:(30/2)
ص -45-…مقدمة الكتاب [في المنطق]
نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه.
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان :
اعلم أن إدراك الأمور على ضربين:
الأول :إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر ما يدل عليه بالأسامي المفردة.
الثاني :إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات وهو أن تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ثم تنسب مفردا إلى مفرد(30/3)
ص -46-…بالنفي أو الإثبات كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي فتقول ليس العالم قديما وتنسب الحدوث إليه بالإثبات فتقول العالم حادث
والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب وأما الأول فيستحيل فيه التصديق والتكذيب إذ لا يتطرق التصديق إلا إلى خبر
وأقل ما يتركب منه جزآن مفردان وصف وموصوف فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات صدق أو كذب فأما قول القائل حادث أو جسم أو قديم فأفراد ليس فيها صدق ولا كذب
ولا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن تحاذى بها المعاني وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا و معرفة النسبة الخبرية بينهما تصديقا فقالوا العلم إما تصور وإما تصديق وسمى بعض علمائنا الأول معرفة والثاني علما تأسيا بقول النحاة في قولهم المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدا والظن يتعدى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدا عالما ولا تقول ظننت زيدا ولا ظننت عالما والعلم من باب الظن فتقول علمت زيدا عدلا والعادة في هذه الاصطلاحات مختلفة
وإذا فهمت افتراق الضربين فلا مشاحة في الألقاب
فنقول الآن إن الإدراكات صارت محصورة في المعرفة والعلم أو في التصور والتصديق
وكل علم تطرق إليه تصديق فمن ضرورته أن يتقدم عليه معرفتان أي تصوران فإن من لا يعرف المفرد كيف يعلم المركب؟ ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث؟
ومعرفة المفردات قسمان أولي وهو الذي لا يطلب بالبحث وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كلفظ الوجود والشيء(30/4)
ص -47-…وككثير من المحسوسات ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل ولا مفسر فيطلب تفسيره بالحد
وكذلك العلم ينقسم إلى أول كالضروريات وإلى مطلوب كالنظريات
والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان فالبرهان والحد هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة
فلتكن هذه المقدمة المرسومة لبيان مدارك العقول مشتملة على دعامتين دعامة في الحد ودعامة في البرهان(30/5)
ص -48-…الدعامة الأولى في الحد
ويجب تقديمها لأن معرفة المفردات تتقدم على معرفة المركبات
وتشتمل على فنين: فن يجري مجرى القوانين وفن يجري مجرى الامتحانات لتلك القوانين
الفن الأول في القوانين
وهي ستة:
القانون الأول :
أن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه والسؤال طلب وله لا محالة مطلوب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع
المطلب الأول ما يطلب بصيغة هل:
يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود كقولك هل الله تعالى موجود أو يطلب حال الموجود ووصفه كقولك هل الله تعالى خالق البشر وهل الله تعالى متكلم وآمر وناه؟
المطلب الثاني ما يطلب بصيغة ما :ويطلق لطلب ثلاثة أمور:
الأول: أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا يدري العقار ما العقار فيقال له الخمر إذا كان يعرف لفظ الخمر
الثاني: أن يطلب لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عنه من غيره كيفما كان الكلام سواء كان عبارة عن عوارض ذاته ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته أو حقيقة ذاته كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي كقول القائل ما(30/6)
ص -49-…الخمر؟ فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن والمقصود أن لا يتعرض لحقيقة ذاته بل يجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج منه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر
والثالث: أن يطلب به ماهية الشيء وحقيقة ذاته كمن يقول ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته ثم يتبعه لا محالة التمييز
واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأوجه الثلاثة بالاشتراك فلنخترع لكل واحد اسما ولنسم الأول حدا لفظيا إذ السائل لا يطلب به إلا شرح اللفظ ولنسم الثاني حدا رسميا إذ هو مطلب مرتسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء ولنسم الثالث حدا حقيقيا إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشيء
وهذا الثالث شرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشيء فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقيل جسم حساس فقد جيء بوصف ذاتي وهو كاف في الجمع والمنع ولكنه ناقص بل حقه أن يضاف إليه المتحرك بالإرادة فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس وإن لم يقل أنه جسم أيضا
المطلب الثالث: ما يطلب بصيغة لم وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته
المطلب الرابع ما يطلب بصيغة أي: وهو الذي يطلب به تمييز ما عرف جملته عما اختلط به كما إذا قيل ما الشجر ؟فقيل إنه جسم فينبغي أن يقال أي جسم ؟ هو فيقول نام
وأما مطلب كيف و أين و متى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب هل والمطلوب به صفة الوجود
القانون الثاني :
إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة(30/7)
ص -50-…والعرضية وذلك غامض فلا بد من بيانه فنقول:
المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالإضافة إلى الموصوف إما ذاتيا له ويسمى صفة نفس وإما لازما ويسمى تابعا وإما عارضا لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود
ولا بد من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا .
أما الذاتي فإني أعني به كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية وكذا الفرس ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى فلا بد من إدراجه في حد الشيء فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة.
وأما اللازم فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا يتصور مفارقته له ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا ولا يمكننا أن نعلم الأرض والسماء ما لم نعلم الجسم
وأما العارض : فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما
سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي وربما لا يزول في الوجود كزرقة العين ولكن يمكن رفعه في(30/8)
ص -51-…الشمس فإنه ملازم لا تتصور مفارقته
ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة
واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن وقد استقصيناه في كتاب معيار العلم
فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات وينبغي أن تورد جميع الذاتيات حتى يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو؟ فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشيء فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي
والذاتي ينقسم إلى عام ويسمى جنسا وإلى خاص ويسمى نوعا فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الأجناس وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الأنواع وهو اصطلاح المنطقيين ولتصالحهم عليه فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا
ومثاله أنا إذا قلنا الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغير نام والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وغير عاقل فالجوهر جنس الأجناس إذ لا أعم منه والإنسان نوع الأنواع إذ لا أخص منه والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه وكذلك الحيوان بين النامي الأعم والإنسان الأخص
فإن قيل: كيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وخياط أخص منه ؟
قلنا لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا الأعم الذي هو ذاتي للشيء أي داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما(30/9)
ص -52-… للعقل وعلى هذا اصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن
بيانه إذا قال القائل: ما حد المثلث فقلنا شكل يحيط به ثلاثة أضلاع أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل يحيط به سبعة أضلاع فهم السائل حد المسبع وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع ولم يبق مفهوما عنده
وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا فشيء منه لا يدخل في الماهية إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره فإذا قيل لنا ما هذا ؟فقلنا إنسان وكان صغيرا فكبر أو قصيرا فطال فسئلنا مرة أخرى ما هو؟ لست أقول من هو لكان الجواب ذلك بعينه ولو أشير إلى ما ينفصل من الأحليل عند الوقاع وقيل ما هو؟ لقلنا نطفة فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل ما هو؟ تغير الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو ؟قلنا ماء كما في حالة البرودة ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل ما هو؟ تغير الجواب
فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية
وأما الحد اللفظي والرسمي فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر وتبديل لفظ العلم بالمعرفة أو بما هو وصف عرضي جامع مانع وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي وهو الكاشف عن ماهية الشيء لا غير
القانون الثالث :
أصل السؤال وتعريفه الصحيح: إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه(30/10)
ص -53-…وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا لكنه معناه في النفس
[الوظيفة] الأولى: أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد أن تقول جسم لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز به عما لا ينمو فهذا الاحتراز يسمى فصلا أي فصلت به المحدود عن غيره
الثانية أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل لكن ينبغي أن تقدم الأعم على الأخص فلا تقول نام جسم بل بالعكس وهذه لو تركتها لتشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ فالإنكار عليك في هذا أقل مما في الأول وهو أن تقتصر على الجسم
الثالثة إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه فتكون مكررا تقول مائع شراب أو تقتصر على البعيد فتكون مبعدا كما تقول في حد الخمر جسم مسكر مأخوذ من العنب وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس لكنه مختل قاصر عن تصوير كنه حقيقة الخمر بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم وهو أيضا ضعيف بل ينبغي أن تقول شراب مسكر فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخص منه
فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل إذ الشراب يتناول سائر الأشربة فاجتهد أن تفصل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ذلك وهو كذلك عسير في أكثر الحدود فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة فإن الخفي لا يعرف كما إذا قيل ما الأسد فقلت سبع أبخر ليتميز بالبخر عن الكلب فإن البخر من خواص الأسد لنه خفي ولو قلت سبع شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى المقصود لأنها أجلى(30/11)
ص -54-…وأكثر مما ترى في الكتب من الحدود رسمية إذ الحقيقية عسرة جدا
وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر والتمييز بين الذاتي واللازم عسر ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالأخص قبل الأعم عسر وطلب الجنس الأقرب عسر فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع فتجمع أنواعا من العسر
وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الأقرب وتمم بالخواص المشهورة المعروفة
الرابعة أن تحترز من الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك للسائل فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للإنباء عنه ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في
ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات فإنه المقصود وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالأبازير من الطعام المقصود وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث إن الثقة مترددة بين الأمانة والفهم وهذا هوس لأن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعين فيها جهة الفهم ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر لأن قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها(30/12)
ص -55-…وشغفه بها
القانون الرابع في طريق اقتناص الحد:
اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر فقيل لنا لم لكان محالا أن يقام عليه برهان فإن لم يكن معنا خصم وكنا نطلبه فكيف نطلبه بالبرهان وقولنا الخمر شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنه شراب مسكر وهذه القضية إن كانت معلومة بلا وسط فلا حاجة إلى البرهان وإن لم تعلم وافتقرت إلى وسط وهو معنى البرهان أعني طلب الوسط كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحد قضية واحدة فبماذا تعرف صحتها فإن احتيج إلى وسط تداعى إلى غير نهاية وإن وقف في موضع بغير وسط فبماذا تعرف في ذلك الموضع صحته فليتخذ ذلك طريقا في أول الأمر
مثاله لو قلنا في حد العلم إنه المعرفة فقيل لم فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلا وكل اعتقاد فهو معرفة فكل علم إذن معرفة لأن هذا طريق البرهان على ما سيأتي فيقال ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد ولم قلتم كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين وهكذا يتداعى إلى غير نهاية
بل الطريق أن النزاع إن كان مع خصم أن يقال عرفنا صحته باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلمه الخصم بالضرورة وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة ربما ينازع فيه ولا يقر به فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان وجردنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة
مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان(30/13)
ص -56-…مضمونا فقالوا لا نسلم أن ولد المغصوب مغصوب قلنا حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد فربما منع كون اليد عادية وكونه إثباتا بل نقول هذا ثبوت ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال نسلم أن هذا موجود في ولد المغصوب لكن لا نسلم أن هذا حد الغصب فهذا لا يمكن إقامة برهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة فنقول قد زدت وصفا وهو الإزالة فلننظر هل يمكننا أن نقدر على اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف فإن قدرنا عليه بان أن الزيادة عليه محذوفة وذلك بأن نقول الغاصب من الغاصب
يضمن للمالك وقد أثبت اليد المبطلة ولم يزل المحقة فإنها كانت زائلة
فهذا طريق قطع النزاع مع المناظر
وأما الناظر مع نفسه إذا تحررت له حقيقة له حقيقة الشيء وتخلص له اللفظ الدال على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد فلا يعاند نفسه
القانون الخامس في حصر مداخل الخلل في الحدود
وهي ثلاثة :فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما.
أما الخلل من جهة الجنس :فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق إنه إفراط المحبة وإنما ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة
ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس كقولك في الكرسي إنه خشب يجلس عليه وفي السيف إنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف إنه آلة صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا ويقطع بها كذا فالآلة جنس والحديد محل الصورة لا جنس(30/14)
ص -57-…وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان موجودا والآن ليس بموجود كقولك للرماد إنه خشب محترق وللولد أنه نطفة مستحيلة فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد
ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقال في حد العشرة أنها خمسة وخمسة
ومن ذلك أن توضع القدرة موضع المقدور كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية وهو فاسد بل هو الذي يترك وإلا فالفاسق يقوى على الترك ولا يترك
ومن ذلك أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس، كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض مثلا .
ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشر
وأما من جهة الفصل :فأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدل الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول
وأما الأمور المشتركة: فمن ذلك أن يحد الشيء بما هو أخفى منه كقول القائل حد الحادث ما به القدرة
ومن ذلك حد الشيء بما هو مساو له في الخفاء كقولك العلم ما يعلم به أو ما يكون الذات به عالمة.
ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فيقول حد العلم ما ليس بظن ولا جهل وهكذا حتى يحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد ما ليس بزوج فيدور الأمر ولا يحصل له بيان.(30/15)
ص -58-…ومن ذلك أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة كقول القائل حد الأب من له ابن ثم لا يعجز أن يقول حد الابن من له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك ولا يحيل على الابن فإنهما في الجهل والمعرفة يتلازمان.
ومن ذلك أن يأخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحد المعلول إلا بأن تؤخذ العلة في حده كما يقول في حد الشمس إنه كوكب يطلع نهارا فيقال وما حد النهار فيلزمه أن يقول النهار زمان من طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر لا يمكن إحصاؤها
القانون السادس:
في أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حده إلا بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم وأما الحد الحقيقي فلا والمعنى المفرد مثل الموجود
فإذا قيل لك ما حد الموجود؟ فغايتك أن تقول هو الشيء أو الثابت فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول ما العقار؟فيقال الخمر وما الغضنفر؟ فيقال الأسد وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال ثم لا يكون إلا شرحا للفظ وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول هو سبع من صفته كيت وكيت فأما تكرار الألفاظ المترادفة فلا يغنيه ولو قلت
حد(30/16)
ص -59-…ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات فلا يكون حقيقيا فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه؟
وإنما قلنا المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي لأن معنى قول القائل ما حد الشيء ؟قريب من معنى قوله ما حد هذه الدار؟ وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها فإذا قال ما حد السواد فكأنه يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد؟ فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم ومذكور واحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك من الأوصاف وهذه الأوصاف بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لونا فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لتجمع له تلك المعاني المتعددة
ويتخلص بأي يبتدىء بالأعم ويختم بالأخص ولا يتعرض للعوارض وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده فكان السؤال عنه كقول القائل ما حد الكرة ويقدر العالم كله كرة فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار إذ ليس له حدود فإن حده عبارة عن منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا
فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام
ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة فلا تقل إن السواد لون وسواد بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد(30/17)
ص -60-…للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا يخطر له السواد مثلا ثم يعقل السواد فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود
ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة والمتكلمون يسمون اللونية حالا لأن منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له إن الزيادة عين الأول أو غيره؟ فإن كان عينه قلت بموجود موجود والمترادفة كالمتكررة فهو إذا يبطل بالعرض وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز ولم يندفع بقولك موجود فهو غير بالمعنى لا باللفظ فوجب الإعتراف بتغاير المعنى في العقل
والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي وإنما يحد بحد لفظي كقولك في حد الموجود إنه الشيء أو رسمي كقولك في حد الموجود أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق والقادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه وكل ذلك ليس ينبىء عن ذات الموجود بل عن تابع لازم لا يفارقه البتة
واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد فإذا قيل لك ما حد الشجر؟ فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حد النبات؟ فتقول جسم نام فيقال ما حد الجسم؟ فتقول جوهر مؤلف أو الجوهر الطويل العريض العميق فيقال وما حد الجوهر؟ وهكذا فإن كل مؤلف فيه مفردات فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات(30/18)
ص -61-…ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها وكل برهان ينتظم من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الإثنين أكثر من الواحد
فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين
الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة
وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر
ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب لأن هذا النمط من الكلام دخيل في علم الأصول فلا يليق فيه الاستقصاء
الامتحان الأول :حد الحد اختلف الناس في حد الحد فمن قائل يقول حد الشيء هو حقيقته وذاته ومن قائل يقول حد الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع ومن قائل ثالث يقول هذه المسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر
فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شيء واحد وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الأمر الآخر وإنما اشتركا في اسم العين فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع(30/19)
ص -62-…فإن قلت فما الصحيح عندك في حد الحد؟
فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه ومن قرر المعاني أولا في عقله ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى
فلنقرر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب
الأولى: حقيقته في نفسه
الثانية: ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم
الثالثة تأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس
الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه
وهذه الأربعة متطابقة متوازية إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأمم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع فانظر المنع أين تجده في هذه الأربعة ؟
فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره فإذا الحقيقة جامعة مانعة
وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لأنه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع(30/20)
ص -63-…وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق
وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة
فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك بين الحقيقة وبين اللفظ وكل لفظ مشترك بين حقيقتين فلا بد أن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين
فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حد الحد أنه حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حد الحد أنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقولك الموجود هو الشيء والعلم هو المعرفة والحركة هي النقلة هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل على شرط أن يجمع ويمنع
وأما حد الحد عند من يقنع بالرسميات فإنه اللفظ الشارح للشيء بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس
وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو إنه القول الدال على تمام ماهية الشيء ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس لأن ذلك تبع للماهية بالضرورة ولا يحتاج إلى التعرض للوازم والعوارض فإنها لا تدل على الماهية بل لا يدل إلا على الماهية إلا الذاتيات
فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية فهذه أربعة أمور مختلفة كما دل لفظ العين على أمور مختلفة(30/21)
ص -64-…فتعلم صناعة الحد فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود
فإذا قيل :لك ما الإنسان؟ فلا تطمع في حد واحد فإن الإنسان مشترك بين أمور إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر فإن اليد المقطوعة والذكر المقطوع يسمى ذكرا وتسمى يدا ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم
وكذلك إذا قيل ما حد العقل فلا تطمع في أن تحده بحد واحد فإنه هوس لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدو فيقال فلان عاقل أي في هدو وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية بل إما فاضل وإما داه وإما كيس
فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله(30/22)
ص -65-…وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات
فإن قلت فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين:
أحدهما أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به فيكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد فالخلاف تباين بعد التوارد وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة وبين من يقول الإنسان مجبور على الحركات إذ لا توارد فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى أو في كتاب إمام لجاز أن يتنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي
الثاني أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف كما يقول المعتزلي حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به ونحن نخالف في ذكر الشيء فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد
وكذلك يقول القائل: حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا ويخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الإنسان عن الذئاب وسائر الحيوانات من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب وتميز الإنسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب وفي الإنسان دون الذئاب وخلق البصر في العين دون العقب لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها
فهذه أمور وإن أوردناها في معرض الامتحان فقد أدرجنا فيها ما يجري(30/23)
ص -66-…على التحقيق مجرى القوانين
امتحان ثان :حد العلم اختلف في حد العلم فقيل إنه المعرفة وهو حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه كما يقال حد الأسد الليث وحد العقار الخمر وحد الموجود الشيء وحد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم تطويل وتكرير إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك فهو كقول القائل حد الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود فإن هذا تطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا ولست أمنع من تسمية هذا حدا فإن لفظ الحد مباح في اللغة لمن استعاره لما يريده مما فيه نوع من المنع هذا إذا كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع وإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة
وقيل أيضا أنه الذي يعلم به وأنه الذي تكون الذات به عالمة وهذا أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر فيشرح الأخفى بالأشهر أما العالم ويعلم فهما مشتقان من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له بالمشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه وهو كقول القائل في حد الفضة إنها التي تصاغ منها الأواني الفضية
وقد قيل في حد العلم إنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وأحكامه وهذا ذكر لازم من لوازم العلم فيكون رسميا وهو أبعد مما قبله من حيث أنه أخص من العلم فإنه لا يتناول إلا بعض العلوم ويخرج منه العلم بالله وصفاته إذ ليس يتأتى به إتقان فعل وأحكامه ولكنه أقرب مما قبله بوجه فإنه ذكر لازم قريب من الذات ليفيد شرحا وبيانا بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة
فإن قلت فما حد العلم عندك؟(30/24)
ص -67-…فاعلم أنه إسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس وله حد بحسبه ويطلق على التخيل وله حد بحسبه ويطلق على الظن وله حد آخر ويطلق على علم الله تعالى على وجه آخر أعلى وأشرف ولست أعني به شرفا بمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة لأنه معنى واحد محيط بجميع التفاصيل ولا تفاصيل ولا تعدد في ذاته وقد يطلق على إدراك العقل وهو المقصود بالبيان وربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي فإنا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه وإذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن تحديد الإدراكات أعجز
ولكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم ومثال
أما التقسيم فهو أن نميزه عما يلتبس به ولا يخفى وجه تميزه عن الإرادة والقدرة وسائر صفات النفس وإنما يلتبس بالاعتقادات ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الشك والظن لأن الجزم منتف عنهما والعلم عبارة عن أمر جزم لا تردد فيه ولا تجويز ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الجهل فإنه متعلق بالمجهول على خلاف ما هو به والعلم مطابق للمعلوم وربما يبقى ملتبسا باعتقاد المقلد الشيء على ما هو به عن تلقف لا عن بصيرة وعن جزم لا عن تردد
ولأجله خفي على المعتزلة حتى قالوا في حد العلم إنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو خطأ من وجهين أحدهما تخصيص الشيء مع أن العلم يتعلق بالمعدوم الذي ليس شيئا عندنا والثاني إن هذا الاعتقاد حاصل للمقلد وليس بعالم قطعا فإنه كما يتصور أن يعتقد الشيء جزما على خلاف ما هو به لا عن بصيرة كاعتقاد اليهودي والمشرك فإنه تصميم جازم لا تردد فيه يتصور أن يعتقد الشيء بمجرد التلقين والتلقف على ما هو به مع الجزم الذي لا يخطر بباله جواز غيره
فوجه تميز العلم عن الاعتقاد هو أن الاعتقاد معناه السبق إلى أحد معتقدي الشاك مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال ومن غير تمكين(30/25)
ص -68-…نقيضه من الحلول في النفس فإن الشاك يقول العالم حادث أم ليس بحادث والمعتقد يقول حادث ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز القدم والجاهل يقول قديم ويستمر عليه والاعتقاد وإن وافق المعتقد فهو جنس من الجهل في نفسه وإن خالفه بالإضافة فإن معتقد كون زيد في الدار لو قدر استمراره عليه حتى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغير في نفسه وإنما تغيرت إضافته فإنه طابق المعتقد في حالة وخالفه في حالة وأما العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغير المعلوم فإنه كشف وانشراح والاعتقاد عقدة على القلب والعلم عبارة عن انحلال العقد فهما مختلفان ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه والعالم لا يجد ذلك أصلا وإن أصغى إلى الشبه المشككة ولكن إذا سمع شبهة فإما أن يعرف حلها وإن لم تساعده العبارة في الحال وإما أن تساعده العبارة أيضا على حلها وعلى كل حال فلا يشك في بطلان الشبهة بخلاف المقلد
وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يكون العلم مرتسما في النفس بمعناه وحقيقته من غير تكلف تحديد
وأما المثال: فهو أن إدراك البصيرة الباطنة تفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المبصر في القوة الباصرة من إنسان العين كما يتوهم انطباع الصور في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صور المبصرات أي ينطبع فيها مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال يطابق صورتها وكذلك يرى مثال النار في المرآة لا عين النار فكذلك العقل على مثال مرآة تنطبع فيها صور المعقولات على ما هي عليها وأعني بصور المعقولات حقائقها وماهياتها فالعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات وهيآتها في نفسه وانطباعها فيه كما يظن من حيث الوهم انطباع الصور في المرآة ففي المرآة ثلاثة أمور الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيها فكذلك جوهر الآدمي كحديدة(30/26)
ص -69-…المرآة وعقله هيئة وغريزة في جوهره ونفسه بها يتهيأ للانطباع بالمعقولات كما أن المرآة بصقالتها واستدارتها تتهيأ لمحاكاة الصور
فحصول الصور في مرآة العقل التي هي مثال الأشياء هو العلم والغريزة التي بها يتهيأ لقبول هذه الصورة هي العقل والنفس التي هي حقيقة الآدمي المخصوصة بهذه الغريزة المهيأة لقبول حقائق المعقولات كالمرآة
فالتقسيم الأول يقطع العلم عن مظنان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم فحقائق المعقولات إذا انطبع بها النفس العاقلة تسمى علما وكما أن السماء والأرض والأشجار والأنهار يتصور أن ترى في المرآة حتى كأنها موجودة في المرآة وكأن المرآة حاوية لجميعها فكذلك الحضرة الإلهية بجملتها يتصور أن تنطبع بها نفس الآدمي والحضرة الإلهية عبارة عن جملة الموجودات فكلها من الحضرة الإلهية إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله فإذا انطبعت بها صارت كأنها كل العالم لإحاطتها به تصورا وانطباعا وعند ذلك ربما ظن من لا يدري الحلول فيكون كمن ظن أن الصورة حالة في المرآة وهو غلط لأنها ليست في المرآة ولكن كأنها في المرآة
فهذا ما نرى الاقتصار عليه في شرح حقيقة العلم في هذه المقدمة التي هي علاوة على هذا العلم
امتحان ثالث: تعريف الواجب اختلفوا في حد الواجب
فقيل :الواجب ما تعلق به الإيجاب وهو فاسد كقولهم العلم ما يعلم به وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه وقيل ما يجب بتركه العقاب وقيل ما لا يجوز العزم على تركه وقيل ما يصير المكلف بتركه عاصيا وقيل ما يلام تاركه شرعا
وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع
وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما(30/27)
ص -70-…أرشدناك إليه في حد العلم
فاعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح فدع الألفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ويقول وجود الله تعالى واجب وقال الله تعالى { وجبت جنوبها } الحج 36 ويقال وجبت الشمس وله بكل معنى عبارة والمطلوب الآن مراد الفقهاء وهذه الألفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض ولا على كل عرض بل من جملتها على الأفعال فقط ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا ومخترعا وله بحسب كل نسبة انقسامات إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطار الشرع فقط
فنقسم الأفعال بالإضافة إلى خطاب الشرع فنعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه وبين الإحجام عنه ويسمى مباحا وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا وما أشعر به قطعا خصوه باسم الفرض ثم لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني
وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه وسلم "من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه" وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمى محظورا و حراما ومعصية(30/28)
ص -71-…فإن قلت: فما معنى قولك أشعر؟
فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة فالإشعار يعم جميع المدارك
فإن قلت: فما معنى قولك عليه عقاب ؟
قلنا معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة.
فإن قلت: فما المراد بكونه سببا؟
فالمراد به ما يفهم من قولنا الأكل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء
فإن قلت :فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب وكم من تارك واجب يعفى عنه ولا يعاقب ؟
فأقول: ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا: الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية فرب دواء لا ينفع ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشيء آخر كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب
فإن قال قائل هل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان ؟
قلنا أما الحد اللفظي فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الأسامي الموضوعة للشيء الواحد وأما الرسمي فيجوز أيضا أن يكثر لأن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر وأما الحد الحقيقي فلا يتصور أن يكون إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو فإذا هذا الحد لا يتعدد وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة كما يقال في حد الحادث أنه الموجود بعد العدم أو:(30/29)
ص -72-…الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا فإنها في حكم المترادفة
ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى
الدعامة الثانية من مدارك العقول
في البرهان الذي به التوصل إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالبحث والنظر
وهذه الدعامة تشتمل على ثلاثة فنون سوابق ولواحق ومقاصد
الفن الأول في السوابق
ويشتمل على تمهيد كلي وثلاثة فصول:
التمهيد
اعلم أن البرهان عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر بالنظر
وهذه الأقاويل إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها سميت مقدمات
والخلل في البرهان تارة يدخل من جهة نفس المقدمات إذ قد تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ومرة منها جميعا
ومثاله من المحسوسات :البيت المبني فإنه أمر مركب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض فيكون فاسدا من حيث الصورة وإن كانت الأحجار والجذوع وسائر الآلات صحيحة وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع(30/30)
ص -73-…حيطانها وسقفها ولكن يكون الخلل من رخاوة في الجذوع وتشعب في اللبنات
هذا حكم البرهان والحد وكل أمر مركب
فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف وكما أن من يريد بناء بيت بعيد عن الخلل يفتقر إلى أن يعد الآلات المفردة أولا كالجذوع واللبن والطين ثم إن أراد اللبن افتقر إلى إعداد مفرداته وهو التبن والتراب والماء والقالب الذي فيه يضرب فيبتدىء أولا بالأجزاء المفردة فيركبها ثم يركب المركب وهكذا إلى آخر العمل
وكذلك طالب البرهان ينبغي أن ينظر في نظمه وصورته وفي المقدمات التي فيها النظم والترتيب
وأقل ما ينتظم منه برهان مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب
وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنها والأخرى خبرا ووصفا
فقد انقسم البرهان إلى مقدمتين وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ
فيجب ضرورة أن ننظر في المعاني المفردة وأقسامها ثم في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة وننظر في حكم المقدمة وشروطها ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة
وكل من أراد أن يعرف البرهان بغير هذا الطريق فقد طمع في المحال وكان كمن طمع في أن يكون كاتبا يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتابة الكلمات أو يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتابة الحروف المفردة وهكذا القول في كل مركب فإن أجزاء المركب تقدم على المركب بالضرورة حى لا يوصف القادر الأكبر بالقدرة على خلق العلم بالمركب دون الآحاد إذ لا(30/31)
ص -74-…يوصف بالقدرة على تعليم الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات
فلهذه الضرورة اشتملت دعامة البرهان على فن في السوابق وفن في المقاصد وفن في اللواحق
الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني
ويتضح المقصود منه بتقسمات
التقسيم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه وهي المطابقة والتضمن والإلتزام فإن لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة ويدل على السقف وحده بطريق التضمن لأن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والحيطان وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم
وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط للحائط حتى يكون مطابقا ولا هو متضمن إذ ليس الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه
وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الإلتزام لكن اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة والتضمن لأن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد إذ السقف يلزم الحائط والحائط الأس والأس الأرض وذلك لا ينحصر
التقسيم الثاني: إن الألفاظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله تنقسم(30/32)
ص -75-…إلى لفظ يدل على عين واحدة ونسميه معينا كقولك زيد وهذه الشجرة وهذا الفرس وهذا السواد وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد ونسميه مطلقا
والأول حده: اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه فلو قصدت اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه
وأما المطلق: فهو الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه كقولك السواد والحركة والفرس والإنسان وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أدخل عليه الألف واللام للعموم
فإن قلت: وكيف يستقيم هذا وقولك الإله والشمس والأرض لا يدل إلا على شيء واحد مفرد مع دخول الألف واللام؟
فاعلم أن هذا غلط فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس مفهوم اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوز في الإله عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة كلها فإن امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إله ثان فلم يكن امتناع الشركة لمفهوم اللفظ والمانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة فلو فرضنا عوالم في كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملا للكل فتأمل هذا فإنه مزلة قدم في جملة من الأمور النظرية فإن من لا يفرق بين قوله السواد وبين قوله هذا السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم سهوه في النظريات من حيث لا يدري
التقسيم الثالث: إن الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ولنخترع لها أربعة ألفاظ وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة
أما المترادفة فنعني بها الألفاظ المختلفة والصيغ المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب وبالجملة كل اسمين لمسمى واحد يتناوله أحدهما من حيث يتناوله الآخر من غير فرق(30/33)
ص -76-…وأما المتباينة فنعني بها الأسامي المختلفة للمعاني المختلفة كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والأرض وسائر الأسامي وهي الأكثر
وأما المتواطئة فهي التي تنطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متفقة بالمعنى الذي وضع الإسم عليها كاسم الرجل فإنه ينطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد واسم الجسم ينطلق على السماء والأرض والإنسان لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع الاسم بإزائها
وكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فإنه ينطلق على آحاد مسمياته الكثيرة بطريق التواطؤ كاسم اللون للسواد والبياض والحمرة فإنها متفقة في المعنى الذي به سمي اللون لونا وليس بطريق الاشتراك البتة
وأما المشتركة: فهي الأسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي يتفجر منه الماء وهي العين الفوارة وللذهب وللشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف
ولقد ثار من ارتباك المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات حتى ظن من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من حيث الاسم وإن ذلك كمشاركة الذهب للمحدقة الباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل عقد البيع للكوكب في المشتري وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنرد له شرحا فنقول:
الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه وقد يدل على المتضادين كالجلل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للسواد والبياض والقرء للطهر والحيض(30/34)
ص -77-…واعلم أن المشترك قد يكون مشكلا قريب الشبه من المتواطىء ويعسر على الذهن وإن كان في غاية الصفاء الفرق ولنسم ذلك متشابها وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء المبصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدى في الغوامض فلا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونها جسما إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان فإنه بالاشتراك المحض إذ يراد به من بعض النبات المعنى الذي به نماؤه ومن الحيوان المعنى الذي به يحس ويتحرك بالإرادة وإطلاقه على الباري تعالى إذا تأملت عرفت أنه لمعنى ثالث يخالف الأمرين جميعا
ومن أمثال هذه تتابع الأغاليط:
مغلطة أخرى: قد تلتبس المترادفة بالمتباينة وذلك إذا أطلقت أسام مختلفة على شيء واحد باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهند والصارم فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف والصارم يدل على السيف مع صفة الحدة والقطع لا كالأسد والليث
وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نحتاج إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبدل اعتباراته كما أنا نسمي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدى به المتحدي ولم يكن عليه برهان إن كان في مقابلة خصم وإن لم يكن في مقابلة خصم سميناه قضية كأنه قضى فيه(30/35)
ص -78-…على شيء بشيء فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سميناه مطلوبا فإن دل بقياسه على صحته سميناه نتيجة فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتبه في أجزاء القياس سميناه مقدمة وهذا ونظائره مما يكثر
مثال الغلط في المشترك: قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل يلزمه القصاص لأنه مختار ويقول الحنفي لا يلزمه القصاص لأنه مكره وليس بمختار
ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالأمرين وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال وترى الفقهاء يتعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك إذ قد يجعل لفظ المختار مراد فاللفظ القادر ومساويا له إذ قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة كالمحمول فيقال هذا عاجز محمول وهذا قادر مختار ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه وهو صادق على المكره وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته بلا تحرك دواعيه من خارج وهذا يكذب على المكره ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت
ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت فيها عقول الضعفاء فليستدل بهذا القليل على الكثير
الفصل الثاني: من الفن الأول النظر في المعاني المفردة
ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة :(30/36)
ص -79-…الأول أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه
والثاني :أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالإضافة إلى الجسمية وإما أخص كالجسمية بالإضافة إلى الوجود وإما مساويا كالمتحيز بالإضافة إلى الجوهر عند قوم وإلى الجسم عند قوم الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة
ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة
فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها وإذا بطل ذلك المعنى
بطل الإبصار والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر فلو انعدم المبصر انعدم الإبصار وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا ولما كنت تحس بالمتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باين العين الجبهة والعقب في الأبصار بمعنى اختص به لا محالة
والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الإبصار لا قوة التخيل فلذلك إذا ولع بشيء فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه
وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الأبصار فيرى الأشياء ولكنه كما تغيب عنه ينساها
وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ولذلك مهما رأى الفرس الشعير(30/37)
ص -80-…تذكر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق له وأنه مستلذ لديه فبادر إليه فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى
ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الإنسان بها البهيمة تسمى عقلا محلها إما دماغك وإما قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس وقوة العقل تباين قوة التخيل مباينة أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس بين قوة الإبصار وقوة التخيل فرق إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الأبصار وليس شرطا لبقاء التخيل وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ويبقى في التخيل ذلك البعد وذلك القدر واللون وذلك الوضع والشكل حتى كأنك تنظر إليه
ولعمري فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين فيصور نصف إنسان وربما ركب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحده وصورة الطير وحده وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال
والمقصود أن مباينة إدراك العقل لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها أعني التي ليست ذاتية كما سبق فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك السواد(30/38)
ص -81-…ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجردة ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الإلتفات إلى العاقل وغير العاقل وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما وهذه من عجيب خواصها وبديع أفعالها فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منه في المكان والقريب بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية
وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل يعنون خارج الذهن وداخله ويقول أرباب الأحوال إنها أمور ثابتة تارة يقولون إنها موجودة معلومة وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت عقولهم والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس إذ من هاهنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الإنساني ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته؟!
الفصل الثالث من السوابق: في أحكام المعاني المؤلفة
قد نظرنا في مجرد اللفظ ثم في مجرد المعنى فننظر الآن في تأليف المعنى على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب كقولنا مثلا العالم حادث والباري(30/39)
ص -82-…تعالى قديم فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الأخرى إما بالإثبات كقولك العالم حادث أو بالسلب كقولك العالم ليس بقديم وقد التأم هذا من جزأين يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا ويسمي المتكلمون أحدهما وصفا والآخر موصوفا ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا والآخر محمولا ويسمي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه ويسمي المجموع قضية
وأحكام القضايا كثيرة ونحن نذكر منها ما تكثر الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه وهو حكمان
الأول: إن القضية تنقسم بالإضافة إلى المقضى عليه إلى التعيين والإهمال والعموم والخصوص فهي أربع
الأولى: قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد عرض
الثانية :قضية مطلقة خاصة كقولنا بعض الناس عالم وبعض الأجسام ساكن
الثالثة: قضية مطلقة عامة كقولنا كل جسم متحيز وكل سواد لون
الرابعة :قضية مهملة كقولنا الإنسان في خسر
وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور يبين مقداره بكليته فتكون مطلقة عامة أو بجزئيته فتكون خاصة أو لا يحصر بسور فتكون مهملة والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما
ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة فإن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم فيصدق طرفا النقيض كقولك الإنسان في خسر تعني الكافر الإنسان ليس في خسر تعني الأنبياء ولا(30/40)
ص -83-…ينبغي أن يسامح بهذا في النظريات مثاله أن يقول الشفعوي مثلا معلوم أن المطعوم ربوي والسفرجل مطعوم فهو إذا ربوي فإن قيل لم قلت المطعوم ربوي فتقول دليله البر والشعير والتمر بمعنى فإنها مطعومات وهي ربوية فينبغي أن يقال فقولك المطعوم ربوي أردت به كل المطعومات أو بعضها فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي ويكون هذا خللا في نظم القياس كما يأتي وجهه وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا وما عددته من البر والشعير ليس كل المطعومات ؟
النظر الثاني في شروط النقيض وهو محتاج إليه إذ رب مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه فيستبان من إبطاله صحة نقيضه
والقضيتان المتناقضتان يعني بهما كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث.
وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب الأخرى بستة شروط:
الأول أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا كقولك النور مدرك بالبصر النور غير مدرك بالبصر إذا أردت بأحدهما الضوء وبالآخر العقل ولذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار وقولهم المضطر آثم المضطر ليس بآثم إذ قد يعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره وقد يعبر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف
الثاني أن يكون الحكم واحدا والإسم مختلفا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم أردت بأحد القديمين ما أراده الله تعالى بقوله { كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }[ يس:39] ولذلك لم يتناقض قولهم المكره مختار المكره ليس(30/41)
ص -84-…بمختار لأن المختار عبارة عن معنيين مختلفين
الثالث : أن تتحد الإضافة في الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقضا إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد وكذلك تقول زيد أب زيد ابن فلا يتعدد بالإضافة إلى شخصين والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي بالإضافة إلى العشرين والثلاثين وكما يقال المرأة مولى عليها المرأة غير مولى عليها وهما صادقان بالإضافة إلى النكاح والبيع لا إلى شيء واحد وإلى العصبة والأجنبي لا إلى شخص واحد
الرابع :أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مرو أي بالقوة وليس الماء بمرو أي بالفعل والسيف في الغمد قاطع وليس بقاطع ومنه ثار الخلاف في أن البارىء في الأزل خالق أو ليس بخالق
الخامس :التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي ليس بأسود الأسنان وعنه نشأ الغلط حيث قيل إن العالمية حال لزيد بجملته لأن زيدا عبارة عن جملته ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد إذ لم نعن به أنه في جميع بغداد بل في جزء منها وهو مكان يساوي مساحته
السادس: التساوي في المكان والزمان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث أي هو حادث عن أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق والصبي تنبت له أسنان والصبي لا تنبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر التي بعدها
وبالجملة فالقضية المتناقضة هي التي تسلب ما أثبتته الأولى بعينه عما أثبتته بعينه وفي ذلك الوقت والمكان والحال وبتلك الإضافة بعينها وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل وكذلك في الجزء والكل
وتحصيل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبادل النفي بالإثبات فقط(30/42)
ص -85-…الفن الثاني في المقاصد
وفيه فصلان فصل في صورة البرهان وفصل في مادته
الفصل الأول: في صورة البرهان
والبرهان عبارة عن مقدمتين معلومتين تؤلف تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص فيتولد بينهما نتيجة
وليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها
النمط الأول
ثلاثة أضرب
مثال الأول قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فلزم أن كل جسم حادث ومن الفقه قولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلزم أن كل نبيذ حرام
فهاتان مقدمتان إذا سلمتا على هذا الوجه لزم بالضرورة تحريم النبيذ فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا وسيأتي الفرق بين اليقين والظن إذا ذكرنا أصل القياس فإن كل مقدمة أصل فإذا ازدوج أصلان حصلت النتيجة
وعادة الفقهاء في مثل هذا النظم أنهم يقولون النبيذ مسكر فكان حراما قياسا على الخمر وهذا لا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظم الذي ذكرناه فإن رد إلى هذا النظم ولم يكن مسلما فلا تلزم النتيجة إلا بإقامة الدليل حتى يثبت كونه مسكرا إن نوزع فيه بالحس والتجربة وكون المسكر حراما(30/43)
ص -86-…بالخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" وقد ذكرنا في كتاب أساس القياس أن تسمية هذا قياسا تجوز فإن حاصله راجع إلى ازدواج خصوص تحت عموم
وإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا البرهان مقدمتين إحداهما قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تشتمل على جزأين مبتدأ وخبر المبتدأ محكوم عليه والخبر حكم فيكون مجموع أجزاء البرهان أربعة أمور إلا أن أمرا واحدا يتكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة أجزاء بالضرورة لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء واحد وبطل الازدواج بينهما فلا تتولد النتيجة فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية لا للنبيذ ولا للمسكر لكن قلت والمغصوب مضمون أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى فبالضرورة ينبغي أن تكرر أحد الأجزاء الأربعة
فلنصطلح على تسمية المتكرر علة وهو الذي يمكن أن يقترن بقولك لأن في جواب المطالبة بلم فإنه إذا قيل لك لم قلت أن النبيذ حرام قلت لأنه مسكر ولا تقول لأنه نبيذ ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة
ولنسم ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه وما يجري مجرى الحرام حكما فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام
ولنشتق للمقدمتين اسمين منهما لا من العلة لأن العلة متكررة فيهما فنسمي المقدمة المشتملة على المحكوم المقدمة الأولى وهي قولنا كل نبيذ مسكر والمشتملة على الحكم المقدمة الثانية وهي قولنا كل مسكر حرام أخذا من النتيجة فإنا نقول فكل نبيذ حرام فتذكر النبيذ أولا ثم الحرام(30/44)
ص -87-…وغرض هذه التسمية سهولة التعريف عند التفصيل والتحقيق
ومهما كانت المقدمات معلومة كان البرهان قطعيا وإن كانت مظنونة كان فقيها وإن كانت ممنوعة فلا بد من إثباتها وأما بعد تسليمها فلا يمكن الشك في النتيجة أصلا بل كل عاقل صدق بالمقدمتين فهو مضطر إلى التصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال
وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف لأنا إذا قلنا النبيذ مسكر جعلنا المسكر وصفا فإذا حكمنا على كل مسكر بأنه حرام فقد حكمنا على الوصف فبالضرورة يدخل الموصوف فيه فإنه إن بطل قولنا النبيذ حرام مع كونه مسكرا بطل قولنا كل مسكر حرام إذا ظهر لنا مسكر ليس بحرام
وهذا الضرب له شرطان في كونه منتجاز شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة فإن كانت نافية لم تنتج لأنك إذا نفيت شيئا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل إذا وقعت المباينة بين المسكر والخل فحكمك على المسكر بالنفي والإثبات لا يتعدى إلى الخل
الشرط الثاني في المقدمة الثانية: وهو أن تكون عامة كلية حتى يدخل المحكوم عليه بسبب عمومها فيها فإنك إذا قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربويا إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم في السفرجل ويثبت ذلك بعموم الخبر
فإن قلت: فبماذا يفارق هذا الضرب الضربين الآخرين بعده ؟فاعلم أن العلة إما أن توضع محكوما عليها في المقدمتين أو محكوما بها في المقدمتين أو توضع حكما في إحداهما محكومة في الأخرى وهذا الأخير هو النظم الأول والثاني والثالث لا يتضحان غاية الاتضاح إلا بالرد إليه فلذلك قدمنا(30/45)
ص -88-…ذكره
النظم الثاني أن تكون العلة حكما في المقدمتين مثاله قولنا الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري غير مؤلف وكل جسم مؤلف فالباري تعالى إذن ليس بجسم فهاهنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمكرر هو المؤلف فهو العلة وتراه خبرا في المقدمتين وحكما بخلاف المسكر في النظم الأول إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الأخرى
ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر فهما متباينان فالتأليف ثابت للجسم منتف عن الباري تعالى فلا يكون بين معنى الجسم وبين الباري التقاء أي لا يكون الباري جسما ولا الجسم هو الباري تعالى
ويمكن بيان لزوم النتيجة بالرد إلى النظم الأول بطريق العكس كما أوضحناه في كتاب معيار العلم وكتاب محك النظر فلا نطول الآن به
وهذا النظم هو الذي يعبر عنه الفقهاء بالفرق إذ يقولون الجسم مؤلف والباري غير مؤلف وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية سالبة وأما النظم الأول فإنه ينتج النفي والإثبات جميعا
ومن شروط هذا النظم أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر فإنا نحكم على السواد والبياض باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد ونظمه أن يقال كل سواد(30/46)
ص -89-…لون وكل بياض لون فلا يلزم كل سواد بياض ولا كل بياض سواد نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي
النظم الثالث :أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين وهذا يسميه الفقهاء نقضا وهذا إذا اجتمعت شروطه أنتج نتيجة خاصة لا عامة مثاله قولنا كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون وكذلك لو قلت كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي ووجه دلالته أن الربوي والمطعوم شيئان حكمنا بهما على شيء واحد وهو البر فالتقيا عليه وأقل درجات الإلتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي وبعض الربوي مطعوم
النمط الثاني من البرهان
وهو نمط التلازم
يشتمل على مقدمتين والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالإثبات حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها ولنسم هذا نمط التلازم
ومثاله قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث فهذه مقدمة ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية فيلزم منه أن له محدثا
والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا إحداهما قولنا إن كان العالم حادثا والثانية قولنا فله محدث ولنسم القضية الأولى المقدم ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع والقضية الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما وهو قولنا ومعلوم أن العالم حادث فتلزم منه النتيجة وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم(30/47)
ص -90-…ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة فثبت أنه نفل
وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم أن يكون المصلي متطهرا ومثاله من الحس إن كان هذا سوادا فهو لون ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون
وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة غير صحيحة وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح
ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال كقولنا لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر وكل ذلك محال فما يفضي إليه محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال
وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم فإنا لو قلنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فلا يلزم منه لا صحة الصلاة ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه فإنا
لو قلنا ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا ولا كونه غير متطهر
وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم بل إما أخص أو مساويا ومهما كان أخص فثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون وهو الذي عنيناه(30/48)
ص -91-…بتسليم عين اللازم وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص بالضرورة إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ولا ثبوته فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا وإن جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد
فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب لكنه موجود فإذا هو واجب لكنه واجب فإذا هو موجود لكن الرجم غير واجب فالزنا غير موجود لكن زنا المحصن غير موجود فالرجم غير واجب
وكذلك كل معلول له علة واحدة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود لكن النهار موجود فهي إذا طالعة لكنها غير طالعة فالنهار غير موجود لكن النهار غير موجود فهي إذا غير طالعة
النمط الثالث: نمط التعاند
وهو على ضد ما قبله والمتكلمون يسمونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل ويسمون ما قبله الشرطي المتصل
وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة
ومثاله: العالم إما قديم وإما حادث وهذه مقدمة وهي قضيتان الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها فيلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات فإنا نقول لكنه حادث فليس بقديم لكنه قديم فليس بحادث لكنه ليس بحادث فهو قديم لكنه ليس بقديم فهو حادث(30/49)
ص -92-…وبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر
ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين بل شرطه أن تستوفي أقسامه فإن كانت ثلاثة فإنا نقول العدد إما مساو أو أقل أو أكثر فهذه ثلاثة لكنها حاصرة فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإثبات واحد ينتج انحصارا الحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه والذي لا ينتج فيه انتفاء واحد هو أن لا يكون محصورا كقولك زيد إما بالعراق وإما بالحجاز فهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع آخر
وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه إلا أن نتكلف له وجها فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود وهذا غير حاصر إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوى الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا فإن أبطل هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود فعند ذلك ينتج
فهذه أشكال البراهين فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الأنواع الخمسة فهو غير منتج البتة ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
الفصل الثاني من فن المقاصد: في بيان مادة البرهان
وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من(30/50)
ص -93-…السرير وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج بل البرهان المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينا أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا
فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها يقتنص اليقين
أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال
أحدها أن يتيقن ويقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعها به صحيح ويتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ بل حيث لو حكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأنه كاذب أو تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن من معجزة فهي مخرقة
وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيا على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقينا
مثاله: قولنا الثلاثة أقل من الستة وشخص واحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون قديما حادثا موجودا معدوما ساكنا متحركا في حالة واحدة
الحالة الثانية: أن تصدق بها تصديقا جزما لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضها البتة ولو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه ولكنها لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيض معتقدها عمن هو أعلم الناس عندها كنبي أو صديق أورث ذلك فيها توقفا
ولنسم هذا الجنس: اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين(30/51)
ص -94-…واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعا بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز
الحالة الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر لكن لو أشعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله وهذا يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وإن انضاف إليه ثالث زاد السكون والقوة فإن انضافت إليه تجربة لصدقهم على الخصوص زادت القوة فإن انضافت إليه قرينة كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وقد اصفرت وجوههم واضطربت أحوالهم زاد الظن وهكذا لا يزال يترقى قليلا قليلا إلى أن ينقلب الظن علما عند الانتهاء إلى حد التواتر
والمحدثون يسمون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا حتى يطلقوا القول بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح توجب العلم والعمل
وكافة الخلق إلا آحاد المحققين يسمون الحالة الثانية يقينا ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى
والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظنة الغلط
فإذا ألفت برهانا من مقدمات يقينية على الذوق الأول وراعيت صورة تأليفه على الشروط الماضية فالنتيجة ضرورية يقينية يجوز الثقة بها هذا بيان نفس اليقين
أما مدارك اليقين فجميع ما يتوهم كونه مدركا لليقين والاعتقاد الجزم ينحصر في سبعة أقسام
الأول: الأوليات: وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها مثل(30/52)
ص -95-…علم الإنسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره
وبالجملة : هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض مثل أن القديم حادث فيكذب بالعقل به وأن القديم ليس بحادث فيصدق العقل به فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب
الثاني: المشاهدات الباطنة :وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وجميع الأحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل وكذا الصبي والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان
الثالث: المحسوسات الظاهرة: كقولك الثلج أبيض والقمر مستدير والشمس مستنيرة وهذا الفن واضح لكن الغلط يتطرق إلى الأبصار لعوارض مثل بعد مفرط وقرب مفرط أو ضعف في العين وأسباب الغلط في الأبصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط
واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج فتراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر(30/53)
ص -96-…الرابع التجربيات: وقد يعبر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والخبز مشبع والحجر هاو إلى أسفل والنار صاعدة إلى فوق والخمر مسكر والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم لاختلافهم في التجربة فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الماء مرو وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه وهذه غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى الأرض وأما الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة لا قضية في عين وليس للحس إلا قضية في عين وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك إلا شربا وسكرا واحدا معينا فالحكم في الكل إذا هو للعقل ولكن بواسطة الحس أو بتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذ المرة الواحدة لا يحصل العلم بها فمن تألم له موضع فصب عليه مائعا فزال ألمه لم يحصل له العلم بأنه المزيل إذ يحتمل أن زواله بالاتفاق بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص فزال فربما يخطر له أن إزالته بالاتفاق فإذا تكرر مرات كثيرة في أحوال مختلفة انغرس في النفس يقين وعلم بأنه المؤثر كما حصل بأن الاصطلاء بالنار مزيل للبرد والخبز مزيل لألم الجوع
وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ولم يشعر بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشغله بلفظ وكأن العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر ولو كان بالاتفاق لاختلف
وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات وقد نبهنا على غورها في كتاب تهافت الفلاسفة والمقصود تمييز التجربيات عن الحسيات
ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها وهذا كما أن الأعمى(30/54)
ص -97-…والأصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة حتى يقدر الأعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الأرض فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع
الخامس: المتواترات كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلوات الخمس بل كعلمنا بأن من مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي فإن هذا أمر وراء المحسوس إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة وأما الحكم بصدقة فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرر السماع ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر
فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة لمقدمات البراهين وما بعدها ليس كذلك
السادس الوهميات: وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته فإن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخلا ولا خارجا محال وأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال
وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من الدماغ وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات ومتابعتها والتصرف فيها فكل ما لا يكون على وفق المحسوسات التي ألفتها فليس في طباعها إلا النبوة عنها وإنكارها(30/55)
ص -98-…ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان والأولى منهما ربما وقع لك الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لأدلتها وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لأن الخلاء باطل بالبراهين القاطعة إذ لا معنى له والملاء متناه بأدلة قاطعة إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية مثل قولك لا يكون شخص في مكانين بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة
وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها
فإن قلت: فبماذا أميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ومتى يحصل الأمان منها؟. فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن وقالوا بتكافؤ الأدلة وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة وقال بعضهم لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة بما هو أيضا في محل التوقف
وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا فلا نشتغل به
ونفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم
[الطريق] الأول جملي: وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات ليست من النظريات ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لأنكره فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده أباه ولو كلفت(30/56)
ص -99-…الوهم أن يتأمل ذات القدرة والعلم والإرادة لصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد أو جسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض كأنه ستر رقيق مرسل على وجهه ولم يقدر على اتحاد البعض بالبعض بأسره فإنه ربما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي في كل شيئين بأن أحدهما متميز في الوضع عن الآخر
الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن نعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوسات بالمحسوسات إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات فحيلة العقل مع الوهم في أن يثق بكذبه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية ليساعده الوهم عليها وينظمها نظم البرهان الذي ذكرناه فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق في الأمثلة وكما في الهندسيات فتجد ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه فإذا رأى الوهم قد زاغ عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمها وعلى كونها نتيجة علم أن ذلك من قصور في طباعه عن إدراك مثل هذا الشيء الخارج عن المحسوسات
فاكتف بهذا القدر فإن تمام الإيضاح فيه تطويل
السابع المشهورات: وهي آراء محمودة يوجب التصديق بها إما شهادة الكل أو الأكثر أو شهادة جماهير الأفاضل كقولك الكذب قبيح وإيلام البريء قبيح وكفران النعم قبيح وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن
وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فلا يجوز أن يعول عليها في مقدمات البرهان فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول(30/57)
ص -100-…الصبا وذلك بأن تكرر على الصبي ويكلف اعتقادها ويحسن ذلك عنده وربما يحمل عليها حب التسالم وطيب المعاشرة وربما تنشأ من الحنان ورقة الطبع فترى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون عن أكل لحومها وما يجري هذا المجرى فالنفوس المجبولة على الحنان والرقة أطوع لقبولها
وربما يجبل على التصديق بها الاستقراء الكثير
وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيرسخ في نفسه كمن يقول مثلا التواتر لا يورث العلم لأن كل واحد من الآحاد لا يورث العلم فالمجموع لا يورث لأنه لا يزيد على الآحاد وهذا غلط لأن قول الواحد لا يوجب العلم بشرط الإنفراد وعند التواتر فات هذا الشرط فيذهل عن هذا الشرط لدقته ويصدق به مطلقا
وكذلك يصدق بقوله إن الله على كل شيء قدير مع أنه ليس قادرا على خلق ذاته وصفاته وهو شيء لكن هو قدير على كل شيء بشرط كونه ممكنا في نفسه فيذهل عن هذا الشرط ويصدق به مطلقا لكثرة تكرره على اللسان ووقع الذهول عن شرطه الدقيق
وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة وهي من مثارات الغلط العظيمة وأكثر قياسات المتكلمين والفقهاء مبنية على مقدمات مشهورة يسلمونها بمجرد الشهرة فلذلك ترى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيرون فيها
فإن قلت: فبم يدرك الفرق بين المشهور والصادق؟
فأعرض قول القائل العدل جميل والكذب قبيح على العقل الأول الفطري الموجب للأوليات وقدر أنك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تتأدب باستصلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ ومرشد وكلف نفسك أن تشكك فيه فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا وإنما الذي يعسر عليك هذه التقديرات أنك على حالة تضادها فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال ولكن إذا تحذقت فيها(30/58)
ص -101-…أمكنك التشكك ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلاء أو ملاء وهو كاذب وهمي لكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر يقتضيه فطرة العقل
وأما كون الكذب قبيحا فلا يقتضيه فطرة العقل الوهم ولا فطرة العقل بل ما ألفه الإنسان من العادات والأخلاق والاستصلاحات وهذه أيضا معارضة مظلمة يجب التحرز عنها
فهذا القدر كاف في المقدمات التي منها ينتظم البرهان
فالمستفاد من المدارك الخمسة بعد الاحتراز عن مواقع الغلط فيها يصلح لصناعة البرهان والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية والأقيسة الجدلية ولا تصلح لإفادة اليقين البتة
الفن الثالث من دعامة البرهان: في اللواحق
وفيه فصول:
الفصل الأول: في بيان أن ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم يرجع إلى الضروب التي ذكرناها
فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا.
وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق كلام واحد .
مثال ترك إحدى المقدمتين لوضوحها وذلك غالب في الفقهيات والمحاورات احترازا عن التطويل كقول القائل هذا يجب عليه الرجم لأنه زنى وهو محصن وتمام القياس أن تقول كل من زنى وهو محصن فعليه(30/59)
ص -102-…الرجم وهذا زنى وهو محصن ولكن ترك المقدمة الأولى لاشتهارها وكذلك يقال العالم محدث فيقال لم فيقول لأنه جائز ويقتصر عليه وتمامه أن يقول كل جائز فله فاعل والعالم جائز فإذا له فاعل ويقول في نكاح الشغار هو فاسد لأنه منهي عنه وتمامه أن يقول كل منهي عنه فهو فاسد والشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ولكن ترك الأولى لأنها موضع النزاع ولو صرح بها لتنبه الخصم لها فربما تركها للتلبيس مرة كما تركها للوضوح أخرى
وأكثر أدلة القرآن كذلك تكون مثل قوله تعالى{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الانبياء :22] فينبغي أن يضم إليها ومعلوم أنهما لم تفسدا وقوله تعالى{ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء :42] وتمامه أنه معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا
ومثال ما يترك للتلبيس أن يقال فلان خائن في حقك فتقول لم ؟فيقال لأنه كان يناجي عدوك وتمامه أن يقال كل من يناجي العدو فهو عدو وهذا يناجي العدو فهو إذا عدو ولكن لو صرح به لتنبه الذهن بأن من يناجي العدو فقد ينصحه وقد يخدعه فلا يجب أن يكون عدوا.
وربما يترك المقدمة الثانية وهي مقدمة المحكوم عليه مثاله أن يقال لا تخالط فلانا فيقول لم ؟فيقال لأن الحساد لا يخالطون وتمامه أن يضم إليه إن هذا حاسد والحاسد لا يخالط فهذا إذا لا يخالط
وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها استغفالا للخصم واستجهالا له وهذا غلط في النظم الأول
ويتطرق ذلك إلى النظم الثاني والثالث
مثاله قولك :كل شجاع ظالم فيقال لم فيقال لأن الحجاج كان شجاعا وظالما وتمامه أن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم فكل شجاع ظالم وهذا غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وقد بينا أنه لا ينتج إلا نتيجة خاصة وإنما كان من النظم الثالث لأن الحجاج هو العلة لأنه المتكرر في المقدمتين لأنه محكوم عليه في المقدمتين فيلزم منه أن بعض(30/60)
ص -103-…الشجعان ظالم ومن هاهنا غلط من حكم على كل المتصوفة أو كل المتفقهة بالفساد إذا رأى ذلك من بعضهم ونظم قياسه أن فلانا متفقه وفلان فاسق فكل متفقه فاسق وذلك لا يلزم بل يلزم أن بعض المتفقهة فاسق
وكثيرا ما يقع مثل هذا الغلط في الفقه أن يرى الفقيه حكما في موضع معين فيقضي بذلك الحكم على العموم فيقول مثلا البر مطعوم والبر ربوي فالمطعوم ربوي
وبالجملة :مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم منه إلا نتيجة جزئية وهو معنى النظم الثالث ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساوية له كان من النظم الأول وأمكن استنتاج القضايا الأربعة منه أعني الموجبة العامة والخاصة والنافية العامة والخاصة ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي فأما الإيجاب فلا
ومثال المختلطات المركبة من كل نمط كقولك الباري تعالى إن كان على العرش أما مساو أو أكبر أو أصغر وكل مساو وأصغر وأكبر مقدر وكل مقدر فإما أن يكون جسما أو لايكون جسما وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش وهذا السياق اشتمل على النظم الأول والثاني والثالث مختلطا كذلك فمن لا يقدر على تحليله وتفصيله فربما انطوى التلبيس في تفاصيله وتضاعيفه فلا يتنبه لموضعه ومن عرف المفردات أمكنه رد المختلطات إليها
فإذا لا يتصور النطق بالاستدلال إلا ويرجع إلى ما ذكرناه
الفصل الثاني: في بيان رجوع الاستقراء والتمثيل إلى ما ذكرناه
أما الاستقراء: فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات كقولنا في الوتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة(30/61)
ص -104-…والفرض لا يؤدى على الراحلة فيقال لم قلتم أن الفرض لا يؤدى على الراحلة؟ فيقال عرفناه بالاستقراء إذ رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة فقلنا إن كل فرض لا يؤدى على الراحلة
ووجه دلالة هذا لا يتم إلا بالنظم الأول بأن يقول كل فرض فإما قضاء أو أداء أو نذر وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدى على الراحلة فكل فرض لا يؤدى على الراحلة
وهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات والخلل تحت قوله إما أداء فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدى على الراحلة يمنعه الخصم إذ الوتر عنده أداء واجب ويؤدى على الراحلة وإنما يسلم الخصم من الأداء الصلوات الخمس وهذه صلاة سادسة عنده فيقول وهل استقريت حكم الوتر في تصفحك ؟وكيف وجدته؟
فإن قلت: وجدته لا يؤدى على الراحلة فالخصم لا يسلم فإن لم تتصفحه فلم يبين لك إلا بعض الأداء فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة وذلك لا ينتج لأنا بينا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة ولهذا غلط من قال أن صانع العالم جسم لأنه قال كل فاعل جسم وصانع العالم فاعل فهو إذا جسم فقيل لم قلت أن كل فاعل جسم ؟فيقول لأني تصفحت الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما فيقال وهل تصفحت صانع العالم أم لا؟ فإن لم تتصفحه فقد تصفحت البعض دون الكل فوجدت بعض الفاعلين جسما فصارت المقدمة الثانية خاصة لا تنتج وإن تصفحت الباري فكيف وجدته؟ فإن قلت وجدته جسما فهو محل النزاع فكيف أدخلته في المقدمة(30/62)
ص -105-…فثبت بهذا أن الاستقراء إن كان تاما رجع إلى النظم الأول وصلح للقطعيات وإن لم يكن تاما لم يصلح إلا للفقهيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك
الفصل الثالث: في وجه لزوم النتيجة من المقدمات
وهو الذي يعبر عنه بوجه الدليل ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء فلا(30/63)
ص -106-…يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره
فنقول: كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين إما أن يصدق به أو يمتنع من التصديق فإن صدق فهو الأولى المعلوم بغير واسطة ويقال إنه معلوم بغير نظر ودليل وحيلة وتأمل وكل ذلك بمعنى واحد وإن لم يصدق فلا مطمع في التصديق إلا بواسطة وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم فيكون خبرا عنها وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل خبرا عنه فيصدق فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه
بيانه أنا إذا قلنا للعقل احكم على النبيذ بالحرام فيقول لا أدري ولم يصدق به فعلمنا أنه ليس يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهو الحرام والنبيذ فلا بد أن يطلب واسطة ربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب فيقال هل النبيذ مسكر فيقول نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة فيقال وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا كان قد حصل ذلك بالسماع وهو المدرك بالسمع قلنا فإن صدقت بهاتين المقدمتين لزمك التصديق بالثالث لا محالة وهو أن النبيذ حرام بالضرورة فيلزمه أن يصدق بذلك ويذعن للتصديق به
فإن قلت فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما
فاعلم أن ما توهمت حق من وجه وغلط من وجه
أما الغلط فهو أن هذه قضية ثالثة لأن قولك النبيذ حرام غير قولك النبيذ مسكر وغير قولك المسكر حرام بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات وليس فيها تكرير أصلا بل النتيجة اللازمة غير المقدمات الملتزمة وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شمل بعمومه النبيد الذي هو أحد المسكرات فقولك النبيذ حرام ينطوي فيه لكن بالقوة(30/64)
ص -107-…لا بالفعل وقد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص فمن قال الجسم متحيز ربما لا يخطر بباله ذلك الوقت أن الثعلب متحيز بل ربما لا يخطر بباله ذلك الثعلب فضلا عن أن يخطر بباله أنه متحيز فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة والموجود بالقوة القريبة لا يظن أنه موجود بالفعل
فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن وتخطر ببالك وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة فإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقر لا تحمل فيقول نعم فيقال وهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين إذ نظمهما أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر والانتفاخ له أسباب فإذا انتفاخها من سبب آخر
ولما كان السبب الخاص لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره
فالحق أن المطلوب هو المدلول المستنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمتين بالقوة ولكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد القلب لحضور المقدمتين مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالفين للتولد الذي ذكره المعتزلة وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حضور المقدمتين في الذهن والتفظن لوجه تضمنهما له بطريق إجراء الله تعالى العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام(30/65)
ص -108-…النظر عند بعض أصحابنا ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمتين للنتيجة على معنى وجودها فيهما بالقوة فقط أما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق بها القدرة وعند بعضهم هو كسب مقدور
والرأي الحق في ذلك لا يليق بما نحن فيه
والمقصود كشف الغطاء عن النظر وإن وجه الدليل ما هو والمدلول ما هو والنظر الصحيح ما هو والنظر الفاسد ما هو وترى الكتب مشحونات بتطويلات في هذه الألفاظ من غير شفاء وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط فلا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح وإن خالف المعتاد
مغالطة من منكري النظر :وهو أن يقول ما تطلب بالنظر وهو معلوم لك أم لا؟ فإن علمت فكيف تطلب وأنت واجد؟ وإن جهلته فإذا وجدته فبم تعرف أنه مطلوبك؟ وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه؟ فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه؟(30/66)
فنقول أخطأت في نظم شبهتك فإن تقسيمك ليس بحاصر إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه ؟بل هاهنا قسم ثالث وهو أني أعرفه من وجه وأعلمه من وجه وأجهله من وجه وأعني الآن بالمعرفة غير العلم فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل أي في قوتي أن أقبل التصديق بها بالفعل وأجهلها من وجه أي لا أعلمها بالفعل ولو كنت أعلمها بالفعل لما طلبتها ولو لم أعلمها بالقوة لما طمعت في أن أعلمها إذ ما ليس في قوتي علمه يستحيل حصوله كاجتماع الضدين ولولا أني أفهمه بالمعرفة والتصور لأجزائه المنفردة لما كنت أعلم الظفر بمطلوبي إذا وجدته وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور وإنما أطلب مكانه وأنه في البيت أم لا وكونه في البيت أفهمه بالمعرفة والتصور أي أفهم البيت مفردا والكون مفردا وأعلمه بالقوة أي في قوتي أن أصدق بكونه في البيت وأطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر فإذا رأيته في(30/67)
ص -109-…البيت صدقت بكونه في البيت فكذلك طلبي لكون العالم حادثا إذا وجدته
الفصل الرابع :في انقسام البرهان إلى برهان علة وبرهان دلالة
أما برهان الدلالة فهو أن يكون الأمر المتكرر في المقدمتين معلولا ومسببا فإن العلة والمعلول يتلازمان وكذلك السبب والمسبب والموجب والموجب فإن استدللت بالعلة على المعلول فالبرهان برهان علة وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو برهان دلالة
وكذلك لو استدللت بأحد المعلولين على الآخر
ومثال قياس العلة من المحسوسات أن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله فتقول من أكل كثيرا فهو في الحال شبعان وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان وإن قلت إن كل شبعان قد أكل كثيرا وزيد شبعان فإذا قد أكل كثيرا فهذا برهان دلالة
ومثاله من الكلام قولك كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم فعل محكم فصانعه عالم
ومثال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا الزنا يوجب حرمة المصاهرة لأن كل وطء لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة فإن الحرمة والمحرمية ليست إحداهما علة للأخرى بل هما نتيجتا علة واحدة وحصول إحدى النتيجتين يدل على حصول الأخرى بواسطة العلة فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة
وجميع استدلالات الفراسة من قبيل الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى حتى أنه يستدل بخطوط حمر في كتف الشاة على إراقة الدماء في تلك السنة ويستدل بالخلق على الأخلاق ولا يمكن ذلك إلا بطريق تلازم النتائج الصادرة عن سبب واحد(30/68)
ص -110-…ولنقتصر من مدارك العقول على هذا القدر فإنه كالعلاوة على علم الأصول ومن أراد مزيدا عليه فليطلبه من كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
ولنشتغل الآن بالأقطاب الأربعة التي يدور عليها علم الأصول
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وعلى جميع أصحابه(30/69)
ص -111-…بسم الله الرحمن الرحيم
القطب الأول في الثمرة وهي الحكم
والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة:
فن في حقيقة الحكم
وفن في أقسامه
وفن في أركانه
وفن فيما يظهره(30/70)
ص -112-…الفن الأول: في حقيقته [الحكم]
ويشتمل على تمهيد وثلاث مسائل:
أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين فالحرام هو المقول فيه إتركوه ولا تفعلوه والواجب هو المقول فيه إفعلوه ولا تتركوه والمباح هو المقول فيه إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم فلهذا قلنا العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع .
فلنرسم كل مسألة برأسها
مسألة[حسن الأفعال]
الحسن والقبح في الفعل ذهبت المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة فمنها ما يدرك بضرورة العقل كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى وشكر المنعم ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران وإيلام البريء والكذب الذي لا غرض فيه ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة لكن العقل لا يستقل بدركه
فنقول: قول القائل: هذا حسن وهذا قبيح لا يحس بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ الحسن والقبح مختلفة فلا(30/71)
ص -113-…بد من تلخيصها
والاصطلاحات فيه ثلاثة:
الأول الاصطلاح المشهور العامي :وهو أن الأفعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما لا يوافق ولا يخالف فالموافق يسمى حسنا والمخالف يسمى قبيحا والثالث يسمى عبثا
وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه قبيح في حق من خالفه حتى أن قتل الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه قبيحا في حق أوليائه
وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا خالف غرضهم ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون خرب الفلك وتعس الدهر وهم يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" فإطلاق اسم الحسن والقبح على الأفعال عند هؤلاء كإطلاقه على الصور فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى بحسنه ومن نفر طبعه عن شخص استقبحه ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك حتى يستحسن سمرة اللون جماعة ويستقبحها جماعة فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة وهما أمران إضافيان لا كالسواد والبياض إذ لا يتصور أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض في حق عمرو
الاصطلاح الثاني: التعبير بالحسن عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال خالف الغرض أو وافقه ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا والمباح لا يكون حسنا
الاصطلاح الثالث :التعبير بالحسن عن كل ما لفاعله أن يفعله فيكون المباح حسنا مع المأمورات وفعل الله يكون حسنا بكل حال(30/72)
ص -114-…وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي معقولة ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شيء منها فلا مشاحة في الألفاظ فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة والمخالفة ويختلف ذلك بالإضافات ولا يكون صفة للذات.
فإن قيل نحن لا ننازعكم في هذه الأمور الإضافية ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها ولكن ندعي الحسن والقبح وصفا ذاتيا للحسن والقبيح مدركا بضرورة العقل في بعض الأشياء كالظلم والكذب والكفران والجهل ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع لأنه قبيح لذاته وكيف ينكر ذلك والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال ؟
قلنا: أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور :
أحدها :في كون القبح وصفا ذاتيا
والثاني: في قولكم أن ذلك مما يعلمه العقلاء بالضرورة
والثالث: في ظنكم أن العقلاء لو توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها ودليلا على كونه ضروريا.
أما الأول: وهو دعوى كونه وصفا ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل فإن القتل عندهم قبيح لذاته بشرط أن لا تسبقه جناية ولا يعقبه عوض حتى جاز إيلام البهائم وذبحها ولم يقبح من الله تعالى ذلك لأنه يثيبها عليه في الآخرة والقتل في ذاته له حقيقة واحدة لا تختلف بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة إلا من حيث الإضافة إلى الفوائد والأغراض وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا ولو كان فيه عصمة دم نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه والوصف الذاتي كيف يتبدل بالإضافة إلى الأحوال
وأما الثاني :وهو كونه مدركا بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه ولكنكم تظنون أن مستند معرفتكم السمع كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر التواتر النظر ولا يبعد التباس مدرك العلم(30/73)
ص -115-…وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة ولا خلاف فيها
قلنا :هذا كلام فاسد لأنا نقول يحسن من الله تعالى إيلام البهائم ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا فدل أنا ننازعكم في نفس العلم
وأما الثالث: فهو أنا لو سلمنا اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة إذ لم يسلم كونهم مضطرين إليه بل يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري فقد اتفق الناس على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل ولم يخالف إلا الشواذ فلو اتفق أن ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الأشياء وبعضه عن تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لأهل الضلال فالتئام الإتفاق من هذه الأسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الأمة خاصة إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة وكيف وفي الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الأشياء ولا حسن نقائضها فكيف يدعى اتفاق العقلاء ؟
احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا وليس ذلك إلا لحسنه وإن الملك العظيم المستولي على الأقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا مجازاة وشكرا ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر أو على إفشاء السر ونقض العهد وهو على خلاف غرض المكره
وعلى الجملة: استحسان مكارم الأخلاق وإفاضة النعم مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد(30/74)
ص -116-…والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق وكونها محمودة مشهورة ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما الأغراض ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الأغراض عنه فأما إطلاق الناس هذه الألفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الأغراض ولكن قد تدق الأغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون
ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات يغلط الوهم فيها
الغلطة الأولى: إن الإنسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره من حيث إنه لا يلتفت إلى الغير فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء ويقول هو بنفسه قبيح فيكون قد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها وهو أصل الاستقباح ومخطىء في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه والثاني حكمه بالقبح مطلقا ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عدم الالتفات إلى بعض أحوال نفسه فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض
الغلطة الثانية: أن ما هو مخالف للغرض في جميع الأحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الأحوال فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وغفلته عن الكذب الذي تستفاد به عصمة دم نبي أو ولي وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والإرشاد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه أحد ولا ينبه على حسنه في(30/75)
ص -117-…بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في الحجر فينغرس في النفس ويحن إلى التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على الإطلاق بل في أكثر الأحوال وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو بالإضافة إليه كل الأحوال فلذلك يعتقده مطلقا
الغلطة الثالثة: سببها سبق الوهم إلى العكس فإن ما يرى مقرون بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس السليم وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى
وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر مقرون به الاستقذار ويغلب الوهم حتى يتعذر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم
ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه(30/76)
ص -118-…فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول إنما يترجح الإنقاذ على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه
وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فيستقبحه منه بمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم
فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره
ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه
فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل النفس وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك قال الشاعر
أمر على الديار ديار ليلى…أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي…ولكن حب من سكن الديارا
وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان
وحبب أوطان الرجال إليهم…مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم…عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وشواهد ذلك مما يكثر وكل ذلك من حكم الوهم
وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه وإنما استحسنه من ينتظر الثواب(30/77)
ص -119-…على الصبر أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين وكم من شجاع يركب متن الخطر ويتهجم على عددهم أكثر منه وهو يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته وكذلك إخفاء السر وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح وأكثروا الثناء عليهما فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لأجل الثناء فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليا عنه
فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة ؟!
وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب وعن جميع ما يفرضونه
ثم نقول: نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب وإنما الكلام في القبح والحسن بالإضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده ولم يقبح منه وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس لأنه علم أنهم لا ينزجرون فليمنعهم قهرا فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز وذلك أحسن من تمكينهم مع العلم لأنهم لا ينزجرون(30/78)
ص -120-…مسألة :[شكر الخالق لا يجب شكر المنعم عقلا]
مسألة شكر الخالق لا يجب شكر المنعم عقلا خلافا للمعتزلة ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب؟!
ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة ومحال أن يوجب لا لفائدة فإن ذلك عبث وسفه وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الأغراض أو إلى العبد وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة ولا فائدة له في الدنيا بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر ويحرم به عن الشهوات واللذات ولا فائدة له في الآخرة فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه
فإن قيل: يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب والعقل يدعو إلى سلوك طريق الأمن
قلنا: لا بل العقل يعرف طريق الأمن ثم الطبع يستحث على سلوكه إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الألم فقد غلطتم في قولكم :أن العقل داع بل العقل هاد والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة لأن هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالإضافة إلى جلال الله تعالى بل إن فتح باب الأوهام فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لأنه أمده بأسباب النعم فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه
ولهم شبهتان:(30/79)
ص -121-…إحداهما :قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر وقبح الكفران لا سبيل إلى إنكاره وذلك مسلم لكن في حقهم لأنهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران والرب تعالى يستوي في حقه الأمران فالمعصية والطاعة في حقه سيان.
ويشهد له أمران أحدهما أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة.
والثاني :أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الأشهاد بشكره كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك لأن خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده
الشبهة الثانية: قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور
والجواب من وجهين:
أحدهما: من حيث التحقيق وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه(30/80)
ص -122-…بدفع ضرر معلوم أو موهوم فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك والموجب هو المرجح والله تعالى هو المرجح وهو الذي عرف رسوله وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك والمعصية داء والطاعة شفاء فالمرجح هو الله تعالى والرسول هو المخبر والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح والطبع المجبول على التألم بالعذاب والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر وبعد ورود الخطاب حصل الإيجاب الذي هو الترجيح وبالتأييد بالمعجزة حصل الإمكان في حق العاقل الناظر إذ قدر به على معرفة الرجحان
فقوله: لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر مثاله ما لو قال الأب لولده التفت فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الإلتفات ولا يجب الإلتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت فيقول له لا جرم تهلك بترك الالتفات وأنت غير معذور لأنك قادر على الإلتفات وترك العناد فكذلك النبي يقول الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الأليم إن تركت الإيمان والطاعة وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي فإن نظرت وأطعت نجوت وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك !وإنما أضررت بنفسك فهذا أمر معقول لا تناقض فيه
الجواب الثاني :المقابلة بمذهبهم فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد إذ لو كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب بل لا بد من تأمل ونظر ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر وإذا لم يعرف وجوب النظر فلا ينظر فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق فإن قيل العاقل لا يخلو عن خاطرين يخطران له أحدهما أنه إن نظر وشكر أثيب والثاني أنه إن ترك النظر عوقب فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الأمن(30/81)
ص -123-…قلنا: كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر له هذا الخاطر بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن الآخر فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود؟
ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر كافيا في التمكين من المعرفة فإذا بعث النبي ودعا وأظهر المعجزة كان حضور هذه الخواطر أقرب بل لا ينفك عن هذا الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره ونحن لا ننكر أن الإنسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز فإن الاستشعار إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد تجوز في الكلام بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل على الترك والنبي مخبر والعقل معرف والطبع باعث والمعجزة ممكنة من التعريف والله تعالى أعلم
مسألة:[حكم الأفعال قبل ورود الشرع]
على الإباحة ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة وقال بعضهم على الحظر وقال بعضهم على الوقف ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم.
وهذه المذاهب كلها باطلة.
[الرد على مذهب القائلين بأن الأصل الإباحة]
أما إبطال مذهب الإباحة فهو أنا نقول المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة
وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ فإن فعل البهيمة والصبي والمجنون لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج والأفعال في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج عليه في تركها لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الإباحة(30/82)
ص -124-…فإن استجرأ مستجرىء على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن كان لفظه مستكرها
فإن قيل: العقل هو المبيح لأنه خير بين فعله وتركه إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح
قلنا: تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه وهذا مبني عليه فيبطل ثم تسمية العقل مبيحا مجاز كتسميته موجبا فإن العقل يعرف الترجيح ويعرف انتفاء الترجيح ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه والعقل يعرف ذلك ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح والعقل معرف لا مبيح فإنه ليس بمرجح ولا مسو لكنه معرف للرجحان والاستواء
ثم نقول: بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا استواء الفعل والترك وقالوا ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لأجله يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء داعيا إلى العبادة ولذلك أوجبه الله تعالى والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل وقد استأثر الله بعلمه هذا مذهبهم
ثم يقولون: بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا لا نسلم استواء الفعل وتركه فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله تعالى هو المالك ولم يأذن
فإن قيل: لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه.
قلنا: لو كان حسنا لأذن فيه وورد السمع به فعدم ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه.
فإن قيل إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر فيه فقد أذن فيه
قلنا: فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر فيه ينبغي أن يكون أذنا .(30/83)
ص -125-…فإن قيل: المالك منا يتضرر والله لا يتضرر فالتصرف في مخلوقاته بالإضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الإنسان بالنظر فيها وفي حائطه بالاستظلال به وفي سراجه بالاستضاءة به
قلنا: لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا لعدم أذنه لقبح وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة والظل والاستضاءة بالسراج قبيح وقد منع الله عباده من جملة من المأكولات ولم يقبح فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه
ثم نقول: قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري بتصرفنا فيباح فلم قلتم ذلك فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن كان لا يتضرر به صاحبها يحرم وإنما يباح النظر لأن النظر ليس تصرفا في المرآة كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور فيه ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج فلو تصرف في نفس هذه الأشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذا دل السمع على جوازه
فإن قيل: خلق الله تعالى الطعوم فيها والذوق دليل على أنه أراد انتفاعنا بها فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم
قلنا: الأشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على استحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها فلا يستقيم ذلك وإن سلم فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد بل خلق العالم بأسره لا لعلة أو لعله خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع(30/84)
ص -126-…الشهوة كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة.
[الرد على القائلين بأن الأصل التحريم]:
وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا إذ لا يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل فمن أين يعلم ذلك ولم يرد سمع والعقل لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا فكيف يصير تركها أولى من فعلها وقولهم إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد لأنا لا نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في حق من تضرر بالتصرف في ملكه بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه
ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة الغرض وأن ذلك لا حقيقة له
[قول أصحاب الوقف]:
وأما مذهب الوقف إن أرادوا به أن الحكم موقوف على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة فهو خطأ لأنا ندري أنه لا حظر إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله: إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه ولم يرد شيء من ذلك.(30/85)
ص -127-…الفن الثاني: في أقسام الأحكام
ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة:
أما التمهيد:
فإن أقسام الأحكام الثابتة لأفعال المكلفين خمسة الواجب والمحظور والمباح والمندوب والمكروه
ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو اقتضاء الترك أو التخيير بين الفعل والترك فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر فإما أن يقترن به الإشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية وإن ورد بالتخيير فهو مباح
ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم :
[حد الواجب]
فأما حد الواجب: فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب ونذكر الآن ما قيل فيه
فقال قوم: إنه الذي يعاقب على تركه
فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا لأن الوجوب ناجز والعقاب منتظر(30/86)
ص -128-…وقيل ما توعد بالعقاب على تركه
فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد فإن كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب
وقيل ما يخاف العقاب على تركه
وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه فإنه ليس بواجب ويخاف العقاب على تركه
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله الأولى في حده أن يقال هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما لأن الذم أمر ناجز والعقوبة مشكوك فيها وقوله بوجه ما قصد أن يشمل الواجب المخير فإنه يلام على تركه مع بدله والواجب الموسع فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله
الفرق بين الواجب والفرض:
فإن قيل: فهل من فرق بين الواجب والفرض ؟
قلنا: لا فرق عندنا بينهما بل هما من الألفاظ المترادفة كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني(30/87)
ص -129-…هل يمكن تصور الايجاب من غير تهديد بالعقوبة على الترك؟
وقد قال القاضي لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب
وهذا فيه نظر لأن ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالإضافة إلى أغراضنا فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا
حد المحظور:
وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده
حد المباح:
وأما حد المباح فقد قيل فيه ما كان تركه وفعله سيين ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة ويبطل بفعل الله تعالى وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا وهما في حق الله تعالى أبدا سيان وكذلك الأفعال قبل ورود الشرع تساوي الترك ولايسمى شيء من ذلك مباحا بل حده أنه الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه ومدحه.
ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية،(30/88)
ص -130-…فإنه يتضرر لا من حيث ترك المباح بل من يحث ارتكاب المعصية .
حد المندوب:
وأما حد الندب فقيل فيه إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه ويرد عليه الأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة
وقالت القدرية :هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه ويرد عليه فعل الله تعالى فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم
فالأصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع
حد المكروه:
وأما المكروه فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني
أحدها: المحظور فكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله وأكره كذا وهو يريد التحريم
الثاني: ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب كما أن الندب هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه
الثالث: ترك ما هو الأولى وإن لم ينه عنه كترك صلاة الضحى مثلا لا لنهي ورد عنه ولكن لكثرة فضله وثوابه قيل فيه إنه مكروه تركه
الرابع: ما وقعت الريبة والشبهة في تحريمه كلحم السبع وقليل النبيذ وهذا فيه نظر لأن من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام، ومن أداه(30/89)
ص -131-…اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه فقد قال صلى الله عليه وسلم " الإثم حزاز القلب" فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة لما فيه من خوف التحريم وإن كان غالب الظن الحل ويتجه هذا على مذهب من يقول المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل(30/90)
ص -132-…وإذا فرغنا من تمهيد الأقسام فلنذكر المسائل المتشعبة عنها
مسألة: الواجب المعين والواجب المختبر :
مسألة الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للإيجاب مع التخيير فإنهما متناقضان
ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا
أما دليل جوازه عقلا فهو أن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي واحد أردت فهذا كلام معقول ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا لأنه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب ولا يمكن أن يقال أوجب الجميع فإنه صرح بنقيضه ولا يمكن أن يقال أوجب واحدا بعينه من الخياطة أو البناء فإنه صرح بالتخيير فلا يبقى إلا أن يقال الواجب واحد لا بعينه
وأما دليل وقوع شرعا فخصال الكفارة بل إيجاب إعتاق الرقبة فإنه بالإضافة إلى أعيان العبيد مخير وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب ولا سبيل إلى إيجاب الجمع وكذلك عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين للإمامة واجب والجمع محال
فإن قيل: الواجب جميع خصال الكفارة فلو تركها عوقب على الجميع ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك غير محال
قلنا: هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين فإن الجمع فيه حرام فكيف(30/91)
ص -133-…يكون الكل واجبا؟! ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب
واحتجوا بأن الخصال الثلاث: إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالإضافة إلى صلاح العبد فينبغي أن يجب الجميع تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الإيجاب فينبغي أن يكون هو الواجب ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره
قلنا: ومن سلم لكم أن للأفعال أوصافا في ذواتها لأجلها يوجبها الله تعالى بل الإيجاب إليه وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالإيجاب دون غيرها وله أن يوجب واحدا لا بعينه ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال
احتجوا بأن الواجب هو الذي يتعلق به الإيجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الإيجاب فيتميز ذلك في علمه فكان هو الواجب
قلنا: إذا أوجب واحدا لا بعينه فإنا نعلمه غير معين ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين كما هو عليه وهذا التحقيق وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الإيجاب به وإنما هو إضافة إلى الخطاب والخطاب بحسب النطق والذكر وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن كمن يقول لزوجتيه إحداكما طالق فالإيجاب قول يتبع النطق
فإن قيل :الموجب طالب ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده
قلنا: يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين كما تقول المرأة زوجني من(30/92)
ص -134-…أحد الخاطبين أيهما كان وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت وبايع أحد هذين الإمامين أيهما كان فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه
فإن قيل: أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدى به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى ؟
قلنا: يعلمه الله تعالى غير معين ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى فإن قيل فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد ؟
قلنا: لأن الوجوب يتحقق بالعقاب ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه
مسألة: الواجب المضيق والواجب الموسع
مسألة أصناف الواجب من حيث الوقت الواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع
وقال قوم: التوسع يناقض الوجوب وهو باطل عقلا وشرعا
أما العقل فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي فهذا معقول ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا أو أوجب شيئا مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا
وأما الشرع فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لأمر الأيجاب مع أنه لا تضييق
فإن قيل: حقيقة الواجب ما لا يسع تركه بل يعاقب عليه والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه فيكون وجوبه في آخر الوقت أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه وهذا حد الندب
قلنا :كشف الغطاء عن هذا أن الأقسام في العقل ثلاثة :فعل لا عقاب على(30/93)
ص -135-…تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب
فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع يرجع إلى اللفظ والذي ذكرناه أولى
فإن قيل ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب إذ يجوز تركه وبالإضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا يسع تأخيره عنه وقولكم أنه ينوي الفرض فمسلم لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة ويثاب ثواب معجل الفرض لا ثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل
قلنا :قولكم :أنه بالإضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ إذ ليس هذا حد الندب بل الندب ما يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالإعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر وكذلك خصال الكفارة ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا يسمى هذا واجبا غير مضيق وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الأقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا وما يجوز تركه مطلقا فهو قسم ثالث
وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع إذ يجب نية التعجيل في الزكاة وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به(30/94)
ص -136-…فإن قيل: :قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده وقال قوم يقع موقوفا فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا وإن مات أو جن وقع نفلا
قلنا: :لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم والوقف باطل إذ الأمة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه إذا قال نويت أداء فرض الله تعالى
فإن قيل: بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم ولأن مجرد قوله صل في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة ولأنه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا.
قلنا: أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم وسببه أن الغافل لا يكلف أما إذا لم يغفل عن الأمر فلا يلخو عن العزم إلا بضده وهو العزم على الترك مطلقا وذلك حرام وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة
فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالإضافة إلى أول الوقت وبالإضافة إلى آخره أيضا فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله
مسألة: حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها
إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم على الامتثال لا يكون عاصيا(30/95)
ص -137-…وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه يعصي وهو خلاف إجماع السلف فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين من أول الصبح وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته؟
فإن قيل: جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة
قلنا: هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه فإذا سألنا وقال العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم وأنا أريد أن أؤخره إلى غد فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير فلا بدل له من جواب فإن قلنا لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه وإن قلنا يعصي فهو خلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير فيقول وما يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم
فإن قيل :فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات فأي معنى لوجوبه؟
قلنا: تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت وتأخيره الحج من سنة إلى سنة فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم(30/96)
ص -138-…ولهذا قال أبو حنيفة لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة
و الشافعي رحمة الله يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض
ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه آثم لكن لأنه أخطأ في ظنه والمخطىء ضامن غير آثم
مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به
اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به هل يوصف بالوجوب ؟
والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف كالقدرة على الفعل وكاليد في الكتابة وكالرجل في المشي فهذا لا يوصف بالوجوب بل عدمه يمنع الإيجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق وكذلك تكليف حضور الإمام الجمعة وحضور تمام العدد فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب بل يسقط بتعذره الواجب
وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي
فالشرعي كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة
وأما الحسي فكالسعي إلى الجمعة وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالإمساك جزء من الليل قبل الصبح فيوصف ذلك بالوجوب
ونقول: ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب وهذا أولى من أن نقول يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب إذ قولنا يجب فعل ما ليس بواجب متناقض وقولنا ما ليس بواجب صار(30/97)
ص -139-…واجبا غير متناقض فإنه واجب لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدا إليه والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود
فإن قيل :لو كان واجبا لكان مقدرا فما المقدار الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل؟
قلنا: قد وجب التوصل به إلى الواجب وهو غير مقدر بل يجب مسح الرأس ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم وهو غير مقدر فكذلك الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه وهذا التقدير كاف في الوجوب
فإن قيل :لو كان واجبا لكان يثاب على فعله ويعاقب على تركه وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس بل من غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الإمساك ليلا
قلنا: ومن أنبأكم بذلك ؟ومن أين عرفتم أن ثواب البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج؟ وأن من زاد عمله لا يزيد ثوابه وإن كان بطريق التوصل؟ وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم والوضوء وليس يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفاصيل ؟
فإن قيل: لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم يعاقب
قلنا: هذا مسلم لأنه إنما يجب على العاجز أما القادر فلا وجوب عليه
مسألة : حكم اختلاط المنكوحة بالأجنبية
قال قائلون: إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال ويجب الكف عنها
وهذا متناقض بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الوطء فيهما فأي معنى لقولنا وطء المنكوحة حلال(30/98)
ص -140-…ووطء الأجنبية حرام ؟!بل هما حرامان إحداهما بعلة الأجنبية والأخرى بعلة الاختلاط بالأجنبية فالاختلاف في العلة لا في الحكم وإنما وقع هذا في الأوهام من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالعجز والقدرة والسواد والبياض والصفات الحسية وذلك وهم نبهنا عليه إذ ليست الأحكام صفات للأعيان أصلا بل نقول إذا اشتبهت رضيعة بنساء بلدة فنكح واحدة حلت واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله تعالى ولا نقول إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له إذ لا معنى للزوجة إلا من حل وطؤها بنكاح وهذه قد حل وطؤها فهي حلال عنده وعند الله تعالى ولا نقول هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه بل إذا ظن الحل فهي حلال عند الله تعالى وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد
أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال يحل وطؤها والطلاق غير واقع لأنه لم يعين له محلا فصار كما إذا باع أحد عبديه ويحتمل أن يقال حرمتا جميعا فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق ثم عليه التعيين وإليه ذهب أكبر الفقهاء والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد أما المصير إلى أن إحداهما محرمة والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالأجنية فلا ينقدح هاهنا لأن ذلك جهل من الآدمي عرض بعد التعيين وأما هنا فليس متعينا في نفسه بل يعلمه الله تعالى مطلقا لإحداهما لا بعينها(30/99)
ص -141-…فإن قيل إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشكل علينا
قلنا: الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا بل يعلمه قابلا للتعيين إذا عينه المطلق ويعلم أنه سيعين زينب مثلا فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين لا قبله وكذلك نقول في الواجب المخير الله تعالى يعلم ما سيفعله العبد من خلال الكفارة ولا يعلمه واجبا بعينه بل واجبا غير معين في حال ثم يعلم صيرورته متعينا بالتعيين بدليل أنه لو علم أنه يموت قبل التكفير وقبل التعيين فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين
مسألة:حكم الواجب غير المعروف
اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام إنه إذا زاد على أقل الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب؟ فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله بجملته واجبا أو الواجب الأقل والباقي ندب؟
فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد والأمر في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز البعض من البعض فالكل امتثال
والأولى أن يقال الزيادة على الأقل ندب فإنه لم يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم وهذا في الطمأنينة والقيام وما وقع متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا وما وقع من جملته معا وإن كان لا يتميز بعضه من بعض بالإشارة والتعيين فيحتمل أن يقال قدر الأقل منه واجب والباقي ندب وإن لم يتميز بالإشارة المندوب عن الواجب لأن الزيادة على الأقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل فلا يتحقق فيه حد الوجوب(30/100)
ص -142-…مسألة: حقيقة الوجوب والجواز
الوجوب يباين الجواز والإباحة بحده فلذلك قلنا يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بل الحق أنه إذا نسخ رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن فإن قيل كل واجب فهو جائز وزيادة إذ الجائز ما لا عقاب على فعله والواجب أيضا لا عقاب على فعله وهو معنى الجواز فإذا نسخ الوجوب فكأنه أسقط العقاب على تركه فيبقى سقوط العقاب على فعله وهو معنى الجواز
قلنا :هذا كقول القائل: كل واجب فهو ندب وزيادة فإذا نسخ الوجوب بقي الندب ولا قائل به ولا فرق بين الكلامين وكلاهما وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع وذلك منفي عن الواجب
وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب النسخ فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ
مسألة الجواز ليس فيه أمر
كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن الجائز لا يتضمن الأمر وأن المباح غير مأمور به لتناقض حديهما كما سبق خلافا للبلخي فإنه قال المباح مأمور به لكنه دون الندب كما أن الندب مأمور به لكنه دون الواجب
وهذا محال إذ الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له فإن استعمل لفظ الأمر في الإذن فهو تجوز(30/101)
ص -143-…فإن قيل: ترك الحرام واجب والسكون المباح يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك به الكفر والكذب وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به
قلنا: قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا وقد يترك بالحرام حرام آخر فليكن الشيء الواحد واجبا حراما وهو تناقض ويلزم هذا على مذهب من زعم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده بل يلزم عليه كون الصلاة حراما إذا تحرم بها من ترك الزكاة الواجبة لأنه أحد أضداد الواجب وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء لكنهم لم يقولوا به
مسألة : هل المباح مكلف به؟
فإن قيل فالمباح هل يدخل تحت التكليف؟ وهل هو من التكاليف؟
قلنا إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والإذن فيه فهو تكليف وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك لكن لا بنفس الإباحة بل بأصل الإيمان وقد سماه الأستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الأخير وهو بعيد مع أنه نزاع في اسم
فإن قيل فهل المباح حسن ؟
قلنا إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الأنبياء فقد دل الدليل على وقوعها منهم ولم يأمر بإهانتهم وذمهم لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم
مسألة هل المباح من الشريعة؟(30/102)
ص -144-…المباح من الشرع وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي فعبر عنه بالمباح
وهذا له غور وكشف الغطاء عنه أن الأفعال ثلاثة أقسام
قسم بقي على الأصل فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع فينبغي أن يقال استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم
وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فهذا خطاب والحكم لا معنى له إلا الخطاب ولا سبيل إلى إنكاره وقد ورد
وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفي الأصلي فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع
وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر إذ يمكن أن يقال قول الشارع إن شئت فقم وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم هو تقرير للحكم السابق ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع فلا يكون شرعيا وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل فيمكن أيضا إنكاره بأن يقال قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع فتكون إباحته من الشرع(30/103)
ص -145-…وإلا عورض أن الإباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير وليس مع التقرير تجديد أمر بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا بل كف عن التعرض له وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي
مسألة: التفريق بين المندوب والمباح
المندوب مأمور به وإن لم يكن المباح مأمورا به لأن الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مقتضى أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه والواجب مقتضى لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا أو تركه وبدله وقال قوم المندوب غير داخل تحت الأمر
وهو فاسد من وجهين:
أحدهما أنه شاع في لسان العلماء أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ]المائدة :2[{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا } ]الجمعة:10[
الثاني :إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق وليس طاعة لكونه مرادا إذ الأمر عندنا يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات ولا لكونه مثابا عليه فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا وإنما الثواب للترغيب في الطاعة ولأنه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته ولا يخرج عن كونه مطيعا
فإن قيل: الأمر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه وقولكم أنه يسمى مطيعا يقابله أنه لو ترك لا يسمى(30/104)
ص -146-…عاصيا
قلنا: الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه لأن التخيير عبارة عن التسوية فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير وقد قال تعالى في المحرمات أيضا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الكهف فلا ينبغي أن يظن أن الأمر اقتضاء جازم بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه بل يطلب منه لما فيه من صلاحه والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم ولا يرضى الكفر لهم وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول الفعل والترك سيان بالإضافة إلي أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم
وأما قولهم: أنه لا يسمى عاصيا فسببه أن العصيان اسم ذم وقد أسقط الذم عنه نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا
مسألة: الواجب غير الحرام
إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لأنه المقتضى تركه والواجب هو المقتضى فعله فلا يخفى عليك أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما طاعة معصية
لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد
أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا فإنه نوع واحد من الأفعال فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم إذ أحدهما واجب والآخر حرام ولا تناقض(30/105)
ص -147-…وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض فإن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس الجسود
وهذا خطأ فاحش فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض والسجود للصنم غير السجود لله تعالى لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة وقد قال الله تعالى{ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ } ] فصلت:37[ وليس المأمور به هو المنهي عنه والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة
مسألة: الواحد بالتعيين
ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر أما الواحد بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فقيل لهم هذا خلاف إجماع السلف فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة(30/106)
ص -148-…فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا لأن الواجب ما يثاب عليه وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد وهو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله وإن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص؟!
وهذا غير مرضي عندنا بل نقول الفعل وإن كان واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب ومن حيث أنه غصب مكروه والغصب معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب
وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده صل اليوم ألف ركعة وخط هذا الثواب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي ضربتك وإن امتثلت الأمر أعتقتك فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة وعصى بدخول الدار فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق
فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين
فإن قيل :ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال فكيف ينوي التقرب؟(30/107)
ص -149-…فالجواب من أوجه:
الأول: إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن وأبو هاشم والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم وكيف ينكر سقوط نية التقرب وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى فقال قوم لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه
فإن قيل :من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة.
قلنا: إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحالت نية التقرب فتلغى تلك النية ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه فإن الأكوان هي التي تتناول منافع الدار ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه ؟
الجواب الثاني: وهو الأصح أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة لأنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا؟
فإن قيل: هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو عاص به؟(30/108)
ص -150-…قلنا: هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة إذ قد يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه غاصبا فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا
الجواب الثالث: هو أنا نقول بم تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع فسلم أنه معصية ولكن الأمر لا يدل على الأجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الأجزاء بل يؤخذ الأجزاء من دليل آخر كما سيأتي
فإن قيل: هذه المسألة اجتهادية أم قطعية؟
قلنا: هي قطعية والمصيب فيها واحد لأن من صحح أخذ من الإجماع وهو قاطع ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية
فإن قيل: ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة فكيف تحتجون عليه بالإجماع؟
قلنا: الإجماع حجة عليه إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته وأنه لا يحصل التحليل بوطء من هذه حاله لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه(30/109)
ص -151-…مسألة: المكروه غير الواجب
كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورا به مكروها إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الإبل وبطن الوادي وأمثاله فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل وفي الحمام التعرض للرشاش أو لتخبط الشياطين وفي أعطان الإبل التعرض لنفارها وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة وربما شوش الخشوع.
بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو في جواره وصحبته لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه فلا يجتمع الأمر والكراهية فقوله تعالى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ]الحج: [29 لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لأن المنهي عنه لا يكون مأمورا به والمنهي عنه في
مسألة:الصلاة في الدار المغصوبة
انفصل عن المأمور إذ المأمور به الصلاة والمنهي عنه الغصب وهو في جواره مسألة أصناف الترك ذات المتروك المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله وقد اختلفوا في هذا
القسم الثالث
ومثال القسمين الأولين ظاهر ومثال القسم الثالث أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث أو يأمر بالصوم وينهى عن إيقاعه في يوم النحر فيقال الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب ومن حيث أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع والطواف مشروع بقوله تعالى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ]الحج[29:(30/110)
ص -152-…ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه والبيع من حيث أنه بيع: مشروع ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويات مكروه والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع ولكن من حيث وقوعه في الحيض مكروه وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة ولكنها من حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة والسفر من حيث أنه سفر مشروع ولكن من حيث قصد الأباق به عن السيد غير مشروع
فجعل أبو حنيفة هذا قسما ثالثا وزعم أن ذلك يوجب فساد الوصف لا انتفاء الأصل لأنه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل
والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم يجعله قسما ثالثا وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه إلى تطويل العدة أو لو حق الندم عند الشك في الولد وأبو حنيفة حيث أبطل صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا في الصلاة فإنه قال عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور فهو نفي للصلاة لا نهي
وفي المسألة نظران أحدهما في موجب مطلق النهي من حيث اللفظ وذلك نظر في مقتضى الصيغة وهو بحث لغوي نذكره في كتاب الأوامر والنواهي
والنظر الثاني نظر في تضاد هذه الأوصاف وما يعقل اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه هل يعقل أن يقول السيد لعبده أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها ولا شك في أن ذلك لا يعقل منه فإنه فيه يكون الشيء الواحد مطلوبا مكروها ويعقل منه أن يقول أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في النهي للخياطة وذلك معقول وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه جميعا وهل يعقل أن يقول أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال فإذا خاط في(30/111)
ص -153-…وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو ما أتى بالمطلوب هذا في محل النظر
والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب وأن المكروه هي الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع
فإن قيل فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت الصلاة الواقعة في الأماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الإبل وما الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر؟
قلنا من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل الصلاة ووصفها إلى غيره وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الأوقات المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع صلاة أو من أمر آخر مقترن به
وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله ببطلانه لأنه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه ولم يرتض قولهم أنه نهى عنه لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالأكل فإن الأكل ضد الصوم فكيف يقال له كل أي أجب الدعوة ولا تأكل أي صم ؟
والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الأصولي بل هو موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع وليس على الأصولي إلا حصر هذه الأقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد وأما النظر في آحاد المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد وقد يعلم ذلك بدليل قاطع وقد يعلم ذلك بظن وليس على الأصولي شيء من ذلك.
وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي من هذه الأقسام أيها وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره أو لصفته وسيأتي(30/112)
ص -154-…مسألةهل الأمر بشيء ترك لغيره؟
اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده ؟.
وللمسألة طرفان:
أحدهما يتعلق بالصيغة :ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للأمر صيغة ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله قم غير قوله لا تقعد فإنهما صورتان مختلفتان فيجب عليهم الرد إلى المعنى وهو أن قوله قم له مفهومان أحدهما طلب القيام والآخر ترك القعود فهو دال على المعنيين فالمعنيان المفهومان منه متحدان أو أحدهما غير الآخر فيجب الرد إلى المعنى؟
والطرف الثاني: البحث عن المعنى القائم بالنفس وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد هو أمر ونهي ووعد ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه؟
وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده
واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال لا خلاف أن الآمر بالشيء ناه عن ضده فإذا لم يقم دليل على اقتران شيء آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به قال وبهذا علمنا أن الكسون عين ترك الحركة وطلب السكون عين طلب ترك الحركة وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه والقرب من المغرب عين البعد من المشرق فهل فعل واحد بالإضافة إلى المشرق بعد وبالإضافة إلى المغرب قرب وكون واحد بالإضافة إلى خير شغل وبلإضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب واحد(30/113)
ص -155-…بالإضافة إلى السكون أمر وإلى الحركة نهي
قال: والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا ومحال كونه ضدا لأنهما لا يجتمعان وقد اجتمعا ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين ومحال كونه خلافا إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر أما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا كإرادة الشيء مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الإرادة وإن لم يتصور وجود الإرادة دون العلم بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر وضد النهي عن الحركة الأمر بها فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول تحرك واسكن وقم واقعد.
وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة حيث منعوا تكليف المحال وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول إجمع بين القيام والقعود ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشيء أن يكون ناهيا عن ضده بل يجوز أن يكون آمرا بضده فضلا عن أن يكون لا آمرا ولا ناهيا
وعلى الجملة فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه بل يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن أضداده فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه وكذلك ينهى عن الشيء ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده ولا بعينه فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام والقعود إذا قيل له قم فجمع كان ممتثلا لأنه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده
ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من المعتزلة حيث أنكر المباح وقال ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب ويلزمه وصف الصلاة بأنها(30/114)
ص -156-…حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور وإن فرق مفرق فقال النهي ليس أمرا بالضد والأمر نهي عن الضد لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض
فإن قيل: فقد قلتم إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولا يتوصل إلى فعل الشيء إلا بترك ضده فليكن واجبا
قلنا: ونحن نقول ذلك واجب وإنما الخلاف في إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره فإذا قيل إغسل الوجه فليس عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس ولا قوله صم النهار إيجابا بعينه لإمساك جزء من الليل ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور لا أنه عين ذلك الإيجاب فلا منافاة بين الكلامين(30/115)
ص -157-…الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم
وهي أربعة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم
أما نفس الحكم فقد ذكرناه وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول
الركن الثاني الحاكم
وهو المخاطب فإن الحكم خطاب وكلام فاعله كل متكلم فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له أما النبي والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته
فإن قيل: لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للإيجاب إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب
قلنا: قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه إلا أن العادة جارية(30/116)
ص -158-…بتخصيص هذا الإسم بالضرر الذي يحذر في الآخرة ولا قدرة عليه إلا لله تعالى فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف
الركن الثالث المحكوم عليه وهو المكلف
وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم فمن لا يفهم كيف يقال له إفهم؟ ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم؟ وإن سمع الصوت كالبهيمة ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن.
فإن قيل فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان؟
قلنا: ليس ذلك من التكليف في شيء إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم فكذلك الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل(30/117)
ص -159-…وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب فيقال أنه موجود بالقوة كما أن شرط المالكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكنها بالقوة إذ مصيرها إلى الحياة فكذلك الصبي مصيره إلى العقل فصلح لإضافة الحكم إلى ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال
فإن قيل :فالصبي المميز مأمور بالصلاة ؟!
قلنا: مأمور من جهة الولي والولي مأمور من جهة الله تعالى إذ قال عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لأنه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه فصار أهلا له ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة
فإن قيل: فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله؟
قلنا: قال القاضي أبو بكر رحمه الله ذلك يدل عليه وليس يتجه ذلك لأن انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا لأن العقل خفي وإنما يظهر فيه على التدريج فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة
مسألة: هل يكلف الغافل والناسي
تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال إذ من لا يفهم كيف يقال له إفهم؟! أما ثبوت الأحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر كلزوم الغرامات وغيرها(30/118)
ص -160-…وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر
فإن قيل: فقد قال الله تعالى في النساء { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ]النساء :43 [وهذا خطاب للسكران
قلنا: إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية ولها تأويلان:
أحدهما: أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل وقوله تعالى{ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }[النساء :43] معناه حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك وإن كان أصل عقله باقيا وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة مثل هذا السكران وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع
الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان ومعناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد
مسألة تكليف المعدوم
مسألة أمر الله تعالى في الأزل فإن قال قائل ليس من شرط الأمر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الأزل لعباده قبل خلقهم فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم؟
قلنا :ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور،(30/119)
ص -161-…فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود لا أنه مأمور في حالة العدم إذ ذلك محال لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود ولا يسمى هذا المعنى في الأزل خطابا إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع
وهل يسمى أمرا ؟فيه خلاف والصحيح أنه يسمى به إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال فلان أمر أولاده بكذا وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن أو معدوما ولا يحسن أن يقال خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته يقال قد أطاعوه وامتثلوا أمره مع أن الآمر الآن معدوم والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله وهو معدوم عن عالمنا هذا وإن كان حيا عند الله تعالى فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا فلم يشترط وجود المأمور لكون الأمر أمرا
فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر للمعدوم على وجه الإلزام؟
قلنا نعم نحن نقول هو آمر لكن على تقدير الوجود كما يقال الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا فيكون الإلزام والإيجاب حاصلا ولكن بشرط الوجود والقدرة
ولو قال لعبده :صم غدا فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد ولا يمكن صوم الغد في الوقت بل في الغد وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال(30/120)
ص -162-…الركن الرابع المحكوم فيه وهو الفعل
إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الأفعال الاختيارية
وللداخل تحت التكليف شروط
الأول صحة حدوثه لاستحالة تعلق الأمر بالقديم والباقي وقلب الأجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق
فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه
وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود ؟اختلفوا فيه وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره
الثاني: جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته وإن كان حدوثه ممكنا فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب
الثالث: كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى حتى يتصور منه قصد الامتثال وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب
فإن قيل: فالكافر مأمور بالإيمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به
قلنا: الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا حتى أن ما لا دليل عليه أومن لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه
الرابع: أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات ويستثنى من هذا شيئان:(30/121)
ص -163-…أحدهما: الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الإتيان به
والثاني: أصل إرادة الطاعة والإخلاص فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل
مسألة :هل المكلف به ممكن الحدوث؟
ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط بل يجوز تكليف ما لا يطاق والأمر بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإعدام القديم وإيجاد الموجود
وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله
وهو لازم على مذهبه من وجهين :
أحدهما: أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة لأن الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله وإنما يكون مأمورا قبله
والآخر: أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير
واستدل على هذا بثلاثة أشياء
أحدها قوله تعالى { وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286] والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته
وهو ضعيف لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله { اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ } [النساء من الآية:66 ] فقد يقال حمل ما لا طاقة له به فالظاهر المؤول(30/122)
ص -164-…ضعيف الدلالة في القطعيات
الثاني قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإيمان ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو محال
وهذا ضعيف أيضا لأن أبا جهل أمر بالإيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإمكان حاصلا لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره فإذا علم كون الشيء مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه
الثالث قولهم لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو لأنه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول{ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ]البقرة :65[وأن يقول السيد لعبده الأعمى أبصر وللزمن إمش وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه(30/123)
ص -165-…الأصلح. ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا
والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب كقوله تعالى{ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } [الإسراء :50] وكقوله { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة :65] أو لإظهار القدرة كقوله تعالى{ كُنْ فَيَكُونُ }[البقرة :117] لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه
ولكن يمتنع لمعناه إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق فيجوز أن يقول تحرك إذ التحرك مفهوم فلو قال له تحرك فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل
فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور فلا يكون ذلك تكليفا أيضا لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة لأن التكليف اقتضاء طاعة فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر لأن الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا وهذا غير معقول أي لا وجود له في العقل فإن الشيء قبل أن يوجد في نفسه فله وجود في العقل وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل وإحداث القديم غير داخل في العقل فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم؟! وكذلك سواد الأبيض لا وجود له في العقل وكذلك قيام القاعدة فكيف يقول له قم وأنت قاعد؟
فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب فإنه كما يشترط في المطلوب أن(30/124)
ص -166-…يكون معدوما في الأعيان يشترط أن يكون موجودا في الأذهان أي في العقل حتى يكون إيجاده في الأعيان على وفقه في الأذهان فيكون طاعة وامتثالا أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب فما لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود
فإن قيل فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام
قلنا ذلك طلب مبني على الجهل وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا وهذا لا يتصور من الله تعالى
فإن قيل فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الإيجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق
قلنا نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن أدخل البيت وبين أن يقال له إطلع السماء أو يقال له قم مع استدامة القعود أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن وقدرة بالإضافة إلى أحد هذه الأوامر دون البقية ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا ولذلك جاز أن نقول{ وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة :286] فإن استوت الأمور كلها فأي معنى لهذا الدعاء؟ وأي معنى لهذه(30/125)
ص -167-…التفرقة الضرورية ؟فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها
وعلى الجملة: سبب غموض هذا أن التكليف نوع خاص من كلام النفس وفي فهم أصل كلام النفس غموض فالتفريع عليه وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض
مسألة: الجمع بين الأضداد
كما لا يجوز أن يقال إجمع بين الحركة والسكون لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما
فإن قيل: فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما
قلنا: حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال كما لا يؤمر بجمعهما
فإن قيل: فما يقال له ؟
قلنا: يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ولكن يقال له إنزع على قصد التوبة لا على قصد الإلتذاذ فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز
فإن قيل :فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج؟(30/126)
ص -168-…قلنا :الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به
فإن قيل: فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ؟ولم عصى به؟
قلنا: عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان فالقضاء كالضمان
فإن قيل: فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله؟
قلنا وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا؟
حكم التكليف بالمحال شرعا
ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا لقوله تعالى{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة : 286]
إن قيل: فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل؟
قلنا: يحتمل أن يقال إمكث فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من(30/127)
ص -169-…حي قادر وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة ويحتمل أن يقال يتخير إذ لا ترجيح ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل وأما تكليف المحال فمحال
مسألة: المقتضى بالتكليف
اختلفوا في المقتضى بالتكليف.
والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الإقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد فالأمر بالصوم أمر بالكف والكف فعل يثاب عليه والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من أضداده وهو الترك فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله.
وقال بعض المعتزلة :قد يقتضي الكف فيكون فعلا وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون هذا وقالوا المنتهي بالنهي مثاب ولا يثاب إلا على شيء وأن لا يفعل عدم وليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ القدرة تتعلق بشيء فلا يصح الإعدام بالقدرة وإذا لم يصدر منه شيء فكيف يثاب على لا شيء؟
والصحيح أن الأمر فيه منقسم أما الصوم فالكف فيه مقصود ولذلك تشترط فيه النية وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما فيعاقب فاعلهما ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن فهو مثاب على فعله وأما من لم يصدر منه المنهي في(30/128)
ص -170-…فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب لأنه لم يصدر منه شيء ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش ولا يقصد منه التلبس بأضدادها
مسألة: هل المكره مكلف
فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف بخلاف فعل المجنون والبهيمة لأن الخلل تم في المكلف لا في المكلف به فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم والمكره يفهم وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل لأنه قادر عليه وإن كان فيه خوف الهلاك
وإن كلف على وفق الإكراه فهو أيضا ممكن بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم إذ يجب قتلها أو أكره الكافر على الإسلام فإذا أسلم نقول قد أدى ما كلف
وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة
وهذا محال لأنه قادر على تركه ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر
وهذا ظاهر ولكن فيه غور وذلك لأن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الإكراه بل كان يفعله لو أكره على تركه فلا يمتنع وقوعه طاعة لكن لا يكون مكرها وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة(30/129)
ص -171-…مسألة الأمر بالشرط والمشروط
ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط ويكون مأمورا بتقديم الشرط فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالمرسل
وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك
والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع
أما الجواز العقلي فواضح إذ لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها وبتقديم الإسلام من جملتها فيكون الإيمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات كما في المحدث والملحد
فإن منع مانع الجميع وقال كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله؟ والمحدث لا يقدر على الصلاة فهو مأمور بالوضوء فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الأمر بالصلاة
قلنا فينبغي أن يقال لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة لأنه لم يؤمر قط بالصلاة وهذا خلاف الإجماع وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير فإنه يشترط تقديمه ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا ثم بالكاف ثانيا وعلى هذا الترتيب وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية وأما الوقوع الشرعي فنقول كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالأحرار والمقيمين والأصحاء والطاهرات دون الحيض ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم وأدلته ثلاثة
الأول قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [ المدثر: الآية42.43] فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به
فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها
قلنا :ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الأمة وبه يحصل(30/130)
ص -172-…التحذير إذ لو كان كذبا لكان كقولهم عذبنا لأنا مخلوقون وموجودون كيف وقد عطف عليه قوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } [المدثر:46] فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه؟
فإن قيل: العقاب بالتكذيب لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه
قلنا لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها
فإن قيل: عوقبوا إلا بترك الصلاة لكن لإخراجهم أنفسهم بترك الإيمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا هذا باطل من أوجه أحدها أنه ترك للظاهر من غير ضرورة ولا دليل فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة وقد قالوا { لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [ المدثر43]
الثاني: أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر لأن كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات والتسوية بينهما خلاف الإجماع
الثالث: أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الإيمان لأنه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والإيمان
فإن قيل :{ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } أي من المؤمنين لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم " نهيت عن قتل المصلين "أي المؤمنين لكن عرفهم بما هو شعارهم
قلنا: هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل ولا دليل للخصم
الدليل الثاني: قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ(30/131)
ص -173-…الْعَذَابُ } إلى قوله تعالى { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } [الفرقان:،69،68 ]فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب
والدليل الثالث: إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول كما يعذب على الكفر بالله تعالى وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا لا تتصور العبادة مع الكفر فكيف يؤمر بها ؟
احتجوا: بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟
قلنا: وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه لكن إذا أسلم عفى له عما سلف فالإسلام يجب ما قبله ولا يبعد نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام ؟
فإن قيل: إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الإسلام والإسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط فالإستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه ثم الحكم بسقوطه؟
قلنا: لا بعد في قولنا: استقر الوجوب بالإسلام وسقط بحكم العفو فليس في ذلك مخالفة نص ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الأنبياء والأولياء وشوش الدين وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك فما ذكرناه أولى
فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي؟
قلنا: القضاء إنما وجب بأمر مجدد فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالأداء وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء
وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالإسلام القضاء والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه(30/132)
ص -174-…فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك(30/133)
ص -175-…الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به
وهو الذي يسمى سببا
وكيفية نسبة الحكم إليه
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الأسباب
إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها
ونعني بالأسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الأحكام إليها كقوله تعالى:{ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء :78] وقوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة:185] وقوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" .(30/134)
ص -176-…وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا أما ما لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى {ولله على الناس حج البيت } [آل عمران:79] وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب
ويمكن أن يقال: سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة المنصوبة وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب هذا قسم العبادات
وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى أسبابها.
وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والإبضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره وهذا ظاهر.
وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام أيضا حكم من الشرع فلله تعالى في الزاني حكمان أحدهما: وجوب الحد عليه والثاني: نصب الزنا سببا للوجوب في حقه لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول نصب الزنا علة للرجم والسرقة علة للقطع لكذا وكذا فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا والنباش في معنى السارق.
وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس .
وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء وأصل اشتقاقه من(30/135)
ص -177-…الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشيء عنده لا به فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة أوجه:
الوجه الأول: وهو أقربها إلى المستعار منه :ما يطلق في مقابلة المباشرة إذ يقال إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب والمردي صاحب علة فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا
الثاني: تسميتهم الرمي سببا للقتل من حيث أنه سبب للعلة وهو على التحقيق علة العلة ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به
الثالث تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا كقولهم الكفارة تجب باليمين دون الحنث فاليمين هو السبب وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط
الرابع تسميتهم الموجب سببا فيكون السبب بمعنى العلة وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده(30/136)
ص -178-…لا به ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية لأنها لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده
الفصل الثاني: في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد
إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى
وإطلاقه في العبادات مختلف فيه
فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء حتى أن صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه إسم الصحة وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزئة وكذلك من قطع صلاته بإنقاذ غريق فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه
وهذه الإصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها إذ المعنى متفق عليه
وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه يقال أنه صح وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل فالباطل هو الذي لا يثمر لأن السبب مطلوب لثمرته والصحيح هو الذي أثمر(30/137)
ص -179-…والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب الشافعي رضي الله عنه فالعقد إما صحيح وإما باطل وكل باطل فاسد
وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان والصحة وجعل الفاسد عبارة عنه وزعم أن الفاسد معتقد لإفادة الحكم لكن المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله كعقد الربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع وممنوع من حيث أنه يشتمل على زيادة في العوض فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا وبين المشروع بأصله ووصفه جميعا فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما سبق ذكره
الفصل الثالث: في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة
أعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود.
ويتصدى النظر في شيئين :
أحدهما: أنه لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل فلو أخر عصي بالتأخير فلو أخر وعاش قال القاضي رحمه الله :ما يفعله(30/138)
ص -180-…هذا قضاء لأنه تقدر وقته بسبب غلبة الظن
وهذا غير مرضي عندنا فإنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه وصار كما لو علم أنه يعيش فينبغي أن ينوي الأداء أعني المريض إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي .
الثاني أن الزكاة على الفور عند الشافعي رحمه الله فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون قضاء والصحيح أنه أداء لأنه لم يعين وقته بتقدير وتعيين وأنما أوجبنا البدء بقرينة الحاجة وإلا فالأداء في جميع الأوقات موافق لموجب الأمر وامتثال له وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء القضاء.
ولذلك نقول: يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد ومجرد الأمر بالأداء كاف في دوام اللزوم فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر مجدد
فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل
دقيقة: أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق حقيقة فإنه تلو الأداء وللأداء أربعة أحوال
الأولى: أن يكون واجبا فإذا تركه المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على سبيل العفو فالإتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة
الثانية: أن لا يجب الأداء كالصيام في حق الحائض فإنه حرام فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز محض وحقيقته أنه فرض مبتدأ لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الأداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء
وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا وجب الصوم على الحائض دون الصلاة(30/139)
ص -181-…بدليل وجوب القضاء.
وجعل هذا الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو فعلته؟ وليس الحيض كالحدث فإن إزالته تمكن.
فإن قيل: فلم تنوي قضاء رمضان؟
قلنا :إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض من وجوبه فهو كذلك وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو خطأ ومحال
فإن قيل: فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة الصغر
قلنا: لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات الإيجاب بالصبا سببا لإيجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ كيف والمجاز إنما يحسن بالاشتهار وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا
ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل التكليف والحائض مكلفة فهي بصدد الإيجاب.
الحالة الثالثة :حالة المريض والمسافر إذا لم يجب عليهما لكنهما إن صاما وقع عن الفرض فهذا يحتمل أن يقال أنه مجاز أيضا إذ لا وجوب ويحتمل أن يقال إنه حقيقة إذ فعله في الوقت لصح منه فإذا أخل بالفعل،(30/140)
ص -182-…مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه سهوا أو عمدا أو نقول: قال الله تعالى:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] فهو على سبيل التخيير فكان الواجب أحدهما لا بعينه إلا أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول والأول سابق بالزمان فسمي قضاء لتعلقه بفواته بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما بفوات الآخر ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء لأنه مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر .
والأظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز أو القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور المعروف به ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه بدليل أن الصبي المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء .
والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء .
فإن قيل: فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما لأنهما لا يكلفان
قلنا: هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير ولكن الله تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر ولذلك يجب عليهما الإمساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض
ثم في المسافر مذهبان ضعيفان :أحدهما :مذهب أصحاب الظاهر أن المسافر لا يصح صومه في السفر لقوله تعالى:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184]فلم يأمره إلا بأيام أخر
وهو فاسد، لأن سياق الكلام يفهمنا إضمار الإفطار ومعناه :من كان منكم(30/141)
ص -183-…مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى { فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ } [البقرة:60] يعني فضرب فانفجرت ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عيه وسلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض
والثاني: مذهب الكرخي: أن الواجب أيام أخر ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول .
وهو فاسد لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو مؤد في وقته كما سبق في الصلاة في أول الوقت.
الحالة الرابعة: حال المريض فإن كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر العظيم فيعصي بترك الأكل فيشبه الحائض من هذا الوجه فلو صام يحتمل أن يقال لا ينعقد لأنه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به؟ ويحتمل أن يقال: إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة يعصي لتناوله حق الغير ويمكن أن يقال قد قيل للمريض كل فكيف يقال له لا تأكل ؟وهو معنى الصوم بخلاف الصلاة والغصب
ويمكن أن يجاب بأنه قيل له: لا تهلك نفسك وقيل له: صم فلم يعص من حيث أنه صائم ،بل من حيث سعيه في الهلاك ويلزم عليه صوم يوم النحر فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين والضحايا ،وهي ضيافة الله تعالى .ويعسر الفرق بينهما جدا. فهذه احتمالات يتجاذبها المجتهدون
فإن قلنا: لا ينعقد صومه فتسمية تداركه قضاء مجاز محض كما في حق الحائض وإلا فهو كالمسافر(30/142)
ص -184-…الفصل الرابع: في العزيمة والرخصة
اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد قال الله تعالى { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:115] أي قصدا بليغا وسمي بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق.
والعزيمة: في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى
والرخصة: في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة يقال رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء
وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة وما أباحه في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى رخصة
وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا
فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه وكذلك إباحة شرب الخمر وإتلاف مال الغير بسب الإكراه والمخمصة والغصص(30/143)
ص -185-…بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه
وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الأصر والإغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة وما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة وهذا لما أوجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الإيجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقنا والرخصة فسحة في مقابلة التضييق
ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز منها القصر والفطر في حق المسافر وهو جدير بأن يسمى رخصة حقيقة لأن السبب هو شهر رمضان وهو قائم وقد دخل المسافر تحت قوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة184] وأخرج عن العموم بعذر وعسر
أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة لأنه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه فلا يمكن أن يقال السبب قائم مع استحالة التكليف بخلاف المكره على الكفر والشرب فإنه قادر على الترك نعم تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة بل التيمم عند فقهاء الماء كالإطعام عند فقد الرقبة وذلك ليس برخصة بل أوجبت الرقبة في حالة والإطعام في حالة فلا نقول السبب قائم عند فقد الرقبة بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة ولوجوب الإطعام في حالة
فإن قيل: إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد الماء فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك فكان المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف.(30/144)
ص -186-…قلنا: المحرم في الميتة الخبث وفي الخمر الإسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه وهذه المحرمات قائمة وقد اندفع حكمها بالخوف فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة بأن يجعل انتفاء العذر شرطا مضموما إلى الموجب
فإن قيل: فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه فكيف يسمى ما يجب الإتيان به رخصة ؟وكيف فرق بين البعض والبعض ؟
قلنا: أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن فيه فسحة إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة
وأما سبب الفرق فأمور مصلحية رآها المجتهدون وقد اختلفوا فيها فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل ومنهم من جوز وقال قتل غيره محظور كقتله وإنما جوز له نظرا له وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله مثله وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر فإن حفظ المهجة أهم في الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة.
ومنها السلم فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في الحال فقد يقال: إنه رخصة لأن عموم نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام عن "بيع ما ليس(30/145)
ص -187-…عنده" يوجب تحريمه وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة فإذا قوبل ببيع الآبق فهو فسحة لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع فلا مناسبة بينهما ويمكن أن يقال السلم عقد آخر فهو بيع دين وذلك بيع عين فافترقا وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص فيشبه أن يكون هذا مجازا فقول الراوي نهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم تجوز في الكلام
واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا حد الرخصة أنه الذي أبيح مع كونه حراما وهذا متناقض فإن الذي أبيح لا يكون حراما
وحذق بعضهم وقال ما أرخص فيه مع كونه حراما وهو مثل الأول لأن الترخيص إباحة أيضا
وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح لعينه فهو حرام فبالإكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه وعن هذا لو أصر ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا وزعموا أن المكره على الإفطار لو لم يفطر يثاب لأن الإفطار قبيح والصوم قيام بحق الله تعالى والمكره على إتلاف المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر زعموا أنه يأثم إن لم يتناول وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض الأصول
والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا وجه له(30/146)
ص -188-…والله تعالى أعلم
وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل(30/147)
ص -189-…القطب الثاني: في أدلة الأحكام
وهي أربعة :
الكتاب
والسنة
والإجماع
ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي
فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا فمختلف فيه
الأصل الأول من أصول الأدلة: كتاب الله تعالى
واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذ قول مشغول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده والإجماع يدل على السنة والسنة على حكم الله تعالى
وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند(30/148)
ص -190-…انتفاء السمع فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه
إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول صلى الله عليه السلام
لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم
فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى
لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق
فلنبدأ بالكتاب
والنظر في حقيقته
ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب
ثم في ألفاظه
ثم في أحكامه
النظر الأول: في حقيقته ومعناه
هو الكلام القائم بذات الله تعالى وهو صفة قديمة من صفاته والكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس تقول سمعت(30/149)
ص -191-…كلام فلان وفصاحته وقد يطلق على مدلول العبارات وهي المعاني التي في النفس كما قيل
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما…جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقال الله تعالى { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [المجادلة :8] وقال تعالى { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } [الملك:13] فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا
وقد قال قوم: وضع في الأصل للعبارات وهو مجاز في مدلولها وقيل عكسه ولا يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار وأمر ونهي وتنبيه وهي معان تخالف بجنسها الإرادات والعلوم وهي متعلقة بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والإرادة والعلم وزعم قوم أنه يرجع إلى العلوم والإرادات وليس جنسا برأسه وإثبات ذلك على المتكلم لا على الأصولي(30/150)
ص -192-…فصل
كلام الله تعالى واحد وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام كما أن علمه واحد وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من المعلومات حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وفهم ذلك غامض وتفهيمه على المتكلم لا على الأصولي
وأما كلام النفس في حقنا فهو يتعدد كما تتعدد العلوم
ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي وذلك أيضا جائز ولأجله قال الله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة:6](30/151)
ص -193-…النظر الثاني: في حده
وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا
ونعني بالكتاب القرآن المنزل وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه
فإن قيل: هلا حددتموه بالعجز ؟
قلنا: لا لأن كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب
فإن قيل: فلم شرطتم التواتر؟
قلنا: ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به لأن التحريم بالوضع فيمكن الوضع عند الظن وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي فالحكم فيه بالظن جهل ويتشعب عن حد الكلام مسألتان:(30/152)
ص -194-…مسألة: [حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين]
التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار.
وقال أبو حنيفة :يجب لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد.
وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة: [هل البسملة آية أم لا]
البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول كل سورة فيه خلاف وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها وهي مع أول آية من سائر السور آية وهذا مما نقل(30/153)
ص -195-…عن الشافعي رحمه الله فيه تردد وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة ؟بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن
فإن قيل: القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه ؟وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن؟ ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود ولجاز للروافض أن يقولوا قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب .
وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن ومن التعاشير والنقط كيلا يختلط بالقرآن غيره فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع.
وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال إلا أنه قال أخطىء القائل به ولا أكفره لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطىء وليس بكافر واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وأنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم
لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن .
وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه بسم الله(30/154)
ص -196-…الرحمن الرحيم في أول كل سورة .
وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه فتحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والجواب: أنا نقول لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر فنقول لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ والتشهد.
فإن قيل: ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفي إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو من القرآن.
قلنا: هذا صحيح ،لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه.
فإذا القاضي رحمه الله يقول لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به .(30/155)
ص -197-…ونحن نقول: لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن ،إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الأحوال، إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن، بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه وكان يعرف كل ذلك قطعا ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ووجد ذلك في أوائل السور ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك وهذا الظن خطأ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما"سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة" فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن. فدل على أن ذلك كان مقطوعا به، وحدث الوهم بعده.
فإن قيل :بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية، وخرجت عن مظنة القطع فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد ؟
قلنا: جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء، وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك والبسملة من القرآن في سورة النمل هي مقطوع بكونها من القرآن وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ويعلم بالاجتهاد لأنه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن فهذا جائز وقوعه والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه: أن(30/156)
ص -198-…النافي لم يكفر الملحق والملحق لم يكفر النافي بخلاف القنوت والتشهد فصارت البسملة نظرية، وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن
فإن قيل :فالمسألة صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية؟
قلنا: الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية. ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: البسملة من سورة الحمد وأوائل السور المكتوبة معها لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه
وعلى الجملة: إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة
فإن قيل: قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو مبني على كونها قرآنا وكونها قرآنا لا يثبت بالظن فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات وإلا فهو جهل أي ليس بعلم فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود(30/157)
ص -199-…قلنا: وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة فكيف تساوي قراءةابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن؟ وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر
النظر الثالث في ألفاظه
وفيه ثلاث مسائل:
مسألة: [الحقيقة والمجاز ؟]:
ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما.
فالقرآن يشتمل على المجاز. خلافا لبعضهم فنقول:
المجاز: اسم مشترك: قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له والقرآن منزه عن ذلك ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ } [يوسف:82] وقوله { جِدَاراً(30/158)
ص -200-… يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } [الكهف :77] وقوله { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [الحج :40 ] فالصلوات كيف تهدم؟ { َأوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور :35] {يُؤْذُونَ اللَّهَ} [ الأحزاب: 57] وهو يريد رسوله { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }[ البقرة:194] والقصاص حق فكيف يكون عدوانا ؟{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: من الآية40] { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة:14] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64] {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }]الكهف: من الآية29[وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي
مسألة[هل القرآن كله عربي؟!]
قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه وقال قوم فيه لغة غير العرب واحتجوا بأن المشكاة هندية والإستبرق فارسية وقوله وفاكهة وأبا عبس قال بعضهم الأب ليس من لغة العرب والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد(30/159)
ص -201-…العثجاة يعني صدر المجلس وهو معرب كمشكاة وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية وبين أوزانها وقال كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للإله لاهوت وللناس ناسوت وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:103 ] وقال: أقوى الأدلة قوله تعالى { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } [فصلت:44] ولوكان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا، بل عربيا وعجميا ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا نحن لا نعجز عن العربية أما العجمية فنعجز عنها
وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي وقد استعملتها العرب ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف(30/160)
ص -202-…مسألة: [المحكم والمتشابه في القرآن]
في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }[آل عمران:7] .
واختلفوا في معناه وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع
ولا يناسبه قولهم المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما وراء ذلك ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال وهذا أبعد بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين:
أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الإحتمال
الثاني: أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف لكن هذا المحكم يقابله المثبج(30/161)
ص -203-…والفاسد دون المتشابه وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء وكقوله تعالى{ الذي بيده عقدة النكاح } ]البقرة:237[ فإنه مردد بين الزوج والولي وكاللمس المردد بين المس والوطء وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله
فإن قيل: قوله تعالى{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }[آل عمران:7] الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله ؟
قلنا: كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى وإلا فالعطف إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق
فإن قيل: فما معنى الحروف في أوائل السور؟ إذ لا يعرف أحد معناها
قلنا: أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل:
أحدها: أنها أسامي السور حتى تعرف بها فيقال سورة يس وطه
وقيل: ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء فلم يذكرها لإرادة معنى
وقيل: إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم وقد ينبه ببعض الشيء على كله يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر:
يناشدني حاميم والرمح شاجر …فهلا تلا حاميم قبل التقدم(30/162)
ص -204-…كنى بحاميم عن القرآن فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى{ وهو القاهر فوق عباده} الأنعام و { الرحمن على العرش استوى} طه الجهة والاستقرار وقد أريد به غيره فهو متشابه؟ قلنا: هيهات! فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب
النظر الرابع في أحكامه
ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه وتطرق النسخ إلى مقتضياته
أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها
وأما النسخ: فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الأخبار لأن النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين أحدهما: إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه الثاني: إن الكلام على الأخبار قد طال لأجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى وهذا :(30/163)
ص -205-…كتاب النسخ
والنظر في حده وحقيقته
ثم في إثباته على منكريه
ثم في أركانه وشروطه وأحكامه
فنرسم فيه أبوابا:(30/164)
ص -207-…الباب الأول: في حده وحقيقته وإثباته
أما حده فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة
فنقول: حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه
وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك
وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم خطاب
وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة فجميع ذلك قد ينسخ
وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به لأن حقيقة النسخ الرفع فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا لأنه إذا ورد أمر بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا فإذا قال{ أَتِمُّوا(30/165)
ص -208-…الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187 ] ثم قال في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه
وإنما قلنا: مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط
وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ
وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة
وهذا يوجب أن يكون قوله صم بالنهار وكل بالليل نسخا وقوله تعالى{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] نسخا وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة
وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه لولاه لكان ثابتا وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود
فإن قيل: تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه
الأول: أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له ؟والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم(30/166)
ص -209-…الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء
الثاني: أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه
الثالث: أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال
الرابع: أن ما أمر به أراد وجوده فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها؟
الخامس: أنه يدل على البداء فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه
فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع والثانية من جهة قدم الكلام والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر والخامسة من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده
والجواب عن الأول: أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد إذ لو قال قائل ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير؟ فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم ؟والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته فيقال معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام فإن البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين وأن الأول وضع لملك قاصر(30/167)
ص -210-…بنفسه والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر
وبهذا يفارق النسخ التخصيص فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه
ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ
وأما الجواب عن الثاني: وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام القديم يتعلق بالقادر العاقل فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق والكلام القديم لا يتغير في نفسه فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام
وأما الجواب عن الثالث: وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وأنه لا معنى لهما وهذا أولى من الاعتذار بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت لأنه قد قال في رمضان لا تأكل بالنهار وكل بالليل لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك بل يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي
وأما الجواب عن الرابع: وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
وأما الجواب عن الخامس: وهو لزوم البداء فهو فاسد لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر فذلك جائز {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39 ] ولا تناقض فيه كما أباح الأكل بالليل(30/168)
ص -211-…وحرمه بالنهار وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال ولا يلزم ذلك من النسخ بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه وليس فيه تبين بعد جهل
فإن قيل: فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه
قلنا: هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع لكن يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه
فليس إذا في النسخ لزوم البداء ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات وربما احتجوا بقوله تعالى{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39 [ وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو يمحو السيئات بالتوبة كما قال تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: من الآية11] ويمحو الحسنات بالكفر والردة أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات
فإن قيل:فما الفرق بين التخصيص والنسخ؟
قلنا :هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم(30/169)
ص -212-…ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه والنسخ يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه فإن قوله إفعل أبدا يجوز أن ينسخ وما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ كما إذا قال ملكتك أبدا ثم يقول فسخت فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ
فلذلك يفترقان في خمسة أمور:
الأول: أن الناسخ يشترط تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان
الثاني: أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه
والثالث: أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع
الرابع: أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية
الخامس: أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع
وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم: أن النسخ لا يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال وهذا تجوز واتساع لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال فإذا قال اقتلوا المشركين إلا المعاهدين معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب والمقصود أن ورود كل واحد منهما على(30/170)
ص -213-…الفعل
وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ
الفصل الثاني: من هذا الباب في إثباته على منكريه
والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا
أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال
ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته بدليل ما حققناه من معنى الرفع ودفعناه من الإشكالات عنه
ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا بسبب العزم عن معاص وشهوات ثم يخفف عنهم
وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص
أما الإجماع :فاتفاق الأمة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه وهذا متفق عليه فمنكر هذا خارق للإجماع
وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ وهم مسبوقون بهذا الإجماع فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود
وأما النص: فقوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر} ][النحل:101 ]الآية والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان فهو رفع ونسخ(30/171)
ص -214-…فإن قيل: ليس المعني به رفع المنزل فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل
قلنا: هذا تعسف بارد فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا والبدل يستدعي مبدلا؟ وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال فهذا هوس وسخف
والدليل الثاني: قوله تعالى{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء:160]
ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل وكذلك قوله تعالى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }[البقرة:106]
فإن قيل: لعله أراد به التخصيص
قلنا: قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه؟! وإنما هو بيان معنى الكلام
الدليل الثالث: ما اشتهر في الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة: من الآية12] ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة :144]
وعلى الجملة اتفقت الأمة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع
فإن قيل: معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والأنبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله
قلنا: فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا، لأن شرعنا قد نقل من اللوح(30/172)
ص -215-…المحفوظ، وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة ومن عدة إلى عدة فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا
الفصل الثالث في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ
وهي ست مسائل :
مسألة:[ هل ينسخ الأمر]
يجوز عندنا نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال خلافا للمعتزلة وصورته أن يقول الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم يقول قبل يوم عرفة لا تحجوا فقد نسخت عنكم الأمر أو يقول إذبح ولدك فيبادر إلى إحضار أسبابه فيقول قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الأمر لأن النسخ عندنا رفع للأمر أي لحكم الأمر ومدلوله وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الأمر بخلاف التخصيص فلو قال صلوا أبدا فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب في المستقبل لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الأزمان ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ فكأنه يقول صلوا أبدا ما لم أنهكم ولم أنسخ عنكم أمري وإذا كان كذلك عقل نسخ الحج قبل عرفة ونسخ الذبح قبل فعله لأن الأمر قبل التمكن حاصل وإن كان أمرا بشرط التمكن لأن الأمر بالشرط ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الإمتثال
ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الأمر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب الأوامر
وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض وامتثال الأمر في ابتداء(30/173)
ص -216-…الصلاة وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا بل نقول كان مأمورا بأمر مقيد بشرط والأمر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد وهم يقولون إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الأمر من أصله وإنا كنا نتوهم وجوبه فبان أنه لم يكن فهذه المسألة فرع لتلك المسألة ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن
وقالوا أيضا:إنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة
وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه ولكن يبقى لهم مسلكان:
المسلك الأول: أن الشيء الواحد في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد؟
وفي الجواب عنه طريقتان:
الأولى إنا لا نسلم أنه منهي عنه على الوجه الذي هو مأمور به بل على وجهين كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع الطهارة وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عز وجل لاختلاف الوجهين
ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم هو مأمور بشرط بقاء الأمر منهي عنه عند زوال الأمر فهما حالتان مختلفتان.
ومنهم من أبدل لفظ بقاء الأمر بانتفاء النهي أو بعدم المنع والألفاظ متقاربه
وقال قوم: هو مأمور بالفعل في الوقت المعين بشرط أن يختار الفعل والعزم وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ
وقال قوم يأمر بشرط كونه مصلحة وإنما يكون مصلحة مع دوام الأمر(30/174)
ص -217-…أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة
وقال قوم: إنما يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ثم يتغير الحال فيصير النهي مصلحة وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن إيجابه مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة
وقال قوم: إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال ستتغير ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل
وكل هذا متقارب وهو ضعيف لأن الشرط ما يتصور أن يوجد وأن لا يوجد فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته والمأمور لا يقع مأمورا إلا عند دوام الأمر وعدم النهي فكيف يقول آمرك بشرط أن لا أنهاك فكأنه يقول آمرك بشرط أن آمرك وبشرط أن يتعلق الأمر بالمأمور وبشرط أن يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه فهذا لا يصلح للشرطية وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم فإن الانقسام يتطرق إليه
ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول الأمر بالشيء قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته ويجوز أن يزال حكمه قبل وقته فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه فإذا نهى عنه كان قد زال حكم الأمر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به
الطريقة الثانية أنا لا نلتزم إظهار اختلاف الوجه لكن نقول يجوز أن يقول ما أمرناك أن تفعله على وجه فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه إذ ليس المأمور حسنا في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به حتى يتناقض ذلك ولا المأمور مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها بل جميع ذلك من أصول المعتزلة وقد أبطلناها
فإن قيل: فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الأمور؟(30/175)
ص -218-…قلنا :لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة للمأمور أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الأمر لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد حتى يعرض بالعزم للثواب وبتركه للعقاب وربما يكون فيه لطف واستصلاح كما سيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط مع أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الأمور بالشرط وقالوا وعد الله على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة وعلى المعصية عقابا بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة والتوبة ثم شرط ذلك في وعده فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه وتكون شرطيته بالإضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر فيقول أثيبك على
طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم لا يحبط وكذلك يقول أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك
المسلك الثاني في إحالة النسخ قبل التمكن: قولهم: الأمر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشيء الواحد ونهيا عنه في وقت واحد بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى؟
قلنا: هذا إشارة إلى إشكالين:
أحدهما: كيفية اتحاد كلام الله تعالى ولا يختص ذلك بهذه المسألة بل ذلك عندنا كقولهم العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل وإنما يحل إشكاله في الكلام
أما الثاني: فهو أن كلامه واحد وهو أمر بالشيء ونهي عنه ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الأداء ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك
فنقول: كلام الله تعالى في نفسه واحد وهو بالإضافة إلى شيء أمر،(30/176)
ص -219-…وبالإضافة إلى شيء خبر ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين ولذلك شرطنا التراخي في النسخ ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز وأما جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد لكن يؤمر بتبيلغ الأمة في وقتين فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة ثم ينهاهم عنها بعد ذلك فيقطع عنهم حكم الأمر المطلق كما يقطع حكم العقد بالفسخ
ومن أصحابنا من قال: الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة بل في حالتين فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه.
ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة إبراهيم عليه السلام ونسخ ذبح ولده عنه قبل الفعل وقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] فقد أمر بفعل واحد ولم يقصر في البدار والامتثال ثم نسخ عنه .
وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه:
أحدها: أن ذلك كان مناما لا أمرا
الثاني: أنه كان أمرا، لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم يكن مأمورا به
الثالث: أنه لم ينسخ الأمر لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع فانقطع التكليف لتعذره الرابع: المنازعة في المأمور وأن المأمور به كان هو الإضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح الخامس: جحود النسخ وأنه ذبح امتثالا فالتأم واندمل
والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن إسماعيل ليس بمذبوح واختلفوا(30/177)
ص -220-…في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا فقال قوم هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام وقال قوم ذابح لا مذبوح له محال وكل ذلك تعسف وتكلف
[الرد على هذه الأوجه المتقدمة:]
أما الأول: وهو كونه مناما فمنام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به فلقد كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنام ويدل على فهمه الأمر قول ولده: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات :102] ولو لم يؤمر لكان كاذبا وأنه لا يجوز قصد الذبح والتل للجبين بمنام لا أصل له وأنه سماه البلاء المبين وأي بلاء في المنام؟ وأي معنى للفداء ؟
وأما الثاني: وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا فهو محال لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار ولأن الاختبار إنما يحصل بالإيجاب فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار وقولهم العزم هو الواجب محال لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب بل هو تابع للمعزوم ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية كيف وقد قال { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [الصافات:102[فقال له ولده {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات :102] يعني الذبح وقوله تعالى{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: من الآية103] استسلام لفعل الذبح لا للعزم
وأما الثالث: وهو أن الإضجاع بمجرده هو المأمور به فهو محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال
وأما الرابع: وهو إنكار النسخ وأنه امتثل لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف فهذا لا يصح على أصولهم لأن الأمر بالمشروط لا يثبت عندهم بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه
وأما الخامس: وهو أنه فعل والتأم فهو محال لأن الفداء كيف يحتاج إليه(30/178)
ص -221-…بعد الالتئام ؟ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة ولم ينقل ذلك قط وإنما هو اختراع من القدرية
فإن قيل: أليس قد قال {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا }[الصافات: من الآية105]
قلنا: معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا بالرؤيا والتصديق غير التحقيق والعمل
مسألة: هل نسخ بعض العبادة نسخ لها
إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع أو أسقط شرط الطهارة فقد قال قائلون هو نسخ لبعض العبادة لا لأصلها قال قائلون هو نسخ لأصل العبادة وقال قائلون نسخ الشرط ليس نسخا للأصل أما نسخ البعض فهو نسخ للأصل ولم يسمحوا بتسمية الشرط بعضا ومنهم من أطلق ذلك.
وكشف الغطاء عندنا أن نقول: إذا أوجب أربع ركعات ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة لأن حقيقة النسخ الرفع والتبديل ولقد كان حكم الأربع الوجوب فنسخ وجوبها بالكلية والركعتان عبادة أخرى لا أنها بعض من الأربعة إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة كما لو صلى بتسليمتين وكما لو وجب عليه درهم فتصدق بدرهمين
فإن قيل: إذا رد الأربع إلى ركعة فقد كانت الركعة حكمها أنها غير مجزية والآن صارت مجزئة فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الأربع؟
قلنا: كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع فهذا نسخ لكنا بينا في حد النسخ خلافه(30/179)
ص -222-…وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب الطهارة وبقيت الصلاة واجبة نعم كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لا تجزىء والآن صارت مجزئة لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي فإن الصلاة بغير طهارة لم تكن مجزئة لأنها لم تكن مأمورا بها شرعا
فإن قيل: كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة فنسخ تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة فالصلاة مع الطهارة غير الصلاة مع الحدث كما أن الثلاث غير الأربع فليكن هذا نسخا لتلك الصلاة أو إيجابا بغيرها ؟
قلنا :لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ البعض ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لإيجابها مع الطهارة وكانت هذه عبادة أخرى أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة وغير الطهارة فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم الأصلي إذ لم يؤمر بها فالآن جعلت مجزئة وارتفع الحكم الأصلي أما صحة الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لأصل العبادة أو نسخ لتعلق الصحة ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر والخطب فيه يسير فليس يتعلق به كبر فائدة
وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الأجزاء كالوقوف على يمين الإمام أو ستر الرأس فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة بالنسخ
فإذا :تبعيض مقدار العبادة نسخ لأصل العبادة وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة وتبعيض الشرط فيه نظر وإذا حقق كان إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى.
مسألة:[ هل الزيادة على النص نسخ أم لا؟:]
الزيادة على النص نسخ عند قوم وليست بنسخ عند قوم .
والمختار عندنا التفصيل: فنقول: ينظر إلى تعلق الزيادة بالمزيد عليه(30/180)
ص -223-…والمراتب فيه ثلاثة
الأولى: أن يعلم أنه لا يتعلق به كما إذا أوجب الصلاة والصوم ثم أوجب الزكاة والحج لم يتغير حكم المزيد عليه إذ بقي وجوبه وأجزاؤه والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع
الرتبة الثانية: وهي في أقصى البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع نعم الأربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة وهذا ليس بنسخ إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي
فإن قيل: اشتملت الأربعة على الثنتين وزيادة فهما قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان.
قلنا: النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه فقد كان من حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع كيف وقد بينا أنه ليست الأربعة ثلاثة وزيادة بل هي نوع آخر إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة وزيادة فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزىء ولا صائر إليه
الرتبة الثالثة: وهي بين المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف وليس انفصال هذه الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات :
وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: هو نسخ
وليس بصحيح بل هو بالمنفصل أشبه لأن الثمانين نفي وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها فالمائة ثمانون وزيادة ولذلك لا ينتفي الأجزاء عن الثمانين بزيادة عليها بخلاف الصلاة
وفائدة هذه المسألة: جواز إثبات التغريب بخبر الواحد عندنا ،ومنعه(30/181)
ص -224-…عندهم لأن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد.
فإن قيل: قد كانت الثمانون حدا كاملا فنسخ اسم الكمال رفع لحكمه لا محالة.
قلنا: هو رفع ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا بل المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب لكن ليس هذا حكما مقصودا .
فإن قيل: هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لأن إيجاب الثمانين مانع من الزيادة
قلنا: ليس منع الزيادة بطريق المنطوق بل بطريق المفهوم ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا
ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد.
ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر ثم ورد التغريب بعده وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه
فإن قيل: التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين فإذا زيد عليها أزال تعلقه(30/182)
ص -225-…بها
قلنا: يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا وكان كحل النكاح بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة وتصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح بل في نفس العدة .والنكاح تابع
فإن قيل: فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط الطهارة فهل هو نسخ ؟
قلنا: نعم لأنه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير طهارة فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة
فإن قيل: فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث لأنه تعالى قال { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية29] ولم يشرط الطهارة والشافعي رحمه الله منع الأجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة" وهو خبر الواحد وأبو حنيفة رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال الطواب وأجزائه وهو معلوم بالكتاب فلا
قلنا: لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة فاشتراط الطهارة رفع ونسخ ولا يجوز بخبر الواحد ولكن قوله تعالى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية29] يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف ويكون بيان شروطه موكولا إلى الرسول عليه السلام فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا نسخا فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص لأن عموم النص يقتضي أجزاء الطواف بطهارة وغير طهارة فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن فهو نقصان من النص لا زيادة عليه(30/183)
ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا إن لم يستقر ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم وهذا نظير قوله تعالى{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: من الآية92] فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة فيجوز تخصيص العموم إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان نسخه ورفعه بالقياس وخبر الواحد ممتنعا(30/184)
ص -226-…فإن قيل: فما قولكم في تجويز المسح على الخفين هل هو نسخ لغسل الرجلين؟
قلنا :ليس نسخا لأجزائه ولا لوجوبه لكنه نسخ لتضييق وجوبه وتعينه وجاعل إياه أحد الواجبين ويجوز أن يثبت بخبر الواحد
فإن قيل :فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق ؟
قلنا :قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة وذلك في ثلاثة أيام أو يوم وليلة
فإن قيل :فقوله تعالى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } [البقرة: من الآية282] توجب إيقاف الحكم على شاهدين فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ ؟
قلنا: ليس كذلك فإن الآية لا تقتضي إلا كون الشاهدين حجة وجواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى وقولهم ظاهر الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقة ولا حجة عندهم بالمفهوم ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير مسلم
مسألة :[إثبات بدل غير المنسوخ] :
ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ.
وقال قوم: يمتنع ذلك.
فنقول: يمتنع ذلك عقلا أو سمعا؟ ولا يمتنع عقلا جوازه إذ لو امتنع لكان الإمتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة ولا يمتنع لصورته إذ يقول قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى ما كان قبل من(30/185)
ص -227-…الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع لا ينبني عليها وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير إثبات بدل وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم الأضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها وإن نسخت القبلة إلى بدل ووصية الأقربين إلى بدل وغير ذلك وحقيقة النسخ هو الرفع فقط
أما قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: من الآية106] أن تمسكوا به فالجواب من أوجه:
الأول: أن هذا لا يمنع الجواز وإن منع الوقوع عند من يقول بصيغة العموم ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا
ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الأضاحي والصدقة أمام المناجاة
ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل
مسألة: [الأخف والأثقل في النسخ] :
قال قوم: يجوز النسخ بالأخف ولا يجوز بالأثقل.
فنقول: امتناع النسخ بالأثقل عرفتموه عقلا أو شرعا ولا يستحيل عقلا لأنه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح فإنا ننكره وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي؟
فإن قيل إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق به التشديد(30/186)
ص -228-…قلنا: فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق
فإن قالوا :إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: من الآية185]ولقوله تعالى{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ }[النساء: من الآية28]
قلنا: فينبغي أن يتركهم وإباحة الفعل ففيه اليسر ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل لأنه لا يسر فيه إذ اليسر في رفعه إلى غير بدل أو بالأخف وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه منع إرادة التثقيل والتشديد
فإن قيل: فقد قال {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } [البقرة: من الآية106] وهذا خير عام والخير ما هو خير لنا وإلا فالقرآن خير كله والخير لنا ما هو أخف علينا؟
قلنا: لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال.
فإن قيل: لا يمتنع ذلك عقلا، بل سمعا لأنه لم يوجد في الشرع نسخ بالأثقل
قلنا: ليس كذلك إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال والأعراض ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة وكذلك نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام وهو تضييق وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية بعد إطلاقها ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر(30/187)
ص -229-…مسألة :[هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا]:
اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر :
فقال قوم :النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به.
وقال قوم: ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه.
والمختار أن للنسخ حقيقة وهو ارتفاع الحكم السابق ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الأجزاء بالعمل السابق:
أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه وهو رفع الحكم لأن من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط الأمر عمن هو باليمن في الحال بل هو مأمور بالتمسك بالأمر السابق ولو ترك لعصى وإن بان أنه كان منسوخا ولا يلزمه استقبال الكعبة بل لو استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف
وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك بدليل نص أو قياس وربما يجب القضاء حيث لا يجب الإداء كما في الحائض لو صامت عصت ويجب عليها القضاء فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة عصى ويلزمه استقبالها في القضاء وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء ما لم يكن واجبا لأن من لا يفهم لا يخاطب
فإن قيل: إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه جاهل به وهو مخطىء فيه لكنه معذور.
قلنا: الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط ويحال عند وجود الشرط على الناسخ ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط لأن الناسخ خطاب ولا يصير خطابا في حق من لم يبلغه وقولهم أنه مخطىء :محال لأن اسم الخطأ يطلق على(30/188)
ص -230-…من طلب شيئا فلم يصب أو على من وجب عليه الطلب فقصر ولا يتحقق شيء منه في محل النزاع.(30/189)
ص -231-…الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه
ويشتمل عى تمهيد لمجامع الأركان والشروط وعلى مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ
أما التمهيد:
فاعلم أن أركان النسخ أربعة النسخ والناسخ والمنسوخ والمنسوخ عنه فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو الله تعالى فإنه الرافع للحكم والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه هو المتعبد المكلف والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت
وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز فيقال هذه الآية ناسخة لتلك وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا فيقال صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء
والحقيقة هو الأول لأن النسخ هو الرفع والله تعالى هو الرافع بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه
وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة:
الأول: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات
الثاني: أن يكون النسخ بخطاب فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم خطاب سابق ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا فوضع الحكم قاصر على الحياة فلا يحتاج إلى الرفع.(30/190)
ص -232-…الثالث: أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي دخوله زوال الحكم كقوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }[البقرة: من الآية187]
لآ أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا لا كقوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة: من الآية222[ وقوله تعالى{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[ التوبة: من الآية29]
وليس يشترط فيه تسعة أمور:
الأول: أن يكون رافعا للمثل بالمثل بل أن يكون رافعا فقط.
الثاني: أن لا يشترط ورود النسخ بعد دخول وقت المنسوخ بل يجوز قبل دخول وقته.
الثالث: أن لا يتشرط أن يكون المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص بل يجوز ورود النسخ على الأمر بفعل واحد في وقت واحد
الرابع: أن لا يشترط أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية بل يكفي أن يكون مما يصح النسخ به
الخامس: أن لا يشترط أن يكونا نصين قاطعين إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر(30/191)
ص -233-…الواحد وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد
السادس :لا يشترط أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ منسوخ بل أن يكون ثابتا بأي طريق كان فإن التوجه إلى بيت المقدس لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة وناسخه نص صريح في القرآن وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقياسه، وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها.
السابع: لا يشترط أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الأمر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالأمر بل يجوز أن ينسخ كلاهما بالإباحة وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع وإنما يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان
الثامن :لا يشترط كونهما ثابتين بالنص بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن آية وصية الأقارب نسخت بقوله "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن فليسا متنافيين تنافيا قاطعا.
التاسع :لا يشترط نسخ الحكم ببدل أو بما هو أخف بل يجوز بالمثل والأثقل وبغير بدل كما سبق.
ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ والناسخ وهي(30/192)
ص -234-…مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ به
مسألة:[ هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا؟ ]
ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا للمعتزلة فإنهم قالوا من الأفعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها فلا يمكن نسخها مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ وجوبه ومثل الكفر والظلم والكذب فلا يجوز نسخ تحريمه وبنوا هذا على تحسين العقل وتقبيحه وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى وحجروا بسببه على الله تعالى في الأمر والنهي وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي وأن وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن
وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم لا يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو الله عز وجل ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه فيبقى هذا التكليف بالضرورة
ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه وأن يحرم عليهم معرفته لأن قوله أكلفك أن لا تعرفني يتضمن المعرفة أي إعرفني لأني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال فيمكتنع التكليف فيه عند من يمنع تكليف المحال وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شيء من الحوادث على خلاف ما هو به لأنه محال لا يصح فعله ولا تركه
مسألة :[ نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا] :
الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخهما جميعا وظن قوم استحالة ذلك.(30/193)
ص -235-…فنقول هو جائز عقلا وواقع شرعا
أما جوازه عقلا: فإن التلاوة وكتبتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها كما أن التحريم والتحليل المفهوم من لفظها حكمها وكل حكم فهو قابل للنسخ وهذا حكم فهو إذن قابل للنسخ.
وقد قال قوم: نسخ التلاوة أصلا ممتنع لأنه لو كان المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع .
قلنا: وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم دون التلاوة لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ معين؟
فإن قيل: فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها لأن الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل؟ قلنا: لا بل التلاوة حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل وإنما الأصل دلالتها وليس في نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى المدلول؟! فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه فإذا قلنا الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها.
فإن قيل: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض لأنه رفع للمدلول مع بقاء الدليل.
قلنا: إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته.
ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: من الآية184 ] وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم(30/194)
ص -236-…والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث" ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة باقية ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها والحبس والأذى عن اللاتي يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة
وأما نسخ التلاوة: فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها وهي قوله تعالى" الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"
واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "أنزلت عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس" وليس ذلك في الكتاب.
مسألة:[ أنواع النسخ]
يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن لأن الكل من عند الله عز وجل فما المانع منه ولم يعتبر التجانس مع أن العقل لا يحيله كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن وهو في السنة وناسخه في القرآن وكذلك قوله تعالى{ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ }[البقرة: من الآية187] نسخ لتحريم المباشرة وليس التحريم في القرآن ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال(30/195)
ص -237-…عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة: "حشا الله قبورهم نارا" لحبسهم له عن الصلاة وكذلك قوله تعالى{ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}[الممتحنة: من الآية10] نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح
وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله ألا لا وصية لوارث لأن آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم قد "جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فهو ناسخ لإمساكهن في البيوت
وهذا فيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم، وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا، وكان قد وعد الله تعالى به، فقال: { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: من الآية15]
فإن قيل: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ فكأنه يقول إنما تلتغي السنة بالسنة إذ يرفع النبي سنته بسنته ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن ولا يكون القرآن مبينا للسنة وحيث لا يصادف ذلك فلأنه لم ينقل وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك
قلنا: هذا إن كان في جوازه عقل فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب(30/196)
ص -238-…التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول لم يقع هذا فقد نقلنا وقوعه ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة إذ لا ضرورة في هذا التقدير والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض وإن قال الأكثر كان ذلك فربما لا ينازع فيه
احتجوا بقوله تعالى{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ]يونس:15[ فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة
قلنا :لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز وجل والحقيقة أن الناسخ هو الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار والمنسوخ باعتبار وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن وإنما الاختلاف في العبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنا وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال
على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه؟(30/197)
ص -239-…احتجوا بقوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } ]البقرة: من الآية106[وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها فالسنة لا تكون مثلها ثم تمدح وقال { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}]البقرة: من الآية106[بين أنه لا يقدر عليه غيره
قلنا: قد حققنا أن الناسخ هو الله تعالى وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه ولا يقدر عليه غيره .
ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى بآية أخرى مثلها كان قد حقق وعده فلم يشترط أن تكون الآية الأخرى هي الناسخة للأولى.
ثم نقول ليس المراد الإتيان بقرآن آخر خير منها ،لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو مخلوقا بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا
مسألة: لا ينسخ الإجماع
الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نسخ بالإجماع(30/198)
ص -240-…فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سنة
مسألة: نسخ المتواتر بالآحاد
أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر والآحاد بالآحاد
أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه سمعا وجوازه عقلا
فقال قوم :وقع ذلك سمعا فإن أهل مسجد القباء تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه عن الواحد
والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء وبدليل أنه كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا بل ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن
وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وإن تواترت .
وليس ذلك بمحال لأنه يصح أن يقال: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده
فإن قيل: كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع بالظن؟ وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم.(30/199)
ص -241-…قلنا: تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم ينقل وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل إذ لو كان كذلك لقطعنا بكذب الناقل ولسنا نقطع به بل نجوز صدقه وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا يرد خبر نسخه كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد لأنها تفيد القطع بشرط عدم خبر الواحد .
فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا لأن الرسول عليه السلام أشاع الحكم فلو ثبت نسخه للزمه الإشاعة؟
قلنا: ولم يستحيل أن يشيع الحكم ويكل النسخ إلى الآحاد كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص؟
مسألة لا يصح نسخ المتواتر بالقياس :
لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليا كان أو خفيا
هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا ما جاز التخصيص به جاز النسخ به
وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال؟
وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز النسخ بالقياس الجلي
ونحن نقول لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا
وما يتوهم القطع به على ثلاث مراتب:
الأولى: ما يجري مجرى النص وأوضح منه كقوله تعالى { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ]الاسراء: من الآية23[فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا فلو كان ورد(30/200)
ص -242-…نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر من المنطوق به وفي درجته قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}]الزلزلة:7[ في أن ما هو فوق الذرة كذلك. وكذلك قوله تعالى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ }]النساء: من الآية11 [ النساء في أن للأب الثلثين
الرتبة الثانية: لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد لأنه مقطوع به إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا
الرتبة الثالثة: أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع حرمت الخمر لشدتها فينسخ إباحة النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس
وقال قوم :وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا فرق بين قوله حرمت كل منتبذ وبين قوله حرمت الخمر لشدتها ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس ولنبين أنه إن لم نتعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن خاصة
والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع
فإن قيل: استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي؟
قلنا: الصحيح أنه سمعي ولا يستحيل عقلا أن يقال :تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر نعم: يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه ،فيكون واجب العمل به وساقط العمل به
فإن قيل :فما الدليل على امتناعه سمعا؟(30/201)
ص -243-…قلنا: يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص وقول معاذ رضي الله عنه" اجتهد رأيي" بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد فكيف بالنص القاطع المتواتر؟ واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد لولا هذا لقضينا برأينا ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف ؟وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص.
فإن قيل: إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ؟ قلنا: يحتمل أن يقال ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط ويحتمل أن يقال النسخ إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل الاجتهاد
والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا وإنما هذا مطلوب قبوله للتعيين
مسألة:[ نسخ الحكم بقول الصحابي]
لا ينسخ حكم بقول الصحابي: نسخ حكم كذا ما لم يقل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نسخت حكم كذا فإذا قال ذلك نظر في الحكم إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله وإن كان قاطعا فلا أما قوله نسخ حكم كذا فلا يقبل قطعا فلعله ظن ما ليس ينسخ نسخا فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ وكذلك في مسائل
وقال قوم: إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده لكن نظرنا فيه وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية .
وهذا فاسد بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا فيه وقضينا برأنيا وإن(30/202)
ص -244-…لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن اجتهاد ينفرد به هذا ما ذكره القاضي رحمه الله
والأصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الأخبار ولا فرق بين اللفظين.
فإن قيل: قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك الأحزاب فقبل ذلك منها
قلنا: ليس ذلك مرضيا عندنا ومن قبل فإنما قبل ذلك للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ ولم يقلد مذهبها
خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ
اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هوالمتأخر ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع بل بمجرد النقل وذلك بطرق:
الأول: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي" فالآن ادخروها" وكقوله "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"
الثاني: أن تجمع الأمة في حكم على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر
الثالث: أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق أو عام الفتح وكان المنسوخ معلوما قبله ولا فرق بين أن يروي الناسخ(30/203)
ص -245-…والمنسوخ راو واحد أو راويان.
ولا يثبت التاريخ بطرق
الأول: أن يقول الصحابي كان الحكم علينا كذا ثم نسخ لأنه ربما قاله عن اجتهاد
الثاني: أن يكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر لأن السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول بل ربما قدم المتأخر
الثالث: أن يكون راويه من أحداث الصحابة فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته وقد ينقل الأكابر عن الأصاغر وبعكسه
الرابع: أن يكون الراوي أسلم عام الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح إذ لعله سمع في حاله كفره ثم روى بعد الإسلام أو سمع ممن سبق بالإسلام
الخامس: أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره
السادس: أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك كقوله لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم
وقد فرغنا من الأصل الأول من الأصول الأربعة وهو الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله وسلم(30/204)
ص -246-…الأصل الثاني من أصول الأدلة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه ولأمر الله تعالى إيانا باتباعه ولأنه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى النجم لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا وبعضه لا يتلى وهو السنة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين قسم في أخبار التواتر وقسم في أخبار الآحاد ويشتمل كل قسم على أبواب(30/205)
ص -247-…أما المقدمة
ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خمس مراتب :
الأولى :وهي أقواها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ قال نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الثانية: أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أخبر أو أخبر أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا أو بلغه على لسان من يثق به
ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من أصبح جنبا فلا صوم له" فلما استكشف قال :حدثني به الفضل بن عباس فأرسل الخبر أولا ولم يصرح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله "إنما الربا في النسيئة" فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد بل الظاهر أن الصحابي إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله بخلاف من لم يعاصر إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع ولا(30/206)
ص -248-…يوهم إطلاقه السماع بخلاف الصحابي فإنه إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك إذ يقال قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر قال رسول الله فلا نفهم من ذلك إلا السماع
الثالثة: أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا
فهذا يتطرق إليه احتمالان أحدهما في سماعه كما في قوله قال والثاني في الأمر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للأمر فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ
والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك وأن يسمعه يقول أمرتكم بكذا أو يقول إفعلوا وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر أما احتمال بنائه الأمر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت ورأى ما ليس بشرط شرطا ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا وإلا فلا فرق بين قوله نسخ وقوله أمر ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الأمر
ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للأمة أو لطائفة أو لشخص بعينه وكل ذلك يتيح له أن يقول أمر فيتوقف فيه على الدليل لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من
سفر أو(30/207)
ص -249-…حضر ولو كان كذلك لصرح به الصحابي كقوله أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن نعم لو قال أمرنا بكذا وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للأمة أو له أو لطائفة
الرابعة: أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا
فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة واحتمال رابع وهو الآمر فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأئمة والعلماء
فقال قوم :لا حجة فيه فإنه محتمل وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله
وفي معناه قوله: من السنة كذا والسنة جارية بكذا
فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته
ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته
أما التابعي إذا قال أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الأمة بأجمعها والحجة حاصلة به ويحتمل أمر الصحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي
الخامسة: أن يقول: كانوا يفعلون كذا فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول(30/208)
ص -250-…عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل لأن ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه وذلك يدل على الجواز وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالأبو سعيد كنا نخرج على عهد رسول الله صاعا من بر في زكاة الفطر وقالت عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
وأما قول التابعي كانوا يفعلون لا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي
فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ليس خبرا عنه والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد(30/209)
ص -251-…عمل القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر
وفيه أبواب:
الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم
ولنقدم عليها حد الخبر.
وحده أنه القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب
وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا
والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس وأما العبارة فهي الأصوات المقطعة التي صيغتها مثل قول القائل زيد قائم وضارب وهذا ليس خبرا لذاته بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه إذا وجد لا يتغير بقصد القاصد
التواتر يفيد العلم
أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث(30/210)
ص -252-…حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا
وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون الألف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس
ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود الأنبياء بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة
فإن قيل لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم
قلنا: من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية
أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري فإنا نقول النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا وكل علم نظري فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن(30/211)
ص -253-…ننكره وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق والثانية أنهم قد اتفقوا على الأخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها
وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهذا ليس بضروري فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الإثنان نصف الأربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الأربعة فهو إذا نصف فقد حصل هذا العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين؟ يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين أحدهما ستة وثلاثون
فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح والضروري عند الأكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية وكذلك العلم بصدق خبر التواتر ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو والخمر مسكر كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب(30/212)
فإن قيل: لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا(30/213)
ص -254-…لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا ولما تصور الخلاف فيه فهذا الاستدلال صحيح أم لا ؟
قلنا: إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا
الباب الثاني في شروط التواتر
وهي أربعة :
الأول: :أن يخبروا عن علم لا عن ظن فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا وليس هذا معللا بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر لأنه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك
الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الأنبياء لم يحصل لنا العلم وهذا أيضا معلوم بالعادة وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا الشرط .
الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد من شروط ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي(30/214)
ص -255-…أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه الأعصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام وفي نص الإمامة
الشرط الرابع: في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل:
مسألة:[العدد الذي يحصل به التواتر] :
عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم
فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور أن يختلف
وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا(30/215)
ص -256-…اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص
وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا
وهذا غير مرضي لأن مجرد الأخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها.
دور القرائن في حصول اليقين :
فنقول: لا شك في أن نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الإحتمال يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات
وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور ولا(30/216)
ص -257-…عند خروجه فإنه مستور بالفم ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن ولا تخلو حلمته عن ثقب ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن
وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات
ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم
وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها
وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عن انضمام قرائن إليه لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد وهذا مما يقطع بجوازه والتجرية تدل عليه
وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم(30/217)
ص -258-…يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر
ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته
فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء فيقوم ذلك مقام القرائن وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته
هل يحصل العلم بقول مخبر واحد ؟
فإن قيل: فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد ؟
قلنا: حكي عن الكعبي جوازه ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا وعن هذا أحال القاضي ذلك
وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن(30/218)
ص -259-…مسألة: هل شهادة الأربعة فيها غلبة الظن:
قطع القاضي رحمه الله بأن قول الأربعة قاصر عن العدد الكامل لأنها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة.
وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الأربعة أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا
مسألة هل شهادة الخمسة تفيد العلم:
قال القاضي علمت بالإجماع أن الأربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لأنه لم يقم فيها دليل الإجماع
وهذا ضعيف لأنا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه.
مسألة: العدد الذي يفيد التواتر؟:
إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا ولا سبيل لنا إلى معرفته فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها.
وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله فإن قول الأول يحرك الظن وقول الثاني والثالث يؤكده ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف عليه،(30/219)
ص -260-…ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال وتعذر على القوة البشرية إدراكه
فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالأربعين أخذا من الجمعة وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا الأعراف وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها
فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار
فإن قيل: فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده؟
قلنا: كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها مسألة هل يكذب العدد الكامل العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم لأنه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان أحدهما كمال العدد والثاني أن يخبروا عن يقين ومشاهدة فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم(30/220)
ص -261-…لفوات الشرط الثاني فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله إني شاهدت ذلك بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا لأنهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة
وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الأربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما
فإن قيل :فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب بحيث ينكتم ذلك على جميعهم ولا يتحدث به واحد منهم فعلى ماذا يحمل كذبهم؟ وكيف يتصور ذلك
قلنا: إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع الانكتام فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال
ونقل الشيعة نص الإمامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لأنهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم ويكون هذا منشأ غلطهم(30/221)
ص -262-…خاتمة لهذا الباب
في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم وهي خمسة :
الأول: شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد
وهذا فاسد فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم مع أنهم يحويهم مسجد فضلا عن بلد وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حصل العلم وقد حواهم بلد
الثاني: شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد
وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الأخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة ؟بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر؟
فإن قيل: فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه
قلنا: لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا { وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ }[النساء: من الآية157]
فإن قيل: فهل يتصور التشبيه في المحسوس؟فإن تصور فليشك كل واحد(30/222)
ص -263-…منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له ؟
قلنا: إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس وذلك زمان النبوة لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا
فإن قيل: خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للأولياء فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه فلنشك لإمكان ذلك
قلنا: إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة وإن كان قادرا عليها
الثالث: شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين.
وهو فاسد إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم
الرابع: شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الإخبار.
وهو فاسد لأنهم إن حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الإخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الإخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم
فإن قيل: هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه؟
قلنا: أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا وذلك غير محال عندنا فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد(30/223)
ص -264-…أن لا يحصل العلم
الخامس: شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين
وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى أخبار غيره؟ ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وأن لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم.
الباب الثالث في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه
وهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول :ما يجب تصديقه وهي سبعة
الأول: ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر فليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الأخبار إلا المتواتر وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر.
الثاني: ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه ويدل عليه دليلان أقواهما: إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى والثاني :أن كلامه تعالى قائم بنفسه ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل .(30/224)
ص -265-…على الله تعالى محال
الثالث: خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال
الرابع: ما أخبر عنه الأمة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم عن الكذب وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب
الخامس: كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الأمةأو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا
السادس: كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه لأنه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه ونعني به ما يتعلق بالدين
السابع: كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم :(30/225)
ص -266-…صدقت
فإن قيل: لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه؟
قلنا: إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم.
فإن قيل: وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق؟
قلنا: أحال القاضي رحمه الله ذلك وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر(30/226)
ص -267-…فإن قيل: خبر الواحد الذي عمل به الأمة هل يجب تصديقه؟
قلنا: إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه فلا يلزم الحكم بصدقه
فإن قيل: لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الأمة بالباطل وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمة
قلنا: الأمة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه وقد غلب على ظنهم كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا لأنه لم يؤمر إلا به.
القسم الثاني من الأخبار: ما يعلم كذبه وهي أربعة :
الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه.
الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة
الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع :ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملأ من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته.(30/227)
ص -268-…وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور ونصه على إمام بعينه على ملأ من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه
فإن قيل :فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه كإفراده الحج أو قرانه وكدخوله الكعبة وصلاته فيها وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام وأنه دخل مكة عنوة وقبوله شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال وانفراد الأعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد وهو من أعظم العلامات ونقلت الأمة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم كنقل القرآن في الشيوع ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام ونقلت الأمة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا
فكل هذا نقض على هذه القاعدة.
والجواب: أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الإفراد والقران جميعا(30/228)
وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله لأنه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الألوية والأعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة وكل ذلك غير مختلف فيه(30/229)
ص -269-…ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين ولسبب مخصوص.
وأما انفراد الأعرابي برؤية الهلال فممكن وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته فينفرد به من يتحد بصره وتصدق في الطلب رغبته ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق
وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام غافلون وإنما كان في لحظة فرآه من ناظره النبي من قريش ونبهه على النظر له وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر فلهذا لم يتواتر نقله
وأما نقلهم القرآن دون سائر الأعلام فذلك لأمرين أحدهما أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات
ولأن غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة وربما ظهر بين يدي نفر يسير والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى ويلقيه على(30/230)
ص -270-…كافتهم قصدا ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه .
وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله ولا إلى أحد من الصحابة
وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فا ندرس فيما بينهم
وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة
وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما(30/231)
ص -271-…القسم الثالث ما لا يعلم صدقه ولا كذبه.
فيجب التوقف فيه
وهو جملة الأخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه.
فإن قيل: عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه.
قلنا: ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لأنه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه لكان مقاوما لهذا الكلام وكيف يجوز ذلك ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه
وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة فإنا نقطع بكذبه لأن النبي هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا أنا لم نكلف تصديقه فلم يكن رسولا إلينا قطعا
أما خبر الواحد وشهادة الإثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا بقول شاهد واحد فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا
فإن قيل: إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والإشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به
قلنا: لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا وفرض من غاب العمل دون العلم ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول فلا نحيل شيئا من ذلك(30/232)
ص -272-…القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد
وفيه أبواب :
الباب الأول
في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم وفيه أربع مسائل :
مسألة:] هل خبر الواحد يفيد العلم؟ [:
اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد
وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة إنا لا نصدق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين ؟
وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن ولا تمسك لهم في قوله تعالى{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: من الآية10] وأنه أراد الظاهر لأن المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان دون الباطن الذي لم(30/233)
ص -273-…يكلف به والإيمان باللسان يسمى إيمانا مجازا .
ولا تمسك لهم في قوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الاسراء: من الآية36] وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به لأن المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق والظن حاصل قطعا ووجوب العمل عنده معلوم قطعا كالحكم بشهادة اثنين أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
مسألة: هل يتعبد بخبر الواحد؟ :
أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا فضلا عن وقوعه سمعا
فيقال لهم: من أين عرفتم استحالته ؟ أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه ؟ولا نزاع في الضرورة أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته لأنه لو كان محالا لكان يستحيل إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها فلا بد من بيان وجه المفسدة
فإن قيل: وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع وربما يكذب فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى ولا يكون بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه فلا يجوز الهجوم عليه بالشك فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون ؟
والجواب: أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال(30/234)
ص -274-…الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده فيكون الوجوب معلوما فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة ويقال له إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه ولكن بالعمل عند ظن صدقه وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب ولست متعبدا بالعلم بصدقه ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك
وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك
وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه خمسة
ثم الشهادة قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة موسى وهارون والأنبياء صلوات الله عليهم وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الأئمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد وعند الظن يجب العمل كما يجب عند المشاهدة فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العلم خاصة؟ ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا.
فإن قيل: فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق(30/235)
ص -275-…قلنا: قال قوم يجوز بشرط ظن الصدق وهذا الشرط عندنا فاسد بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة فتكليف العمل عند وجود الخبر شيء وكون الخبر صدقا أو كذبا شيء آخر
مسألة:هل يجب العمل بخبر الواحد ؟:
ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية
واستدلوا عليه بدليلين:
أحدهما: أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته وهذا ضعيف لأن المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب كما لو فقد خبر الواحد أيضا وأما الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به فليس تكليف الجميع واجبا نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في حقه
والدليل الثاني: إنهم قالوا صدق الراوي ممكن فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل
وهو باطل من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن كذبه ممكن فربما يكون عملنا بخلاف الواجب(30/236)
ص -276-…الثاني :أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق لأن صدقه ممكن.
الثالث: هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به
مسألة: هل يتعبد بخبر الواحد :
الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا.
وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا
ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان: أحدهما: إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والثاني:تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين.
المسلك الأول: ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها ونحن نشير إلى بعضها.
فمنها ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين يعني ضرتين.(30/237)
ص -277-…فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله بغرة عبد أو وليدة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا أي لم نقض بالغرة أصلا وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته
ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك
ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار عنه في قصة المجوس أنه قال ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم
ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله فاغتسلنا
ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها
ومنها ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره أحلفته فإذا حلف(30/238)
ص -278-…صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال قال رسول الله ما من عبد يصيب ذنبا الحديث فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق
ومنها ما روي عنزيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك فقيل له إن ابن عباس سأل فلانة الأنصارية
هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت ورجع إلى موافقته بخبر الأنصارية
ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر إذا أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت ومنها ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة فانحرفوا إلى الكعبة بخبره
ومنها ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر(30/239)
ص -279-…إلى التكذيب بأصله والقطع بذلك لأجل خبر أبي بن كعب
ومنها أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية إني لا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا
ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي
وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وكذلك كان حال طاوس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف فيثبت حديثه سنة ويقول حدثني أبو هريرة وعروة بن الزبير يقول حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه(30/240)
ص -280-…لأجل ذلك وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام
وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به
فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف وإنما الخلاف حدث بعدهم فإن قيل لعلهم عملوا بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها
قلنا :لأنهم لم ينقل عنهم لفظ إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم وقد قالوا هاهنا لولا هذا لقضينا بغير هذا وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها
كيف وصيغة العموم والأمر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر ؟أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه ؟فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة
وبالجملة فمناشدتهم في طلب الأخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها(30/241)
ص -281-…فإن قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا
قلنا :ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة لاطلاعهم على نسخها أو فوات الأمر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به
الدليل الثاني: ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع
فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع وإنفاذه سورة براءة مع علي وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها
ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه حتى بلغه أن قريشا قتلته فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا
ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم(30/242)
ص -282-…ممن يطول ذكرهم
وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير وذلك وهم باطل قطعا
فإن قيل: كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها
قلنا: ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد ؟ ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع
فإن قيل :فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة بل أصل الدعوة والرسالةوالمعجزة
قلنا: أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله لأنهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة وأما أصل والرسالة والإيمان وأعلام النبوة فلا إذ كيف يقول رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته أما بعد التصديق به فيمكن الإصغاء إلى رسله بإيجابه الإصغاء إليهم
فإن قيل: فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به كما دل الإجماع والتواتر عندكم فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا؟
قلنا: قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة(30/243)
ص -283-…والرسل آحادا كسائر الأكابر والرؤساء ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك أن يجادل فيه إذ عرض له شك ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا ولكن بقرائن الأحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك
الدليل الثالث: إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يخبر عن ظنه فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي بل الغلط على الراوي أبعد لأن كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يقصر في إتمام النظر وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لأنه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره
فإن قيل: هذا قياس لا يفيد إلا الظن ولا يجوز إثبات الأصول بالظن والقياس والعمل بخبر الواحد أصل كيف ولا ينقدح وجه الظن فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك فهو مضطر إلى تقليد المفتي
قلنا :لا ضرورة في ذلك بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية إذ لا طريق له إلى المعرفة كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر
ثم نقول: ليس هذا قياسا مظنونا بل هو مقطوع به بأنه في معناه لأنه لو(30/244)
ص -284-…صح العمل بخبر الواحد في الأنكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الأمر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه والراوي عن قول غيره كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما
الدليل الرابع قوله تعالى { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [التوبة: من الآية122] فالطائفة نفر يسير كالثلاثة ولا يحصل العلم بقولهم
وهذا فيه نظر لأنه إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها
وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: من الآية159] وبقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما(30/245)
ص -285-…ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان:
الشبهة الأولى :قولهم لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع فكيف يدعي ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل وسجد للسهو
ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة
ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك؟(30/246)
ص -286-…ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه
ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث
ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم(30/247)
ص -287-…وأمثال ذلك مما يكثر
وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر
لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل
ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
الثاني: أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث: أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد
والأقوى ما ذكرناه من قبل
نعم: لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فيلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان.
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكدا أو خلافه(30/248)
ص -288-…فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقف لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان معروفا بأنه كلف بأقاربه فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة
كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم(30/249)
ص -289-…وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه؟ بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت .
فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار
الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }] الاسراء: من الآية36[ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}] الأعراف من الآية:33[وقوله تعالى {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا }]يوسف: من الآية81[وقوله تعالى { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ }]الحجرات: من الآية6[والجهالة في قول العدل حاصلة
وهذا باطل من أوجه:
الأول: أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع بل يجوز الخطأ فيه فهو إذا حكم بغير علم الثاني: أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه
الثالث :إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول.
الرابع: إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين فكما علم بالنص في القرآن(30/250)
ص -290-…وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب فكذلك بالإخبار.
الخامس: أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة لأنا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء.
الباب الثاني: في شروط الراوي وصفته
وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول.
وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول العدل وربما كان كاذبا أو غالطا ولا يجوز قبول قول الفاسق وربما كان صادقا بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به
والمقبول :رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط منفردا كان بروايته أو معه غيره.
فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها.
الأول: أن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية(30/251)
ص -291-…كل واحد إلا من رجلين آخرين وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا
وقال قوم :لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا
ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول إذا ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص ولا سبيل إلى دعوى النص وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لأسباب ذكرناها أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم فهو خارج عن الحصر فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد
وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة واشترط في أخبار الزنا أربعة وفيما يتعلق برؤية الهلال وشهادة القابلة واحد والمصير إلى ذلك خرق للإجماع ولا فرق إن وجب القياس
الشرط الثاني: وهو الأول تحقيقا فإن العدد ليس عندنا من الشروط وهو التكليف فلا تقبل رواية الصبي لأنه لا يخاف الله تعالى فلا وازع له من الكذب فلا تحصل الثقة بقوله وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن والفاسق أوثق من الصبي فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من(30/252)
ص -292-…دينه وعقله والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا فهو مردود بطريق الأولى
والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى فإن هذا يبطل بالعبد فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه
أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل بالغا عند الرواية فإنه يقبل لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر
فإن قيل: فقد قال بعض العلماء تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم
قلنا: ذلك منه استدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل ولا وازع لهم فمن قضى به فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الأحوال فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة
الشرط الثالث: أن يكون ضابطا فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقا(30/253)
ص -293-…الشرط الرابع: أن يكون مسلما. ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل لأنه متهم في الدين وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة ولا يخالف في رد روايته والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة والكفر أعظم أنواع الفسق وقد قال تعالى { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا } ]الحجرات: من الآية6[لأن الفاسق متهم لجرأته على المعصية والكافر المترهب قد لا يتهم لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب
فإن قيل: هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه فما قولكم في الكافر المتأول وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع وإن كان فاسقا ببدعته لأنه متأول في فسقه
قلنا: في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي.
وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته لأن كل كافر متأول فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالإسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس
الشرط الخامس: العدالة قال الله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} ]الحجرات: من الآية6[ وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة
ماتحقق به العدالة :
والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة(30/254)
ص -294-…راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب
ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي
ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا
وبالجملة :كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرىء على الكذب بالأعراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح
والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع: أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض
ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان:
مسألة:تعريف العدالة :
قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل(30/255)
ص -295-…وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته وسريرته
ويدل على بطلان ما قالوه أمور:
الأول: أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق
الثاني: أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة العقوبات ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة(30/256)
ص -296-…في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط
الثالث: أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الرابع: أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل وهو مجهول عند القاضي فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا؟ وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه
فإن قيل: يلزمه ذكر شاهد الأصل فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته
قلنا: إذا كان حد العدالة هو الإسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق؟
ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ ولعل المروي له يعرف فسقه
الخامس: أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة وهم قد ردوا خبر المجهول فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت ؟ ورد علي خبر الأشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره فكانوا بين راد وساكت وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض(30/257)
ص -297-…السادس: ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف وصدق التقوى ممن كان ينفذه للأعمال وأداء الرسالة وإنما طلب الأشد التقوى لأنه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد قريبة من القطع والمسألة اجتهادية لا قطعية
شبه الخصوم الدالة عندهم على قبول رواية مجهول الحال
وهي أربع:
الأولى :أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام
قلنا: وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي وإما بالخبرة وإما بتزكية من عرف حاله فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده ؟
الثانية: أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والأعراب لأنهم لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام
قلنا: إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم وحيث جهلوا ردوا كرد قول الأشجعي وقول فاطمة بنت قيس
الثالثة :قولهم لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى فإن قلتم لا نقبل شهادته فهو بعيد وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب(30/258)
ص -298-…رده
قلنا: لا نسلم قبول روايته فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته والتقوى في القلب وأصله الخوف وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته وبين من قسا قلبه بطول الألف
فإن قيل إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد بل يستدل عليه بما ليس بقاطع بل هو مغلب على الظن فأصل ذلك الخوف هو الإيمان فذلك يدل على الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به
قلنا: لا يدل عليه فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا
ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه؟
الرابعة: قولهم: يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطء بقوله وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الإسلام وكذلك قول من يخبر الأعمى عن القبلة(30/259)
ص -299-…قلنا: أما قول العاقد فمقبول لا لكونه مجهولا لكنه مع ظهور الفسق وذلك رخصة لكثرة الفساق ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر فلا يشترط الستر أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله والمجهول لا تسكن النفس إليه بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع وخطرهما عام فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع
مسألة :هل تقبل شهادة الفاسق المتأول؟:
الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه اختلفوا في شهادته
وقد قال الشافعي أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة(30/260)
ص -300-…وقد قال الشافعي تقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب
واختار القاضي: أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لأنه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله ففسقه مضاعف وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه
ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لأنه نقصان منصب يسلب الأهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم وكلام الشافعي مشير إلى هذا وهو في محل الاجتهاد
فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية بل يوجبان التهمة ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الأهلية ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان والفسق موجب للرد للتهمة وهذا هو الأغلب على الظن عندنا
فإن قيل: هذا مشكل على الشافعي من وجهين:
أحدهما: أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الأهلية
الثاني أنه إن كان للتهمة فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل ؟
قلنا أما الأول :فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل"(30/261)
ص -301-…وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة كما شرط في الولي وكما شرط في الزنا زيادة عدد
وأما الثاني: فسببه أن الظنون تختلف وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص وهو العدالة فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي كما في العقوبات وكما في رد شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر فإنه قد يتهم وترد شهادته لأن الأبوة مظنة للتهمة فلا ينظر إلى الحال وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك
ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين وعلى قبول ذلك درج التابعون لأنهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق
فإن قيل: فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك ؟
قلنا: لا فإنا نعلم أن عليا والأئمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة فلعل فيهم من أضمر إنكارا لكن لم يرد على الإمام في محل الاجتهاد فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف(30/262)
ص -302-…الفتنة
فإن قيل: لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا.
قلنا: ليس كذلك فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا .
وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق للتهمة ولم يتهموا المتأول والله أعلم
خاتمة جامعة للرواية والشهادة
اعلم أن التكليف والإسلام والعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة فهذه أربعة.
أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية لأن الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويروي كل ولد عن والده .
والضرير الضابط للصوت تقبل روايته وإن لم تقبل شهادته إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها.
ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها سواء خالف ما رواه القياس أو وافق إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فلا يشترط إلا الحفظ ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الأحاديث بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا نعم إذا عارضه حديث العالم(30/263)
ص -303-…الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي
ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث أو بكثرة السهو فيه إذ تبطل الثقة بجميع ذلك أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد .
ولا يشترط كون الراوي معروف النسب بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه وإن لم يكن له نسب فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه .
رواية المجهول العين
ولو روى عن مجهول العين لم نقبله بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لأجل التردد
الباب الثالث في الجرح والتعديل
وفيه أربعة فصول
الأول: في عدد المزكى
وقد اختلفوا فيه فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح كما في مزكى الشاهد
وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى .(30/264)
ص -304-…وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية
وهذه مسألة فقهية والأظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية
فإن قيل: صح من الصحابة قبول رواية الواحد ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع
قلنا: نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث وكيف يزيد شرط الشيء على أصله والإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة ولم يقس عليه وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما تقبل روايتهما
وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للإطناب فيها في الأصول
الفصل الثاني: في ذكر سبب الجرح والتعديل
قال الشافعي: يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد
وقال قوم :مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فلا بد من ذكر سببه .
وقال قوم: لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين.
وقال القاضي :لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال؟
والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي فمن حصلت الثقة .(30/265)
ص -305-…ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه. ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به وعند ذلك نستفصله.
تعارض الجرح والتعديل
أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان فقال المعدل رأيته حيا بعده تعارضا
وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد
الفصل الثالث في نفس التزكية
وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته فهذه أربعة :
أعلاها: صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضا لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى
الثانية: أن يروي عنه خبرا وقد اختلفوا في كونه تعديلا والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فليس في روايته ما يصرح بالتعديل.
فإن قيل :لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين؟(30/266)
ص -306-…قلنا: لم نوجب على غيره العمل لكن قال: سمعت فلانا قال كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالثة :العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته.
فإن قيل: لعله ظن أن مجرد الإسلام مع عدم الفسق عدالة.
قلنا :هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول العمل كالقول وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة وهو بعيد.
فإن قيل :لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق.
قلنا: من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به كما لو عدل جريحا
الرابعة: أن يحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته بالقول.
أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لأسباب سوى الجرح كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق وهو غير مقبول عند الأكثرين؟
وبالجملة إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق(30/267)
ص -307-…الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم
والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ]آل عمران: من الآية110[وقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ]البقرة: من الآية143[وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }]الفتح: من الآية18[وقال عز وجل {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }]التوبة: من الآية100[وقد ذكر الله تعالى المهاجرين والأنصار في عدة مواضع وأحسن الثناء عليهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وقال صلى الله عليه وسلم"إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا"
فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، كفاية في القطع بعدالتهم.(30/268)
ص -308-…وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث.
وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء فلا بد من البحث.
وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الإمام الحق .
وقال قوم من سلف القدرية :يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين لأن فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه.
وقال قوم: نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد لأنه لم يتعين فسقه أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق
وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته
وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة بل قال قوم ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطىء معذور لا ترد شهادته.
وقال قوم: ليس ذلك مجتهدا فيه ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين والفاسق المتأول لا ترد روايته وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا.(30/269)
ص -309-…من هو الصحابي ؟ [
فإن قيل القرآن أثنى على الصحابة فمن الصحابة؟ من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته ؟وما حد طولها؟
قلنا: الإسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته.
ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي كثرت صحبتي ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب.
الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه
ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب.
فهي خمس مراتب:
الأول: وهي الأعلى قراءة الشيخ في معرض الأخبار ليروى عنه .
وذلك يسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول
الثانية :أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت فهو كقوله: هذا صحيح
فتجوز الرواية به، خلاف لبعض أهل الظاهر إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب(30/270)
ص -310-…إذا نطق بكونه صحيحا نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت
وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه أما قوله حدثنا مطلقا أو سمعت فلانا اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يجوز لأنه يشعر بالنطق لأن الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق وذلك منه كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه
الثالثة: الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله هذا مسموعي من فلان فلا تجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم لأن الرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف .
ثم الإجازة تسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا إجازة أما قوله حدثنا مطلقا جوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماع كلامه وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ.
الرابعة: المناولة وصورته أن يقول :خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد(30/271)
ص -311-…سمعته من فلان
ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة
كما يجوز رواية الحديث بالإجازة فيجب العمل به خلافا لبعض أهل الظاهر لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف
وقوله: هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه
وقولهم: إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك لكن أي حاجة إليه؟ ويلزم أن لا تصح القراءة عليه لأنه قادر على القراءة بنفسه ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ لأنه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية
الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه :إني سمعت على فلان كذا
فلا يجوز أن يروي عنه لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه(30/272)
ص -312-…هذا نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان فإن الخط أيضا قد يشبه الخط
أما إذا قال: هذا خطي قبل قوله ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث
أما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه
لكن هل يلزمه العمل ؟
إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن
وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء منه فليترك الرواية
ويتفرع عن هذا الأصل مسائل :
مسألة: الشك في الرواية:
إذا كان في مسموعاته عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من(30/273)
ص -313-…الزهري أم لا ؟لم يجز له أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري لأن قوله قال الزهري شهادة على الزهري فلا يجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد و عمرو فلا يجوز أن يشهد على زيد
بل نقول: لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته بل ليس له رواية شيء من الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه
الرواية بغلبة الظن :
ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن
وقال قوم: يجوز لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن.
وهو بعيد، لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن ولكن في حق الحاكم فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي.
فإن قيل: فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك.
قلنا: لا طريق له إلى تحقق ذلك ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره أو رواه في كتاب يعتمد عليه وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به لأنه مرسل لا يدري من أين(30/274)
ص -314-…يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم
مسألة :تكذيب الشيخ الراوي :
إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا لأن الجرح ربما لا يثبت بقول واحد ولأنه مكذب شيخه كما أن شيخه مكذب له وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين فلا يوجب الجرح.
أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال لست أذكره فيعمل بالخبر لأن الراوي جازم أنه سمعه منه وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان فصدقهما إذا ممكن.
وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل ولأنه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه، فكيف يعمل به؟
قلنا: للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به وعلى الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة ويحرم على الشاهد ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده والمجتهد لا يعمل(30/275)
ص -315-…به بعد التغير لأنه علمه فعمل كل واحد على حسب حاله .
وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين وهذا لأن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره؟ فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثرة وقوع الشك فيه فكذلك أصل الحديث
مسألة : هل تقبل زيادة الثقة بالحديث :
انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو من حيث المعنى لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة لأن العدل لا يتهم بما أمكن
فإن قيل: يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع
قلنا :تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد أو كرر في مجلس واحد وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة إلا واحدا أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش فغفل به البعض عن الإصغاء فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الإصغاء أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن(30/276)
ص -316-…مسألة: هل تقبل رواية بعض الخبر
رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه وأما إذا تعلق كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام فنقل البعض تحريف وتلبيس
أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك
مسألة : هل يصح رواية الحديث بالمعنى
نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ
أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه
وقال فريق: لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والإبصار بالإحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون.
ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد:(30/277)
ص -317-…يبلغونهم أوامره بلغتهم وكذلك من سمع شهادة الرسول فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى وهذا لأنا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم :"نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"
قلنا :هذا هو الحجة لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه فما لا يختلف الناس فيه من الألفاظ المترادفة فلا يمنع منه
وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد ونقل بألفاظ مختلفة فإنه روى رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي ورب حامل فقه لا فقه له وروى حامل فقه غير فقيه
وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم(30/278)
ص -318-…بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز
مسألة: هل يقبل الحديث المرسل أم لا ؟:
المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير ومردود عند الشافعي والقاضي وهو المختار
وصورته أن يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره أو قال من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة.
والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته ؟
فإن قيل: رواية العدل عنه تعديل
فالجواب من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى أو قالوا لا ندري فالراوي عنه ساكت عن تعديله ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولأن شهادة الفرع ليس تعديلا للأصل ما لم يصرح وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما(30/279)
ص -319-…لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول وإذا لم يجز أن يقال لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل لم يجز ذلك في الرواية ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما
فإن قيل: العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان بل بلغه بواسطة ومع الاحتمال يقبل ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل
قلنا: هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول والمرسل مروي عن مجهول فينبغي أن لا يقبل ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه وشحوا على القرطاس والوقت أن يضيعوه فأوجزوا وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل فلا يقبل
الجواب الثاني: أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله وإن سلم قبول التعديل المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه ولا يعرف بفسق أما من لم نعرف عينه فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا ما لم يعرف الأصل ولم يعينه فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة وغيره
احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال حدثني به أسامة بن(30/280)
ص -320-…زيد
وروى أن رسول الله لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس
وروى ابن عمر عن النبي أنه قال: "من صلى على جنازة فله قيراط" ثم أسنده إلى أبي هريرة
وروى أبو هريرة أن من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال ما أنا قلتها ورب الكعبة ولكن محمدا قالها
فلما روجع قال حدثني به الفضل بن عباس وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله لكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابه ببعضه
أما التابعون فقد قال النخعي: إذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني وإذا قلت: قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد
وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذا صحيح ويدل على قبول بعضهم المراسيل ،والمسألة في(30/281)
ص -321-…محل الاجتهاد ولا يثبت فيها إجماع أصلا وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي .
فإن قيل: قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا.
قلنا: لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم لا سيما في محل الاجتهاد بل لعله سكت مضمرا للإنكار أو مترددا فيه
والجواب الثاني: أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين لأنهم يروون عن الصحابة ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله
والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعراب الذين لا صحبة لهم وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس .
مسألة: هل يقبل خبر الواحد :
خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي وبعض أصحاب الرأي لأن كل ما نقله العدل وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن فإنا لا نقطع بكذب ناقله بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض كقتل أمير في السوق وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك ويستحيل انكتامه وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى الله عليه وسلم تعبد بإشاعته واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لأنه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا فأما ما تعم به البلوى فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه(30/282)
ص -322-…فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكذبه ؟لأن خروج الخارج من السبيلين لما كان الإنسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا وكانت الطهارة تنتقض به فلا يحل لرسول الله أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الإشاعة في مثله ثم تتوفر الدواعي على نقله وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه ؟
قلنا: هذا يبطل أولا بالوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها وكل ذلك مما تعم به البلوى وقد أثبتوها بخبر الواحد
فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الأحداث فنقول فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الأحداث فقد يمضي على الإنسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق
والجواب الثاني: وهو التحقيق :أن الفصد والحجامة وإن كان لا يتكرر كل يوم ولكنه يكثر فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير؟ وإن لم يكن هو الأكثر فكيف وكل ذلك إلى الآحاد ولا سبب له إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض،(30/283)
ص -323-…وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه
وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها بل علته التعبد والتكليف من الله وإلا فما يحتاج إليه كثير كالفصد والحجامة كما يحتاج إليه الأكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى
فإن قيل: فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالإشاعة ؟
قلنا: إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء وإن أردتم وقوعه فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام:
الأول: القرآن وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته.
الثاني: مباني الإسلام الخمس ،ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص
الثالث: أصول المعاملات التي ليست ضرورية مثل أصل البيع والنكاح فإن ذلك أيضا قد تواتر بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم والحجة تقوم به لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم بل فرض العوام فيه القبول من العلماء
الرابع: تفاصيل هذه الأصول فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقيء وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع ومنه ما نقله الآحاد
ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا(30/284)
ص -324-…مانع فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالإشاعة وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالإشاعة لكن وقوع هذه الأمور يدل على أن التعبد وقع كذلك فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شيء من ذلك هذا تمام الكلام في الأخبار والله أعلم(30/285)
ص -325-…الأصل الثالث من أصول الأدلة الإجماع
وفيه أبواب:
الباب الأول: في إثبات كونه حجة على منكريه
ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا:
وبيان تصوره ثانيا
وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا
وبيان الدليل على كونه حجة رابعا
معنى الاجماع في الاصطلاح واللغة :
أما تفهيم لفظ الإجماع فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الأمور الدينية .
ومعناه في وضع اللغة: الاتفاق والإزماع وهو مشترك بينهما فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع والجماعة إذا اتفقوا يقال أجمعوا وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى وللاتفاق في غير أمر الدين لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه.
وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد وهو على خلاف اللغة والعرف لكنه سواه على مذهبه إذ لم ير الإجماع حجة وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع فقال هو كل قول قامت حجته .
أما الثاني: وهو تصوره فدليل تصوره وجوده فقد وجدنا الأمة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب وكيف يمتنع تصوره(30/286)
ص -326-…والأمة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة , ومعرضون للعقاب بمخالفتها؟ فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعي , فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار
فإن قيل : الأمة مع كثرتها , واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق , والعناد فيه :كيف تتفق آراؤها؟ فذلك محال منها ,كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد ؟
قلنا: لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة , ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق ,كيف وقد تصور إطباق اليهود , مع كثرتهم , على الباطل ؟ فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق ؟والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الأشباه والدواعي والصوارف ,. ومستند الإجماع في الأكثر نصوص متواترة, وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال , والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد .
نعم هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس ؟ ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله .
أما الثالث: وهو تصور الاطلاع على الإجماع ، فقد قال قوم : لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الأقطار ؟
فنقول : يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم . وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة ، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم ، كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي ، وبطلان النكاح بلا ولي ، ومذهب جميع النصارى التثليث ، ومذهب جميع المجوس التثنية .
فإن قيل : مذهب أصحاب الشافعي ، وأبي حنيفة ، مستند إلى قائل واحد ،(30/287)
ص -327-…وهو الشافعي ، وأبو حنيفة ، وقول الواحد يمكن أن يعلم ، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام . أما قول جماعة لا ينحصرون :كيف يعلم ؟
قلنا وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه ، ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد ، فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين .
فإن قيل : لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم ؟
قلنا: تجب مراجعته .ومذهب الأسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته ، فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع .
فإن قيل : فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده .
قلنا : لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع ، فإنه يكون محجوجا به. ولا يتصور رجوع جميعهم. إذ يصير أحد الإجماعين خطأ ، وذلك ممتنع ، بدليل السمع .
[حجية الإجماع]:
أما الرابع : وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الأمة ، وفيه الشأن كله ، وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل .
أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به .(30/288)
ص -328-…وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة ونحن نذكر المسالك الثلاثة :
المسلك الأول التمسك .بالكتاب .
وذلك قوله تعالى :{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143]وقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }[ آل عمران 110] وقوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] وقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}]آل عمران: من الآية103[وقوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: من الآية10] ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق وقوله عز وجل : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: من الآية59 ] مفهومه إن اتفقتهم فهو حق .
فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض .بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر
وأقواها قوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا}[النساء 115]فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين وهذا ما تمسك به الشافعي .
وقد أطنبنا في كتاب "تهذيب الأصول " في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها .(30/289)
والذي نراه أن الآية ليست نصا في الغرض بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل ولم يجعل ذلك رفعا للنص كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم(30/290)
ص -329-…المسلك الثاني: وهو الأقوى
التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على الخطأ " وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر كالكتاب والكتاب متواتر لكن ليس بنص
فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم " لا تجتمع أمتي على الضلالة ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " وقوله صلى الله عليه وسلم : "يد الله مع الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا(30/291)
ص -330-…تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله" و"لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم" وروي "لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء" ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" ،"ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية"
وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها بل هي مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه
فإن قيل: فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الأخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم ؟
قلنا :في تقرير وجه الحجة طريقان :
أحدهما: أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه(30/292)
ص -331-…الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة وإن لم تتواتر آحادها وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي وسخاوة حاتم وفقه الشافعي وخطابة الحجاج وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم وإن لم تكن آحاد الأخبار فيها متواترة بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه ولا يجوز على المجموع وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري .
الطريق الثاني: أن لا ندعي علم الاضطرار بل علم الاستدلال من وجهين الأول أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام ويستحيل في مستقر العادة توافق الأمم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه .
الوجه الثاني: أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو(30/293)
ص -332-…الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة وكيف تذهل عنه جميع الأمة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له ؟ هذا وجه الاستدلال .
[مناقشة المنكرين للأدلة المثبتة للإجماع]:
وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات : الرد والتأويل والمعارضة .
المقام الأول : في الرد :
وفيه أربعة أسئلة :
السؤال الأول : قولهم : لعل واحدا خالف هذه الأخبار وردها ولم ينقل إلينا؟
قلنا :هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين فلو خالف فيه مخالف لعظم الأمر فيه واشتهر الخلاف إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر(30/294)
ص -333-…الصحابة والتابعين ؟هذا مما لا يتسع له عقل أصلا .
السؤال الثاني : قالوا : قد استدللتم بالخبر على الإجماع ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر فهب أنهم أجمعوا على الصحة فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه ؟
قلنا : لا بل استدللنا على الإجماع بالخبر وعلى صحة الخبر بخلو الإعصار عن المدافعة والمخالفة له مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به لا بالإجماع والعادة أصل يستفاد منها معارف فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها وبها يعلم بطلان دعوى نص الإمامة وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه
السؤال الثالث : قالوا : بم تنكرون على من يقول : لعلهم أثبتوا الإجماع لا بهذه الأخبار بل بدليل آخر.
قلنا : قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الأخبار في المنع من مخالفة الجماعة ، وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها . وهذا أولى من أن يقال : لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات.
السؤال الرابع : قولهم : لما علمت الصحابة صحة هذه الأخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم؟
قلنا : لأنهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الأمة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الأمة وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها(30/295)
ص -334-…العبارات ، ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به و[لا]يقع التسليم في العادة به فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية
المقام الثاني: في التأويل:
ولهم تأويلات ثلاثة:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبىء عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة وقوله على الخطأ لم يتواتر وإن صح فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر.
قلنا: الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر قال الله تعالى{وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}]الضحى:7[وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}]الشعراء: من الآية20[وما أراد من الكافرين بل أراد من المخطئين يقال ضل فلان عن الطريق وضل سعي فلان كل ذلك الخطأ كيف وقد فهم ضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام لأنهم ماتوا على الحق وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا فأي خاصية للأمة فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة عن الخطأ في الدين أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة(30/296)
ص -335-…فالعموم يقتضي العصمة للأمة عنه أيضا ولكن ذلك مشكوك فيه وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه كما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال "أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم".
التأويل الثاني: قولهم غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس .
قلنا: لا ذاهب من الأمة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شيء دل على تجويزه في شيء آخر وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص وقد ذم من خالف الجماعة وأمر بالموافقة فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا وبه ثبتت فضيلة الأمة وشرفها فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر فضلا عن المسلم إذ ما من شخص يخطىء في كل شيء بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الأشياء.
التأويل الثالث: أن أمته صلى الله عليه وسلم كل من آمن به إلى يوم القيامة فجملة هؤلاء من أول الإسلام إلى آخر عمر الدنيا لا يجتمعون على خطأ بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الأعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق إذ الأمة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الأمة وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الأمة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع وقبلنا: من الأمة من خالف وإن كان قد مات فكذلك إذا لم يوافقوا.
قلنا: كما لا يجوز أن يراد بالأمة المجانين والأطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الأمة فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد بل(30/297)
ص -336-…الذي يفهم: قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم والميت والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة وذم من شذ عن الموافقة فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته في الدنيا وذلك هم الموجودن في كل عصر أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى .
المقام الثالث المعارضة بالآيات والأخبار:
أما الآيات: فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل فهو عام مع الجميع فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه ؟كقوله تعالى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}] الأعراف: من الآية33[ {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ }]البقرة: من الآية217[) {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }]البقرة: من الآية188[وأمثال ذلك.
قلنا: ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع بل نهي للآحاد وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }]الزمر: من الآية65[ وقال{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}]الأنعام: من الآية35[وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع .
وأما الأخبار فقوله عليه السلام :"بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ". وقوله عليه السلام:" خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف ويشهد وما(30/298)
ص -337-…يستشهد" وكقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي"
قلنا: هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق ولا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الأخبار في الصحة والظهور مجرى الأحاديث التي تمسكنا بها؟
المسلك الثالث التمسك بالطريق المعنوي:
وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك وإلى أن القطع بغير دليل قاطع خطأ فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شيء أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالإنكار وهو قطع في غير محل القطع فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع
وعلى مساق هذا قالوا لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر فلا يستحيل عليهم الخطأ في العادة ولا تعمد الكذب لباعث عليه فلا حجة فيه(30/299)
ص -338-…وهذه الطريقة ضعيفة عندنا لأن منشأ الخطأ إما تعمد الكذب وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا والأول غير جائز على عدد التواتر وأما الثاني فجائز فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام وهم أكثر من عدد التواتر وهو قطع في غير محل القطع لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الأمة وقد أجمعوا على بطلان دين الإسلام
فإن قيل: هذا تمسك بالعادة وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول.
قلنا: العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا وعن هذا قلنا شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة فمنهاجه واحد ويتفق الناس على دركه والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر وما هو نظري فطرقه مختلفة فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه فهذا هو الفرق بين المسلكين.
فإن قيل: اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ فما الدليل على وجوب اتباعه ؟وكل مجتهد مصيب للحق ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه والشاهد المزور مبطل ويجب على القاضي اتباعه فوجوب الاتباع شيء وكون الشيء حقا غيره.
قلنا: أجمعت الأمة على وجوب اتباع الإجماع وأنه من الحق الذي يجب اتباعه وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع.
ثم نقول: كل حق علم كونه حقا فالأصل فيه وجوب الاتباع(30/300)
ص -339-…والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الأمة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع وإلا فلا يبقى له معنى إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين فليس فيه مدح وتخصيص البتة(30/301)
ص -340-…الباب الثاني في بيان أركان الإجماع
وله ركنان :المجمعون، ونفس الإجماع .
الركن الأول المجمعون
وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا يتناول كل مسلم لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والإثبات وأوساط متشابهة:
أما الواضح في الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا ولا بد من موافقته في الإجماع .
وأما الواضح في النفي فالأطفال والمجانين والأجنة فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تجتمع أمتي على الخطأ" إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها.
وبين الدرجتين العوام المكلفون والفقيه الذي ليس بأصولي والأصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشىء من التابعين مثلا إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة.
فنرسم في كل واحد مسألة .
مسألة: إجماع أهل الحل والعقد؟:
يتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد(30/302)
ص -341-…فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا أصلا فهم موافقون أيضا فيه ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شيء يقال هذا باتفاق جميع الجند فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة.
فإن قيل: فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد فكيف خرج العامي من الأمة وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي ؟
قلنا: قد اختلف الناس فيه، فقال قوم: لا ينعقد لأنه من الأمة فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل وقال آخرون وهو الأصح إنه ينعقد بدليلين :
أحدهما: أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة لأهليته.
والثاني: وهو الأقوى: أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب أعني خواص الصحابة وعوامهم ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا.
ويدل على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا(30/303)
ص -342-…بغير علم وقوله تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }]النساء: من الآية83[ فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة كما يعصي من يخالف خبر الواحد ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل.
مسألة: يعتد بقول الأصولي والفقيه المبرز:
إذا قلنا: لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الأحكام.
فقال قوم: لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين ومنهم من ضم إلى الأئمة الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع الناهضين بها لكن أخرج الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها
والصحيح أن الأصولي العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم وصيغة الأمر والنهي والعموم وكيفية تفهيم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع والأصولي قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه .
آية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا وكيف لا وكانوا صالحين للإمامة العظمى ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى وما كانوا(30/304)
ص -343-…يحفظون الفروع؟ بل لم تكن الفروع موضوعة بعد لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض والوصايا فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق فلا يشترط حفظها فينبغي أن يعتد بخلاف الأصولي وبخلاف الفقيه المبرز لأنهما ذوا آلة على الجملة يقولان ما يقولان عن دليل
أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما لأنهما من العوام في حق هذا العلم إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام
فإن قيل: فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية؟
قلنا: هي اجتهادية ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء أما خلاف العوام فلا يقع ولو وقع فهو قول باللسان وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول فبطلان قوله مقطوع به كقول الصبي فأما هذا فليس كذلك
فإن قيل: فإذا قلد الأصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع ؟
قلنا: نعم لأنه لا مخالفة وقد وافق الأصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والأجسام والأعراض والضد والخلاف فهو صواب فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية كما يحصل من العوام لأن كل فريق كالعامي بالإضافة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما آخر
مسألة :عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق:
المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر.
فإن قيل: لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده؟(30/305)
ص -344-…قلنا: لعله يصدق ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته والمبتدع ثقة يقبل قوله فإنه ليس يدري أنه فاسق أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر نعم لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الأمة دونه لأن كونهم كل الأمة موقوف على إخراج هذا من الأمة والإخراج من الأمة موقوف على دليل التكفير فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره فيؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه
نعم: بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره فلا يلتفت إلى خلافه بعد الإسلام لأنه مسبوق بإجماع كل الأمة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الأمة دونه فصار كما لو خالف كافر كافة الأمة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع
فإن قيل: فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات ؟
قلنا: للمسألة صورتان:
إحداهما: أن يقول الفقهاء نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الأصول ويجب على العلماء تعريفهم فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة لأن دليله(30/306)
ص -345-…قاطع فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة
الصورة الثانية: أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته فترك الإجماع لمخالفته فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لأنه غير منسوب إلى تقصير بخلاف الصورة الأولى فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطىء لأن الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور وهو لا يعرف لأنه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره
فإن قيل: وما الذي يكفر به ؟
قلنا: الخطب في ذلك طويل وقد أشرنا إلى شيء منه في كتاب فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام:
الأول ما يكون نفس اعتقاده كفرا كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة
الثاني: ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله ويلزمه إنكار ذلك من
حيث التناقض.
الثالث: ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود(30/307)
ص -346-…للصنم وجحد سورة من القرآن وتكذيب بعض الرسل واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة وبالجملة :إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة
مسألة هل ينعقد إجماع غير الصحابة ؟
قال قوم: لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله .
وقال قوم: يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه.
وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع لأنه من الأمة فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الأمة بل إجماع البعض والحجة في إجماع الكل نعم لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع فليس له الآن أن يخالف كمن أسلم بعد تمام الإجماع.
ويدل عليه قوله تعالى{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }]الشورى: من الآية10[ وهذا مختلف فيه ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه فهو إجماع منهم على جواز الخلاف كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والأسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة وكذا الحسن البصري وسعيد بن المسيب فكيف لا يعتد بخلافهم؟!
وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الأنصار بقول المهاجرين وقول المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الأربعة وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
فإن قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة وقالت فروج يصقع مع الديكة(30/308)
ص -347-…قلنا: ما ذكرناه مقطوع به ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد وإن ثبت فهو مذهبها ولا حجة فيه ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي
واعلم: أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الأكثر بالأقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي
مسألة: هل ينعقد إجماع الأكثر أم لا؟:
الإجماع من الأكثر ليس بحجة مخالفة الأقل
وقال قوم: إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر اندفع الإجماع وإن نقص فلا يندفع
والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه وقد قال تعالى{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } ]الشورى: من الآية10 [
فإن قيل: قد تطلق الأمة ويراد بها الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ويراد الأكثر قلنا: من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع ولا يجوز التخصيص(30/309)
ص -348-…بالتحكم بل بدليل وضرورة ولا ضرورة ههنا ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الأقل وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ الأقلون وقال صلى الله عليه وسلم:" سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا" وقال تعالى { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ]العنكبوت: من الآية63[وقال تعالى:{ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}]سبأ: من الآية13[وقال تعالى { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ }]البقرة: من الآية249[وإذا لم يكن ضابط ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع
الدليل الثاني: إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره
فإن قيل: لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة وأن الربا في النسيئة وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة وأنكروا على أبي موسى الأشعري قوله النوم لا ينقض الوضوء وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر وذلك لانفرادهم به.(30/310)
ص -349-…قلنا: لا بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم
ثم نقول هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد
ولهم شبهتان:
الشبهة الأولى: قولهم قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر؟ وعن هذا قال قوم: عدد الأقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع.
وهذا فاسد من ثلاثة أوجه:
الأول: إن صدق الأكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الأمة واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع فسقطت الحجة لأنهم ليسوا كل الأمة.
الثاني: إن كذب الواحد ليس بمعلوم فلعله صادق فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا .
الثالث: إنه لا نظر إلى ما يضمرون بل التعبد متعلق بما يظهرون فهو مذهبهم وسبيلهم لا ما أضمروه .
فإن قيل: فهل يجوز أن تضمر الأمة خلاف ما تظهر ؟
قلنا :ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال لأنه يؤدي إلى اجتماع الأمة على ضلالة وباطل وهو ممتنع بدليل السمع .(30/311)
ص -350-…الشبهة الثانية: إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة وهو منهي عنه فقد ورد ذم الشاذ وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع.
قلنا: الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده وهو الشذوذ أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا .
فإن قيل: فقد قال عليه السلام:" عليكم بالسواد الأعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد" قلنا: أراد به الشاذ الخارج على الإمام بمخالفة الأكثر على وجه يثير الفتنة وقوله وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ولهذا قال عليه السلام والثلاثة ركب
وقد قال بعضهم: قول الأكثر حجة وليس بإجماع
وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه.
وقال بعضهم مرادي به أن اتباع الأكثر أولى
قلنا: هذا يستقيم في الأخبار وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين(30/312)
ص -351-…المجتهدين سوى الكثرة وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الأكثر لأنه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع .
مسألة: إجماع أهل المدينة عند مالك :
قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط
وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين: مكة والمدينة والمصرين: الكوفة والبصرة
وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون والعبرة بقول الأكثرين وقد أفسدناه أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة
وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله فالحجة في الإجماع ولا إجماع
وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الأصول ولا حاجة إليها هاهنا
وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم(30/313)
ص -352-…إجماع الخلفاء الأربعة :
وقد قال :قوم الحجة في اتفاق الخلفاء الأربعة
وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة وسيأتي في موضعه
مسألة: هل يشترط التواتر في الإجماع:
اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر.؟
أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة فيلزمه الاشتراط والذين أخذوه من السمع اختلفوا فمنهم من شرط ذلك لأنه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره
وهذا فاسد من وجهين أحدهما: أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم لكن بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال" فإذا لم يكن على وجه الأرض مسلم سواهم فهم على الحق .
الثاني: أنا لم نتعبد بالباطن وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا إذ لا وقوف على الباطن وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون لأن الله تعالى لا يتعبد نا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به
فإن قيل: كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف فإن التكليف يدوم بدوام الحجة والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة وعن وجود محمد صلى الله عليه وسلم وتحديه بالنبوة والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة بل يجتهدون في طمسها والسلف من الأئمة(30/314)
ص -353-…مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الأعلام وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها؟
قلنا: يحتمل أن يقال ذلك ممتنع لهذه الأدلة وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام ويحتمل أن يقال يتصور وقوعها والله تعالى يديم الأعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ووجود معجزته وإن لم يعترفوا بكونها معجزة أو يخرق الله تعالى العادة فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة بل نقول قول القليل مع القرائن المعلومة في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا
فإن قيل: فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد فلو رجع إلى واحد فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة ؟
قلنا: إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الأمة فيكون حجة إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الأمة على الضلالة والخطأ وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا ولا أقل من اثنين أو ثلاثة.
وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شيء من ذلك لأن الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر
مسألة: مذهب الظاهرية:
ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد(30/315)
ص -354-…الصحابة
وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة أعني الكتاب والسنة والعقل لا تفرق بين عصر وعصر فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة.
ولهم شبهتان:
أضعفهما: قولهم: الاعتماد على الخبر والآية وهو قوله تعالى{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}]النساء: من الآية115[يتناول الذين نعتوا بالإيمان وهم الموجودون وقت نزول الآية فإن المعدوم لا يوصف بالإيمان ولا يكون له سبيل وقوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على الخطأ" يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم وهم الموجودون .
وهذا باطل إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الأمة ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بالاتفاق وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية .
الشبهة الثانية: أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الأمة وليس التابعون جميع الأمة فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن(30/316)
ص -355-…الأمة ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الأمة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يدفع لأنهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الأمة
قالوا :وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة فإنهم كل الأمة لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الأمة للتابعين
والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة والتابعين ولا بعد أن استشهد حمزة وقد اعترفوا بصحة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لأن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الأمة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت
]هل ينعقد إجماع لاحق على خلاف قول سابق [:
وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة فقد قال قوم يصير قول الصحابي مهجورا لأنهم كل الأمة وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته لأنه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الأمة بل فتوى البعض.
فإن قيل: إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما وإن قال به صحابي قبلهم وإن لم يكونوا كل الأمة فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم ولا يحرم خلافهم إذ خلاف بعض الأمة ليس بحرام أما أن تكون(30/317)
ص -356-…كلية الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض وجمع بين النفي والإثبات.
قلنا: ليس بمتناقض لأن الكلية إنما تثبت بالإضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الأمة إذا أجمعوا فيها أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى وأجمع الباقون على خلافه لا يكون ذلك إجماعا من الأمة ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب وتكون الكلية حاصلة بالإضافة.
فإن قيل: إن كان في الأمة غائب لا ينعقد الإجماع دونه وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة ولا فتوى فيها لكن نقول لو كان حاضرا لكان له قول فيها فلا بد من موافقته فليكن الميت قبل التابعين كالغائب.
قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن الإجماع انعقد دونه ولو كان غائبا لم ينعقد لأن الغائب في الحال ذو مذهب ورأي بالقوة فتمكن موافقته ومخالفته فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه بخلاف الميت فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق لا بالقوة ولا بالفعل بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف.
فإن قيل: فما أجمع عليه التابعون يندفع بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل فإن لم ينقل فلعله خالف ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الأمة
قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه وهذا التحقيق وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة وإنما أظهر الموافقة لسبب ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل(30/318)
ص -357-…الموت وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر
فإن قيل: إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع.
قلنا: والأصل عدم خوضه في الواقعة وعدم الخلاف والوفاق جميعا ومع أن الأصل العدم فالاحتمال لا ينتفي وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك ولكن يقال لا يندفع الإجماع بكل شك.
فإن قيل: في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة وإنما الشك في دوامها وهاهنا الشك في أصل الإجماع لأن الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع.
قلنا: لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية وما ذكروه يضاهي قول القائل الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة فإنا لا(30/319)
ص -358-…نقول صار كلية الباقين مشكوكا فيها
هذا تمام الكلام في الركن الأول
الركن الثاني في نفس الإجماع
ونعني به: اتفاق فتاوى الأمة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض أفتوا عن اجتهاد أو عن نص مهما كانت الفتوى نطقا صريحا
وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد
فهذه ثلاث مسائل:
مسألة :الإجماع السكوتي
إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع ولا ينسب إلى ساكت قول
وقال قوم :إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع
وشرط قوم: انقراض العصر على السكوت
وقال قوم: هو حجة وليس بإجماع وقال قوم ليس بحجة ولا إجماع ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة .
والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة إلا إذا دلت قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا وجواز(30/320)
ص -359-…الأخذ به عند السكوت
والدليل عليه أن فتواه إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد والسكوت متردد فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب :
الأول: أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول ونحن لا نطلع عليه وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته.
الثاني أن يسكت لأنه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن هو موافقا عليه بل كان يعتقد خطأه.
الثالث: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار في المجتهدات أصلا ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده
الرابع :أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الإنكار ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه.
الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته
السادس: أن يسكت لأنه متوقف في المسألة لأنه بعد في مهلة النظر
السابع: أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار وأغناه عن الإظهار ثم يكون قد غلط فيه فترك الإنكار عن توهم إذا رأى الإنكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى وهو مخطىء في وهمه.(30/321)
ص -360-…فإن قيل: لو كان فيه خلاف لظهر ؟
قلنا: لو كان فيه وفاق لظهر فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر
أما من قال: هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو تحكم لأنه قول بعض الأمة والعصمة إنما تثبت للكل فقط فإن قيل: نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه فهو إجماع منهم على كونه حجة
قلنا: هذا إجماع غير مسلم بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة ويعلم المحصلون أن السكوت متردد وأن قول بعض الأمة لا حجة فيه
مسألة انعقاد الإجماع باتفاق الأمة
إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم عن الخطأ(30/322)
ص -361-…وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع
وهذا فاسد لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم وقد حصل قبل الموت فلا يزيده الموت تأكيدا وحجة الإجماع الآية والخبر وذلك لا يوجب اعتبار العصر
فإن قيل: ما داموا في الأحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة
قلنا: والكلام في رجوعهم فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم إذ يكون أحد الإجماعين خطأ وهو محال أما بعضهم فلا يحل له الرجوع لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع.
فإن قيل: كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع وإنما يتم بانقراض العصر؟
قلنا إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم والاتفاق قد حصل وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق
ثم نقول :كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة ولهذا قال بعضهم يكفي موت الأكثر وهو تحكم آخر لا مستند له
ثم نقول: هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز(30/323)
ص -362-…للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فيجوز لتابعي التابعين الخلاف وهذا خبط لا أصل له
ولهم شبه:
الشبهة الأولى: قولهم :إنه ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط فيتنبه له فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة؟
قلنا: وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الأمة؟
وأما إذا رجع وقال: تبينت أني غلطت فنقول إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت وأما ما قلته في موافقة الأمة فلا يحتمل الخطأ
فإن قال :تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا وقد انكشف لي خلافه قطعا
فنقول: إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة بل موافقة الأمة تدل على أن الحكم حق وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا
الشبهة الثانية: إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم
قلنا: لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الأمة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع
الشبهة الثالثة :أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته والباقون هم كل الأمة لكنهم في بعض العصر فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف.
قلنا: قال قوم: يبطل مذهبه ويصير مهجروا لأن الباقين هم كل الأمة في(30/324)
ص -363-…ذلك الوقت
وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح أنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته وليس هذا للعصر فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه لأنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى هذه المسألة
الشبهة الرابعة: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد وأنا الآن أرى بيعهن فقال عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة
قلنا: لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده كيف ولم(30/325)
ص -364-…يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال وأما قول عبيدة رأيك في الجماعة ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا وإنما أراد به أن رأيك في زمان الألفة والجماعة والاتفاق والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه.
مسألة كيفية انعقاد الإجماع
يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة
وقال قوم: الخلق الكثير لا يتصور اتفاقهم في مظنة الظن ولو تصور لكان حجة وإليه ذهب ابن جرير الطبري
وقال قوم: هو متصور وليس بحجة لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه
والمختار أنه متصور وأنه حجة وقولهم أن الخلق الكثير كيف يتفقون على حكم واحد في مظنة الظن؟
قلنا: هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال وأما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في الاسكار فهو في معناه في التحريم؟ كيف وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد صحت عند المحدثين والاحتمال يتطرق إليها ؟كيف وقد أجمعوا على التوحيد والنبوة وفيهما من الشبهة ما هو أعظم جذبا لأكثر الطباع من الاحتمال الذي في مقابلة الظن الأظهر؟ وقد أجمعت على إبطال النبوة مذاهب باطلة ليس لها دليل قطعي ولا ظني فكيف لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب؟(30/326)
ص -365-…ويدل عليه جواز الاتفاق عن اجتهاد لا بطريق القياس كالاتفاق على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية وتقدير النفقة وعدالة الأئمة والقضاة وكل ذلك مظنون وإن لم يكن قياسا
ولهم شبه:
الأولى: قولهم كيف تتفق الأمة على اختلاف طباعها وتفاوت أفهامها في الذكاء والبلادة على مظنون ؟
قلنا: إنما يمتنع مثل هذا الاتفاق في زمان واحد وساعة معينة لأنهم في مهلة النظر قد يختلفون أما في أزمنة متمادية فلا يبعد أن يسبق الأذكياء إلى الدلالة الظاهرة ويقررون ذلك عند ذوي البلادة فيقبلونه منهم ويساعدون عليه وأهل هذا المذهب قد جوزوا الإجماع على نفي القياس وإبطاله مع ظهور أدلة صحته فكيف يمتنع الإجماع على هذا ؟
الشبهة الثانية: قولهم :كيف تجتمع الأمة على قياس وأصل القياس مختلف فيه؟
قلنا: إنما يفرض ذلك من الصحابة وهم متفقون عليه والخلاف حدث بعدهم وإن فرض بعد حدوث الخلاف فيستند القائلون بالقياس إلى القياس والمنكرون له إلى اجتهاد ظنوا أنه ليس بقياس وهو على التحقيق قياس إذ قد يتوهم غير العموم عموما وغير الأمر أمرا وغير القياس قياسا وكذا عكسه
الشبهة الثالثة: قولهم: إن الخطأ في الاجتهاد جائز فكيف تجتمع الأمة على ما يجوز فيه الخطأ ؟ وربما قالوا :الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن قياس لحرمت المخالفة التي هي جائز بالإجماع ولتناقض الإجماعان
قلنا: إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد أما اجتهاد الأمة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه فإنه لا يجوز(30/327)
ص -366-…خلافه لثبوت عصمته فكذا عصمة الأمة من غير فرق
الباب الثالث في حكم الإجماع
وحكمه وجوب الاتباع وتحريم المخالفة والامتناع عن كل ما ينسب الأمة إلى تضييع الحق
والنظر فيما هو خرق ومخالفة وما ليس بمخالفة يتهذب برسم مسائل:
مسألة: الإجماع على رأيين
إذا اجتمعت الأمة في المسألة على قولين كحكمهم مثلا في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر وذهب بعضهم إلى منع الرد فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير إلا عند شذوذ من أهل الظاهر
والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانا لأن الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة وإنما نقل فيها مذهب بعضهم فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث(30/328)
ص -367-…ودليله أنه يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق إذ لا بد لمذهب الثالث من دليل ولا بد من نسبة الأمة إلى تضييعه والغفلة عنه وذلك محال
ولهم شبه:
الشبهة الأولى: قولهم إنهم خاضوا خوض مجتهدين ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث
قلنا: وإذا اتفقوا على قول واحد عن اجتهاد فهو كذلك ولم يجز خلافهم لأنه يوجب نسبتهم إلى تضييح الحق والغفلة عن دليله فكذلك هاهنا
الشبهة الثانية: قولهم إنه لو استدل الصحابة بدليل أو علة لجاز الاستدلال بعلة أخرى لأنهم لم يصرحوا ببطلانها فكذلك القول الثالث لم يصرحوا ببطلانه
قلنا فليجز خلافهم إذا اتفقوا عن اجتهاد إذ يجوز التعليل بعلة أخرى فيما اتفقوا عليه لكن الجواب أنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد فليس في إحداث علة أخرى واستنباطها نسبة إلى تضييع الحق وفي مخالفتهم في الحكم إذا اتفقوا نسبة إلى التضييع فكذلك إذا اختلفوا على قولين
الشبهة الثالثة: إنه لو ذهب بعض الصحابة إلى أن اللمس والمس ينقضان الوضوء وبعضهم إلى أنهما لا ينقضان الوضوء ولم يفرق واحد بينهما فقال تابعي ينقض أحدهما دون الآخر كان هذا جائزا وإن كان قولا ثالثا
قلنا:لأن حكمه في كل مسألة يوافق مذهب طائفة وليس في المسألتين حكم واحد وليست التسوية مقصودة ولو قصدوها وقالوا لا فرق واتفقوا عليه لم يجز الفرق وإذا فرقوا بين المسألتين واتفقوا على الفرق قصدا امتنع الجمع
أما إذا لم يجمعوا ولم يفرقوا فلا يلتئم حكم واحد من مسألتين بل نقول صريحا لا يخلو إنسان عن معصية وخطأ في مسألة فالأمة مجتمعة على المعصية والخطأ وكل ذلك ليس بمحال إنما يستحيل الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا يقوم به طائفة مع قوله عليه السلام "لا تزال طائفة من أمتي(30/329)
ص -368-…على الحق "
فلهذا نقول: يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فرقتين وتخطىء فرقة في مسألة والفرقة الأخرى تقوم بالحق فيها والقائمون بالحق يخطئون في المسألة الأخرى ويقوم بالحق فيها المخطئون في المسألة الأولى حتى يقول مثلا أحد شطري الأمة القياس ليس بحجة والخوارج مبطلون ويقول فريق آخر القياس حجة والخوارج محقون فيشملهم الخطأ ولكن في مسألتين فلا يكون الحق في مسألتين مضيعا بين الأمة في كل واحد منهما
الشبهة الرابعة: إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام قولا ثالثا ولم ينكر عليه منكر
قلنا: لم يثبت استقرار كافة الصحابة على رأيين في مسألة الحرام بل ربما كان بعضهم فيها في مهلة النظر أو لم يخض فيها أو لعل مسروقا خالف الصحابة في ذلك الوقت ولم ينطق بوفاقهم وكان أهلا للاجتهاد في وقت وقوع هذه المسألة كيف ولم يصح هذا عن مسروق إلا بإخبار الآحاد فلا يدفع بها ما ذكرنا
مسألة خلاف القليل للإجماع:
إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه فلو مات لم تصر المسألة إجماعا خلافا لبعضهم
ودليلنا أن المحرم مخالفة الأمة كافة ومن ذهب إلى مذهب الميت بعد عصره لا يمكن أن يقال مذهبه خلاف كافة الأمة لأن الميت من الأمة لا ينقطع مذهبه بموته ولذلك يقال فلان وافق الشافعي أو خالفه وذلك بعد موت الشافعي فمذهب الميت لا يصير مهجورا بموته ولو صار مهجورا لصار مذهب الجميع كالمنعدم عند موتهم حتى يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم(30/330)
ص -369-…فإن قيل: فلو مات في مهلة النظر وهو بعد متوقف فماذا تقولون فيه؟
قلنا: نقطع في طرفين واضحين: إحداهما: أن يموت قبل الخوض في المسألة وقبل أن تعرض عليه فالباقون بعده كل الأمة وإن خاض وأفتى فالباقون بعض الأمة وإن مات في مهلة النظر فهذا محتمل فإنه كما لم يخالفهم لم يوافقهم أيضا بل المتوقف مخالف للجازم لكنه بصدد الموافقة فهذه المسألة محتملة عندنا والله أعلم
مسألة: إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة
إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر القول الآخر مهجورا ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع خلافا للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من القدرية كالجبائي وابنه لأنه ليس مخالفا لجميع الأمة فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الأمة والتابعون في تلك المسألة بعض الأمة وإن كانوا كل الأمة فمذهبهم باختيار أحد القولين لايحرم القول الآخر فإن صرحوا بتحريم القول الآخر فنحن بين أمرين إما أن نقول هذا محال وقوعه لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين إذ مضت الصحابة مصرحة بتجويز الخلاف وهؤلاء اتفقوا على تحريم ما سوغوه وإما(30/331)
ص -370-…أن نقول أن ذلك ممكن ولكنهم بعض الأمة في هذه المسألة والمعصية من بعض الأمة جائزة وإن كانوا كل الأمة في كل مسألة لم يخض الصحابة فيها لكن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" إذ يكون الحق قد ضاع في هذا الزمان فلعل من يميل إلى هذا المذهب يجعل الحديث من أخبار الآحاد
فإن قيل: بم تنكرون على من يقول هذا إجماع يجب اتباعه وأما الصحابة فقد اتفقوا على قولين بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في أحدهما
قلنا: هذا تحكم واختراع عليهم فإنهم لم يشترطوا هذا الشرط والإجماع حجة قاطعة فلا يمكن الشرط في الحجة القاطعة إذ يتطرق الاحتمال إليه ويخرج عن كونه قاطعا ولو جاز هذا لجاز أن يقال إذا أجمعوا على قول واحد عن اجتهاد فقد اتفقوا بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في خلافه وقد مضت الصحابة متفقة على تسويغ كل واحد من القولين فلا يجوز خرق إجماعهم
مسألة الرجوع إلى أحد الرأيين
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر ويخلص من الأشكال أما نحن إذا لم نشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول هم بعض الأمة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة فيعظم الإشكال
وطرق الخلاص عنه خمسة
أحدها: أن نقول هذا محال وقوعه وهو كفرض إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه أو اتفاق التابعين على خلافه وهو محال(30/332)
ص -371-…وقوعه، لان الاجماع قد تم على تسويغ الخلاف ، فكيف يتصور إجماع بعده على خلافة ؟
والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما ظهر لهم دليل البطلان؟ وكيف يحجز على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه؟
قلنا:هذا استبعاد محض ونحن نحيل ذلك لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه وكيف يتصور رفعه ؟فإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر
ثم يبقى الإشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين
ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف وإلى أن الأئمة من قريش لأن كل فريق يؤثم مخالفه ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الأخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين
والمخلص الثاني: اشتراط انقراض العصر وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم.
والمخلص الثالث: اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق بدليل قاطع في أحد المذهبين .(30/333)
ص -372-…وهو مشكل لأنه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به وخرج عن كونه حجة فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع ومستندا إليه لا إلى الإجماع ولأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ لم يفرق بين إجماع وإجماع ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد وعند ذلك يناقض آخر كلامه أوله حيث قال اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد
المخلص الرابع: أن يقال النظر إلى الاتفاق الأخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد.
وهذا مشكل فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون ولو جاز هذا لجاز أن يقال الإجماع الثاني ليس بحجة بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف وهذا أولى لأنه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل.
المخلص الخامس: هذا وهو أن الأخير ليس بحجة ولا يحرم القول المهجور لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف فإذا تقدم لم يكن حجة .
وهذا أيضا مشكل لأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ يحسم باب الشرط ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان فيكون كل واحد من الإجماعين حجة ويتناقض.
فلعل الأولى الطريق الأول وهو أن هذا لا يتصور لأنه يؤدي إلى التناقض وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة وذلك مما يمتنع وقوعه(30/334)
ص -373-…بدليل السمع فكذلك هذا
فإن قيل: فإذا ذهب جميع الأمة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الأمة ؟وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للأمة؟ ومذهبكم يؤدي إلى هذه الإحالة عند سلوك الطريق الأول
قلنا لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا وسبيل قطعه أن يقال لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك ولكنا نقول يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته لكن لإفضائه إلى ما هو ممتنع سمعا والشيء تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد فإنه محال لا لذاته لكن لإفضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة وهو ممتنع سمعا والله أعلم
مسألة ظهور حديث يخالف إجماع الصحابة
فإن قال قائل: إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال لا سيما في حق من يذكره تحقيقا وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر
قلنا :عنه مخلصان:
أحدهما: أن هذا فرض محال فإن الله يعصم الأمة عن الإجماع على نقيض الخبر أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع
الثاني: أنا ننظر إلى أهل الإجماع فإن أصروا تبين أنه حق وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن أنه سمعه من(30/335)
ص -374-…الرسول صلى الله عليه وسلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع وإن لم ينكشف لنا فإن رجع الراوي كان مخطئا لأنه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ وكما لو تغير الاجتهاد أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد
فإن قيل فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال إذا أجمعت الأمة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف بل جاز لهم الرجوع فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا فإذا تغير تغير الفرض والكل حق لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد وهلا قلتم إن ذلك جائز لأنهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة
قلنا: ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده لا لأنه حق فقط لكن لأنه حق اجتمعت الأمة عليه وقد أجمعت الأمة على أن كل ما أجمعت الأمة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد
وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه ولا يجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط فكذلك هذا
فإن قيل: فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد؟(30/336)
ص -375-…قلنا يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك.
مسألة هل يثبت الإجماع بخبر الواحد
الإجماع لا يثبت بخبر الواحد خلافا لبعض الفقهاء والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرناه في نسخ القرآن بخبر الواحد لكن لم يرد
فإن قيل:فليثبت في حق وجوب العمل به إن لم يكن العمل به مخالفا لكتاب ولا سنة متواترة إذ الإجماع كالنص في وجوب العمل والعمل بما ينقله الراوي من النص واجب وإن لم يحصل القطع به لصحة النص فكذا الإجماع
قلنا: إنما يثبت العمل بخبر الواحد اقتداء بالصحابة وإجماعهم عليه وذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ما روي عن الأمة من اتفاق أو إجماع فلم يثبت فيه نقل وإجماع ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس ولم يثبت لنا صحة القياس في إثبات أصول الشريعة هذا هو الأظهر
ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة والله أعلم
مسألة: ليست من الإجماع :
الأخذ بالأقل الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع خلافا لبعض الفقهاء(30/337)
ص -376-…ومثاله إن الناس اختلفوا في دية اليهودي فقيل إنها مثل دية المسلم وقيل إنها مثل نصفها وقيل إنها ثلثها فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الأقل وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة ولا إجماع فيه بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للإجماع ولكان مذهبه باطلا على القطع لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه وبحث عن مدارك الأدلة فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل فهو تمسك بالاستصحاب ودليل العقل لا بدليل الإجماع كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى وهذا تمام الكلام في الإجماع الذي هو الأصل الثالث(30/338)
ص -377-…الأصل الرابع دليل العقل والاستصحاب
اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لأن نطقه بالإيجاب قاصر على الخمسة فبقي على النفي في حق السادسة وكأن السمع لم يرد
وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي
وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية
وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه
فإذا: النظر في الأحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها
أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي
فإن قيل: إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع فلا يكون انتفاء الحكم معلوما ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة(30/339)
ص -378-…قلنا: انتفاء الدليل السمعي قد يعلم وقد يظن فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال ولا على وجوب صلاة سادسة إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الأمة وهذا علم بعدم الدليل وليس هو عدم العلم بالدليل فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة والعلم بعدم الدليل حجة
أما الظن :فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والأضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد وهو غاية الواجب على المجتهد
فإن قيل: ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل أو يكون عليه دليل لم يبلغنا؟
قلنا: أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال لأنه تكليف بما لا يطاق ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود السمع وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا.
فإن قيل: فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل
قلنا هذا إنما يجوز للباحث المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدعي غلبة الظن أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت
فإن قيل: وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه؟
قلنا: يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها :
الأول ما ذكرناه(30/340)
ص -379-…والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ
أما العموم فهو دليل عند القائلين به وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ كما دل العقل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يرد سمع مغير
الثالث: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي
ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات ونفقات الأقارب عند تكرر الحاجات إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الأحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا إذا لم يمنع مانع فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابه
فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن(30/341)
ص -380-…انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب
الرابع: استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح
ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين:
مسألة استصحاب الإجماع
لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء
ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة
وهذا فاسد لأن هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال أنا ناف ولا دليل على النافي وأما أن يظن أنه أقام دليلا فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ فإنا نقول إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص وإن كان ذلك بإجماع فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم أما حال الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع لأن الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم(30/342)
ص -381-…الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الماء فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا
فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف والإجماع يضاده نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف بخلاف العموم والنص ودليل العقل فإن الخلاف لا يضاده فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه وسلم "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول أسلم شمول الصيغة لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها
فإن قيل: الإجماع المتقدم يحرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف؟
قلنا: هذا الخلاف غير محرم بالإجماع وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل
فإن قيل: فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه
قلنا: فلينظر في ذلك الدليل أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا؟ فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود
فإن قيل: بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود(30/343)
ص -382-…قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل كما أنه إذا ثبت موت زيد وثبت بناء دار أو بلد كان دوامه بنفسه لا بسبب
قلنا: هذا وهم باطل لأن كل ما ثبت جاز أن يدوم فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته كما إذا أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الأحوال أصلا فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود فيفتقر دوامها إلى دليل آخر
فإن قيل: ليس هو مأمورا بالشروع فقط بل بالشروع مع الإتمام
قلنا: نعم هو مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام مع العدم أما مع وجود فهو محل الخلاف فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالإتمام
فإن قيل: لأنه منهي عن إبطال العمل وفي استعمال الماء إبطال العمل(30/344)
ص -383-…قلنا: هذا الأمر إنجرار إلى ما جررناكم إليه وانقياد للحاجة إلى الدليل وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الأصولي
ثم هو ضعيف لأنه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل
فإن قيل: الأصل أنه لا يجب شيء بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين قلنا: هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين
ثم نقول :من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع فالمسائل فيه متعارضة وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ورضيعة بأجنبية وماء طاهر بماء نجس ومن نسي صلاة من خمس صلوات.
احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}]ابراهيم: من الآية10[ فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب ؟
قلنا :لأنهم لم يستصحبوا الإجماع بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان.(30/345)
ص -384-…مسألة النافي هل عليه دليل
اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل ؟
فقال قوم: لا دليل عليه
وقال قوم: لا بد من الدليل.
وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات.
فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات
والمختار: أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل والنفي فيه كالإثبات وتحقيقه أن يقال للنافي ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه أو أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة وإن قال أنا متيقن للنفي قيل يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل ولا تعد معرفة النفي ضرورة فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر فالتقليد لا يفيد العلم فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه فهذا أصل الدليل
ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي :
أحداهما :وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال .
والثاني: أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث إنه ليس بقديم وبدل قوله قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه
ولهم في المسألة شبهتان :
الشبهة الأولى: قولهم: أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لأنه ناف(30/346)
ص -385-…والجواب من أربعة أوجه:
الأول: أن ذلك ليس لكونه نافيا ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي بل ذلك بحكم الشرع لقوله البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره لأن الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه؟
بل المدعي أيضا لا دليل عليه لأن قول الشاهدين لا يحصل المعرفة بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي أما في الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم فليكن ذلك دليلا
والجواب الثاني: أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم من معرفته فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله فعند ذلك لا يطالب بالدليل وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه وعند ذلك يستوي الإثبات والنفي فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة ويعسر على غيره معرفته والعقليات مشتركة النفي منها والإثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والإثبات(30/347)
ص -386-…الثالث: أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة
وهذا ضعيف إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة فأي دلالة لها من حيث العقل لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق أو يقال كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الأحكام فهذا أيضا له وجه
الرابع :أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف لأن اليد تسقط دعوى المدعي شرعا وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها
الشبهة الثانية: وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة؟
فنقول :تعذره غير مسلم فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات:
أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا }]الانبياء: من الآية22[ومعلوم أنهما لم تفسدا فدل ذلك على نفي الثاني
ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم فإن كل إثبات له لوازم فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وكذلك المتحدي ليس نبيا إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح
الطريق الثاني: أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو(30/348)
ص -387-…دليل ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل فيدل ذلك على الانتفاء
وهذا فاسد فإنه ينقلب على النافي فيقال له لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل
ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب بأن يقول مثلا الأصل عدم إله ثان فمن ادعاه فعليه الدليل إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه كان ذلك تكليف محال فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الإله الثاني
وأما قولهم :لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين:
أحدهما أنه يجوز أن لا ينصب الله تعالى على بعض الأشياء دليلا ويستأثر بعلمه
الثاني: إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا ونحن لا نتنبه له ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الأنبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر بل الذي يقطع به أن الأنبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل بل بحاسة سادسة أو سابعة بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه ولا فينا قوة إدراكها بل لو لم يخلق لنا السمع لأنكرنا الأصوات ولم نفهمها ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لأنكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس لو خلقها لنا لأدركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية
أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صوم(30/349)
ص -388-…شوال وصلاة الضحى أو النص كقوله صلى الله عليه وسلم "لا زكاة في الحلى" و"لا زكاة في المعلوفة" أو من القياس كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه كقول الراوي لا زكاة في الرمان والبطيخ بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الإثبات فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل وهو دليل عند عدم ورود السمع وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع
فإن قيل: دليل العقل مشروط بانتفاء السمع وانتفاء السمع غير معلوم وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه فإن ذلك لا يعلم
قلنا: قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع والظن فيه كالعلم لأنه صادر عن اجتهاد إذ قد يقول لو كان لوجدته فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن كطالب المتاع في البيت إذا استقصى
فإن قيل: أليس للاستقصاء غاية محدودة بل للبحث بداية ووسط ونهاية فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير ؟
قلنا: مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت .(30/350)
ص -389-…فإن قيل: البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة فإن الكتاب وإن كان محصورا فالأخبار غير محصورة وربما كان راوي الحديث مجهولا
قلنا: إن كان ذلك في ابتداء الإسلام قبل انتشار الأخبار ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر وإن كان بعد أن رويت الأخبار وصنفت الصحاح فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف
وعلى الجملة فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع
هذا تمام الكلام في الأصل الرابع وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل(30/351)
ص -390-…خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها
وهو أيضا أربعة:
شرع من قبلنا
وقول الصحابي
والاستحسان
والاستصلاح
فهذه أيضا لا بد من شرحها(30/352)
ص -391-…الأصل الأول من الأصول الموهومة شرع من قبلنا من الأنبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه
ونقدم على هذا الأصل:
مسألة وهي أنه قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء؟
فمنهم من قال لم يكن متعبدا ومنهم من قال كان متعبدا ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام وقوم نسبوه إلى موسى وقوم إلى عيسى عليهما السلام .
والمختار أن جميع هذه الأقسام جائز عقلا لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له
فإن قيل: الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله
قلنا: هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه
وللمخالف شبهتان :
الأولي: أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى فكان هو داخلا تحت العموم
وهذا باطل من وجهين :أحدهما أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما(30/353)
ص -392-…عموم صيغة حتى ننظر في فحواه فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما
الثاني: أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها ولأجله بعث فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما
الثانية :من شبههم أنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة وذلك لا يرشد إليه العقل
قلنا: هذا فاسد من وجهين أحدهما أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن الثاني: أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع كما ترك أكل الضب عيافة والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله
ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله ؟
والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي(30/354)
ص -393-…أما الجواز العقلي: فهو حاصل إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة ولا يستحيل منه شيء لذاته ولا لمفسدة فيه
وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة ويلزمهم على هذا تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية ولم تشتمل الثانية على مزيد
فنقول: يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا كما قال تعالى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}]يّس: من الآية14[وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الإبصار بإحداهما .
ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى وهو تحكم
أما الوقوع السمعي: فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكية إذ لم ينسخ وجوب الإيمان وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق فإلى هذا يرجع الخلاف(30/355)
ص -394-…والمختار :أنه لم يتعبد بشريعة من قبله
ويدل عليه أربعة مسالك :
المسلك الأول :أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له بم تحكم ؟قال بالكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله وصوبه ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه
فإن قيل: إنما لم يذكر التوراة والإنجيل لأن في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما
قلنا: سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات بل فيه قوله تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }]المائدة: من الآية48[وقال صلى الله عليه وسلم :"لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي"
ثم نقول: في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور
فإن قيل: اندرجت التوراة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم يعم كل كتاب
قلنا: إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شيء سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتمييز المحرف عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن ولو وجب ذلك لتعلمه جميع(30/356)
ص -395-…الصحابة لأنه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه وهو مدرك بعض الأحكام ولم يتعهد حفظ القرآن إلا لهذه العلة وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي
المسلك الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث ولكان يرجع أولا إليها لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة فلا تخلو التوراة عنها فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم
المسلك الثالث: أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام كما وجب عليهم المناشدة في نقل الأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء ودية الجنين وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان والكتب عنها
ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم(30/357)
ص -396-…كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب فكيف يحصل القياس قبل العلم ؟!
المسلك الرابع: إطباق الأمة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها ،ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع
إلا أن هذا ضعيف لأنه إضافة تحتمل المجاز وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه
أدلة القائلين بالأخذ بشرع من قبلنا
وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث:
الآية الأولى: أنه تعالى لما ذكر الأنبياء قال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ]الأنعام: من الآية90[
قلنا: أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين أحدهما أنه قال {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}]الأنعام: من الآية90[ولم يقل بهم وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم
الثاني: أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة؟ فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد
الآية الثانية:قوله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }]النحل: من الآية123[وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليه السلام(30/358)
ص -397-…وتعارضه الآية الأولى
ثم لا حجة فيها إذ قال: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله{ أَنِ اتَّبِعْ} أي افعل مثل فعله وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع ولذلك قال تعالى{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاًَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}]البقرة: من الآية130[ولا يجوز تسفيه الأنبياء المخالفين له
ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره
الآية الثالثة:قوله تعالى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}]الشورى: من الآية13[ وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام
وهو فاسد، إذا تعارضه الآيتان السابقتان.
ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الأنبياء وأشد الشرائع اندراسا كيف وقد قال تعالى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}]الشورى: من الآية13[ فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده
الآية الرابعة: قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}]المائدة: من الآية44[ المائدة الآية وهو أحد الأنبياء فليحكم بها
واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام
وتعارضه الآيات السابقة(30/359)
ص -398-…ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما يشترك فيه النبيون دون الأحكام المعرضة للنسخ
ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم
ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر فلا حجة فيه
ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام
الآية الخامسة قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ]المائدة: من الآية44[
قلنا: المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية
وأما الأحاديث :
فأولها: أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال "كتاب الله(30/360)
ص -399-…يقضي بالقصاص" وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى{ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ }]المائدة: من الآية45[ قلنا :بل فيه {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}]البقرة: من الآية194[فدخل السن تحت عمومه.
الحديث الثاني :قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وقرأ قوله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}]طه: من الآية14[ وهذا خطاب مع موسى عليه السلام
قلنا: ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للإيجاب لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله { لِذِكْرِي} أي لذكر إيجابي للصلاة ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب
الحديث الثالث: مراجعته صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين
وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الإنجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه والله أعلم(30/361)
ص -400-…الأصل الثاني من الأصول الموهومة قول الصحابي
وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي" وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا.
والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف وكيف يختلف المعصومان كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه
فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الإختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة
وللمخالف خمس شبه:
الشبهة الأولى: قولهم وإن لم تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمتهم لكن لزم اتباعه للتعبد به وقد قال صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"(30/362)
ص -401-…والجواب أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره ب صلى الله عليه وسلم ،تعريف درجة الفتوى لأصحابه حتى يلزم اتباعهم وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم بدليل أن الصحابي غير داخل فيه إذ له أن يخالف صحابيا آخر فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع ؟ فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم أو من يخير العامي في تقليد الأئمة من غير تعيين الأفضل
الشبهة الثانية: أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الأربعة لقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وظاهر قوله: عليكم للإيجاب وهو عام
قلنا: فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اتفق الخلفاء ولم يكن كذلك بل كانوا يخالفون وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء(30/363)
ص -402-…وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها
الشبهة الثالثة قولهم إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء فيجب اتباع أبي بكر وعمر بقوله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
قلنا تعارضه الأخبار السابقة فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة
ثم نقول بموجبه فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد
ثم ليت شعري لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع
الشبهة الرابعة: أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه(30/364)
ص -403-…قلنا لعله اعتقد بقوله عليه السلام من بعدي جواز تقليد العالم للعالم وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم :"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل وفهم على إيجاب التقليد
الشبهة الخامسة: أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه
قلنا: فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة الخبر إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه والخطأ جائز عليه وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نص قاطع لصرح به(30/365)
ص -404-…نعم لو تعارض قياسان وقول الصحابي مع أحدهما فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى الأخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له
وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره إثبات أصل من أصول الأحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول
مسألة: هل يجوز تقليد الصحابي؟
إن قال قائل إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم؟
قلنا أما العامي فيقلدهم وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة فقال في القديم يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما(30/366)
ص -405-…آخر ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى
وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الاجتهاد لا يفرق فيه بين الصحابي وغيره
فإن قيل: كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } ]النساء: من الآية59[وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } ]الفتح: من الآية18[وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني" وقال صلى الله عليه وسلم :"أصحابي كالنجوم" إلى غير ذلك
قلنا: هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم ودينهم ومحلهم عند الله تعالى ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة ولا يتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه كقوله صلى الله عليه وسلم: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح إيمان أبي بكر" وقال صلى الله عليه وسلم :"إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه، يقول الحق وإن كان مرا" وقال لعمر "والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك" وقال في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر: "لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر" وقال صلوات الله عليه "إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم" وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون "ما كنا نظن إلا أن ملكا بين عينيه يسدده وأن ملكا ينطق على(30/367)
ص -406-…لسانه" وقال صلى الله عليه وسلم في حق علي "اللهم أدر الحق مع علي حيث دار" وقال صلى الله عليه وسلم :"أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" وقال عليه السلام: "رضيت لأمتي ما رضي ابن أم عبد" وقال عليه السلام لأبي بكر وعمر لو اجتمعا على شيء ما خالفتهما وأراد في مصالح الحرب وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا
فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه
قال في كتاب اختلاف الحديث إنه روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به وهذا لأنه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف إذ لا مجال للقياس فيه
وهذا غير مرضي لأنه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه ومورده وقرائنه وفحواه وما يدل عليه ولم نتعبد إلا بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به(30/368)
ص -407-…وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر
وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما وقال في موضع آخر يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة وكثرة الأشباه وإنما يجب ترجيح الأعلم لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن الإهمال والتقصير والخطأ
وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف قول الشافعي فيه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد والمشورة فيه أبلغ
وقال مرة: الفتوى أولى لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة للوالي.(30/369)
ص -408-…وكل هذا مرجوع عنه
فإن قيل: فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي ؟
قلنا :قال القاضي لا ترجيح إلا بقوة الدليل ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه
والمختار أن هذا في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك أغلب على ظنه ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين
وقال قوم :إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي وإلا فلا فرق بينه وبين غيره
وهذا قريب ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن(30/370)
ص -409-…أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال إذا لم يقل علمت ذلك من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به وهذا اختيار القاضي
فإن قيل:فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان .وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة بقول علي
قلنا :له في مسألة شرط البراءة أقوال فلعل هذا مرجوع عنه
وفي مسألة التغليظ: الظن به أنه قوي القياس بموافقة الصحابة فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الأصول أن لا يقلد والله أعلم
الأصل الثالث من الأصول الموهومة الاستحسان
وقد قال به أبو حنيفة
وقال الشافعي: من استحسن فقد شرع
ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وله ثلاثة معان:(30/371)
ص -410-…الأول وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله
ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
المسلك الثاني أنا نعلم قطعا إجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من فاسدها وإلا فالعامي أيضا يستحسن ولكن يقال لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل إليه لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع فلم يميز المستحسن ميله عن الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها؟!(30/372)
ص -411-…ولهم شبه ثلاث
الشبهة الأولى قوله تعالى{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}]الزمر: من الآية55[وقال {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }]الزمر: من الآية18[
قلنا: اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله تعالى {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}]الزمر: من الآية55[ثم نقول نحن نستحسن إبطال الاستحسان وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة فليكن هذا حجة عليهم
الجواب الثاني :أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ فإن قلتم المراد بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر فكذلك نقول المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر
الشبهة الثانية :قوله صلى الله عليه وسلم"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"
ولا حجة فيه ، من أوجه:
الأول: أنه خبر واحد لا تثبت به الأصول.
الثاني: أن المراد به ما رآه جميع المسلمين لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل والإجماع حجة وهو مراد الخبر وإن أراد الآحاد(30/373)
ص -412-…لزم استحسان العوام فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر؟
الثالث: أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا ؟ وما قال معاذ حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
الشبهة الثالثة: إن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا مبلغ الماء المشروب لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات فاستحسنوا ترك المضايقة فيه ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع
والجواب من وجهين:
الأول: أنهم من أين عرفوا أن الأمة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة
الثاني: أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب وما يبذل له(30/374)
ص -413-…في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء فإن منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة بالمعاطاة والقرينة وترك المماسكة في العوض وهذا مدلول عليه من الشرع
وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس والقياس
حجة التأويل الثاني للاستحسان: قولهم المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره
وهذا هوس لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ؟ ولا وجه لدعوى شيء من ذلك كيف وقد قال أبو حنيفة إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه لكنا نستحسن حده
فيقول له: لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد ؟
وغايته أن يقول :تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم وهم عدول(30/375)
ص -414-…حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد
وهذا هوس لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه كما لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الأربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن كيف وإن كان هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا
التأويل الثالث للاستحسان: ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال ليس هو عبارة عن قول بغير دليل بل هو بدليل وهو أجناس:
منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله مالي صدقة أو لله علي أن أتصدق بمالي فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة لقوله تعالى{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}]التوبة: من الآية103[ولم يرد إلا مال الزكاة
ومنها :أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الأحداث
وهذا مما لا ينكر وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة والله أعلم
الأصل الرابع من الأصول الموهومة الاستصلاح
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة.
ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها
فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا(30/376)
ص -415-…لاعتبارها
أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة ويرجع حاصلها إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة
القسم الثاني ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان إن عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به(30/377)
ص -416-…فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي
القسم الثالث :ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر
فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات
ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها:
معنى المصلحة
أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على(30/378)
ص -417-…مقصود الشرع
ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس
وهذه الأصول الخمسة :حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح
ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها
وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا والسرقة وشرب المسكر
أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا المماثلة مرعية في استيفاء القصاص لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل وكقولنا القليل من الخمر إنما حرم لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ
فهذا دون الأول ولذلك اختلفت فيه الشرائع أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد(30/379)
ص -418-…الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح وتقييد الأكفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المآل وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالإصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها
أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه
الرتبة الثالثة :ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات
مثاله :سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات لأن ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بالخدمة فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى(30/380)
ص -419-…ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد
كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة الثالثة لأن ألأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ولا يليق ذلك بالمروءة ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج
وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالأعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة
على الجملة فليلحق برتبة التحسينات(30/381)
ص -420-…فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول :
الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة(30/382)
ص -421-…كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين
وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية
وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها
وليس في معناها إذا لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية
مسالة: طرح واحد من سفينة مشرفة على الغرق لإنقاذ الباقين :
وليس في معناها :جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية
وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه(30/383)
ص -422-…لأنه إضرار به لمصلحته وقد شهد الشرع للأضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما
وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه لأنه ليس فيه يقين الخلاص فلا تكون المصحلة قطعية
مسألة : الضرب في التهمة لإظهرا الحق
فإن قيل: فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها ؟
قلنا: قد قال بها مالك رحمه الله ولا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى وهي مصلحة المضروب فإنه ربما يكون بريئا من الذنب وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء
فإن قيل: فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون ؟
قلنا :هذه المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد قتله إذ وجب بالزندقة قتله وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة والزنديق يرى التقية عين الزندقة فهذا لو(30/384)
ص -423-…قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم وذلك لا ينكره أحد
فإن قيل: رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فماذا ترون فيه.؟
قلنا: إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره فلا حاجة إلى القتل فلا تكون هذه المصلحة ضرورية
فإن قيل :إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته ليزداد في الفساد والإغراء جدا عند الإفلات
قلنا: هذا الآن رجم بالظن وحكم بالوهم فربما لا يفلت ولا تتبدل(30/385)
ص -424-…الولاية والقتل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه
فإن قيل :فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن
قلنا: لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه
فإن قيل: إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره
قلنا: لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك بل هو أولى من الترس فإنه لم يذنب ذنبا وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته
فإن قيل: كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس(30/386)
ص -425-…وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً }]النساء: من الآية93[وقوله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }]الأنعام: من الآية151[ وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر ؟
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى
قلنا: لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمثله السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما لكن تخصصه بغير هذه الصورة فكذلك هاهنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل(30/387)
ص -426-…مسألة : توظيف الخراج من المصالح ، فهل إليه سبيل أم لا ؟
فإن قيل: فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور.
وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه
وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك(30/388)
ص -427-…مسألة حد الشارب ثمانين هل فعله الصحابة سياسة ؟
فإن قيل: فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين ؟فإن كان حد الشرب مقدرا فكيف زادوا بالمصلحة ؟وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف؟
قلنا :الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب فقدر ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا
مسألة فسخ النكاح لرفع الضرر عن امرأة المفقود ونحو
فإن قيل: فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا ؟(30/389)
ص -428-…وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى
وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين ؟وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا
قلنا: المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال عمر تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها لأنا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في حق الخامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضرة لا يؤثر فكذلك في الغيبة
فإن قيل: سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن فليس تصفو هذه المصلحة عن(30/390)
ص -429-…معارض
وكذلك اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة لا يعتضد بأصل معين بل تشهد له الأصول المعينة
أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي ولم يبلغنا خلاف عن العلماء وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض وليست هذه من الآيسات وما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الأحوال وكان لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد
فإن قيل: فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل
قلنا: هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ لأنا(30/391)
ص -430-…رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة وإذا
فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة
وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الردة وشرب الخمر وأكل مال الغير وترك الصوم والصلاة لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه مثل محذور الإكراه
فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتأكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس؟ فيه خلاف
ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام
وفي الكف عن قتال الكفار مخالفة لمقصود الشرع
فإن قيل لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة
قلنا قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال(30/392)
ص -431-…الإسلام واستعلاء الكفر
فإن قيل: فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود وفي هذا مخالفة المقصود
قلنا: هذا مقصود وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي وهذا جزئي بالإضافة فلا يعارض بالكلي
فإن قيل: مسلم أن هذا جزئي ولكن لا يسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص ؟
قلنا: قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود الكفار عليه بالقتل فهذا مما لا يشك فيه كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة
فإن قيل: فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الإكراه وفي المخمصة ؟
قلنا لم نفهم ذلك إذ أجمعت الأمة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع ولم يرد نص على خلافه بخلاف الكثرة إذ الإجماع في الإكراه وفي المخمصة منع منه
فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح
وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع(30/393)
ص -432-…كما أن من استحسن فقد شرع وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الأصول(30/394)
عنوان الكتاب:
المستصفى من علم الأصول – الجزء الثاني
تأليف:
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي
دراسة وتحقيق:
محمد بن سليمان الأشقر
الناشر:
مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان
الأولى، 1417هـ/1997م(31/1)
ص -7-…القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول
ويشتمل هذا القطب على:
صدر
ومقدمة
وثلاثة فنون
صدر القطب الثالث:
اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع
والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير
ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت، لأن الكلام فيهما أوجز
واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا
فهذه ثلاثة فنون: المنظوم والمفهوم والمعقول(31/2)
ص -8-…الفن الأول في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع
ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام:
القسم الأول: في المجمل والمبين
القسم الثاني: في الظاهر والمؤول
القسم الثالث: في الأمر والنهي
القسم الرابع: في العام والخاص
فهذا صدر هذا القطب
أما المقدمة
فتشتمل على سبعة فصول
الفصل الأول: في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف ؟
الفصل الثاني: في أن اللغة هل تثبت قياسا
الفصل الثالث: في الأسماء العرفية(31/3)
ص -9-…الفصل الرابع: في الأسماء الشرعية
الفصل الخامس: في اللفظ المفيد وغير المفيد
الفصل السادس: في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة
الفصل السابع: في المجاز والحقيقة
الفصل الأول في مبدأ اللغات
وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق
وقال قوم :إنها توقيفية إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح
وقال قوم :القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح
والمختار :أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع .
أما الجواز العقلي :فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان .
أما التوقيف :فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك(31/4)
ص -10-…وأما الاصطلاح :فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها فيبتدىء واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة
وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا .
أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له
فإن قيل: قال الله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه(31/5)
ص -11-…
قلنا: وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات :
أحدها :أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى .
الثاني:أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره
الثالث:أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى {كُلَّهَا} كتخصيص قوله تعالى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23] وقوله تعالى{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }[الاحقاف: من الآية25] {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: من الآية120] إذ يخرج عنه ذاته وصفاته
الرابع: أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده
الفصل الثاني في أن الأسماء اللغوية هل تثبت قاسا
وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم سموا الخمر من العنب خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا عليه حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر لعينها" وسمي الزاني زانيا لأنه مولج فرجه(31/6)
ص -12-…في فرج محرم فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني حتى يدخل في عموم قوله تعالى{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور: من الآية2] وسمي السارق سارقا لأنه أخذ مال الغير في خفية وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [المائدة: من الآية38]
وهذا غير مرضي عندنا لأن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره فلم نتهكم عليهم ونقول لغتهم هذا وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته والثوب المتلون بذلك اللون بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم لأنهم ما وضعوا الأدهم والكميت للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه
فإذا كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل(31/7)
ص -13-…إلى إثباته ووضعه بالقياس
وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس
فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية
اعلم أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية(31/8)
ص -14-…والاسم يسمى عرفيا باعتبارين :
أحدهما :أن يوضع الاسم لمعنى عام ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته كاختصاص اسم الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عام قال الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وقال تعالى{خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3]وقال عز وجل : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: من الآية78]
الاعتبار الثاني :أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل فيما هو مجاز فيه كالغائط المطمئن من الأرض والعذرة البناء الذي يستتر به وتقضى الحاجة من ورائه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال وذلك بالوضع الأول
فالأسامي اللغوية :إما وضعية وإما عرفية .
أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لأدواتهم فلا يجوز أن يسمى عرفيا لأن مبادىء اللغات والوضع الأصلي كلها كانت(31/9)
ص -15-…كذلك فيلزم أن يكون جميع الأسامي اللغوية عرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية
قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء الأسماء لغوية ودينية وشرعية أما اللغوية فظاهرة وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين كلفظ الإيمان والكفر والفسق وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة
واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين :
الأول: أن هذه الألفاظ يشتمل عليها القرآن والقرآن نزل بلغة العرب قال الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: من الآية2] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ابراهيم: من الآية4] إبراه ولو قال أطعموا العلماء وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول عربيا فكذلك إذا نقل اللفظ عن موضوعه إلى غير موضوعه أو جعل عبارة عن بعض موضوعه أو متناولا لموضوعه وغير موضوعه فكل ذلك ليس من لسان العرب
الثاني: أن الشارع لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل(31/10)
ص -16-…تلك الأسامي فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا فإن الحجة لا تقوم بالآحاد احتجوا بقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }[البقرة: من الآية143] وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس وقال صلى الله عليه وسلم "نهيت عن قتل المصلين" وأراد به المؤمنين وهو خلاف اللغة
قلنا :أراد بالإيمان التصديق بالصلاة والقبلة وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل التجوز وعادة العرب تسمية الشيء بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز من نفس اللغة
احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "وتسمية الإماطة إيمانا خلاف الوضع
قلنا: هذا من أخبار الآحاد فلا يثبت به مثل هذه القاعدة وإن ثبتت فهي دلالة الإيمان فيتجوز بتسميته أيمانا
واحتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة فافتقرت إلى أسام وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى أو إبداع أسام لها(31/11)
ص -17-…
قلنا: لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن لها اسم في اللغة
فإن قيل :فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع والسجود ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي
قلنا: عنه جوابان :
الأول :أنه ليست الصلاة في الشرع أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة والحج عبارة عن القصد والصوم عبارة عن الإمساك والزكاة عبارة عن النمو لكن الشرع شرط في أجزاء هذه الأمور أمورا أخر تنضم إليها فشرط في الاعتداد بالدعاء الواجب انضمام الركوع والسجود إليه وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف والطواف والاسم غير متناول له لكنه شرط الاعتداد بما ينطلق عليه الاسم فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع
الثاني:أنه يمكن أن يقال سميت جميع الأفعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الإمام فإن التالي للسابق في الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا هذا كلام القاضي رحمه الله .
والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسامي ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية كما ظنه قوم ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين :
أحدهما:التخصيص ببعض المسميات كما في الدابة فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب(31/12)
ص -18-…والثاني في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشيء ويتصل به كتسميتهم الخمر محرمة والمحرم شربها والأم محرمة والمحرم وطؤها فتصرفه في الصلاة كذلك لأن الركوع والسجود شرطه الشرع في تمام الصلاة فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع والسجود ركن الصلاة ومن نفسها بعيد فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة وهو كالمهم المحتاج إليه إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه
وأما ما استدل به من أن القرآن عربي فهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية ولا يسلب اسم العربي عن القرآن فإنه لو اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا كما ذكرناه في القطب الأول من الكتاب
وأما قوله إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه فهذا أيضا إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الألفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما ذكره القاضي رحمه الله(31/13)
ص -19-…الفصل الخامس في الكلام المفيد
اعلم أن الأمور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل
فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته وهو الأدلة العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب وإلى ما يدل بالوضع
وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت كالإشارة والرمز
والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد والمفيد كقولك زيد قائم وزيد خرج راكبا وغير المفيد كقولك زيد لا وعمرو في فإن هذا لا يحصل منه معنى وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة .
وقد اختلف في تسمية هذا كلاما فمنهم من قال هو كمقلوب رجل وزيد لجر وديز فإن هذا لا يسمى كلاما ومنهم من سماه كلاما لأن آحاده وضعت للإفادة
واعلم :أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام اسم وفعل وحرف كما في علم النحو وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر نحو زيد أخوك والله ربك أو اسم أسند إلى فعل نحو قولك ضرب زيد وقام عمرو وأما الاسم والحرف كقولك زيد من وعمرو في(31/14)
ص -20-…فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار وكذلك قولك ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم وكذلك قولك من في قد على
واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه وإلى ما لا يستقل بالإفادة إلا بقرينة وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه
مثال الأول :قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الاسراء: من الآية32] {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[النساء: من الآية29] وذلك يسمى نصا لظهوره والنص في السير هو الظهور فيه ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه
والنص ضربان :ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}]الاسراء: من الآية23] {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: من الآية77] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة:7] {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف ومن قال إن هذا معلوم بالقياس فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط(31/15)
وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] وقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة: من الآية228] وكل لفظ مشترك(31/16)
ص -21-…ومبهم وكقوله :رأيت أسدا وحمارا وثورا إذا أراد شجاعا وبليدا فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة
وأما الذي يستقل من وجه دون وجه فكقوله تعالى{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] وكقوله تعالى:{ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: من الآية29] فإن الإيتاء ويوم الحصاد معلوم ومقدار ما يؤتى غير معلوم والقتال وأهل الكتاب معلوم وقدر الجزية مجهول
فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله :إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا .
فاللفظ المفيد إذا :ما نص أو ظاهر أو مجمل
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب
اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من الله تعالى أو يسمعه نبي أو ولي من ملك أو تسمعه الأمة من النبي
فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه وبمراده من كلامه فهذه ثلاثة أمور لا بد(31/17)
ص -22-…وأن تكون معلومة والقدرة الأزلية ليست قاصرة عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى نصب علامة لتعريف ما في ضميره إلا الله تعالى فإنه قادر على اختراع علم ضروري به من غير نصب علامة
وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر فسمعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الأصوات ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمة تفهم كيفية إدراك البصير للألوان والأشكال
أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله فيكون المسموع الأصوات الحادثة التي هي فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى كما يقال فلان سمع شعر المتنبي وكلامه وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره وكما قال تعالى{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: من الآية6]
وكذلك سماع الأمة من الرسول صلى الله عليه وسلم كسماع الرسول من الملك ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة
ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة
وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ والقرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ(31/18)
ص -23-…حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141]والحق هو العشر وإما إحالة على دليل العقل كقوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]وقوله عليه السلام: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا
وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه القرائن وعند منكري صيغة العموم والأمر يتعين تعريف الأمر والاستغراق بالقرائن فإن قوله تعالى{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة: من الآية5] وإن أكده بقوله كلهم وجميعهم فيحتمل الخصوص عندهم كقوله تعالى{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الاحقاف: من الآية25] {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23] فإنه أريد به البعض وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى
الفصل السابع في الحقيقة والمجاز
اعلم أن اسم الحقيقة مشترك إذ قد يراد به ذات الشيء وحده ويراد به حقيقة الكلام ولكن إذا استعمل في الألفاظ أريد به ما استعمل في موضوعه(31/19)
ص -24-…والمجاز: ما استعمله العرب في غير موضوعه
وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما استعير للشيء بسببه المشابهة في خاصية مشهورة كقولهم للشجاع أسد وللبليد حمار فلو سمي الأبخر أسدا لم يجز لأن البخر ليس مشهورا في حق الأسد
الثاني: الزيادة كقوله تعالى{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: من الآية11]فإن الكاف وضعت للإفادة فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان على خلاف الوضع
الثالث: النقصان الذي لا يبطل التفهيم كقوله عز وجل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }[يوسف: من الآية82] والمعنى واسأل أهل القرية وهذا النقصان اعتادته العرب فهو توسع وتجوز وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع الأولى أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره إذ قولنا عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي علم وقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}يصح(31/20)
ص -25-…في بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية ولا يقال سل البساط والكوز وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل
الثانية: أن يعرف بامتناع الاشتقاق عليه إذ الأمر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر والشأن هو المراد بقوله تعالى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود: من الآية97]وبقوله تعالى{ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}[هود: من الآية40]
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على أوامر وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور(31/21)
ص -26-…الرابعة: أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة كان لها مقدور وإن أريد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب إذ يقال انظر إلى قدرة الله تعالى أي إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق إذ النبات لا مقدور له
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز بل ضربان من الأسماء لا يدخلهما المجاز :
الأول: أسماء الأعلام نحو زيد وعمرو لأنها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات نعم الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا كالأسود بن الحرث إذ لا يراد به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز أما إذا قال قرأت المزني وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك إلا كقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] فهو على طريق حذف اسم الكتاب معناه قرأت كتاب المزني فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز
الثاني: الأسماء التي لا أعم منها ولا أبعد كالمعلوم والمجهول والمدلول(31/22)
ص -27-…والمذكور إذ لا شيء إلا وهو حقيقة فيه فكيف يكون مجازا عن شيء
هذا تمام المقدمة
ولنشتغل بالمقاصد وهي كيفية اقتباس الأحكام من الصيغ والألفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام
[القسم الاول : في المجمل والمبين]
[القسم الثاني : في الظاهر والمؤول ]
[القسم الثالث: في الأمر والنهي]
[القسم الرابع : في العام والخاص](31/23)
ص -28-…القسم الأول :من الفن الأول من مقاصد القطب الثالث في المجمل والمبين
اعلم أن اللفظ إما أن يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره فيسمى مبينا ونصا وإما أن يتردد بين معنيين فصاعدا من غير ترجيح فيسمى مجملا وإما أن يظهر في أحدهما ولا يظهر في الثاني فيسمى ظاهرا
والمجمل: هو اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال وينكشف ذلك بمسائل :
مسألة:[ كيفية معرفة المجمل؟]
قوله تعالى :{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: من الآية23]و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ }[المائدة: من الآية3]ليس بمجمل
وقال قوم :من القدرية هو مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدري ما ذلك الفعل فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها والانتفاع بها؟ فهو مجمل والأم يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطء ؟ فلا يدري أيه ولا بد من تقدير فعل وتلك الأفعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض
وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية وقدمنا بيانها ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الأكل دون النظر والمس وإذا قال حرمت عليك هذا الثوب أنه يريد اللبس وإذا قال حرمت عليك النساء أنه يريد الوقاع وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا ؟(31/24)
ص -29-…والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع وكل ذلك واحد في نفي الأجمال
وقال قوم: هو من قبيل المحذوف كقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] أي أهل القرية يوسف وكذلك قوله تعالى{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: من الآية1]أي أكل البهيمة أحل لكم صيد البحر المائدة وهذا إن أراد به إلحاقه بالمجمل فهو خطأ وإن أراد به حصول الفهم به مع كونه محذوفا فهو صحيح وإن أراد به إلحاقه بالمجاز فيلزمه تسمية الأسماء العربية مجازا
مسألة: رفع الخطأ والنسيان:
قوله صلى الله عليه وسلم : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" يقتضي بالوضع نفي نفس الخطأ والنسيان وليس كذلك وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ فقد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل لغيره رفعت عنك الخطأ والنسيان إذ يفهم منه رفع حكمه لا على الإطلاق وهو المؤاخذة بالذم والعقوبة فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح فيه وليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيره ولا هو مجمل بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا أو إلى العقاب آجلا وبين الغرم والقضاء لأنه لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في كل حكم كما لم يجعل قوله تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: من الآية23]عاما في كل فعل مع أنه لا بد من إضمار فعل فالحكم هاهنا لا بد من إضماره لإضافة الرفع إليه كالفعل ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال وهو الذم والعقاب هاهنا والوطء ثم(31/25)
ص -30-…فإن قيل: فالضمان أيضا عقاب فليرتفع
قلنا: الضمان قد يجب امتحانا ليثاب عليه لا للانتقام ولذلك يجب على الصبي والمجنون وعلى العاقلة بسبب الغير ويجب حيث يجب الإتلاف كالمضطر في المخمصة وقد يجب عقابا كما يجب على المعتمد لقتل الصيد{ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: من الآية95] وإن وجب على المخطىء بالقتل امتحانا
فغاية ما يلزم أن يقال ينتفي به كل ضمان هو بطريق العقاب لأنه مؤاخذة وانتقام بخلاف ما هو بطريق الجبران والامتحان
والمقصود أن من ظن أن هذا اللفظ خاص أو عام لجميع أحكام الخطأ أو مجمل متردد فقد غلط فيه
فإن قيل: فلو ورد في موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه فهل يجعل نفيا لأثره بالكلية حتى يقوم مقام العموم أو يجعل مجملا ؟
قلنا: هو مجمل يحتمل نفي الأثر مطلقا ونفي آحاد الآثار ويصلح أن يراد به الجميع ولا يترجح أحد الاحتمالات
وهذا عند من لا يقول بصيغة العموم ظاهر أما من يقول بها فيتبع فيه الصيغة ولا صيغة للمضمرات وهذا قد أضمر فيه الأثر فعلى ماذا يعول في التعميم ؟
فإن قيل: هو نفي فيقتضي وضعه نفي الأثر والمؤثر جميعا فإن تعذر نفي(31/26)
ص -31-…المؤثر بقرينة الحس فالتعذر مقصور عليه فيبقى الأثر منفيا
قلنا: ليس قوله لا صيام ولا عمل ولا خطأ ولا نسيان أو رفع الخطأ والنسيان عاما في نفي المؤثر والأثر حتى إذا تعذر في المؤثر بقي في الأثر بل هو لنفي المؤثر فقط والأثر ينتفي ضرورة بانتفاء المؤثر لا بحكم عموم اللفظ وشموله له فإذا تعذر حمله على المؤثر صار مجازا إما عن جميع الآثار أو عن بعض الآثار ولا تترجح الجملة على البعض ولا أحد الأبعاض على غيره.
مسألة :نفي الكمال أو الصحة في اللفظ الشرعي في:
قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة إلا بطهور" "ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" "ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي" "ولا نكاح إلا بشهود" و "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" و "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فإن هذا نفي لما ليس منفيا بصورته فإن صورة النكاح والصوم والصلاة موجودة كالخطأ والنسيان
وقالت المعتزلة: هو مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم .
وهو أيضا فاسد بل فساده في هذه الصورة أظهر فإن الخطأ والنسيان ليس اسما شرعيا والصلاة والصوم والوضوء والنكاح ألفاظ تصرف الشرع فيها فهي شرعية وعرف الشرع في تنزيل الأسامي الشرعية على مقاصده كعرف اللغة على ما قدمنا وجه تصرف الشرع في هذه الألفاظ فلا يشك في أن الشرع ليس يقصد بكلامه نفي الصورة فيكون خلفا بل يريد نفي الوضوء والصوم والنكاح الشرعي فعرف الشرع يزيل هذا الاحتمال فكأنه صرح بنفي نفس الصلاة الشرعية والنكاح الشرعي(31/27)
ص -32-…فإن قيل :فيحتمل نفي الصحة ونفي الكمال أي لا صلاة كاملة ولا صوم فاضلا ولا نكاح مؤكدا ثابتا فهل هو محتمل بينهما ؟
قلنا ذهب القاضي إلى أنه مردد بين نفي الكمال والصحة إذ لا بد من إضمار الصحة أو الكمال وليس أحدهما بأولى من الآخر
والمختار أنه ظاهر في نفي الصحة محتمل لنفي الكمال على سبيل التأويل لأن الوضوء والصوم صارا عبارة عن الشرعي وقوله لا صيام صريح في نفي الصوم ومهما حصل الصوم الشرعي وإن لم يكن فاضلا كاملا كان ذلك على خلاف مقتضى النفي
فإن قيل فقوله صلى الله عليه وسلم :"لا عمل إلا بنية" من قبيل قوله: "لا صلاة" أو من قبيل قوله "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان؟"
قلنا. الخطأ والنسيان ليسا من الأسماء الشرعية والصوم والصلاة من الأسماء الشرعية وأما العمل فليس للشرع فيه تصرف وكيفما كان فقوله صلى الله عليه وسلم :"لا عمل إلا بنية" وقوله "إنما الأعمال بالنيات" يقتضي عرف الاستعمال نفي جدواه وفائدته كما يقتضي عرف الشرع نفي الصحة في الصوم والصلاة فليس هذا من المجملات بل من المألوف في عرف الاستعمال قولهم لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا عمل إلا ما نفع وأجدى وكل ذلك نفي لما لا ينتفي وهو صدق لأن المراد منه نفي مقاصده
دقيقة: القاضي رحمه الله إنما لزمه جعل اللفظ مجملا بالإضافة إلى الصحة والكمال من حيث أنه نفى الأسماء الشرعية وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع فلزمه إضمار شيء في قوله عليه السلام لا صيام أي لا صيام مجزئا صحيحا أو :لا صيام فاضلا كاملا ولم يكن أحد(31/28)
ص -33-…الإضمارين بأولى من الآخر وأما نحن إذا اعترفنا بعرف الشرع في هذه الألفاظ صار هذا النفي راجعا إلى نفس الصوم كقوله لا رجل في البلد فإنه يرجع إلى نفي الرجل ولا ينصرف إلى الكمال إلا بقرينة الاحتمال
مسألة: معنى المجمل:
إذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو مردد بينهما فهو مجمل
وقال بعض الأصوليين: يترجح حمله على ما يفيد معنيين كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد لأن المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالإضافة إليه أولى
وهذا فاسد لأن حمله على غير المفيد يجعل الكلام عبثا ولغوا يجل عنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما المفيد لمعنى واحد فليس بلغو وكلماته التي أفادت معنى واحدا لعلها أغلب وأكثر مما يفيد معنيين فلا معنى لهذا الترجيح
مسألة: الأحكام المتعددة في اللفظ
ما أمكن حمله على حكم متعدد فليس بأولى مما يحمل اللفظ فيه على التقرير على الحكم الأصلي والحكم العقلي والاسم اللغوي لأن كل واحد محتمل وليس حمل الكلام عليه ردا له إلى العبث
وقال قوم:حمله على الحكم الشرعي الذي هو فائدة خاصة بالشرع أولى وهو ضعيف إذ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم(31/29)
ص -34-…العقلي ولا بالاسم اللغوي ولا بالحكم الأصلي فهذا ترجيح بالتحكم
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم" الاثنان فما فوقهما جماعة" فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة ويحتمل أن يكون المراد به انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها
ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة" إذ يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة أي هو كالصلاة حكما ويحتمل أن فيه دعاء كما في الصلاة ويحتمل أنه يسمى صلاة شرعا وإن كان لا يسمى في اللغة صلاة فهو مجمل بين هذه الجهات ولا ترجيح
مسألة: دوران الاسم بين المعنى اللغوي والشرعي
إذا دار الاسم بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي كالصوم والصلاة قال القاضي هو مجمل لأن الرسول عليه السلام يناطق العرب بلغتهم كما يناطقهم بعرف شرعه ولعل هذا منه تفريع على مذهب من يثبت الأسامي الشرعية وإلا فهو منكر للأسامي الشرعية
وهذا فيه نظر لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع لبيان الأحكام الشرعية وإن كان أيضا كثيرا ما يطلق على الوضع اللغوي كقوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة أيام أقرائك" ومن باع حرا أو من باع خمرا فحكمه كذا وإن كانت الصلاة في حالة الحيض وبيع الخمر والحر لا(31/30)
ص -35-…يتصور إلا بموجب الوضع فأما الشرعي فلا
ومثال هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدم إليه غداء إني إذا أصوم فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على جواز النية نهارا وإن حمل على الإمساك لم يدل وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم النحر" إن حمل على الإمساك الشرعي دل على انعقاده إذ لولا إمكانه لما قيل له لا تفعل إذ لا يقال للأعمى لا تبصر وإن حمل على الصوم الحسي لم ينشأ منه دليل على الانعقاد
وقد قال الشافعي: لو حلف أن لا يبيع الخمر لا يحنث ببيعه لأن البيع الشرعي لا يتصور فيه وقال المزني يحنث لأن القرينة تدل على أنه أراد البيع اللغوي
والمختار عندنا: أن ما ورد في الأثبات والأمر فهو للمعنى الشرعي وما ورد في النهي كقوله دعي الصلاة فهو مجمل
مسألة : تعارض الحقيقة والمجاز أيهما يقدم ؟ :
إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل أنه أراد المجاز ولا يكون مجملا كقوله رأيت اليوم حمارا واستقبلني في الطريق أسد فلا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة فإن لم تظهر فاللفظ للبهيمة والسبع ولو جعلنا كل لفظ أمكن أن يتجوز به مجملا تعذرت الاستفادة من أكثر الألفاظ فإن المجاز إنما يصار إليه لعارض وهذا في مجاز لم يغلب بالعرف بحيث صار الوضع كالمتروك مثل الغائط والعذرة فإنه لو قال رأيت اليوم عذرة أو غائطا لم يفهم منه المطمئن من(31/31)
ص -36-…الأرض وفناء الدار لأنه صار كالمتروك بعرف الاستعمال والمعنى العرفي كالمعنى الوضعي في تردد اللفظ بينهما وليس المجاز كالحقيقي لكن المجاز إذا صار عرفيا كان الحكم للعرف
خاتمة جامعة
إعلم أن الإجمال تارة يكون في لفظ مفرد وتارة يكون في لفظ مركب وتارة في نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء
أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان وقد يصلح لمتضادين كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما كالنور للعقل ونور الشمس وقد يصلح لمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر فإن الأم وضع اسما للوالدة أولا وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة فإنه نقل في الشرع إلى معان ولم يترك المعنى الوضعي أيضا
أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] فإن جميع هذه الألفاظ مرددة بين الزوج والولي
وأما الذي بحسب التصريف: فكالمختار للفاعل والمفعول
وأما الذي بحسب نسق الكلام فكقولك: كل ما علمه الحكيم فهو كما علمه
فإن قولك: فهو كما علمه متردد بين أن يرجع إلى كل ما وبين أن يرجع إلى الحكم حتى يقول والحكيم يعلم الحجر فهو إذا كالحجر(31/32)
ص -37-…وقد يكون بحسب الوقف والابتداء فإن الوقف على السموات في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } [الأنعام:3] له معنى يخالف الوقف على الأرض والابتداء بقوله { سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ }[الأنعام:3] وقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}[آل عمران: من الآية7] من غير وقف يخالف الوقف على قوله {إِلاَّ اللَّهُ} وذلك لتردد الواو بين العطف والابتداء
ولذلك قد يصدق قولك الخمسة زوج وفرد أي هو اثنان وثلاثة ويصدق قولك الإنسان حيوان وجسم لأنه حيوان وجسم أيضا ولا يصدق قولك الإنسان حيوان وجسم ولا قولك الخمسة زوج وفرد لأن الإنسان ليس بحيوان وجسم وليست الخمسة زوجا وفرد أيضا وذلك لأن الواو يحتمل جمع الأجزاء وجمع الصفات وكذلك تقول زيد طبيب بصير يصدق وإن كان جاهلا ضعيف المعرفة بالطب ولكن بصير بالخياطة فيتردد البصير بين أن يراد به البصير في الطب أو يراد وصف زائد في نفسه
فهذه أمثلة مواضع الإحمال(31/33)
ص -38-…وقد تم القول في المجمل
وفي مقابلته المبين فلنتكلم في البيان وحكمه وحده
القول في البيان والمبين
إعلم أنه جرت عادة الأصوليين برسم كتاب في البيان وليس النظر فيه مما يستوجب أن يسمى كتابا فالخطب فيه يسير والأمر فيه قريب ورأيت أولى المواضع به أن يذكر عقيب المجمل فإنه المفتقر إلى البيان والنظر فيه حد البيان وجواز تأخيره والتدريج في إظهاره وفي طريق ثبوته فهذه أربعة أمور نرسم في كل واحد منها مسألة
مسألة: في حد البيان:
إعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام وإنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فهاهنا ثلاثة أمور إعلام ودليل به الإعلام وعلم يحصل من الدليل
فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده أنه إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي
ومنهم من جعله عبارة عما به تحصل المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة أعني الأمور التي ليست ضرورية وهو الدليل فقال في حده أنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه وهو اختيار القاضي
ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبين الشيء فكأن البيان عنده والتبيين واحد
ولا حجر في إطلاق إسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إلا(31/34)
ص -39-…أن الأقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي إذ يقال لمن دل غيره على الشيء بينه له وهذا بيان منك لكنه لم يتبين وقال تعالى{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } [آل عمران: من الآية138 ] وأراد به القرآن
وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة
وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز إذا لكل دليل ومبين ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول فيقال له بيان حسن أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد
وإعلم أنه ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به ويجوز أن يختلف الناس في تبين ذلك وتعرفه
وليس من شرطه أن يكون بيانا لمشكل لأن النصوص المعربة عن الأمور ابتداء بيان وإن لم يتقدم فيها إشكال وبهذا يبطل قول من حده بأنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي فذلك ضرب من البيان وهو بيان المجمل فقط
وإعلم أن كل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيهه بفحوى الكلام على علة الحكم كل ذلك بيان لأن جميع ذلك دليل وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل قطعا دليل وبيان وهو كالنص نعم كل ما لا يفيد علما ولا ظنا ظاهرا فهو مجمل وليس ببيان بل هو محتاج إلى البيان(31/35)
ص -40-…والعموم يفيد ظن الاستغراق عند القائلين به لكنه يحتاج إلى البيان ليصير الظن علما فيتحقق الاستغراق أو يتبين خلافه فيتحقق الخصوص وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه أنه أريد به بيان الشرع لأن الفعل لا صيغة له
مسألة في تأخير البيان
لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال
أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر وإليه ذهب أبو إسحق المروزي وأبو بكر الصيرفي
وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا يجوز تأخير بيان المجمل إذ لا يحصل من المجمل جهل وأما العام فإنه يوهم العموم فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه مثل قوله { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}[التوبة: من الآية5]فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله والمجمل مثل قوله تعالى{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }[الأنعام: من الآية141] يجوز تأخير بيانه لأن الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شيء وهو كما لو قال حج في هذه السنة كما سأفصله أو أقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين
وفرق طوائف بين الأمر والنهي وبين الوعد والوعيد فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد
ويدل على جواز التأخير مسالك :
الأول: أنه لو كان ممتنعا لكان الاستحالته في ذاته أو لإفضائه إلى مجال،(31/36)
ص -41-…وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز
وهذا دليل يستعمله القاضي في مسائل كثيرة
وفيه نظر لأنه لا يورث العلم ببطلان الإحالة ولا بثبوت الجواز إذ يمكن أن يكون وراء من ذكره وفصله دليل على الإحالة لم يخطر له فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الإحالة ولا على الجواز فعدم العلم العلم بدليل الجواز لا يثبت الإحالة وكذلك عدم العلم بدليل الإحالة لا يثبت الجواز بل عدم العلم بدليل الإحالة لا يكون علما لعدم الإحالة فلعل عليه دليلا ولم نعرفه بل لو عرفنا انتفاء دليل الإحالة لم يثبت الجواز بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته ؟
الثاني :أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه ولأجله يحتاج إلى القدرة والآلة ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة فكذلك البيان
وهذا أيضا ذكره القاضي وفيه نظر لأنه إنما ينفع لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال ولعله يحيله لما من تجهيل أو لكونه لغوا بلا فائدة أو لسبب آخر وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غير به
الثالث :الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة قال الله تعالى{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]وثم للتأخير وقال تعالى{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: من الآية1]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً }[البقرة: من الآية67] وإنما أراد بقرة معينة ولم يفصل إلا بعد السؤال وقال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا(31/37)
ص -42-…غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [لأنفال: من الآية41]الآية وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبنى المطلب دون بني أمية وكل من عدا بني هاشم فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه وقال في قصة نوح{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }[هود: من الآية46] بين بعد أن توهم أنه من أهله
وأما السنن فبيان المراد بقوله وأقيموا الصلاة بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين وقوله عليه السلام ليس في الخضروات صدقة ثم قال بعد ذلك ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقال في أربعين شاة شاة وخذوا عني مناسككم كله ورد متأخرا عن قوله{وَآتُوا الزَّكَاةَ}[النساء: من الآية77] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ }[آل عمران: من الآية97] وقال{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [التوبة: من الآية41] وهو عام ثم ورد بعده {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } [التوبة: من الآية91] إذآ النور وكذلك جميع الأعذار
وكذلك أمر النكاح والبيع والأرث ورد أولا أصلها ثم بين النبي بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل وما يصح بيعه وما لا يصح وكذلك كل عام ورد في الشرع فإنما ورد دليل خصوصه بعده
وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره وإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذه(31/38)
ص -43-…الاستشهادات بتقدير اقتران البيان فلا يتطرق إلى الجميع
الرابع :أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط أن لا يرد نسخ وهذا أيضا واقع
فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد وهو أيضا دليل على من جوز في الأمر دون الوعيد وعلى من قال بعكس ذلك
وللمخالف أربع شبه:
الأولى :قالوا إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم وإن منعتم فما الفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه ولكن يسمع لفظه ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين
والجواب من وجهين :
أحدهما وهو الأولى أنهم لم قالوا قوله {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ]الأنعام: من الآية141[كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الإيجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم(31/39)
الجواب الثاني: أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الأرض من الزنج والترك بالقرآن ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود ؟فأمر العجم على تقدير البيان أقرب نعم لا يحصل ذلك خطابا بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الأمر بالزكاة وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد وكذلك قوله تعالى{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ]البقرة:237[مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر
فإن قيل: فليجز خطاب المجنون والصبي(31/40)
ص -44-…قلنا: أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا كالمعدوم على تقدير الوجود الصبي مأمور على تقدير البلوغ أعني من علم الله أنه سيبلغ أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا
الثانية: قولهم الخطاب يراد لفائدة وما لا فائدة فيه فيكون وجوده كعدمه ولا يجوز أن يقول أبجد هوز ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد لأنه لغو من الكلام وكذلك المجمل الذي لا يفيد
قلنا: إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لأن قوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ]الأنعام: من الآية141[يعرف منه وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق في المال فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له ولو عزم على تركه عصى وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين وكذلك { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ]البقرة:23 [يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فلا يخلو عن أصل الفائدة وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر بل هو واقع في الشريعة والعادة بخلاف قوله أبجد هوز فإن ذلك لا فائدة له أصلا(31/41)
الثالثة: أنه لا خلاف في أنه لو قال في خمس من الإبل شاة وأراد خمسا من الأفراس لا يجوز ذلك وإن كان بشرط البيان بعده لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد فكذلك قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}]التوبة: من الآية5[ يوهم قتل كل مشرك وهو خلاف المراد فهو تجهيل في الحال ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول عشرة إلا ثلاثة وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص بشرط قرينة متصلة مبينة فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع(31/42)
ص -45-…وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل
والجواب أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه وليس كذلك بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين متردد بين الاستغراق والخصوص وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق وإرادة الخصوص به من كلام العرب فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره فيقول مثلا ليس للقاتل من الميراث شيء فإذا قيل له فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث فيقول ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال ويقول للبنت النصف من الميراث فيقال فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا فيقول ما خطر ببالي هذا وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة ويقول الأب إذا انفرد يرث المال أجمع فيقال والأب الكافر أو الرقيق لا يرث فيقول إنما خطر ببالي الأب غير الرقيق والكافر فهذا من كلام العرب وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا
الرابعة: أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم وإن جاز إلى غير نهاية فربما يخترم النبي قبل البيان فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص(31/43)
ص -46-…قلنا النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت فإن اخترم قبل البيان بسبب من الأسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه فإنه يبقى مكلفا به دائما فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ولا فرق
مسألة هل يجوز منع التدرج في البيان ؟
ذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان فقالوا إذا ذكر إخراج شيء من العموم فينبغي أن يذكر جميع ما يخرج وإلا أوهم ذلك استعمال العموم في الباقي
وهذا أيضا غلط بل من توهم ذلك فهو المخطىء فإنه كما كان يجوز الخصوص فإنه ينبغي أن يبقى مجوزا له في الباقي وإن أخرج البعض إذ ليس في إخراج البعض تصريح بحسم سبيل لشيء آخر كيف وقد نزل قوله تعالى{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ]آل عمران: من الآية97[ فسئل النبي عليه السلام عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة ولم يتعرض لأمن الطريق والسلامة وطلب الخفارة وذلك يجوز أن يتبين بدليل آخر بعده وقال تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}]المائدة: من الآية38[ثم ذكر النصاب بعده ثم ذكر الحرز بعد ذلك وكذلك كان يخرج شيئا شيئا من العموم على قدر وقوع الوقائع وكذلك يخرج من قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}]التوبة: من الآية5[أهل الذمة مرة والعسيف مرة والمرأة مرة أخرى وكذلك على(31/44)
ص -47-…التدريج ولا إحالة في شيء من ذلك
فإن قيل :فإذا كان كذلك فمتى يجب على المجتهد الحكم بالعموم ولا يزال منتظرا لدليل بعده؟
قلنا: سيأتي ذلك في كتاب العموم والخصوص إن شاء الله
مسألة: هل يصح تخصيص المتواتر بخبر الآحاد ؟:
لا يشترط أن يكون طريق البيان للمجمل والتخصيص للعموم كطريق المجمل والعموم حتى يجوز بيان مجمل القرآن وعمومه وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لأهل العراق فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد وأما المجمل فيما تعم به البلوى كأوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها ومقدار واجب الزكاة وجنسها فإنهم قالوا لا يجوز أن يبين إلا بطريق قاطع وأما ما لا تعم به البلوى كقطع يد السارق وما يجب على الأئمة من الحد وذكر أحكام المكاتب والمدبر فيجوز أن يبين بخبر الواحد وهذا يتعلق طرف منه بطريق التخصيص وسيأتي في القسم الرابع وطرف يتعلق بما تعم به البلوى وقد ذكرناه في كتاب الأخبار(31/45)
ص -48-…القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول
إعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا والنص هو الذي لا يحتمل التأويل والظاهر هو الذي يحتمله فهذا القدر قد عرفته على الجملة وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص وأن تعرف حده وحد الظاهر وشرط التأويل المقبول
فنقول: النص إسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه :
الأول: ما أطلقه الشافعي رحمه الله فإنه سمى الظاهر نصا وهو منطبق على اللغة ولا مانع منه في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص
فعلى هذا حده حد الظاهر: هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص
الثاني: وهو الأشهر :ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الأربعة وسائر الأعداد ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره فكل ما كانت(31/46)
ص -49-…دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص
ويجوز أن يكون اللفظ الواحد :نصا ظاهرا مجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد
الثالث: التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا
فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد
هذا هو القول في النص والظاهر
أما القول في التأويل فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة
أما التمهيد: فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض فكأنه رد له إلى المجاز إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب وإن لم يكن بالغا في القوة وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه
ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة وإن لم تنقل القرينة كقوله عليه السلام :"إنما الربا في النسيئة" فإنه يحمل على مختلفي الجنس ولا ينقدح هذا(31/47)
ص -50-…التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ولكن يجوز تقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص وقوله عليه السلام لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء نص في إثبات ربا الفضل وقوله إنما الربا في النسيئة حصر للربا في النسيئة ونفي لربا الفضل فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما والاحتمال البعيد يمكن أني يكون مرادا باللفظ بوجه ما
فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضي من التأويل وما لا يرتضي ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لأجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل العموم وخمسة في تخصيص العموم
مسألة فساد التأويل بقرائن
التأويل وإن كان محتملا فقد تجتمع قرائن تدل على فساده وأحاد تلك القرائن لا تدفعه لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا
مثاله قوله عليه السلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة :أمسك أربعا وفارق سائرهن وقوله عليه السلام لفيروز الديلمي حين أسلم على أختين أمسك إحداهما وفارق الأخرى فإن ظاهر هذا يدل على دوام النكاح فقال أبو حنيفة أراد به ابتداء النكاح أي أمسك أربعا فأنكحهن وفارق سائرهن أي انقطع عنهن ولا تنكحهن ولا شك أن ظاهر لفظ(31/48)
ص -51-…الإمساك الاستصحاب والاستدامة وما ذكره أيضا محتمل ويعتضد أحتماله بالقياس إلا أن جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل
أولها: أنا نعلم أن الحاضرين من الصحابة لم يسبق إلى إفهامهم من هذه الكلمة إلا الاستدامة في النكاح وهو السابق إلى أفهامنا فإنا لو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا
الثاني: أنه قابل لفظ الإمساك بلفظ المفارقة وفوضه إلى اختياره فليكن الإمساك والمفارقة إليه وعندهم الفراق واقع والنكاح لا يصح إلا برضا المرأة
الثالث: أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه فإنه كان لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج جديد العهد بالإسلام إلى أن يعرف شروط النكاح
الرابع: أنه لا يتوقع في اطراد العادة انسلاكهن في ربقة الرضا على حسب مراده بل ربما كان يمتنع جميعهن فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان ؟
الخامس: أن قوله أمسك أمر وظاهره الإيجاب فكيف أوجب عليه ما لم يجب ولعله أراد أن لا ينكح أصلا
السادس: أنه ربما أراد أن لا ينكحهن بعد أن قضى منهن وطرا فكيف حصره فيهن ؟بل كان ينبغي أن يقول إنكح أربعا ممن شئت من نساء العالم(31/49)
ص -52-…من الأجنبيات فإنهن عندكم كسائر نساء العالم فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده وآحادها لا يبطل الاحتمال لكن المجموع يشكك في صحة القياس المخالف للظاهر ويصير اتباع الظاهر بسببها أقوى في النفس من اتباع القياس
والإنصاف أن ذلك يختلف بتنوع أحوال المجتهدين وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة مع هذه القرائن وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين
مسألة التأويل في حديث غيلان الثقفي
من تأويلاتهم في هذه المسألة أن الواقعة ربما وقعت في ابتداء الإسلام قبل الحصر في عدد النساء فكان على وفق الشرع وإنما الباطل من أنكحة الكفار ما يخالف الشرع كما لو جمع في صفقة واحدة بين عشر بعد نزول الحصر
فنقول: إذا سلم هذا أمكن القياس عليه لأن قياسهم يقتضي اندفاع جميع هذه الأنكحة كما لو نكح أجنبيتين ثم حدث بينهما أخوة برضاع اندفاع النكاح ولم يتخير
ومع هذا فنقول :هذا بناء تأويل على احتمال من غير نقل ولم يثبت عندنا رفع حجر في ابتداء الإسلام ويشهد له أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة زيادة على أربعة وهم الناكحون ولو كان جائزا لفارقوا عند نزول الحصر ولأوشك أن ينقل ذلك وقوله تعالى{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }]النساء: من الآية23[أراد به زمان الجاهلية هذا ما ورد في التفسير
فإن قيل :فلو صح رفع حجر في الابتداء هل كان هذا الاحتمال مقبولا ؟
قلنا قال بعض أصحابنا الأصوليين لا يقبل لأن الحديث استقل حجة فلا يدفع بمجرد الاحتمال ما لم ينقل وقوع نكاح غيلان قبل نزول الحجر وهذا ضعيف لأن الحديث لا يستقل حجة ما لم ينقل تأخر نكاحه عن نزول(31/50)
ص -53-…الحصر لأنه إن تقدم فليس بحجة وإن تأخر فهو حجة فليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر ولا تقوم الحجة باحتمال يعارضه غيره
مسألة: هل يرفع التأويل النص؟ :
قال :بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل
ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة فقال أبو حنيفة الشاة غير واجبة وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان قال فهذا باطل لأن اللفظ نص في وجوب شاة وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص فإن قوله { وَآتُوا الزَّكَاةَ }]النساء: من الآية77[للإيجاب وقوله عليه السلام "في أربعين شاة شاة" بيان للواجب وإسقاط وجوب الشاة رفع للنص
وهذا غير مرضي عندنا فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى فهذا توسيع للوجوب واللفظ نعى في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير وهو كقوله وليستنج بثلاثة أحجار فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء لكن الحجر يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث أنه نص لا يحتمل لكن من وجهين
أحدهما: أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة
ومسلم أن سد الخلة مقصود لكن غير مسلم أنه كل المقصود فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني فالجمع بين الظاهر وبين التعبد ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات لأن العبادات مبناها(31/51)
ص -54-…على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة
الثاني: أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله في أربعين شاة شاة وهو استنباط يعود على أصل النص بالإبطال أو على الظاهر بالرفع وظاهره وجوب الشاة على التعيين فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له لأن العلة ما يوافق الحكم والحكم لا معنى له إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يدل على تعيين الشاة وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر
وهذا أيضا عندنا في محل الاجتهاد فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء وتعيين الشاة يحتمل أن يكون للتعبد كما ذكر الشافعي رحمه الله ويحتمل أن لا يكون متعينا لكن الباعث على تعيينه شيئان :
أحدهما: أن الأيسر على الملاك والأسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء لأنه أكثر في تلك البلاد وأسهل وكما يقول المفتي وجبت عليه كفارة اليمين تصدق بعشرة أمداد من البر لأنه يرى ذلك أسهل عليه من العتق ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الإطعام على الإعتاق ليسره فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر
والثاني: أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلا بد من ذكرها إذ القيمة تعرف بها وهي تعرف بنفسها فهي أصل على التحقيق ولو فسر النبي عليه الصلاة والسلام كلامه بذلك لم يكن متناقضا ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة فهذا كله في محل الاجتهاد وإنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه
فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا الانتفاء الاحتمال لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة ولأنه ذكر الشاة في(31/52)
ص -55-…خمس من الإبل وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل ثم في الجبران يردهم بين شاة وعشرة دراهم ولم يردهم إلى قيمة الشاة وفي خمس من الإبل لم يردهم
فهذه قرائن تدل على التعبد والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى
مسألة: تأويل آية مصارف الزكاة
يقرب مما ذكرنا تأويل الآية في مسألة أصناف الزكاة فقال قوم قوله تعالى{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }]التوبة: من الآية60[الآية نص في التشريك فالصرف إلى واحد إبطال له
وليس كذلك عندنا بل هو عطف على قوله تعالى{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ]التوبة:58[إلى قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }]التوبة: من الآية60[يعني أن طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل ثم عدد شروط الاستحقاق ليبين مصرف الزكاة ومن يجوز صرف الزكاة إليه فهذا محتمل فإن منعه فللقصور في دليل التأويل لا لانتفاء الاحتمال فهذا وأمثاله ينبغي أن يسمى نصا بالوضع الأول أو الثالث أما بالوضع الثاني فلا
مسألة هل المعتبر العدد أم الجنس
قال قوم :قوله تعالى{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}]المجادلة: من الآية4[نص في وجوب رعاية العدد ومنع الصرف إلى مسكين واحد في ستين يوما وقطعوا ببطلان تأويله
وهو عندنا من جنس ما تقدم فإنه إن أبطل لقصور الاحتمال وكون الآية(31/53)
ص -56-…نصا بالوضع الثاني فهو غير مرضي فإنه يجوز أن يكون ذكر المساكين لبيان مقدار الواجب ومعناه فإطعام طعام ستين مسكينا وليس هذا ممتنعا في توسع لسان العرب نعم دليله تجريد النظر إلى سد الخلة
والشافعي: يقول لا يبعد أن يقصد الشرع ذلك لإحياء ستين مهجة تبركا بدعائهم وتحصنا عن حلول العذاب بهم ولا يخلو جمع من المسلمين عن ولي من الأولياء يغتنم دعاؤه ولا دليل على بطلان هذا المقصود فتصير الآية نصا بالوضع الأول والثالث لا بالوضع الثاني
هذه أمثلة التأويل
ولنذكر أمثلة التخصيص فإن العموم إن جعلنا ظاهرا في الاستغراق لم يكن في التخصيص إلا إزالة ظاهر فلأجل ذلك عجلنا ذكر هذا القدر وإلا فبيانه في القسم الرابع المرسوم لبيان العموم أليق
مسألة :أقسام العموم
إعلم أن العموم عند من يرى التمسك به ينقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص إلا بدليل قاطع أو كالقاطع وهو الذي يحوج إلى تقدير قرينة حتى تنقدح إرادة الخصوص به وإلى ضعيف ربما يشك في ظهوره ويقتنع في تخصيصه بدليل ضعيف وإلى متوسط
مثال القوي منه : قوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث" وقد حمله الخصم على الأمة فنبا عن قبوله قوله "فلها المهر بما استحل من فرجها" فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى الحمل على المكاتبة
وهذا تعسف ظاهر لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء وليس من كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ وقياس النكاح على المال وقياس الإناث على الذكور ليس قرينة مقترنة باللفظ حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة
ودليل ظهور قصد التعمم بهذا اللفظ أمور :(31/54)
ص -57-…الأول: أنه صدر الكلام بأي وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم
الثاني: أنه أكده بما فقال أيما وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضا
الثالث: أنه قال فنكاحها باطل رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء وذلك أيضا يؤكد قصد العموم
ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقتراح عليه بأن يأتي بصيغة عامة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ونحن نعلم قطعا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة وأنا لو سمعنا واحدا منا يقول لغيره أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما لا يفهم منه المكاتبة ولو قال أردت المكاتبة نسب إلى الألغاز والهزء ولو قال أيما أهاب دبغ فقد طهر ثم قال أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص لنسب إلى اللكنة والجهل باللغة
ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب أو المكاتبة وقال ما خطر ذلك ببالي لم يستنكر فما لا يخطر بالبال أو بالأخطار وجاز أن يشذ عن ذكر اللافظ وذهنه حتى جاز إخراجه عن اللفظ كيف يجوز قصر اللفظ عليه ؟!
بل نقول :من ذهب إلى إنكار صيغ العموم وجعلها مجملة فلا ينكر منع التخصيص إذا دلت القرائن عليه فالمريض إذا قال لغلامه لا تدخل علي الناس فأدخل عليه جماعة من الثقلاء وزعم أني أخرجت هذا من عموم لفظ الناس فإنه ليس نصا في الاستغراق استوجب التعزيز
فلنتخذ هذه المسألة مثالا لمنع التخصيص بالنوادر(31/55)
ص -58-…مسألة:
مثال عن العام القوي يقرب من هذا قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم عتق عليه إذ قبله بعض أصحاب الشافعي وخصصه بالأب
وهذا بعيد لأن الأب يختص بخاصية تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليه فيما يوجب الاحترام والعدول عن لفظه الخاص إلى لفظ يعم قريب من الألغاز والألباس ولا يليق بمنصب الشارع عليه السلام إلا إذا اقترن به قرينة معرفة ولا سبيل إلى وضع القرائن من غير ضرورة وليس قياس الشافعي في تخصيص النفقة بالبعضية بالغا في القوة مبلغا ينبغي أن يخترع تقدير القرائن بسببه فلو صح هذا اللفظ لعمل الشافعي رحمه الله بموجبه فإن من كان من عادته إكرام أبيه فقال من عادتي إكرام الناس كان ذلك خلفا من الكلام ولكن قال الشافعي الحديث موقوف على الحسن بن عمارة
مسألة
مثال عن العام الضعيف ما ذكرناه مثال العموم القوي أما مثال العموم الضعيف فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وفيما سقي ينضح أو دالية نصف العشر فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر ونصف العشر في جميع ما سقته السماء ولا في جميع ما سقي بنضح لأن المقصود منه الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر حتى يتعلق بعمومه
وهذا فيه نظر عندنا إذ لا يبعد أن يكون كل واحد مقصودا وهو إيجاب العشر في جميع ما سقته السماء وإيجاب نصفه في جميع ما سقي بنضح واللفظ عام في صيغته فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم لكن يكفي في(31/56)
ص -59-…التخصيص أدنى دليل
لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حجة
مسألة تأويل آية الأنفال قال الله تعالى {َاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى }]لأنفال: من الآية41[فقال أبو حنيفة: تعتبر الحاجة مع القرابة ثم جوز حرمان ذوي القربى فقال أصحاب الشافعي رحمه الله هذا تخصيص باطل لا يحتمله اللفظ لأنه أضاف المال إليهم بلام التمليك وعرف كل جهة بصفة وعرف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة واعتبر الحاجة المتروكة وهو مناقضة للفظ لا تأويل
وهذا عندنا في مجال الاجتهاد وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ ذوي القربى بالمحتاجين منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية
فإن قيل: لفظ اليتم ينبىء عن الحاجة
قيل فلم لا يحمل عليه قوله لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر ؟
فإن قيل :قرينة إعطاء المال هي التي تنبه على اعتبار الحاجة مع اليتم
فله هو أن يقول واقتران ذوي القربى باليتامى والمساكين قرينة أيضا وإنما دعا إلى ذكر القرابة كونهم محرومين عن الزكاة حتى يعلم أنهم ليسوا محرومين عن هذا المال وهذا تخصيص لو دل عليه دليل فلا بد من قبوله فليس ينبو عنه اللفظ نبوة حديث النكاح بلا ولي عن المكاتبة
مسألة: تأويل نية الصيام
قوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر
فقال:أصحابنا :قوله لا صيام نفي عام لا يسبق منه إلى الفهم إلا الصوم الأصلي الشرعي وهو الفرض والتطوع ثم التطوع غير مراد فلا يبقى إلا(31/57)
ص -60-…الفرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان وأما القضاء والنذر فيجب بأسباب عارضة ولا يتذكر بذكر الصوم مطلقا ولا يخطر بالبال بل يجري مجرى النوادر كالمكاتبة في مسألة النكاح بلا ولي
وهذا فيه نظر إذ ليس ندور القضاء والنذر كندور المكاتبة وإن كان الفرض أسبق منه إلى الفهم فيحتاج مثل هذا التخصيص إلى دليل قوي فليس يظهر بطلانه كظهور بطلان التخصيص بالمكاتبة
وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قريب والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تدخل تحت الحصر ولكل مسألة ذوق ويجب أن تفرد بنص خاص ويليق ذلك بالفروع ولم نذكر هذا القدر إلا لوقوع الأنس بجنس التصرف فيه والله أعلم
هذا تمام النظر في المجمل والمبين والظاهر والمؤول وهو نظر يتعلق بالألفاظ كلها والقسمان الباقيان نظر أخص فإنه نظر في الأمر والنهي خاصة وفي العموم والخصوص خاصة فلذلك قدمنا النظر في الأعم على النظر في الأخص(31/58)
ص -61-…القسم الثالث في الأمر والنهي
فنبدأ بالأمر فنقول أولا :في حده وحقيقته
وثانيا في صيغته
وثالثا في مقتضاه من الفور والتراخي أو الوجوب أو الندب
وفي التكرار والاتحاد وإثباته
النظر الأول في حده وحقيقته
وهو قسم من أقسام الكلام: إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر أحد أقسامه
وحد الأمر :أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به
والنهي :هو القول المقتضي ترك الفعل وقيل
في حد الأمر أنه طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة وممن هو دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله اللهم اغفر لي وعن سؤال العبد من سيده والولد من والده
ولا حاجة إلى هذا الاحتراز بل يتصور من العبد والولد أمر السيد والوالد وإن لم تجب عليهما الطاعة فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى والعرب قد تقول فلان أمر أباه والعبد أمر سيده ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون(31/59)
ص -62-…ذلك أمرا وإن لم يستحسنوه وكذلك قوله اغفر لي فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرا ويكون عاصيا بأمره
فإن قيل: قولكم الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس ؟
قلنا: الناس فيه فريقان: الفريق الأول :هم المثبتون لكلام النفس وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ودليلا عليه وهو قائم بالنفس وهو أمر بذاته وجنسه ويتعلق بالمأمور به وهو كالقدرة فإنها قدرة لذاتها وتتعلق بمتعلقها ولا يختلف في الشاهد والغائب في نوعه وحده وينقسم إلى قديم ومحدث كالقدرة ويدل عليه تارة بالإشارة والرمز والفعل وتارة بالألفاظ فإن سميت الإشارة المعرفة أمرا فمجاز لأنه دليل على الأمر لا أنه نفس الأمر
وأما الألفاظ فمثل قوله أمرتك فاقتضى طاعته
وهو ينقسم إلى إيجاب وندب
ويدل على معنى الندب بقوله ندبتك ورغبتك فافعل فإنه خير لك وعلى معنى الوجوب بقوله أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب وما يجري مجراه
وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرا وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما أو يكون حقيقة(31/60)
ص -63-…في المعنى القائم بالنفس وقوله إفعل يسمى أمرا مجازا كما تسمى الإشارة المعرفة أمرا مجازا ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس وبين اللفظ أو هو مجاز في اللفظ
الفريق الثاني: هم المنكرون لكلام النفس وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف وتحزبوا على ثلاث مراتب: الحزب الأول: قالوا لا معنى للأمر إلا حرف وصوت وهو مثل قوله إفعل أو ما يفيد معناه وإليه ذهب البلخي من المعتزلة وزعم أن قوله إفعل أمر لذاته وجنسه وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا
فقيل له هذه الصيغة قد تصدر للتهديد كقوله{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت: من الآية40] وقد تصدر للإباحة كقوله{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }[المائدة: من الآية2] فقال ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس وهو مناكرة للحس فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف
الحزب الثاني وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون إن قوله أفعل ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة وغيره وزعموا أنه لو صدر من النائم والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة
وهذا بعارضه قوله من قال أنه لغير الأمر إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل ولا بنظر ولا بنقل متواتر من أهل اللغة فيجب التوقف(31/61)
ص -64-…فيه فعند ذلك اعترف
الحزب الثالث من محققي المعتزلة أنه ليس أمر الصيغة وذاته ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة بل يصير أمرا بثلاث إرادات إرادة المأمور به وإرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة والتهديد
وقال بعضهم: تكفي إرادة واحدة وهي إرادة المأمور
وهذا فاسد من أوجه:
الأول أنه يلزم أن يكون قوله تعالى {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}]الحجر:46[وقوله {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}]الحاقة:24[أمرا لأهل الجنة ولا يمكن تحقيق الأمر إلا بوعد ووعيد فتكون الدار الآخرة دار تكليف ومحنة وهو خلاف الاجماع
وقد ركب ابن الجبائي هذا وقال إن الله مريد دخولهم الجنة وكاره امتناعهم إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم وهذا ظلم والله سبحانه يكره الظلم
فإن قيل: قد وجدت إرادة الصيغة وإرادة المأمور به لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الأمر
قلنا :وهل للأمر معنى وراء الصيغة حتى تراه الدلالة عليه أم لا فإن كان له معنى فما هو وهل له حقيقة سوى ما يقول بالنفس من اقتضاء الطاعة وإن لم يكن سوى الصيغة فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة
الوجه الثاني: أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه إفعل مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه وهو محال بالاتفاق فإن الأمر هو المقتضى وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل بل المقتضي دواعيه وأغراضه ولهذا لو قال لنفسه إفعل وسكت وجد هاهنا إرادة الصيغة وإرادة المأمور به وليس بأمر فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق(31/62)
ص -65-…بغيره وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة ؟فيه كلام سبق
فإن قيل: وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به؟
فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده إسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي والإسراج أعني طلبه والميل إليه لارتباط غرضه به فإن ثبت أن الأمر يرجع إلى هذه الإرادة لزم إقتران الأمر والإرادة في حق الله تعالى حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة إذ الكائنات كلها مرادة أو ينكر وقوعها بإرادة الله فيقال إنها على خلاف إرادته وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته وهي الطاعات وذلك أيضا منكر فما المخلص من هذه الورطة ؟
قلنا: هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الأمر عن الإرادة فقالوا قد يأمر السيد عبده بما لا يريده كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك أسرج الدابة وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد فيعلم أنه لا يريده وهو آمرا إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد منهم العبد والسلطان والحاضرون منه الأمر فدل أنه قد يأمر بما لا يريده
هذا منتهى كلامهم وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الأصول(31/63)
ص -66-…
النظر الثاني في الصيغة
وقد حكى بعض الأصوليين خلافا في أن الأمر هل له صيغة وهذه الترجمة خطأ فإن قول الشارع أمرتكم بكذا وأنتم مأمورون بكذا أو قول الصحابي أمرت بكذا كل ذلك صيغ دالة على الأمر وإذا قال أوجبت عليكم أو فرضت عليكم أو أمرتكم بكذا وأنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب ولو قال أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب
فليس في هذا خلاف وإنما الخلاف في أن قوله إفعل هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن فإنه قد يطلق على أوجه منها بالوجوب كقوله{ أَقِمِ الصَّلاةَ} والندب كقوله {فَكَاتِبُوهُمْ }[النور: من الآية33] والإرشاد كقوله{وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: من الآية282] والإباحة كقوله {فَاصْطَادُوا }[المائدة: من الآية2] والتأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس "كل مما يليك" والامتنان كقوله :{ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[الأنعام: من الآية142[ وإلا كرام كقوله{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}[الحجر:46] الحجر والتهديد كقوله{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ }[فصلت: من الآية40] والتسخير كقوله{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة: من الآية65] ، والتعجيز ، كقوله :{ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ(31/64)
ص -67-…حَدِيدا} ً[الاسراء: من الآية50 [والإهانة كقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49[ الدخان والتسوية كقوله {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا }[الطور: من الآية16[ الطور والإنذار كقوله {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا }[المرسلات: من الآية46[والدعاء كقوله "اللهم اغفر لي" والتمني كقول الشاعر
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
ولكمال القدرة كقوله {كُنْ فَيَكُونُ}[يّس: من الآية82[ وأما صيغة النهي وهو قوله لا تفعل فقد تكون للتحريم وللكراهية والتحقير كقوله {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ }[الحجر: من الآية88[ الحجر ولبيان العاقبة كقوله{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}[ابراهيم: من الآية42[ إبراهيم وللدعاء كقوله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولليأس كقوله{لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [ التحريم: من الآية7[ التحريم وللإرشاد كقوله{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }[المائدة: من الآية101[{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }[المائدة: من الآية101[ فهذه خمسة عشر وجها في إطلاق صيغة الأمر وسبعة أوجه في إطلاق صيغة النهي فلا بد من البحث عن الوضع الأصلي في جملة ذلك ما هو؟ والمتجوز به ما هو ؟
وهذه الأوجه عدها الأصوليون شغفا منهم بالتكثير وبعضها كالمتداخل.
فإن قوله : "كل مما يليك" جعل للتأديب وهو داخل في الندب والآداب مندوب إليها{تَمَتَّعُوا } وقوله للآخرة المرسلات للإنذار قريب من قوله{ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } الذي هو للتهديد .ولا نطول بتفصيل ذلك وتحصيله فالوجوب والندب(31/65)
ص -68-…والإرشاد والإباحة: أربعة وجوه محصلة ولا فرق بين الإرشاد والندب إلا أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية فلا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله.
وقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين والقرء .
وقال قوم: يدل على أقل الدرجات وهو الإباحة وقال قوم هو للندب ويحمل على الوجوب بزيادة قرينة
وقال قوم: هو للوجوب فلا يحمل على ما عداه إلا بقرينة
وسبيل كشف الغطاء أن نرتب النظر على مقامين الأول في بيان أن هذه الصيغة هل تدل على اقتضاء وطلب أم لا؟ والثاني: في بيان أنه إن اشتمل في اقتضاء والإقتضاء موجود في الندب والوجوب على اختيارنا في أن الندب داخل تحت الأمر فهل يتعين لأحدهما أو هو مشترك ؟
المقام الأول: في دلالته على اقتضاء الطاعة :
فنقول: قد أبعد من قال أن قوله إفعل مشترك بين الإباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء فإنا ندرك التفرقة في وضع اللغات كلها بين قولهم إفعل ولا تفعل وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذا منقولا على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين من قيام وقعود وصيام وصلاة بل في الفعل مجملا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم في الأخبار قام زيد ويقوم زيد وزيد قائم في أن الأول للماضي والثاني(31/66)
ص -69-…للمستقبل الثالث للحال هذا هو الوضع وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل والثالث للحال هذا هو الوضع وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالمستقبل عن الماضي لقرائن تدل عليه.
وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي وقالوا في باب الأمر إفعل وفي باب النهي لا تفعل وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل فهذا أمر نعلمه بالضرورة من العربية والتركية والعجمية وسائر اللغات لا يشككنا فيه لطلاق مع قرينة التهديد ومع قرينة الإباحة في نوادر الأحوال
فإن قيل: بم تنكرون على من يحمله على الإباحة لأنها أقل الدرجات فهو مستيقن ؟
قلنا: هذا باطل من وجهين:
أحدهما :أنه محتمل للتهديد والمنع فالطريق الذي يعرف أنه لم يوضع للتهديد يعرف أنه لم يوضع للتخيير.
الثاني :أن هذا من قبيل الاستصحاب لا من قبيل البحث عن الوضع فإنا نقول هل تعلم أن مقتضى قوله إفعل للتخيير بين الفعل والترك ؟فإن قال :نعم فقد باهت واخترع وإن قال :لا فنقول فأنت شاك في معناه فيلزمك التوقف
فيحصل من هذا أن قوله إفعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك بأنه ينبغي أن يوجد وقوله لا تفعل يدل على ترجيح جانب الترك على جانب الفعل وأنه ينبغي أن لا يوجد وقوله أبحت لك فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح
المقام الثاني: في ترجيح بعض ما ينبغي أن يوجد فإن الواجب والمندوب كل واحد منهما ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه وكذا ما أرشد إليه إلا أن الإرشاد يدل على أنه ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه لمصلحة العبد في الدنيا والندب لمصلحته في الآخرة والوجوب لنجاته في الآخرة هذا إذا فرض من الشارع(31/67)
ص -70-…وفي حق السيد إذا قال لعبده: إفعل أيضا يتصور ذلك مع زيادة أمر وهو أن يكون لغرض السيد فقط كقوله إسقني عند العطش وهو غير متصور في حق الله تعالى{ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}]آل عمران: من الآية97 [{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ }]العنكبوت: من الآية6[
وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب وقال قوم :هو للندب وقال قوم :يتوقف فيه ثم منهم من قال :هو مشترك كلفظ العين ومنهم من قال لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع لأحدهما واستعمل في الثاني مجازا
والمختار أنه متوقف فيه
والدليل القاطع فيه أن كونه موضوعا لواحد من الأقسام لا يخلو :إما أن يعرف عن عقل أو نقل
ونظر العقل إما ضروري أو نظري ولا مجال للعقل في اللغات
والنقل إما متواتر أو آحاد ولا حجة في الآحاد
والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام :فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا أو أقروا به بعد الوضع وإما أن ينقل عن الشارع الأخبار عن أهل اللغة بذلك أو تصديق من ادعى ذلك وإما أن ينقل عن أهل الإجماع وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل
فهذه الوجوه الأربعة هي وجوه تصحيح النقل ودعوى شيء من ذلك في(31/68)
ص -71-…قوله: إفعل أو في قوله أمرتك بكذا أو قول الصحابي أمرنا بكذا لا يمكن فوجب التوقف فيه.
وكذلك قصر دلالة الأمر على الفور أو التراخي وعلى التكرار أو الاتحاد يعرف بمثل هذه الطريق
وكذلك التوقف في صيغة العموم عمن توقف فيها هذا مستنده
وعليه ثلاثة أسئلة بها يتم الدليل ونذكر شبه المخالفين
السؤال الأول: قولهم إن هذا ينقلب عليكم في إخراج الإباحة والتهديد من مقتضى اللفظ مع أنه لا يدل عليه عقل ولا نقل فإنه لم ينقل عن العرب صريحا بأنا ما وضعنا هذه الصيغة للإباحة والتهديد لكن استعملناها فيهما على سبيل التجوز؟
قلنا: ما يعرف باستقراء اللغة وتصفح وجوه الاستعمال أقوى مما يعرف بالنقل الصريح ونحن كما عرفنا أن الأسد وضع لسبع والحمار وضع لبهيمة وإن كان كل واحد منهما يستعمل في الشجاع والبليد فيتميز عندنا بتواتر الاستعمال الحقيقة من المجاز فكذلك يتميز صيغة الأمر والنهي والتخيير تميز صيغة الماضي والمستقبل والحال ولسنا نشك فيه أصلا وليس كذلك تميز الوجوب عن الندب
السؤال الثاني :قولهم إن هذا ينقلب عليكم في الوقف فإن الوقف في هذه الصيغة غير منقول عن العرب فلم توقفتم بالتحكم ؟(31/69)
ص -72-…قلنا :لسنا نقول: التوقف مذهب لكنهم أطلقوا هذه الصيغة للندب مرة وللوجوب أخرى ولم يوقفونا على أنه موضوع لأحدهما دون الثاني فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما لم يصرحوا به وأن نتوقف عن التقول والاختراع عليهم وهذا كقولنا بالاتفاق أنا رأيناهم يستعملون لفظ الفرقة والجماعة والنفر تارة في الثلاثة وتارة في الأربعة وتارة في الخمسة فهي لفظة مرددة ولا سبيل إلى تخصيصها بعدد على سبيل الحكم وجعلها مجازا في الباقي
السؤال الثالث :قولهم إن هذا ينقلب عليكم في قولكم إن هذه الصيغة مشتركة اشتراك لفظ الجارية بين المرأة والسفينة والقرء بين الطهر والحيض فإنه لم ينقل أنه مشترك
قلنا لسنا نقول أنه مشترك لكنا نقول نتوقف في هذه أيضا فلا ندري أنه وضع لأحدهما وتجوز به عن الآخر أو وضع لهما معا ويحتمل أن نقول أنه مشترك بمعنى أنا إذا رأيناهم أطلقوا اللفظ لمعنيين ولم يوقفونا على أنهم وضعوه لأحدهما وتجوزوا به في الآخر فنحمل إطلاقهم فيهما على لفظ الوضع لهما وكيفما قلنا فالأمر فيه قريب
شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب:
وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين وهم المعتزلة وجماعة من الفقهاء ومنهم من نقله عن الشافعي وقد صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الندب والوجوب وقال النهي على التحريم فقال إنما أوجبنا تزويج الأيم لقوله تعالى{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: من الآية232]وقال :لم يتبين لي وجوب إنكاح العبد لأنه لم يرد فيه النهي عن العضل بل لم يرد إلا قوله تعالى{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى } [النور: من الآية32]الآية فهذا أمر وهو محتمل للوجوب والندب
الشبهة الأولى :لمن ذهب إلى أنه للندب: أنه لا بد من تنزيل قوله إفعل(31/70)
ص -73-…وقوله أمرتكم على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه وهذا معلوم وأما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه
وهذا فاسد من ثلاثة أوجه :
الأول: أن هذا استدلال والاستدلال لا مدخل له في اللغات وليس هذا نقلا عن أهل اللغة قوله إفعل للندب .
الثاني: أنه لو وجب تنزيل الألفاظ على الأقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الإباحة والإذن إذ قد يقال أذنت لك في كذا فافعله فهو الأقل المشترك أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم كلزوم العقاب بتركه لا سيما على مذهب المعتزلة فالمباح عندهم حسن ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه ويأمر به وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ولم يذهبوا إليه
الثالث: وهو التحقيق :أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الواجب ندبا وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها ويبقى الأصل .
وليس كذلك بل يدخل في حد الندب جواز تركه فهل تعلمون أن المقول فيه إفعل يجوز تركه أم لا ؟فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبا وإن علمتموه فمن أين ذلك واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضا
فإن قيل: لا معنى لجواز تركه إلا أنه لا حرج عليه في فعله وذلك كان معلوما قبل ورود السمع فلا يحتاج فيه إلى تعريف السمع بخلاف لزوم المأثم(31/71)
ص -74-…قلنا: لا يبقى لحكم العقل بالنفي بعد ورود صيغة الأمر حكم فإنه معين للوجوب عند قوم فلا أقل من احتمال حصل الشك في كونه ندبا فلا وجه إلا التوقف نعم يجوز الاستدلال به على بطلان قول من يقول أنه منهي عنه محرم لأنه ضد الوجوب والندب جميعا
الشبهة الثانية التمسك بقوله عليه السلام "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا" ففوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وجزم في النهي طلب الانتهاء
قلنا هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة والوضع ليس للندب واستدلال بالشرع ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته كيف ولا دلالة له إذ لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم كما قال : {فاتقوا الله ما استطعتم}[التغابن:16] وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة وأما قوله فانتهوا كيف دل على وجوب الانتهاء وقوله فانتهوا صيغة أمر وهو محتمل للندب ؟
شبه الصائرين إلى أنه للوجوب:
وجميع ما ذكرناه في إبطال مذهب الندب جار هاهنا وزيادة وهو أن الندب داخل تحت الأمر حقيقة كما قدمناه ولو حمل على الوجوب لكان مجازا في الندب وكيف يكون مجازا فيه مع وجود حقيقته إذ حقيقة الأمر ما يكون ممتثله مطيعا والممتثل مطيع بفعل الندب ولذلك إذا قيل أمرنا بكذا حسن أن يستفهم فيقال أمر إيجاب أو أمر استحباب وندب؟ ولو قال رأيت أسدا لم يحسن أن يقال أردت سبعا أو شجاعا ؟لأنه موضوع للسبع ويصرف إلى الشجاع بقرينة(31/72)
ص -75-…وشبههم سبع :
الأولى :قولهم إن المأمور في اللغة والشرع جميعا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يسبعد الذم والعقاب عند المخالفة ولا الوصف بالعصيان وهم اسم ذم ولذلك فهمت الأمة وجوب الصلاة والعبادات ووجوب السجود لآدم بقوله {إسجدوا} وبه يفهم العبد والولد وجوب أمر السيد والوالد
قلنا: هذا كله نفس الدعوى وحكاية المذهب وليس شيء من ذلك مسلما وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للآمر عادة مع المأمور وعهد وتقترن به أحوال وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب لكن قد يطلق لا على وجه الذم كما يقال أشرت عليك فعصيتني وخالفتني
الشبهة الثانية: أن الإيجاب من المهمات في المحاورات فإن لم يكن قولهم إفعل عبارة عنه فلا يبقى له اسم ومحال إهمال العرب ذلك
قلنا: هذا يقابله أن الندب أمر مهم فليكن إفعل عبارة عنه فإن زعموا أن دلالته قولهم ندبت وأرشدت ورغبت فدلالة الوجوب قولهم أوجبت وحتمت وفرضت وألزمت فإن زعموا أنه صيغة إخبار أو صيغة إرشاد فأين صيغة الإنشاء عورضوا بمثله في الندب
ثم يبطل عليهم بالبيع والإجارة والنكاح إذ ليس لها إلا صيغة الأخبار كقولهم بعت وزوجت وقد جعله الشرع إنشاء إذ ليس لإنشائه لفظ
الشبهة الثالثة :أن قوله إفعل إما أن يفيد المنع أو التخيير أو الدعاء فإذا بطل التخيير والمنع تعين الدعاء والإيجاب قلنا: بل يبقى قسم رابع وهو أن لا يفيد واحدا من الأقسام إلا بقرينة(31/73)
ص -76-…كالألفاظ المشتركة
فإن قيل :أليس قوله لا تفعل أفاد التحريم ؟فقوله :إفعل ينبغي أن يفيد الإيجاب
قلنا :هذا قد نقل عن الشافعي والمختار أن قوله لا تفعل متردد بين التنزيه والتحريم كقوله إفعل ولو صح ذلك في النهي لما جاز قياس الأمر عليه فإن اللغة تثبت نقلا لا قياسا
فهذه شبههم اللغوية والعقلية
أما الشبهة الشرعية فهي أقرب فإنه لو دل دليل الشرع على أن الأمر للوجوب لحملناه على الوجوب لكن لا دليل عليه
وإنما الشبهة الأولى قولهم: نسلم أن اللغة والعقل لا يدل على تخصيص الأمر بالوجوب لكن يدل عليه من جهة الكتاب قوله تعال {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}]النساء: من الآية59[ثم قال {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ }]النور: من الآية54[وهذا لا حجة فيه لأن الخلاف في قوله{ وَأَطِيعُوا }]النساء: من الآية59[قائم أنه للندب أو الوجوب وقوله {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ }]النور: من الآية54[أي كل واحد عليه ما حمل من التبليغ والقبول وهذا إن كان معناه التهديد والنسبة إلى الأعراض عن الرسول عليه السلام فهو دليل على أنه أراد به الطاعة في أصل الإيمان وهو على الوجوب بالاتفاق وغاية هذا اللفظ عموم فنخصه بالأوامر التي هي على الوجوب
وكل ما يتمسك به من الآيات من هذا الجنس فهي صيغ أمر يقع النزاع في أنه للندب أم لا فإن اقترن بذكر وعيد فيكون قرينة دالة على وجوب ذلك الأمر خاصة فإن كان أمرا عاما يحمل على الأمر بأصل الدين وما عرف بالدليل أنه على الوجوب(31/74)
وبه يعرف الجواب عن قوله تعالى{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }]الحشر: من الآية7[ وقوله تعالى{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}]المرسلات:48[وقوله تعالى{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}(31/75)
ص -77-…]النساء: من الآية65 [فكل ذلك أمر بتصديقه ونهى عن الشك في قوله وأمر بالانقياد في الإتيان بما أوجبه
الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}]النور: من الآية63[
قلنا: تدعون أنه نص في كل أمر أو عام ؟ولا سبيل إلى دعوى النص وإن ادعيتم العموم فقد لا نقول بالعموم ونتوقف في صيغته كما نتوقف في صيغة الأمر أو نخصصه بالأمر بالدخول في دينه بدليل أن ندبه أيضا أمره ومن خالف عن أمره في قوله تعالى{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً }]النور: من الآية33[ وقوله{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ }]البقرة: من الآية282[وأمثاله لا يتعرض للعقاب
ثم نقول: هذا نهي عن المخالفة وأمر بالموافقة أي يؤتى به على وجهه إن كان واجبا فواجبا وإن كان ندبا فندبا والكلام في صيغة الإيجاب لا في الموافقة والمخالفة ثم لا تدل الآية إلا على وجوب أمر الرسول عليه السلام فأين الدليل على وجوب أمر الله تعالى ؟
الشبهة الثالثة: تمسكهم من جهة السنة بأخبار آحاد لو كانت صريحة صحيحة لم يثبت بها مثل هذا الأصل وليس شيء منها صريحا
فمنها: قوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت :بأمرك يا رسول الله ؟فقال: لا إنما أنا شافع فقالت :لا حاجة لي فيه فقد علمت أنه لو كان أمرا لوجب وكذلك عقلت الأمة
قلنا :هذا وضع على بريرة وتوهم فليس في قولها إلا استفهام أنه أمر شرعي من جهة الله تعالى حتى تطيع طلبا للثواب أو شفاعة لسبب الزوج حتى تؤثر غرض نفسها عليه(31/76)
ص -78-…فإن قيل: شفاعة الرسول عليه السلام أيضا مندوب إلى إجابتها وفيها ثواب
قلنا :وكيف قالت لا حاجة لي فيه ؟والمسلم يحتاج إلى الثواب فلا يقول ذلك لكنها اعتقدت أن الثواب في طاعته في الأمر الصادر عن الله تعالى وفيما هو لله لا فيما يتعلق بالاغراض الدنيوية أو علمت أن ذلك في الدرجة دون ما ندبت إليه فاستفهمت أو أفهمت بالقرينة أنها شكت في الوجوب فعبرت بالأمر عن الوجوب فأفهمت .
ومنها :قوله عليه السلام "لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" فدل على أنه للوجوب وإلا فهو مندوب
قلنا: لما كان حثهم على السواك ندبا قبل ذلك أفهم أنه أراد بالأمر ما هو شاق أو كان قد أوحي إليه أنك لو أمرتهم بقولك استاكوا لأوجبنا ذلك عليهم فعلمنا أن ذلك يجب بإيجاب الله تعالى عند إطلاقه صيغة الأمر .
ومنها قوله عليه السلام لأبي سعيد الخدري لما دعاه وهو في الصلاة فلم يجبه أما سمعت الله تعالى يقول{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}]لأنفال: من الآية24[فكان هذا التوبيخ على مخالفة أمره
قلنا: لم يصدر منه أمر بل مجرد نداء وكان قد عرفهم بالقرائن تفهيما ضروريا وجوب التعظيم له وأن ترك جواب النداء تهاون وتحقير بأمره بدليل(31/77)
ص -79-…أنه كان في الصلاة وإتمام الصلاة واجب ومجرد النداء لا يدل على ترك واجب بل يجب تركه بما هو أوجب منه كما يجب ترك الصلاة لانقاذ الغرقى ومجرد النداء لا يدل عليه
ومنها: قول الأقرع بن حابس أحجنا هذا لعامنا هذا أم للأبد فقال عليه السلام للأبد ولو قلت نعم لوجب فدل على أن جميع أوامره للإيجاب
قلنا: قد كان عرف وجوب الحج بقوله تعالى{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ }]آل عمران: من الآية97[وبأمور أخر صريحة لكن شك في أن الأمر للتكرار أو للمرة الواحدة فإنه متردد بينهما ولو عين الرسول عليه السلام أحدهما لتعين وصار متعينا في حقنا ببيانه فمعنى قوله لو قلت نعم لوجب أي لو عينت لتعين
الشبهة الرابعة:من جهة الاجماع :زعموا أن الأمة لم تزل في جميع الأعصار ترجع في إيجاب العبادات وتحريم المحظورات إلى الأوامر والنواهي كقوله{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}]البقرة: من الآية110[{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}]التوبة: من الآية36 [{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ]الاسراء: من الآية32[وقوله{لا تَأْكُلُوا الرِّبا }]آل عمران: من الآية130[{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }]النساء: من الآية2[{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }]النساء: من الآية29[{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ }]النساء: من الآية22[وأمثاله
والجواب أن هذا وضع وتقول على الأمة ونسبه لهم إلى الخطأ ويجب تنزيههم عنه نعم يجوز أن يصدر ذلك من طائفة ظنوا أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما فهم المحصلون وهم الأقلون ذلك من القرائن والأدلة بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة وتحريم الزنا والأمر محتمل للندب وإن لم يكن موضوعا له والنهي يحتمل التنزيه وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة ؟وما قولهم إلا كقول من يقول: الأمر للندب بالاجماع لأنهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد وأمثاله لصيغة الأمر والأوامر التي(31/78)
ص -80-…حملتها الأمة على الندب أكثر فإن النوافل والسنن والآداب أكثر من الفرائض إذا ما من فريضة إلا ويتعلق بها وبإتمامها وبآدابها سنن كثيرة أو نقول هي للإباحة بدليل حكمهم بالإباحة في قوله{ فَاصْطَادُوا }]المائدة: من الآية2[وقوله :{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ }]الجمعة: من الآية10[وإن كان ذلك للقرائن فكذلك الوجوب
فإن قيل :وما تلك القرائن؟
قلنا: أما في الصلاة فمثل قوله تعالى{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}]النساء: من الآية103[وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك
وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ}]البقرة: من الآية43[وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}]التوبة: من الآية34[إلى قوله{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } ]التوبة: من الآية35[
وأما الصوم فقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}]البقرة: من الآية183[وقوله {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}]البقرة:184[وإيجاب تداركه على الحائض
وكذلك الزنا والقتل ورد فيهما تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى فلذلك قطعوا به لا بمجرد الأمر الذي منتهاه أن يكون ظاهرا فيتطرق إليه الاحتمال
مسألة: هل بعد انتهاء الخطر فيه إباحة
فإن قال قائل: قوله :افعل بعد الحظر :ما موجبه ؟وهل لتقدم الحظر تأثير؟
قلنا: قال قوم :لا تأثير لتقدم الحظر أصلا .
وقال قوم: هي قرينة تصرفها إلى الإباحة .(31/79)
والمختار: أنه ينتظر فإن كان الحظر السابق عارضا لعلة وعلقت صيغة افعل بزواله كقوله تعالى{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}]المائدة: من الآية2[فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله وإن(31/80)
ص -81-…احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب وإباحة لكن الأغلب ما ذكرناه كقوله{فَانْتَشِرُوا}]الجمعة: من الآية10[وكقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا"
أما إذا لم يكن الحظر عارضا لعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والإباحة ونزيح هاهنا احتمال الإباحة ويكون هذا قرينة تزيح هذا الاحتمال وإن لم تعينه إذ لا يمكن دعوى عرف الاستعمال في هذه الصيغة حتى يغلب العرف الوضع
أما إذا لم ترد صيغة افعل لكن قال :فإذا حللتم المائدة فأنتم مأمورون بالاصطياد فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الإباحة لأنه عرف في هذه الصورة
وقوله: "أمرتكم بكذا" يضاهي قوله افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقرب منها(31/81)
ص -82-…النظر الثالث في موجب الأمر ومقتضاه في موجب الأمر ومقتضاه بالإضافة إلى الفور والتراخي والتكرار وغيره
ولا يتعلق هذا النظر بصيغة مخصوصة بل يجري في قوله افعل كان للندب أو للوجوب وفي قوله أمرتكم وأنتم مأمورون وفي كل دليل يدل على الأمر بالشيء إشارة كانت أو لفظا أو قرينة أخرى
لكنا نتكلم في مقتضى قوله افعل ليقاس عليه غيره
ونرسم فيه مسائل :
مسألة : أحكام الأمر :
قوله صم كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب والندب فهو بالإضافة إلى الزمان يتردد بين الفور والتراخي وبالإضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة واستغراق العمر
وقد قال قوم: هو للمرة ويحتمل التكرار .
وقال قوم :هو للتكرار.
والمختار أن المرة الواحدة معلومة وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ولا على إثباتها
وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ كتردده بين الوجوب والندب لكني أقول ليس هذا ترددا في نفس اللفظ على نحو تردد المشترك بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به لكن يحتمل الإتمام ببيان الكمية كما أنه يحتمل أن نتممه بسبع مرات أو خمس وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك وكما أن قوله أقتل إذا لم يقل أقتل زيدا أو عمرا بل ليس فيه تعرض(31/82)
ص -83-…له فإن تعرض لزيد أو عمرو فهو زيادة فهو دون زيادة كلام ناقص فإتمامه بلفظ دال على تلك الزيادة لا بمعنى البيان
فإن قيل :بين مسألتنا وبين القتل فرق فإن قوله اقتل كلام ناقص لا يمكن امتثاله وقوله صم كلام تام مفهوم يمكن امتثاله
قلنا: يحتمل أن يقال يصير ممتثلا بقتل أي شخص كان بمجرد قوله أقتل كما يصير ممتثلا بصوم أي يوم كان إذا قال صم يوما بلا فرق ويكون قوله أقتل كقوله أقتل شخصا لأن الشخص القتيل من ضرورة القتل وإن لم يذكر كما أن اليوم من ضرورة الصوم وإن لم يصرح به
فيتحصل من هذا أنه تبرأ ذمته بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم والزيادة لا دليل على وجوبها إذ لم يتعرض اللفظ لها فصار كما قبل قوله صم وكنا لا نشك في نفي الوجوب بل نقطع بانتفائه وقوله صم دال على القطع في يوم واحد فبقي الزائد على ما كان هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية
ويعتضد هذا باليمين فإنه لو قال :والله لأصومن لبر بيوم واحد ولو قال لله علي صوم لتفصى عن عهدة النذر بيوم واحد لأن الزائد لم يتعرض له
فإن قيل: فلو فسر التكرار بصوم العمر فقد فسره بمحتمل أو كان ذلك الحاق زيادة كما لو قال أردت بقولي اقتل أي أقتل زيدا وبقولي صم أي صم يوم السبت خاصة فإن هذا تفسير بما لا يحتمله اللفظ بل ليس تفسيرا إنما ذكر زيادة لم يذكرها ولم يوضع اللفظ المذكور لها لا بالإشتراك ولا بالتجوز ولا بالتنصيص
قلنا :هذا فيه نظر والأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر(31/83)
ص -84-…وعدد وإن أراد إستغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه وكأن كلية الصوم شيء فرد أذله حد واحد وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد واللفظ يحتمله ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة ولهذا لو قال أنت طالق ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ولو نوى الثلاثة بعد لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع ولو نوى طلقتين فالأغوص ما قاله أبو حنيفة وهو أنه لا يحتمله ووجه مذهب الشافعي قد تكلفناه في كتاب المبادىء والغايات
فإن قيل: الزيادة التي هي كالمتممة لا تبعد إرادتها في اللفظ فلو قال طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال أردت زينب بنيتي وقع الطلاق من وقت اللفظ ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين
قلنا: الفرق أغوص لأن قوله زوجتي مشترك بين الأربع يصلح لكل واحدة فهو كإدارة إحدى المسميات بالمشترك أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد والصوم موضوع لمعنى لا يتعرض للسبعة والعشرة وليست الأعداد موجودات فيكون اسم الصوم مشتركا بينهما اشتراك اسم الزوجة بين النسوة الزوجات
شبه المخالفين ثلاث:
الشبهة الأولى: قولهم:قوله:اقتلوا المشركين التوبة يعم قتل كل مشرك فقوله صم وصل ينبغي أن يعم كل زمان لأن إضافته إلى جميع الأزمان واحد كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص
قلنا :إن سلمنا صيغة العموم فليس هذا نظيرا له بل نظيره أن يقال صم الأيام وصل في الأوقات أما مجرد قوله صم فلا يتعرض للزمان لا بعموم ولا بخصوص لكن الزمان من ضرورته كالمكان ولا يجب عموم الأماكن بالفعل وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة وكذلك الزمان
الشبة الثانية: قولهم: إن قوله صم كقوله:لا تصم وموجب النهي ترك(31/84)
ص -85-…الصوم أبدا فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدا وتحقيقه أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فقوله قم وقوله لا تقعد واحد وقوله تحرك وقوله لا تسكن واحد ولو قال لا تسكن لزمت الحركة دائما فقوله تحرك تضمن قوله لا تسكن
قلنا:أما قولكم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فقد أبطلناه في القطب الأول وإن سلمنا فعموم النهي الذي هو ضمن بحسب الأمر المتضمن لأنه تابع له فلو قال تحرك مرة واحدة كان السكون المنهي عنه مقصورا على المرة وقوله تحرك كقوله تحرك مرة واحدة كما سبق تقريره وأما قياسهم الأمر على النهي فباطل من خمسة أوجه الأول: أن القياس باطل في اللغات لأنها تثبت توقيفا
الثاني: أنا لا نسلم في النهي لزوم الانتهاء مطلقا بمجرد اللفظ بل لو قيل للصائم لا تصم يجوز أن تقول نهاني عن صوم هذا اليوم أو عن الصوم أبدا فيستفسر بل التصريح أن يقول لا تصم أبدا ولا تصم يوما واحدا فإذا اقتصر على قوله لا تصم فانتهى يوما واحدا جاز أن يقال قضى حق النهي ولا يغنيهم عن هذا الاسترواح إلى المناهي الشرعية والعرفية وحملها على الدوام فإن هذا القائل يقول عرفت ذلك بأدلة أفادت علما ضروريا بأن الشرع يريد عدم الزنا والسرقة وسائر الفواحش مطلقا وفي كل حال لا بمجرد صيغة النهي وهذا كما أنا نوجب الأيمان دائما لا بمجرد قوله آمنوا لكن الأدلة دلت على أن دوام الأيمان مقصود
الثالث: أنا نفرق ولعله الأصح فنقول إن الأمر يدل على أن المأمور ينبغي أن يوجد مطلقا والنهي يدل على أنه ينبغي أن لا يوجد مطلقا والنفي المطلق يعم والوجود المطلق لا يعم فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا ولذلك إذا قال في اليمين لأفعلن بر بمرة ولو قال لا أفعل حنث بمرة ومن قال لأصومن صدق وعده بمرة ومن قال لا أصوم كان كاذبا مهما صام مرة(31/85)
ص -86-…الرابع: أنه لو حمل الأمر على التكرار لتعطلت الأشغال كلها وحمل النهي على التكرار لا يفضي إليه إذ يمكن الانتهاء في حال واحدة عن أشياء كثيرة مع الإشتغال بشغل ليس ضد المنهي عنه
وهذا فاسد لأنه تفسير للغة بما يرجع إلى المشقة والتعذر ولو قال افعل دائما لم يتغير موجب اللفظ بتعذره وإن كان التعذر هو المانع فليقتصر على ما يطاق ويشق دون ما يتيسر
الخامس: أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه ويجب الكف عن القبيح كله والأمر يقتضي الحسن ولا يجب الإتيان بالحسن كله.
وهذا أيضا فاسد فإن الأمر والنهي لا يدلان على الحسن والقبح فإن الأمر بالقبيح تسميه العرب أمرا فتقول أمر بالقبيح وما كان ينبغي أن يأمر به وأما الأمر الشرعي فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن ولا النهي على القبح فإنه لا معنى للحسن والقبح بالإضافة إلى ذوات الأشياء بل الحسن ما أمر به والقبيح ما نهى عنه فيكون الحسن والقبح تابعا للأمر والنهي لا علة ولا متبوعا
الشبهة الثالثة: أن أوامر الشرع في الصوم والصلاة والزكاة حملت على التكرار فتدل على أنه موضوع له
قلنا:وقد حمل في الحج على الاتحاد فليدل على أنه موضوع له فإن كان ذلك بدليل فكذلك هذا بدليل وقرائن بل بصرائح سوى مجرد الأمر
وقد أجاب قوم عن هذا بأن القرينة فيه إضافتها إلى أسباب وشروط وكل ما أضيف إلى شر وتكرر الشرط تكرر الوجوب وسنبين ذلك في المسألة التالية .
مسألة: تكرار الأمر المضاف لشرط
اختلف الصائرون إلى أن الأمر ليس للتكرار في الأمر المضاف إلى شرط(31/86)
ص -87-…فقال قوم :لا أثر للإضافة.
وقال قوم :يتكرر بتكرر الشرط.
والمختار أنه لا أثر للشرط لأن قوله اضربه أمر ليس يقتضي التكرار فقوله اضربه إن كان قائما أو إذا كان قائما لا يقتضيه أيضا بل لا يريد إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الإطلاق بحالة للقيام وهو كقوله لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول بل لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر بتكرر الدخول إلا أن يقول كلما دخلت الدار وكذلك قوله تعالى{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }]البقرة: من الآية185[وإذا زالت الشمس فصل قوله لزوجاته فمن شهد منكن الشهر فهي طالق ومن زالت عليها الشمس فهي طالق
ولهم شبهتان:
الأولى: أن الحكم يتكرر بتكرر العلة والشرط كالعلة فإن علل الشرع علامات
قلنا:العلة إن كانت عقلية فهي موجبة لذاتها ولا يعقل وجود ذاتها دون المعلول وإن كانت شرعية فلسنا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إلى العلة ما لم تقترن به قرينة أخرى وهو التعبد بالقياس ومعنى التعبد بالقياس الأمر باتباع العلة وكأن الشرع يقول الحكم يثبت بها فاتبعوها.
الشبهة الثانية:إن أوامر الشرع إنما تتكرر بتكرر الأسباب كقوله تعالى{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا }]المائدة: من الآية6[و{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا }]المائدة: من الآية6[
قلنا:ليس ذلك بموجب اللغة ومجرد الإضافة بل بدليل شرعي في كل شرط فقد قال تعالى{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }]آل عمران: من الآية97[ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة
فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما يتكرر أيضا على الدليل كيف ومن قام إلى الصلاة غير محدث فلا يتكرر عليه ومن كان جنبا فليس عليه أن يتطهر إذا لم(31/87)
ص -88-…يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل
مسألة: هل الأمر على الفور أم لا؟ :
مطلق الأمر يقتضي الفور عند قوم ولا يقتضيه عند قوم وتوقف فيه من الواقفية قوم ثم منهم من قال التوقف في المؤخر هل هو ممتثل أم لا أما المبادر فممتثل قطعا ومنهم من غلا وقال يتوقف في المبادر أيضا
والمختار: أنه لا يقتضي إلا الامتثال ويستوي فيه البدار والتأخير وندل على بطلان الوقف أولا فنقول للمتوقف المبادر ممتثل أم لا فإن توقفت فقد خالفت إجماع الأمة قبلك فإنهم متفقون على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء والمأمور إذا قيل له قم فقام يعلم نفسه ممتثلا ولا يعد به مخطئا باتفاق أهل اللغة قبل ورود الشرع وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال عز من قائل{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ }]آل عمران: من الآية133[وقال{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}]المؤمنون:61[
وإذا بطل هذا التوقف فنقول لا معنى للتوقف في المؤخر لأن قوله اغسل هذا الثوب مثلا لا يقتضي إلا طلب الغسل والزمان من ضرورة الغسل كالمكان وكالشخص في القتل والضرب والسوط والسيف في الضرب ثم لا يقتضي الأمر بالضرب مضروبا مخصوصا ولا سوطا ولا مكانا للأمر فكذلك الزمان لأن اللافظ ساكت عن التعرض للزمان والمكان فهما سيان
ويعتضد هذا بطريق ضرب المثال لا بطريق القياس بصدق الوعد إذا قال أغسل وأقتل فإنه صادق بادر أو أخر ولو حلف لأدخلن الدار لم يلزمه البدار
وتحقيقه أن مدعي الفور متحكم وهو محتاج إلى أن ينقل عن أهل اللغة أن(31/88)
ص -89-…قولهم افعل للبدار ولا سبيل إلى نقل ذلك لا تواترا ولا آحادا
ولهم شبهتان:
الأولى: أن الأمر للوجوب وفي تجويز التأخير ما ينافي الوجوب إما بالتوسع وإما بالتخيير في فعل لا بعينه من جملة الأفعال الواقعة في الأوقات والتوسع والتخيير كلاهما يناقض الوجوب
قلنا: قد بينا في القطب الأول أن الواجب المخير والموسع جائز ويدل عليه أنه لو صرح وقال اغسل الثوب أي وقت شئت فقد أوجبته عليك لم يتناقض.
ثم لا نسلم أن الأمر للوجوب ولو كان للوجوب أما بنفسه أو بقرينة فالتوسع لا ينافيه كما سبق
الشبهة الثانية: أن الأمر يقتضي وجوب الفعل واعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال ثم وجوب الاعتقاد والعزم على الفور فليكن كذلك الفعل
قلنا: القياس باطل في اللغات ثم هو منقوض بقوله افعل أي وقت شئت فإن الاعتقاد والعزم فيه على الفور دون الفعل .
ثم نقول: وجوب الفور في العزم والاعتقاد معلوم بقرينة وأدلة دلت على التصديق للشارع والعزم على الانقياد له ولم يحصل ذلك بمجرد الصيغة
مسألة: قضاء العبادات
:مذهب بعض الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر إلى أمر مجدد ومذهب المحصلين أن الأمر بعبادة في وقت لا يقتضي القضاء لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال أو شهر رمضان كتخصيص الحج بعرفات وتخصيص الزكاة بالمساكين وتخصيص الضرب والقتل بشخص وتخصيص الصلاة بالقبلة فلا فرق بين الزمان والمكان والشخص فإن جميع ذلك تقييد للمأمور بصفة والعاري عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ بل يبقى على ما كان قبل الأمر
فإن قيل:الوقت للعبادة كالأجل للدين فكما لا يسقط الدين بانقضاء الأجل لا تسقط الصلاة الواجبة في الذمة بانقضاء المدة(31/89)
ص -90-…قلنا: مثال الأجل الحول في الزكاة لا جرم لا تسقط الزكاة بانقضائه لأن الأجل مهلة لتأخير المطالبة حتى ينجز بعد المدة وأما الوقت فقد صار وصفا للواجب كالمكان والشخص ومن أوجب عليه شيء بصفة فإذا أتى به لا على تلك الصفة لم يكن ممتثلا
نعم يجب القضاء في الشرع إما بنص كقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" أو بقياس فإنا نقيس الصوم إذا نسيه على الصلاة إذا نسيها ونراه في معناها ولا نقيس عليه الجمعة ولا الأضحية فإنهما لا يقضيان في غير وقتهما وفي رمي الجمار تردد أنه بأي الأصلين أشبه ولا نقيس صلاة الحائض على صومها في القضاء لفرق النص ولا نقيس صلاة الكافر وزكاته على صلاة المرتد وإن تساويا في أصل الأمر والوجوب عندنا
مسألة : في موضوع القضاء أيضا :
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي وقوع الأجزاء بالمأمور به إذا امتثل وقال بعض المتكلمين لا يدل على الأجزاء لا بمعنى أنه لا يدل على كونه طاعة وقربة وسبب ثواب وامتثالا لكن بمعنى أنه لا يمنع الامتثال من وجوب القضاء ولا يلزم حصول الأجزاء بالأداء بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بالإتمام ولا يجزئه بل يلزمه القضاء ومن ظن أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة وممتثل إذا صلى ومطيع ومتقرب ويلزمه القضاء فلا يمكن إنكار كونه مأمورا ولا إنكار كونه ممتثلا حتى يسقط العقاب ولا إنكار كونه مأمورا بالقضاء فهذه أمور مقطوع بها
والصواب عندنا أن نفصل ونقول إذا ثبت أن القضاء يجب بأمر متجدد وأنه مثل الواجب الأول فالأمر بالشىء لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال وهذا لا شك فيه ولكن ذلك المثل إنما يسمى قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها وإن لم يكن فوات وخلل استحال تسميته قضاء(31/90)
فنقول: الأمر يدل على أجزاء المأمور إذا أدى بكمال وصفه وشرطه من غير خلل وإن تطرق إليه خلل كما في الحج الفاسد والصلاة على غير الطهارة فلا يدل الأمر على أجزائه بمعنى منع إيجاب القضاء(31/91)
ص -91-…فإن قيل:فالذي ظن أنه متطهر مأمور بالصلاة على تلك الحالة أو مأمور بالطهارة فإن كان مأمور بالطهارة مع تنجز الصلاة فينبغي أن يكون عاصيا وإن كان مأمورا بالصلاة على حالته فقد امتثل من غير خلل فبم عقل إيجاب القضاء وكذلك المأمور بإتمام الحج الفاسد أتم كما أمر
قلنا هذا مأمور بالصلاة مع الخلل بضرورة نسيانه فقد أتى بصلاة مختلة فاقدة شرطها لضرورة حاله فعقل الأمر لتدارك الخلل أما إذا لم يكن الخلل لا عن قصد ولا عن نسيان فلا تدارك فيه فلا يعقل إيجاب قضائه وهو المعني بأجزائه وكذلك مفسد الحج مأمور بحج خال عن فساد وقد فوت على نفسه ذلك فيقضيه.
مسألة: دليل الأمر:
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بالشيء ما لم يدل عليه دليل مثاله قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}]التوبة: من الآية103[لا يدل على وجوب الأداء بمجرده على الأمة وربما ظن ظان أنه يدل على الوجوب وليس الأمر كذلك لكن دل الشرع على أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام واجب الطاعة وأنهم لو كانوا مأذونين في المنع لكان ذلك تحقيرا للنبي عليه السلام وتنفيرا للأمة عنه وذلك يغض من قدره ويشوش مقصود الشرع وإلا فلا يستحيل أن يقال للزوج الشافعي إذا قال لزوجته أنت بائن علي نية الطلاق راجعها وطالبها بالوطء ويقال للحنفية التي ترى أنها بائنة يجب عليك المنع ويقال للولي الذي يرى أن لطفله على طل غيره شيئا أطلبه ويقال للمدعي عليه إذا عرف أنه لا شيء على طفله لا تعطه ومانعه ويقول السيد لأحد العبدين أوجبت عليك أن تأمر العبد الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك العصيان له(31/92)
ص -92-…وبهذا تعرف أن قوله عليه السلام :"مروهم بالصلاة لسبع" ليس خطابا من الشرع
مع الصبي ولا إيجابا عليه مع أن الأمر واجب على الولي
فإن قيل:فلو قال للنبي:أوجبت عليك أن توجب على الأمة وقال للأمة أوجبت عليكم خلافه ؟
قلنا :ذلك يدل على أن الواجب على النبي أن يقول أوجبت لا على حقيقة الإيجاب فإن أراد حقيقة الإيجاب فهو متناقض بخلاف {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }]التوبة: من الآية103[فإن ذلك لا يناقضه أمرهم بالمنع
فإن قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والتسلم لا يتم إلا بالتسليم
قلنا:لا يجب التسلم بل يجب الطلب فقط ثم إن وجب التسلم فذلك يتم بالتسليم المحرم وإنما يناقض التسلم أنتفاء التسليم في نفسه لانتفاء علته وحكمه
وبالجملة: كما أن من أمر زيدا بضرب عمرو فلا يطلب من عمرو شيئا فكذلك إذا أمره يأمر عمرا فلا يطلب من عمرو شيئا
مسألة : خطاب الجماعة بالأمر:
ظاهر الخطاب مع جماعة بالأمر يقتضي وجوبه على كل واحد إلا أن يدل دليل على سقوط الفرض عن الجميع بفعل واحد أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم الجميع كقوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }]آل عمران: من الآية104[ كقوله تعالى{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}]التوبة: من الآية122[فإن هذا لا يدل على الوجوب في حق كل واحد على التعيين .
فإن قيل فما حقيقة فرض الكفاية ؟ أهو فرض على الجميع ثم يسقط الفرض(31/93)
ص -93-…بفعل البعض أو هو فرض على واحد لا بعينه أي واحد كان كالواجب المخير في خصال الكفارة أو هو واجب على من حضر وتعين أعني حضر الجنازة أو المنكر أما من لم يتعين فهو ندب في حقه
قلنا:الصحيح من هذه الأقسام الأول وهو عموم الفرضية فإن سقوط الفرض دون الأداء يمكن إما بالنسخ أو بسبب آخر ويدل عليه أنهم لو فعلوا بأجمعهم نال كل واحد منهم ثواب الفرض وإن امتنعوا عم الحرج الجميع ولو خلا بعضهم عن الوجوب لا نفك عن الإثم أما الإيجاب على واحد لا بعينه فمحال لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف وإذا أبهم الوجوب تعذر الامتثال كما حققناه في بيان الواجب المخير
مسألة: متى يعلم الأمر والامتثال
ذهبت المعتزلة إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال وذهب القاضي وجماهير أهل الحق إلى أنه يعلم ذلك
وفي تفهيم حقيقة المسألة غموض وسبيل كشف الغطاء عنه أن نقول إنما يعلم المأمور كونه مأمورا مهما كان مأمورا لأن العلم يتبع المعلوم وإنما يكون مأمورا إذا توجه الأمر عليه ولا خلاف أنه يتصور أن يقول السيد لعبده صم غدا وأن هذا أمر محقق ناجز في الحال وإن كان مشروطا ببقاء العبد إلى غد ولكن اتفقت المعتزلة على أن الأمر المقيد بالشرط أمر حاصل ناجز في الحال لكن يشترط أن يكون تحقق الشرط مجهولا عند الآمر والمأمور أما إذا كان معلوما فلا فإنه لو قال صم إن صعدت إلى السماء أو إن عشت ألف سنة فليس هذا بأمر أي هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا أي هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا ولو قال صم إن كان العالم مخلوقا أو كان الله موجودا فهذا أمر ولكن ليس بمقيد بشرط وليس هذا من الشرط في شيء فإن الشرط هو الذي يمكن أن يوجد ولا يوجد فلما كان العلم بوجود الشرط أو عدمه منافيا وجود الأمر المقيد(31/94)
ص -94-…بالشرط زعموا أن الله عالم بعواقب الأمر فالشرط في أمره محال
ونحن نسلم أن جهل المأمور شرط أما جهل الآمر فليس بشرط حتى لو علم السيد بقول نبي صادق أن عبده يموت قبل رمضان فيتصور أن يأمره بصوم رمضان مهما جهل العبد ذلك وربما كان له فيه لطف يدعوه إلى الطاعات ويزجره عن المعاصي وربما كان لطفا لغير المأمور بحث أو زجر وربما كان امتحانا له ليشتغل بالاستعداد فيثاب على العزم على الامتثال ويعاقب على العزم على الترك
والمعتزلة أحالوا ذلك وقالوا إذا شهد العبد هلال رمضان توجه عليه الأمر بحكم قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185] لكن ذلك بناء على ظن البقاء ودوام القدرة فإن الحياة والقدرة شرط في التكليف فإذا مات في منتصف الشهر تبينا أنه كان مأمورا بالنصف الأول وأنه لم يكن مأمورا بالنصف الثاني
ويدلك على بطلان مذهبهم مسالك:
المسلك الأول: أن الأمة مجمعة قبل ظهور المعتزلة أن الصبي كما يبلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد كونه مأمورا بشرائع الإسلام منهيا عن الزنا والسرقة والقتل في الحال وإن لم يحضره وقت صلاة ولا زكاة ولا حضر من يمكن قتله والزنا به ولا حضر مال تمكن سرقته ولكن يعلم نفسه مأمورا منهيا بشرط التمكن لأنه جاهل بعواقب أمره وعلمه بأن الله تعالى عالم بها لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد
المسلك الثاني: أن الأمة مجمعة على أن من عزم على ترك ما ليس منهيا عنه فليس بمتقرب إلى الله تعالى ومن عزم على ترك المنهيات والإتيان بالمأمورات كان متقربا إلى الله تعالى وإن احتمل أن لا يكون مأمورا أو منهيا لعلم الله بأنه لا يساعده التمكن فينبغي أن نشك في كونه متقربا ونتوقف،(31/95)
ص -95-…ونقول إن مت بعد هذا العزم وقبل التمكن فلا ثواب لك لأنه لا تقرب منك وإن عشت وتمكنت تبينا عند ذلك كونك متقربا وهذا خلاف الإجماع
المسلك الثالث: إجماع الأمة على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية ولا يعقل تثبيت نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول وقت الصلاة فرض الظهر وربما يموت في أثناء وقت الصلاة فيتبين عند المعتزلة أنه لم يكن فرضا فليكن شاكا في الفرضية وعند ذلك تمتنع النية فإن النية قصد لا يتوجه إلا إلى معلوم
فإن قيل:إن نوى فرضية أربع ركعات فلو مات بعد ركعتين يعلم أنه لم تكن إلا ربع فريضة وهو مجوز للموت فكيف ينوي فرض ما هو شاك فيه ؟
قلنا ليس شاكا فيه بل هو قاطع بأن الأربع فرض بشرط البقاء فالأمر بالشرط أمر في الحال وليس بمعلق والفرض بالشرط فرض أي أنه مأمور أمر إيجاب من عزم عليه يثاب ثواب من عزم على واجب وإذا قال السيد لعبده صم غدا فهو أمر في الحال يصوم في الغد لا أنه أمر في الغد وإذا قال له أوجبت عليك بشرط بقائك وقدرتك فهو موجب في الحال لكن إيجابا بشرط فهكذا ينبغي أن تفهم حقيقة هذه المسألة وكذلك إذا قال لوكيله بع داري غدا فهو موكل وآمر في الحال والوكيل مأمور ووكيل في الحال حتى يعقل أن يعزل قبل مجيء الغد فإذا قال الوكيل وكلني ثم عزلني وأمرني ثم منعني كان صادقا فلو مات قبل مجيء الغد لا يتبين أنه كان كاذبا
وقد حققنا هذا في مسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال وفي نسخ الذبح عن إبراهيم عليه السلام ولهذا فرق الفقهاء بين أن يقول إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي وبين أن يقول وكلتك ببيع داري لكن تبيعها عند رأس الشهر فإن الأول تعليق ومن منع تعليق الوكالة ربما جوز تنجيز الوكالة مع تأخير التنفيذ إلى رأس الشهر
المسلك الرابع: إجماع الأمة على لزوم الشروع في صوم رمضان أعني أول يوم(31/96)
ص -96-…مثلا ولو كان الموت في أثناء النهار يبين عدم الأمر فالموت مجوز فيصير الأمر مشكوكا فيه ولا يلزمه الشروع بالشك
فإن قيل:لأنه إن بقي كان واجبا والظاهر بقاؤه والحاصل في الحال يستصحب والاستصحاب أصل تبنى عليه الأمور كما أن من أقبل عليه سبع يهرب وإن كان يحتمل موت السبع قبل الانتهاء إليه لكن الأصل بقاؤه فيستصحبه ولأنه لو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الأوامر المضيقة أوقاتها كالصوم فإنه إنما يعلم تمام التمكن بعد انقضاء اليوم ويكون قد فات
قلنا:هذا يلزمكم في الصوم ومذهبكم هو الذي يفضي إلى هذا المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال وأما الهرب من السبع فحزم وأخذ بأسوأ الأحوال ويكفي فيه الاحتمال البعيد فإن من شك في سبع على الطريق أو سارق فيحسن منه الحزم والاحتراز أما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال
وينبغي أن يقال من أعرض عن الصوم ومات قبل الغروب لم يكن عاصيا لأنه أخذ بالاحتمال الآخر وهو احتمال الموت فليكن معذورا به فإن زعموا أن ظن البقاء بالاستصحاب أورث ظن الوجوب وظن الوجوب اقتضى تحقق الوجوب من الشرع جزما قطعا فهذا تعسف وتناقض
المسلك الخامس: أن الإجماع منعقد على أن من حبس المصلي في أول الوقت وقيده ومنعه من الصلاة متعد عاص بسبب منعه من الصلاة الواجبة فإن كان التكليف يندفع به فقد أحسن إليه إذ منع التكليف عنه فلم عصي ؟
وهذا فيه نظر لأنه عصي لأن التصرف في الغير بضبطه ومنعه حرام وإن منعه غير مباح أيضا ولأن منعه صار سببا لوجوب القضاء في ذمته وهو على خطر من فواته أو يحرم لأنه أخرجه عن أن يكلفه وفي التكليف مصلحة وقد فوتها عليه بدليل أنه لو قيده قبل وقت الصلاة أو قبل وقت الصلاة أو قبل البلوغ إلى أن بلغ ودخل وقت الصلاة عصى ولم يكن على الصبي أمر ناجز لا بشرط ولا بغير شرط(31/97)
ص -97-…شبه المعتزلة
الأولى : قولهم إثبات الأمر بشرط يؤدي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم أما تأخير الشرط عن المشروط فمحال
قلنا ليس هذا شرطا لوجود ذات الأمر وقيامه بذات الآمر بل الأمر وقيامه بذات الآمر بل الأمر موجود قائم بذات الآمر وجد الشرط أو لم يوجد وإنما هو شرط لكون الأمر لازما واجب التنفيذ وليس ذلك من شرط كونه موجودا بسبيل ولهذا قلنا الأمر أمر للمعدوم بتقدير الوجود وإن لم يبلغه بشرط بلوغه فليس البلوغ شرطا لقيام نفس الأمر بذات الآمر بل للزوم تنفيذه
فإن قال قائل اختلاف قول الشافعي في أن من جامع في نهار رمضان ثم مات أو جن قبل الغروب هل يلزمه الكفارة هل يلتفت إلى هذا الأصل ؟
قلنا أما من ذهب إلى أنا نتبين عند زوال الحياة انتفاء الأمر من أصله فلا يمكنه إيجاب الكفارة وأما من ذهب إلى أنا لا نتبين عدم الأمر فيحتمل منه التردد إذ يحتمل أن يقول قد أفسد بالجماع الصوم الذي كان واجبا عليه وقطع الصوم الواجب بحكم الوقت وإفساده يوجب الكفارة يحتمل أن يقال وجبت الكفارة بإفساد صوم لا يتعرض للفساد والانقطاع قبل الغروب وهذا متعرض له فيكون هذا مانعا من الإلحاق بالصوم الذي يتعين الجماع لإفساده
فإن قال قائل فلو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء النهار أو بقول نبي صادق حيضا أو جنونا أو موتا فهل يلزمها الصوم حتى تصوم بعض اليوم
قلنا على مذهب المعتزلة لا ينبغي أن يلزم لأن بعض اليوم غير مأمور به وهي غير مأمورة بالكل أما عندنا فالأظهر وجوبه لأن المرخص في الإفطار لم يوجد والأمر قائم في الحال والميسور لا يسقط بالمعسور(31/98)
ص -98-…فإن قال قائل: لو قال إن صليت أو شرعت في الصلاة أو الصوم فزوجتي طالق ثم شرع ثم أفسد أو مات أو جن قبل الإتمام فقد اختلفوا في وقوع الطلاق فهل يلتفت هذا إلى هذا الأصل ؟
قلنا: نعم قياس مذهب المعتزلة أن لا يحنث لأن بعض الصوم ليس بصوم والفاسد ليس بصوم وقد تبين ذلك بالآخرة وعلى مذهبنا ينبغي أن يحنث وهذه صلاة في الحال وتمامها مقيد بالشرط حتى لو قال والله لأعتكفن صائما أوان اعتكفت صائما فزوجتي طالق ثلاثا فاعتكف ساعة صائما ثم جن أو مات لم تجب الكفارة في تركته ولم ترثه زوجته.
ولا تخلو هذه المسائل عن الالتفات إلى هذا الأصل
ولو قال إن أمرت عبدي فزوجتي طالق ثم قال صم غدا طلقت زوجته فإن مات قبل الغد فلا يتبين انتفاء الطلاق ولو قال إن وكلت وكيلا فزوجتي طالق وإن عزلت وكيلا فعبدي حر ثم وكل من يبيع داره غدا ثم عزل قبل الغد طلقت زوجته وعتق عبده
الشبهة الثانية : وهي الأقوى قولهم إن الأمر طلب فلا يقوم بذات من يعلم امتناع وجود المأمور فكيف يقوم بذات السيد طلب الخياطة إن صعد العبد إلى السماء وهو يعلم أنه لا يصعد نعم يمكن أن يقول خط إن صعدت إلى السماء لكنه صيغة أمر ولا يقوم الطلب بذاته كما لو قال له اصعد إلى السماء لم يكن أمرا لعجزه وعلم الآمر بامتناعه إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق وأنتم قد ملتم إلى منع تكليف المحال وبه يفارق الآمر الجاهل فإن من لا يعرف عجز عبده عن القيام يتصور أن يقول قم ويقوم بذاته الطلب أما إذا علم عجزه فلا يقوم بذاته طلب الممتنع
وهذا التحقيق وهو أن الجهل إذا كان شرطا لقيام هذا الأمر بذاته فالمؤثر في صفة ذاته جهله لا جهل المأمور فهما علم الآمر عدم الشرط فكيف يكون طالبا وإذا لم يكن طالبا فكيف يكون آمرا والآمر هو الطلب هذا واقع ؟
والجواب أن هذا لا يصح من المعتزلة مع إنكارهم كلام النفس(31/99)
ص -99-…أما عندنا فليس المراد بالطلب الذي هو معنى الأمر إرادة وتشوقا لأن المعاصي عندنا مرادة وهي غير مأمور بها والطاعات مأمور بها وقد لا تكون مرادة فإن ما أراد الله واقع والتشوق على الله محال وإنما معناه اقتضاء فعله لمصلحة العبد ولكنه يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لما يخالفه لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد وهذا لطف متصور من الله تعالى
ويتصور أيضا من السيد أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر قبل الامتثال امتحانا للعبد واستصلاحا له وكل أمر مقيد بشرط أن لا ينسخ وكل وكالة مقيدة بشرط أن لا يعزل الوكيل وقوله وكلتك ببيع العبد غدا مع العلم بأنه سيعتق العبد قبل الغد وكالة في الحال يقصد بها استمالة الوكيل مثلا وامتحانه في إظهار الاستبشار بأمره أو الكراهية فكل ذلك معقول لهذه الفائدة وليس تحت الأمر إلا أنه اقتضاء من هذا الجنس والله أعلم
القول في صيغة النهي
اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار ولكنا نتعرض لمسائل لا بد من افرادها بالكلام
مسألة هل النهي يقتضي الفساد اختلفوا في أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها؟(31/100)
ص -100-…فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها
وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد وإن كان لغيره فلا والمختار أنه لا يقتضي الفساد
وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام ولو صرح الشارع وقال حرمت عليك إستيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه لكن إن فعلت ملكت الجارية ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن لكن إن فعلت حلت الذبيحة فشيء من هذا ليس يمتنع ولا يتناقض
بخلاف قوله حرمت عليك الطلاق وأمرتك به أو أبحثه لك وحرمت عليك الاستيلاد لجارية الابن وأوجبته عليك فإن ذلك متناقض لا يعقل لأن التحريم يضاد الإيجاب ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك والحل وسائر الأحكام إذ يتناقض أن يقول حرمت الزنا وأبحته ولا يتناقض أن يقول حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والأحكام عنه(31/101)
فإذا ثبت هذا فقوله لا تبع ولا تطلق ولا تنكح لو دل على تخلف الأحكام وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع ومحال أن يدل من حيث اللغة لأن العرب قد تنهى عن الطاعات وعن الأسباب المشروعة وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد أما الأحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان إذ يعقل أن يقول العربي هذا العقد الذي يفيد الملك والأحكام إياك أن تفعله وتقدم عليه ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي للإفساد ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا لكان ذلك من جهة الشرع تصرفا في اللغة بالتغيير أو كان النهي من جهته منصوبا علامة على الفساد ويجب قبول ذلك ولكن الشأن في إثبات هذه الحجة ونقلها(31/102)
ص -101-…وشبههم الشرعية أربع:
الشبهة الأولى: قولهم إن المنهي عنه قبيح ومعصية فكيف يكون مشروعا قلنا إن أردتم بالمشروع كونه مأمورا به أو مباحا أو مندوبا فذلك محال ولسنا نقول به وإن عنيتم به كونه منصوبا علامة للملك أو الحال أو حكم من الأحكام ففيه وقع النزاع فلم ادعيتم استحالته ولم يستحل أن يحرم الاستيلاد وينصب سببا لملك الجارية ويحرم الطلاق وينصب سببا للفراق؟ بل لا يستحيل أن ينهي عن الصلاة في الدار المغصوبة وتنصب سببا لبراءة الذمة وسقوط الفرض
الشبهة الثانية: قولهم: إن النهي لا يرد من الشارع في البيع والنكاح إلا لبيان خروجه عن كونه مملكا أو مشروعا .
قلنا:في هذا وقع النزاع الدليل عليه وكم من بيع ونكاح ونهي عنه وبقي سببا للإفادة فما هذا التحكم ؟ الشبهة الثالثة: قوله عليه السلام "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومن أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد"
قلنا: معنى قوله رد أي غير مقبول طاعة وقربة ولا شك في أن المجرم لا يقع طاعة أما أن لا يكون سببا للحكم فلا فإن الاستيلاد والطلاق وذبح شاة الغير ليس عليه أمرنا ثم ليس برد بهذا المعنى
الشبهة الرابعة :قولهم :أجمع سلف الأمة على الاستدلال بالمناهي على الفساد ففهموا فساد الربا من قوله {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا }]البقرة: من الآية278[واحتج ابن عمر(31/103)
ص -102-…رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }]البقرة: من الآية221[وفي نكاح المحارم بالنهي
قلنا:هذا يصح من بعض الأمة أما من جميع الأمة فلا يصح ولا حجة في قول البعض نعم يتمسك به في التحريم والمنع أما في الإفساد فلا
مسألة:الفرق بين الفساد والبطلان
الذين اتفقوا على أن النهي عن التصرفات لا يدل على فسادها اختلفوا في أنه هل يدل على صحتها ؟
فنقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه يدل على الصحة وأنه(31/104)
ص -103-…يستدل بالنهي عن صوم يوم النحر على انعقاده فإنه لو استحال انقعاد لما نهي عنه فإن المحال لا ينهي عنه كما لا يؤمر فلا يقال للأعمى لا تبصر كما لا يقال له أبصر فزعموا أن النهي عن الزنا يدل على انعقاده
وهذا فاسد لأنا بينا أن الأمر بمجرده لا يدل على الأجزاء والصحة فكيف يدل عليه النهي ؟بل الأمر والنهي يدل على اقتضاء الفعل واقتضاء الترك فقط أو على الوجوب والتحريم فقط أما حصول الأجزاء والفائدة أو نفيهما فيحتاج إلى دليل آخر واللفظ من حيث اللغة غير موضوع لهذه القضايا بالشرعية
وأما من حيث الشرع: فلو قال الشارع إذا نهيتكم عن أمر أردت به صحته لتلقيناه منه ولكنه لم يثبت ذلك صريحا لا بالتواتر ولا بنقل الآحاد وليس من ضرورة المأمور أن يكون صحيحا مجزئا فكيف يكون من ضرورة المنهي ذلك فإذا لم يثبت ذلك شرعا ولغة وضرورة بمقتضى اللفظ فالمصير إليه تحكم بل الاستدلال به على فساده أقرب من الاستدلال به على صحته
فإن قيل:المحال لا ينهي عنه لأن الأمر كما يقتضي مأمورا يمكن امتثاله فالنهي يقتضي منهيا يمكن ارتكابه فصوم يوم النحر إذا نهى عنه ينبغي أن يصح ارتكابه ويكون صوما فاسم الصوم للصوم الشرعي لا للإمساك فإنه صوم لغة لا شرعا والأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع هذا هو الأصل ولا يلزم عليه قوله دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}]النساء: من الآية22[ لأنه حمل النكاح والصلاة بالمعنى اللغوي على خلاف الوضعي بدليل دل عليه ولا يلزم عليه قوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود لأن ذلك نفي وليس نهيا(31/105)
قلنا :الأصل أن الاسم لموضوعه اللغوي إلا ما صرفه عنه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الأوامر أنه يستعمل الصوم والنكاح والبيع لمعانيها الشرعية أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع بدليل قوله دعي الصلاة أيام أقرائك {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}(31/106)
ص -104-…وأمثال هذه المناهي مما لا ينعقد أصلا ولم يثبت فيه عرف استعمال الشرع فيرجع إلى أصل الوضع ونقول إذا تعارض فيه عرف الشرع والوضع فمن صام يوم النحر فقد ارتكب النهي وإن لم ينعقد صومه ويكون هذا أولى لأن مذهبهم يفضي إلى صرف النهي عن ذلك المنهي عنه إلى غيره فإنه لو كان منهيا في عينه استحال أن يكون عبادة منعقدة ومطلق النهي عن الشيء يدل على النهي عن عينه إلا أن يدل دليل فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة
فإن قيل: فإذا اخترتم أن النهي لا يدل على الصحة ولا على الفساد في أسباب المعاملات فما قولكم في النهي عن العبادات؟
قد بينا أن النهي يضاد كون المنهي عنه قربة وطاعة لأن الطاعة عبارة عما يوافق الأمر والأمر والنهي متضادان فعلى هذا صوم يوم النحر لا يكون منعقدا إن أريد بانعقاده كونه طاعة وقربة وامتثالا لأن النهي يضاده وإذا لم يكن قربة لم يلزم بالنذر إذ لا يلزم بالنذر ما ليس بقربة نعم لو أمكن صرف النهي عن عين الصوم إلى ترك إجابة دعوة الله تعالى فذلك لا يمنع انعقاده ولكن ذلك أيضا فاسد كما سبق في القطب الأول
وإن قيل فقد حمل بعض المناهي في الشرع على الفساد دون البعض فما الفصل
قلنا النهي لا يدل على الفساد وإنما يعرف فساد العقد والعبادة بفوات شرطه وركنه ويعرف فوات الشرط إما بالإجماع كالطهارة في الصلاة وستر العورة واستقبال القبلة وإما بنص وإما بصيغة النفي كقوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود فذلك ظاهر في النفي عند عدم الشرط وأما القياس على منصوص فكل نهي يتضمن ارتكابه الإخلال بالشرط فيدل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا من حيث النهي وشرط المبيع أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه معينا أما كونه مرئيا ففي اشتراطه خلاف وشرط الثمن أن(31/107)
ص -105-…يكون مالا معلوم القدر والجنس وليس من شرط النكاح الصداق فلذلك لم يفسد بكون النكاح على خمر أو خنزير أو مغصوب وإن كان منهيا عنه ولا فرق بين الطلاق السني والبدعي في شرط النفوذ وإن اختلفا في التحريم
فإن قيل فلو قال قائل كل نهي رجع إلى عين الشيء فهو دليل الفساد دون ما يرجع إلى غيره فهل يصح ؟
قلنا :لا لأنه لا فرق بين الطلاق في حال الحيض والصلاة في الدار المغصوبة لأنه إن أمكن أن يقال ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل لوقوعه في حال الحيض ولوقوعها في الدار المغصوبة أمكن تقدير مثله في الصلاة في حال الحيض
فلا اعتماد إلا على فوات الشرط ويعرف الشرط بدليل يدل عليه وعلى ارتباط الصحة به ولا يعرف بمجرد النهي فإنه لا يدل عليه وضعا وشرعا كما سبق في المسألة التي قبلها
وهذا القدر كاف في صيغة الأمر والنهي فإن ما يتعلق منه بحقيقة الوجوب والتحريم ويضادهما ويوافقهما فقد ميزناه عما يتعلق بمقتضى الصيغة وقررناه في القطب الأول عند البحث عن حقيقة الحكم فإن ذلك نظر عقلي وهذا نظر لغوي من حيث دلالة الألفاظ فلذلك ميزناه على خلاف عادة الأصوليين(31/108)
ص -106-…القسم الرابع من النظر في الصيغة القول في العام والخاص
ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب:
المقدمة القول في حد العام والخاص ومعناهما
أعلم أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال
والعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل الرجال والمشركين ومن دخل الدار فأعطه درهما ونظائره كما سيأتي تفصيل صيغ العموم
واحترزنا بقولنا من جهة واحدة عن قولهم ضرب زيد عمرا وعن قولهم ضرب زيدا عمرو فإنه يدل على شيئين ولكن بلفظين لا بلفظ واحد ومن جهتين لا من جهة واحدة
وأعلم أن اللفظ: إما خاص في ذاته مطلقا كقولك زيد وهذا الرجل وإما عام مطلقا كالمذكور والمعلوم إذ لا يخرج منه موجود ولا معدوم وإما عام بالإضافة كلفظ المؤمنين فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالإضافة إلى جملتهم إذ يتناولهم دون المشركين فكأنه يسمى عاما من حيث شموله لما شمله خاصا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله ومن هذا الوجه يمكن أن يقال ليس في الألفاظ عام مطلق لأن لفظ المعلوم لا يتناول المجهول والمذكور لا يتناول المسكوت عنه(31/109)
ص -107-…العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني :
فإن قيل :فلم قلتم إن العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال والعطاء فعل وقد يعطي عمرا وزيدا وتقول عممهما بالعطاء والوجود معنى وهو يعم الجواهر والأعراض
قلنا:عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو من حيث أنه فعل فليس في الوجود فعل واحد هو عطاء وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة وكذلك وجود السواد يفارق وجود البياض وليس الوجود معنى واحدا حاصلا مشركا بينهما وإن كانت حقيقته واحدة في العقل وعلوم الناس وقدرهم وإن كانت مشتركة في كونها علما وقدرة لا يوصف بأنه عموم
فقولنا :الرجل له وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان أما وجوده في الأعيان فلا عموم فيه إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو وليس يشملهما شيء واحد هو الرجولية وأما وجوده في اللسان فلفظ الرجل قد وضع للدلالة ونسبته في الدلالة إلى زيد وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة وأما ما في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا من حيث أن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو والذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا فهذا معنى كليته فإن سمي عاما بهذا فلا بأس
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال هذا عام مخصوص وهذا عام قد خصص؟
قلنا: لا لأن المذاهب ثلاثة: مذهب أرباب الخصوص ومذهب أرباب العموم ومذهب الواقفية(31/110)
ص -108-…أما أرباب الخصوص فإنهم يقولون لفظ المشركين مثلا موضوع لأقل الجمع وهو للخصوص فكيف يقولون إنه عموم قد خصص ؟
وأما أرباب العموم :فيقولون هو الاستغراق فإن أريد به البعض فقد تجوز به عن حقيقته ووضعه فلم يتصرف في الوضع ولم يغير حتى يقال إنه خصص العام أو هو عام مخصوص
وأما الواقفية: فإنهم يقولون إن اللفظ مشترك وإنما ينزل على خصوص أو عموم بقرينة وإرادة معينة كلفظ العين فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له لا أنه عام قد خصص وإن أريد به العموم فهو موضوع له لا أنه خاص قد عمم
فإذا :هذا اللفظ مؤول على كل مذهب فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص وهذا على مذهب الوقف
وعلى مذهب الاستغراق أن وضعه للعموم واستعمل في غير وضعه مجازا فهو عام بالوضع خاص بالإرادة والتجوز وإلا فالعام والخاص بالوضع لا ينقلب عن وضعه بإرادة المتكلم
فإن قيل فما معنى قولهم خصص فلأن عموم الآية والخبران كان العام لا يقبل التخصيص
قلنا تخصيص العام محال كما سبق وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لإرادة العموم الخصوص فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذلك أنه خصص العموم أي عرف أنه أريد به الخصوص ثم من لم يعرف ذلك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمى مخصصا وإنما هو معرف ومخبر عن إرادة المتكلم ومستدل عليه بالقرائن لا أنه مخصص بنفسه
هذه هي المقدمة(31/111)
ص -109-…أما الأبواب فهي خمسة:
الباب الأول :في أن العموم هل له صيغة أم لا واختلاف المذاهب فيه .
الباب الثاني: في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن
الباب الثالث: في تفصيل الأدلة المخصصة .
الباب الرابع :في تعارض العمومين
الباب الخامس في الاستثناء والشرط
الباب الأول في أن العموم هل له صيغة في اللغة أم لا
ولنشرح أولا صيغ العموم عند القائلين بها
ثم اختلاف المذاهب
ثم أدلة أرباب الخصوص
ثم أدلة أرباب العموم
ثم أدلة أرباب الوقف
ثم المختار فيه عندنا
ثم حكم العام عند القائلين به إذا دخله التخصيص .
فهذه سبعة فصول(31/112)
ص -110-…في صيغ العموم
وأعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع
الأول: ألفاظ الجموع أما المعرفة كالرجال والمشركين وأما المنكرة كقولهم رجال ومشركون كما قال تعالى {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً}]صّ: من الآية62[ والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود كقولهم أقبل الرجل والرجال أي المعهودون المنتظرون
الثاني: من وما إذا ورد للشرط والجزاء كقوله عليه السلام من أحيا أرضا ميتة فهي له وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه وفي معناه متى وأين للمكان والزمان كقوله متى جئتني أكرمتك وأينما كنت أتيتك
الثالث :ألفاظ النفي كقولك: ما جاءني أحد وما في الدار ديار
الرابع : الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام لا للتعريف كقوله تعالى :{إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}]العصر:2[ وقوله{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}]المائدة: من الآية38[أما النكرة كقولك مشرك وسارق فلا يتناول إلا واحدا
الخامس: الألفاظ المؤكدة كقولهم: كل وجميع وأجمعون وأكتعون(31/113)
ص -111-…تفصيل المذاهب
أعلم أن الناس اختلفوا في هذه الأنواع الخمسة على ثلاثة مذاهب:
فقال قوم يلقبون بأرباب الخصوص :إنه موضوع لأقل الجمع وهو إما اثنان وإما ثلاثة على ما سيأتي الخلاف فيه .
وقال أرباب العموم :هو للاستغراق بالوضع إلا أن يتجوز به عن وضعه
وقالت الواقفية :لم يوضع لا لخصوص ولا لعموم بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع وهو بالإضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الأقل أو تناول صنف أو عدد بين الأقل والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الأقسام كاشتراك لفظ الفرقة والنفر بين الثلاثة والخمسة والستة إذ يصلح لكل واحد منهم فليس مخصوصا في الوضع بعدد وإن كنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه.
ثم أرباب العموم اختلفوا في التفصيل في ثلاث مسائل:
الأولى: الفرق بين المعرف والمنكر فقال الجمهور لا فرق بين قولنا اضربوا الرجال وبين قولنا اضربوا رجالا واقتلوا المشركين وأقتلوا مشركين وإليه ذهب الجبائي وقال قوم يدل المنكر على جمع غير معين ولا مقدر ولا يدل على الاستغراق وهو الأظهر
الثاني: اختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام كالسارقين والمشركين والفقراء والمساكين والعاملين فقال قوم هو للاستغراق وقال قوم هو لأقل الجمع ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل(31/114)
ص -112-…والأول أقوى وأليق بمذاهب أرباب العموم
الثالثة: الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام كقولهم الدينار خير من الدرهم فمنهم من قال هو لتعريف الواحد فقط وذلك في تعريف المعهود وقال قوم هو للاستغراق وقال قوم يصلح للواحد والجنس ولبعض الجنس فهو مشترك
ومذهب الواقفية أن جميع هذه الألفاظ مشتركة ولم يبق منها شيء للاستغراق حتى كل وكلما وأي والذي ومن وما
واختلفوا في مسألة واحدة فقال قوم إنما التوقف في العموم الواردة في الأخبار والوعد والوعيد أما الأمر والنهي فلا فإنا متعبدون بفهمه ولو كان مشتركا لكان مجملا غير مفهوم
وهذا فاسد لا يليق بمذهب الواقفية لأن دليلهم لا يفرق بين جنس وجنس إذ العرب تريد بصيغ الجمع البعض في كل جنس كما تريد الكل ويستوي في ذلك قولهم فعلوا وافعلوا وقولهم قتل المشركون واقتلوا المشركين ولأن من الأخبار ما تعبد بفهمه كقوله تعالى{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[ البقرة الأنعام وقوله{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}]هود: من الآية6[
تنبيه لا ينبغي أن يقول الواقفية الوقف في ألفاظ العموم جائز وفيما مخرجه مخرج العموم واجب فقد أطلق ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة لأن المتوقف لا يسلم أنه لفظ العموم كما لا يسلم أنه لفظ الخصوص إلا أن يعني به أنه لفظ العموم عند معتقدي العموم بل ينبغي أن يقول التوقف في صيغ الجموع وأدوات الشرط واجب(31/115)
ص -113-…القول في أدلة أرباب العموم ونقضها
وهي خمسة:
الدليل الأول: أن أهل اللغة بل أهل جميع اللغات كما عقلوا الأعداد والأنواع والأشخاص والأجناس ووضعوا لكل واحدا اسما لحاجتهم إليه عقلوا أيضا معنى العموم واستغراق الجنس واحتاجوا إليه فكيف لم يضعوا له صيغة ولفظا
الاعتراض من أربعة أوجه:
الأول: أن هذا قياس واستدلال في اللغات واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا واستدلالا بل هي كسنن الرسول عليه السلام وليس لقائل أن يقول الشارع كما عرف الأشياء الستة وجريان الربا فيها ومست إليه حاجة الخلق ونص عليها فينبغي أن يكون قد نص على سائر الربويات وهذا فاسد
الثاني: أنه وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة فمن يسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها وهم في حكم من يترك ما لا تقتضي الحكمة تركه .
الثالث :إن هذا منقوض فإن العرب عقلت الماضي والمستقبل والحال ثم لم تضع للحال لفظا مخصوصا حتى لزم استعمال المستقبل أو اسم الفاعل فيها فتقول رأيته يضرب أو ضاربا ثم كما عقلت الألوان عقلت الروائح ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالإضافة فيقال ريح المسك وريح العود ولا يقال لون الدم ولون الزعفران بل أصفر أو أحمر .(31/116)
ص -114-…الرابع : أنا لا نسلم أنهم لم يضعوا للعموم لفظا كما لا نسلم أنهم لم يضعوا للعين الباصرة لفظا وإن كان العين مشتركا بين أشياء لم يخرج عن كونه موضوعا له وإن لم يكن وقفا عليه بل صالحا له ولغيره وكذلك صيغ الجموع مشتركة بين العموم والخصوص
الدليل الثاني: أنه يحسن أن تقول اقتلوا المشركين إلا زيدا ومن دخل الدار فأكرمه إلا الفاسق ومن عصاني عاقبته إلا المعتذر ومعنى الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ إذ لا يجوز أن تقول اكرم الناس إلا الثور
الاعتراض أن للاستثناء فائدتين إحداهما ما ذكرتموه وهو إخراج ما يجب دخوله تحت اللفظ كقوله علي عشرة إلا ثلاثة والثاني ما يصلح أن يدخل تحته ويتوهم أن يكون مرادا به وهذا صالح لأن يدخل تحت اللفظ والاستثناء لقطع صلاحيته لا لقطع وجوبه بخلاف الثور إن لفظ الناس لا يصلح لإرادته
الدليل الثالث:
أن تأكيد الشيء ينبغي أن يكون موافقا لمعناه ومطابقا له وتأكيدا لخصوص غير تأكيد العموم إذ يقال اضرب زيدا نفسه واضرب الرجال أجمعين
أكتعين ولا يقال اضرب زيدا كلهم
الاعتراض أن الخصم يسلم أن لفظ الجمع يتناول قوما وهو أقل الجمع فما زاد ويجوز أن يقال اضرب القوم كلهم لأن للقوم كلية وجزئية أما زيد والواحد المعين ليس له بعض فليس فيه كل وكما أن الفظ العموم لا يتعين مبلغ(31/117)
ص -115-…المراد منه بعد مجاوزة أقل الجمع فكذلك لفظ المشركين والمؤمنين والكلام في أنه لاستغراق الجنس أو لأقل الجمع أو لعدد بين الدرجتين وكيفما كان فلفظ الكلية لائق به
فإن قيل فإذا قال أكرم الناس أكتعين أجمعين كلهم وكافتهم ينبغي أن يدل هذا على الاستغراق ثم يكون الدال هو المؤكد دون التأكيد فإن التأكيد تابع وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس
قلنا لا يشعر بالاستغراق كما لو قال أكرم الفرقة والطائفة كلهم وكافتهم وجملتهم لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة ولم يتعين للأكثر بل نقول لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول كافتهم وجملتهم فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم
الدليل الرابع: أن صيغ العموم باطل أن تكون لأقل الجمع خاصة كما سيأتي وباطل أن تكون مشتركا إذ يبقى مجهولا ولا يفهم إلا بقرينة وتلك القرينة لفظ أو معنى فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم فإن الخلاف في أنه هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ فكيف تزيد دلالته على اللفظ ؟
الاعتراض إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال السلام عليكم أنه يريد التحية أو(31/118)
ص -116-…الاستهزاء واللهو ومن جملة القرائن فعل المتكلم فإنه إذا قال على المائدة هات الماء فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}]هود: من الآية6[وخصوص قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}]الزمر:62[إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته ومن جملته تكرير الألفاظ المؤكدة كقوله اضرب الجناة وأكرم المؤمنين كافتهم صغيرهم وكبيرهم شيخهم وشابهم ذكرهم وأنثاهم كيف كانوا وعلى أي وجه وصورة كانوا ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الأسباب ووجه من الوجوه ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده
أما قولهم :ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ فهو فاسد فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة علوما ضرورية
فإن قيل:فبم عرفت الأمة عموم ألفاظ الكتاب والسنة إن لم يفهموه من اللفظ؟
وبم عرف الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل وجبريل من الله تعالى حتى عمموا الأحكام؟
قلنا:أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وتكريراته وعادته المتكررة وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم ورموزهم وتكريراتهم المختلفة وأما جبريل عليه السلام فإن سمع من الله بغير واسطة فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لأجناس كلام الخلق وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ودلالة قطعية لا احتمال فيها(31/119)
ص -117-…الدليل الخامس: وهو عمدتهم إجماع الصحابة فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فعملوا بقول الله تعالى{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}]النساء: من الآية11[ واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه عن النبي: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" وقوله{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي }]النور: من الآية2[ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ )]المائدة: من الآية38[{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً )]الاسراء: من الآية33[ {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}]البقرة: من الآية278[ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ]النساء: من الآية29[{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }]المائدة: من الآية95[ المائدة ولا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولا يرث القاتل ولا يقتل والد بولده إلى غير ذلك مما لا يحصى
ويدل عليه أنه لما نزل قوله تعالى{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}]النساء: من الآية95[قال ابن أم مكتوم ما قال وكان ضريرا فنزل قوله تعالى { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}]النساء: من الآية95[فشمل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين
ولما نزل قوله تعالى{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}]الانبياء:98[قال بعض اليهود :أنا أخصم لكم محمدا فجاءه وقال: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فيجب أن يكونوا من حطب جهنم فأنزل الله عز وجل{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}]الانبياء:101[تنبيها على التخصيص ولم ينكر النبي عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم تعلقه بالعموم وما قالوا له لم استدللت بلفظ مشترك مجمل؟(31/120)
ص -118-…ولما نزل قوله تعالى{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ }]الأنعام: من الآية82[قالت الصحابة: فأينا لم يظلم ؟ فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق والكفر
واحتج عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فدفعه أبو بكر بقوله: "إلا بحقها" ولم ينكر عليه التعلق بالعموم وهذا وأمثاله لا تنحصر حكايته .
الاعتراض من وجهين:
أحدهما: أن هذا إن صح من بعض الأمة فلا يصح من جميعهم فلا يبعد من بعض الأمة اعتقاد العموم فإنه الأسبق إلى أكثر الأفهام ولا يسلم صحة ذلك على كافة الصحابة.
الثاني: إنه لو نقل ما ذكروه عن جملة الصحابة فلم ينقل عنهم قولهم على التواتر إنا حكمنا في هذه المسائل بمجرد العموم لأجل اللفظ من غير التفات إلى قرينة فلعل بعضهم قضى باللفظ مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ وبين بقية المسميات لعلمه بأنه لا مدخل في التأثير للفارق بين محل القطع ومحل الشك والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة ومجرى الخلاف فيها وأنه متمسك به بشرط انتفاء المخصص لا بشرط وجود القرينة المسوية(31/121)
ص -119-…شبه أرباب الخصوص
ذهب قوم إلى أن لفظ الفقراء والمساكين والمشركين ينزل على أقل الجمع واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ والباقي مشكوك فيه ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك
وهذا استدلال فاسد لأن كون هذا القدر مستيقنا لا يدل على كونه مجازا في الزيادة والخلاف في أنه لو أريد به الزيادة لكان حقيقة أو مجازا فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة ولا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون ارتفاع الحرج معلوما من صيغة الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب والندب وكون الواحد مستيقنا من لفظ الناس لا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون الندب مستقينا من الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب وكون الفعلة الواحدة مستيقنة في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التكرار وكون البدار معلوما في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التراخي
ثم نقول: هذا متناقض لأن قولهم :إن الثلاثة هو المفهوم فقط يناقض قولهم الباقي مشكوك لأنه إن كان هو المفهوم فقط فالباقي غير داخل قطعا وإن كانوا شاكين في الباقي فقد شكوا في نفس المسألة فإن الخلاف في الباقي وأخطأوا في قولهم إن الثلاثة مفهومه فقط
شبه أرباب الوقف
قد ذهب القاضي والأشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف ولهم شبه ثلاث :(31/122)
ص -120-…الأولى: أن كون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا يخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع وكل واحد إما آحاد وإما تواتر والآحاد لا حجة فيها والتواتر لا يمكن دعواه فإنه لو كان لأفاد علما ضروريا والعقل لا مدخل له في اللغات وهلم جرا إلى تمام الدليل الذي سقناه في بيان أن صيغة الأمر مترددة بين الإيجاب والندب
الاعتراض: أن هذا مطالبة بالدليل وليس بدليل ومسلم أنه إن لم يدل دليل فلا سبيل إلى القول به وسنذكر وجه الدليل عليه إن شاء الله
الثانية: إنا لما رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته ولفظ اللون في السواد والبياض والحمرة استعمالا واحدا متشابها قضينا بأنه مشترك فمن ادعى أنه حقيقة في واحد ومجاز في الآخر فهو متحكم وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم والخصوص جميعا بل استعمالهم لها في الخصوص أكثر فقلما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات ما لا يتطرق إليه التخصيص فمن زعم أنه مجاز في الخصوص حقيقة في العموم كان كمن قال هو حقيقة في الخصوص مجاز في العموم والقولان متقابلان فيجب تدافعهما والاعتراف بالاشتراك
الاعتراض :إن هذا أيضا يرجع إلى المطالبة بالدليل وليس بدليل لأن العرب تستعمل المجاز والحقيقة كما تستعمل اللفظ المشترك ولم تقيموا دليلا على أن هذا ليس من قبيل المجاز والحقيقة بل طالبتم بالدليل على أن هذا ليس من المشترك
الشبهة الثالثة :قولهم إنه كم يحسن الاستفهام في قوله افعل إنه للوجوب أو الندب فيحسن الاستفهام في صيغ الجمع أنه أريد به البعض أو الكل فإنه إذا قال(31/123)
ص -121-…السيد لعبده من أخذ مالي فأقتله يحسن أن يقول وإن كان إباك أو ولدك فيقول لا أو نعم ويقول من أطاعني فأكرمه فيقول وإن كان كافرا أو فاسقا فيقول لا أو نعم فكل ذلك مما يحسن فلو قال اقتل كل مشرك فيقول والمؤمن أيضا اقتله أم لا ؟فلا يحسن هذا الاستفهام
قلنا :لان المشرك لايصلح للمؤمن،لما أنه لم يوضع له وإنما يحسن الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص
قلنا المجاز إذا كثر استعماله كان للمستفهم الاحتياط في طلبه أو يحسن إذا عرف من عادة المتكلم أنه يهين الفاسق والكافر وإن أطاعه ويسامح الأب في بذل المال والقرينة تشهد للخصوص واللفظ يشهد للعموم ويتعارض ما يورث الشك فيحسن الاستفهام
بيان الطريق المختار عندنا في إثبات العموم
أعلم أن هذا النظر لا يختص بلغة العرب بل هو جار في جميع اللغات لأن صيغ العموم محتاج إليها في جميع اللغات فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق فلا يضعونها مع الحاجة إليها
ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام وسقوط الاعتراض عمن أطاع ولزوم النقض والخلف عن الخبر العام وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة
فهذه أمور أربعة تدل على الغرض(31/124)
ص -122-…وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل اليوم داري فأعطه درهما أو رغيفا فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا وقال لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير وإنما أردت الطوال أو هو أسود وإنما أردت البيض فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال ولا البيض بل بإعطاء من دخل وهذا داخل فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها أو إعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وقالوا للسيد أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال لم لم تعطه فقال العبد لأن هذا طويل أو أبيض وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار أو السود استوجب التأديب بهذا الكلام وقيل له مالك وللنظر إلى الطول واللون وقد أمرت بإعطاء الداخل فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي
وأما النقض على الخبر: فإذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا فإن أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا وهذه كصيغ الجميع فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم ولذلك قال الله تعالى{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ}]الأنعام: من الآية91[وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم ؟ فإن هم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر ؟
وأما الاستحلال بالعموم :فإذا قال الرجل أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء ويتزوج من أي جواريه شاء بغير رضا الورثة وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء الأحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر ولا خلاف في أنه لو قال أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي(31/125)
ص -123-…زينب أو قال غانم حر وزينب طالق وله عبدان اسمهما غانم وزوجتان اسمهما زينب فتجب المراجعة والاستفهام لأنه أتى باسم مشترك غير مفهوم فإن كان لفظ العموم فيما وراء أقل الجمع مشتركا فينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار وينبغي أن يراجع في الباقي وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها
فإن قيل: إن سلم لكم ما ذكرتموه فإنما يسلم بسبب القرائن لا بمجرد اللفظ فإن عرى عن القرائن فلا يسلم
قلنا: كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها أو يبقى حكم الاعتراض والنقض كما سبق فإن غايتهم أن يقولوا إذا قال أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي كان مطيعا بالانفاق على الجميع لأجل قرينة لحاجة إلى النفقة أو أعط من دخل داري فهو بقرينة إكرام الزائر فهذا وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها فإنه لو قال لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالانفاق مطيعا بالتضييع ولو قال اضربهم لم يكن عليه أن يقتصر على ثلاثة بل إذا ضرب جميعهم عد مطيعا ولو قال من دخل داري فخذ منه شيئا بقي العموم(31/126)
بل نقدر ما لا غرض في نفيه وإثباته فلو قال من قال من عبيدي جيم فقل له صاد ومن قال من جواري ألف فأعتقها فامتثل أو عصى كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض وتوجهه جاريا بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة ولم يعش إلا ساعة من نهار وقال في تلك الساعة من سرق فأقطعوه ومن زنى فاضربوه والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ وكذلك الزكاة ومن قتل مسلما فعلية القصاص ومن كان له ولد فعليه النفقة ومات عقيب هذا الكلام ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة ولا صدر منه سوى هذه الألفاظ إشارة ورمزا ولا ظهر في وجهه حالة لكنا نحكم بهذه الألفاظ ونتبعها ولا يقال جاء بألفاظ مشتركة مجملة ومات قبل أن يبينها فلا يمكن العمل بها ولو قدروا قرينة في نطقه وصورة حركته عند كلامه فليقدر أنه كتب في كتاب وسلمه إلينا وقال اعملوا بما فيه ومات وإن قدروا قرينة مناسبة بين هذه الجنايات والعقوبات فنقدر أمورا لا مناسبة فيها كحروف المعجم فإذا(31/127)
ص -124-…قال: من قال لكم ألف فقولوا جيم وأمثاله فيكون جميع ذلك مفهوما معمولا به وكل قرينة قدروها فنقدر نفيها ويبقى ما ذكرنا بمجرد اللفظ
وبهذا تبين أن الصحابة إنما تمسكوا بالعمومات بمجرد اللفظ وانتفاء القرائن المخصصة لا أنهم طلبوا قرينة معممة وتسوية بين أقل الجمع والزيادة
فإن قيل: إذا قال من دخل داري فأعطه فيحسن أن يقال ولو كان كافرا فاسقا؟ فربما يقول نعم وربما يقول لا فلو عم اللفظ فلم حسن الاستفهام ؟
قلنا :لا يحسن أن يقال وإن كان طويلا أو أبيض أو محترفا وما جرى مجراه وإنما حسن السؤال عن الفاسق لأنه يفهم من الإعطاء الإكرام ويعلم من عادته أنه لا يكرم الفاسق أو علم من عادة الناس ذلك فتوهم أنه يقتدي بالناس فيه فلتوهم هذه القرينة المخصصة حسن منه السؤال ولذلك لم يحسن في سائر الصفات ولذلك لو لم يراجع وأعطى الفاسق وعاتبه السيد فله أن يقول أمرتني بإعطاء كل داخل وهذا قد دخل فيقول السيد كان ينبغي أن تعرف بعقلك أن هذا إكرام والفاسق لا يكرم فيتمسك بقرينة مخصصة فربما يكون مقبولا فلو لم يقل هذا ولكن قال كان لفظي مشتركا غير مفهوم فلم أقدمت قبل السؤال لم يكن هذا العتاب متوجها قطعا
فإن قيل: فقد فرضتم الكلام في أداة الشرط وقد قال بعمومه من أنكر سائر العمومات فما الدليل في سائر الصور ؟
قلنا :هذا يجري في من و ما و متى و حيث وأي وقت وأي شخص ونظائره ويجري أيضا في النكرة في النفي كقوله ما رأيت أحدا مثل قوله تعالى{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ }]الأنعام: من الآية91[وكذلك في قولهم كل و جميع و أجمعون بل هو أظهر وهو النوع الثالث وكذلك في النوع(31/128)
ص -125-…الرابع وهي صيغ الجموع كالفقراء والمساكين وهذا أيضا جار فيه فإنه إذا قال لعبده أعط الفقراء واقتل المشركين واقتصر على هذا وانتفت القرائن جري حكم الطاعة والعصيان وتوجه الاعتراض وسقوطه كما سبق وهو جار في كل جمع إلا في بعض الجموع المبنية للتقليل كما ورد على وزن الأفعال كالأثواب والأفعلة كالأرغفة والأفعل كالأكلب والفعلة كالصبية وقد قال سيبويه جميع هذا للتقليل وما عداه للتكثير وقيل أيضا جمع السلامة للتقليل وهذا بعيد لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير وجمع القلة أيضا لا يتقدر المراد منه بل يختلف ذلك بالقرائن والأحوال إلا أنه ليس موضوعا للاستغراق
وأما النوع الخامس ،وهو الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهذا فيه نظر وقد اختلفوا فيه والصحيح التفصيل وهو أنه ينقسم إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء كالتمرة والتمر والبرة والبر فإن عري عن الهاء فهو للاستغراق فقوله لا تبيعوا البر بالبر ولا التمر بالتمر يعم كل بر وتمر وما لا يتميز بالهاء ينقسم إلى ما يتشخص ويتعدد كالدينار والرجل حتى يقال دينار واحد ورجل واحد وإلى ما لا يتشخص واحد منه كالذهب إذ لا يقال ذهب واحد فهذا لاستغراق الجنس أما الدينار والرجل فيشبه أن يكون للواحد والألف واللام فيه للتعريف فقط وقولهم الدينار أفضل من الدرهم يعرف بقرينة التسعير ويحتمل أن يقال هو دليل على الاستغراق فإنه لو قال لا يقتل المسلم بالكافر ولا يقتل الرجل بالمرأة فهم ذلك في الجميع فإنه لو قد حيث لا مناسبة فلا يخلو عن الدلالة على الجنس(31/129)
ص -126-…القول في العموم إذا خص هل يصير مجازا في الباقي وهل يبقى حجة
وهما نظران :أما صيرورته مجازا فقد اختلفوا فيه على أربعة مذاهب
فقال قوم: يبقى حقيقة لأنه كان متناولا لما بقي حقيقة فخروج غيره عنه لا يؤثر
وقال قوم: يصير مجازا لأنه وضع للعموم فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة كان مجازا وإن لم يكن هذا مجازا فلا يبقى للمجاز معنى ولا يكفي تناوله مع غيره لأنه لا خلاف أنه لورد إلى ما دون أقل الجمع صار مجازا فإذا قال لا تكلم الناس ثم قال أردت زيدا خاصة كان مجازا وإن كان هو داخلا فيه
وقال قوم :هو حقيقة في تناوله مجاز في الإقتصار عليه
وهذا ضعيف فإنه لورد إلى الواحد كان مجازا مطلقا لأنه تغير عن وضعه في الدلالة فالسارق مهما صار عبارة عن سارق النصاب خاصة فقد تغير الوضع واستعمل لا على الوجه الذي وضعته العرب
وقد اختار القاضي في التفريع على مذهب أرباب العموم أنه صار مجازا لكن قال إنما يصير مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أو نقل أما ما خرج بلفظ متصل كالاستثناء فلا يجعله مجازا بل يصير الكلام بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر موضوعا لشيء آخر فإنا نريد الواو والنون في قولنا مسلم فنقول مسلمون فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا ونزيد الألف واللام على قولنا رجل فنقول الرجل فيزيد فائدة أخرى وهي التعريف لأن هذه صارت صيغة أخرى بهذه الزيادة فجاز أن يدل على معنى آخر ولا فرق بين(31/130)
ص -127-…أن نزيد حرفا أو كلمة فإذا قال يقطع السارق إلا من سرق دون النصاب كان مجموع هذا الكلام موضوعا للدلالة على ما دل عليه فقوله تعالى{فَلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}]العنكبوت: من الآية14[دل على تسعمائة وخمسين لا على سبيل المجاز بل الوضع كذلك وضع وكأن العرب وضعت عن تسعمائة وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين والأخرى تسعمائة وخمسون
ويمكن أن يقال :ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع بعد الإثبات ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة وخمسون فإنا إذا وضعنا ألفا ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد وهذا أدق وأحق لا كزيادة الألف واللام والياء والنون على المسلم فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول
فإن قيل: لو قال الله تعالى براءة من الله ورسوله فقال الرسول متصلا به إلا زيدا فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي ؟
قلنا :اختلفوا فيه والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل والنقل ولهذا لو قال زيد وقال غيره قام لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله قام لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد وذلك يجعله خبرا
فإن قيل: فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا ؟
قلنا :نعم لأنه للجمع بالاتفاق والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع(31/131)
ص -128-…مستغرق
هل يبقى العموم حجة في الباقي بعد التخصيص ؟
وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي فقد قال قوم من القائلين بالعموم إنه لا يبقى حجة بل صار مجملا وإليه ذهبت القدرية لأنه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى القرينة وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدي إليها
ومن هؤلاء من قال :أقل الجمع يبقى لأنه مستيقن.
واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب والسارق من غير الحرز ومن يستحق النفقة وغير ذلك فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا ؟ ولا قرينة تفصل وتحصر فيبقى مجملا
والصحيح أنه يبقى حجه إلا إذا استثنى منه مجهولا كما لو قال اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي
ولأجله تمسك الصحابة بالعمومات وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص وهذا لأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض ولا مسقط لدلالته في الباقي نعم لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج فافتقر إلى دليل مخرج وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي فمن قال أعتق رقبة ثم قال لا تعتق معيبة ولا كافرة لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما والرجوع في هذا إلى عادة اللسان وأهل اللغة وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب والسنة لتطرق التخصيص إليها
وعلى الجملة كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة(31/132)
ص -129-…فإن قيل :قد سلمتم أنه صار مجازا فيفتقر العمل به إلى دليل إذا المجاز لا يعمل به إلا بدليل
قلنا :هو حقيقة في وضعه والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف فإنا نتمسك به بغير دليل زائد كقوله تعالى{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}]النساء: من الآية43[ فإنه وإن كان مجازا فهو معروف وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ولا يمكن اطراحه
الباب الثاني في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن
وفيه مسائل:
مسألة: بيان العموم
إنما يمكن دعوى العموم فيما ذكره الشارع على سبيل الابتداء أما ما ذكره في جواب السائل فإنه ينظر فإن أتى بلفظ مستقل لو ابتدأ به كان عاما كما سئل صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة فقال "خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" وكما سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته"
وأما إذا لم يكن مستقلا نظر ،فإن لم يكن لفظ السائل عاما فلا يثبت العموم(31/133)
ص -130-…للجواب كما لو قال السائل توضأت بماء البحر فقال يجزيك أو قال وطئت في نهار رمضان فقال "أعتق رقبة" فهذا لا عموم له لأنه خطاب مع شخص واحد وإنما يثبت الحكم في حق غيره بدليل مستأنف من قياس إذا ورد التعبد بالقياس أو تعلق بقوله عليه السلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة وذلك بشرط أن يكون حال غيره مثل حاله في كل وصف مؤثر في الحكم حتى لا يفترقا إلا في الشخص والأحوال التي لا مدخل لها في التفرقة من الطول واللون وأمثاله
والذكورة والأنوثة كالطول واللون في بعض الأحكام كالعتق ولذلك قلنا: حكمه في العبد بالسراية حكم في الأمة وفي باب ولاية النكاح ليس كذلك إذ عرف من الشرع ترك الالتفات إلى الذكورة والأنوثة في العتق والرق ولم يعرف ذلك في النكاح ولذلك نقول روي في الصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه أم بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخرج صلى الله عليه وسلم وهو في أثناء الصلاة فهم بأن يتخلف فأشار عليه بالمنع ووقف بجانبه واقتدى أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم واستمر الناس على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه وصلى الناس بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه اقتداء الإمام بغيره واقتداء الناس بالمقتدى بغيره وليس يظهر لنا أن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى النبي صلى الله عليه وسلم فإن التقدم عليه مع حضوره مستبعد فيما يرجع إلى الإمام وللنبوة فيها تأثير وهذا فعل خاص لا عموم له ودعوى الإلحاق تحكم مع ظهور الفرق ولا عموم يتعلق به بل قوله لعبد الرحمن بن عوف البس الحرير ولأبي بردة بن نيار في الأضحية بجذعة من الضان تجزيك وإذنه للعرنيين بشرب أبوال الإبل وقوله لعمر مره فليراجعها إلا عموم لشيء منه فيفتقر تعميمه إلى دليل متسأنف من قياس أو غيره أما ما نقل من اقتداء الناس بأبي بكر مع اقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن مقتدي الكل كان بالنبي عليه السلام(31/134)
ص -131-…وكان أبو بكر سفيرا برفع الصوت بالتكبيرات
أما إذا كان لفظ السائل عاما نزل منزلة عموم لفظ الشارع كما لو سأله سائل عمن أفطر في نهار رمضان فقال أعتق رقبة كان كما لو قال من أفطر في نهار رمضان أعتق رقبة لأنه يجيب عن السؤال فلا يكون الجواب إلا مطابقا للسؤال أو أعم منه فأما أخص منه فلا أما لو قال السائل أفطر زيد في نهار رمضان فقال عليه عتق رقبة أو قال طلق ابن عمر زوجته فقال مره فليراجعها فهذا لا عموم له فلعله عرف من حاله ما يوجب العتق والمراجعة عليه خاصة ولا نعرف ما تلك الحال ومن الذي يساويه فيها ولا يدري أنه أفطر عمدا أو سهوا أو بأكل أو جماع
فإن قيل :ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم وهذا من كلام الشافعي قلنا من أين تحقق ذلك ولعله عليه السلام عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل فهذا تقرير عموم بالوهم المجرد
مسألة :العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب؟!
ورود العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم كقوله صلى الله عليه وسلم حيث مر بشاة ميمونة "أيما إهاب دبغ فقد طهر"
وقال قوم: يسقط عمومه
وهو خطأ نعم يصير احتمال التخصيص أقرب ويقنع فيه بدليل أخف(31/135)
ص -132-…وأضعف وقد يعرف بقرينة اختصاصه بالواقعة كما إذا قيل كلم فلانا في واقعة فقال :والله لا أكلمه أبدا فإنه يفهم بالقرينة أنه يريد ترك الكلام في تلك الواقعة لا على الإطلاق
والدليل على بقاء العموم أن الحجة في لفظ الشارع لا في السؤال والسبب ولذلك يجوز أن يكون الجواب معد ولا عن سنن السؤال حتى لو قال السائل أيحل شرب الماء وأكل الطعام والاصطياد فيقول الأكل واجب والشرب مندوب والصيد حرام فيجب اتباع هذه الأحكام وإن كان فيه خطر ووجوب والسؤال وقع عن الإباحة فقط
وكيف ينكر هذا وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب كقوله تعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [المائدة: من الآية38] نزل في سرقة المجن أو رداء صفوان ونزلت آية الظهار في سلمة بن صخر وآية اللعان في هلال بن أمية وكل ذلك على العموم
وشبه المخالفين ثلاث:
الأولى: أنه لو لم يكن للسبب تأثير والنظر إلى اللفظ خاصة فينبغي أن يجوز إخراج السبب بحكم التخصيص عن عموم المسميات كما لو لم يرد على سبب
قلنا:لا خلاف في أن كلامه بيان للواقعة لكن الكلام في أنه بيان له خاصة أوله ولغيره واللفظ يعمه ويعم غيره وتناوله له مقطوع به وتناوله لغيره ظاهر فلا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره نعم يجوز أن يجيب عنه وعن غيره ويجوز أيضا أن يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال كما قال لعمر "أرأيت لو تمضمضت؟" وقد سأله عن القبلة وقال للخثعمية "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته"
الشبهة الثانية: إنه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي إذ لا فائدة فيه(31/136)
ص -133-…قلنا:فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ولذلك غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال عليه السلام الولد للفراش وللعاهر الحجر فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب فأخرج الأمة من العموم
الشبهة الثالثة:إنه لولا أن المراد بيان السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة فإن الغرض إذا كان تمهيد قاعدة عامة فلم أخرها إلى وقوع واقعة؟
قلنا:ولم قلتم لا فائدة في تأخيره والله تعالى أعلم بفائدته ولم طلبتم لأفعال الله فائدة؟ بل لله تعالى أن ينشىء التكليف في أي وقت شاء ولا يسأل عما يفعل
ثم نقول: لعله علم أن تأخيره إلى الواقعة لطف ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد ولا يحصل ذلك بالتقديم والتأخير
ثم نقول: يلزم لهذه العلة اختصاص الرجم بماعز والظهار واللعان وقطع السرقة بالأشخاص الذين ورد فيهم لأن الله تعالى آخر البيان إلى وقوع وقائعهم وذلك خلاف الإجماع
مسألة: العموم للالفاظ دون المعاني
المقتضى لا عموم له وإنما العموم للألفاظ لا للمعاني فتضمنها من ضرورة(31/137)
ص -134-…الألفاظ
بيانه :أن قوله صلى الله عليه وسلم "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" ظاهره ينفي صورة الصوم حسا لكن وجب رده إلى الحكم وهو نفي الأجزاء أو الكمال
وقد قيل: إنه متردد بينهما فهو مجمل
وقيل :إنه عام لنفي الأجزاء والكمال وهو غلط
نعم لو قال :لا حكم لصوم بغير تبييت لكن الحكم لفظا عاما في الأجزاء والكمال أما إذا قال لا صيام فالحكم غير منطوق به وإنما أثبت ذلك من طريق الضرورة
وكذلك قوله عليه السلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" معناه حكم الخطأ والنسيان ولا عموم له ولو قال لا حكم للخطأ لأمكن حمله على نفي الإثم والغرم وغير ذلك لا على العموم في الإجزاء والكمال لأن الأجزاء الصحة إذا انتفيا كان انتفاء الكمال ضرورة وإنما العموم ما يشتمل على معنيين يمكن انتفاء كل واحد منهما(31/138)
ص -135-…دون الآخر
مسألة العام في الفعل المتعدي؟
الفعل المتعدي إلى مفعول اختلفوا في أنه بالإضافة إلى مفعولاته هل يجري مجرى العموم
فقال أصحاب: أبي حنيفة لا عموم له حتى لو قال والله لا آكل ونوى طعاما بعينه أو قال إن أكلت فأنت طالق ونوى طعاما بعينه لم يقبل وكذلك إذا نوى بالضرب آلة بعينها
واستدل أصحاب أبي حنيفة بأن هذا من قبيل المقتضى فلا عموم له لأن الأكل يستدعي مأكولا بالضرورة لا أن اللفظ تعرض له فما ليس منطوقا لا عموم له فالمكان للخروج والطعام للأكل والآلة للضرب كالوقت للفعل والحال للفاعل ولو قال أنت طالق ثم قال أردت به إن دخلت الدار أو أردت به يوم الجمعة لم يقبل وكذلك قالوا لو نوى بقوله أنت طالق عددا لم يجزه
وجوز أصحاب الشافعي ذلك
والانصاف أن هذا ليس من قبيل المقتضى ولا هو من قبيل الوقت والحال فإن اللفظ المعتدي إلى المفعول يدل على المفعول بصيغته ووضعه فأما الحال والوقت فمن ضرورة وجود الأشياء لكن لا تعلق بها بالألفاظ والمقتضى هو ضرورة صدق الكلام كقوله لا صيام أو ضرورة وجود المذكور كقوله أعتق عني فإنه يدل على حصول الملك قبله لا من حيث اللفظ لكن من حيث كون الملك شرطا لتصور العتق شرعا أما الأكل فيدل على المأكول والضرب على الآلة والخروج على المكان وتتشابه نسبته إلى الجميع فهو بالعموم أشبه(31/139)
ص -136-…فإن قيل :لا خلاف في أنه لو أمر بالأكل والضرب والخروج كان ممتثلا بكل طعام وبكل آلة وكل مكان ولو علق العتق حصل بالجميع فهذا يدل على العموم
قلنا:ليس ذلك لأجل العموم ولكن لأجل أن ما علق عليه وجد والآلة والمكان والمأكول غير متعرض له أصلا حتى لو تصور هذه الأفعال دون الطعام والآلة والمكان والمأكول يحصل الامتثال وهو كالوقت والحال فإنه إن أكل وهو داخل في الدار أو خارج وراكب أو راجل حنث وكان ممتثلا لا لعموم اللفظ لكن لحصول الملفوظ في الأحوال كلها وإنما تظهر فائدة العموم في إرادة بعض هذه الأمور
وإلأظهر عندنا جواز نية البعض وأنه جار مجرى العموم ومفارق للمقتضى كما ذكرنا
مسألة العموم في الأفعال
لا يمكن دعوى العموم في الفعل لأن الفعل لا يقع إلا على وجه معين فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه لأن سائر الوجوه متساوية بالنسبة إلى محتملاته والعموم ما يتساوى بالنسبة إلى دلالة اللفظ عليه بل الفعل كاللفظ المجمل المتردد بين معان متساوية في صلاح اللفظ
ومثاله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى بعد غيبوبة الشفق" فقال قائل:الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهما جميعا(31/140)
ص -137-…وكذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فليس لقائل أن يستدل به على جواز الفرض في البيت مصيرا إلى أن الصلاة تعم النفل والفرض لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعل الصلاة أما الفعل فإما أن يكون فرضا فلا يكون نفلا أو يكون نفلا فلا يكون فرضا
مسألة هل الفعل النبي عموم ؟
فعل النبي عليه السلام كما لا عموم له بالإضافة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالإضافة إلى غيره بل يكون خاصا في حقه إلا أن يقول أريد بالفعل بيان حكم الشرع في حقكم كما قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" بل نزيد ونقول قوله تعالى{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}[الأحزاب: من الآية1] وقوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر: من الآية65]مختص به بحكم اللفظ وإنما يشاركه غيره بدليل لا بموجب هذا اللفظ كقوله{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة: من الآية67] وقوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}[الحجر: من الآية94]
وقال قوم: ما ثبت في حقه فهو ثابت في حق غيره إلا ما دل الدليل على أنه خاص به
وهذا فاسد لأن الأحكام إذ قسمت إلى خاص وعام فالأصل اتباع موجب الخطاب فما ثبت بمثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ }و{ يَا عِبَادِيَ }و { أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ }[النور :31] فيتناول النبي إلا ما استثنى بدليل وما ثبت للنبي كقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } فيختص به إلا ما دل الدليل على الالحاق وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } [الطلاق: من الآية1] عام لأن ذكر النبي جرى في صدر الكلام تشريفا وإلا فقوله طلقتم عام في صيغته وكذلك قول(31/141)
ص -138-…النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة افعل ولابن عمر راجعها خاص إنما يشمل الحكم غيره بدليل آخر مثل قوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو ما جرى مجراه
مسألة: هل النهي يقتضي العموم:
قول الصحابي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا كبيع الغرر ونكاح الشغار وغيره لا عموم له لأن الحجة في المحكي لا في قول الحاكي ولفظه وما رواه الصحابي من حكى النهي يحتمل أن يكون فعلا لا عموم له نهى عنه النبي عليه السلام ويحتمل أن يكون لفظا خاصا ويحتمل أن يكون لفظا عاما فإذا تعارض الاحتمالات لم يكن إثبات العموم بالتوهم فإذا قال الصحابي نهى عن بيع الرطب بالتمر فيحتمل أن يكون قد رأى شخصا باع رطبا بتمر فنهاه فقال الراوي ما قال ويحتمل أن يكون قد سمع الرسول عليه السلام ينهي عنه ويقول أنهاكم عن بيع الرطب بالتمر ويحتمل أن يكون قد سئل عن واقعة معينة فنهى عنها فالتمسك بعموم هذا تمسك بتوهم العموم لا بلفظ عرف عمومه بالقطع وهذا على مذهب من يرى هذا حجة في أصل النهي
وقد قال قوم :لا بد أن يحكي الصحابي قول الرسول ولفظه وإلا فربما سمع ما يعتقده نهيا باجتهاده ولا يكون نهيا فإن قوله لا تفعل فيه خلاف أنه للنهي أم لا وكذلك في ألفاظ أخر
وكذلك إذا قال نسخ فلا يحتج به ما لم يقل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "نسخت(31/142)
ص -139-…آية كذا" لأنه ربما يرى ما ليس بنسخ نسخا وهذا قد ذكرناه في باب الأخبار وهو أصل السنة في القطب الثاني
مسألة: هل قول الصحابي: يقتضي العموم:
قول الصحابي قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار وبالشاهد واليمين كقوله نهى في أنه لا عموم له لأن حكاية والحجة في المحكي ولعله حكم في عين أو بخطاب خاص مع شخص فكيف يتمسك بعمومه فيقال مثلا يقضي بالشاهد واليمين في البضع أو في الدم لأن الراوي أطلق مع أن للراوي أن يطلق هذا إذا رآه قد قضى في مال أو في بضع بل لو قال الصحابي سمعته يقول قضيت بالشفعة للجار فهذا يحتمل الحكاية عن قضاء الجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية فعل ماض
فأما لو قال قضيت بأن الشفعة للجار فهذا أظهر في الدلالة على التعريف للحكم دون الحكاية ولو قال الراوي قضى النبي عليه السلام بأن الشفعة للجار اختلفوا فيه فمنهم من جعله عاما ومنهم من قال يجوز أن يكون قد قضى في واقعة بأن الشفعة للجار فدعوى العموم فيه حكم بالتوهم
مسألة: لا عموم لواقعة الحال
لا يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين قضى فيها النبي عليه السلام بحكم وذكر علة حكمه أيضا إذا أمكن اختصاص العلة بصاحب الواقعة
مثاله :حكمه في أعرابي محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا فإن لفظه خاص وعلته خاصة أيضا فلعله علم(31/143)
ص -140-…من حاله انه يحشر يوم القيامة ملبيا لانه وقصت به ناقته محرما لا بمجرد إحرامه أو لأنه علم من نيته أنه كان مخلصا في عبادته وأنه مات مسلما وغيره لا يعلم موته على الإسلام فضلا عن الإخلاص
وكذلك قال عليه السلام في قتلي أحد "زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما" يجوز أن يكون لقتلى أحد خاصة لعلو درجتهم أو لعلمه أنهم أخلصوا الله فهم شهداء حقا ولو صرح بأن ذلك خاصيتهم قبل ذلك فاللفظ خاص والتعميم وهم
والشافعي رحمه الله تعالى عمم هذا الحكم نظرا إلى العلة وأن ذلك كان بسبب الجهاد والإحرام وأن العلة حشرهم على هذه الصفات وعلة حشرهم الجهاد أو الإحرام وقد وقعت الشركة في العلة وهذا أسبق إلى الفهم لكن خلافه وهو الذي اختاره القاضي ممكن والاحتمال متعارض والحكم بأحد الاحتمالين لأنه أسبق إلى الفهم فيه نظر فإن الحكم بالعموم إنما أخذ من العادة ومن وضع اللسان ولم يثبت ههنا في مثل هذه الصورة لا وضع ولا عادة فلا يكون في معنى العموم
مسألة : هل للمفهوم عموم :
من يقول بالمفهوم قد يظن للمفهوم عموما ويتمسك به وفيه نظر لأن العموم لفظ تتشابه دلالالته بالإضافة إلى المسميات والمتمسك بالمفهوم والفحوى ليس متمسكا بلفظ بل بسكوت فإذا قال عليه السلام في سائمة الغنم زكاة فنفي الزكاة في المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم اللفظ أو يخص وقوله تعالى {فَلا تَقُلْ(31/144)
ص -141-…لَهُمَا أُفٍّ }]الاسراء: من الآية23[دل على تحريم الضرب لا بلفظه المنطوق به حتى يتمسك بعمومه وقد ذكرنا أن العموم للألفاظ لا للمعاني ولا للأفعال.
مسألة :لا يقتضي العطف العموم:
ظن قوم أن من مقتضيات العموم الاقتران بالعام والعطف عليه وهو غلط إذ المختلفات قد تجمع العرب بينهما فيجوز أن يعطف الواجب على الندب والعام على الخاص فقوله تعالى{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: من الآية228]عام وقوله بعد{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: من الآية228] في ذلك خاص وقوله تعالى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: من الآية141] إباحة وقوله بعده { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ]الأنعام: من الآية141[إيجاب وقوله تعالى{ فَكَاتِبُوهُمْ}[النور: من الآية33] استحباب وقوله{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور: من الآية33] إيجاب
مسألة :هل في المشترك عموم؟
الاسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا خلافا للقاضي والشافعي لأن المشترك لم يوضع للجمع مثاله القرء للطهر والحيض والجارية للسفينة والأمة والمشتري للكوكب السعد وقابل البيع والعرب ما وضعت هذه الألفاظ وضعا يستعمل في مسمياتها إلا على سبيل البدل أما على سبيل الجمع فلا نعم نسبة المشترك إلى مسمياته متشابهة ونسبة العموم إلى آحاد المسميات متشابهة لكن تشابه نسبة كل واحد من آحاد العموم على الجمع ونسبة كل واحد من آحاد المشترك على البدل وتشاب نسبة المفهوم في السكوت عن الجمع لا في الدلالة وتشابه نسبة الفعل في إمكان وقوعه على كل وجه إذ الصلاة المعينة إذا تلقيت من فعل النبي عليه السلام أمكن أن تكون فرضا ونفلا وأداء وقضاء وظهرا وعصرا والإمكان شامل بالإضافة إلى علمنا أما الواقع في نفسه وفي علم الله تعالى واحد متعين لا يحتمل غيره(31/145)
ص -142-…فهذه أنواع التشابه والوهم سابق إلى التسوية بين المتشابهات وأنواع هذا التشابه متشابهة من وجه فربما يسبق إلى بعض الأوهام أن العموم كان دليلا لتشابه نسبة اللفظ إلى المسميات والتشابه ههنا موجود فيثبت حكم العموم وهو غفلة عن تفصيل هذا التشابه وإن تشابه نسبة العموم إلى مسمياته في دلالته على الجمع بخلاف هذه الأنواع
احتج القاضي بأنه لو ذكر اللفظ مرتين وأراد في كل مرة معنى آخر جاز فأي بعد في أن يقتصر على مرة واحدة ويريد به كلا المعنيين مع صلاح اللفظ للكل بخلاف ما إذا قصد بلفظ المؤمنين الدلالة على المؤمنين والمشركين جميعا فإن لفظ المؤمنين لا يصلح للمشركين بخلاف اللفظ المشترك
فنقول:إن قصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة فهذا ممكن لكن يكون قد خالف الوضع كما في لفظ المؤمنين فإن العرب وضعت اسم العين للذهب والعضو الباصر على سبيل البدل لا على سبيل الجمع
مسألة :هل يمكن أن يعم اللفظ حقيقته ومجازه ؟ :
فإن قيل: اللفظ الذي هو حقيقة في شيء مجاز في غيره هل يطلق لإرادة معنييه جميعا مثل النكاح للوطء والعقد واللمس للجس وللوطء حتى يحمل قوله {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [النساء: من الآية22] على وطء الأب وعقده جميعا وقوله تعالى أو {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: من الآية43] على الوطء والمس جميعا ؟
قلنا هذا عندنا كاللفظ المشترك وإن كان التعميم فيه أقرب قليلا وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال أحمل آية اللمس على المس والوطء جميعا وإنما قلنا إن هذا أقرب لأن المس مقدمة الوطء والنكاح أيضا يراد للوطء فهو مقدمته ولأجله استعير للعقد اسم النكاح الذي وضعه للوطء واستعير للوطء اسم اللمس فلتعلق أحدهما بالآخر ربما لا يبعد أن يقصدا جميعا(31/146)
ص -143-…باللفظ المذكور مرة واحدة لكن الأظهر عندنا أن ذلك أيضا على خلاف عادة العرب
فإن قيل :فقد قال الله تعالى{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}]الأحزاب: من الآية56[والصلاة من الله مغفرة ومن الملائكة استغفار وهما معنيان مختلفان والاسم مشترك وقد ذكر مرة واحدة وأريد به المعنيان جميعا وكذلك قوله تعالى{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: من الآية18] وسجود الناس غير سجود الشجر والدواب بل هو في الشجر مجاز
قلنا:هذا يعضد ما ذكره الشافعي رحمه الله
ويفتح هذا الباب في معنيين يتعلق أحدهما بالآخرة فإن طلب المغفرة يتعلق بالمغفرة لكن الأظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين وهو العناية بأمر الشيء لشرفه وحرمته والعناية من الله مغفرة ومن الملائكة إستغفار ودعاء ومن الأمة دعاء وصلوات وكذلك العذر عن السجود(31/147)
ص -144-…مسألة :]هل العبد مخاطب بالتكاليف الشرعية[ :
ما ورد من الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يدخل تحته العبد كقوله تعالى{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ }[آل عمران: من الآية97] وأمثاله
وقال قوم: لا يدخل تحته لأنه مملوك للآدمي بتمليك الله تعالى فلا يتناوله إلا خطاب خاص به
وهذا هوس لأنه لم يخرج عن معظم التكاليف وخروجه عن بعضها كخروج المريض والحائض والمسافر وذلك لا يوجب رفع العموم فلا يجوز إخراجه إلا بدليل خاص
مسألة : هل الخطاب الشرعي يعم الكافر؟ :
يدخل الكافر تحت خطاب الناس وكل لفظ عام لأنا بينا أن خطابه بفروع العبادات ممكن وإنما خرج عن بعضها بدليل خاص
ومن الناس من أنكر ذلك وهو باطل لما قررناه في أحكام التكاليف
مسألة: هل تدخل النساء في عموم الخطاب ؟ :
يدخل النساء تحت الحكم المضاف إلى الناس فأما المؤمنون والمسلمون وصيغ جمع الذكر اختلفوا فيه فقال قوم تدخل النساء تحته لأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا غلبت العرب التذكير
واختار القاضي أنها لا تدخل وهو الأظهر لأن الله تعالى ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فجمع الذكور متميز نعم إذا اجتمعوا في الحكم وأراد الأخبار تجوز العرب الاقتصار على لفظ التذكير أما ما ينشأ على سبيل الابتداء ويخصه بلفظ المؤمنين فإلحاق المؤمنات إنما يكون(31/148)
ص -145-…بدليل آخر من قياس أو كونه في معنى المنصوص أو ما جرى مجراه
مسألة هل تدخل الأمة عند خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم ؟:
كما لا تدخل الأمة تحت خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } لا يدخل النبي تحت الخطاب الخاص بالأمة أما الخطاب بقوله تعالى{ يَا عِبَادِيَ }و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } فيدخل النبي تحته ،لعموم هذه الألفاظ .
وقال قوم لا يدخل لأنه قد خص بالخطاب في أحكام فلا يلزمه إلا الخطاب الذي يخصه .
وهو فاسد لأنه قد خص المسافر والعبد والحائض والمريض بأحكام ولا يمنع ذلك دخولهم تحت العموم حيث يعم الخطاب كذلك ههنا
مسألة: هل للمشافهة عموم ؟ :
المخاطبة شفاها لا يمكن دعوى العموم فيها بالإضافة إلى جميع الحاضرين فإذا قال لجميع نسائه الحاضرات طلقتكن ولجميع عبيده أعتقتكم فإنما يكون مخاطبا من جملتهم من أقبل عليه بوجهه وقصد خطابه وذلك يعرف بصورته وشمائله والتفاته ونظره فقد يحضره جماعة من الغلمان من البالغين والصبيان فيقول اركبوا معي ويريد به أهل الركوب منهم دون من ليس أهلا له فلا يتناول خطابه إلا من قصده ولا يعرف قصده إلا بلفظه أو شمائله الظاهرة فلا يمكن دعوى العموم فيها
فنقول على هذا :كل حكم يدل بصيغة المخابة كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(31/149)
ص -146-…آمَنُوا }و {يا أيها المؤمنون }و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ }فهو خطاب مع الموجودين في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباته في حق من يحدث بعده بدليل زائد دال على أن كل حكم ثبت في زمانه فهو دائم إلى يوم القيامة على كل مكلف ولولاه لم يقتض مجرد اللفظ ذلك ولما ثبت ذلك أفاد مثل هذه الألفاظ فائدة العموم لاقتران الدليل الآخر بها لا بمجرد الخطاب
فإن قيل: فإذا كان الخطاب خاصا مع شخص مشافهة أو مع جمع فهل يدل على العموم ؟ مثل قوله تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ }[سبأ: من الآية28] وقوله عليه السلام "بعثت إلى الناس كافة" و"بعثت إلى الأحمر والأسود" وقوله "حكمي على لواحد حكمي على الجماعة" وقوله تعالى{وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}]البقرة: من الآية197[و {يَا أُولِي الأَبْصَارِ}]الحشر: من الآية2[ و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ }وأمثاله
قلنا:لا، بل عرف الصحابة عموم الحكم الثابت في عصره للأعصار كلها بقرائن كثيرة وعرفنا ذلك من الصحابة ضرورة ومجرد هذه الألفاظ ليست قاطعة فإنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة فلا يلزم تساويهم في الأحكام فهو مبعوث إلى الحر والعبد والحائض والطاهر والمريض والصحيح ليعرفهم أحكامهم المختلفة وكذلك قوله تعالى{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ }]الأنعام: من الآية19[ أي ينذر كل قوم بل كل شخص بحكمه فيكون شرعه عاما وقوله "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" لا يتناول إلا عصره فإن الجماعة عبارة عن الموجودين فلا يتناول من بعده(31/150)
ص -147-…فإن قيل: فهل يدل على عموم الحكم أنه كان إذا أراد التخصيص خصص وقال "تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك" وحلل الحرير لعبد الرحمن بن عوف خاصة ؟
قلنا:لا لأنه ذكره حيث قدم عموما أو حيث توهم أنهم يلحقون غيره به للتعبد بالقياس وكذلك قوله تعالى{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }]الأحزاب: من الآية50[لا يدل على أن الخطاب معه خطاب مع الأمة لمثل ما ذكرناه
مسألة: ]التفريق بين العام والمجمل[ :
من الصيغ ما يظن عموما وهي إلى الإجمال أقرب مثل من يتمسك في إيجاب الوتر بقوله {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}]الحج: من الآية77[مصيرا إلى أن ظاهر الأمر الوجوب والخير اسم عام وإخراج ما قام الدليل على نفي وجوبه لا يمنع التمسك به وكمن يستدل على منع قتل المسلم بالذمي بقوله تعالى{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ]النساء:141[ قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من لمؤمنين فلله يحكم بينكم يوم لقيامة ولن يجعل لله للكافرين على لمؤمنين سبيلا النساء وأن ذلك يفيد منع السلطنة إلا ما دل عليه الدليل من الدية والضمان والشركة وطلب الثمن وغيره أو يستدل بقوله {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ }]الحشر: من الآية20[ وأن إيجاب القصاص تسوية
وهذا كله مجمل ولفظ الخير ولفظ السبيل ولفظ الاستواء إلى الإجمال أقرب وينضم إليه أن المستثنى من هذه العمومات ليس داخلا تحت الحصر وليس مضبوطا بضابط واحد ولا بضوابط محصورة وإن لم ينحصر المستثنى كان المستثني مجهولا(31/151)
وليس من هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم "فيما سقت السماء العشر"(31/152)
ص -148-…وقد قال قوم: لا يتمسك بعمومه لأن المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصف العشر
وهذا فاسد لأن صيغة ما صيغة شرط وضع للعموم بخلاف لفظ السبيل والخير والاستواء نعم تردد الشافعي في قوله تعالى{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}]البقرة: من الآية275[ في أنه عام أو مجمل من حيث أن الألف واللام احتمل أن يكون فيه للتعريف ومعناه وأحل الله البيع الذي عرف الشرع بشرطه
مسألة :هل المخاطب يندرج تحت العموم ؟:
المخاطب يندرج تحت الخطاب العام
وقال قوم:لا يندرج تحت خطابه بدليل قوله تعالى:{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ }]الأنعام: من الآية164[ ولا يدخل هو تحته وبدليل قول القائل لغلامه من دخل الدار فأعطه درهما فإنه لا يحسن أن يعطي السيد
وهذا فاسد: لأن الخطاب عام والقرينة هي التي أخرجت المخاطب مما ذكروه ويعارضه قوله{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[وهو عالم بذاته ويتناوله اللفظ ومجرد كونه مخاطبا ليس قرينة قاضية بالخروج عن العموم في كل خطاب بل القرائن فيه تتعارض والأصل اتباع العموم في اللفظ
مسألة فائدة العموم للاسم المفرد:
اسم الفرد وإن لم يكن على صيغة الجمع يفيد فائدة العموم في ثلاثة مواضع :
أحدها: أن يدخل عليه الألف واللام كقوله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا البر بالبر"
والثاني: النفي في النكرة لأن النكرة في النفي تعم كقولك "ما رأيت رجلا" لأن النفي لا خصوص له بل هو مطلق فإذا أضيف إلى منكر لم يتخصص .(31/153)
ص -149-…بخلاف قوله:رأيت رجلا فإنه إثبات والإثبات يتخصص في الوجود فإذا أخبر عنه لم يتصور عمومه وإذا أضيف إلى مفرد اختص به
الثالث:أن يضاف إليه أمر أو مصدر والفعل بعد غير واقع بل منتظر كقوله أعتق رقبة وقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}فإنه ما من رقبة إلا وهو ممتثل باعتاقها والاسم متناول للكل فنزل منزلة العموم بخلاف قوله أعتقت رقبة فإنه إخبار عن ماض قد تم وجوده ولا يدخل في الوجود إلا فعل خاص
مسألة أقل عدد الجمع :
صرف العموم إلى غير الاستغراق جائز وهو معتاد أما رده إلى ما دون أقل الجمع فغير جائز .
ولا بد من بيان أقل الجمع وقد اختلفوا فيه :
فقال عمر وزيد بن ثابت:إنه اثنان وبه قال مالك وجماعة وقال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة ثلاثة حتى قال ابن عباس لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين ليس الأخوان أخوة في لغة قومك فقال حجبها قومك يا غلام وقال ابن مسعود إذا اقتدى بالإمام ثلاثة اصطفوا خلفه وإذا اقتدى اثنان وقف كل واحد عن جانب وهذا يشعر من مذهبه بأنه يرى أقل الجمع ثلاثة
وليس من حقيقة هذا الخلاف منع جمع الاثنين بلفظ يعمهما فإن ذلك جائز ومعتاد لكن الخلاف في أن لفظ الناس والرجال والفقراء وأمثاله يطلق على ثلاثة فما زاد حقيقة وهل يطلق على الاثنين حقيقة أم لا(31/154)
ص -150-…واختار القاضي أن أقل الجمع اثنان واستدل بإجماع أهل اللغة على جواز إطلاق اسم الجمع على اثنين في قولهم فعلتم وفعلنا وتفعلون وقد ورد به القرآن قال الله تعالى في قصة موسى وهارون{إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}]الشعراء: من الآية15[ وقال {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} ]يوسف: من الآية83[وهما يوسف وأخوه وقال{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }]التحريم: من الآية4[ ولهما قلبان وقال {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ }]الانبياء: من الآية78[إلى قوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وهما اثنان وقال{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }]الحجرات: من الآية9[وهما طائفتان وقال{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}]صّ:21[وهما ملكان
فإن قيل عن كل واحد من هذا جواب
فقوله{إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}]الشعراء: من الآية15[الشعراء يعني هارون وموسى وفرعون وقومه وهم جماعة وقوله{قُلُوبُكُمَا }]التحريم: من الآية4[لضرورة استثقال الجمع بين اثنتين مع أن القلوب على وزن الواحد في بعض الألفاظ وقوله {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} ]يوسف: من الآية83[ أراد به يوسف وأخاه والأخ الأكبر الذي تخلف عن الأخوة وقوله تعالى {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}]الانبياء: من الآية78[أي حكمهما مع الجمع المحكوم عليهم وقوله{وَإِنْ طَائِفَتَانِ }]الحجرات: من الآية9[كل طائفة جمع
قلنا:هذه تعسفات وتكلفات إنما يحوج إليها ضرورة نقل من أهل اللغة في استحالة إطلاق اسم الجمع على الإثنين وإذا لم يكن نقل صريح فيحمل خلافهم على الحقيقة كما ورد
فإن قيل:ههنا أدلة أربعة:
الأول: أن الإثنين لو كانا جمعا لكان قولنا فعلا اسم جمع فليجز إطلاقه على(31/155)
ص -151-…الثلاثة فصاعدا كقوله فعلوا فإنه لما كان اسم جمع جاز على الثلاثة فما فوقها
قلنا:فعلوا اسم جمع مشترك بين سائر أعداد الجمع وفعلا اسم جمع خاص لأن الجمع لا يستدعي إلا الانضمام وذلك يحصل في الاثنين وهو كالعشرة فإنه اسم جمع لكن جمع خاص فلا يصلح لغيره وكيف ينكر كون الاثنين جمعا ويقول الرجلان نحن فعلنا
فإن قيل:قد يقول الواحد ذلك كقوله{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}]القدر:1[
قلنا ذلك مجاز بالاتفاق وهذا ليس بمجاز
الثاني قولهم أجمع أهل اللغة على أن الأسماء ثلاثة أضرب توحيد وتثنية وجمع وهو رجل ورجلان ورجال فلتكن هذه الثلاثة متباينة
قلنا ما قالوا الرجلان ليس اسم جمع لكن وضعوا البعض أعداد الجمع اسما خاصا كالعشرة وجعلوا اسم الرجال مشتركا
الثالث قولهم فرق في اللسان بين الرجال والرجلين وما ذكرتموه رفع للفرق
قلنا:الفرق أن الرجلين اسم جمع خاص وهو للإثنين والرجال اسم جمع مشترك لكل جمع من الإثنين والثلاثة فما زاد
الرابع:قولهم لو صح هذا لجاز أن يقال رأيت اثنين رجال كما يقال رأيت ثلاثة رجال
قلنا :هذا ممتنع لأن العرب لم تستعمله على هذا الوجه ولا يمكن تعدي عرفهم
وعلى الجملة: فمن يرد لفظ الجمع إلى الاثنين ربما يفتقر إلى دليل أظهر ممن(31/156)
ص -152-…يرده إلى الثلاثة وإذا رده إلى الواحد فقد غير اللفظ النص بقرينة
فإن قيل: فقد يقول لامرأته أتخرجين وتكلمين الرجال ؟وربما يريد رجلا واحدا
قلنا:ذلك استعمال لفظ الجمع بدلا عن لفظ الواحد لتعلق غرض الزوج لجنس الرجال لا أنه عنى بلفظ الرجال رجلا واحدا أما إذا أراد رجلين أو ثلاثة فقد ترك اللفظ على حقيقته
الباب الثالث في الأدلة التي يخص بها العموم
لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل إما بدليل العقل أو السمع أو غيرهما وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}]الأنعام: من الآية102[ { يُجْبَى(31/157)
ص -153-…إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}]القصص: من الآية57[و{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ }]الاحقاف: من الآية25[{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } ] النمل: من الآية23[وقوله{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}]التوبة: من الآية5[{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}]المائدة: من الآية38[{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي }]النور: من الآية2[{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ }]النساء: من الآية11[و يشرك النساء وفيما سقت السماء العشر فإن جميع عمومات الشرع مخصصة بشروط في الأصل والمحل والسبب وقلما يوجد عام لا يخصص مثل قوله تعالى{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[ فإنه باق على العموم والأدلة التي يخص بها العموم أنواع عشرة الأول دليل الحس وبه خصص قوله تعالى{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }]النمل: من الآية23[فإن ما كان في يد سليمان لم يكن في يدها وهو شيء وقوله تعالى{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا }]الاحقاف: من الآية25[ خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس
الثاني: دليل العقل وبه خصص قوله تعالى{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }]الأنعام: من الآية102[ إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}]آل عمران: من الآية97[خرج منه الصبي والمجنون لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم
فإن قيل:كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ
قلنا:قال قائلون لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى(31/158)
ص -154-…خاصا ودليل العقل يجوز أن يبين لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}]الأنعام: من الآية102[نفسه وذاته فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله
وأما قولهم: لا يجوز دخوله تحت اللفظ فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ولكن يكون قائله كاذبا ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع
الثالث: دليل الإجماع ويخصص به العام لأن الإجماع قاطع لا يمكن الخطأ فيه والعام يتطرق إليه الاحتمال ولا تقضي الأمة في بعض مسميات العموم بخلاف موجب العموم إلا عن قاطع بلغهم في نسخ اللفظ الذي كان قد أريد به العموم أو في عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم والإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص الخاص محتمل نسخه والإجماع لا ينسخ فإنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي
الرابع:النص الخاص يخصص اللفظ العام فقوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر يعم ما دون النصاب وقد خصصه قوله عليه السلام لا زكاة فيما دون خمسة أوسق وقوله تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ }]المائدة: من الآية38 [يعم كل مال وخرج ما دون النصاب بقوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" وقوله{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }]القصص: من الآية3[ يعم الكافرة فلو ورد مرة أخرى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}]النساء: من الآية92[في الظهار بعينة لتبين لنا أن المراد بالرقبة المطلبة العامة هي المؤمنة على الخصوص(31/159)
وقد ذهب قوم إلى أن الخاص والعام يتعارضان ويتدافعان فيجوز أن يكون الخاص سابقا وقد ورد العام بعده لأرادة العموم فنسخ الخاص ويجوز أن يكون العام سابقا وقد أريد به العموم ثم نسخ باللفظ الخاص بعده فعموم الرقبة مثلا يقتضي أجزاء الكافرة مهما أريد به العموم والتقييد بالمؤمنة يقتضي منع أجزاء الكافرة فهما متعارضان وإذا أمكن النسخ والبيان جميعا فلم يتحكم بحمله على البيان دون النسخ ولم يقطع بالحكم على العام بالخاص ولعل العام هو المتأخر الذي أريد به العموم وينسخ به الخاص وهذا هو الذي اختاره القاضي(31/160)
ص -155-…والأصح عندنا تقديم الخاص وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا ولكن تقدير النسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللفظ ثم خروجه عنه فهو إثبات وضع ورفع بالتوهم وإرادة الخاص باللفظ العام غالب معتاد بل هو الأكثر والنسخ كالنادر فلا سبيل إلى تقديره بالتوهم ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصحابة والتابعين كثير فإنهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص على العام وما اشتغلوا بطلب التاريخ والتقدم والتأخر
الخامس:المفهوم بالفحوى:كتحريم ضرب الأب حيث فهم من النهي عن التأفيف فهو قاطع كالنص وإن لم يكن مستندا إلى لفظ ولسنا نريد اللفظ بعينه بل لدلالته فكل دليل سمعي قاطع فهو كالنص
والمفهوم عند القائلين به أيضا كالمنطوق حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع في سائمة الغنم زكاة أخرجت المعلوفة من مفهوم هذا اللفظ عن عموم اسم الغنم والنعم
السادس:فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على ما سيأتي بشرطه عند ذكر دلالة الأفعال
وإنما يكون دليلا إذا عرف من قوله أنه قصد به بيان الأحكام كقوله عليه السلام "صلوا كما رأيتموني أصلي"و"خذوا عني مناسككم"
فإن لم يتبين أنه أراد به البيان فإذا ناقض فعله لحكمه الذي حكم به فلا يرفع أصل الحكم بفعله المخالف لكن قد يدل على التخصيص
ونذكر له ثلاثة أمثلة :
المثال الأول:إنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن الوصال ثم واصل فقيل له نهيت عن الوصال ونراك تواصل؟ فقال:إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" فبين أنه ليس يريد بفعله بيان الحكم ثم تحريم الوصال إن كان بقوله لا تواصلوا أو نهيتكم عن الوصال فلا يدخل فيه الرسول عليه(31/161)
ص -156-…السلام لأنه مخاطب غيره والمخاطب إنما يدخل تحت خطاب نفسه إذا أثبت الحكم بلفظ عام كقوله حرم الوصال على كل عبد أو على كل مكلف أو على كل إنسان أو كل مؤمن أو ما يجري مجراه وإن كان بلفظ عام فيكون فعله تخصيصا
المثال الثاني: أنه نهى عن استقبال القبلة في قضاء الحاجة ثم رآه ابن عمر مستقبلا بيت المقدس على سطح فيحتمل أنه تخصيص لأنه كان وراء سترة والنهي كان مطلقا وأريد به ما إذا لم يكن ساتر ويحتمل أنه كان مستثنى ومخصوصا فهو دليل على خروجه عن العموم إن كان اللفظ المحرم عاما له ولا يصلح هذا لأن ينسخ به تحريم الاستقبال لأنه فعل يكون في خلوة وخفية فلا يصلح لأن يراد به البيان فإن ما أريد به البيان يلزمه إظهاره عند أهل التواتر أن تعبد فيه الخلق بالعلم وإن لم يتعبدوا إلا بالظن والعمل فلا بد من إظهاره لعدل أو لعدلين
المثال الثالث: أنه نهى عن كشف العورة ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر ثم دخل عثمان رضي الله عنهم فستره فعجبوا منه فقال ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء فهذا لا يرفع النهي لاحتمال أنه لم يكن داخلا فيه أو لعله كشفه لعارض وعذر فإنه حكاية حال أو أريد بالفخذ ما يقرب منه وليس داخلا في حده أو إباحته خاصة له أو نسخ تحريم كشف العورة وإذا تعارضت الاحتمالات فلا يرتفع التحريم في حق غيره بالوهم.
السابع: تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف موجب العموم وسكوته عليه السلام عليه يحتمل نسخ أصل الحكم أو تخصيص ذلك الشخص بالنسخ في حقه خاصة له أو تخصيص وصف وحال ووقت ذلك الشخص ملابس له فيشاركه في الخصوص من شاركه في ذلك المعنى فإن كان قد ثبت(31/162)
ص -157-…ذلك الحكم في كل وقت وفي كل حال تعين تقرير لكونه نسخا إما على الجملة وإما في حقه خاصة والمستيقن حقه خاصة لكن لو كان من خاصيته لوجب على النبي عليه السلام أن يبين اختصاصه بعد أن عرف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة فيدل من هذا الوجه على النسخ المطلق ولما أقر عليه السلام أصحابه على ترك زكاة الخيل مع كثرتها في أيديهم دل على سقوط زكاة الخيل إذ ترك الفرض منكر يجب إنكاره
فإن قيل فلعلهم أخرجوا ولم ينقل إلينا أو لعله لم يكن في خيلهم سائمة ؟
قلنا: العادة تحيل اندراس إخراجهم الزكاة طول أعمارهم والسوم قريب من الأمكان ويجب شرح ما يقرب وقوعه فلو وجب لذكره
فهذه سبع مخصصات : ووراءها ثلاثة تظن مخصصات وليست منها فننظمها في سلك المخصصات :
الثامن :عادة المخاطبين فإذا قال لجماعة من أمته حرمت عليكم الطعام والشراب مثلا وكانت عادتهم تناولهم جنسا من الطعام فلا يقتصر بالنهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير وما لا يعتاد في أرضهم لأن الحجة في لفظه وهو عام وألفاظه غير مبنية على عادة الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة وهذا بخلاف لفظ الدابة فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ وأكل النواة والحصاة يسمى أكلا في العادة وإن كان لا يعتاد فعله ففرق بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء
وعلى الجملة:فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتى أن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد لكن لا تؤثر في تغيير خطاب الشارع إياهم
التاسع:مذهب الصحابي إذا كان بخلاف العموم فيجعل مخصصا(31/163)
ص -158-…عند من يرى قول الصحابي حجة يجب تقليده وقد أفسدناه
وكذلك تخصيص الراوي يرفع العموم عند من يرى أن مذهب الراوي إذا خالف روايته يقدم مذهبه على روايته وهذا أيضا مما أفسدناه بل الحجة في الحديث ومخالفته وتأويله وتخصيصه يجوز أن تكون عن اجتهاد ونظر لا نرتضيه فلا نترك الحجة بما ليس بحجة بل لو كان اللفظ محتملا وأخذ الراوي بأحد محتملاته واحتمل أن يكون ذلك عن توقيف فلا تجب متابعته ما لم يقل إني عرفته من التوقيف بدليل أنه لو رواه روايان وأخذ كل واحد باحتمال آخر فلا يمكننا أن نتبعهما أصلا
العاشر:خروج العام على سبب خاص جعل دليلا على تخصصه عند قوم
وهو غير مرضي عندنا كما سبق تقريره
واختتام هذا الكتاب بذكر مسألتين في تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس
مسألة :تخصيص العموم بخبر الواحد خبر الواحد إذا ورد مخصصا لعموم القرآن
اتفقوا على جواز التعبد به لتقديم أحدهما على الآخر لكن اختلفوا في وقوعه على أربعة مذاهب :
فقال:بتقديم العموم قوم
وبتقديم الخبر قوم(31/164)
ص -159-…وبتقابلهما والتوقف إلى ظهور دليل آخر قوم
وقال قوم: إن كان العموم مما دخله التخصيص بدليل قاطع فقد ضعف وصار مجازا فالخبر أولى منه وإلا فالعموم أولى وإليه ذهب عيسى بن أبان
حجج القائلين بترجيح عموم القران على خبر الواحد :
احتج القائلون بترجيح العموم بمسلكين
المسلك الأول: أن عموم الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون فكيف يقدم عليه ؟
الاعتراض من أوجه:
الأول:أن دخول أصل محل الخصوص في العموم وكونه مراد به مظنون ظنا ضعيفا يستند إلى صيغة العموم وقد أنكره الواقفية وزعموا أنه مجمل فكيف ينفع كون أصل الكتاب مقطوعاته فيما لا يقطع بكونه مرادا بلفظه؟.
الثاني: أنه لو كان مقطوعا به للزم تكذيب الراوي قطعا ولا شك في إمكان صدقه
فإن قيل:فلو نقل النسخ فصدقه أيضا ممكن ولا يقبل
قلنا:لا جرم لا يعلل رده بكون الآية مقطوعا بها لأن دوام حكمها إنما يقطع به بشرط أن الإيراد ناسخ فلا يبقى القطع مع وروده لكن الإجماع منع من نسخ القرآن بخبر الواحد ولا مانع من التخصيص.
الثالث :أن براءة الذمة قبل ورود السمع مقطوع بها ثم ترفع بخبر الواحد لأنه مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع وماء البحر مقطوع بطهارته إذا جعل في كوز لكن بشرط أن لا يرد سمع بأن يخبر عدل بوقوع النجاسة فيه(31/165)
ص -160-…وكذلك العموم ظاهر في الاستغراق بشرط أن لا يرد خاص
الرابع: أن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع وإنما الاحتمال في صدق الراوي ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه فإن سفك الدم وتحليل البضع واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقهما فوجوب العمل بالخبر مقطوع به وكون العموم مستغرقا غير مقطوع به
فإن قيل:إنما يجب العمل بخبر لا يقابل عموم القرآن
قلنا:يقابله أنه إنما يجب العمل بعموم لا يخصصه حديث نص ينقله عدل ولا فصل بين الكلامين
المسلك الثاني:قولهم:إن الحديث إما أن يكون نسخا أو بيانا والنسخ لا يثبت بخبر الواحد إتفاقا وإن كان بيانا فعال إذا البيان ما يقترن بالمبين وما يعرفه الشارع أهل التواتر حتى تقوم الحجة به
قلنا:هو بيان ولا يجب اقتران البيان بل يجوز تأخيره عندنا وما يدريهم أنه وقع متراخيا فلعله كان مقترنا والراوي لم يرو اقترانه كيف ويجوز أن يقول بعد ورود آية السرقة لا قطع إلا في ربع دينار من الحرز ؟
وأما قولهم :ينبغي أن يلقيه إلى عدد التواتر فتحكم بل إذا لم يكلفهم العلم بل العمل جاز تكليفهم بقول عدل واحد ثم ما يدر بهم فلعله ألقاه إلى عدد التواتر فماتوا قبل النقل أو نسوا أو هم في الأحياء لكنا ما لقينا منهم إلا واحدا
حجة القائلين بتقديم الخبر :
أن الصحابة ذهبت إليه إذ روى أبو هريرة أن المرأة لا تنكح على عمتها وخالتها فخصصوا به قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}]النساء: من الآية24[(31/166)
ص -161-…وخصصوا عموم آية المواريث برواية أبي هريرة أنه لا يرث القاتل والعبد ولا أهل ملتين ورفعوا عموم آية الوصية بقوله لا وصية لوارث ورفعوا عموم قوله تعالى{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}]البقرة: من الآية230[برواية من روى حتى تذوق عسيلتها إلى نظائر لذلك كثيرة لا تحصى
الاعتراض: إن هذا ليس قاطعا بأنهم رفعوا العموم بمجرد قول الراوي بل ربما قامت الحجة عندهم على صحة قوله بأمور وقرائن وأدلة سوى مجرد قوله كما نقل أن أهل قباء تحولوا عن القبلة بخبر واحد وهو نسخ لكنهم لعلهم عرفوا صدقه برفع صوته في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وأن ذلك لا يمكن الكذب فيه
حجة القائلين بالتوقف:
وهو اختيار القاضي: أن العموم وحده دليل مقطوع الأصل مظنون الشمول والخبر وحده مظنون الأصل مقطوع به في اللفظ والمعنى وهما متقابلان ولا دليل على الترجيح فيتعارضان والرجوع إلى دليل آخر
والمختار: أن خبر العدل أولى لأن سكون النفس إلى عدل واحد في الرواية لما هو نص كسكونها إلى عدلين في الشهادة.
أما اقتضاء آية المواريث الحكم في حق القاتل والكافر ضعيف وكلام من(31/167)
ص -162-…يدعي إجمال العموم قوي واقع وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجة في غاية الضعف ولذلك ترك توريث فاطمة رضي الله عنها بقول أبي بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورث الحديث فنحن نعلم أن تقدير كذب أبي بكر وكذب كل عدل أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه الصلاة والسلام والقاتل والعبد والكافر وهذه النوادر
مسألة:تعارض القياس مع العموم :
قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد والقياس حجة لو انفرد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب:
فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو الحسن الأشعري إلى تقديم القياس على العموم
ذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء إلى تقديم العموم
وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض
وقال قوم: يقدم على العموم جلى القياس دون خفيه.
وقال عيسى بن أبان: يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله
حجاج من قدم العموم ثلاث:
الأولى: أن القياس فرع والعموم أصل فكيف يقدم فرع على أصل ؟
الاعتراض من وجوه:(31/168)
ص -163-…الأول: أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به والنص تارة يخصص بنص آخر وتارة بمعقول نص آخر ولا معنى للقياس إلا معقول النص وهو الذي يفهم المراد من النص والله هو الواضع لإضافة الحكم إلى معنى النص إلا أنه مظنون نص كما أن العموم وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر فهما ظنان في نصين مختلفين وإذا خصصنا بقياس الأرز على البر عموم قوله{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }]البقرة: من الآية275[لم نخصص الأصل بفرعه فإن الأرز فرع حديث البر لا فرع آية إحلال البيع
الثاني:أنه يلزم أن لا يخصص القرآن بخبر الواحد لأنه فرع فإنه يثبت بأصل من كتاب وسنة فيكون فرعا له فقد سلم التخصيص بخبر الواحد من لا يسلم التخصيص بالقياس فهذا لازم لهم
فإن قيل:خبر الواحد ثبت بالإجماع لا بالظاهر والنص
قلنا:وكون القياس حجة ثبت أيضا بالإجماع ثم لا مستند للإجماع سوى النص فهو فرع الإجماع والإجماع فرع النص
الحجة الثانية: أنه إنما يطلب القياس حكم ما ليس منطوقا به فما هو منطوق به كيف يثبت بالقياس ؟
الاعتراض:أنه ليس منطوقا به كالنطق بالعين الواحدة لأن زيدا في قوله{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }]التوبة: من الآية5[ليس كقوله اقتلوا زيدا والأرز في قوله{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }]البقرة: من الآية275[ليس كقوله يحل بيع الأرز بالأرز متفاضلا ومتماثلا فإذا كان كونه مرادا بآية إحلال البيع مشكوكا فيه كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه لأن العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقا بذلك القدر ولم يكن نطقا بما ليس بمراد والدليل عليه جواز تخصيصه بدليل العقل القاطع ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشارع لأن الأدلة لا تتعارض
فإن قيل: ما أخرجه العقل عرف أنه لم يدخل تحت العموم ؟(31/169)
ص -164-…قلنا:تحت لفظه أو تحت الارادة فإن قلتم تحت اللفظ فإن الله تعالى شيء وهو داخل تحت اللفظ من قوله تعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}]الأنعام: من الآية102[وإن قلتم لا يدخل تحت الإرادة فكذلك دليل القياس يعرفنا ذلك ولا فرق
الحجة الثالثة:أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ بم تحكم ؟فقال بكتاب الله قال فإن لم تجد ؟قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي فجعل الاجتهاد مؤخرا فكيف يقدم على الكتاب ؟
قلنا: كونه مذكورا في الكتاب مبني على كونه مرادا بالعموم وهو مشكوك فيه فكونه في الكتاب مشكوك فيه ولذلك جاز لمعاذ ترك العموم بالخبر المتواتر وخبر الواحد ونص الكتاب لا يترك بالسنة إلا أن تكون السنة بيانا لمعنى الكتاب والكتاب يبين الكتاب والسنة تبين السنة تارة بلفظ وتارة بمعقول لفظ
ثم نقول: حكم العقل الأصلي في براءة الذمة يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد لأنه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر فيصير مشكوكا فيه معه فكذلك العموم
حجج القائلين بتقديم القياس اثنتان
الأولى:أن العموم يحتمل المجاز والخصوص والاستعمال في غير ما وضع له والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك ولأنه يخصص العموم بالنص الخاص مع إمكان كونه مجازا ومؤولا فالقياس أولى.
الاعتراض:أن احتمال الغلط في القياس ليس بأقل من احتمال ما ذكر في العموم من احتمال الخصوص والمجاز بل ذلك موجود في أصل القياس وزيادة ضعف ما يختص به من احتمال الخصوص والمجاز إذ القياس ربما يكون منتزعا من خبر(31/170)
ص -165-…واحد فيتطرق الاحتمال إلى أصله وربما استنبطه من ليس أهلا للاجتهاد فظن أنه من أهله ولا حكم لاجتهاد غير الأهل والعموم لا يستند إلى اجتهاد وربما يستدل على إثبات العلة بما يظنه دليلا وليس بدليل وربما لا يستوفي جميع أوصاف الأصل فيشذ عنه وصف داخل في الاعتبار وربما يغلط في إلحاق الفرع به لفرق دقيق بينهما لم يتنبه له
فمظنة الاحتمال والغلط في القياس أكثر
الحجة الثانية:قولهم تخصيص العموم بالقياس جمع بين القياس وبين الكتاب فهو أولى من تعطيل أحدهما أو تعطيلهما.
وهذا فاسد لأن القدر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس
حجة الواقفية :
قالوا إذا بطل كلام المرجحين كما سبق وكل واحد من القياس والعموم دليل لو انفرد وقد تقابلا ولا ترجيح فهل يبقى إلا التوقف لأن الترجيح إما أن يدرك بعقل أو نقل والعقل إما نظري أو ضروري والنقل إما تواتر أو آحاد ولم يتحقق شيء من ذلك فيجب طلب دليل آخر
فإن قيل:هذا يخالف الإجماع لأن الأمة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين ولم يذهب أحد قبل القاضي إلى التوقف
أجاب القاضي: بأنهم لم يصرحوا ببطلان التوقف قطعا ولم يجمعوا عليه لكن كل واحد رأى ترجيحا والإجماع لا يثبت بمثل ذلك كيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس كيف يقطع بخطئه إن توقف؟!
حجة من فرق بين جلى القياس وخفيه:
وهي أن جلي القياس قوي وهو أقوى من العموم والخفي ضعيف
ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة والخفي بقياس الشبه وعن
بعضهم أن الجلي مثل قوله عليه السلام "لا يقض القاضي وهو غضبان"(31/171)
ص -166-…وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن تمام الفكر حتى يجري في الجائع والحاقن خفي
والمختار: أن ما ذكروه غير بعيد فإن العموم يفيد ظنا والقياس يفيد ظنا وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد فيلزمه اتباع الأقوى والعموم تارة يضعف بأن لا يظهر منه قصد التعميم ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة كقوله تعالى{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}]البقرة: من الآية275[فإن دلالة قوله عليه السلام "لا تبيعوا البر بالبر" على تحريم الأرز والتمر أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله وقد دل الكتاب على تحريم الخمر وخصص به قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}]الأنعام: من الآية145[وإذا ظهر منه التعليل بالإسكار فلو لو يرد خبر في تحريم كل مسكر لكان إلحاق النبيذ بالخمر بقياس الإسكار أغلب على الظن من بقائه تحت عموم قوله{ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} وهذا ظاهر في هذه الآية وآية احلال البيع لكثرة ما أخرج منهما ولضعف قصد العموم فيهما ولذلك جوزه عيسى بن أبان في أمثاله دون ما بقي على العموم
ولكن لا يبعد ذلك عندنا أيضا فيما بقي عاما لأنا لا نشك في أن العمومات بالإضافة إلى بعض المسميات تختلف في القوة لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى بها فإن تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين
وكذلك أقوى القياسين إذا تقابلا قدمنا أجلاهما وأقواهما
فكذلك العموم والقياس إذا تقابلا فلا يبعد أن يكون قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف فنقدم الأقوى(31/172)
ص -167-…وإن تعادلا فيجب التوقف كما قاله القاضي إذ ليس كون هذا عموما أو كون ذلك قياسا مما يوجب ترجيحا لعينهما بل لقوة دلالتهما فمذهب القاضي صحيح بهذا الشرط
تخصيص عموم الكتاب بقياس مستنبط من حديث نبوي :
فإن قيل:فهذا الخلاف الذي في تخصيص بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصص به عموم الكتاب فهل يجري في قياس مستنبط من الأخبار؟
قلنا:نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد والخلاف جار في الكل وكذا قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب وقياس نص الكتاب بالإضافة إلى عموم الخبر المتواتر
أما قياس خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن فلا يخفي ترجيح الكتاب عند من لا يقدم خبر الواحد على عموم القرآن أما من يقدم الخبر فيجوز أن يتوقف في قياس الخبر فإنه ازداد ضعفا وبعدا وما في معنى الأصل والمعلوم بالنظر الجلي قريب من الأصل فلا يبعد أن يكون أقوى في النفس في بعض الأحوال من ظن العموم فالنظر فيه إلى المجتهد
فإن قيل:الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات أو في المجتهدات قلنا يدل سياق كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع بخطأ المخالف فيه لأنه من مسائل الأصول
وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة من سائر الجوانب فيه متقاربة غير بالغة مبلغ القطع(31/173)
ص -168-…الباب الرابع في تعارض العمومين ووقت جواز الحكم بالعموم
وفيه فصول:
الفصل الأول في التعارض :
اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض
فنقول: كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها فإن ورد دليل سمي على خلاف العقل فأما لا يكون متواترا فيعلم أنه غير صحيح وإما أن يكون متواترا فيكون مؤولا ولا يكون متعارضا وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل فذلك محال لأن دليل العقل لا يقبل النسخ والبطلان
مثال ذلك المؤول في العقليات قوله تعالى{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}]الأنعام: من الآية102[إذ خرج بدليل العقل ذات القديم وصفاته وقوله{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[ دل العقل على عمومه ولا يعارضه قوله تعالى{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ }]يونس: من الآية18[إذ معناه ما لا يعلم له أصلا أي يعلم أنه لا أصل له ولا يعارضه قوله تعالى{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}]محمد: من الآية31[إذا معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة وحاصلة وفي الأزل لا يوصف علمه بتعلقه بحصول المجاهدة قبل حصولها وكذلك قوله تعالى{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}(31/174)
ص -169-…]العنكبوت: من الآية17[ لا يعارض قوله{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }]الأنعام: من الآية102[ لأن المعنى به الكذب دون الايجاد وكذلك قوله تعالى{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر}ِ ]المائدة: من الآية110[لأن معناه تقدر والخلق هو التقدير وكذلك قوله{ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}]المؤمنون: من الآية14[ أي المقدرين وهكذا أبدا تأويل ما خالف دليل العقل أو خالف دليلا شرعا دل العقل على عمومه
دفع التعارض في الشرعيات بالجمه إن أمكن ، ثم النسخ ، ثم الترجيح ثم التخيير :
أما الشرعيات: فإذا تعارض فيها دليلان فأما أن يستحيل الجمع أو يمكن فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلا من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه لا يصح نكاح بغير ولي يصح نكاح بغير ولي فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا
فإن أشكل التاريخ فيطلب الحكم من دليل آخر ويقدر تدافع النصين
فإن عجزنا عن دليل آخر فنتخير العمل بأيهما شئنا لأن الممكنات أربعة :العمل بهما وهو متناقض أو اطراحهما وهو إخلاء الواقعة عن الحكم وهو متناقض أو استعمال واحد بغير مرجح وهو تحكم فلا يبقى إلا التخير الذي يجوز ورود التعبدية ابتداء فإن الله تعالى لو كلفنا واحدا بعينه لنصب عليه دليلا ولجعل لنا إليه سبيلا إذ لا يجوز تكليف بالمحال
وفي التخيير بين الدليلين المتعارضين مزيد غور سنذكره في كتاب الاجتهاد عند تخير المجتهد وتحيره
مراتب الجمع بين الدليلين المتعارضين :
أما إذا أمكن الجمع بوجه ما فهو على مراتب:
المرتبة الأولى: عام وخاص كقوله عليه السلام "فيما سقت السماء العشر" مع(31/175)
ص -170-…قوله "لا صدقة فيما دون خمسة أوسق" فقد ذكرنا من مذهب القاضي أن التعارض واقع لإمكان كون أحدهما نسخا بتقدير إرادة العموم بالعام
والمختار أن يجعل بيانا ولا يقدر النسخ إلا لضرورة فإن فيه تقدير دخول ما دون النصاب تحت وجوب العشر ثم خروجه منه وذلك لا سبيل إلى إثباته بالتوهم من غير ضرورة .
المرتبة الثانية:وهي قريبة من الأولى أن يكون اللفظ المؤول قويا في الظهور بعيدا عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة فكلام القاضي فيه أوجه.
ومثاله قوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة كما رواه ابن عباس فإنه كالصريح في نفي ربا الفضل ورواية عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل" صريح في إثبات ربا الفضل فيمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر ويمكن أن يكون قوله إنما الربا في النسيئة أي في مختلفي الجنس ويكون قد خرج على سؤال خاص عن المختلفين أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال والجمع بهذا التقدير ممكن
والمختار أنه وإن بعد أولى من تقدير النسخ
وللقاضي أن يقول: قطعكم بأنه أراد به الجنسين تحكم لا يدل عليه قاطع ويخالف ظاهر اللفظ المفيد للظن والتحكم بتقدير ليس يعضده دليل قطعي ولا ظني لا وجه له
قلنا:يحملنا عليه ضرورة الاحتراز عن النسخ
فيقول: فما المانع من تقدير النسخ وليس في إثباته اتركاب محال ولا مخالفة دليل قطعي ولا ظني وفيما ذكرتم مخالفة صيغة العموم ودلالة اللفظ وهو دليل(31/176)
ص -171-…ظني فما هو الخوف والحذر من النسخ وإمكانه كإمكان البيان فليس أحدهما بأولى من الآخر ؟
فإن قلنا:البيان أغلب على عادة الرسول عليه السلام من النسخ وهو أكثر وقوعا
فله أن يقول:وما الدليل على جواز الأخذ بالاحتمال الأكثر وإذا اشتبهت رضيعة بعشر نسوة فالأكثر حلال وإذا اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للأكثر بل لا بد من الاجتهاد والدليل ولا يجوز أن يأخذوا واحدا ويقدر حله أو طهارته لأن جنسه أكثر
لكنا نقول: الظن عبارة عن أغلب الاحتمالين ولكن لا يجوز إتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه وصيغة العموم تتبع لأن إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب وأكثر من وقوع غيره والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلائه في الأقيسة الظنية لكن الجمع أغلب على الظن واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظنا لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه
فكذا نعلم من سيرة الصحابة إنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}]البقرة: من الآية29[وألفاظ نادرة بل قدروا جملة ذلك بيانا وورد العام والخاص في الأخبار ولا يتطرق النسخ إلى الخبر كقوله تعالى{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ}]القلم:30 [ القلم وتخصيصا لقوله تعالى هذا يوم لا ينطقون المرسلات وتخصيص قوله تعالى{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}]النمل: من الآية23[و{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}]الاحقاف:(31/177)
ص -172-…من الآية25[و{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ }]القصص: من الآية57[وكانوا لا ينسخون إلا بنص وضرورة أما بالتوهم فلا
ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما ذا لم يظهر التاريخ وفي جعله بيانا استعمالها وإذا تخيرنا بين الاستعمال والإسقاط فالاستعمال هو الأصل ولا يجوز الإسقاط إلا لضرورة
تنبيه: أعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان مثاله قوله صلى الله عليه وسلم "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم "أيما إهاب دبغ فقد طهر" لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين
أحدهما :أن لا ينبت في اللسان اختصاص اسم الإهاب بغير المدبوغ فقد قيل ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا فإذا دبغ فأديم وصرم وغيره فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين
الثاني: أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ثم كتب لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا فيكون بيانا ناسخا لأن شرط النسخ التراخي
المرتبة الثالثة: من التعارض أن يتعارض عمومان فيزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه
مثاله قوله عليه السلام:"من بدل دينه فاقتلوه" فإنه يعم النساء مع قوله "نهيت عن قتل النساء" فإنه يعم المرتدات وكذلك قوله "نهيت عن الصلاة بعد العصر" فإنه يعم الفائتة أيضا مع قوله "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فإنه يعم المستيقظ بعد العصر
وكذلك قوله{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ }]النساء: من الآية23[ فإنه يشمل جمع الأختين في ملك اليمين أيضا مع قوله{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}]النساء: من الآية3[(31/178)
ص -173-…فإنه يحل الجمع بين الأختين بعمومه فيمكن أن يخصص قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ }]النساء: من الآية23[ بجمع الأختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}]النساء: من الآية3[ فهو على مذهب القاضي تعارض وتدافع بتقدير النسخ ويشهد له قول علي وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة أعني جمع أختين في ملك اليمين فقالا حرمتهما آية وحللتهما آية
أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح
وقد ظهر فنقول حفظ عموم قوله وأن تجمعوا بين الأختين أولى لمعنيين :
أحدهما: إنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالإتفاق إذ قد استثنى عن تحليل ملك اليمن المشتركة والمستبرأة والمجوسية والأخت من الرضاع والنسب وسائر المحرمات أما الجمع بين الأختين فحرام على العموم
الثاني: أن قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ }]النساء: من الآية23[ سيق بعد ذكر المحرمات وعدها على الاستقصاء إلحاق لمحرمات تعم الحرائر والإماء وقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}]النساء: من الآية3[ ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات والسراري فلا يظهر منه قصد البيان(31/179)
ص -174-…فإن قيل :هل يجوز أن يتعارض عمومان ويخلوا عن دليل الترجيح ؟
قلنا:قال قوم لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى التهمة ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين وهو منفر عن الطاعة والإتباع والتصديق
وهذا فاسد بل ذلك جائز ويكون ذلك مبينا لأهل العصر الأول وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال
وأما ما ذكروه من التنفير والتهمة فباطل فإن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر النحل الآية ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ
الفصل الثاني في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص
وقد اختلفوا في جوازه فقيل :لا يجوز ذلك لأن فيه الباسا وتجهيلا
ونحن نقول: يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان
وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص بل يجوز أن يغفل عنه ويكون حكم الله عليه والعمل بالعموم وهذا القدر الذي بلغه لا يكلف ما لم يبلغه
ودليل جوازه وقوعه بالإجماع فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الأكثرون إلا الراسخون في العلم وغلطوا فيها فالألفاظ المتشابهة في(31/180)
ص -175-…القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه وقطع الوهم وذلك سبب للجهل والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة
فإن قيل:العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل فالحوالة عليه ليس بتجهيل
قلنا:وأي شيء ينفع كونه عتيدا ولم يزل به جهل الأكثرين وكان يزول بالتصريح والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا ؟
احتجوا بشبهتين:
الأولى: إنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ والمستثنى دون الاستثناء
قلنا:ذلك جائز في النسخ وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ وليس عليه إلا تجويز النسخ والتصفح عن دليله فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه كما إذا عجز من معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم وأما الاستثناء فيشترط إتصاله فكيف لا يبلغه؟ نعم يجوز أن يسمعه الأول فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون مكلفا بما لم يبلغه
الشبهة الثانية: قولهم تبليغ العام دون دليل الخصوص تجهيل فإنه يعتقد العموم وهو جهل .
قلنا:جهل من جهته إن اعتقد جزما عمومه بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم وهو محتمل للخصوص ومكلف بطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه لأنه إن اعتقد أنه عام قطعا أو خاص قطعا أو لا عام ولا خاص أو هو عام وخاص معا فكل ذلك جهل فإذا بطل الكل لم(31/181)
ص -176-…يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وبهذا يتبين بطلان مذهب أبي حنيفة حيث قال قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}]النساء: من الآية92[ يجب أن يعتقد عمومه قطعا حتى يكون إخراج الكافرة نسخا وقوله{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}]الحج: من الآية29[يجب اعتقاد إجزائه قطعا حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخا وهو خطأ بل يعتقده ظاهرا محتملا أو يتوقف عن القطع والجزم نفيا وإثباتا فإنه ليس بقاطع
الفصل الثالث في الوقت الذي يجوز للمجتهد الحكم بالعموم فيه
فإن قال قائل:إذا لم يجز الحكم بالعموم ما لم يتبين انتفاء دليل الخصوص فمتى يتبين له ذلك وهل يشترط أن يعلم انتفاء المخصص قطعا أو يظنه ظنا ؟
قلنا :لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة العشرة التي أوردناها في المخصصات لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص والشرط بعد لم يظهر وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط السلامة عن المعارضة فلا بد من معرفة الشرط وكذلك الجمع بعلة مخيلة بين الفرع والأصل دليل بشرط أن لا ينقدح فرق فعليه أن يبحث عن الفوارق جهده أو ينفيها ثم يحكم بالقياس وهذا الشرط لا يحصل إلا بالبحث .
إلى درجة يجب البحث عن المخصصات :
ولكن المشكل أنه إلى متى يجب البحث فإن المجتهد وإن استقصى أمكن أن يشذ عنه دليل لم يعثر عليه فكيف يحكم مع إمكانه أو كيف ينحسم سبيل إمكانه وقد انقسم الناس في هذا على ثلاثة مذاهب:(31/182)
ص -177-…فقال قوم:يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالإنتفاء عند الاستقصاء في البحث كالذي يبحث عن متاع في بيت فيه أمتعة كثيرة فلا يجده فيغلب على ظنه عدمه .
وقائل يقول: لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا دليل أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه ويحيك في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما ؟نعم إذا اعتقد جزما وسكنت نفسه إلى الدليل جاز له الحكم كان مخطئا عند الله أو مصيبا كما لو سكنت نفسه إلى القبلة فصلى إليها
وقال قوم :لا بد أن يقطع بانتفاء الأدلة وإليه ذهب القاضي لأن الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع سلامة قلب وجهل بل العالم الكامل يشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ولا تسكن نفسه
والمشكل على هذا طريق تحصيل القطع بالنفي وقد ذكر فيه القاضي مسلكين :
أحدهما :إنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله لا يقتل مؤمن بكافر مثلا فقال هذه مسألة طال فيها خوض العلماء وكثر بحثهم فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم مدركها وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها فأقطع بأن لا مخصص.
لها وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما إنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها ولم يطل البحث عنها ولا شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع حتى روى رافع بن خديج النهي عنها
الثاني :أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين بل إن سلم إنه لا يشذ(31/183)
ص -178-…المخصص عن جميع العلماء فمن أين لقي جميع العلماء ؟ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم ؟فلعل منهم من تنبه لدليله وما كتبه في تصنيفه ولا نقل عنه وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي وكان النهي حاصلا ولم يبلغهم بل كان الحاصل إما ظنا وإما سكون نفس
المسلك الثاني :قال القاضي لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك إذ يقول لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين ولبلغهم ذلك وما خفي عليهم وهذا أيضا من الطراز الأول فإنه لو اجتمعت الأمة على شيء أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك ؟
والمختار عندنا :أن تيقن الإنتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا وانتفاء الدليل في نفسه مظنون وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها
وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر(31/184)
ص -179-…الباب الخامس في الاستثناء والشرط والتقييد بعد الإطلاق الكلام في الاستثناء
والنظر في حقيقته وحده
ثم في شرطه
ثم في تعقب الجمل المترادفة
فهذه ثلاثة فصول:
الفصل الأول في حقيقة الاستثناء
وصيغه معرفة وهي إلا وعدا وحاشا وسوى وما جرى مجراها
وأم الباب لا
وحده أنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول
ففيه احتراز عن أدلة التخصيص لأنها قد لا تكون قولا وتكون فعلا وقرينة ودليل عقل فإن كان قولا فلا تنحصر صيغه
واحترزنا بقولنا: ذو صيغ محصورة عن قوله رأيت المؤمنين ولم أر زيدا فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيده قوله إلا زيدا
ويفارق الاستثناء التخصيص في أنه يشترط اتصاله وأنه يتطرق إلى الظاهر والنص جميعا إذ يجوز أن يقول عشرة إلا ثلاثة كما يقول اقتلوا المشركين إلا زيدا والتخصيص لا يتطرق إلى النص أصلا(31/185)
ص -180-…وفيه احتراز عن النسخ إذ هو رفع وقطع
وفرق بين النسخ والاستثناء والتخصيص أن النسخ رفع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يدخل على الكلام فيمنع أن يدخل تحت اللفظ ما كان يدخل لولاه والتخصيص يبين كون اللفظ قاصرا عن البعض فالنسخ قطع ورفع والاستثناء رفع والتخصيص بيان
وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في فصل الشرط إن شاء الله
الفصل الثاني في الشروط
وهي ثلاثة:
الأول: الاتصال فمن قال اضرب المشركين ثم قال بعد ساعة إلا زيدا لم يعد هذا كلاما بخلاف ما لو قال أردت بالمشركين قوما ما دون قوم
ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وأن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته(31/186)
ص -181-…بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه
أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الاتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه لو قال اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط فلو أخر ثم قال بعد شهر إذا قام لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا وكذلك قوله إلا زيدا بعد شهر لا يفهم وكذلك لو قال زيد ثم قال بعد شهر قام لم يعد هذا خبرا أصلا
ومن ههنا قال قوم:يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله إلا زيدا أني أريد الاستثناء حتى يفهم
وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء
احتجوا:بجواز تأخير النسخ وأدلة التخصيص وتأخير البيان
فنقول:إن جاز القياس في اللغة فينبغي أن يقاس عليه الشرط والخبر ولا ذاهب إليه لأنه لا قياس في اللغات وكيف يشبه بأدلة التخصيص وقوله إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول
والشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كقوله رأيت الناس إلا زيدا ولا تقول رأيت الناس إلا حمارا أو تستثنى جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله رأيت الدار إلا بابها ورأيت زيدا إلا وجهه وهذا استثناء من غير الجنس لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ولا اسم زيد على وجهه بخلاف قوله مائة ثوب إلا ثوبا
وعن هذا قال قوم:ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس قال الشافعي :(31/187)
ص -182-…لو قال علي مائة درهم إلا ثوبا صح ويكون معناه إلا قيمة ثوب ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس .
وقد ورد الاستثناء من غير الجنس كقوله تعالى{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ اِلاَّ إِبْلِيسَ}]الحجر:30[ كيف الحجر ولم يكن من الملائكة فإنه قال {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }]الكهف: من الآية50[ وقال تعالى{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً}]النساء: من الآية92[ النساء استثنى الخطأ من العمد وقال تعالى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}]الشعراء:77[وقال {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}]النساء: من الآية29[وقال تعالى {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}]الليل:19[وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص والإخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا
ومن معتاد كلام العرب ما في الدار رجل إلا امرأة وما له ابن إلا ابنة وما رأيت أحدا إلا ثورا وقال شاعرهم:
وبلدة ليس بها أنيس… إلا اليعافير وإلا العيس
وقال آخر
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم… بهن فلول من قراع الكتائب
وقد تكلف قوم عن هذا كله جوابا فقالوا :ليس هذا استثناء حقيقة بل هو مجاز
وهذا خلاف اللغة فإن إلا في اللغة للاستثناء والعرب تسمى هذا استثناء ولكن تقول هو استثناء من غير الجنس
وأبو جنيفة رحمه الله جوز استثناء المكيل من الموزون وعكسه ولم يجوز استثناء غير المكيل والموزون منهما في الأقارير(31/188)
ص -183-…وجوزه الشافعي رحمه الله
والأولى التجويز في الأقارير لأنه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه
نعم: اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة ؟وهذا فيه نظر
واختار القاضي رحمه الله أنه حقيقة
والأظهر عندي أنه مجاز لأن الاستثناء من الثني تقول ثنيت زيدا عن رأيه وثنيت العنان فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه فتكون إلا في هذا الموضع بمعنى لكن
ثم قال الامام : إنما يستحسن ذلك أن لو كان بين المستثنى والمستثنى منه نوع مناسبة ، كما إذا قال : ليس لفلان ابن إلا بنت . فلو قال : ليس لفلان ابن إلا أنه باع داره، فلا يسمع منه هذا الاستثناء ، لعدم المناسبة ، ولعدم انتظامه في نفسه .
الشرط الثالث: أن لا يكون مستغرقا فلو قال لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة لأنه رفع الإقرار والإقرار لا يجوز رفعه وكذلك كل منطوق به لا يرفع ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام وكما أن الشرط جزء من الكلام فالاستثناء جزء وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى
استثناء الأكثر :
أما استثناء الأكثر فقد اختلفوا فيه والأكثرون على جوازه قال القاضي رحمه الله وقد نظرنا في مواضع جوازه والأشبه أن لا يجوز لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر وتستمحق قول القائل:رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين بل قال كثير(31/189)
ص -184-…من أهل اللغة لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهم بل مائة إلا خمسة وعشرة إلا دانقا كما قال تعالى{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}[العنكبوت: من الآية14] فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ولكن لما كان كسرا استثناه .
قال:ولا وجه لقول من قال لا ندري استقباحهم أطراح لهذا الكلام عن لغتهم أو هو كراهة واستثقال لأنه إذا ثبت كراهتهم وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه وقبحوه من كلامهم
احتجوا:بأنه لما جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر .
وهذا قياس فاسد ،كقول القائل :إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ولا قياس في اللغة ثم كيف يقاس ما كرهوه وأنكروه على استحسنوه ؟
واحتجوا بقوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}[المزمل:2]
فلملقيات المزمل ولا فرق بين استثناء النصف والأكثر فإنه ليس بأقل وقال الشاعر :
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا
والجواب أن قوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي قم نصفه وليس باستثناء وقول الشاعر ليس باستثناء إذ يجوز أن تقول أسقطت تسعين من جملة المائة
هذا ما ذكره القاضي
والأولى عندنا أن هذا استثناء صحيح وإن كان مستكرها فإذا قال علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم ولا سبب له إلا أنه استثناء(31/190)
ص -185-…صحيح وإن كان قبيحا كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم فإن هذا قبيح لكن يصح وإنما المستحسن استثناء الكسر وأما قوله عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل ربما يستنكر أيضا لكن الاستنكار على الأكثر أشد وكلما ازداد قلة ازداد حسنا
الفصل الثالث في تعقب الجمل بالاستثناء
فإذا قال القائل من قذف زيدا فأضر به وأرد شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب أور{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا }[النور: من الآية5]ومن دخل الدار وأفحش الكلام وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب
فقال قوم:يرجع إلى الجميع .
وقال قوم: يقصر على الأخير
وقال قوم يحتمل كليهما فيجب التوقف إلى قيام دليل.
وحجج القائلين بالشمول ثلاث:
الأولى:أنه لا فرق بين أن يقول اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب وبين قوله عاقب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب في رجوع الاستثناء إلى الجميع
الاعتراض:أن هذا قياس ولا مجال للقياس في اللغة فلم قلتم أن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد ؟(31/191)
ص -186-…الثانية: قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العي واللكنة كقوله إن دخل الدار فأضربه إلا أن يتوب وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب
وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه بل يقول ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء
الثالثة: أنه لو قال والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى يرجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها كقوله أعط العلوية والعلماء إن كانوا فقراء
وهذا مما لا تسلمه الواقفية بل يقولون هو متردد بين الشمول والاقتصار والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمن ومنع الاعطاء إلا عند الأذن المستيقن
ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء
وحجة المخصصة اثنتان:
الأولى: قولهم:أن المعممين عمموا لأن كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو والعاطفة ونحن إذا خصصنا بالأخير جعلناها مستقلة .
وهذا تقرير علة للخصم واعتراض عليهم ولعلهم لا يعللون بذلك ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يغد وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به
الثانية: قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم ودخوله تحت الاستثناء مشكوك فيه فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين
وهذا فاسد من أوجه:
الأول أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام وما تم(31/192)