ص -152-…القائس مع أعميته" فقد ذكر غير جنس المحدود في الحد "ثم اختار في قصد التعميم" أي في تعريفه على وجه يعم الصحيح والفاسد "تشبيه" فرع بأصل على المخطئة وبزيادة في نظر المجتهد على المصوبة "ناقض" نفسه فإن التشبيه ليس فعل الشارع فيفسد تعريفه بما أفسد به تعريف أولئك "ودفعه" أي هذا التناقض "بأن المراد" بتشبيه فرع بأصل "تشبيه الشارع" وهو فعل الشارع "قد يدفع بأن شرعه تعالى" الحكم "في كل المحال" إنما هو "ابتداء" أي دفعة واحدة "لا بناء على التشبيه" أي لا أنه أثبت الحكم في بعضها ابتداء ثم أثبته في محل آخر بواسطة شبه هذا المحل بذلك المحل في العلة التي هي مناط الحكم "وإن وقع بذلك" التشريع الدفعي في الجميع "الشبه" لبعضها ببعض وإنما الفاعل لذلك على هذه الكيفية هو المجتهد لقصور نظره عن الإحاطة بجميع الحال "وأكثر عباراتهم تفيد" كون القياس "فعله" أي المجتهد وحيث لم يكن صحيحا "فما أمكن رده" منها "إلى فعله" تعالى على وجه يسوغ مثله في الاستعمال "فهو" أي الرد المذكور "مخلص" من عدم صحته وما لا فلا "وإلا لم يصح لأنه" أي القياس "دليل نصبه الشارع نظر فيه مجتهد أو لا كالنص". قلت ولقائل أن يقول لا يلزم من مجرد هذا أن لا يكون فعلا للمجتهد وكون النص كذلك أمر اتفاقي بدليل أن الإجماع دليل نصبه الشارع مع أنه فعل المجتهدين وليس ببدعي أن يجعل الشارع فعل المكلف مناطا لحكم شرعي يجب العمل به فلا جرم أن قال السبكي والذي يظهر أن القياس فعل الناس لكن لم يبين وجهه والله سبحانه أعلم.(25/313)
ثم إذا عرف هذا "فمن الثاني" أي ما لا يمكن رده إلى كونه فعل الله تعالى بالشرط المذكور تعريفه بأنه "تعدية الحكم من الأصل إلخ" أي إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة "لصدر الشريعة" فإن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بكونه معديا حكم أصل إلى فرع بالمعنى المتبادر من هذا الإطلاق "ثم فسرها" أي صدر الشريعة التعدية "بإثبات حكم مثل الأصل" في الفرع "وأورد" على هذا التعريف "ما سنذكره" قريبا في حكم القياس "فأفاد أنها" أي التعدية "فعل مجتهد وليست" التعدية "به" أي بفعل المجتهد "إذ لا فعل له" أي للمجتهد في ذلك "سوى النظر في دليل العلة ووجودها" في الفرع "ثم يلزمه" أي النظر في دليل العلة ووجودها في الفرع إذا أدى نظره إلى وجودها فيه "ظن حكم الأصل في الفرع بخلقه تعالى عادة فليست التعدية سواه" أي سوى ظن حكم الأصل في الفرع وظنه ليس بفعل اصطلاحا فإنه من مقولة الكيف لا الفعل "وهو" أي ظنه في الفرع "ثمرة القياس" في نفسه "لا نفس القياس" فلا يصدق عليه لأن الثمرة لا تصدق على ما له الثمرة "ومثله" أي تعريف صدر الشريعة من حيث إنه لا يمكن رده على وجه سائغ إلى فعله تعالى وأنه ثمرة القياس لا القياس "قول القاضي أبي بكر" واستحسنه الجمهور "حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما إلخ" أي أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما كما في مختصر ابن الحاجب والبديع. وهذا وإن لم يكن لفظ القاضي فهو معناه إذ لفظه في التعريف حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما أو إسقاطه عنهما بأمر جامع(25/314)
ص -153-…بينهما فيه أي أمر كان من إثبات صفة وحكم لهما أو نفي ذلك عنهما انتهى لأن الحمل فعل المجتهد وهو ثمرة القياس ولا شيء من ثمرة القياس بقياس "وفيه" أي قول القاضي في إثبات حكم لهما "زيادة إشعار بأن حكم الأصل" ثابت "بالقياس" كحكم الفرع لأن هذا ينبئ عن التشريك بينهما في إثبات حكم لهما ولا يتحقق ذلك إلا بإثبات الحكم لكل منهما بالقياس وليس كذلك فإن الحكم في الأصل بالنص أو الإجماع "وأجيب بأن المعنى كان حكم الأصل" قبل القياس هو "الظاهر فظهر" حكم الأصل "فيهما" أي في الأصل والفرع "بإظهار في القياس الفرع إياه" والظاهر بإظهار القياس في الفرع إياه أي حكم الأصل ففائدة قوله في إثبات حكم لهما بيان أن ظهور الحكم في المقيس عليه والمقيس معا إنما هو بواسطة القياس لا أن الإثبات في كل منهما به ويصدق أن الحكم فيهما جميعا يثبت بالقياس باعتبار أحد جزأيه الذي هو الحكم في الفرع إذ ظاهر أن افتقار المجموع إلى شيء لا يقتضي افتقار كل من جزأيه إليه بل يكفي فيه افتقار أحد جزأيه والحق أن في هذا الجواب عناية ظاهرة ثم لعله إنما اختار هذه العبارة لإفادة إخراج مفهوم الموافقة فإن مساواة المنطوق له في الحكم لم تظهر في أحدهما بالقياس بعد أن كانت غير ظاهرة فيه قبل ملاحظة القياس بل كانت قبلها ثابتة للعارف باللغة والله سبحانه أعلم. وقال التفتازاني وأنا أظن أن هذا الإشعار إنما يظهر إذا كان قوله بأمر جامع متعلقا بإثبات حكم. أما إذا تعلق بالحمل على ما هو الحق فلا انتهى قلت وفيه نظر بل إنما يكون فيه الإشعار المذكور على هذا التقدير لو قال في إثبات حكم أحدهما للآخر أو نفيه عنه فإن قلت ويمكن أن يكون المراد بحمل معلوم على معلوم التشريك والتسوية بينهما في حكم أحدهما مطلقا كما ذكر الآمدي أو وجوب التسوية في الحكم عند قصد إثباته فيهما كما ذكر عضد الدين والتسوية مما يصح حملها على تسوية الله تعالى قلت لا يصح لكونه مجازا لا(25/315)
دلالة عليه والحد يجتنب فيه ذلك على أن وجوب التسوية لا يصح إضافتها إلى الله تعالى إذ من المعلوم أن المراد بحمل معلوم على معلوم إلحاقه به وعبر بالمعلوم والمراد به ما هو متعلق العلم بالمعنى الشامل لليقين والظن ليتناول جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم ممكن ومستحيل ولو قال شيء على شيء لاختص بالموجود كما هو اصطلاح الأشاعرة وقال في إثبات حكم لهما أي المعلومين أو نفيه عنهما ليتناول القياس في الحكم الوجودي نحو أن يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب القصاص كما في القتل بالمحدود وفي الحكم العدمي نحو أن يقال في القتل بالمثقل أيضا قتل تمكن فيه الشبهة فلا يجب فيه القصاص كما في القتل بالعصا الصغيرة وقال بأمر جامع بينهما فيه لأنه لا بد منه في تحقيق ماهية القياس وبه يتميز عن غيره بالحمل بلا جامع ثم السبكي مشى على أن ظاهر كلام القاضي أن هذا آخر الحد وأن أي أمر كان جرى مجرى تفسير الأمر الذي يجمع بينهما فيه فإن الجامع ينقسم إلى هذه الأقسام أي ذلك الأمر أعم من الصفة والحكم ثبوتا ونفيا وابن الحاجب على أن الجميع الحد فاعترضه بأن بجامع كاف في التمييز ولا(25/316)
ص -154-…حاجة إلى تفصيل الجامع في الحد. وأجاب القاضي عضد الدين بأن تعيين الطريق فإن زعم أن الأوجز أولى قلنا الأولوية إذا لم يحصل منه غير التمييز مقصود وها هنا يفيد تفصيل الأقسام أيضا فكان أولى إذ يفيد أن الجامع قد يكون حكما شرعيا إثباتا أو نفيا ككون القتل عدوانا أو ليس بعدوان وقد يكون وصفا عقليا إثباتا أو نفيا ككونه عمدا أو ليس بعمد وإيراد الحكم إن تناول الصفة كأن ذكرها مستدركا أولا فيجب أن يقال في إثبات حكم لهما أو صفة وأجيب بأن الثابت بالقياس لا يكون إلا حكما شرعيا على الصحيح كما سيأتي في فصل الشروط بخلاف الجامع فإنه قد يكون وصفا عقليا وأورد أيضا أنه أخذ في تعريف القياس ثبوت حكم الفرع لأنه اعتبر فيه الإثبات وهو مستلزم للثبوت تصورا وإن لم يستلزم تحققه في الواقع لجواز كون الحكم غير مطابق للواقع وثبوت حكم الفرع فرع معرفة القياس فتتوقف معرفته على معرفة القياس فيكون تعريف القياس به دورا وأجيب بأنا لا نسلم أن تصور ثبوت حكم الفرع موقوف على معرفة القياس لإمكان تصور ثبوت حكم الفرع بدون تصور ماهية القياس فلا يكون أخذه في تعريف القياس موجبا للدور واعترضه أيضا الشيخ تقي الدين السبكي بأن قوله أو نفيه حشو وقوله ليندرج الإلحاق في الثبوت والنفي ضعيف، فإن الإلحاق في النفي إنما هو في الحكم بالعدم لا في نفس العدم والحكم بالعدم ثبوتي لا عدمي كالحكم بالوجود ألا يرى أنا نقول الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وهو ثبوتي وإن كان منه عدم التحريم وعدم الحل والعدم إنما هو في المحكوم به أو في نفس العبارة كقولنا لا يحرم ومعناه يحل فإن قلت عدم الحرمة أعم من الحل. قلت نعم ولكن عدم الحرمة الذي لا حل معه هو العدم العقلي وذلك لا يثبت بالقياس ولا يقاس عليه شرعا وعدم الحرمة المستند إلى الشرع هو الحل بعينه انتهى قال الكرماني أو نقول إثبات الحكم أعم من أن يكون إيجابا أو سلبا فهذا مما لا جواب له.(25/317)
"ومن الأول" أي ما يمكن رده إلى فعله تعالى على وجه سائغ تعريف المنازلة بقوله "تقدير الفرع بالأصل في الحكم والعلة فإنك عملت أن التقدير يقال على التسوية فرجع" هذا "إلى تسويته تعالى محلا بآخر على ما ذكر" آنفا من "أنهما" أي المحلين هما "المراد بهما" أي الفرع والأصل "ويقرب منه" أي من هذا التعريف أنه ظاهر في أن القياس فعل المجتهد ويمكن رده إلى فعله تعالى على وجه سائغ "قول أبي منصور" الماتريدي "إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر فتصحيحه بإبانة الشارع بخلاف قولهم" أي جمع من الحنفية أنه اختار الإبانة دون غيرها مما يصلح أن يكون جنسا "أنه" أي اختيارها "لإفادة أن القياس مظهر للحكم لا مثبت بل المثبت هو سبحانه" فإنه لا يصح حينئذ حمل الإبانة على إبانة الشارع ثم هذا التعليل غير تام "لأن" الأدلة "السمعية" من الكتاب والسنة "حينئذ" أي حين إذ كان القياس في الحقيقة مظهرا للحكم لا أنه مثبت له "كلها كذلك" أي في الحقيقة مظهرة للحكم لا مثبتة له لأنها "إنما تظهر الثابت من حكمه وهو" المعنى "النفسي ثم عليه" أي هذا التعريف أن يقال "إن إبانته" أي الشارع "الحكم ليس" ذلك "نفس الدليل" الذي هو(25/318)
ص -155-…القياس "بل" ذلك أمر "مرتب على النظر الصحيح فيه" أي في الدليل عادة وكلامنا إنما هو في تعريف نفس الدليل الذي هو القياس.
"ويجب حذف " مثل " في مثل حكم لأن حكم الفرع هو حكم الأصل غير أنه" أي الحكم "نص عليه في محل" وهو الأصل "والقياس يفيد أنه" أي الحكم "في غيره" أي غير ذلك المحل وهو الفرع "أيضا" قال المصنف يعني أن حكم كل من الأصل والفرع واحد له إضافتان إلى الأصل باعتبار تعلقه به وباعتباره يسمى حكم الأصل وإلى الفرع وباعتباره يسمى حكم الفرع فلا يتعدد في ذاته بتعدد المحل أصلا بل هو واحد له تعلق بكثيرين كما أن القدرة شيء واحد متعلق بالمقدورات وبه لا تصير القدرة أشياء متعددة. "وكذا" يجب حذف "مثل في بمثل علته" لأن العلة الباعثة على الحكم في الأصل هي بعينها العلة الباعثة على الحكم في الفرع كما ستعلم "ومبنى هذا الوهم" وهو أنه لا بد من ذكر مثل في كلا هذين على كثير "حتى قال محقق" وهو القاضي عضد الدين في توجيهه "لا بد أن يعلم علة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها" في الفرع "لا يتصور لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين وبذلك" أي وبالعلم بعلة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع "يحصل ظن مثل الحكم في الفرع" وبيان وهمهم "أن الحكم وهو الخطاب النفسي جزئي حقيقي لأنه" أي الخطاب "وصف متحقق في الخارج قائم به تعالى فهو واحد له متعلقات كثيرة وما ذكر" من أن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين "إنما هو في حقيقة قيام العرض الشخصي بالمحل كالبياض الشخصي القائم بالثوب الشخصي يمتنع أن يقوم بعينه بغيره والكائن هنا مجرد إضافات متعددة لواحد شخصي وكذلك" أي تعدد الإضافات له "لا يمنعه الشخصية فالتحريم المضاف إلى الخمر" هو "بعينه له إضافة أخرى إلى النبيذ ومثله مما لا يحصى كالقدرة الواحدة بالنسبة إلى المقدورات ليست" القدرة "قائمة بها" أي بالمقدورات "بل به تعالى ولها" أي القدرة بالنسبة "إلى كل مقدور(25/319)
إضافة يعتبرها العقل" وكما قال الأشاعرة في صفات الفعل فلم يجعلوا نحو الخالق صفة حقيقية لأنها إضافة تعرض للقدرة بالنسبة إلى المقدور. "وكذا الوصف" المعدى الصالح الذي هو العلة الباعثة واحد في الأصل والفرع ولا يلزم منه قيام شخص بمحلين "إذ ليس" الوصف "المنوط به" الحكم "الوصف الجزئي بل" الوصف المنوط به الحكم هو الوصف "الكلي وهو" أي الوصف الكلي "بعينه ثابت في" كل "المحال" أصلا وفرعا "فمناط حرمة الخمر الإسكار" مطلقا لا إسكار الخمر "لأنه" أي إسكار الخمر "قاصر عليه" أي على الخمر وذكرها إما باعتبار المحل أو كما هو لغة فيها "فتمتنع التعدية" لامتناع تعدية العلة القاصرة كما سيأتي "وهذا" أي كون المناط الوصف الكلي لا أنه جزئي من جزئياته "لأنه" أي الوصف الكلي "المشتمل على المفاسد" أي باعتبار مناسبته للتحريم الذي هو الحكم لاشتماله على المفاسد التي يجب حفظ الإنسان منها "واشتماله" عليه "ليس بقيد كونه إسكار كذا بل" باعتبار أنه "إسكار" مطلق "وهو بعينه ثابت في المحال" كلها كما هو شأن وجود المطلق في الخارج بالنسبة إلى جزئياته الموجودة فيه. "وعلى هذا كلام الناس" قال(25/320)
ص -156-…رحمه الله وهذا تعريض بأن ما ابتدعه هؤلاء خلاف كلام الناس "وإنما يحصل من العلمين" أي العلم بعلة الحكم في الأصل والعلم بثبوتها في الفرع "ظن" للحكم في الفرع "لجواز كون خصوص الأصل شرطا" للحكم فيه "و" خصوص "الفرع مانعا" منه "وأورد على عكس التعريف أمران الأول قياس العكس" وهو إثبات نقيض حكم الشيء في شيء آخر بنقيض علته فإنه قياس والتعريف لا يتناوله لانتفاء المساواة فيه بين الأصل والفرع في الحكم والعلة "فإنه مثبت لنقيض حكم الأصل في الفرع كقول حنفي" لإثبات مطلوبه الذي هو وجوب الصوم في الاعتكاف الواجب كما هو الثابت فيه في ظاهر الرواية من غير خلاف أو في مطلق الاعتكاف ليشتمل الواجب والنفل كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة أو مالكي لإثباته هذا في الاعتكاف الواجب كما هو قول مالك أيضا، بل قول جمهور العلماء كما قال القاضي عياض لا شافعي أو حنبلي لأن جديد الشافعي وظاهر مذهب أحمد عدم اشتراطه في مطلق الاعتكاف "لما وجب الصوم شرطا للاعتكاف بنذره" أي الصوم مع الاعتكاف بأن يقول مثلا نذرت الاعتكاف صائما "وجب" الصوم للاعتكاف "بلا نذر" للصوم معه "كالصلاة لما لم تجب شرطا له" أي للاعتكاف "بالنذر" كأن يقول لله علي أن أعتكف مصليا "لم تجب" في الاعتكاف "بغير نذر ومضمون الشرط في الأصل الصلاة" وهو عدم الوجوب بالنذر. "و" في "الفرع الصوم" وهو الوجوب بالنذر "علة لمضمون الجزاء" وهو وجوب الصوم في الاعتكاف بغير نذره وعدم وجوب الصلاة في الاعتكاف بنذرها "فيهما" أي في الأصل والفرع فإذن أثبتنا وجوب الصوم في الاعتكاف المطلق بعلة وجوبه فيه بنذره وهذا هو الفرع قياسا على إثباتنا عدم وجوب الصلاة في الاعتكاف بلا نذرها بعلة عدم وجوبها فيه بنذرها وهذا هو الأصل فظهر أن هذا القياس مثبت لنقيض حكم الأصل في الفرع بنقيض علة حكم الأصل "أجيب بأن الاسم فيه" أي إطلاق اسم القياس على هذا "مجاز ولذا" أي ولكون إطلاقه عليه مجازا "لزم(25/321)
تقييده" أي إطلاق اسمه عليه بالعكس إذا أريد به "أو" الاسم فيه "حقيقة" ولا نسلم انتفاء المساواة فيه بل نقول "والمساواة" فيه "حاصلة ضمنا" وبيان ذلك من وجهين أحدهما ما أشار إليه بقوله "لأن المراد مساواة الاعتكاف بلا نذر الصوم له" أي للاعتكاف "بنذره" أي الصوم له "في حكم هو اشتراط الصوم بمعنى لا فارق" أي إما بطريق إلغاء الفارق بين الاعتكافين وهو النذر لأن وجوده وعدمه سواء كما في الصلاة فإن وجوده وعدمه سواء فتبقى العلة الاعتكاف من حيث هو وهو قد اقتضى وجوب الصوم في الصورة التي فيها نذره فكذا في الصورة التي ليس فيها نذره وهذا يسمى تنقيح المناط كما سيأتي "أو بالسبر عند قائله" بالموحدة "منهم" أي الحنفية ويأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى "أي هي" أي علة وجوب الصوم للاعتكاف في صورة نذره معه. "أما الاعتكاف أو هو" أي الاعتكاف "بنذر الصوم أو غيرهما" أي غير الاعتكاف المجرد عن نذر الصوم معه والاعتكاف المقترن به "والأصل عدمه" أي عدم غيرهما "والنذر ملغي" حال كونه "فارقا" بين الاعتكافين "أو وصفا للسبر" أي لأحد أقسامه "بالصلاة" أي بنذرها فيه مع عدم وجوبها فيه "فهي" أي علة وجوب(25/322)
ص -157-…الصوم في الاعتكاف المقترن بنذره إنما هي "الاعتكاف" فقط فيتلخص أن الاعتكاف بنذر الصوم أصل وبغير نذره فرع، واشتراط الصوم فيهما حكم والاعتكاف علة وأن الصلاة لم تذكر للقياس عليها بل لبيان إلغاء الوصف الفارق للعلة وهو كونها مقترنة بالنذر أو أحد أوصاف السبر فلا تجب مساواة الصوم لها فلا يضر عدمها بينهما لأنها لا تجب إلا في المقيس والمقيس عليه وهي حاصلة إذ الاعتكاف بغير نذر الصوم مساو للاعتكاف بنذره في الحكم وهو وجوب الصوم فيهما وفي العلة وهي الاعتكاف المطلق المشترك بينهما، ثانيهما ما أشار إليه بقوله "أو الصوم" بالجر عطفا على الاعتكاف في قوله لأن المراد مساواة الاعتكاف أي أو لأن المراد مساواة الصوم "مع نذره" في الاعتكاف "بالصلاة بالنذر" أي مع نذرها فيه "في حكم هو عدم إيجاب النذر" لما تعلق به أي كما أن لا تأثير للنذر في وجوبها فيه فكذا لا تأثير للنذر في وجوب الصوم فيه فالأصل الصلاة بالنذر والفرع الصيام به والعلة كونهما عبادتين والحكم في التحقيق عدم تأثير النذر في الوجوب والمقصود إضافة وجوب الصوم إلى نفس الاعتكاف كما أشار إليه بقوله "وهو" أي قياس العكس على هذا الوجه "ملزوم المطلوب وهو" أي المطلوب "أن وجوبه" أي الصوم "بغيره" أي النذر وهو الاعتكاف "والأوجه كونه" أي قياس العكس "ملازمة" شرعية "وقياسا" لبيانها كما ذكر الإمام الرازي وغيره ففيما نحن فيه هكذا "ولو لم يشترط الصوم للاعتكاف" بلا نذر "لم يشترط" الصوم له "بالنذر كالصلاة لم تشترط" للاعتكاف بلا نذر "فلم تشرط" للاعتكاف "به" أي بالنذر. وإنما كان هذا أوجه "لعمومه" أي هذا التوجيه لهذا ولغيره أعني "قول شافعي في تزويجها" أي الحرة العاقلة البالغة "نفسها يثبت الاعتراض" للأولياء "عليها فلا يصح منها كالرجل لما صح منه" تزويج نفسه "لم يثبت" الاعتراض لهم "عليه فمضمون الجزاء في الأصل وهو الرجل علة للحكم مضمون الشرط" بالجر على البدل أو(25/323)
عطف بيان من الحكم حال كونه مضمون الشرط "قلب الأصل" أي عدم ثبوت الاعتراض على الرجل علة لثبوت الاعتراض عليها.
ولما كان هذا مذكورا في نسخ شرح القاضي عضد الدين وكان غير متجه ظاهرا لأنه لا يتأتى فيه ملازمة وقياس لبيانها نبه على التمثيل به على وجه الصحة كما أشار إليه الكرماني بقوله "والوجه قلبه" أي لما لم يثبت الاعتراض عليه صح منه "والمساواة" بين المقيس والمقيس عليه حاصلة "في هذا" القلب "على تقدير مضمون الجزاء المقيس عليه وتقديره في المثال لو صح" منها "لما ثبت الاعتراض" عليها كالرجل لما لم يثبت الاعتراض عليه صح منه "فعدم الاعتراض تساوى به الرجل على التقدير" لصحة نكاحها "والمساواة في التعريف وإن تبادر منه" أي في إطلاقها "ما في نفس الأمر كما تقدم" آنفا "هي أعم مما" أن يكون "على التقدير" أو مطلقا لكن الأبهري دفع ما ذكره الكرماني بأن " لما " تدل على الملازمة بين الشيئين مع وقوع الملزوم ولا دلالة على كون الملزوم علة للازم بل الملزوم فيها كما في سائر أدوات الشرط يجوز أن يكون علة للازم وأن يكون معلولا له وأن يكونا معلولي علة واحدة أو متضايفين وأن علة الحكم في القياس إذا كانت مستنبطة يستدل بثبوت الحكم في الأصل(25/324)
ص -158-…على وجود العلة ويستدل بوجودها في الفرع على حكمه ثم قال وليت شعري كيف يلزم بما صححه ثبوت الملازمة الأولى بالثانية فإنه لا يلزم في العلل الشرعية أن يكون عدمها مستلزما لعدم الحكم لكونها علامات أو بواعث قال المصنف فإن قلت فما جواب الحنفية عن هذه الملازمة. قلت هو أن يقال إن عنيت أن الاعتراض عليها من الأولياء في تزويجها نفسها يثبت مطلقا فهو ممنوع وهو المفيد له وإنما يثبت عندهم عليها إذا زوجت نفسها من غير كفء وحينئذ لا يفيده لأن ذاك لحق الولي في إلزامها إياه بنسبة غير كفء إليه دفعا لضرر العار عن نفسه حتى لو كانت زوجت نفسها من كفء ليس له اعتراض عليها.(25/325)
"الثاني" من الأمرين الموردين على عكس التعريف "قياس الدلالة" وهو "ما" أي القياس الذي "لم تذكر" العلة "فيه بل" ذكر فيه "ما يدل عليها" من وصف ملازم لها "كقول شافعي في المسروق يجب" على السارق "رده" حال كونه "قائما" وإن قطعت اليد فيه "فيجب ضمانه" عليه حال كونه "هالكا" وإن قطعت اليد فيه أيضا "كالمغصوب" فإن الحكم فيه بالإجماع وليس وجوب الرد عليه علة الضمان بل هي اليد العادية وفي الحقيقة قصد الشارع حفظ مال الغير وهما أعني وجوب الرد في المسروق ووجوبه في المغصوب متساويان فيه وإنما خص الشافعي بهذا القول وإن وافقه عليه الحنبلي لأن الحنفي والمالكي لا يقولان بهذا الإطلاق بل لكل منهما تفصيل يعرف في فروعه "وأجيب بأن الاسم فيه" أي قياس الدلالة "مجاز لاستلزام المذكور فيه" أي قياس الدلالة "العلة" فهو من إطلاق اللازم على الملزوم ومن ثمة لا يستعمل إلا مضافا والقياس إذا أطلق إنما يراد به القياس حقيقة وعلى هذا الجواب عول أبو الحسين "ومنهم من رده" أي قياس الدلالة "إلى مسماه" أي قياس العلة "بأنه" أي قياس الدلالة "يتضمن المساواة فيها" لاستلزام الجامع لها، فإذن قياس الدلالة داخل في قياس العلة إذ لا فرق بين وجوب المساواة صريحا أو ضمنا فلا يضر انطباق التعريف عليه "فقياس النبيذ" في وجوب الحد بشربه "على الخمر" في وجوب الحد بشربها "برائحة المشتد" فيهما "يتضمن ثبوت المساواة في الإسكار" الذي هو العلة في هذا الحكم "ولا يخفى أن القياس حينئذ" أي حين كان العلة متضمنة "غير المذكور". "وأركانه" أي أجزاء قياس العلة التي لا تحصل حقيقته إلا بحصولها "للجمهور" أربعة الوصف "الجامع" هذا هو الأول "والأصل" وهذا هو الثاني وهو إما "محل الحكم المشبه به" كما عليه الأكثر من الفقهاء والنظار "أو حكمه" أي حكم المحل المشبه به كما عليه طائفة "أو دليله" أي حكم المحل المشبه به كما عليه المتكلمون "ومبناه" أي هذا الخلاف في أن المراد(25/326)
بالأصل هنا اصطلاحا أحد هذه الأمور "على أن الأصل ما يبتني عليه غيره" ولا خفاء في أن الحكم في الفرع مبني على الحكم في الأصل والحكم في الأصل على دليله الذي أخذ منه وعلى محله فالكل مما يبتني عليه الحكم في الفرع إما ابتداء كابتنائه على الحكم في الأصل أو بواسطة كابتنائه على المأخذ والمحل إذ أصل الأصل أصل فلا بعد في تسمية أحد هذه بالأصل. أما على أن الأصل ما يكون مستغنيا عن غيره بنى عليه أو لا فيختص المحل المشبه به بكونه أصلا لاستغنائه عن الحكم وعن دليله وهو النص(25/327)
ص -159-…أو الإجماع لإمكان تحققه بدونهما وافتقارهما إليه لأن الحكم لا يمكن ثبوته بدون الفعل الموصوف به والفعل لا يمكن تحققه بدون محله والدليل أيضا لا يمكن أن يثبت الحكم بدون المحل ومن هنا قيل كون الأصل المحل أولى لكونه أتم في معنى الأصالة منها لوجود المعنيين فيه وذكر في كشف البزدوي أنه الأشبه "وعليه" أي أن الأصل ما يبتني عليه غيره "قيل" أي قال الإمام الرازي ما معناه "الجامع فرع حكم الأصل أصل حكم الفرع" إذ لا بدع في جواز كون الشيء الواحد أصلا بالنسبة إلى شيء فرعا بالنسبة إلى آخر لأن الأصالة والفرعية من الأمور الإضافية ولا خفاء في أن الوصف الجامع يستنبط من الحكم المشبه به بعد العلم بثبوت الحكم فيه بالنص أو الإجماع وفي المحل المشبه يعلم بثبوته فيه ثبوت الحكم فيه "إلا أنه" أي استنباط الجامع من الحكم "يخص" العلل "المستنبطة" لا المنصوصة وهي قد تكون منصوصة فهو بالنظر إلى الأعم الأغلب ثم في شرح القاضي عضد الدين مشيرا إلى هذا وهذا الصحيح انتهى لأن في ذلك حقيقة الابتناء وفيما عداه لا بد من تجوز وملاحظة واسطة.
"وحكم الأصل" وهذا هو الركن الثالث "والفرع" وهذا هو الركن الرابع "المحل المشبه" على القول بأن الأصل هو المشبه به كما عليه الأكثر "أو حكمه" أي الحكم المشبه على القول بأن الأصل هو حكم المحل المشبه به كما عليه آخرون واختاره الإمام الرازي قيل وكون الفرع هذا أولى لأنه هو المفتقر إلى غيره والمبني عليه لا محله لكن الفقهاء لما سموا المحل المشبه به أصلا لكونه الأولى كما تقدم سمى المحل المشبه فرعا على طريق المناسبة أو من إطلاق اسم الحال على المحل ولم يقل أحد إنه دليل الفرع وكيف ودليله القياس والقياس ليس فرعا لدليل حكم الأصل.(25/328)
ثم شرع في قسيم قول الجمهور وهو "وظاهر قول فخر الإسلام وركنه ما جعل علما على حكم النص" مما اشتمل عليه النص "وجعل الفرع نظيرا له في حكمه بوجوده فيه أنه" أي ركن القياس "العلة الثابتة في المحلين" الأصل والفرع بل هو صريح فيه بأن المراد بما جعل علما أي علامة عليه المعرف لحكم الشرع في المحل ووافق فخر الإسلام على هذا القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي حيث قال: ركن القياس هو الوصف الذي جعل حكما على حكم النص من بين الأوصاف التي يشتمل عليها اسم النص ويكون الفرع به نظيرا للأصل في الحكم الثابت باعتباره في الفرع لأن ركن الشيء ما يقوم به ذلك الشيء وإنما يقوم القياس بهذا الوصف. انتهى وأفصح به صاحب الميزان أيضا فقال ركن القياس هو الوصف الصالح المؤثر في ثبوت الحكم في النص وساقه ثم قال هذا هو الصحيح وهو قول مشايخنا بسمرقند وقال مشايخ العراق الركن هو الوصف الذي جعل علما على ثبوت الحكم في الفرع ويتحصل من هذا أن هؤلاء كلهم على أن ركن القياس هو الوصف على الخلاف المذكور فكان الأولى نسبته إليهم إن لم ينسب إلى الحنفية لا إلى فخر الإسلام لا غير ثم(25/329)
ص -160-…إنما قال علما لأن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى. والعلل أمارات على الأحكام لا موجبات ثم الحكم إن كان في المنصوص عليه مضافا إلى النص وفي الفرع إلى العلة كما عليه مشايخ العراق وأبو زيد والسرخسي وفخر الإسلام ومتابعوهم يكون ذلك المعني علما على وجود حكم النص في الفرع وإن كان مضافا إلى العلة في الأصل والفرع كما عليه جمهور الأصوليين ومشايخ سمرقند والشافعي يكون ذلك المعني علما على ثبوت النص فيهما وقوله مما اشتمل عليه النص يعني يشترط أن يكون ذلك المعني الذي جعل علما على حكم النص من الأوصاف التي اشتمل عليها النص إما بصيغته كاشتمال نص الربا على الكيل والجنس أو بغير صيغته كاشتمال نص النهي عن بيع الآبق على العجز عن التسليم لأن ذلك المعني لما كان مستنبطا من النص لا بد من أن يكون ثابتا به صيغة أو ضرورة والضمير في " له " و " حكمه " للنص وفي بوجوده لما والباء للسببية وفي فيه للفرع أي جعل الفرع مماثلا للمنصوص في حكمه من الجواز وغيره بسبب وجود ذلك المعني في الفرع. وقيل هذا احتراز عن العلة القاصرة.(25/330)
"والمراد" بثبوت العلة في المحلين "ثبوتها" فيهما "وهو" أي ثبوتها فيهما "المساواة الجزئية" بينهما فيها "لا" المساواة "الكلية لأنها" أي المساواة الكلية "مفهوم القياس الكلي المحدود" أي من حيث هو "والركن جزؤه" أي القياس "في الوجود وقد يخال" أي يظن أن قول فخر الإسلام هو الوجه "لظهور أن الطرفين شرط النسبة كالأصل والفرع هنا لا أركانها" أي النسبة "فهما" أي الطرفان "خارجان عن ذات النسبة المتحققة خارجا والركنية" إنما تثبت لما يتوقف عليه الشيء "بهذا الاعتبار" أي كون ذلك المتوقف جزء المتوقف في الوجود وهو منتف فيما عدا الوصف الجامع "ثم استمر تمثيلهم" أي الأصوليين "محل الحكم" يعني "الأصل بنحو البر والخمر" في قياس الذرة والنبيذ عليهما في حكمهما "تساهلا تعورف وإلا فليس في التحقيق" محل الحكم الأصل "إلا فعل المكلف" كما يذكر "لا الأعيان" المذكورة "ففي نحو النبيذ الخاص" أي المسكر "محرم كالخمر الأصل شرب الخمر والفرع شرب النبيذ والحكم الحرمة" وفي الذرة بذرة أكثر منها حرام كالبر الأصل بيع البر ببر أكثر منه والفرع بيع الذرة بذرة أكثر منها والحكم الحرمة.
"وحكمه" أي القياس "وهو الأثر الثابت به" أي بالقياس "ظن حكم الأصل في الفرع أيضا" لا مثله كما سلف تحقيقه من حكم الفرع هو حكم الأصل وإنما حصل من العلمين ظن لجواز كون خصوص الأصل شرطا والفرع مانعا "وهو" أي ظن حكم الأصل في الفرع "معنى التعدية والإثبات والحمل" المذكور في تعاريف القياس "فتسميته" أي ظن حكم الأصل في الفرع "تعدية اصطلاح فلا يبالى بإشعاره" أي لفظ التعدية "لغة بانتفائه" أي الحكم "من الأصل" كما أورده صدر الشريعة على من ذكر التعدية. وهذا ما وعد به المصنف في تعريف القياس لصدر الشريعة بقوله وأورد ما سيذكر "وما قيل" أي وما أجاب به صدر الشريعة عن(25/331)
ص -161-…هذا الإيراد من قوله "بل يشعر" لفظ التعدية "ببقائه" أي الحكم "فيه" أي في الأصل "كقولنا للفعل متعد إلى المفعول مع أنه" أي الفعل "ثابت في الفاعل" أيضا "إثبات اللغة بالاصطلاح" وهذا خبر ما قيل وهو غير جائز "مع أنه" أي بقاء المتعدي في المتعدي منه "مما لا يشعر به" لفظ التعدية "بل" إنما يشعر "بانتقاله" أي المتعدى منه "إذ تعدي الشيء إلى آخر انتقاله" أي الشيء "إليه" أي الآخر "برمته" أي جملته "لولا الاصطلاح" لأن التعدي لغة هو التجاوز عن الشيء بمعنى عدم الاقتصار عليه فإنه غير متبادر من موارد الاستعمالات اللغوية مع عدم دلالة قرينة عليه وليس الكلام إلا في المعنى الحقيقي اللغوي له "وتقسيم المحصول القياس إلى قطعي وظني لا يخالفه" أي قولنا، حكم القياس ظن حكم الأصل في الفرع "إذ قطعيته" أي القياس "بقطعية العلة و" بقطع "وجودها" أي العلة "في الفرع ولا يستلزم" كون القياس قطعيا "قطعية حكمه" أي الفرع "لما تقدم" من جواز كون خصوص الأصل شرطا وخصوص الفرع مانعا بل ويجوز أن يكون القياس قطعيا وحكمه المستفاد منه ظنيا ويكون حاصله أنا قطعنا بإلحاق فرع لأصل في حكمه المظنون "غير أن تمثيله" أي المحصول لهذا "بما هو مدلول النص أعني الفحوى" أي فحوى الخطاب كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإنه قياس قطعي لأنا نعلم أن العلة هي الأذى ونعلم وجودها في الضرب ولكن الحكم هنا ظني لأن دلالة الألفاظ عنده لا تفيد إلا الظن "مناقضة" لأن كونه من باب القياس كما قدمناه عن الشافعي وآخرين منهم هو في التقسيم الأول للمفرد باعتبار دلالته يقتضي أن اللفظ لم يدل عليه لأن القياس إلحاق مسكوت عنه بملفوظ وقد صرح بأن اللفظ يدل عليه بالالتزام والله سبحانه أعلم.
فصل في الشروط(25/332)
"منها لحكم الأصل أن لا يكون" حكم الأصل "معدولا" به وحذفه مع أن العدول وهو الميل عن الطريق لازم فلا يبنى منه المجهول والمفعول إلا بالباء مسامحة لكثرة استعماله أن لا يكون حكمه مائلا أو كما في التلويح لا يبعد أن يجعل من العدل وهو الضرب فيكون متعديا فلا حاجة إلى تقدير الجار والمجرور والاعتذار عن حذفه أي أن لا يكون حكمه مصروفا "عن سنن القياس" أي طريقة لأنه متى كان عادلا عنه لم يكن القياس عليه علة لعدم حصول المقصود به فإن المقصود من حكم الأصل إثبات ذلك الحكم في الفرع بالقياس على الأصل ومتى كان ثبوته على خلاف القياس كان القياس ردا لذلك الحكم ودفعا له فلم يمكن إثباته به إذ لا يمكن إثبات الشيء بما يقتضي عدم ثبوته وحكم الأصل الجاري على سنن القياس "أن يعقل معناه" أي حكم الأصل "ويوجد" معناه "في آخر فما لم يعقل" معناه "كأعداد الركعات" في الصلوات من المكتوبات والواجبات والمندوبات "والأطوفة" أي وكأعداد الأشواط وهي سبعة في أصناف الأطوفة المشروعات "ومقادير الزكاة" من ربع العشر في النقدين وغيره في غيرهما من أنواع الأموال كما هو مسطور في الكتب الفقهيات "وبعض ما خص بحكمه" أي ما يكون حكم الأصل مخصوصا به "كالأعرابي بإطعام كفارته أهله" وهو(25/333)
ص -162-…إشارة إلى ما عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلكت يا رسول الله قال "وما أهلكك" قال: وقعت على أهلي في رمضان فقال "هل تجد ما تعتق رقبة" قال لا قال "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا" قال لا ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال "تصدق بهذا" فقال أعلى أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال "اذهب فأطعمه أهلك" رواه الستة واللفظ لمسلم وفي رواية لأبي داود "كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله". لكن هذا بناء على أن هذه الكفارة لا تسقط بالعسرة المقارنة لوجوبها كما هو قول جمهور العلماء إذ لا دليل على ذلك وإن كان هو ظاهر مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي وجزم به عيسى بن دينار من المالكية وأن تناوله وعياله من التمر المذكور كان بعد تعينه للكفارة وأنها سقطت عنه بذلك والأول ظاهر السياق ويؤيده ما في رواية منصور عند البخاري أطعم هذا عنك وابن إسحاق عند البزار "فتصدق به عن نفسك" والثاني احتمال يؤيده ما روى الدارقطني عن علي رضي الله عنه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل "انطلق فكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" لولا أنه ضعيف وقد أسند أبو داود الجزم به إلى الزهري فقال زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير قال شيخنا المصنف رحمه الله وجمهور العلماء على قول الزهري وقال الإمام المنذري قول الزهري دعوى لا دليل عليها انتهى والأظهر إن شاء الله تعالى أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم تصدق بهذا لم يقبضه بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذ في أكله منه وإطعامه أهله فكان تمليكا مطلقا بالنسبة إليه وإلى أهله وكان أخذه له أخذا بصفة الفقر المشروحة لا أنه ملكه ملكا مشروطا بصفة هي إخراجه عنه في(25/334)
كفارته فيبتني على الخلاف المشهور في التمليك المقيد بشرط ولا أن فيه إسقاط الكفارة ولا أكل المرء ومن لزمه نفقتهم من كفارة نفسه. وعلى هذا مشى الحافظ رحمه الله ثم الرجل المذكور ذكر عبد الغني وابن بشكوال أنه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي واستندا في ذلك إلى ما ناقشهما فيه شيخنا الحافظ وذكر أنه لم يقف على تسميته.
"أو عقل" معناه "ولم يتعد" حكمه إلى غيره وإن كان غيره أعلى رتبة منه في ذلك المعنى "كشهادة خزيمة نص على الاكتفاء بها" فروى الطبراني وابن خزيمة بسند رجاله موثقون عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا من سواء بن الحارث المحاربي فجحده فشهده له خزيمة بن ثابت فقال له "ما حملك على هذا ولم تكن حاضرا معنا" فقال صدقتك بما جئت به وعلمت أنك لا تقول إلا حقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه" وفي تفسير سورة الأحزاب من صحيح البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه في حديث وجدتهما مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين "وليس" النص على الاكتفاء بشهادته "مفيد الاختصاص" أي اختصاصه بهذه الخصوصية "بل" مفيد اختصاصه بها "المجموع منه" أي(25/335)
ص -163-…النص على الاكتفاء بشهادته "ومن دليل منع تعليله" أي النص على ذلك "وهو" أي دليل منع تعليله "تكريمه" أي خزيمة "لاختصاصه" أي خزيمة "بفهم حل الشهادة له صلى الله عليه وسلم" عن أخباره صلى الله عليه وسلم من بين الحاضرين بناء على أن إخباره بذلك في إفادة العلم بمنزلة العيان وكيف لا والشرع قد جعل التسامع في بعض الأحكام بمنزلة العيان فقول الرسول بذلك أولى "فلا يبطل" اختصاصه "بالتعليل" أي فلم يجز تعليله أصلا حتى لا يثبت هذا في شهادة غيره ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة لأن التعليل يبطله "فقول فخر الإسلام" إن الله شرط العدد في عامة الشهادات وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده لكنه "ثبت كرامة" له "فلا يبطل بالتعليل" ولفظه فلم يصح إبطاله بالتعليل "في غير موضعه" قال المصنف لأن التعليل لا يبطل كونه كرامة حتى يمتنع بل يعديها إلى غيره فإنما يبطل اختصاصه بهذه الكرامة فالوجه أن يقال ثبت كرامة خص بها فلا يبطل بالتعليل ودليل اختصاصه بها كونها وقعت في مقابلة اختصاصه بالفهم. "والنسبة" أي نسبة الاختصاص "إلى المجموع" من دليل الاكتفاء بها وهو النص السابق ومن دليل منع التعليل فليلحق غيره به "لأنه" أي الاختصاص "بالإثبات" أي إثبات الاكتفاء بشهادته "وهو" أي إثباته والمراد دليل إثباته "نص الاكتفاء به" شاهدا "والنفي" أي وبنفي الاكتفاء "عن غيره وهو" أي النفي عن غيره "بمانع الإلحاق" لغيره به وهو اختصاصه بهذه الكرامة لاختصاصه بالفهم المذكور "فمجرد خروجه" أي هذا الحكم المخصوص به خزيمة وهو الاكتفاء بشهادته وحده "عن قاعدة" عامة وهي اشتراط العدد في جميع الشهادات المطلقة "لا يوجبه" أي اختصاصه به "كما ظن" وهو ظاهر كلام الآمدي وابن الحاجب إلا أنهما جعلاه من قبيل ما لا يعقل معناه وقد عرفت أنه ليس كذلك وإنما لا يوجبه "لجواز الإلحاق بالمخصص" على صيغة اسم المفعول "بجواز تعليل دليل التخصيص" وشموله لغير المخصص(25/336)
أيضا. "ومثله" أي الاكتفاء بشهادة خزيمة وحده في كونه عقل ولم يتعد إلى غيره "قصر المسافر" السفر الشرعي الرباعية من المكتوبات "امتنع تعليله" أي قصرها "بما يعديه" أي قصرها إلى غير المسافر "لأنها" أي العلة للقصر "في الحقيقة المشقة" لأنها المعنى المناسب للرخصة به وبأمثاله من الرخص الثابتة للمسافر "وامتنع اعتبارها" أي المشقة نفسها "لتفاوتها وعدم ضبط مرتبة" معينة منها "تعتبر مناطا" للقصر "فتعينت" العلة لذلك "مشقة السفر فجعلت" العلة "السفر" لكونه مظنتها "فامتنع" قصرها "في غيره" أي السفر "والسلم" أي ومثل الاكتفاء بشهادة خزيمة في كونه عقل ولم يتعد إلى غيره "بيع ما ليس في الملك" أي بيع آجل بعاجل بشرائط مخصوصة شرع "لمصلحة المفاليس" ومن ثمة سمي بيع المفاليس "ينتفعون بالثمن عاجلا ويحصلون البدل آجلا على ما تشهد به الآثار" إذا لجواز مختص بالسلم من بين سائر ما ليس في الملك إذ القاعدة الشرعية أن جواز البيع يقتضي محلا مملوكا للبائع أو ذا ولاية له عليه موجودا مقدور التسليم حال العقد حسا وشرعا، حتى لو باع مسلم ما لا يملك ولا ولاية له عليه ثم ملكه وسلمه أو الآبق لغير من هو في يده أو الخمر لا يجوز لعدم الملك والولاية في الأول وعدم القدرة على التسليم في الثاني حسا وشرعا وشرعا في(25/337)
ص -164-…الأخير. وهذه القاعدة ثابتة بالنصوص الدالة على عدم جواز بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا ولاية له عليه لما في السنن الأربع عنه صلى الله عليه وسلم "ولا تبع ما ليس عندك" قال الترمذي حسن صحيح. وقال الحاكم صحيح على شرط جملة من أئمة المسلمين والمراد به ما ليس بمملوك ولا ولاية له عليه للإجماع على أنه لو باع ما عنده وهو غير مالك له ولا ولاية له على بيعه لا يجوز وعلى أنه لو باع ما في ملكه وليس بحضرته وماله ولاية على بيعه بوكالة أو وصاية يجوز ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن شراء العبد وهو آبق. كما رواه ابن ماجه ولقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم الخمر وثمنها" كما رواه أبو داود بإسناد حسن "وإن الله لعن الخمر وبائعها ومبتاعها" كما رواه أحمد بإسناد صحيح إلى غير ذلك. لكنه رخص في السلم كما يعلم قريبا "غير أنه اختلف في جوازه حالا فلما كان حاصله" أي السلم "تخصيصا عند الشافعي" لعموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان "علله" أي الشافعي "بدفع الحرج بإحضار السلعة محل البيع ونحوه" أي نحو محله لأن دليل التخصيص يعلل وهذه العلة تشمل الحال كالمؤجل فيجوز الحال كالمؤجل "ووقع للحنفية أنه" أي هذا التعليل واقع "في مقابلة النص القائل "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الستة فقد "أوجب فيه" أي في السلم "الأجل فالتعليل لتجويزه" أي الحال "مبطل له" أي النص الموجب له والتعليل المبطل للنص باطل فقالوا هم ومالك وأحمد لا يجوز حالا "ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "على ظن الشافعية النكاح بلفظ الهبة خص به صلى الله عليه وسلم بخالصة لك فلا يقاس عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم "غيره" في انعقاد نكاحه به لما فيه من إبطال الخصوصية الثابتة له كرامة. "والحنفية" على انعقاد النكاح به لكل أحد ويقولون قوله تعالى: {خَالِصَةً} "يرجع إلى نفي المهر ومن تأمل(25/338)
{أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} لك حتى فهم الطباق" بين القسمين "فهم أحللنا لك بمهر وبلا مهر" فكان الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم من المهر وغيره "وتعليل الاختصاص بنفي الحرج ينادي به" أي برجوعه إلى نفي المهر أيضا "إذ هو" أي الحرج "في لزوم المال لا في ترك لفظ إلى آخر بالنسبة إلى أقدر الخلق على التعبير" عن مراده صلى الله عليه وسلم لأنه أفصح العرب والعجم. "ومنه" أي ومن كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "ما عقل" معناه "على خلاف مقتضى مقتضى شرعي كبقاء صوم" الصائم "الناسي" أو الآكل أو الشارب في النهار نسيانا بما سيأتي من النص "مع عدم الركن" وهو الكف عن المفطرات أو بقاء الصوم مع عدم ركنه "معدول عن مقتضى عدم الركن" لأن مقتضى عدم ركن الصوم عدم بقاء الصوم لأن الشيء لا يبقى مع عدم ركنه ووجود ما يضاده في محله سواء وجد المضاد ناسيا أو عامد لأن النسيان لا يعدم الفعل الموجود ولا يوجد الفعل المعدوم بدليل أن من ترك ركنا من الصلاة ناسيا فسدت صلاته كما لو تركه عامدا فثبت أن النسيان لا أثر له في إعدام الموجود. "فإن قيل لما علل دليل(25/339)
ص -165-…التخصيص" في المواقع ناسيا "لزم مجيزي تخصيص العلة من الحنفية تعليله" أي دليل التخصيص "لإلحاق" الصائم "المخطئ" أي المفطر خطأ كأن تمضمض فسبقه الماء إلى جوفه "والمكره" على الإفطار الإكراه الشرعي "والمصبوب في حلقه" ماء أو غيره وهو نائم فوصل إلى جوفه بالناسي في بقاء الصوم "بعدم قصد الجناية" على صومه فإنه يجمعهم "كالشافعي لكنهم" أي الحنفية "اتفقوا على نفيه" أي التعليل المذكور لإلحاقهم بالناسي "فالجواب أن ظنهم" أي الحنفية "أنه" أي التخصيص للناسي ثابت "بعلة منصوصة هي قطع نسبة الفعل" المفطر "عن المكلف مع النسيان وعدم المذكر" له بالصوم إذ لا هيئة له مخالفة للهيئة العادية للمكلف بنسبة ذاك "إليه تعالى بقوله: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" هذا لفظ الهداية وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما في صحيح ابن حبان وسنن الدارقطني عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت صائما فأكلت وشربت ناسيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك" زاد الدارقطني "ولا قضاء عليك" "لأنه" أي قطع نسبة الفعل إلى المكلف "فائدته" أي قوله تم على صومك إلخ "وإلا فمعلوم أنه المطعم مطلقا" أي سواء طعم عمدا أو نسيانا. وكيف لا وفي صحيح مسلم "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" "وقطعه" أي وقطع الشارع نسبة الفعل إلى المكلف "معه" أي النسيان "وهو" أي النسيان "جبلي لا يستطاع الاحتراس عنه بلا مذكر" وهو من قبل من له الحق بلا اختيار من المكلف غالب الوجود وخبر قطعه "لا يستلزمه" أي قطعه نسبة الفعل إلى المكلف "فيما هو دونه" أي النسيان "مع مذكر كالصلاة" فإنها تخالف الهيئة العادية للمكلف "ففسدت بفعل مفسد ساهيا وما يمكن الاحتراس" أولا يستلزم قطعه نسبة الفعل إليه فيما يمكن الاحتراس عنه "كالخطأ" لأنه لا يغلب وجوده ولا يلزم من كونه عذرا فيما كثر وجوده مثله فيما لم يكثر ولأن في الوصول إلى الجوف(25/340)
مع التذكر للصوم فيه ليس إلا من تقصير في الاحتراس فيناسب الفساد إذ فيه نوع إضافة إليه "ولذا" أي كون الخطأ مما يمكن الاحتراس عنه "ثبت عدم اعتباره" في الشرع مسقطا للمجازاة بالكلية "في خطأ القتل فأوجب" الشارع به "الدية" بدل المحل "حقا للعبد مع تحقق ما عينه" الشافعي من عدم القصد إلى الجناية "فيه" أي في النسيان في القتل الخطأ أيضا. "و" أوجب "الكفارة" فيه أيضا "لتقصيره" فلم يسقط بالخطأ فيه إلا الإثم فكذا في الصوم لا يسقط بالخطأ فيه إلا الإثم ثم يجبر بالقضاء "والمكره أمكنه الالتجاء والهرب ولو عجز" عنهما "وانقطعت النسبة" لفعله عنه "صارت إلى غيره تعالى أعني المكره كفعل الصب" في حلق النائم "نسب إلى العبد لا إليه تعالى حتى أثمه" أي أثم الله تعالى الصاب "فانتفت العلة" المعلل بها دليل التخصيص في المكره والمصبوب في حلقه فلا يلحقان بالناسي في بقاء الصوم ولا يقال الوقاع ناسيا لا يفسد الصوم قياسا على الأكل ناسيا وهذا يفيد أنه لا يصح قياسه عليه لأنا نقول لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص للعلم بتساوي الكل من الأكل والشرب والوقاع في أن ركن الصوم إنما يتحقق بالكف عنها وإن تساوي المتساويات إذا ثبت لأحدها حكم يثبت ذلك الحكم للباقي ضرورة المساواة وإلا لم تكن(25/341)
ص -166-…متساوية مع كونها متساوية فكان النص الوارد في الأكل والشرب واردا فيه وبقاء صوم الناسي في الأكل إنما كان باعتبار أنه غير جان على الصوم لا باعتبار خصوصية الأكل وهذا بعينه ثابت في الوقاع.
"ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "تقوم المنافع في الإجارة" فإنه ثبت لها في الإجارة بالنصوص على سبيل الخصوص أن تقومها "يمنعه القياس على الحشيش والصيد هكذا لم تحرز" المنافع "فلا مالية فلا تقوم كالصيد قبل الإحراز. أما الأول" أي أنها لم تحرز "فلأنها" أي المنافع "أعراض متصرمة" أي متى وجدت تلاشت واضمحلت "فلو قلنا ببقاء شخص العرض لم يكن منه" أي مما يجوز لأنها ليست من أشخاص الأعراض ولو قلنا بعدم بقاء شخص العرض لم تكن محرزة بطريق أولى "ثم المالية بالإحراز، والتقوم بالمالية فلا يلحق به" أي بتقويم المنافع في الإجارة "غصبها" أي إتلاف المنافع أو تعطيلها في الغصب "إذ لا جامع معتبر" بينهما في ذلك "لتفاوت الحاجة" التي كانت المنافع بسببها متقومة "وعدم ضبط مرتبة" معينة منها يناط التقويم بها "كمشقة السفر فنيط" أي علق التقوم "بعقد الإجارة" لأنه مظنتها كالسفر فإن قيل عدم تقومها في الغصب يفتح باب العدوان لعلم المعتدين حينئذ بعدم الضمان فالجواب لا مانع لهم ومن ذلك كما أشار إليه بقوله "والحاجة لدفع العدوان تدفع بالتعزير" ولا يقال لا نسلم أنها غير محرزة إذ هي محرزة بإحراز المحل القائمة به لأنا نقول المراد بنفي إحرازها نفي الإحراز القصدي "وإحرازها بالمحل ضمن غير مضمن كالحشيش النابت في أرضه" فإنه محرز تبعا لأرضه ولا ضمان على متلفه "ولو سلم" أن الإحراز الضمني كالحقيقي في تضمين المالية "ففحش تفاوت المالية يمنع ضمان العدوان المبني على" اشتراط "المماثلة" بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(25/342)
[الشورى: 40] لانتفائها بين المضمون والمضمون به حينئذ فإن قيل فيلزم على هذا أن يضمن ما يتسارع إليه الفساد من فاكهة أو غيرها بالنقد إذ لا مماثلة بينهما من حيث البقاء والإجماع على خلافه قلنا لا فإن الشرط في المماثلة المشروطة بين المضمون والمضمون به المساواة في المالية وقد عرفت انتفاءها بين المنافع والأعيان "بخلاف الفاكهة مع النقد" فإنها متحققة بينهما "لاتصافها بالاستقلال بالوجود والبقاء" وإنما التفاوت بينهما في قدر البقاء "والتفاوت في قدره لا يعتبر" لأن قدره غير مضبوط فإن الدراهم تبقى ما لا يبقى غيرها من الثياب وغيرها فأدير الحكم على نفس البقاء دفعا للحرج. "وسره" أي عدم اعتبار المساواة في البقاء "أن اعتبار المساواة لإيجاب البدل إنما هو حال الوجوب" للبدل "لأنه" أي حال الوجوب "حال إقامة أحدهما مقام الآخر والتساوي" بينهما "فيه" أي في حال الوجوب "إذ ذاك" أي حال الوجوب "ثابت ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يبطل بالتعليل "حل متروك التسمية ناسيا" فإنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر الله ثم ليأكل " رواه الدارقطني والبيهقي إلى غير ذلك "على خلاف القياس على ترك شرط الصلاة" من طهارة أو غيرها(25/343)
ص -167-…"ناسيا لا تصح" الصلاة معه "حتى وجبت" إعادتها على الوجه المشروع "إذا ذكر" ما تركه من شرطه ناسيا والتسمية في حل الذبيحة شرط بالكتاب "فلا يلحق به" أي بنسيان التسمية في الحل "العمد" في الحل أيضا "لعدم المشترك" بينهما لأن الناسي معذور غير معرض عن ذكر الله والعامد جان معرض عنه "ولأنه" لو ألحق العامد به "لم يبق تحت العام شيء" من أفراده أعني قوله تعالى: "{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فينسخ" نص القرآن "بالقياس" وهو غير جائز "وفيه" أي هذا الدليل "نظر يأتي" في الكلام في فساد الاعتبار. "ومنها" أي الشروط بحكم الأصل "أن يكون" حكم الأصل "شرعيا فلا قياس في اللغة وتقدم" أنه المختار في المبادئ اللغوية "ولا في العقليات خلافا لأكثر المتكلمين" فإنهم جوزوه فيها إذا تحقق جامع عقلي إما بالعلة أو الحد أو الشرط أو الدليل وفي المحصول ومنه نوع يسمى إلحاق الشاهد بالغائب بجامع من الأربعة فالجمع بالعلة وهو أقوى الوجوه كقول أصحابنا العالمية في الشاهد أي المخلوقات معللة بالعلم فكذا في الغائب وإنما لم يجز في القياس عند الجمهور "لعدم إمكان إثبات المناط فلو أثبت حرارة حلو قياسا على العسل لا تثبت عليه الحلاوة" للحرارة "إلا إن استقرئ" أي تتبع كل حلو فوجد حارا "فتثبت" عليه الحلاوة للحرارة حينئذ "فيه" أي في ذلك الحلو "به" أي بالاستقراء "لا بالقياس فلا أصل ولا فرع وعنه" أي ثبوت حكم الفرع بالقياس "اشترط عدم شمول دليل حكم الأصل الفرع" خلافا لمشايخ سمرقند وموافقيهم كما يذكر المصنف في شروط الفرع.(25/344)
"وبهذا" أي اشتراط أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا للفرع "بطل قياسهم" أي المتكلمين "الغائب على الشاهد في أنه عالم بعلم" خلافا للمعتزلة "مع فحش العبارة" حيث أطلق الغائب عليه سبحانه وأنى لهم هذا الإطلاق والله تعالى لا يعزب عنه شيء في السموات ولا في الأرض وإنما بطل قياسهم "لأن ثبوته" أي العالم بالعلم "فيهما" أي في حق الله وحق من سواه "باللفظ لغة وهو أن العالم من قام به" العلم "وثمرته" أي كون حكم الأصل شرعيا يظهر "في قياس النفي لو كان" النفي "أصليا في الأصل امتنع" القياس عليه "لعدم مناطه" أي النفي الأصلي فهو لا يكون علة "بخلافه" أي النفي إذا كان "شرعيا يصح" القياس عليه "بوجوده" أي وجود مناطه فيه فهو قد يكون علة قال المصنف ثم قوله "وهو" أي المناط إذا كان عدما شرعيا "علامة شرعية" إشارة إلى أن علة العدم لا تكون مما نحن فيه من علل الأحكام لما سنذكر من أنها وصف ظاهر ضابط لمصلحة أو دفع مفسدة بل إنما يكون مجرد علامة وضعها الشارع على النفي وهذا على مذهب الحنفية لا يقاس لإثبات عدم لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
"ومنها" أي من شروط حكم الأصل "أن لا يكون" حكم الأصل "منسوخا للعلم بعدم اعتبار" الوصف "الجامع" فيه للشارع لزوال الحكم مع ثبوت الوصف فيه فلا يتعدى الحكم به إذا لم يبق الاستلزام الذي كان دليلا للثبوت.(25/345)
ص -168-…"ومنها" أي من شروط حكم الأصل "أن لا يثبت" حكم الأصل "بالقياس بل" يثبت "بنص أو إجماع" كما هو معزو إلى الكرخي وجمهور الشافعية ونص في البديع على أنه المختار "وهذا" معنى "ما يقال أن لا يكون" حكم الأصل "فرعا لاستلزامه" أي كون حكم الأصل فرعا "قياسين" الأول الذي أصله فرع للقياس الثاني، والثاني "فالجامع إن اتحد فيهما" أي القياسين "كالذرة على السمسم بعلة الكيل ثم هو" أي السمسم "على البر" بعلة الكيل "فلا فائدة في الوسط" الذي هو السمسم "لإمكانه" أي قياس الذرة "على البر وإنما هي" أي هذه المناقشة "مشاححة" والوجه مشاحة "لفظية أو اختلف" الجامع فيهما "كقياس الجذام على الرتق" وهو التحام محل الجماع باللحم "في أنه" أي الرتق "يفسخ به النكاح" بأن يقال يفسخ النكاح بالجذام كما يفسخ بالرتق "بجامع أنه" أي الجامع "عيب يفسخ به البيع" فكذا النكاح كالرتق فإنه عيب يفسخ به النكاح كما يفسخ به البيع "فيمنع" الخصم "فسخ النكاح بالرتق فيعلله" أي المستدل بفسخ النكاح بالرتق "بأنه" أي الرتق "مفوت للاستمتاع كالجب" أي قطع الذكر "وهذه" العلة وهي فوات الاستمتاع "ليست في الفرع المقصود بالإثبات" وهو الجذام فإن الاستمتاع فيه غير فائت "ما نقل" في أصول ابن الحاجب والبديع وغيرهما "عن الحنابلة وأبي عبد الله البصري من تجويزه" أي القياس مع اختلاف الجامع "لتجويز أن يثبت" الحكم "في الفرع بما لم يثبت في الأصل" به "كالنص والإجماع" أي كما جاز أن يثبت في الأصل بدليل وهو النص أو الإجماع وفي الفرع بآخر وهو القياس جاز أن يثبت في الأصل بعلة وفي الفرع بأخرى "يبعد صدوره ممن عقل القياس فإن ذاك" أي ثبوت حكم الأصل بدليل غير الدليل الذي به ثبوت حكم الفرع "في أصل ليس فرع قياس" ولا محذور في ذلك والكلام هنا إنما هو في أصل هو فرع قياس وفي تجويزه فيه انتفاء القياس لامتناع التعدية بواسطة لزوم عدم المساواة في العلة له. "هذا" المذكور "إذا(25/346)
كان الأصل فرعا يوافقه المستدل لا المعترض فلو" كان "قلبه" بأن كان الأصل فرعا يخالفه المستدل ويوافقه المعترض "فلا يعلم فيه إلا عدم الجواز كشافعي" أي كقوله "في نفي قتل المسلم بالذمي" قصاصا: قتل المسلم له قتل "تمكنت فيه شبهة" وهي عدم التكافؤ في الشرف "فلا يقتل" المسلم "به" أي بالذمي "كما" لا يقتل القاتل "بالمثقل" لتمكن شبهة العمدية والشبه دارئة للحدود وإنما لم يجز "لاعترافه" أي المستدل "ببطلان دليله ببطلان مقدمته" لأن عنده يثبت القصاص بالمثقل "ولو" كان هذا "في مناظرة فأراد" المستدل الذي هو الشافعي "الإلزام" بهذا للمعترض الذي هو الحنفي إذ لو التزمه لزم المقصود وإلا لكان مناقضا في مذهبه لعلمه بالعلة في موضع دون موضع "لم يلزم" المعترض "لجواز قوله" أي المعترض "هي" أي العلة في الأصل "عندي غير ما ذكرت" أنت ولا يجب ذكري لها في عرف المناظرة "أو أعترف بخطئي في الأصل" في أحدهما لا على التعيين فلا يضر ذلك في الفرع.
"ومنها" أي شروط حكم الأصل "في كتب الشافعية أن لا يكون" حكم الأصل "ذا قياس مركب" أي ثابتا به "وهو" أي القياس المركب "أن يستغني" المستدل "عن" الدليل على "إثبات(25/347)
ص -169-…حكم الأصل" للأصل "بموافقة الخصم" للمستدل "عليه" أي على ثبوت الحكم المذكور للأصل من غير أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه بين الأمة ثم القياس المركب قسمان أشار إلى أحدهما بقوله "مانعا عليه وصف المستدل" أي حال كون الخصم مانعا صلاحية الوصف الذي ادعاه المستدل علة مثيرة للحكم في الأصل لتثبته في محل آخر بواسطة وجود ذلك الوصف في محل آخر كذلك وحال كون الخصم أيضا "معينا" علة "أخرى" كذلك "على أنها" أي العلة التي عينها "إن لم تصح منع" الخصم "حكم الأصل وهذا" أي ممنوع العلة "مركب الأصل لأن الخلاف في علة حكم الأصل يوجب اجتماع قياسيهما" أي المستدل والمعترض "فيه" أي في الأصل لإثبات كل منهما الحكم الذي يقاس على حكم الأصل بقياس فإن وجد الجامع في كلا القياسين كان كلاهما صحيحا وإلا لم يكن ما لم يوجد الجامع فيه صحيحا فيكون معنى تركيب القياس الاجتماع كما أشار إليه بقوله "فكان مركبا وهو" أي هذا التوجيه كما ذكره عضد الدين ومن وافقه "بناء على لزوم فرعية الأصل ولذا" أي لزوم فرعيته "صح منعه" أي المعترض "حكم الأصل بتقدير عدم صحتها" أي علة حكم الأصل "فلو" كان حكم الأصل ثابتا "بنص أو إجماع عنده" أي المعترض "انتفى" منعه حكم الأصل على تقدير عدم صحة ما ادعاه وصفا منوطا به الحكم المذكور وأشار إلى ثانيهما بقوله "أو" حال كون الخصم مانعا "وجودها" أي العلة نفسها في الأصل معينا علة أخرى "وهو" أي وجودها "وصفها فمركب الوصف" لأنه خلاف في نفس الوصف الجامع هل له وجود في الأصل أو لا "أو بأدنى تمييز" أي يفرق بين مركبي الأصل والوصف بمنع العلة في الأول ومنع وجودها في الثاني ومنع وجودها هو منع وصفها بأدنى تمييز.(25/348)
"فإن قلت كيف يصح قوله" أي المعترض "إن لم تصح" العلة "منعت حكم الأصل وظهور عدم الصحة فرع الشروع في الإثبات أو المطالبة به" أي الإثبات "فيعجز" المستدل. "وفيه" أي تصحيح هذا "قلب الوضع" لأنه ينقلب المستدل معترضا والمعترض مستدلا "قلت" لا ضير "لأن الصورة المذكورة للقياس المركب من صور المعارضة في حكم الأصل وفيه" أي تصحيح هذا "ذلك" الانقلاب "فإن جوابها" أي المعارضة "منع المستدل لما عينه" المعترض عليه "فلزمه" أي المستدل "الإثبات" لعلية ما عينه نفسه عليه "وإذا صار" المعترض "مانعه" أي ما أثبته المستدل عليه "لزم المستدل إثباتها" أي بيان اعتبار علته "ووجودها" في الأصل "وينتهض" دليله على المعترض إذا أثبتها ووجودها فيه "إذ ليس ثبوته" أي حكم الأصل "إلا بها" أي بالعلة "للفرعية" للأصل كما هو الفرض "بخلاف ما إذا أثبت" المستدل "الوجود في مركب الوصف فإنه" أي المعترض "معه" أي إثبات المستدل الوجود فيه "يمنع حكم الأصل وهو" أي منعه حكم الأصل "دليل أنه" أي المعترض "مانع صحة ما عينه المستدل فيهما" أي مركبي الأصل والوصف "وإذن فقولهم" أي الأصوليين "للمستدل أن يثبت وجودها" أي العلة في الأصل "بدليله" أي الثبوت "من حس أو عقل أو شرع أو لغة فينتهض" الدليل "عليه" أي المعترض "لأنه معترف بصحة الموجب" أن يكون علة موجبة "ووجوده" أي(25/349)
ص -170-…الموجب في الأصل "إذ قد ثبت بالدليل" فلزمه القول بمقتضاه وهو ترتب الحكم عليه ويظهر أن الوجه الاقتصار على هذا أو حذف قوله لأنه معترف بصحة الموجب ووجوده لأن هذا تعليل لتسليمه واعترافه والفرض منعه حتى احتاج المستدل إلى إقامة الدليل عليه وخبر فقولهم "فيه نظر بل إذا أثبتهما" أي المستدل الوجود والاعتبار انتهض حينئذ "كالأول" أي مركب الأصل "فالأول" أي مثال مركب الأصل "قول شافعي" في كون الحر لا يقتل بعبد قتله المقتول "عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب المقتول عما بقي بكتابته ووارث غير سيده" لا يقتل قاتله الحر به. وإن اجتمع السيد ووارثه على طلب القصاص فيلحق العبد به هنا بجامع الرق "والحنفي يوافقه" أي الشافعي "فيه" أي في حكم الأصل وهو عدم قتل الحر بالمكاتب المذكور ويخالفه في العلة "فيقول العلة" عندي "جهالة المستحق" للقصاص "من السيد والورثة لاختلاف الصحابة في عبديته وحريته" أخرج البيهقي عن الشعبي كان زيد بن ثابت يقول المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا يرث ولا يورث وكان علي رضي الله عنه يقول إذا مات المكاتب وترك مالا قسم ما ترك على ما أدى وعلى ما بقي فما أصاب ما أدى فللورثة وما أصاب ما بقي فسلموا إليه وكان عبد الله يقول يؤدي إلى مواليه ما بقي من مكاتبته ولورثته ما بقي وأخرج عبد الرزاق وغيره هذا الذي عن ابن مسعود عن علي أيضا واختلافهم يوجب اشتباه الولي فانتفى القصاص لأنه ينتفي بالشبهة "فإن صحت" علتي "بطل إلحاقك" العبد بالمكاتب في حكمه لعدم المشاركة في العلة "وإلا" أي وإن لم تصح علتي بل صحت علتك وهي العبدية "منعت حكم الأصل فيقتل الحر به" أي بالمكاتب لعدم المانع منه حينئذ فلم ينفك الحنفي في هذه الصورة عن عدم العلة في الفرع على تقدير كونها الجهالة أو منع الحكم في الأصل على تقدير أنها الرق فلا يتم القياس على التقديرين "ولا يتأتى" أي ولا يصح منع حكم الأصل "إلا من مجتهد" لجواز تبدله في نظره(25/350)
"أو من علم عنه" أي المجتهد "مساواتها" أي العلة التي أبداها المعترض لحكم الأصل فينتفي الحكم لانتفائها إما مقلد لم يعلم ذلك فلا لاحتمال أن لا يكون ما عينه هو المأخذ في نظر إمامه وبتقدير أن يكون فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه لكونه أكمل حالا منه فيجب عليه تصويب إمامه في الأصل وإن لزم تخطئته في الفرع لا بالعكس نعم يمكن أن يقال إن ثبت النقل عن إمامه بأنه لم يقل بهذا الحكم إلا بناء على هذا المدرك كان للمقلد منع الحكم على تقدير ثبوت بطلان المدرك لأن إمامه لا يتصور أن يقول بحكم بلا مدرك ولا يكون هذا تخطئة لإمامه بل تعريضا على قوله إنه لا مدرك له إلا هذا كما في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي. "والثاني" أي ومثال مركب الوصف قول شافعي في الاستدلال على عدم صحة تعليق الطلاق بما هو سبب ملكه وهو النكاح "في إن تزوجت فلانة فطالق" هذا "تعليق للطلاق قبل النكاح فلا يصح" فلو تزوجها لا تطلق "كقوله" أي القائل "فلانة التي أتزوجها طالق" حيث لا تطلق إذا تزوجها "فيقول" الحنفي "كونه" أي الطلاق "تعليقا" على سبب ملكه "منتف في الأصل" أي فلانة التي أتزوجها "بل" الأصل "تنجيز" للطلاق "فإن صح" كونه تنجيزا "بطل إلحاقك" هذا الفرع بهذا(25/351)
ص -171-…الأصل "وإلا" أي وإن لم يصح كونه تنجيزا بل كان تعليقا "منعت حكم الأصل" وهو عدم الوقوع "فتطلق" فلانة في قوله فلانة التي أتزوجها إذا تزوجها لانتفاء المانع منه "وهذا ما ذكرنا من منعه" أي المعترض "الأمرين" وجود العلة ومنع علية الأصل "ولو كان اختلافهما" أي المستدل والمعترض "فيه" أي في حكم الأصل "ظاهرا من الأول وليس" حكم الأصل "مجمعا" عليه مطلقا ولا بين الخصمين "فحاول" المستدل "إثباته" أي حكم الأصل بنص "ثم" إثبات "عليته" أي ذلك الحكم بمسلك من مسالكها "قيل لا يقبل" كل من هذين الإثباتين لضم نشر الجدال "والأصح يقبل" كل منهما "لأن إثبات حكم الأصل" حينئذ مقدمة "من مقدمات دليله" أي القائس "على إثبات حكم الفرع" لأن ثبوت الحكم للفرع فرع ثبوته للأصل "فلو لم يقبل" كل من هذين الإثباتين بطريقه "لم يقبل مقدمة تقبل المنع" وإن أثبتها المستدل بالدليل بعد منع الخصم إياها لأن غايته أن ينزل منزلة ذلك بالاتفاق أن الكلام على المقدمات التي تقبل المنع بعد أن لا تخرج عن المطلوب مقبول فكذا هذا لأن إثباته لا يخرج عن المطلوب. وكيف لا ولازمه أن لا يقبل إلا البديهيات "وكونه" أي حكم الأصل "يستدعى" من الأدلة والشرائط "كالآخر" أي حكم الفرع لكونه مثله في كونه حكما شرعيا فيطول القال وينتشر الجدال بخلاف مقدمات المناظرة التي تقبل المنع فإنها قد تنتهي سريعا إلى الضروريات "لا أثر له" في الفرق بينهما وهذا تعريض يرد ما في شرح عضد الدين وربما يفرق بأن هذا حكم شرعي مثل الأول يستدعي ما يستدعيه بخلاف المقدمات الأخر "وما قيل هذه اصطلاحات لا يشاح فيها غير لازم لمن لم يلتزمه" وله أن لا يلتزمه وهو ظاهر وكيف لا وهو طريق إلى أنه ينسب إليه الانقطاع مع عدم العجز عن الإثبات وعدم خروجه عن مقتضى منصبه وفي هذا أيضا تعريض بالقاضي عضد الدين حيث قال وبالجملة فهذه اصطلاحات ولكل نظر فيما يصطلح لا يمكن المشاحة فيه انتهى قال الأبهري(25/352)
وأشار هنا بهذا إلى أنه يصطلح على ذلك نظرا إلى أنه حكم شرعي يعد البحث عنه انتقالا كما أن لكل أن يصطلح على أمر نظرا إلى ما يختص به واعتبار له ولما كان هذا جوابا جمليا يصلح في كل ما يصلح عليه قال وبالجملة وإنما قال نظرا لأن الاصطلاح بدون النظر في المناسبة المختصة في قوة الخطأ عند المحصلين "ولم يذكر الحنفية هذا" أي لم يصرحوا بأن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب شرطا له "لبطلان كونه" أي حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب "شرطا لحكم الأصل بل" إنما هو شرط "للانتهاض" للمناظر "على المناظر" في المناظرة "بهذا الطريق من الجدل" فهي مسألة جدلية لا أصولية "وأفادوه" أي الحنفية نفي القول به "باختصار" فقالوا "لا يعلل بوصف مختلف" فيه اختلافا ظاهرا "كقول شافعي في إبطال الكتابة الحالة" ككاتبتك على ألف درهم ولم يذكر أجلا للكتابة "عقد يصح معه التكفير به" أي بالمكاتب "فكان" عقد الحالة "باطلا كالكتابة على الخمر" إذا كان العبد والولي مسلمين أو أحدهما مسلما. "فحكم الأصل" وهو بطلان الكتابة بالخمر في هذا "متفق" عليه "لكن علته" أي علة بطلانه "عند الحنفية كون المال" أي الخمر مالا في الجملة "غير متقوم" بل هي ليست بمال في شرعنا "لا"(25/353)
ص -172-…أن علته "ما ذكر من صحة التكفير به" أي المكاتب "وله" أي للمستدل "إثباته" أي الوصف المختلف فيه "على ما تقدم" آنفا أنه الأصح "ولبعضهم" أي صدر الشريعة هنا عبارة هي "لا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو" في "الأصل كقول شافعي في الأخ شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه كابن العم فإن أراد" الشافعي بقوله يصح التكفير بإعتاقه "عتقه إذا ملكه" أي إذا اشتراه بنية الكفارة "فغير موجود في ابن العم" فإنه إذا اشتراه بنية الكفارة لا يجوز عنها "أو" أراد "إعتاقه بعده" أي يصير ملكه ثم يقع عن كفارته بإعتاق قصدي بعد الملك "فممنوع في الأخ" أي لا نسلم وجود هذا الوصف فيه إذ هو يعتق بمجرد الملك "وذكر" صدر الشريعة "الصورتين" أي إن تزوجت فلانة إلى آخرها وعبد فلا يقتل به الحر إلى آخرها "ثم على ما ذكرنا" من أن الأصح أن للمستدل إثبات علية الوصف في الأصل لحكمه "له" أي للمستدل هنا "إثباتها" أي هذه العلة وهو ظاهر "وليس من الشروط" لحكم الأصل "كونه" أي حكم الأصل "قطعيا بل يكفي ظنه" أي حكم الأصل "فيما يقصد به العمل" وقيد بهذا لأن ما يقصد به الاعتقاد لا يكفي فيه النظر "وكون الظن يضعف بكثرة المقدمات لا يستلزم الاضمحلال" أي بطلان الظن فلا يبقى فائدة للقياس "بل هو" أي كثرة المقدمات المظنونة "انضمام موجب إلى موجب في الشرع" وانضمام موجب إلى موجب يوجب قوة في الموجب. "والخلاف في كونه" أي حكم الأصل "ثابتا بالعلة عند الشافعية" والحنفية السمرقندي "وبالنص عند الحنفية" العراقيين والدبوسي والبزدوي والسرخسي وأتباعهم من المتأخرين خلاف "لفظي فمراد الشافعية أنها" أي العلة "الباعثة عليه" أي شرع الحكم في الأصل "و" مراد "الحنفية أنه" أي النص "المعرف" للعلة الباعثة على شرعية الحكم في الأصل "ولا يتأكد في ذلك" أي كلا المرادين بين الفريقين ذكره الآمدي وابن الحاجب وموافقوهما "وكيف" يصح القول بأنها المثبتة لحكم(25/354)
الأصل "وقد تكون ظنية" بأن يكون دليل العلة إنما يفيد ظنها "وحكم الأصل قطعي" لثبوته بنص أو إجماع قطعي فلو كانت هي المثبتة له كان الظني يوجب القطع وهو لا يوجبه ولكن قال السبكي ونحن معاشر الشافعية لا نفسر العلة بالباعث أبدا أو شدد النكير على من يفسرها وإنما يفسرها بالمعرف وإن ادعى قائل ذلك إليه أنه يجعلها فرعا للأصل أصلا للمفرع خوفا من لزوم الدور فإنها مستنبطة من النص فلو كانت معرفة له وهي إنما عرفت به جاء الدور ونحن نقول ليس معنى كونها إلا أنها تنصب أمارة يستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفا به. ويجوز أن يتخلف في حق العارف كالغيم الرطب أمارة على المطر وقد يتخلف فإذا عرف الناظر مثلا أن الإسكار علة التحريم فهو حيث وجده قضى بالتحريم غاية ما في الباب أن العالم يعرف تحريم الخمر من غير الإسكار لاطلاعه على النص ولكن هذا لا يوجب أن لا يكون الإسكار معرفا بل هو منصوب معرفا فقد يعرف بعض العوام علية الإسكار للتحريم ولا يدري هل الخمر هو المنصوص أو النبيذ أو غيرهما من المسكرات فإذا وجد الخمر قضى فيه بالتحريم مستندا إلى وجدان العلة مستفيدا ذلك منها فوضح بهذا أن العلة قد تعرف حكم الأصل بمجردها(25/355)
ص -173-…وقد تجتمع في التعريف هي والنص على رأي من يجوز اجتماع معرفين وإذا تمهد ذلك علمت أن العلة المعرف في الأصل والفرع جميعا وأن نسبتهما إلى العلة على حد سواء إلا أن بعض الناس سبق لهم معرفة حكم الأصل من غير العلة فلم تعرفهم العلة شيئا ونحن لم نقل المعرف يعرف كل أحد بل إنما يعرف من ليس بعارف لئلا يلزم تحصيل الحاصل وتخلف التعريف بالنسبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة. وكذلك بعض الناس يعرف حكم الفرع من العلة دون بعض فإن كثيرا من الناس إنما يعرفون حكم الفرع من المفتي وإن لم يعرف العلة أصلا فكم من عامي يعرف من المفتين أن الزبيب ربوي ولا يدري العلة فلاح أن العلة المعرف في الأصل والفرع وليس الدور بلازم ثم كما أن النص عرفنا الحكم النفسي عرفنا أن العلة تعرف الحكم النفسي أيضا. والفرع والأصل جميعا بالنسبة إلى الحكم النفسي سواء وإنما أوجب لأحدهما أن يسمى أصلا وروده على لسان الشرع فإن قلت هل الخلاف لفظي قلت لا بل يترتب عليه فوائد أدناها التعليل بالقاصرة فمنعوه لأن عرفان الحكم في الأصل واقع فلا تجدي هي شيئا ونحن نجوزه ونذكر من فوائدها تعريف الحكم المنصوص أيضا ومنها أنه يشترط أن لا يكون ثبوت العلة متأخرا عن ثبوت حكم الأصل إذ لو تأخر لكان الحكم في الأصل ثابتا بلا مثبت لأن مثبته العلة أو يلزم أن يكون تعبدا ثم انقلب المعنى وهذا لا يضير فإن المعنى كان موجودا وقت ثبوت الحكم فإن صلح أن يتعلق به ثانيا فقد صلح أولا فإن قلت قد يفعل الشارع ذلك ولا حجة عليه قلت إذا فعله كان منصوصا والكلام في المستنبطة والحنفية لا يشترطون ذلك لأن حكم الأصل ثابت عندهم بالنص وهو موجود إن لم توجد العلة انتهى مع بعض اختصار وغالبه لا بأس به ومنه أن من ثمرة الخلاف جواز التعليل بالقاصرة وعدمه كما صرح به صاحب الميزان وغيره وبعضه لا يعرى عن تأمل.(25/356)
"ومن شروط الفرع لبعض المحققين" كابن الحاجب "أن يساوي" الفرع "الأصل فيما علل به حكمه" أي الأصل "من عين" للعلة "كالنبيذ" أي كمساواة النبيذ "للخمر في الشدة المطربة" التي هي عين علة التحريم في الخمر "وهي" الشدة المطربة "بعينها موجودة في النبيذ أو جنس" للعلة "كالأطراف" أي كقياسها "على القتل في القصاص بالجناية" أي بسببها "على الذات" إذ الجناية جنس لإتلاف النفس والأطراف وهما مختلفان بالحقيقة إذ جناية النفس القتل وجناية الأطراف القطع وإنما اشترط تساويهما في العلة لأن القياس لا يتحقق بدونه كما هو ظاهر من تعريفه "وفيما يقصد" أي ومن شروط الفرع أن يساوي حكم الفرع حكم الأصل فيما تقصد المساواة فيه "من عين الحكم كالقتل" أي كقياسه "بالمثقل عليه" أي على القتل بالمحدد في القصاص فإن حقيقة القتل الكائنة في الفرع بعينها هي الكائنة في الأصل "أو جنسه" أي من جنس الحكم "كالولاية" أي كقياس ثبوت الولاية "على الصغيرة في إنكاحها على" ثبوت الولاية عليها في "مالها" فإن ولاية الإنكاح من جنس ولاية المال بسبب نفاد التصرف وليس عينها لاختلاف التصرفين كذا قالوا قال المصنف "ولا معنى للتقسيم" في كل(25/357)
ص -174-…من هذين الشرطين "أما في العلة فلا نعني بالعين إلا ما علل به حكم الأصل وكونه" أي ما علل به "جنسا لشيء لا يوجب أن العلة جنس الوصف فالجناية على الذات عين ما علل به" حكم الأصل "لا جنس ما علل به وإن كان هو" أي الجناية على الذات "جنس جناية القتل. وأما الحكم فليس المعدى قط جنس حكم الأصل بل عينه" أي حكم الأصل "فالمال الأصل والنفس الفرع وحكم الأصل ثبوت الولاية فيعدى" ثبوت الولاية بعينه "إلى النفس وقوله" أي بعض المحققين لعضد الدين "وهي بعينها إلخ يناقض ما قدمه من المثل" أي من أنه لا بد أن يعلم علة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها لا يتصور لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين كما سلف ذكره ورده في الكلام في تعريف القياس فلعله "رجع إلى الصواب". "وإن لا بتغير فيه" أي ومن شروط حكم الفرع أن لا يتغير في الفرع "حكم نص أو إجماع على حكم الأصل كظهار الذمي" أي كقياسه "على" ظهار "المسلم في الحرمة فإن المعدى غير حكم الأصل" أعني ظهار المسلم "وهي" أي حكم الأصل وأنثه باعتبار الحرمة وهو "الحرمة المتناهية بالكفارة إذ لا عبادة منه" أي من الذمي مطهرة "فالحرمة في الفرع" وهو ظهار الذمي "مؤبدة" لعدم انتهائها بالكفارة لما فيها من معنى العبادة وهو ليس من أهلها فلا يصح قياسه عليه لئلا يلزم التغيير لحكمه المنصوص عليه. فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يقاس ظهار العبد على ظهار الحر في الصحة اللازمة الذي هو التعبير لحكمه المنصوص عليه فإن العبد لا يتأتى منه كل من الإعتاق والإطعام كما يتأتى من الحر لأنه فرع الملك ولا ملك له قلنا ممنوع فإن ظهار الذمي إنما لم يصح قياسا على ظهار المسلم لما ذكرنا من أنه ليس بأهل للكفارة فيلزم منه تغيير حكم الأصل المنصوص عليه "بخلاف العبد" فإنه "أهل" للكفارة لا أنه "عاجز" عن التكفير بالمال لانتفاء الملك "كالفقير" أي كالحر العاجز عن ذلك فكما صح ظهار الحر الفقير صح ظهار(25/358)
العبد المسلم حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال أيضا كالفقير الحر إذا استغنى وقوله "أو على غيره" عطف على حكم الأصل أي وأن لا يتغير في الفرع حكم نص أو إجماع على حكم غير حكم الأصل لئلا يلزم إبطال النص بالقياس "فبطل قياس تمليك الطعام على" تمليك "الكسوة" في وجوبه عينا "في الكفارة" لأنه يلزم منه ذلك "فإنه" أي التمكين من الطعام "في الفرع" وهو الطعام "أعم من الإباحة والتمليك" إذ هو جعل الغير طاعما لأنه فعل متعد بنفسه لازمه طعم وذلك يحصل بالتمكين من الطعام على أي وجه كان فجعل تمليك الطعام واجبا عينا تغيير لحكم نص الفرع وهو غير حكم الأصل "والسلم الحال" أي وبطل قياسه "بالمؤجل" في الجواز لأنه يلزم منه تغيير حكم نص على حكم غير حكم الأصل "لأن حكم الأصل وهو السلم المؤجل اشتمل على جعل الأجل خلفا عن ملك المسلم فيه" للمسلم إليه "والقدرة عليه" لأن من شرط جواز البيع كون المبيع موجودا مملوكا للبائع أو متعلق ولايته لبيعه مقدور التسليم فلما رخص الشارع في السلم بصفة الأجل المعلوم علمنا أنه أقام الأجل الذي هو سبب القدرة الحقيقية عليه مقامها وجعله خلفا عنها وفوات الشيء إلى خلف كلا فوات. "وإن" كان المسلم فيه "عنده" أي(25/359)
ص -175-…المسلم إليه وإنما قلنا هذا "بناء على كونه" أي المسلم فيه "مستحقا لحاجة أخرى" فيكون بمنزلة العدم كالماء المستحق للشرب في جواز التيمم "والإقدام" على الإسلام "دليله" أي كونه مستحقا لحاجة أخرى وإلا لباعه في الحال بأوفر ثمن ولم يبعه بجنس من الثمن إلى أجل لأن الرغبات متوفرة في حصول الاسترباح، وكون الإقدام دليله ثابت "بدليل النص على الأجل" أي ما سلف من قوله صلى الله عليه وسلم "إلى أجل معلوم" "وهو" أي جعل الأجل خلفا عن ملك المسلم فيه وعن القدرة عليه "منتف من" السلم "الحال" إذ لا أجل فيه.
بقي أن يقال هذا التقرير يعطي أنه يلزم من هذا القياس تغيير حكم الأصل المنصوص عليه فيه في الفرع لا تغيير حكم نص على غير حكم الأصل فينبغي أن يورد في القسم الأول والجواب أنه يلزم منه أيضا تغيير حكم نص على غير حكم الأصل وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان. لأنه خرج منه السلم المؤجل ولم يبق تحته سوى السلم الحال فلو جاز قياسا على المؤجل لبطل هذا النص لأنه لم يبقى تحته شيء وهو غير جائز ولا يقال بل تحته غيرهما كبيع السمك في الماء والطير في الهواء لأنا نقول هذان وأمثالهما من صور السلم الحال أيضا في المعنى إذ ليس المعنى بالسلم إلا بيع غائب بثمن حاضر والسلم ينعقد بلفظ السلم والسلف والبيع على الصحيح فأورده المصنف في أمثلة هذا القسم نظرا إلى هذا التوجيه وإن كان مما يورد في أمثلة القسم الأول كما فعل غير واحد إعلاما بأنه باطل من وجه آخر غير ما اقتصروا عليه والشيء إذا كان باطلا باعتبارات مستقلة قد يورد في كل من أمثلة اعتبار من تلك الاعتبارات.(25/360)
ثم كما قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي شرط أن لا يتغير في الفرع حكم نص إلخ إنما هو "بالذات شرط التعليل لا" شرط "حكم الفرع ويستلزم" انتفاء هذا الشرط للتعليل "التغير في الفرع" فإن قيل جوزتم دفع قيمة الواجب في الزكاة قياسا على العين وصرف الزكاة إلى صنف واحد قياسا على صرفها إلى الكل بعلة دفع حاجة المدفوع إليه. وهذا المعنى موجود في دفع القيم وفي الصرف إلى صنف واحد توجد فيه الحاجة وفي هذا التعليل تغيير لحكم النص الدال على وجوب عين الشاة والنص الدال على كون الزكاة حقا لجميع الأصناف قلنا كون التعليل المذكور مغيرا لحكمي النصين المذكورين ممنوع كما سبق في أواخر التقسيم الثاني للمفرد باعتبار ظهور دلالته كما أشار إليه بقوله "وتقدم دفع النقض بدفع القيم". وكذا تقدم دفع النقض في جواز دفع الزكاة لصنف فليراجع ثمة وأورد ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب من النجاسة بما في الصحيحين جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إحدانا يصيب ثوبها من الحيضة كيف تصنع به فقال "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه" ولابن أبي شيبة "اقرضيه بالماء واغسليه وصلي فيه" وقد جوزتم إزالتها عن الثوب وما في معناه بكل مائع طاهر قالع مزيل سوى الماء بالتعليل بكونه قالعا مزيلا وفيه تغيير حكم النص في الأصل وأجيب بأن ليس في تجويز إزالتها بالمائع المذكور تغيير حكم النص(25/361)
ص -176-…كما أشار إليه بقوله "وإلحاق غير الماء به" أي الماء في إزالة النجاسة الحقيقة إنما هو "للعلم بأن المقصود" للشارع من الأمر بغسل الثوب به "الإزالة" للنجاسة "لا الاستعمال" للماء من حيث هو "وإن نص" الشارع "على الماء في قوله واغسليه بالماء" وإنما قلنا للعلم بأن المقصود الإزالة "للاكتفاء" أي للإجماع على الاكتفاء عن استعماله "بقطع محلها" أي النجاسة في إسقاط هذا الواجب ولو كان استعماله واجبا لعينه لم يسقط بذلك "فيتعدى" هذا الحكم وهو طهارة الثوب النجس بغسله بالماء المطلق الطاهر "إلى كل مزيل" قالع طاهر بماء كان أو غيره وإنما نص على الماء لأنه الغالب مع ما فيه من اليسر لسهولته وكثرته. فإن قيل فينبغي أن تجوز إزالة الحدث أيضا بالمائع المذكور وإن نص على إزالته بالماء لعين هذا المعنى وليس كذلك إجماعا فالجواب لا لكون إزالته الخبث بالماء معقول المعنى "بخلاف" إزالة "الحدث" به فإنه غير معقول المعنى إذ "ليس" الحدث "أمرا محققا" على الأعضاء "يزال" بالماء "بل" هو "اعتبار" شرعي اعتبر قائما بالأعضاء ثم "وضع الماء لقطعه" بأن تعبده بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح برأسه لذلك وإلا فالماء إنما يزيل الأجرام الحسية لا الأمور المعنوية "فاقتصر على ما علم قطع الشارع اعتباره" أي الحدث "عنده" أي استعمال الماء ولا يقال لا يقاس المائع الطاهر القالع على الماء في هذا لأن الطهارة به على خلاف القياس إذ مقتضاه أن يتنجس الماء بملاقاة النجاسة فتخلف النجاسة البلة النجسة. وكذا في المرة الثانية وهلم جرا إلا أن الشارع أسقط هذا لتحقق الإزالة الشرعية لأنا نقول كما قال المصنف "وإذ سقط التنجس بالملاقاة فيه" أي في الماء "لتحقق الإزالة سقط" التنجس بالملاقاة "في غيره" أي الماء من المائعات الطاهرة القالعة "لذلك" أي لتحقق الإزالة فإن الحكم بالتطهير لا يتصور بدونها والاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم "وما يقال" سقط مقتضى(25/362)
القياس المذكور "في الماء للضرورة إن أريد ضرورة الإزالة فكذا" سقط مقتضاه "في غيره" أي الماء ضرورة الإزالة "أو" أريد "أنه لا يزيل سواه" أي الماء حسا "فليس" هذا المراد "واقعا" كما يقطع به الوجدان "أو" أريد أنه "لا يزيل" غير الماء "شرعا فمحل النزاع وأن لا يتقدم" حكم الفرع بالشرعية "على حكم الأصل" أي ومن شروط الفرع هذا "كالوضوء" أي كقياسه "في وجوب النية" فيه "على التيمم" بجامع أن كلا منهما تطهير حكمي لأن الوضوء بالشرعية متقدم على التيمم إذ شرعية الوضوء قبل الهجرة والتيمم بعدها فلم يجز قياس الوضوء في ذلك عليه "لثبوته" أي حكم الفرع الذي هو الوضوء حينئذ "قبل علته" أي قبل ثبوت علته لأنها مستنبطة من حكم الأصل المتأخر عن حكم الفرع فيلزم أن تكون متأخرة عن حكمه بمرتبتين وهو باطل ويلزم أيضا أن يكون حكم الفرع ثابتا قبل العلة وثبوت حكم القياس قبلها باطل لأنه حينئذ يكون ثابتا بدون العلة الجامعة فيكون الثابت بالقياس ثابتا بدونه وهو محال اللهم "إلا" أن يكون "إلزاما بمعنى لا فارق" بين الوضوء والتيمم في أن كلا منهما طهارة حكمية وقد قلتم بوجوب النية في التيمم فكذا في الوضوء فحينئذ يصح قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لكن الشأن في انتفاء الفارق بينهما "وأبدل متأخرو الحنفية هذا" الشرط "بأن يكون" الفرع "نظيره"(25/363)
ص -177-…أي مثل الأصل في الوصف الذي تعلق الحكم به في الأصل بأن يوجد مثل ذلك في الفرع من غير تفاوت لا في كل وصف. وإنما شرط ذلك لأنه لو لم يكن الفرع مثلا له في العلة لما صح تسويته مع الأصل فيه "وليس الوضوء نظيره" أي التيمم "لأنه" أي الوضوء "مطهر في نفسه أي منظف" وفسره به ليتضح أن ليس المراد به المعنى الذي هو محل النزاع فيكون مصادرة على المطلوب بل المعنى المتفق عليه وهو التنظيف من الأخباث والأوساخ "والتيمم ملوث اعتبر مطهرا شرعا عند قصد أداء الصلاة وهو" أي قصد أدائها "النية" الواجبة فيه "فلا يلزم فيما هو مطهر في نفسه منظف قصر طهارته شرعا على ذلك القصد" أي قصد أداء الصلاة حتى لا تستباح به إلا معها "وحاصله" أي منع صحة هذا القياس "فرق" بين المقيس والمقيس عليه "من جهة الآلة التي يقام بها الفعلان" الوضوء والتيمم وهي في الوضوء الماء المطلق الطهور وفي التيمم الصعيد الطاهر "وتجوز بالوضوء في الماء" وبالتيمم في الصعيد تسمية للشيء باسم أثره "كما يفيده" أي كونه قياسا بين الآلتين "التعليل" أي تعليلهم عدم صحة هذا القياس بقولهم الماء مطهر في نفسه والتراب مغبر ونحو ذلك. وتعقبه المصنف بقوله "وأنت تعلم أن التعدية" هنا "لحكم شرعي هو اشتراط النية لثبوت التطهير بالتراب" ثم فسر المراد بالتطهير بالتراب إيضاحا له بقوله "أي رفع المانعية الشرعية" من قربان الصلاة ونحوها القائمة بالأعضاء "لا" أن التعدية هنا "لوصف طبيعي" للمقيس عليه "والماء كالتراب في ذلك" أي رفع المانعية الشرعية المذكورة "وقد شرط الشرع في ذلك" أي رفع المانعية الشرعية "النية" في التراب "فكذا الماء وكونه" أي الماء "له وصف اختص به طبيعي هو إزالة القذر والتنظيف لا دخل له" أي لهذا الوصف "في الحكم" أي رفع المانعية الشرعية "ولا الجامع" بين المقيس والمقيس عليه وهو الطهارة الحكمية.(25/364)
ثم نبه على أن قول الحنفية اعتبر مطهرا شرعا عند قصد أداء الصلاة ليس المراد به القصر على ذلك فإنه اعتبر مطهرا شرعا عندهم عند قصد غيرها من القرب المقصودة لذاتها التي لا تصح إلا بالطهارة فقال "وقولهم عند قصد" أداء "الصلاة تجوز" بالصلاة "عن قربة مقصودة لذاتها" أي مشروعة ابتداء يعقل فيها معنى العبادة "لا تصح إلا بالطهارة" فدخل التيمم لسجدة التلاوة كما هو الصحيح وخرج التيمم لمس المصحف لأنه ليس بعبادة مقصودة لذاتها والتيمم للإسلام والسلام لأن كلا منهما وإن كان عبادة مقصودة لذاتها لكنه يصح بدون الطهارة والشأن في العلاقة المصححة لهذا التجوز "ويمكن دفعه" أي هذا البحث المفضي إلى المثلية بين الماء والتراب في اشتراط النية لاعتبار الشارع كلا منهما رافعا للمانعية الشرعية "يمنع المثلية فيه" أي في رفعها "بل جعل" الماء "مزيلا بنفسه" أي بطبعه "شرعا" للمانعية "كالخبث" أي كإزالته الحسية للخبث عملا "بإطلاق {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [لأنفال: 11]" بخلاف التراب فإنه لم يعتبر رافعا لتلك المانعية شرعا إلا بالقصد إذ طبعه ملوث ومغبر فلا مثلية "وإذن يبطل لا فارق" بينهما هذا وإطلاق منع كون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع هو المذكور للآمدي وابن الحاجب وقيده الإمام الرازي والبيضاوي بما إذا لم يكن لحكم الفرع دليل سوى(25/365)
ص -178-…القياس لما تقدم أما إذا كان له دليل سواه فإنه لا يشترط تقدم حكم الأصل عليه لأن حكم الفرع قبل حكم الأصل يكون ثابتا بذلك الدليل وبعده يكون ثابتا به وبالقياس وغاية ما يلزم أن يتوارد أدلة على مدلول واحد وهو غير ممتنع كمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم المتأخرة عن المعجزة المقارنة لابتداء الدعوة. قال السبكي وهو ضعيف لأنه خارج عما نحن فيه إذ ليس الفرع حينئذ فرعا للأصل الذي فيه يتكلم وغاية قولنا أنه لا يصح تفرعه عن أصل متأخر وهذا سواء كان له دليل آخر يثبت حكمه أم لم يكن "وأن لا ينص على حكمه" أي الفرع "موافقا" لحكم الأصل أي ومن شروط الفرع هذا أيضا عند عامة أصحابنا منهم الجصاص وأبو زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة وبه قال الغزالي والآمدي "إذ لا حاجة" حينئذ للقياس لثبوت حكم الفرع بما هو أقوى منه "واعترض بأن وجوده" أي النص على حكم الفرع "لا ينافي صحته" أي القياس والاستدلال به. "ولذا" أي ولكون وجود النص على حكم الفرع لا ينافي صحة القياس والاستدلال به "لم يشرطه" أي هذا الشرط "مشايخ سمرقند" بل شرطوا أن لا يثبت القياس زيادة على النص في الفرع قال صاحب كشف البزدوي وغيره وهو الأشبه لأن فيه تأكيد النص على معنى أنه لولاه لكان حكم النص ثابتا بالتعليل ولا مانع في الشرع والعقل من تعاضد الأدلة وتأكد بعضها ببعض فإن الشرع بآيات كثيرة وأحاديث متعددة وقد ملأ السلف كتبهم بالتمسك بالنص والمعقول في حكم واحد ولم ينقل عن أحد في ذلك نكير فكان إجماعا على جوازه "وكثير" بل نقله الإمام الرازي عن الأكثرين ونقل في الكشف وغيره عن الشافعي جوازه سواء لم يثبت زيادة لم يتعرض لها النص وهو ظاهر كما ذكرنا أو أثبت لاحتمال النص زيادة البيان فيجوز التعليل لتحصيلها وأجيب بأن إثبات زيادة لم يتناولها النص بمنزلة النسخ فإن جميع الحكم في موضع النص كان ما أثبته النص وبعد الزيادة يصير بعضه والنسخ بالرأي غير جائز. وأما أنه لا(25/366)
ينص على حكم الفرع مخالفا لحكم الأصل فبالإجماع لأن إثبات حكم الأصل فيه نقض وإبطال للنص بالتعليل وهو باطل بالإجماع.
ومن شروط الفرع أيضا ما أشار إليه بقوله "و عدم المعارض الراجح والمساوي فيه" أي في الفرع "لعلة الأصل" وهذا هو المعارض بزنة اسم المفعول واشتمل على بيان ما به المعارضة قوله "بثبوت وصف فيه" أي في الفرع "يوجب غير ذلك الحكم فيه" أي في الفرع "إلحاقا بأصل آخر وإلا" أي وإن لم يشترط ذلك "ثبت حكم المرجوح في مقابلة الراجح" فيما إذا كان في الفرع معارض راجح يوجب فيه غير ذلك الحكم ويمتنع ثبوت حكم المرجوح مع وجود الراجح ولا فائدة للقياس إلا إثبات الحكم في الفرع "أو" ثبت "التحكم" فيما إذا كان فيه معارض مساو يوجب فيه غير ذلك الحكم وهو غير جائز أيضا وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي أما إذا لم يكن معارض أصلا أو كان فيه معارض مرجوح أمكن إثبات الحكم في الفرع فيفيد القياس. وكذا إذا كان فيه معارض مساو لعلة الأصل لأنه حينئذ يعمل بأحدهما بشهادة قلبه أو بالتخيير "وحقيقته" أي هذا الشرط "أنه شرط إثبات الحكم بالعلة لا شرط تحققها علة لأن وجوده" أي المعارض "لا يبطل شهادتها" أي العلة إذ المناسبة لا تزول(25/367)
ص -179-…بالمعارضة بل يتوقف مقتضاها كالشهادة إذا عورضت بشهادة فإن إحداهما لا تبطل الأخرى حتى إذا ترجحت إحداهما لم يحتج إلى إعادة الأخرى. "ومنها" أي شروط الفرع "لأبي هاشم كون حكمه" أي الفرع "ثابتا بالنص جملة والقياس لتفصيله كثبوت حد الخمر" من غير تقدير بعدد معين عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يفيده أحاديث في الصحيحين وغيرهما "فيتعين عدده" ثمانين "بالقياس على حد القذف" كما تقدم تخريجه عن علي وعبد الرحمن بن عوف في مسألة لا إجماع إلا عن مستند ويأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى في مسألة الحنفية لا يثبت به الحدود "ورد" اشتراط هذا "بأنهم قاسوا" قوله لزوجته "أنت علي حرام تارة على الطلاق فيقع وتارة على الظهار فالكفارة وعلى اليمين فإيلاء فيثبت حكمه" أي الإيلاء وهو الأصل في الفرع وهو أنت علي حرام "ولا نص في الفرع أصلا" لا جملة ولا تفصيلا ولا يعرى عن تأمل كما سيشير إليه ثم صرح ابن الحاجب في المختصر الكبير بأن المراد بالقائسين الأئمة والزركشي بأن المراد بهم الصحابة وكل منهما صحيح والثاني أبلغ لكن لم نقف على تصريح من أحد من الصحابة بأن مستنده فيما ذهب إليه من هذه الأقوال القياس اللهم إلا ابن عباس حيث ذكر أنه يمين كما سيذكر ذلك عنه نعم هذا هو الظاهر ولفظ ابن المنذر واختلفوا في الرجل يقول لامرأته أنت علي حرام فقالت طائفة الحرام ثلاث روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر وبه قال الحسن البصري والحكم ومالك وابن أبي ليلى وقالت طائفة عليه كفارة يمين روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وأبو ثور وفيه قول ثالث وهو أن عليه كفارة الظهار. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي قلابة وأحمد بن حنبل وفي هذا ما ترى من تعارض عن ابن عباس وابن جبير والحسن فلعل عن كل قولين وساق فيهما أقوالا أخر وذكر شيخنا الحافظ(25/368)
أن الأول رواه سعيد بن منصور عن علي بسند رجاله ثقات لكنه منقطع قلت وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما وذكر أيضا أنه صح عن ابن عمر أخرجه سعيد أيضا وبه قال زيد بن ثابت على اختلاف عنه والثاني في الصحيحين عن ابن عباس بلفظ إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] قال وبقول ابن عباس هذا قال جماعة من الصحابة وأكثر التابعين. وأما من قال هي ظهار فجاء عن ابن قلابة أحد التابعين ونسبه ابن حزم إلى ابن عباس وساق بسنده إلى إسماعيل القاضي في كتاب أحكام القرآن له بسند صحيح إلى ابن عباس قال إذا قال الرجل هذا الطعام حرام علي ثم أكله فعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وتعقبه شيخنا الحافظ بأن في تسمية هذا ظهارا نظرا فإن كفارة الظهار مرتبة وهذا ظاهره التخيير سلمنا لكن يحتمل أن يكون ابن عباس فرق بين تحريم المرأة وتحريم الطعام وهو أولى من جعله كلاما مختلفا والعلم عند الله تعالى ثم لعل وجه الأول أن الطلاق الثلاث نهاية التحريم فصرف مطلقه إليها والثاني ظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعالى:(25/369)
ص -180-…{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا ما تقدم الوعد به آنفا الثالث أنه مشابه لقوله أنت علي كظهر أمي في الحرمة وفي هذا القدر هنا كفاية "وليس منها" أي من شروط الفرع "كونه" أي الفرع "مقطوعا بوجود العلة فيه" بل ظن وجودها كاف كما أشار إليه بقوله "وكون المقدمات كلها مظنونة موجب شرعا" العمل "لا مانع" منه شرعا فلا يليق جعل انتفائه شرطا له شرعا والله سبحانه أعلم.
فصل في العلة(25/370)
هي "ما" أي وصف "شرع الحكم عنده" أي عند وجوده لا به "لحصول الحكمة جلب مصلحة" أي ما يكون لذة أو وسيلة إليها "أو تكميلها أو دفع مفسدة" أي ما يكون ألما أو وسيلة إليه "أو تقليلها" سواء كان ذلك نفسيا أو بدنيا دنيويا أو أخرويا وحاصله ما يكون مقصودا للعقلاء إذ العاقل إذا خير اختار حصول المصلحة ودفع المفسدة وما هو كذلك يصلح مقصودا قطعا "فلزم تعريفه" أي الوصف الذي شرع الحكم في المحل المنصوص عليه عنده للحكم الكائن في غير المحل المنصوص عليه لزوما عقليا بواسطة تساويهما فيه "فلزم" كونه معرفا للحكم في غير المحل المنصوص عليه "ظهوره وانضباطه" أي كونه ظاهرا منضبطا في نفسه أيضا "وإلا" إذا لم يكن كذلك بأن كان خفيا أو مضطربا "لا تعريف" أي لا يكون ذلك الوصف معرفا للحكم في غير المنصوص عليه "و" لزم "كونه" أي ذلك الوصف "مظنتها" أي الحكمة "أو" كونه "مظنة مظنة أمر تحصيل الحكمة من شرع الحكم الخاص معه" أي مع ذلك الأمر "أو" كونه "مظنة أمر لذلك" أي لأن تحصل الحكمة من شرع الحكم الخاص معه "فالسفر مظنة المشقة وشرع القصر" الذي هو الحكم مع السفر "يحصل مصلحة دفعها" أي المشقة فهذا مثال الأول "وصيغ العقود والمعاوضات مظنة الرضا بخروج مملوكيهما" أي المتعاقدين "إلى البدل" بأن صار المملوك لكل هو البدل عما كان في ملكه كالبيع "أو" بخروج مملوك "أحدهما" لا إلى بدل "وتحمل المنة من الآخر في الهبة وهو" أي الرضا المذكور "مظنة حاجتهما" أي المتعاقدين "إليه" أي إلى كل من الخروج من الطرفين أو من أحدهما والمنة من الآخر "فشرع الرضا سببا لملك البدل و" شرع "حله" أي البدل "معه" أي مع الرضا "لمصلحة دفعها" أي الحاجة المذكورة. "وهذا" أي كون ما شرع الحكم عنده لحصول الحكمة مظنة الحكمة إلخ "معنى اشتماله" أي الوصف "على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم" وإلا فنفس الوصف لا يكون مشتملا على ذلك إذ الإسكار الذي هو علة لحرمة الخمر مثلا ليس(25/371)
بمشتمل على حكمة مقصودة للشارع التي هي حفظ العقول من شرع الحكم الذي هو التحريم بل على ذهاب العقل ويصح أنه مظنة أمر يحصل الحكمة من شرع الحكم الذي هو التحريم معه "فحقيقة العلة" في العقود "الرضا" لأنه مظنة أمر هو الحاجة وتحصل الحكمة التي هي دفع الحاجة من شرع الحكم الخاص وهو ملك البدل وحله معه ولكنه خفي لأنه أمر قلبي لا اطلاع للناس عليه "وإذ خفي علق الحكم" وهو ملك البدل وحله "بالصيغة فهي" أي الصيغة "العلة اصطلاحا" لا حقيقة "وهي" أي الصيغة "دليل مظنة ما تحصل الحكمة معه بالحكم" إذ هي مظنة الرضا الذي هو مظنة الحاجة التي شرع الحكم الذي(25/372)
ص -181-…هو ملك البدل وحله معها لدفع الحاجة التي هي المصلحة "فظهر أن الرضا ليس الحكمة" في التجارة "كما قيل" قاله عضد الدين وهذا مثال الثالث "والقتل العمد العدوان مظنة انتشاره" أي العدوان "إن لم يشرع القصاص فوجب" القصاص "دفعا له" أي لانتشار العدوان وهذا مثال الثاني فاللف والنشر في المثل مشوش "وكون الوصف كذلك" أي شرع الحكم عنده لحصول الحكمة لأنه مظنتها إلخ "مناسبته" أي الوصف "وهو" أي الوصف "كذلك" أي شرع الحكم عنده إلخ "المناسب فهو" أي المناسب "ما قال أبو زيد ما" أي وصف "لو عرض على العقول" كونه علة لحكم "تلقته بالقبول" لصلاحيته لذلك الحكم المترتب عليه وفيه المعنى اللغوي يقال هذا الشيء مناسب لكذا أي ملائم له "وكون الشارع قضى بالحكم عنده" أي الوصف المذكور "للحكمة اعتباره" أي الشارع لذلك الوصف "ومعرفته" أي اعتبار الشارع لذلك الوصف "مسالك العلة" أي طرقها "وشرطها" أي كون العلة شرطا للحكم في نفس الأمر "تفضل" من الله الكريم "لا وجوب" عليه كما تقوله المعتزلة تعالى عن ذلك العزيز العليم. "وهذا" القول بأنها شرط تفضلا "ما يقال الأحكام مبنية على مصالح العباد دنيوية كما ذكر" من الترخيص بالرخص للمسافر ودفع الحاجة ودفع انتشار الفساد "وأخروية للعبادات" وهو الحصول على الثواب من الله الجواد الوهاب "وهو" أي كون الأحكام مبنية على مصالح العباد "وفاق بين النافين للطرد" أي القائلين بأن العلة لا تكون علة إلا بالمناسبة "وإن اختلف اسمه" أي التعبير عن هذا إذ منهم من يعبر عنه بأن أحكام الشارع مبنية على مصالح العباد ومنهم من يعبر عنه بأن أفعال البارئ سبحانه معللة بمصالح العباد أو معللة بالأغراض وهذا معزو إلى المعتزلة قال المصنف فلو قيل النزاع لفظي جاز "ومنع أكثر المتكلمين" ذلك "لظنهم لزوم استكماله في ذاته كمالا لم يكن" حاصلا له قبل تلك الأفعال على القول به "ذهول بل ذلك" أي اللزوم المذكور وإنما يكون "لو(25/373)
رجعت" المصالح والحكم المعبر عنها بالأغراض "إليه" تعالى. "أما" إذا رجعت "إلى غيره فممنوع" قال المصنف قوله ممنوع يشير إلى أنه على تقدير رجوعها إلى العباد أيضا التزموا مثل ذلك وهو إن راجعها إلى العباد يستلزم كمالا له فأجاب بمنع ذلك "بل هو" أي رجع المصالح إلى الفقراء "أثر كماله القديم" أي المتصف به أزلا لا كمال حادث له "ولا يخفى أن اللازم في المتجدد" من مصالح العباد "بتعلق الأحكام" أي بسبب تعلقها بهم "لازم في فواضله" وإنعاماته المختلفة الأنحاء "المتجددة" الذوات والاقتضاء المستمرة "في ممر الأيام على الأنام" إذ لا شك في أنها مصالح للعباد ابتداء لا بواسطة العباد فقد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال المصنف هذا إلزام على قولهم يلزم كمال له لم يكن فقال لو صح ما ذكرتم لزم مثله في المصالح الواصلة إلى العباد ابتداء لا بواسطة شرع الأحكام من إنزال المطر وإنبات الشجر والأقوات وإيصالات الراحات وما لا يحصى إلى من لا يحصى من العباد فكان يلزم منه تعالى أن لا يوجدها "فما هو جوابهم فيه" أي المانعين عن كون إفاضة هذا الجود من الجواد العظيم لمصالح العباد فهو "جوابنا" عن كون الأحكام مبنية على مصالح العباد أيضا ولا يمكن أن يقال إلا إرادة الإحسان إليهم وتعريفهم مظاهر فضله(25/374)
ص -182-…العظيم وكرمه العميم وبه نقول فيما نحن فيه "ولقد كثرت لوازم باطلة لكلامهم" كما يعرف في فن الكلام فلا يعول عليها ومن ثمة قال المحقق التفتازاني والحق أن تعليل بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة: 32] الآية {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الآية ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم. وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله من غرض فمحل بحث قال المصنف "الأقرب" إلى تحقيق العقلاء "أنه" أي هذا الخلاف "لفظي مبني على معنى الغرض" فمن سبق إليه أنه المنفعة العائدة إلى الفاعل قال لا تعلل بالغرض ومريد هذا بالغرض لا يخالفه على نفيه عن أفعاله تعالى وأحكامه التكليفية أحد من المسلمين فضلا عن نحارير العلماء المتبحرين ومن سبق إليه أنه الفائدة العائدة إلى العباد قال إن أفعاله وأحكامه تعلل بها ومريد هذا أن لا يظن أن أحدا من العقلاء لا يخالفه في كون الواقع كذلك ومن خالفه فقد ناقض نفسه بنفسه حيث يقول المناسبة من مسالك العلة "أو" أنه "غلط من اشتباه الحكم بالفعل فاذكر ما قدمناه" في فصل الحاكم "من أنه" عز وجل "غير مختار فيه" أي في الحكم لأنه إذا كان قديما عندنا وعند الأشاعرة كيف يكون اختياريا "بخلاف الفعل" فإنه مختار فيه تعالى فمن قال إن الفعل لا يعلل بالغرض اشتبه عليه الفعل بالحكم ومن قال الحكم بعلل اشتبه عليه الحكم بالفعل "غير أن اتصافه" أي البارئ تعالى "بأقصى ما يمكن من الكمالات موجب لموافقة حكمه للحكمة بمعنى أن لا يقع إلا كذلك" أي على الوجه الموافق للحكمة فعلى(25/375)
هذا الكل واقع للحكمة فلا أثر لهذا الاشتباه فإذن الأول أقرب والله تعالى أعلم.
"وإذ لزم فيها" أي العلة "المناسبة بطلت الطردية" أي كونها غير وصف مناسب ولا شبيه به بل هي محض كونها معرفة للحكم "لأن علية الوصف" للحكم "حكم" خبري "نظري يتعلق حكمه" تعالى "عنده" أي عند ذلك الوصف "وهي" أي الطردية إناطة الحكم بها قول "بلا دليل فبطلت وما قيل" وقائله ابن الحاجب من أن بطلان العلل الطردية "للدور لأنها" أي الطردية "حينئذ" أي حين كونها طردية "أمارة مجردة لا فائدة لها إلا تعريف الحكم" للأصل "فتوقف" الحكم عليها "وكونها مستنبطة منه" أي الحكم "يوجب توقفها عليه" أي الحكم "مدفوع بأن المعرف لحكم الأصل النص وهي" أي الطردية معرفة "أفراد الأصل فيعرف حكمها" أي أفراد الأصل "بواسطة ذلك" أي عرفان أفراد الأصل "مثلا معرف حرمة الخمر النص والإسكار" الذي هو العلة المستنبطة من حرمته "يعرف" الجزئي "المشاهد أنه منها" أي من أفراد الأصل "فيعرف حرمته" أي الأصل "فيه" أي في المشاهد "فلا دور ثم ليس" تعريفها لأفراد الأصل أمرا "كليا بل" إنما هو "فيما" أي أصل "له لازم ظاهر خاص كرائحة المشتد أن لم يشركها" أي الخمر "فيها" أي الرائحة "غيرها" أي غير الخمر "وإلا فتعريف الإسكار بنفسه لا يتحقق(25/376)
ص -183-…إلا بشرب المشاهد" لأن هذا اللازم غير ظاهر والشرب طريق معرفته فتتوقف حرمته على شربه "وهو" أي وتوقفها عليه "باطل" بالإجماع "وكونه الإسكار طردا" إنما هو "على" قول "الحنفية" لأن حرمة الخمر عندهم لعينها "وعلى" قوله "غيرهم هو" أي كون الإسكار طردا "مثال" لذلك، "والكلام في تقسيمها" أي العلة "وشروطها وطرق معرفتها" أي الطرق الدالة على أن الوصف معتبر في نظر الشارع علة "في مراصد" ثلاثة:
[تقسيم العلة](25/377)
"المرصد الأول" في تقسيمها "تنقسم" العلة "بحسب المقاصد و" بحسب "الإفضاء إليها" أي إلى المقاصد "و" بحسب "اعتبار الشارع" لها علة "فالأول" أي انقسامها بحسب المقاصد "وهو" أي هذا الانقسام "بالذات للمقاصد ويستتبعه" أي هذا الانقسام لها بحسب المقاصد انقسامها "وهي" أي المقاصد التي تدل على اعتبار الوصف "ضرورية" وهي ما انتهت الحاجة فيها إلى حد الضرورة ثم "لم تهدر في ملة" من الملل السالفة بل روعيت فيها لكونها من المهمات التي نظام العالم مرتبط بها ولا يبقى النوع مستقيم الأحوال بدونها وهي خمسة "حفظ الدين بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى البدع" وقد نبه الله تعالى على ذلك {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية "وقد يوجه للحنفية أنه" أي وجوب الجهاد "لكونهم" أي الكفار "حربا علينا لا لكفرهم ولذا" أي كون العلة كونهم حربا علينا "لا تقتل المرأة والرهبان" إذا لم يزيدوا على الكفر بسلطنة أو قتال أو رأي فيه أو حث عليه بمال أو مطلقا لانتفاء الحرابة "وقبلت الجزية" من باذليها ممن هو أهل لها "ولزمت المهادنة" أي المصالحة إذا احتيج إليها لانتفاء حرابهم مع وجود كفرهم "ولا ينافيه" أي وجوب الجهاد لكونهم حربا علينا وجوبه لحفظ الدين فإن من الظاهر أن المقصود من حفظ الدين لا يتم مع حرابتهم فإنها مفضية لقتل المسلم أو لفتنته عن دين الإسلام فكونه واجبا لحفظ الدين هو معنى وجوبه لحرابتهم فلا خلاف في المعنى وإنما ينافيه لو كان وجوبه لمجرد الكفر فإن عليه يكون ما قالته الحنفية أخص ثم أوجه للإجماع على عدم قتل الذمي والمستأمن ومن لا يحارب من صبي وامرأة وغيرهما "و" حفظ "النفس بالقصاص" كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وتضافر عليه مع الكتاب السنة والإجماع. "و" حفظ "العقل بكل من حرمة المسكر" الثابتة بالكتاب والإجماع "وحده" أي المسكر الثابت بالسنة والإجماع "و" حفظ "النسب(25/378)
بكل من حرمة الزنا" بالكتاب والسنة والإجماع "وحده" الذي هو الجلد بهذه أيضا والذي هو الرجم بالسنة والإجماع لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضي إلى انقطاع التعهد من الآباء المفضي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود "و" حفظ "المال بعقوبة السارق والمحارب" بالكتاب والسنة والإجماع وتسمى هذه بالكليات الخمس وكل منها دون ما قبله وحصر المقاصد في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء وزاد الطوفي والسبكي حفظ العرض بحد القذف "ويلحق به" أي بالضروري "مكمله من حرمة قليل الخمر المسكر وحده" أي حد قليلها إذ قليلها لا يزيل(25/379)
ص -184-…العقل وحفظ العقل حاصل بتحريم السكر والحد عليه لكنه حرم للتتميم والتكميل "إذ كان" قليلها "يدعو إلى كثيره" أي الخمر بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه وذكرها أما كما هو لغة فيها أو باعتبار المسكر "فيزيل" كثيرها "العقل فتحريم كل داعية" إلى محرم "مقتضى الدليل ثبت الشرع على وفقه" أي مقتضى الدليل "في الاعتكاف والحج" فحرمت دواعي الجماع فيهما كما حرم نفس الجماع "وعلى خلافه" أي وثبت الشرع على خلاف مقتضى الدليل "في الصوم" فلم تحرم دواعي الجماع فيه كما حرم الجماع ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم. إلى غير ذلك وإنما يكره إذا لم يأمن على نفسه "ولم يثبت" الشرع على خلاف مقتضى الدليل "في الظهار فتحريم الحنفية إياها" أي الدواعي "فيه" أي في الظهار "على وفقه" أي مقتضى الدليل. "وهذا" المقصود الضروري والملحق به المكمل له هو "المناسب الحقيقي ودونها" أي الضرورية مقاصد "حاجية" وهي التي لم تنته الحاجة إليها إلى حد الضرورة "شرع" الحكم "لها" أي للحاجة إليها "نحو البيع" لملك العين بعوض مال "والإجارة" لملك المنفعة بعوض مال "والقراض" للشركة في الربح بمال من واحد وعمل فيه من آخر "والمساقاة" لدفع الشجر إلى من يعمل فيه بجزء من ثمره "فإنها" أي هذه المشروعات "لو لم تشرع لم يلزم فوات شيء من الضروريات" الخمس "إلا قليلا كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته وشراء المطعوم والملبوس للعجز عن الاستقلال بالتسبب في وجودها" أي هذه الأشياء فاحتيج "إلى دفع حاجته" أي المحتاج إليها "بها" أي بهذه العقود فهذه المستثنيات من قبيل الضروري لحفظ النفس لأن الهلاك قد يحصل بتركها فلا جرم أن عدها الآمدي منه "فالتسمية" أي إطلاق الحاجي على هذه المشروعات "باعتبار الأغلب" فإن غالب الشراءات والإجازات محتاج إليه لا ضروري فدعوى إمام الحرمين أن البيع ضروري لم يوافق عليها "ومكملها" أي(25/380)
ودون الضرورية أيضا مقصود حاجي لكن لا في نفسه بل مكمل الحاجي في نفسه "كوجوب رعاية الكفارة ومهر المثل على الولي في" تزويج موليته "الصغيرة" فإن أصل المقصود من شرع النكاح. وإن كان حاصلا بدونها لكنهما أشد إفضاء إلى دوام النكاح وإتمام الألفة والازدواج بينهما ودوامه من مكملات مقصوده فوجب رعايتهما "إلا لدلالة عند أبي حنيفة وحده على حصول المقصود دونها" أي رعايتها "كتزويج أبيها" أي الصغيرة أو جدها الصحيح إياها "من عبد وبأقل" من مهر مثلها وكل منهما غير معروف بسوء الاختيار ولا بالمجانة والفسق وهذه الدلالة قرب القرابة الخاصة وهي الداعية إلى وفور الشفعة مع كمال الرأي ظاهرا فإن من قام به هذا لا يترك كلا منهما ظاهرا إلا لمصلحة تربو على كليهما ولما كان النظر لها في ذلك باطنا وهذا دليله اعتبر دليله وعلق الحكم عليه بخلاف غيرهما من العصبات ومن الأم لقصور الشفقة في العصبات ونقصان الرأي في الأم "وهذا" أي هذا القسم المشتمل على الحاجي وتكمله "المناسب المصلحي وغير الحاجي تحسيني" أي من قبيل رعاية أحسن المناهج في محاسن العادات "كحرمة القاذورات حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة" ونبينا صلى الله عليه وسلم موصوف(25/381)
ص -185-…بتشريع ذلك فقال تعالى في وصفه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: 157] وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم "وكسلب العبد" وإن كان ذا دين يغلب ظن صدقه "أهلية الولاية من الشهادة والقضاء وغيرهما" كالإمامة الكبرى لانحطاط رتبته عن الحر لكونه مستسخرا للمالك مشغولا بخدمته فلا يليق به المناصب الشريفة وإن لم يتعلق به ضرورة ولا حاجة ولا تكميل لإحداهما بل إجراء للناس على ما ألفوه من العادات المستحسنة في ذلك فإن السيد إذا كان له عبد ذو فضائل وآخر دونه فيها استحسن عرفا أن يفوض العمل إليهما بحسب فضيلتهما فيجعل الأفضل للأفضل وإن كان كل منهما يمكنه القيام بما يقوم به الآخر.(25/382)
"الثاني" انقسامها بحسب الإفضاء وأقسامه "خمسة لأن حصول المقصود" من شرع الشارع الحكم عند الوصف لجلب مصلحة للعبد أو دفع مفسدة عنه أو لكليهما تحصيلا لأصل المقصود أو تكميلا له في الدنيا أو جلبا للثواب أو دفعا للعقاب في الأخرى "أما" أن يكون "يقينا كالبيع" الصحيح "للحل" أي لثبوت الملك في البدلين حلالا للمالك فإنه يحصل منه يقينا "أو ظنا كالقصاص للانزجار" عن القتل العمد العدوان فإن المقصود من شرعيته صيانة النفوس المعصومة عن الهلاك وهذا يحصل ظنا منه "لا لأكثرية الممتنعين عنه" أي عن القتل العمد العدوان بالنسبة إلى المقدمين عليه "والاتفاق" ثابت "عليهما" أي على هذين القسمين "أو شكا أو وهما" وهذان فيهما خلاف "والمختار فيهما الاعتبار" ثم ما يساوي فيه حصوله ونفيه لا مثال له في الشرع على التحقيق بل على التقريب "كحد الخمر" فإنه شرع "للزجر" عن شربها لحفظ العقل "وقد ثبت" حدها "مع الشك فيه" أي في الانزجار عن شربها به لأن استدعاء الطباع شربها يقاوم خوف عقاب الحد وعدم الممتنع والمقدم متقاربان ولا قطع عادة لغلبة أحدهما واعترض بأن ذلك إنما هو للتسامح في إقامة الحدود. وأما مع إقامتها فلا ونحن إنما نعتبر كونه مفضيا إلى المقصود أولا على تقدير رعاية المشروع لا بمجرد التشريع وتعقب بأنا لو فرضنا رعاية المشروع لكان استيفاء حد الخمر أقل منعا للشاربين من استيفاء القصاص للقاتلين إذ لا يخفى أن الخوف من إزهاق النفس أعظم من خوف ثمانين جلدة "ورخصة السفر" شرعت "للمشقة والنكاح" شرع "للنسل" كما يشير إليه ما أخرج أحمد وابن حبان عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" وقد "جازا" أي الترخص المذكور والنكاح "مع ظن العدم" لكل من المشقة والنسل "في" سفر "ملك مرفه" يسار به على المحفة في اليوم مقدارا لا يصيبه فيه نصب ولا ظمأ ولا مخمصة بل(25/383)
يتنعم فيه أكثر مما يكون في الإقامة. "و" نكاح "آيسة فعلم أن المعتبر" في كون الوصف علة في إفضائه للحكم "الحصول في جنس الوصف لا في كل جزئي ولا" في "أكثرها" أي الجزئيات "أو" يكون "يقين العدم كإلحاق ولد مغربية بمشرقي" تزوج بها وقد "علم عدم تلاقيهما جعلا للعقد مظنة حصول النطفة في الرحم ووجوب الاستبراء" المجعول مظنة لبراءة الرحم(25/384)
ص -187-…اهتمام الشارع برعاية المصالح وابتناء الأحكام عليها فلم تهمل" المصلحة "مرجوحة على الاتفاق" أي فلم يقع الاتفاق على عدم اعتبار المصلحة إذ كانت مرجوحة بل كانت على الخلاف.
"وأما الثالث" أي انقسامها بحسب اعتبار الشارع ذلك الوصف علة "فإذا كان القصد اصطلاح المذهبين" للحنفية والشافعية "فاختلف طرق الشافعية من الغزالي وشيخه" إمام الحرمين "والرازي والآمدي اقتصرنا على" الطرق "الشهيرة المثبتة والمناسب بذلك الاعتبار" أي اعتبار الشارع الوصف علة أربعة "مؤثر وملائم وغريب ومرسل فالمؤثر ما" أي وصف "اعتبر عينه في عين الحكم بنص" من كتاب أو سنة "كالحدث بالمس" أي بمس الذكر فإن عين المس معتبرة في عين الحدث بما تقدم تخريجه في مسألة خبر الواحد فيما عم به البلوى من قوله صلى الله عليه وسلم "من مس ذكره فليتوضأ" "وعلى" قول "الحنفية سقوط نجاسة الهرة بالطوف" فإن عين الطوف معتبرة في عين سقوط نجاسة الهرة بقوله صلى الله عليه وسلم "أنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي حسن صحيح "فتعدى" سقوط النجاسة "إلى الفأرة" بعين الوصف المذكور وهو الطوف "والأوضح" في التمثيل "السكر في الحرمة" فإن عين السكر معتبر في عين التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه ثم عطف على نص "أو إجماع كولاية المال بالصغر" فإن عين الصغر معتبر في عين الولاية بالإجماع. "وقد يقال" بدل ما اعتبر عينه في عين الحكم ما اعتبر "نوعه" في نوع الحكم كما قال صدر الشريعة "نفيا لتوهم اعتباره" أي الوصف "مضافا لمحل" كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة المخصوصة بها فيكون للخصوصية مدخل في العلية وليس كذلك وإنما سمي هذا بالمؤثر لظهور تأثيره في الحكم بالنص أو الإجماع ثم المراد بثبوته ثبوته بالاتفاق لذكر المرسل في مقابله وهو من الدلائل المختلف فيها وقيد بالنص أو(25/385)
الإجماع لأن ما ثبت به أمر شرع من غير اختلاف منحصر في الكتاب والسنة والإجماع والقياس غير أن القياس لم يعتبر هنا لأنه قياس في الأسباب "والملائم ما" أي وصف "ثبت" عينه "معه" أي مع عين الحكم "في الأصل" بمجرد ترتيب الحكم على وفقه "مع ثبوته اعتبار عينه" أي الوصف المذكور "في جنس الحكم بنص أو إجماع أو قلبه" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في عين الحكم وسمي ملائما لكونه موافقا لما اعتبره الشرع "أو" الوصف المذكور مع ثبوت "جنسه" أي الوصف "في جنسه" أي الحكم. "فالأول" أي الوصف الثابت عينه في عين الحكم في الأصل بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عينه في حكم الجنس "كالصغر في حمل إنكاحها على مالها في ولاية الأب" أي ككون الصغر وصفا ملائما لترتيب ثبوت ولاية الأب لإنكاح الصغيرة عليه كما يترتب ثبوت ولاية الأب على ما لها عليه "فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع لاعتباره" أي الصغر "في ولاية المال" لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية بخلاف اعتباره في غير ولاية النكاح فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب(25/386)
ص -188-…الحكم على وفقه حيث تثبت الولاية معه في الجملة بأن وقع الاختلاف في أنه للصغر أو للبكارة أو لهما جميعا ثم لما كان في كون هذا مثالا للملائم نظر لأنه لم يعتبر فيه أولا عين الوصف في عين الحكم بابتداء جعل عين الوصف مؤثرا في جنس الحكم فسقط الأصل منه فلا يتم كونه مثالا له بل هو مثال للمؤثر قال "وصواب المثال للحنفية الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية الإنكاح بالصغر" أي ثبوت ولاية إنكاح الأب الثيب الصغيرة قياسا على ثبوت ولاية إنكاحه البكر الصغيرة بجامع الصغر "وعينه" أي الصغر اعتبر "في جنسها" أي الولاية "لاعتباره" أي الصغر "إلخ" أي في جنس الولاية باعتباره في ولاية المال لثبوتها له فيه بالإجماع "لأن إثبات اعتباره" أي الوصف علة "بنص أو إجماع في الجنس" إنما هو "بإظهاره" أي اعتبار "في" محل "آخر لا في عين حكم الأصل لأن ذلك" أي اعتباره في عين حكم الأصل هو "المؤثر" لا الملائم وحينئذ فلا تعدد بينهما والواقع خلافه كما يشهد به التقسيم فإنهما قسيمان والقسيم مخالف للقسيم وهذا ظاهر فيما ذكرنا أنه الصواب في المثال فإن فيه ظهرت ثلاثة محال الأصل وهو نكاح البكر والفرع وهو نكاح الثيب ومحل الجنس وهو المال. وقد ظهر من هذا أيضا أن ليس المراد من الجنس الجنس المجرد من حيث هو بل ما ظهر في جزئي غير الجزئي الذي هو الأصل فليتأمل.(25/387)
"والثاني" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في عين الحكم ثابت "في حمل الحضر حالة المطر على السفر في الجمع بعذر المطر" أي في قياس الحضر حالة المطر على السفر في حكم هو جواز الجمع بين المكتوبتين بوصف عذر المطر "وجنسه" أي عذر المطر "الحرج" أي الضيق يؤثر "في عين رخصة الجمع" في الحضر "بالنص على اعتباره" أي الجنس الذي هو الحرج "في عين الجمع" في السفر إذ الحرج جنس يجمع الحاصل بالسفر وهو خوف الضلال والانقطاع وبالمطر وهو التأذي به ثم كان مرادهم بالنص على اعتبار جنسه ما تعطيه قوة سياق ما في الصحيحين عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. إلى غير ذلك "أما حرج السفر فبالثبوت معه فقط" أي إنما اعتبر عين حرج السفر في الحكم الذي هو الجمع بمجرد ترتب الحكم على وفقه إذ لا نص ولا إجماع على علة نفس حرج السفر ذكره الشيخ سعد الدين التفتازاني وغيره. قلت ويطرقه ما ذكرناه آنفا فليتأمل.
هذا وقد قال المصنف "والحق أن المضاف هو محل النص" أي أن المعتبر في حكم الأصل هو المضاف إلى السفر يعني حرج السفر ولذا نيط بعين السفر "فلا يتعدى" حكم الأصل إلى غيره ضرورة أن المحل جزء من المعتبر في حكمه "لا" أن محل النص هو الحرج "المطلق" عن الإضافة "وإلا تعدى" هذا الحكم الذي هو جواز الجمع "إلى ذي الصنعة الشاقة لوجود الحرج واللازم باطل ولم يحتج إلى الإناطة بالسفر" بل كان يضاف إلى الجرح مطلقا "إذ لا خفاء في" الجرح "المطلق" ولا في انضباطه أعني ما يطلق عليه حرج "كالإسكار في(25/388)
ص -189-…الخمر" والإناطة بالسفر ليس إلا لعدم انضباط ما هو العلة بالحقيقة وإذا ثبت أن حكم الأصل إنما أنيط بالحرج المضاف إلى السفر لم يتعد إلى الحضر في المطر فلا يصح أن يكون مثالا للملائم الذي اعتبر صحة جنس الوصف فيه في عين الحكم "وأيضا فذلك" أي دلالة ثبوت الجنس في العين على صحة اعتبار العين الموجودة إنما يكون "بعد ثبوت العين في المحلين" الأصل والفرع كالصغر في المثال السابق "وليس المطر" الذي هو العين هنا "في الأصل" الذي هو السفر وإنما هو في الفرع فقط وهو الحضر فلا يفيد اعتبار جنسية الحرج في عين رخصة الجمع عليه المطر لجواز الجمع. قلت على أن هذا مثال تقديري أيضا على قول من جوز الجمع بينهما بلا عذر في الحضر بشرط أن لا يتخذ عادة وممن نقل عنه هذا ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر خلافا لعامة العلماء تمسكا بما عن ابن عباس جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس لم فعل ذلك قال أراد أن لا تحرج أمته. رواه مسلم وغيره فليتأمل "ولبعض الحنفية" كصاحب البديع وصدر الشريعة في التمثيل الثاني "كاعتبار جنس المضمضة المومأ إليها في عدم إفسادها الصوم" في حديث عمر رضي الله عنه حيث قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم ثم قال "أرأيت لو مضمضت بالماء وأنت صائم" قلت لا بأس قال "فمه" رواه أبو داود قال النووي بإسناد صحيح على شرط مسلم. وقال الحاكم على شرط الشيخين وقال شيخنا الحافظ رجاله رجال الصحيح إلا عبد الملك بن سعيد وقد وثقه بعضهم وتوقف فيه بعضهم وأشار البزار إلى أنه انفرد به واستنكره أحمد والنسائي انتهى وبالجملة هو حديث حسن كما وصفه به شيخنا الحافظ ومعنى فمه أي فما الفرق بينهما فإن الوصف الذي هو المضمضة اعتبر في عين الحكم الذي هو عدم الإفساد وهو غير منصوص ولا مجمع عليه(25/389)
بل اعتبر جنسه "وهو" أي جنسه "عدم دخول شيء إلى الجوف" في غير ذلك الحكم وتعقبه المصنف بقوله "وليس هذا مما نحن فيه وهو" أي ما نحن فيه "العلة بمعنى الباعث بل الانتفاء" للإفساد "لانتفاء ضد الركن" للصوم وهو أعني ضده دخول شيء إلى الجوف "مع أنه" أي هذا "من العين" أي اعتبار عين الوصف وهو عدم دخول شيء إلى الجوف "في العين" أي عين الحكم وهو عدم إفساد الصوم فهو من مثل المؤثر.
"والثالث" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في جنس الحكم "كالقتل بالمثقل" أي كقياسه "عليه" أي على القتل "بالمحدد" في الحكم الذي هو القتل "بالقتل العمد العدوان" أي بهذا الجامع كما عليه أبو يوسف ومحمد والشافعي وغيرهم "وجنسه" أي القتل العمد العدوان "الجناية على البنية" للإنسان وقد اعتبر "في جنس" أي جنس هذا الحكم أي "القصاص" كذا ذكر غير واحد قال المصنف "وليس" من هذا القبيل "فإنه من المؤثر" لأن الوصف الذي هو القتل العمد العدوان في حكم الأصل الذي هو القتل به ثابت بالنص والإجماع. وأما وجه التفتازاني كونه من الملائم دون المؤثر بتوجيه غير وجيه أشار المصنف(25/390)
ص -190-…إليه أولا بقوله "فقيل لا نص ولا إجماع على أن العلة" في الأصل "القتل وحده أو" القتل "مع قيد كونه بالمحدد" وإلى دفعه ثانيا بقوله "ولو صح" هذا الكلام "لزم انتفاء المؤثر لتأتيه" أي مثل هذا "في كل وصف منصوص بالنسبة إلى قيد بفرض" وهو أن الوصف المنصوص عليه هو المناط وحده أو مع ذلك القيد الذي يفرض "فإن قيل إنما قلنا" ذلك أي أن الوصف يحتمل أن يكون هو المناط وحده أو مع القيد الذي يبديه الناظر فلا يكون ذلك الوصف معتبرا بالنص في ذلك المحل "إذا قال بالقيد" الذي يفرض "مجتهد وليس" هذا بمتأت "في الكل" أي في كل أمثلة المؤثر "قلنا إن سلم" أن إبداء قيد يفرض إنما يمنع كون الوصف لا مع ذلك القيد منصوصا عليه بواسطة احتمال أن يكون المناط إياه مع ذلك القيد بشرط أن يكون قال بذلك القيد مجتهد "فمنتف" أي فهذا الشرط منتف "في المثال" المذكور "فإن أبا حنيفة لم يعتبر في العلة" أي في كون القتل علة للقصاص "سواه" أي القتل العمد العدوان "غير أنه" أي أبا حنيفة "يقول انتفت العلة" في القتل بالمثقل "بانتفاء دليل العمدية" وهو القتل بما لا يلبث مما يفرق الأجزاء لأن العمدية أمر باطن واستعمال الآلة المفرقة للأجزاء دليل ظاهر على ذلك القصد فأقيم مقام الوقوف على حقيقة القصد بخلاف استعمال غيرها مما لا يفرق الأجزاء بل يرضها فالإجماع حينئذ على أن القتل العمد العدوان علة للقصاص أيضا كالنص وإنما وقع الخلاف فيما يدل على العمدية فليتأمل "ولبعض الحنفية" أي صدر الشريعة في التمثيل للثالث "الطوف في طهارة سؤر الهرة" اعتبر جنسه "وجنسه" أي الطوف "لضرورة أي الحرج في جنسه" أي الحكم الذي هو الطهارة أي "التخفيف". قال المصنف "وهو" أي هذا إنما يتم "على تقدير عدم النص عليه" أي على عين الوصف الذي هو الطوف وليس كذلك فهو "كالذي قبله" من أنه من قبيل المؤثر كما ذكر أولا "والغريب ما" أي وصف "لم يثبت" فيه "سوى العين" أي سوى اعتبار الشارع(25/391)
عينه "مع العين" أي عين الحكم بترتيب الحكم عليه فقط "في المحل كالفعل المحرم لغرض فاسد في حرمان القاتل" الإرث من مقتوله فإن هذا الوصف أعني الفعل المحرم "ثبت" الحكم وهو حرمان القاتل "معه" أي الوصف المذكور "في الأصل" أي قتل الوارث مورثه "ولا نص ولا إجماع على اعتبار عينه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم "أو" على اعتبار "جنسه" أي الوصف المذكور "في أحدهما" أي عين الحكم أو جنسه "ليلحق به" أي بالفعل فعلا محرما لغرض فاسد "الفار" من توريث زوجته منه بطلاقها في مرض موته إذا مات وهي في العدة فيعامل بنقيض مطلوبه كما هناك ثم قد كان في النسخة مكان ثبت معه في الأصل ثبت معه في الجملة فقال هنا بناء على ذلك "وقولنا في الجملة لأنه" أي الوصف الذي هو الفعل المحروم "قد ثبت مع عدمه" أي عدم الحكم وهو الحرمان "فيما لم يقصد المال" أي أخذه بذلك الفعل وهو ما إذا كان القاتل أجنبيا وليس بزوج ولا زوجة فإن حرمان الإرث فرع ما إذا كان بحيث يرث منه "وبالثبوت" أي ثبوت الوصف مع عدم الحكم "بعد ما قيل" أي ما قاله غير واحد أن هذا "إنما هو مثال غريب المرسل" الذي لم(25/392)
ص -191-…يظهر إلغاؤه ولا اعتباره كما سيتضح قريبا وحيث كان ذاكرا وجه التقييد به وما يترتب عليه فإذن لا بد من إثباته.
"واعلم أنه يمكن في الأصل اعتباران القتل" في الوصف "والحرمان" في الحكم "فيكون" الوصف مناسبا "مؤثرا" في الحكم. فإن عين الوصف اعتبر في عين الحكم بنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل شيئا" رواه أبو داود وغيره مرسلا "أو المحرم" في الوصف "ونقيض قصده" أي الفاعل في الحكم "ويتعين" هذا الاعتبار الثاني "في المثال وإلا" لو لم يعتبر فيه "اختلف الحكم فيهما" أي الأصل والفرع "إذ هو" أي الحكم "في الأصل عدم الميراث والفرع الميراث" فلا يكون من قياس الدلالة "فإن لم يثبت" الوصف مع الحكم "أصلا فالمرسل وينقسم" المرسل "إلى ما علم إلغاؤه" أي ذلك الوصف "كصوم الملك عن كفارته لمشقته" أي الصوم عليه "بخلاف إعتاقه" فإنه سهل عليه فإن إيجاب الصيام عليه مع قدرته على الإعتاق مخالف للنص فهذا القسم المرسل المعلوم الإلغاء "وما لم يعلم" إلغاؤه "ولم يعلم اعتبار جنسه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم المذكور "أو" لم يعلم اعتبار "عينه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم المذكور "أو" لم يعلم اعتبار "قلبه" أي جنس الوصف المذكور في عين الحكم المذكور "وهو" أي هذا القسم الثاني "الغريب المرسل وهما" أي هذان القسمان "مردودان اتفاقا وأنكر على يحيى بن يحيى" تلميذ الإمام مالك "إفتاؤه" بعض ملوك المغرب في كفارة "بالأول" أي بحكم ما علم إلغاؤه وهو الصوم "بخلاف الحنفي" أي إفتاء من أفتى من الحنفية عيسى بن ماهان ولي خراسان في كفارة يمين بالصوم "معللا" تعين الصوم عليه "بفقره لتبعاته" أي لأن ما عليه من التبعات فوق ما له من الأموال فكفارته كفارة يمين من لا يملك شيئا "وهو" أي هذا التعليل "ثاني تعليلي يحيى بن يحيى حكاهما بعض المالكية" المتأخرين وهو ابن عرفة "عنه" أي عن يحيى بن يحيى فإنه تعليل متجه ليس من قبيل(25/393)
المناسب المعلوم الإلغاء فليكن المعول عليه والأول علاوة فلا يضر بطلانه "وما علم اعتبار أحدها" أي جنسه في جنسه أو عينه في جنسه أو جنسه في عينه "وهو" أي هذا القسم الثالث "المرسل الملائم وعن الشافعي ومالك قبوله" أي هذا القسم وذكر الأبهري أنه لم يثبت عنهما والسبكي أن الذي صح عن مالك اعتبار جنس المصالح مطلقا. وأما الشافعي فإنه لا ينتهي إلى مقالة مالك ولا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول تارة في الشريعة وإمام الحرمين يختار نحو ذلك.
"وشرط الغزالي" في قبوله ثلاثة شروط "كون مصلحته" أي هذا القسم "ضرورية قطعية أي ظنا يقرب منه" وإنما فسره به مع أن في المستصفى وغيره الظن القريب نازل منزلة القطع لأن القطع بها في المثال الآتي ممنوع كما يعلم "كلية" كما لو تترس الكفار بأسرى المسلمين في حربهم وعلمنا أنا إن لم نرم الترس استأصلوا المسلمين المتترس بهم(25/394)
ص -192-…وغيرهم بالقتل وإن رمينا الترس سلم أكثر المسلمين فيجوز رميهم وإن كان فيهم قتل مسلم بلا ذنب لحفظ باقي الأمة لأنه أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نقطع أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان ونحن إن لم نقدر في هذه الصورة على الحسم فقد قدرنا على التقليل فكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة ولكن يحصل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية لتعلقها بحفظ الدين والنفس قطعية أي ظنية ظنا قريبا من القطع كما هو الظاهر لجواز دفعهم عن المسلمين بغير رميهم كلية لتعلقها ببيضة الإسلام لا أنها مختصة ببعض منه وإنما وجب قبوله عند وجود هذه الشرائط لأنه لو لم يقبل يلزم الإخلال بما هو مقصود ضروري في الشرع وهو حفظ الدين والنفس عموما. ومن المعلوم قطعا أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي وأن حفظ أهل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد والدليل أن الترس المذكور من الملائم أنه لم يوجد اعتبار الشارع الجنس القريب لهذا الوصف في الجنس القريب لهذا الحكم إذ لم يعلم في الشرع إباحة قتل المسلم بغير حق بعلة من العلل لكنه اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم فإنه وجد اعتبار الضرورة في الرخصة في استباحة المحرمات واعترض بأن هذا اعتبار للجنس الأبعد من الوصف أعني الأعم من ضرورة حفظ النفس وهو مطلق الضرورة والأبعد غير كاف في الملاءمة بل يجب أن يكون البعيد هنا الوصف الذي هو أعم من ضرورة حفظ النفس فضلا عن مطلق الضرورة وأجيب بمنع أن المعتبر هنا الوصف الذي هو أعم من ضرورة حفظ النفس بل المعتبر هنا الأخص منها وهو غير ظاهر وفي التلويح فالأولى أن يقال اعتبر الشرع حصول المنع الكثير في تحمل الضرر اليسير وجميع التكاليف الشرعية مبنية على ذلك هذا وتحقيق هذه الشروط في غاية الندرة بل يمتنع(25/395)
لأن الاطلاع عليها إنما يكون بغالب الرأي لأنه أمر مغيب عنا لا باليقين فلا يجوز بناء الحكم عليه فإن الحكم إنما يدار على وصف ظاهر منضبط "فلا يرمى المتترسون بالمسلمين لفتح حصن" لأن فتحه ليس ضروريا "ولا" يرمى المتترسون بالمسلمين "لظن استئصال المسلمين" ظنا بعيدا من القطع لانتفاء القطع وما يقرب منه "ولا يرمى بعض أهل السفينة لنجاة بعض" لأنهم ليسوا كل الأمة مع ما فيه من الترجيح بلا مرجح واحتمال كون المصلحة في بقاء من أبقى "وهو" أي هذا القسم "المسمى بالمصالح المرسلة" لإرسالها أي إطلاقها عما يدل على اعتبارها أو إلغائها شرعا "والمختار" عند أكثر العلماء "رده" مطلقا "إذ لا دليل على الاعتبار" أي اعتبار الشارع إياه "وهو" أي هذا القسم إذا قيل به "دليل شرعي فوجب رده" فانتفى تخصيص رده بكونه في العبادات لأنه لا نظر فيها للمصلحة بخلاف غيرها كالبيع والحد "قالوا" أي القائلون به "فتخلو وقائع" من الحكم الشرعي على تقدير ردها وخلوها منه باطل. "قلنا نمنع الملازمة لأن العمومات والأقيسة شاملة" لتلك الوقائع "وبتقدير عدمه" أي عدم شمولها لها "فنفي كل مدرك خاص" للدليل الخاص "حكمه" أي ذلك النفي(25/396)
ص -193-…"الإباحة الأصلية فلم تخل" تلك الوقائع "عن حكم الشرع وهو" أي وخلوها هو "المبطل فظهر" مما تقدم "اشتراط لفظ الغريب والملائم بين ما ذكر من الأقسام الأول للمناسب والثواني للمرسل وسنذكر أنه يجب من الحنفية قبول القسم الأخير" أي الملائم "من المرسل فاتفاقهم" أي العلماء المحكي عنهم نفي المرسل إنما هو "في نفي الأولين" ما علم إلغاؤه والغريب المرسل.
ثم هذا كله على ما يقتضيه سوق الكلام وهو الموافق لكلام ابن الحاجب وشارحيه والذي في تنقيح المحصول للقرافي أن ما جهل حاله من الإلغاء والاعتبار هو المصلحة المرسلة التي تقول بها المالكية ويوافقه تفسير الإسنوي بالمناسب المرسل الذي اعتبره مالك كما ذكره البيضاوي بهذا ومشى عليه السبكي في جمع الجوامع ثم قال الإسنوي وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أنه غير معتبر مطلقا قال ابن الحاجب وهو المختار وقال الآمدي إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء والثاني أنه حجة مطلقا وهو مشهور عن مالك واختاره إمام الحرمين قال ابن الحاجب وقد نقل أيضا عن الشافعي. وكذا قال إمام الحرمين إلا أنه شرط أن تكون تلك المصالح شبيهة بالمصالح المعتبرة والثالث وهو رأي الغزالي واختاره البيضاوي أنه إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإلا فلا ا هـ فجعلا ما تقدم من أن ما جهل حاله من الاعتبار وعدمه مردود اتفاقا محل الخلاف المذكور في المرسل الملائم نعم نسبة الإسنوي ابن الحاجب إلى أنه قال فيما جهل حاله: المختار أنه غير معتبر ليست كذلك بل إنما ذكره في سبيل الملائم والله سبحانه أعلم.(25/397)
"وجعل الآمدي الخارجي" أي المحقق في الخارج "من الملائم" قسما "واحدا" وهو ما اعتبر فيه خصوص الوصف في خصوص الحكم وعمومه في عمومه "قال" "المناسب إن" كان "معتبرا بنص أو إجماع" "فالمؤثر وإلا فإن" كان معتبرا "بترتيب الحكم على وفقه فتسعة لأنه إما أن يعتبر خصوص الوصف أو عمومه أو خصوصه وعمومه" معا "في عين الحكم أو جنسه أو عينه وجنسه" جميعا "ثم غير المعتبر إما أن يظهر إلغاؤه أو لا" فهذه جملة الأقسام "والواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة ما اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم وعمومه" أي الوصف "في عمومه" أي الحكم في محل آخر "ويسمى الملائم كقتل المثقل إلخ" أي كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان وقد ظهر تأثير عينه في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وتأثير جنسه وهو الجناية على المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث القصاص في الأيدي فهذا هو الأول. قال الآمدي وهذا القسم متفق على قبوله بين القائسين وما عداه فمختلف فيه "وما اعتبر الخصوص" في الخصوص "فقط" لكن "لا بنص أو إجماع وهو المناسب الغريب كالإسكار في تحريم الخمر لو لم ينص" أي على تقدير عدم النص "إنما على عينه" أي الوصف "في عينه" أي الحكم "إذ لم يظهر اعتبار عينه" أي الوصف في جنس الحكم "ولا" اعتبار "جنسه" أي الوصف "في(25/398)
ص -194-…جنسه" أي الحكم "أو عينه" أي الحكم فهذا هو الثاني "وما اعتبر جنسه" أي الوصف "في جنسه" أي الحكم "فقط ولا نص ولا إجماع وهذا من جنس المناسب الغريب إلا أنه" أي هذا القسم "دون ما سبق وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف المتناول لإسقاط الصلاة" أصلا "و" إسقاط "الركعتين" من الرباعية فهذا هو الثالث "وما لم يثبت" اعتباره ولا إلغاؤه "كالتترس" أي تترس الكفار بالمسلمين كما هو سبق وهو المناسب المرسل فهذا هو الرابع "أو" المناسب الذي "ثبت إلغاؤه" ولم يثبت اعتباره كما في إيجاب صوم شهرين متتابعين على الملك في كفارة لفطر في رمضان فهذا هو الخامس "ثم جنس كل" من الحكم والوصف ثلاث مراتب "قريب" أي سافل وهو الذي بينه وبينه واسطة "وبعيد" أي عال وهو جنس تحته جنس ليس فوقه ما هو أعم منه من الأجناس "ومتوسط" بينهما وهو جنس من الطرفين أما على السواء أو على أنه إلى أحد الطرفين أقرب منه إلى الطرف الآخر "فالعالي" من الحكم "الحكم ثم الوجوب وأحد مقابلاته" من التحريم والندب والكراهة والإباحة "ثم العبادة" في العبادات "أو المعاملة" في المعاملات "ثم الصلاة" في العبادات "أو البيع" في المعاملات "ثم المكتوبة أو النافلة" في العبادات "أو البيع بشرطه" في المعاملات "على تساهل" في هذه الجملة "لا يخفى لأنها" أي العبادة وما بعدها "أفعال لا أحكام والوصف" أي والجنس العالي منه "كونه وصفا يناط به الأحكام ثم المناسب ثم المصلحة الضرورية ثم حفظ النفس أو مقابلاته" أي حفظ الدين وحفظ العقل وحفظ النسب وحفظ المال. وهذا جنس سافل له وما بينهما أجناس متوسطة "ومثل الوصف أيضا" في ترتب أجناسه "بعجز الصبي غير العاقل وعجز المجنون نوعان" من العجز "جنسهما العجز لعدم العقل وفوقه" أي العجز لعدم العقل "العجز لضعف القوى أعم من الظاهرة والباطنة على ما يشمل المريض" وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ عن الفاعل بدون(25/399)
اختياره على ما يشتمل المحبوس وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ عن الفاعل على ما يشتمل المسافر أيضا وفوقه مطلق العجز الشامل لما ينشأ عن الفاعل وعن محل الفعل وعن الخارج كذا في التلويح فهذا هو الجنس العالي بالنسبة إلى عجز الإنسان وتحته أجناس متوسطة وهي العجز الناشئ عن الفاعل والعجز الناشئ عن محل الفعل والعجز الناشئ عن الخارج وتحت كل منهما جنس مثلا تحت العجز الناشئ عن الفاعل مطلقا جنس هو العجز الناشئ عن الفاعل بدون اختياره وتحته جنس هو العجز بسبب ضعف القوى وتحته جنس أيضا هو العجز بسبب عدم العقل وتحته نوع هو عجز الصبي وعجز المجنون ويقابل كلا من ذلك حكم فيتعلق بالعجز بسبب عدم العقل حكم هو سقوط ما يحتاج إلى النية كالعبادات ويتعلق بالعجز بسبب ضعف القوى حكم هو سقوط وجوب الحج والجهاد ويتعلق بالعجز الناشئ عن الفاعل بدون اختباره حكم هو سقوط المطالبة في الحال وهو وجوب الأداء في حق الصلاة ويتعلق بالعجز الناشئ عن الفاعل مطلقا حكم هو سقوط المطالبة في الحال في العبادات البدنية والترخص بقصر الصلاة ويتعلق بمطلق العجز حكم فيه تخفيف في الجملة(25/400)
ص -195-…للنصوص الدالة على عدم الحرج والضرر "ولا يشكل أن الظن باعتبار الأقرب فالأقرب أقوى لكثرة ما به الاشتراك" في الأقرب بالنسبة إلى الأبعد مثلا ما اشتمل عليه الحساس يشتمل عليه النامي وما اشتمل عليه النامي يشتمل عليه الجسم وما اشتمل عليه الجسم يشتمل عليه الحيوان فما يشارك الإنسان في الحيوانية يشاركه في جميع هذه الأمور بخلاف مشاركه في الجسمية أو النمو والحاصل أن أقوى الأوصاف في العلية السافل وأضعفها العالي والمتوسطات مترتبة في القوة والضعف بحسب ترتبها في الصعود والنزول فما هو أقرب إلى السافل فهو أقوى مما هو أقرب إلى العالي.(25/401)
"وشرط بعضهم" أي الشافعية في وجوب العمل بالملائم "شهادة الأصول" مريدين بها بعد أن يقابل الوصف بقوانين الشرع فيطابقها "سلامته" أي الوصف "من إبطاله بنص أو إجماع أو تخلف" للحكم المنوط به "عنه" في بعض صور وجوده "أو وجود وصف يقتضي ضد موجبه" من غير تعرض لنفس الوصف "كلا زكاة في ذكور الخيل فلا" زكاة "في إناثها بشهادة الأصول بالتسوية" بين الذكور والإناث في سائر السوائم في الزكاة وجوبا وسقوطا لأن الأصول شهداء الله على أحكامه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته فيكون العرض عليها وامتناعها من رده دليل عدالته كالعرض عليه في حياته وسكوته عن الرد ثم قيل لا بد من العرض على كل الأصول لأن احتمال النقض والمعارضة لا ينقطع إلا به. وقيل أدنى ما يجب العرض عليه أصلان لأن العرض على الكل متعذر أو متعسر فوجب الاقتصار على أصلين كما في الاقتصار في تزكية الشاهد على اثنين قلت ورد الأول لا شك فيه لإسقاط الشارع الحرج في المتعسر وسقوط التكليف بالمتعذر على أنه كما قال شمس الأئمة السرخسي ومن شرط العرض على كل الأصول لم يجد بدا من العمل بلا دليل لأنه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول وراء هذا أصل آخر هو معارض أو ناقض لا يدعيه فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة ومثل هذا لا يصلح حجة لإلزام الخصم. وأما الثاني فعليه أن يقال حيث كان العرض تزكية أو كالتزكية في الشاهد فينبغي الاكتفاء بالعرض على أصل واحد كما يكتفي في تزكية الشاهد بالواحد كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك وأحمد في رواية وكأن قائل هذا إنما لم يكتف بما يعرض على أصل واحد لأنه من القائلين بأن التزكية لا بد فيها من اثنين كما هو قول محمد والشافعي ورواية عن أحمد وأجاب مشايخنا بأن عدالة الوصف إنما تثبت بالتأثير والفرض ظهوره والعرض على الأصول لا يقع به التعديل والأصول شهود للحكم كما توصف العلل بالحكم1 لا مزكون فهي كثرة نظائر(25/402)
وذكر النظائر له لا يحدث له قوة كالشاهد إذا انضم إليه أفعاله لا تظهر به عدالته والله سبحانه أعلم.
1 قوله كما توصف العلل به الحكم كذا في النسخ التي بأيدينا ولعل العبارة كالوصف المعلل به الحكم وبعد هذا فليحرر اهـ. مصححه.(25/403)
ص -196-…"واعلم أن الحنفية" قائلون "التعليل بكل من الأربعة" أي العين في العين وفي الجنس والجنس في الجنس وفي العين "مقبول فإن" كان التعليل "بما عينه أو جنسه" مؤثر "في عين الحكم فقياس اتفاقا للزوم أصل القياس" في كل من هذين ويقال لما تأثير عينه في عين الحكم إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يقر به منكر والقياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل "وإلا" فإن كان عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه "فقد" يكون قياسا "بأن يكون" ما عينه في جنس الحكم هو من قبيل ما يكون "العين في العين أيضا" فيستدعى أصلا مقيسا عليه "فيكون مركبا". وكذا ما جنسه في جنسه قد يكون مع ذلك في عينه فيكون له أصل فيكون قياسا وقد لا فيكون من أقسام المرسل التي يجب قبولها للحنفية إذ كل من أقسام الأربعة من أقسام المؤثر حتى دخل فيه، ذكره المصنف "وشمس الأئمة" السرخسي قال الأصح عندي "الكل قياس دائما لأن مثله" أي هذا الوصف "لا بد له من أصل قياس" في الشرع لا محالة "إلا أنه قد يترك لظهوره" كما قلنا في إيداع الصبي لأنه سلطه على ذلك فإنه بهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح وهو أن من أباح الصبي طعاما فتناوله لم يضمن لأنه بالإباحة سلطه على تناوله فتركنا ذكر هذا الأصل لوضوحه وربما لا يقع الاستغناء عنه فيذكر كما قال علماؤنا في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الأمة: إن كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح الحرة فهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتني عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل لأنه ذلك الحل بعينه ولكن في هذا المعنى بعض الغموض فتقع الحاجة إلى ذكر الأصل "وعلى هذا" الذي ذهب إليه شمس الأئمة "لا بد في التعليل مطلقا من العين في العين أو الجنس فيه" أي العين "فإن أصل القياس لا يتحقق إلا بذلك" أي بتأثير العين في العين أو الجنس في العين "فلا يعلل(25/404)
بالجنس في الجنس أو العين في الجنس تعليلا بسيطا أصلا ويحتاج إلى استقراء يفيده" أي هذا المطلوب "ثم قولهم" أي الحنفية "بكل من الأربعة" المذكورة "يشمل العين في العين فقط" كما يشمل الثلاثة الأقسام الأخر: جنسه في عينه فقط وجنسه في جنسه فقط وعينه في جنسه فقط. "ومرادهم" أي الحنفية "إذا ثبت" التأثير المذكور "بنص أو إجماع وإلا لزمه" أي الوصف المعلل به "التركيب" والكلام إنما هو في البسيط "وسمى بعضهم" أي صدر الشريعة موافقة للإمام الرازي "ما يوجد من أصل القياس" أي ما يكون لحكمه أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه "شهادة الأصل فشهادة الأصل أعم من كل من الاعتبارين" أي اعتبار النوع في النوع واعتبار الجنس في النوع "مطلقا أي بصدق" شهادة الأصل "عنده" أي ما يوجد من أصل القياس أي لأنه كلما وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوع يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم لجواز عدم اعتبار الشارع له مع وجوده "ومن الآخرين" أي وشهادة الأصل أعم من اعتبار الجنس في الجنس واعتبار النوع(25/405)
ص -197-…في الجنس "من وجه" فتوجد شهادة الأصل بدون كل منهما ويوجد كل منهما بدون شهادة الأصل. وقد يوجدان معا ذكره صدر الشريعة ويلزم منه إثبات شهادة الأصل بدون التأثير وتعقبه في التلويح بأن فيه نظرا لأن التحقق بدون كل من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الآخرين وبالعكس فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير وأجيب بأنه لما كان أحد نوعي الغريب وهو المردود مما لم يعلم أن الشارع اعتبره أم لا دل على عدم اعتباره في الجملة وهو يقتضي انفكاكه عن التأثير في الجملة والانفكاك عن التأثير يقتضي جواز التحقق بدون المجموع ونظر المتعقب إنما يتوجه إذا لوحظت النسبة بينها وبين الأربعة بدون ملاحظة المعنى الذي اعتبر في الغريب المردود.(25/406)
"المشهور من معنى شهادة الأصل ما ذكرنا" أولا "ثم لا يخفى أن لزوم القياس مما جنسه" أي جنس عين الوصف الثابت في الأصل بنص أو إجماع "في العين" أي عين الحكم المذكور في الأصل "ليس إلا بجعل العين" أي عين الوصف "علة" لذلك الحكم "باعتبار تضمنها" أي عين الوصف "العلة" لذلك الحكم أعني بها "جنسه" أي جنس الوصف المذكور "فيرجع إلى اعتبار العين في العين" وينتفي هذا القسم في التحقيق مثلا إذا علل عتق الأخ عند شراء أخيه إياه لأنه ملكه أخوه. ودل على اعتباره بتأثير ملك ذي الرحم المحرم في عين الحكم وهو الجنس في العين كان المؤثر في الحقيقة في العين ليس إلا ملك ذي الرحم المحرم وثبوت العتق مع ملك الأخ ليس لملك الأخ بل لملك ذي المحرمية فليس في التحقيق إلا قسمان من الدال على الاعتبار ثبوت تأثير العين في الجنس والجنس في الجنس ذكره المصنف "والبسائط أربع من العين والجنس في العين والجنس" حاصلة من ضرب العين والجنس في العين والجنس عين في عين جنس في جنس عين في جنس قلبه "هي" أي هذه الأربع هي "المؤثر وثلاثة ملائم المرسل" المتقدمة "أما الملائم" الذي هو من أقسام الأول المقابل للمرسل "فيلزمه التركيب لأنه لا بد من ثبوت عينه في عينه" أي الحكم "بترتيب الحكم معه في المحل ثم ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم أو" ثبوت اعتبار "قلبه" أي جنسه في عين الحكم وتقدم قريبا ما فيه من البحث "أو" ثبوت اعتبار "جنسه في جنسه" أي الحكم "فأقل ما يلزم من الملائم تركيبه من اثنين" وإلا فقد يكون من أكثر من اثنين كما سيعلم "والمركب إما من الأربعة قيل" أي ذكر في التلويح "كالسكر" فإن عين هذا الوصف مؤثر "في الحرمة" أي في عين الحكم الذي هو حرمة الشرب "وجنسه" أي السكر وهو "إيقاع العداوة والبغضاء" مؤثر "فيها" أي الحرمة لأن إيقاع العداوة كما يكون بسبب السكر يكون بغيره "ثم" السكر مؤثر "في وجوب الزاجر أعم من الأخروي كالحرق والدنيوي كالحد" وهذا جنس الحكم(25/407)
"وجنسه" أي السكر "الإيقاع" في العداوة والبغضاء مؤثر "في الحد في القذف" وهو جنس الحكم بناء على أن السكر لما كان مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب الزاجر. قال المصنف رحمه الله "ولا يخفى أن وجوب الحرق" في النار في(25/408)
ص -198-…الدار الآخرة "بعد أنه اعتزال" لجواز عدمه عند أهل السنة "غير الحكم الذي نحن فيه" وهو التكليفي "وأن تأثيره" أي السكر "في وجوب الزاجر ليس" تأثيرا "في جنس حرمة الشرب" ليكون من تأثير العين في الجنس "وإنما يصح" أن يكون من تأثير العين في الجنس "لتأثير السكر في حرمة الإيقاع" في العداوة والبغضاء أيضا كما أثر في حرمة الشرب فيكون العين قد أثر في الجنس وأثر في العين "والإيقاع" في العداوة والبغضاء أثر "في حرمة القذف كما أثر في" حرمة "الشرب" أيضا فيكون جنس الوصف وهو الإيقاع قد أثر في الجنس الذي هو الحرمة من حرمة الشرب والقذف كما أثر في العين الذي هو حرمة الشرب "للتصريح بأن المراد بجنسهما" أي الوصف والحكم "ما هو أعم من كل" منهما "فيلزم التصادق لا يقال مجيء مثله" أي هذا الكلام "في الإيقاع مع السكر" لأنا نقول لا "لأن المراد به" أي بالإيقاع "موقع العداوة وهو" أي موقعها "أعم من السكر والقذف" أي زمن الكلام الذي هو قذف فيصدق السكر موقع العداوة والكلام الذي هو قذف موقع العداوة "فيحرمهما" أي موقع العداوة السكر والقذف "وأما من ثلاثة فأربعة فما سوى العين في العين" لأن التركيب من ثلاثة بإسقاط واحد من الأربعة التي هي العين في العين وفي الجنس والجنس في الجنس وفي العين. فإن كان الساقط العين في العين كان المركب مما سواه وهو العين في الجنس والجنس في العين والجنس واحد وإن كان الساقط العين في الجنس فالمركب العين في العين والجنس في العين والجنس وهو ثان وإن كان الساقط الجنس في الجنس فالمركب حينئذ من العين في العين والجنس والجنس في العين ثالث وإن كان الساقط الجنس في العين فالمركب من العين في العين والجنس، والجنس في الجنس رابع ذكره المصنف فنقول "التيمم" أي صحته وهذا هو الحكم "عند خوف فوت صلاة العيد" وهذا عين الوصف "فالجنس" للوصف "العجز بحسب المحل" عما يحتاج إليه شرعا وهو في هذا المثال صلاة العيد(25/409)
والوصف مؤثر "في الجنس" أي جنس التيمم أي "سقوط ما يحتاج" إليه في الصلاة "و" مؤثر "في العين التيمم" لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، والمائدة:6] إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحيث ينشف النجاسات "والعين" للوصف "العجز عن الماء" مؤثر "في الجنس" للحكم أي "سقوط استعماله" أي عدم وجوب استعمال الماء "فإنه" أي استعماله "أعم من استعماله للحدث والخبث لكن العين" للوصف وهو "خوف الفوت لم يؤثر في العين" للحكم أي "التيمم من حيث هو تيمم بنص أو إجماع فقد جعلت" العين للوصف "مرة خوف الفوت ومرة العجز عن الماء لأنهما" أي الخوف والعجز "واحد" معنى "لأن العجز مخيف. فإن قلت خوف الفوت وهو الوصف المعلل به في المتنازع فيه وهو الفرع" أي صلاة العيد "والمراد من الوصف المنظور في أن جنسه أثر في جنس الحكم أو عينه" أي الحكم "ما في الأصل ليدل به" أي بتأثير جنسه في جنس الحكم أو عينه "على اعتباره" أي الوصف المعلل به المذكور "علة في نظر الشارع قلت ذلك" أي كون المراد بالوصف المذكور ما في الأصل إنما هو "في غير المرسل والتعليل به" أي بغير المرسل "قياس وليس(25/410)
ص -199-…هذا القسم" أي المركب من ثلاثة ليس منها العين مع العين في المحل "إلا مرسلا فلا يتصور فيه قياس ولا استدعى أصلا فلزمه" حينئذ "العين مع العين في الأصل والمرسل مأخوذ فيه عدمه" أي العين مع العين في الأصل "فالتعليل بالمرسل" تعليل "بمصالح خاصة ابتداء اعتبرت في جنس الحكم الذي يراد إثباته أو جنسها" أي المصالح "في عينه" أي الحكم "أو جنسه لكن تشترط الضرورية والكلية" فيها "على ما تقدم عند قائله" أي المرسل وهو الغزالي "فإن قلت المثال حنفي وهو" أي الحنفي "يمنع المرسل" فكيف يتم على قوله "قلنا سبق أنه يجب القول بعملهم ببعض ما يسمى مرسلا عند الشافعية ويدخل" ذلك "في المؤثر عندهم" أي الحنفية "كما سيظهر والمركب مما سوى الجنس في العين العجز عن غير ماء الشرب في التيمم" أي جوازه "وهو" أي وهذا هو "العين في العين في محل النص" أي قوله تعالى: "{فَلَمْ تَجِدُوا} [النساء: 43] الآية "وجنسه" أي عين هذا الوصف المنصوص عليه "العجز الحكمي" عن الماء مطلقا وإنما جعله حكميا لأن الفرض أن عجزه عن غير ماء الشرب فقط فهو قادر عليه لكن لما كان مستحقا بالحاجة الأصلية وهي الشرب كان كأنه غير واجد له فكان عجزه عنه حكميا لا حقيقيا ذكره المصنف مؤثر "في جنسه" أي الحكم أي "سقوط استعماله" أي ماء الشرب فإنه أعم من استعماله في الحدث والخبث "وعينه" أي الوصف "عدم وجدانه" أي ماء الشرب مؤثر "في جنسه" أي الحكم الذي هو سقوط استعماله أي "السقوط دفعا للهلاك والجنس غير مؤثر فيه" أي العين "لأن العجز المذكور" وهو العجز الحكمي مطلقا "غير مؤثر في" جواز أو وجوب "التيمم من حيث هو تيمم" بل إنما أثر في سقوط استعمال الماء مطلقا من حدث أو خبث كما ذكر آنفا. "و" المركب "من غير العين في الجنس كالحيض في حرمة القربان" أي وهذا هو "العين في العين وجنسه" أي الحيض "الأذى" مؤثر "فيه" أي في تحريم القربان "أيضا و" مؤثر "في الجنس" لحرمة القربان أي(25/411)
"حرمة الجماع مطلقا" فتدخل حرمة اللواط وغير خاف أن هذا أولى مما في التلويح أنه وجوب الاعتزال "و" المركب "من غير الجنس في الجنس كالحيض علة لحرمة الصلاة وهو" أي وهذا هو "العين في العين و" علة "جنسه" أي عين الحكم "حرمة القراءة" حال كونها "أعم مما في الصلاة" وخارجها "وجنسه" أي الحيض "الخارج من السبيلين" مؤثر "في حرمة الصلاة لا الجنس" أي لكنه غير مؤثر في جنس الحكم أي "حرمة القراءة مطلقا والمركب من اثنين العين في العين مع الجنس فيه" أي العين "الطوف" فإنه علة "في طهارة سؤر الهرة" كما تقدم في الحديث "وجنسه" أي الطوف وهو "مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها" علة للطهارة كآبار الفلوات "و" المركب "من العين في العين وفي الجنس المرض" فإنه مؤثر "في الفطر و" مؤثر "في جنسه" أي المرض "التخفيف في العبادة بثبوت القعود" في المكتوبة "و" المركب "من العين في العين مع الجنس في الجنس كالجنون المطبق" فإنه مؤثر "في ولاية النكاح" فهذا من العين في العين "وجنسه" أي الجنون المطبق "العجز بعدم العقل لشموله" أي العجز "الصغر" مؤثر "في جنسها" أي ولاية الإنكاح وهو الولاية مطلقا "لثبوتها" أي الولاية "في المال و" المركب "من الجنس في العين والجنس(25/412)
ص -200-…كجنس الصغر العجز لعدم العقل" مؤثر "في ولاية المال" للحاجة إلى بقاء النفس "و" في "مطلقها" أي الولاية "فتثبت" الولاية "في كل منه" أي المال "ومن النفس و" المركب "من الجنس في العين وقلبه" أي ومن العين في الجنس "خروج النجاسة" لأنها أعم من كونها من السبيلين أو غيرهما وهو مؤثر "في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين" مؤثر "في وجوب إزالتها" وهو أعم من الوضوء لأنه إزالة النجاسة الحكمية وإزالة النجاسة أعم من إزالة النجاسة الحقيقية والحكمية فكان جنس الوضوء قال المصنف "وهذا لا يستقيم لانتفاء تأثير خروج النجاسة إلا في الحدث ثم بوجوب ما شرط له" إزالتها "تجب" إزالتها. "و" المركب "من العين والجنس في الجنس والجنون والصبا" فإن كلا منهما مؤثر "في سقوط العبادة" للاحتياج إلى النية "وجنسه" أي كل منهما الذي هو العجز بعدم العقل "العجز لخلل القوى" فإنه مؤثر "فيه" أي في سقوط العبادة "وظهر أن ستة" المركب "الثنائي ثلاثة قياس" وهي الأولى "وثلاثة مرسل" وهي الأخيرة "وثلاثة من أربعة" المركب "الثلاثي قياس" وهي الثلاثة الأخيرة منها "وواحد لا" أي ليس بقياس وهو الأول منها "هذا والأكثر تركيبا يقدم عند تعارضها" أي المركبات "والمركب" يقدم "على البسيط" عند تعارضهما لأن قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير اعتبار الشرع فكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى من البسيط والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء أقل لكن كما قال في التلويح وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في النوع فإنه أقوى الكل لأنه بمنزلة النص حتى كاد يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدي المحل فالمركب في غيره لا يكون أقوى منه.(25/413)
"وأما الحنفية فطائفة منهم فخر الإسلام" والسرخسي وأبو زيد "لا بد قبل التعليل في المناظرة من الدلالة على معلولية هذا الأصل" المقيس عليه بل قال السرخسي والأشبه بمذهب الشافعي أن الأصول معلولة في الأصل إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل مميز والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معلولا في الحال انتهى إلا إذا اتفقوا على كونه معلولا مع اختلافهم في الوصف الذي هو علة لمساعدة الخصم على ذلك فلا يحتاج إلى إقامة دليل آخر عليه. "ولا يكفي" قول المعلل "الأصل" في النصوص التعليل كما عزاه في الميزان إلى عامة مثبتي القياس والشافعي وبعض أصحابنا وهو المختار "لأنه" أي الأصل "مستصحب يكفي للدفع" أي لدفع ثبوت ما لم يعلم ثبوته "لا الإثبات" على الخصم "كما سيعلم" في بحث الاستصحاب آخر هذه المقالة وهذا "بخلاف الإثبات لنفسه" فإنه لا يلزمه قبل التعليل لنفسه الدلالة على معلولية ذلك الأصل الذي هو بصدد القياس عليه "كنقض الخارج من السبيلين يستدل على معلوليته" أي كون الخارج النجس المذكور علة للنقض "بالإجماع على ثبوته" أي النقض بالخارج النجس "في مثقوب السرة" إذا خرج منها قياسا على النقض بالخارج النجس من السبيلين "فعلم" بدلالة الإجماع "تعديه" أي النقض "عن محل النص" الذي هو السيلان إلى ما سواه من البدن إذ لو كان(25/414)
ص -201-…خصوص المحل معتبرا في النقض بالخارج منه لما جاز قيام غيره مكانه بالرأي لأن الأبدال لا تنصب بالرأي "فصح تعليله" أي النقض بالخارج النجس من السبيلين "بنجاسة الخارج" وإنما قال هكذا لأن الضد هو المؤثر في رفع ضده فصفة النجاسة هي الرافعة للطهارة والعين الخارجة معروضها التي هي قائمة بها "ليثبت النقض به" أي الخارج النجس "من سائر البدن وطائفة لا" تشترط الدلالة على معلولية الأصل قبل التعليل في المناظرة "إذ لم يعرف" ذلك "في مناظرة قط للصحابة والتابعين" وكفى بهم قدرة "ولأن إقامة الدليل على علية الوصف ولا بد منه" في إلحاق الفرع بالأصل في حكمه بواسطته "يتضمنه" أي كون الأصل معلولا "فأغنى" بيان الدليل على علية الوصف عن الاستدلال على كون الأصل معلولا. "وهذا" القول "أوجه" كما هو ظاهر.(25/415)
"ثم دليل اعتباره" أي الوصف المدعى عليته بعينه في الحكم المعين "النص والإجماع وسيأتيان والتأثير" وهو "ظهور أثره" أي الوصف "شرعا ويسمونه" أي التأثير "عدالته" أي الوصف "ويستلزم" التأثير "مناسبته" أي الوصف للحكم بأن يصح إضافة الحكم إليه "ويسمونها" أي مناسبته "ملاءمته" بالهمزة أي موافقته للحكم "وتستلزم" مناسبته "كونه" أي الوصف "غير ناب" أي بعيد "عن الحكم" وهذا هو المعنى بصلاح الوصف للحكم "كتعليل" وقوع "الفرقة" بين الزوجين الكافرين إذا أسلمت وأبى "بالإباء" فإنه يناسبه "بخلافها" أي الفرقة "بإسلام الزوجة" فإنه ناب عنه لأن الإسلام عرف عاصما للحقوق والأملاك قاطعا لها وكيف لا وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى" والمحظور يصلح سببا للعقوبة وانقطاع النكاح عقوبة وإباء الإسلام رأس أسباب العقوبات فصلح أن يكون سببا له "كما سيأتي" ذكره في فساد الوضع وهذا هو المراد بقولهم صلاح الوصف كونه موافقا للعلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف فإنهم كانوا يعللون مناسبة الأحكام غير نابية عنها فما كان موافقا لها يصلح علة وما لا فلا لأن الكلام في العلة الشرعية والمقصود إثبات حكم شرع بها فلا بد أن تكون موافقة لما نقل عمن عرفت أحكام الشرع ببيانهم "وفسر" التأثير "بأن يكون لجنسه" أي الوصف "تأثير في عين الحكم كإسقاط الصلاة الكثيرة" بأن تزيد على خمس "بالإغماء" إذ "لجنسه" أي الوصف المعلل به الذي هو الإغماء وهو العجز عن الأداء تأثير "فيه" أي في عين الحكم الذي هو إسقاط الصلاة وما يقال إنه الحرج حتى لا يجب القضاء إذا ذهب العجز فهو علة العلة "أو" لجنسه تأثير "في جنسه" أي الحكم "كالإسقاط" للصلاة عن الحائض(25/416)
"بمشقته" أي فعلها بواسطة كثرتها. "وجنسه" أي هذا الوصف "المشقة المتحققة في مشقة السفر" مؤثر "في جنسه" أي الحكم "السقوط الكائن في الركعتين" من الرباعية "وعن بعضهم نفيه" أي كون تأثير الجنس في الجنس من التأثير "ومن الحنفية من يقتصر عليه" أي على أن التأثير هو اعتبار الجنس في الجنس في موضع آخر نصا أو إجماعا(25/417)
ص -202-…كما عزاه صاحب الكشف إلى فخر الإسلام في بعض مصنفاته ولما كان ظاهر هذا يفيد سقوط الجنس في العين وقبله والعين في العين من التأثير وبعضه متجه عند المصنف دون البعض أشار إليه بقوله "والوجه سقوط الجنس في العين" من التأثير "بما قدمنا" كأنه يريد قوله ثم لا يخفى أن لزوم القياس مما جنسه في العين ليس إلا بجعل العين علة باعتبار تضمنها لعلة جنسه فيرجع إلى اعتبار العين في العين "دون" سقوط "قبله" أي العين في الجنس من التأثير "بتأمل يسير" لانتفاء اللازم المذكور فيه "أو" يكون "لعينه" أي الوصف تأثير في جنس الحكم "كالإخوة لأب وأم في التقدم" على الأخ لأب "في ولاية الإنكاح" للصغير والصغيرة وهذا هو عين الحكم المؤثر فيه عين الوصف المذكور فهو مؤثر فيه "في جنسه" أي الحكم المذكور "التقديم" الصادق على كل من التقدم "في الميراث" والإنكاح "أو" يكون لعينه تأثير "في عينه ذكره في الكشف الصغير" ثم صدر الشريعة "ويلزمه" أي هذا الكلام "كونه" أي الحكم "بالنص والإجماع كالسكر في الحرمة" إذ كل منهما عين والسكر علة للحرمة بالنص والإجماع. "وهو" أي كون الحكم بهما أو أحدهما "مخرج له" أي للحكم المذكور "عن دلالة التأثير على الاعتبار" أي كون الوصف معتبرا بالتأثير فتكون علته مستنبطة "إلى المنصوصة" أي إلى أن تكون منصوصة فلا تكون من أقسام المؤثر بل من الحكم الثابت بالنص أو الإجماع وإنما يلزم هذا الكلام هذا "إذ لم يبق مع ظهور المناسبة" بعد النص والإجماع دليل على الاعتبار "إلا الإخالة" فإن المناسبة إذا ظهرت فدليل اعتبار ما قامت به أما النص أو الإجماع أو التأثير وهو بثبوت تأثير جنس الوصف المناسب في جنس الحكم الذي يراد إثباته أو الإخالة فإذا فرض ثبوت تأثير العين في العين بنص خرج عن التأثير. "وينفون" أي الحنفية "إيجابها" أي الإخالة الحكم "مجوزي العمل قبله" أي التأثير "بها" أي الإخالة "كالقضاء بالمستورين ينفذ ولا يجب" هذا(25/418)
ويظهر أن الأولى في حسن السياق أن يقول بعد قوله في الركعتين أو لعينه في جنسه كالإخوة لأب وأم في التقدم على الأخ لأب في ولاية الإنكاح وهو مؤثر في جنسه التقدم في الميراث أو لعينه في عينه كما في كشف المنار وغيره ثم عن بعضهم نفي الجنس في الجنس من التأثير ومنهم من اقتصر على أن التأثير وهو تأثير الجنس في الجنس والوجه سقوط الجنس في العين منه بما قدمناه دون قلبه بتأمل يسير ثم يلزم الكشف كونه إلخ "وظهر أن المؤثر عندهم" أي الحنفية "أعم منه" أي المؤثر عند الشافعية وهو ما ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم "ومن الملائم الأول" الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة وهو ما ثبت اعتبار عينه في عينه بمجرد ثبوته مع الحكم في المحل مع اعتبار عينه في جنس الحكم بنص أو إجماع أو جنسه في عينه أو في جنسه "وما من المرسل" أي وثلاثة أقسام الملائم المرسل وهي ما لم يثبت العين مع العين في المحل لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه "فشمل" المؤثر عند الحنفية وهو الذي ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم أو جنسه أو جنسه في عين الحكم أو جنسه "سبعة أقسام في عرف الشافعية إذ لم يقيدوا" أي الحنفية "الثلاثة" التي هي تأثير الجنس في عين(25/419)
ص -203-…الحكم أو في جنسه وتأثير العين في جنس الحكم "بوجود العين مع العين في المحل أي الأصل. وكذا تصريحهم" أي الحنفية "فيما تقدم بأن التعليل بما اعتبر جنسه إلخ" أي في عين الحكم أو جنسه، وما اعتبر عينه في عين الحكم أو جنسه "مقبول وقد لا يكون" التعليل بأحدهما "قياسا بأن لم يتركب مع أحد الأمرين" أي العين أو الجنس مع العين "ولا حاجة إلى تقييده" أي المقبول "لغير ما جنسه" أي ذلك الوصف "أبعد" أي ما اعتبر الشارع جنسه الأبعد "كتضمن مطلق مصلحة" أي كونه متضمنا لمصلحة في إثبات الحكم "بخلاف" جنسه "البعيد" الذي هو أقرب من ذلك الجنس الأبعد وقد اعتبره الشرع إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية فإنه يقبل "كالرمي" أي كجوازه "إلى الترس المسلم إذا غلب ظن نجاتهم" أي أهل الإسلام بالرمي إليه "إذ لا سبيل إلى القطع" بالنجاة "كالغزالي بخلاف بعضهم في السفينة" أي رمي بعض من في السفينة في البحر إذا علمت نجاة البعض الآخرين في ذلك فإنه لا يجوز لأن المصلحة غير كلية كما تقدم وإنما تقع الحاجة إلى هذا التقييد وإن كانت هذه الجملة مفادة في توضيح صدر الشريعة "إذ دليل الاعتبار بالنص أو بالإجماع لم يتحقق في مطلقها" والكلام فيما ثبت اعتباره بالنص أو الإجماع ثم اعتبار العين في العين بمجرد إبداء المناسبة وهو الإخالة ليس موجبا للعمل ولا مجوزا له عند المصنف كما سيذكره قريبا وينبه عليه.(25/420)
"والإخالة إبداء المناسبة بين" حكم "الأصل والوصف بملاحظتهما" أي الوصف والحكم سمي بها لأن المناسبة المذكورة يخال أي يظن أن الوصف علة للحكم "فينتهض" إبداء مناسبة ذلك الوصف لذلك الحكم "على الخصم المنكر للمناسبة" أي لمناسبة الحكم لا المنكر للحكم لأن مجرد المناسبة لا توجب علية الوصف عند الحنفية لما عرف من كلامهم في الإخالة "وهو" أي الوصف المناسب "ما عن القاضي أبي زيد ما لو عرض على العقول تلقته الأمة بالقبول" ولفظه في التقويم بدون ذكر الأمة كما كانت عليه النسخة أولا وتقدم أيضا في أوائل فصل في العلة ولعله إنما زادها إشارة إلى أن المراد عامة العقول كما هو ظاهر الصيغة فيتضح عليه تفريع قوله "فإن المنكر حينئذ مكابر" أي معاند فلا يقبل إنكاره. "وقيل" أي وقال غير واحد كابن الحاجب "أراد" أبو زيد بكون المناسب ما ذكره "حجيته في حق نفسه فقط" أي يكفي هذا للناظر لأنه لا يكابر عقله فهو مأخوذ بما يغلب على ظنه لا للمناظر إذ ربما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلي وليس الاحتجاج بقول الغير علي أولى من القلب ومن ثمة منع أبو زيد التمسك بالمناسبة في إثبات علية الوصف في مقام المناظرة بل شرط ضم العدالة إليها بإقامة الدليل على كون الوصف ملائما مؤثرا للإلزام على الخصم "وقولهم" أي الحنفية "في نفيه" أي هذا الطريق المسمى بالإخالة لأنه "لا ينفك عن المعارضة إذ يقال" أي يقول المناظر "لم يقبله عقلي" عند قول المناظر هذا مناسب لأنه لو عرض على العقول تلقته بالقبول "يفيده" أي أن مراد أبي زيد كون المناسب ذلك إنما هو في حق نفسه "وإلا" لو كانوا قائلين بأن مراد أبي زيد حجيته في حق غيره أيضا "لم يسمع" قوله لم يقبله عقلي لأنه مكابرة حينئذ فلا يصح نفيهم له بأنه لا(25/421)
ص -204-…ينفك عن المعارضة "والحق أن المراد بإبداء المناسبة تفصيلها للمخاطب كقوله الإسكار إزالة العقل وهو" أي إزالة العقل "مفسدة يناسب حرمة ما تحصل به" الإزالة "و" يناسب "الزجر عنه" أي عما تحصل به الإزالة وهذا لا تتأتى فيه المعارضة "وتلك المعارضة في الإجمالي" أي دعوة المناسبة على سبيل الإجماع "كقبله عقلي أو ناسب عندي" ولم يبين وجه ذلك فانتفى نفيهم صحة اعتبار الإخالة بأنها لا تنفك عن المعارضة "نعم ينتهض" في دفع الإخالة وكون الوصف بعد ظهور مناسبته للحكم لا تثبت عليته للحكم "أنها" أي المناسبة "ليست ملزومة لوضع الشارع عليه ما قامت به" المناسبة أي ليس يلزم من وجود مناسبة وصف لحكم أن يكون ذلك الوصف علة لشرع ذلك الحكم في الشرع "للتخلف" للحكم "في معلوم الإلغاء" أي في وصف المناسب المعلوم الإلغاء "من المرسل وغيره" كما تقدم. "فإن قيل الظن حاصل قلنا إن عني ظن المناسبة للحكم فمسلم ولا يستلزم وضع الشارع إياه" أي الوصف علة للحكم "لما ذكرنا" من التخلف في المعلوم الإلغاء "واعلم أن مقتضى هذا" الوجه الذي ذكرناه لبيان إبطال كون الإخالة طريقا معتبرا لاعتبار الوصف "وما زادوه" أي الحنفية "من أوجه الإبطال" لكونها طريقا معتبرا أيضا "عدم جواز العمل به" أي الوصف المخال "قبل ظهور الأثر" بأحد الأوجه المتقدم بيانها لأن الأوجه المذكورة اقتضت إهدار اعتبار الإخالة شرعا فلو قلنا بجواز العمل بها قبل ظهور التأثير لكان تأثيرا للحكم الشرعي أعني الجواز من غير دليل "وليس القياس" لجواز العمل بها قبل ظهور التأثير "على" جواز "القضاء بمستورين" كما قالوا "صحيحا لأنه إن فرض فيه" أي في جواز القضاء بهما "دليل على خلاف الأصل" أي القياس إذ القياس أن لا يجوز الحكم بشهادة الشاهدين ما لم تعلم عدالتهما "فهو" أي الدليل المفروض في جواز القضاء بهما "منتف في جواز العمل" بالإخالة فيبقى ما ينسب حكما إلى الإخالة على أصل القياس من عدم(25/422)
الجواز وإنما قال إن فرض فيه دليل لانتقائه فيما يظهر "وإلا" لو لم ينتف بل كان دليل جواز العمل بالوصف ثابتا "وجب على المجتهد" العمل به إذ لا يتصور انفكاك جواز العمل بالوصف عن وجوبه به "لأنه" أي جواز العمل به "يفيد اعتبار الشارع" إياه "وهو" أي اعتبار الشارع إياه "ترتيب الحكم" عليه أي واعتبار الشارع الوصف ليس إلا بكونه مثبتا للحكم حيثما وجد وحينئذ يجب على المجتهد إثبات الحكم به في محال وجوده لا أنه يجوز له أن يحكم به وأن لا يحكم به إذ عدم الحكم به بعد جعل الشرع إياه مناطا للحكم أينما كان مخالفة للشرع ذكره المصنف وهذا ما تقدم الوعد بالتنبيه عليه.
"واعلم أن" "المناسبة لو" كانت "بحفظ أحد الضروريات" الخمس "لزم" العمل بها "على" قول "الكل" من الحنفية والشافعية "وليس" هذا الطريق "إخالة بل من المجمع على اعتباره" وهو ظاهر فلا تذهل عنه.
"تتمة قسم الحنفية ما يطلق عليه لفظ العلة بالاشتراك" اللفظي "أو المجاز لا حقيقتها إذ ليست" حقيقتها "إلا الخارج" عن المعلول "المؤثر" فيه فقسموا ما يطلق عليه لفظها بأحد(25/423)
ص -205-…ذينك الاعتبارين "إلى سبعة" من الأقسام "ثلاثة" منها "بسائط" وأربعة منها مركبة فالبسائط "إلى علة اسما وهي الموضوعة لموجبها أو المضاف إليها" الحكم "بلا واسطة" وإن كانت الواسطة ثابتة في الواقع ومعنى إضافة الحكم إلى العلة ما يفهم من قولنا قتله بالرمي وعتق بالشراء وهلك بالجرح وتفسيرها اسما بما تكون موضوعة في الشرع لأجل الحكم ومشروعة له إنما يصح في العلل الشرعية لا في مثل الرمي والجرح "و" إلى علة "معنى باعتبار تأثيرها" في إثبات الحكم "و" إلى علة "حكما بأن يتصل بها" الحكم "بلا تراخ وهي" أي العلة اسما ومعنى وحكما العلة "الحقيقية وما سواه" أي هذا المجموع "مجاز أو حقيقة قاصرة" كما هو مختار فخر الإسلام "والحق أن تلك" أي العلة اسما ومعنى وحكما العلة "التامة تلازمها وما سواها" أي تلك "قد يكون" علة "حقيقية لدورانها" أي الحقيقة "مع العلة معنى فتثبت" الحقيقة "في أربعة" التامة "كالبيع" الصحيح "المطلق" عن شرط الخيار "للملك والنكاح" الصحيح "للحل والقتل" العمد العدوان "للقصاص" وفي جامع الأسرار "والإعتاق لزوال الرق" فإن كلا من هذه علة اسما لوضعه لموجبه المذكور وإضافته إليه بغير واسطة ومعنى لأنه مؤثر فيه وحكما لأن موجبه غير متراخ عنه غير أنه كما قال "ويجب كونه" أي الإعتاق لزوال الرق "على قولهما" أي أبي يوسف ومحمد بناء على أن الإعتاق لا يتجزأ عندهما "أما على قوله" أي أبي حنيفة "فلإزالة الملك" أي فالإعتاق لإزالة الملك أو زواله بناء على أن الإعتاق يتجزأ عنده كما عرف في موضعه وهذا في البين. وأما الأربعة المركبة الباقية من السبعة فنقول "وإلى العلة اسما فقط كالإيجاب المعلق" بشرط من طلاق أو غيره قبل وجود المعلق عليه أما أنه علة اسما فلوضعه لحكمه ومن ثمة يثبت به ويضاف إليه بعد وجود المعلق عليه. وأما أنه ليس بعلة معنى فلعدم تأثيره في حكمه قبل وجود المعلق عليه وأما أنه ليس بعلة حكما فلتراخي حكمه(25/424)
عنه إلى زمان وجوب المعلق عليه "قيل" أي وقال صاحب المنار "واليمين قبل الحنث للإضافة" للحكم وهو الكفارة إليها "يقال كفارة اليمين لكن لا يؤثر" اليمين "فيه" أي في هذا الحكم قبل الحكم "ولا يثبت الحكم للحال وهو" أي كون اليمين علة اسما إنما هو "على" التعريف "الثاني" للعلة وهو المضاف إليها الحكم بلا واسطة "لأنها" أي اليمين "ليست بموضوعة إلا للبر وإلى العلة اسما ومعنى فقط كالبيع بشرط الخيار" الشرعي للبائع وللمشتري أو لهما معا "و" البيع "الموقوف" كبيع الإنسان مال غيره بلا ولاية ولا وكالة ويسمى بيع الفضولي "لوضعه" أي البيع شرعا لحكمه الذي هو الملك "وتأثيره في" إثبات "الحكم" عند زوال المانع "وإنما تراخى" الحكم عنه "لمانع" وهو اقترانه بالشرع في بيع الخيار لأن المعلق بالشرط معدوم قبله وعدم إذن المالك أو من هو قائم مقامه في بيع الفضولي لأن الملك المحترم لا يزول بدون رضا المالك أو القائم مقامه "حتى يثبت" الحكم "عند زواله" أي المانع بأن تمضي مدة الخيار في بيع الخيار أو يجيز من له ولاية الإجازة في بيع الفضولي "ومن وقت الإيجاب" أي العقد "فيملك" المشتري "المبيع بولده الذي حدث قبل زواله" أي المانع. وكذا سائر زوائده المتصلة والمنفصلة "بعد الإيجاب" وهذه آية كون كل(25/425)
ص -206-…منهما علة لا سببا لأن السبب يثبت مقصودا لا مستندا إلى وقت وجود السبب نعم فرق بين البيعين بأن أصل الملك في البيع بالخيار لما تعلق بالشرط لم يوجد قبله فلا يتوقف إعتاق المشتري في هذه الحالة وفي الموقوف يثبت الملك بصفة التوقف وتوقف الشيء لا يعدم أصله فيتوقف إعتاقه عليه وأورد ما ذكرتم من تأخر الحكم في هذا وإن دل على أنه علة حكما فعندنا ما ينفيه وهو أن البيع إنما يصير مؤثرا من الأصل بالإجازة أو الإسقاط أو مضي مدة الخيار وهذه الأشياء مستندة إلى زمان العقد فيكون الحكم معه في المعنى وإن تأخر صورة لما علم من تحقيق أحكام العقد في الزوائد والعتق في الموقوف فلا تأخير للحكم عنها وأجيب بأن كون الحكم في السبب في صورة الاستناد ممنوع إذ الإجازة وغيرها متأخرة حقيقة وصورة وأحكام العقد في الزوائد والعتق في الموقوف غير متحققة قبل الإجازة ولكنه إذا ثبت يستند إلى أول السبب وإنما تحقق الأحكام قبل الإجازة بطريق التبيين والفرق بين الثابت به والثابت بالاستناد ظاهر فإن الثابت بالاستناد ما لا يكون ثابتا حقيقة وشرعا ثم يثبت ويرجع إلى أول السبب وهذا لا يوجب أن يكون الحكم معه حقيقة بل يوجب خلاف ذلك والثابت بطريق التبيين ثابت حقيقة مع السبب لكنه خفي فينظهر بعد زمان أنه كذلك ثم حكم الاستناد يظهر في القائم دون الفائت حتى لو ولدت المبيعة في أيام الخيار ومات الولد ثم سقط الخيار لا يظهر حكم الاستناد في حق الهالك حتى لا ينقص بهلاكه شيء من الثمن بخلاف التبيين وقد ظهر من هذا أن الحكم في الاستناد متأخر حقيقة وصورة ولكنه يثبت تقديرا وذلك لا يمنع من التراخي هذا وقد يقال إنما يستقيم قوله وإنما تراخى لمانع على قول مجوز تخصيص العلة كالقاضي أبي زيد. وأما على قول منكره كفخر الإسلام فلأنه يؤدي إليه فيجاب بما في التلويح الخلاف في تخصيص العلل إنما هو في الأوصاف المؤثرة في الأحكام لا في العلل التي هي أحكام شرعية(25/426)
كالعقود والفسوخ انتهى على أن الخلاف لو كان في تخصيصها مطلقا لكان حاصله أن المنكر يقول العلة الوصف المدعى علة مع خلوه عن المانع حتى يترتب الحكم عليه والوصف مع المانع جزء علة والتخلف عن العلة غير ممكن وعلى هذا فيكون معنى وإنما تراخى لمانع أي إنما تأخر لعدم تمام علته لفوات جزئها وهو عدم المانع لوجوده فإذا زال المانع تمت العلة والمجيز يقول الخلو عن المانع ليس بجزء علة بل الوصف وحده هو العلة والتخلف عن حقيقة العلة ممكن ولا يظهر بالتخلف كون الوصف غير علة بل هو علة حقيقة مع التخلف ولا إشكال على كل منهما.
"والإيجاب المضاف إلى وقت" كلله علي أن أتصدق بدرهم غدا لوضعه شرعا لحكمه وإضافة الحكم إليه وتأثيره فيه. "ولذا" أي ولكون المضاف علة اسما ومعنى لا حكما "أسقط التصدق اليوم ما أوجبه قوله: علي التصدق بدرهم غدا" لأنه إذ بعد انعقاد سببه و "لم يلزمه" التصدق "في الحال" لتراخيه عنه إلى الزمان المضاف إليه فيثبت الحكم عنه عند مجيء الوقت مقتصرا عليه لا مستندا إلى زمان الإيجاب.(25/427)
ص -207-…"ومنه" أي هذا القسم "النصاب" لوجوب الزكاة في أول الحول فإنه علته اسما لوضعه في الشرع وإضافته إليه ومعنى لتأثيره فيه لأن النماء يعقل تأثيره في وجوب الإحسان إلى الغير وهو حاصل في النصاب لا حكما لتراخيه إلى تحقق زمان النماء كما أشار إليه بقوله "إلا أن لهذا" أي النصاب "شبها بالسبب لتراخي حكمه إلى ما يشبه العلة" من جهة ترتب الحكم عليه "وهو" أي ما يشبه العلة "النماء الذي أقيم الحول الممكن منه" أي من النماء "مقامه" أي النماء بقوله صلى الله عليه وسلم "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود وغيره والنماء في الحقيقة فضل على الغني موجب للإحسان كأصل الغني ويثبت فيه اليسر في الواجب ويزداد وهو مقصود فيه فكان له أثر في الوجوب من هذا الوجه فكان شبيها بعلة الوجوب "لا" إلى "العلة وإلا" لو كان إلى العلة بناء على أن النماء حقيقة العلة المستقلة "تمحض" النصاب "سببا" لوجوب الزكاة لأن السبب الحقيقي هو الذي يتوسط بينه وبين الحكم علة مستقلة لكنه ليس بمتمحض سببا له لأن النماء بالنسبة إلى الزكاة ليس كذلك بل هو وصف لا يستقل بنفسه في الوجود ثم لو فرض أن النماء حقيقة العلية المستقلة لكان للنصاب حقيقة السببية كما إذا دل رجل رجلا على مال الغير فسرقه فإن الدلالة سبب حقيقي لا يشبه العلة أصلا فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية لأن توسط حقيقة العلية المستقلة يوجب حقيقة السببية فتوسط شبه العلية يوجب شبه السببية ثم شبه النصاب غالب على شبهه بالسبب لأن شبهه بالعلية حصل له من جهة نفسه إذ النصاب أصل لوصفه وشبهه بالسبب حصل له من جهة توقف حكمه على النماء الذي هو وصفه وتابع له. والشبه الحاصل من جهة نفسه لأصالته راجح على الشبه المتحقق له من جهة وصف التابع له إذ الحاصل بالذات لأصالتها واستقلالها راجح على الحاصل بواسطة الوصف التابع الغير المستقل وقال الشافعي النصاب قبل الحول علة تامة(25/428)
ليس فيه شبه السبب والحول بمنزلة الأجل لتأخير المطالبة تيسيرا كالسفر في حق الصوم ولهذا صح تعجيله قبله ولو كان وصف كونه حوليا من العلية لما صح التعجيل كما لو عجل قبل تمام النصاب قلنا لو كان النصاب علة تامة لوجوبها قبل الحول لوجبت باستهلاكه في الحول كما فيما بعده وإنما صح التعجيل لأن النصاب لما كان فيه ما ذكرنا من شبه الراجعة باعتبار النماء وكان هذا الوصف غير قائم بنفسه بل بالموصوف استند عند ثبوته إلى أصل النصاب فصار من أول الحول متصفا بأنه حولي واستند الحكم وهو وجوب الزكاة إلى أوله أيضا فصح التعجيل بناء على هذا لوقوعه بعد تمام العلية تقديرا وبهذا أيضا يخرج الجواب عما عن مالك من أن النصاب قبل الحول ليس له حكم العلية لأن وصف النماء كالجزء الأخير من علة ذات وصفين فلا يصح التعجيل قبل الحول كما لا يصح تعجيل الصلاة قبل الوقت نعم هذا المعجل إنما يصير زكاة إذا انقضى الحول والنصاب كامل لما ذكرنا من عدم وصف العلية أول الحول ثم استناد وصفها إلى أوله بعد انقضائه والحول ليس بمنزلة الأجل لأنه يسقط بموت المديون ويصير الدين حالا ويؤخذ من تركته ولو مات المزكي في أثناء الحول سقط الواجب ولم(25/429)
ص -208-…يؤخذ من تركته والمديون يملك إسقاط الأجل والمزكي لا يملك إسقاط الحول والله سبحانه أعلم.
"وعقد الإجارة" إذ هو علة لملك المنفعة، والأجرة اسما لأنه وضع له والحكم يضاف إليه ومعنى لأنه هو المؤثر في إثبات ملكهما "ولذا" أي ولكونه علة له اسما ومعنى "صح تعجيل الأجرة" قبل الوجوب واشتراط تعجيلها كما صح أداء الزكاة قبل الحول "وليس" عقد الإجارة "علة حكما" للمنافع "لعدم المنافع" التي توجد في مدة الإجارة وقت عقدها "و" عدم "ثبوت الملك فيها" أي المنافع "في الحال" لأن المعدوم ليس بمحل للملك. "وكذا" هو ليس بعلة حكما "في الأجرة" أي لا تملك بمجرد عقد الإجارة لأنها بدل المنفعة فلما لم يملك المنفعة في الحال فكذا هي لاستوائهما في الثبوت كالثمن والمثمن "مع أنه" أي عقد الإجارة "وضع لملكهما" أي المنافع والأجرة "و" هو "المؤثر فيهما" أي المنافع والأجرة ملكا كما ذكرنا آنفا وكان التعرض لذكر هذا أولا كما ذكرنا أولى "ويشبه" عقد الإجارة "السبب لما فيه" أي عقدها "من معنى الإضافة في حق ملك المنفعة إلى مقارنته" أي انعقادها "الاستيفاء" للمنفعة "إذ لا بقاء لها" أي للمنفعة يعني الإجارة. فإن صحت في الحال بإقامة العين مقام المنفعة إلا أنها في حق المنفعة مضافة إلى زمان وجود المنفعة كأنها تنعقد حين وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء وهذا معنى قولهم الإجارة عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة.(25/430)
"ومما يشبه السبب" أي ومن العلل اسما ومعنى لا حكما الشبيهة بالسبب "مرض الموت" إذ هو "علة" اسما ومعنى "الحجر عن التبرع" بالهبة والصدقة والمحاباة ونحوها "لحق الوارث" أي لما يتعلق به حق الوارث بعد الموت أعني "ما زاد على الثلث" لأنه وضع في الشرع للتغيير من الإطلاق إلى الحجر ثم الحجر عن هذا مضاف إليه شرعا وهو مؤثر فيه أيضا كما أشار إليه حديث سعيد حيث قال أفأوصي بمالي كله قال صلى الله عليه وسلم "لا" قال فبالنصف قال "لا" قال فبالثلث قال "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه "ويشبه" مرض الموت "السبب لأن الحكم" الذي هو الحجر "يثبت به إذا اتصل به الموت لأن العلة مرض مميت ولما كان" الموت "منعدما في الحال لم يثبت الحجر فصار المتبرع به ملكا" للمتبرع له "للحال" لانعدام المانع حينئذ "فلا يحتاج إلى تمليك" جديد "لو برئ" لاستمرار المانع على العدم. "وإذا مات صار كأنه تصرف بعد الحجر" لاتصاف المرض بكونه مميتا من أول وجوده لأن الموت يحدث بآلام وعوارض مزيلة لقوى الحياة من ابتداء المرض فيضاف إليه كله وإذا استند الوصف إلى أول المرض استند بحكمه "فتوقف" نفاذه "على إجازتهم" أي الورثة لتعلق حقهم به. "وكذا التزكية" أي تعديل شهود الزنا "علة وجوب الحكم بالرجم" للزاني المحصن ثم ظاهر هذا السياق أن هذا علة له اسما ومعنى لا حكما وأنه يشبه السبب وسيظهر وجه كونه علة له اسما(25/431)
ص -209-…ومعنى وشبهه بالسبب. وأما أنه ليس بعلة حكما فلا لعدم تراخيه عنه "لكن" كون التزكية علة "بمعنى علة العلية عنده" أي أبي حنيفة "فإن الشهادة لا توجب الرجم دونها" أي التزكية بل تفيد ظهوره وعلة العلة بمنزلة العلة في إضافة الحكم كما يعلم قريبا فيكون الحكم مضافا إلى التزكية من هذا الوجه "فلو رجع المزكون" وقالوا تعمدنا الكذب "ضمنوا الدية عنده" أي أبي حنيفة "غير أنه إذا كان" التزكية وذكر الراجع إليها باعتبار التعديل "صفة للشهادة أضيف الحكم إليها" أي إلى الشهادة أيضا فأي الفريقين رجع ضمن "وعندهما لا" يضمن المزكون إذا رجعوا لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فكان بمنزلة ما لو أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن قالوا هو محصن والضمان يضاف إلى سبب هو تعد لا إلى ما هو حسن وخير ألا ترى أن الشهود لو رجعوا مع المزكين لم يضمن المزكون شيئا والجواب أن المزكين ليسوا كشهود الإحصان فإنهم لم يجعلوا ما ليس بموجب موجبا إذ الشهادة بالزنا بدون الإحصان موجب للعقوبة والشهادة لا توجب شيئا بدون التزكية فالمزكون أعملوا سبب التلف بطريق التعدي فضمنوا. وأما إذا رجع الشهود معهم فقد انقلبت الشهادة تعديا وأمكن الإضافة إليها على المقصود لأنها تعد لم يحدث بالتزكية لاختيارهم في الأداء فلم يضف إلى علة العلة كذا في الأسرار "وكل علة علة" هي "علة شبيهة بالسبب كشراء القريب وهو" أي علة العلة الشبيهة بالسبب "السبب في معنى العلة أما علة فلأن العلة لما كانت مضافة إلى علة أخرى" هي الأولى "كان الحكم مضافا إليها" أي الأولى "بواسطة الثانية فهي" أي الأولى "كعلة توجب" الحكم "يوصف لها" قائم بتلك العلة "فيضاف" الحكم "إليها" أي الأولى "دون" المتخللة التي هي بمنزلة "الصفة" كما أن الحكم يضاف إلى العلة دون الوصف "وأما الشبه" بالسبب "فلأنها" أي الأولى "لا توجب" الحكم "إلا بواسطة" بينها وبينه وهي الثانية كما أن السبب كذلك "وحقيقة هذا نفي(25/432)
العلة" لأن العلة الحقيقية لا تتوقف على واسطة بينها وبين المعلول "مثال ذلك" أي علة العلة الشبيهة بالسبب "شراء القريب فإنما هو علة لملك العلة للعتق فهو" أي شراؤه "علة العلة" للعتق "فبين العلة اسما ومعنى لا حكما والعلة التي تشبه الأسباب عموم من وجه لصدقهما فيما قبله" أي قسم علة العلة من النصاب وما بعده "وانفراد" قسم العلة "المشبهة" بالسبب "في شراء القريب" فإنه لا يتحقق فيه التراخي ليصدق عليه أنه علة اسما ومعنى لا حكما أيضا "و" انفراد "العلة اسما ومعنى لا حكما في البيع بشرط" الخيار الشرعي لهما أو لأحدهما "والموقوف وإلى علة معنى وحكما كآخر" أجزاء العلة "المركبة" من وصفين مؤثرين مترتبين في الوجود لوجود التأثير والاتصال "لا اسما إذا لم يضف" الحكم "إليه" أي إلى هذا الجزء الأخير "فقط" بل إنما يضاف إلى المجموع وهذا قول البعض ومشى عليه فخر الإسلام وموافقوه وذهب غير واحد إلى أن ما عدا الأخير يصير بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم ويصير الحكم مضافا إلى الجزء الأخير كما في أثقال السفينة والقدح الأخير في السكر وعزاه في التلويح إلى المحققين. قلت وعلى هذا فيكون علة اسما أيضا. فإن قلت لا لأن الشرط في كون ما أضيف إليه الحكم علة اسما أن تكون إضافته إليه بلا واسطة والحكم إنما يضاف(25/433)
ص -210-…إلى الأخير بواسطة تحقيق ما قبله معه. قلت كون الحكم إنما يضاف إلى الجزء الأخير بعد تحقق ما قبله في نفس الأمر مسلم ولكن ليس الشرط في كونه علة اسما انتفاء الواسطة في إضافته إليه في نفس الأمر بل في إطلاق إضافته إليه كما تقدم في أول هذا التقسيم والجزء الأخير من هذا القسم كذلك كما هو ظاهر من مثالهم له وهو ملك ذي الرحم المحرم للعتق فإن كلا من القرابة المحرمة للنكاح والملك مؤثر في العتق أما القرابة المحرمة فإنها توجب الحرمة والرق يوجب المذلة وإذا صينت عن أدنى الرقين وهو النكاح احترازا عن القطع فلأن تصان عن أعلاهما أولى. وأما الملك فلقوله صلى الله عليه وسلم "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" ويفوت العتق بفوات كليهما فلا جرم أنه إن تأخر الملك عن القرابة أضيف العتق إليه حتى يصير المشتري معتقا وتصح نية الكفارة عند الشراء ولو لم يكن الحكم مضافا إلى الوصف الأخير بل إلى المجموع لما كان الشراء إعتاقا ولما وقع عن الكفارة وإن تأخرت القرابة أضيف العتق إليها حتى لو ورثا عبدا مجهول النسب أو اشتريا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه قيمة نصيبه لأن المدعي يصير معتقا بواسطة القرابة وإلا لما غرم لعدم الصنع منه كما لو ورثا قريب أحدهما نعم إذا قيل بأنه يجب فيما هو علة اسما أن يكون موضوعا للحكم على ما صرح به السرخسي وغيره صح أنه ليس بعلة اسما لأن كلا من القرابة والملك لم يوضع في الشرع للعتق وإنما الموضوع له ملك القرابة المحرمة وشراء القريب المحرم لكن في وجوبه نظرا لجعل اليمين قبل الحنث علة اسما للكفارة مع أنها غير موضوعة إلا للبر كما ذكره المصنف سالفا ثم قد أورد على إضافة الحكم إلى الجزء الأخير أنه ينبغي على هذا أن يضاف الحكم إلى الشاهد الأخير حتى يضمن كل المتلف إذا رجع وأجيب بأن الشهادة إنما تعمل بقضاء القاضي والقضاء يقع بالمجموع فيضمن الراجع أيا كان نصف المتلف ثم قيل هذا الخلاف في الحقيقة(25/434)
راجع إلى العلة إذا تركبت من وصفين أو أوصاف هل يكون المجموع علة أو صفة الاجتماع أو وصف منها غير عين وهو الذي لا يتصور بدونه الاجتماع فاختار فخر الإسلام الأول والقاضي أبو زيد والإمام السرخسي الثاني أو الثالث فسفينة لا تغرق بوضع كر فيها وتغرق إذا زيد عليه قفيز فوضعهما إنسان من مال غيره بغير إذنه فيها فغرقت وتلف ما فيها فعند الأولين يضاف التلف إليهما وعند الفريق الثاني إلى صفة الاجتماع وعند الفريق الثالث إلى قفيز منها غير عين ويستوي الجواب بين أن يلقيهما معا أو متعاقبا لأنه ما لم يوجد الكل لا يتحقق التلف. وأما في حق الحكم فإن كان الطرح من واحد فعليه ضمان الكل إن كان بغير إذن صاحبها طرحهما معا أو متعاقبا أو كان مأذونا من صاحبها بطرح الكر لا غير لأنه ما رضي بوضع متلف وإن كان الطرح من اثنين. فإن طرحا معا فعليهما أو متعاقبا فعلى الأخير منهما عندنا وعليهما عند زفر لأن التلف حقيقة حصل بالكل أو تزايد غير عين فلا فرق بين التعاقب والقران وقال أصحابنا التلف حقيقة وإن حصل كما قال فالأوصاف المتقدمة لا تنعقد علة التلف بدون الوصف الأخير فصار هو المحصل لوصف الاجتماع والمتلف هو وصف الاجتماع أو لأن بالأخير يصير الواحد منهما متلفا لأنه كان(25/435)
ص -211-…موجودا ولم يعمل في التلف فصار هو الجاعل إياه علة والحكم في الشرع يضاف إلى علة العلة كما إلى نفسها عند الانفراد ملخص في الميزان وهذا يفيد أن الإضافة إلى المجموع قول زفر وإلى الأخير قول الباقين والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وإلى علة اسما وحكما كل مظنة" للمعنى المؤثر "أقيمت مقام حقيقة المؤثر" لخفائه دفعا للحرج أو احتياطا "كالسفر والمرض للترخص" برخصهما فإن كلا منهما علة له اسما لأن الحكم الذي هو الرخص يضاف إليهما فيقال رخصة السفر ورخصة المرض وحكما لأن الرخص يثبت عند وجودها "لا معنى لأن المؤثر" في ترخصهما هو "المشقة" لا نفس السفر والمرض لكنهما أقيما مقامها لخفائها ولكونهما سببها إقامة لسبب الشيء مقام الشيء دفعا للحرج إلا أن هذا إنما يتم في السفر فإن جواز الترخص للمسافر منوط بمطلقه لعدم تنوعه فإن المسافر وإن كان في رفاهية لا يخلو عن مشقة عادة ومن ثمة قيل هو قطع مسافات وفيه مسافات لا في المرض لتنوعه إلى ما يكون سببا لزيادة المشقة وهو المناط به رخصة الإفطار وإلى ما لا يكون كذلك وهي ليست بمنوطة به "وكالنوم" مضطجعا ونحوه "للحدث إذ المعتبر" في تحقق الحدث "خروج النجس" من أحد السبيلين أو من البدن إلى موضع يلحقه حكم التطهير على الاختلاف المعروف في ذلك بين الأئمة "إلا أنه" أي النوم "علة سببه" أي خروج النجس "الاسترخاء" بالجر أي علة استرخاء المفاصل الموجب لزوال المسكة التي هي سبب الخروج لا علة نفس الخروج "فأقيم" النوم "مقامه" أي خروج النجس إقامة لعلة السبب للشيء مقام ذلك الشيء احتياطا في العبادات "فكان" النوم "علة اسما" للحدث "لإضافة الحدث" إليه فيقال حدث النوم وحكما لأنه يثبت عند النوم لا معنى لأن المؤثر في الحدث إنما هو الخروج المذكور "وإلى علة معنى فقط وهو بعض أجزاء" العلة "المركبة" من وصفين مؤثرين في حكم حال كون ذلك البعض "غير" الجزء "الأخير" منها إذ ذلك البعض مؤثر في الجملة في(25/436)
الحكم ولا يضاف الحكم إليه بل إلى المجموع ولا يترتب عليه "وليس" هذا البعض "سببا" للحكم "لو تقدم" على البعض الآخر لأنه ليس بطريق موضوع لثبوت الحكم بعينه وهذا على ما عليه فخر الإسلام وموافقوه "خلافا لأبي زيد وشمس الأئمة" السرخسي فإنه عندهما سبب إذا تقدم لأن الحكم لا يثبت ما لم تتم العلة فكان المبدأ معتبرا لتمام العلة وكالطريق إلى المقصود ولا تأثير له ما لم ينضم إليه الباقي وقد تخلل بينه وبين الحكم وجود غيره وهو غير مضاف إليه فكان سببا وإنما ذهب فخر الإسلام إلى أنه ليس بسبب بل له شبه العلية "وإن لم يجب" الحكم "عنده لفرض عقلية دخله في التأثير" في الحكم وما كان كذلك لا يكون سببا محضا فانتفى ما في التلويح وهذا يخالف ما تقرر عندهم من أنه لا تأثير لأجزاء العلة في أجزاء المعلول وإنما المؤثر تمام العلة في تمام المعلول انتهى. إذ لا مخالفة له في شيء إذ مرادهم بقولهم: المؤثر تمام العلة في تمام المعلول المؤثر التام وهذا لا ينافي أن يكون للجزء أثر ما في تمام المعلول وإلا لم يحتج إليه في العلية "ولذا" أي فرض عقلية دخله في التأثير "جعلوا" أي أصحابنا "كلا من القدر(25/437)
ص -212-…والجنس محرما للنسيئة لشبهة العلة بالجزئية" أي بسبب الجزئية لأن لربا النسيئة شبهة الفضل فإن للنقد مزية على النسيئة عرفا حتى كان الثمن في البيع نسيئة أكثر منه في البيع نقدا "فامتنع إسلام حنطة في شعير و" إسلام ثوب "قوهي في" ثوب "قوهي" وهو نسبة إلى قوهستان كورة من كور فارس لشبهة العلة "والشبهة مانعة هنا" أي في ربا النسيئة "للنهي عن الربا والريبة" أي الفضل الخالي عن العوض وشبهه إلا أن النهي عن الريبة أفاد في المغرب أنه إشارة إلى حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن الكذب ريبة وإن الصدق طمأنينة أي ما يشكك ويحصل فيك الريبة وهي في الأصل قلق النفس واضطرابها فهي إذن بكسر الراء ثم الياء آخر الحروف الساكنة ثم الباء الموحدة المفتوحة والحديث أخرجه غير واحد منهم الترمذي وقال حسن صحيح وأفاد أن من روى الريبة على حسبان أنها تصغير الربا فقد أخطأ لفظا ومعنى وعلى هذا ففي ثبوت المطلوب به نظر وقد يستدل له بأن حرمة النساء مبنية على الاحتياط وهو أسرع ثبوتا من حرمة الفضل للحديث الصحيح "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" فيجوز أن يثبت بأحد الوصفين الذي له شبهة العلة ولا يثبت به حرمة الفضل لأنها أقوى الحرمتين ولها علة معلومة في الشرع فلا يثبت بما هو دونها في الدرجة "وخرج العلة حكما فقط على الشرط" كدخول الدار "في تعليق الإيجاب" كأنت طالق "لثبوت الحكم" وهو الطلاق "عنده" أي دخول الدار "مع انتفاء الوضع" أي وضع دخول الدار لوقوع الطلاق وإضافته إليه "والتأثير" له فيه. "وكذا الجزء الأخير من السبب الداعي" أي الحكم "المقام" مقام المسبب الذي هو الحكم "إذا كان" السبب الداعي "مركبا" من جزأين فصاعدا علة حكما فقط لوجود الاتصال من غير وضع له ولا إضافة إليه ولا تأثير له فيه وإذا كان السبب الداعي لا تأثير له فيه فكيف بجزئه والمخرج للعلة حكما فقط على هذين صدر الشريعة "وما أقيم من دليل(25/438)
مقام مدلوله كالإخبار عن المحبة" في إن كنت تحبيني فأنت طالق لوجود الطلاق عند إخبارها عن حبها له مع انتفاء وضعه له وتأثيره فيه وإنما أقيم الدليل مقام المدلول للعجز عن الوقوف على حقيقته وكم له من نظير ثم في كشف البزدوي ولكنه مقتصر على المجلس حتى لو أخبرت عن المحبة خارج المجلس لا يقع الطلاق لأنه يشبه التخيير من حيث إنه جعل الأمر إلى إخبارها والتخيير مقتصر على المجلس ولو كانت كاذبة في الأخبار يقع فيما بينه وبين الله لأن حقيقة المحبة لا يوقف عليها من جهة غيرها ولا من جهتها لأن القلب لا يستقر على شيء فصار الشرط الإخبار عن المحبة وقد وجد فيثبت الحكم كذا في شرح المبسوط لفخر الإسلام ثم التنصيص على أن هذا من قبيل العلة حكما لم أقف عليه في كلام غير المصنف فلعله من تخريجه والله تعالى أعلم.
[شروط العلة]
"المرصد الثاني في شروطها" أي العلة "استلزم ما تقدم من تعريفها اشتراط الظهور والانضباط" أي كونها وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه "ومظنية الحكمة" أي وكونها مظنة للحكمة التي شرع الحكم لأجلها "أولا أو بواسطة مظنة أخرى فلزمت المناسبة" أي كونها(25/439)
ص -213-…مناسبة للحكم الذي شرعت له "وعدم الطرد" أي مجرد وجود الحكم عند وجودها كما سلف بيانه "ومنها" أي شروط العلة "أن لا يكون عدما لوجودي لطائفة من الشافعية" منهم الآمدي "وغيرهم" كابن الحاجب وصاحب البديع وعزاه سراج الدين الهندي في شرحه إلى الجمهور "والأكثر" منهم البيضاوي مذهبهم "الجواز" أي جواز كونها عدما لوجودي كقلبه اتفاقا "قيل وجواز" تعليل "العدمي به" أي بالعدمي كعدم نفاذ التصرف بعدم العقل "اتفاق" ذكره غير واحد منهم القاضي عضد الدين قال "النافي" لتعليل الوجودي بالعدمي "العلة" هي الأمر "المناسب" لمشروعية الحكم "أو مظنته" أي المناسب إذا لم يكن ظاهرا لما علم من أن الحق أن الوصف الجامع بحسب أن يكون باعثا بأن يكون مشتملا على حكمة مقصودة للشارع وأن الباعث منحصر في المناسب ومظنته وهو ما يلازمه "والعدم المطلق ظاهر" أنه ليس بمناسب ولا مظنته بل نسبته إلى جميع المحال والأحكام سواء فلا يصلح أن يكون علة. "و" العدم "المضاف إما" مضاف "إلى ما في الشرعية" أي إلى شيء في شرعية الحكم "معه" أي مع ذلك الشيء "مصلحة" لذلك الحكم "فهو" أي العدم المضاف "مانع" من الحكم لعدم تلك المصلحة وعدم المصلحة مانع منه فلا يكون عدمه مناسبا للحكم الوجودي ولا مظنته مناسب له فإن ما يستلزم عدم مصلحة ذلك الحكم لا يكون مناسبا له "أو" مضاف إلى ما في الشرعية معه "مفسدة" لذلك الحكم "فهو" أي العدم المضاف إليه "عدمه" أي عدم المانع من الحكم وهو ليس بعلة للحكم لأن عدم المانع ليس مناسبا ولا مظنة مناسب بالاتفاق بل لا بد معه من مقتض يقال أعطاه لعلمه أو لفقره ولو قيل لعدم المانع عد سخفا لكن قد قيل على هذا لم لا يجوز أن يكون عدمه منشئا لمصلحة ودافعا لمفسدة تنشأ من وجوده فيكون مقتضيا وعدما للمانع ومثله يصح التعليل به "أو" إلى "مناف مناسب" لمشروعية الحكم "حتى جاز أن يستلزم" عدم المنافي للمناسب المناسب لمشروعية الحكم فيحصل بذلك(25/440)
لعدم الحكمة لاشتمالها عليه وحينئذ فيكون عدم المنافي للمناسب "المناسب" لمشروعية الحكم فيحصل بذلك العدم الحكمة لاشتمالها عليه وحينئذ "فيكون" عدم المنافي للمناسب "مظنته" أي المناسب "ثم لا يصلح" عدم المنافي للمناسب مظنة للمناسب "لأن ما" أي المناسب الذي "هو" أي العدم "مظنة له" أي للمناسب "إن كان" وصفا منضبطا "ظاهرا" بحيث يصلح لترتيب الحكم عليه "أغنى" بنفسه عن المظنة التي هي العدم فكان هو العلة بالحقيقة "أو" كان "خفيا فنقيضه وهو ما عدمه مظنة خفي" أيضا "لاستواء النقيضين جلاء وخفاء" والخفي لا يصلح مظنة للخفي لأن الخفي لا يعرف الخفي وقد تعقب هذا بالمنع لجواز اختلاف النقيضين جلاء وخفاء لتكرار وإلف وغيرهما من الأسباب وكيف والملكات أجلى من الإعدام. "أو" مضاف إلى "غير مناف" للمناسب "فوجوده" أي غير المنافي "وعدمه سواء" في تحصيل المصلحة "فليس عدمه بخصوصه علة بأولى من عكسه" أي بأن يكون وجوده بخصوصه علة فلا يصلح علة وقد فرضناه علة هذا خلف ثم أشار إلى إيضاحه بمثال وهو "كما لو قيل يقتل المرتد لعدم إسلامه فلو كان في قتله مع إسلامه مصلحة فاتت" فيكون عدم(25/441)
ص -214-…الإسلام مانعا من القتل وهو باطل "أو" كان في قتله مع إسلامه "مفسدة فعدم مانع" أي فيكون الإسلام مانعا من القتل فما المقتضي لقتله "أو" كان القتل مع الإسلام "ينافي مناسبا للقتل ظاهرا وهو" أي المناسب الظاهر للقتل "الكفر فهو" أي الكفر العلة فليقل يقتل لأنه كافر "أو" كان القتل مع الإسلام ينافي مناسبا للقتل "خفيا" وهو الكفر مثلا "فالإسلام كذلك" أي خفي لأنه نقيضه والنقيضان مثلان "فعدمه" أي الإسلام "كذلك" أي خفي فلا فرق ضرورة بين معرفة الكفر ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء "أو" كان القتل مع الإسلام "لا" ينافي مناسبا إذ ليس الكفر هو المناسب، ولذا قال مالك يقتل وإن رجع إلى الإسلام "فالمناسب" شيء "آخر يجامع كلا من الإسلام وعدمه" أي الإسلام فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة فلا يكون عدم الإسلام خاصة مظنة الحل. "ودفع" هذا الدليل "من الأكثر باختيار أنه" أي ما أضيف إليه العدم "ينافيه" أي المناسب "وجاز كونه" أي المناسب الذي ينافيه ما أضيف إليه العدم "العدم نفسه لا" كون عدم ما أضيف إليه العدم "مظنته" أي المناسب والمستدل إنما أبطل هذا. وأما كون عدم ما أضيف إليه العدم هو عين المناسب فلم يتعرض له وإنما قلنا يجوز "لاشتماله" أي العدم "على المصلحة كعدم الإسلام" فإنه مشتمل "على مصلحة التزامه" أي الإسلام "بالقتل" أي بسبب خوفه من القتل "والحنفية يمنعون العدم مطلقا" أي المطلق والمضاف أن يكون علة لوجودي أو عدمي "فلم يصح النقل السابق" أي نقل الاتفاق على جواز تعليل العدمي بالعدمي "والدليل المذكور" للنافين للوجودي خاصة "يصلح لهم" أي للحنفية النافين له مطلقا "لأنه" أي الدليل المذكور "يبطل العدم مطلقا" أي كونه علة لوجودي أو عدمي لانتفاء المناسبة ومظنتها فيه وكيف لا وهو ليس بشيء فلا يصلح حجة لإثبات الأحكام وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة لأنه ثابت بالعدم الأصلي فلا يصلح العدم له لا للعدم ولا للوجود(25/442)
"ويرد" عدم جواز كون العدمي علة للعدمي "نقضا من الأكثر على" دليل "الطائفة" القائلين بعدم جواز كون العدمي علة لوجودي وجواز كونه علة لعدمي "وكون العدم نفسه المناسب لم يتحقق والمناسب في المثال" المذكور "الكفر وهو" أي الكفر "اعتقاد قائم وجودي ضد الإسلام ويستلزم" الكفر "عدمه" أي الإسلام "كما هو شأن الضدين في استلزام كل عدم الآخر فالإضافة" للقتل "فيه" أي في المثال "إلى العدم" أي عدم الإسلام إنما هو "لفظا" وإلا ففي التحقيق ما هو مضافا إلا إلى الأمر الوجودي الذي هو الكفر غير أنه تجوز بالإضافة إلى لازمه "ويطرد" ما قلنا من كون إضافة الحكم إلى العدم لفظا فقط "في عدم علة ثبت اتحادها لعدم حكمها كقول محمد في ولد المغصوب لا يضمن لأنه لم يغصب" فإن الغصب سبب معين للضمان والخلاف لم يقع في مطلق الضمان بل في ضمان الغصب هل يجب في زوائد المغصوب أم لا فصح تعليل عدم وجوب الضمان في الولد بعدم الغصب إذ لا سبب للضمان هنا إلا هو فعدمه دليل عدم وجوب ضمان الغصب ضرورة "وأبي حنيفة" ومحمد أيضا "في نفس خمس العنبر لم يوجف عليه" أي لم يعمل المسلمون خيلهم وركابهم في تحصيله فإن سبب وجوب الخمس فيه واحد بالإجماع وهو الإيجاف بالخيل والركاب(25/443)
ص -215-…فصح الاستدلال بعدمه على عدم وجوب الخمس وهذا لأن الخمس إنما يجب فيما أخذ من أيدي الكفار بإيجاف الخيل والركاب والمستخرج من البحر ليس في يدهم فإن قهر الماء يمنع قهر غيره عليه فلم يكن غنيمة فلا يخمس. "والوجه" فيهما "ما قلنا" من أن الإضافة إلى العدم لفظا إذ من الظاهر "أنه" أي تعليلهما "ليس حقيقيا وإضافتهما" أي أبي حنيفة عدم الخمس ومحمد عدم الضمان "إنما هو عدم الحكم لعدم الدليل وليس" ذلك "ما نحن فيه من العلة" بمعنى الباعث "قالوا" أي الأكثرون "علل الضرب بعدم الامتثال" وهو عدمي "والضرب ثبوتي" فإنه يصح أن يقال فيما إذا أمر السيد عبده بفعل ولم يمتثل فضربه السيد إنما ضربه لأنه لم يمتثل أمره ولو لم يجز التعليل بالعدم لما صح هذا "أجيب بأنه" أي التعليل إنما هو "بالكف" أي كف العبد نفسه عن الامتثال وهو ثبوتي "قالوا" أي الأكثرون أيضا "معرفة المعجز" أي كون المعجز معجزا أمر "ثبوتي معلل بالتحدي" بالمعجزة "مع انتفاء المعارض" لها بمثلها "وهو" أي انتفاء المعارض "جزء العلة" المعرفة للمعجزة لأنها الإتيان بخارق للعادة مع التحدي وانتفاء المعارض ومعلوم أن انتفاء المعارض أمر عدمي وما جزؤه عدم فهو عدم فبطل سلبكم الكلي. "وكذا معرفة كون المدار علة" للدائر "بالدوران" وعليه المدار للدائر وجودية "وجزؤه" أي الدوران "عدم" لأن الدوران مركب من الطرد والعكس والعكس عدمي إذ هو عبارة عن الوجود مع الوجود والعدم مع العدم وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به وجودي فبطل سلبكم الكلي أيضا "أجيب بكونه" أي العدم "فيهما" أي في معرفة المعجز وعليه الدوران "شرطا" لا جزءا وكون العكس معتبرا في الدوران لا يستلزم دخوله في ماهيته لجواز أن يكون أحد جزأيه وهو الطرد علة والآخر وهو العكس شرطا فيتوقف تأثير الشرط عليه حتى لا يؤثر الطرد بمجرده ويؤثر معه ولا بدع في جواز كون شرط الثبوتي عدميا "ولو سلم كون التحدي لا يستقل" علة لمعرفة(25/444)
المعجز بمعنى أن لا يكون لشيء آخر مدخل معه في التعريف "فمعرف" أي فهو معرف لها "والكلام في العلة بمعنى المشتمل على ما ذكرنا" من المناسبة الباعثة على الحكم لا بمعنى المعرف والله سبحانه وتعالى أعلم.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "على ما لجمع من الحنفية" الكرخي من المتقدمين وأبي زيد من المتأخرين وغيرهما بل حكاه في الميزان عن مشايخ العراق وأكثر المتأخرين واختاره صاحب البديع وبعض الشافعية وأبو عبد الله البصري من المتكلمين "أن لا تكون" العلة "قاصرة" على الأصل مستنبطة وذهب جمهور الفقهاء منهم مشايخنا السمرقنديون والشافعي وأصحابه وأحمد والباقلاني وأبو الحسين البصري وعبد الجبار إلى صحة التعليل بها واختاره صاحب الميزان والمصنف فقال "لنا" في صحة التعليل بها "ظن كون الحكم لأجلها" أي القاصرة "لا يندفع" عن النظر في حكم الأصل فإنه يندفع إليه بمجرد النظر في حكم الأصل "وهو" أي هذا الظن "التعليل والاتفاق على" صحة العلة القاصرة "المنصوصة" أي الثابتة بالنص وعلى المجمع عليها أيضا وإن لم يفد كل منهما إلا الظن ولو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها لم يصح التعليل بها ونقل القاضي(25/445)
ص -216-…عبد الوهاب الخلاف فيهما أيضا غريب ثم مثال القاصرة "كجوهرية النقدين" أي كون الذهب والفضة جوهرين متعينين لثمنية الأشياء في تعليل حرمة الربا فيهما فإنه وصف قاصر عليهما "وأما الاستدلال" للمختار "لو توقف صحتها" أي العلة "على تعديها لزم الدور" لتوقف تعديها على صحتها بالإجماع والدور باطل "فدور معية" كتوقف كل من المتضايفين على الآخر وهو جائز والباطل إنما هو دور التقدم وهو منتف لأن العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها متعدية يثبت أولا ثم تكون علة والمتعدية لا تكون إلا علة لا أنها لا تكون علة ثم علة متعدية. "قالوا" أي مانعو صحة التعليل بالقاصرة المستنبطة "لا فائدة" فيها لأن فائدة العلة منحصرة في إثبات الحكم بها وهو منتف أما في الأصل فلثبوته فيه بغيرها من نص أو إجماع. وأما في الفرع فلأن المفروض أن لا فرع وإثبات ما لا فائدة فيه لا يصح شرعا ولا عقلا "أجيب بمنع حصرها" أي الفائدة "في التعدية بل معرفة كون الشرعية" للحكم "لها" أي للعلة فائدة أخرى لها "أيضا لأنه" أي كون شرعية الحكم لها "شرح للصدر بالحكم للاطلاع" على المناسب الباعث له فإن القلوب إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد إلى غير ذلك "ولا شك أنه" أي الخلاف "لفظي فقيل لأن التعليل هو القياس باصطلاح" للحنفية فهما متحدان وهو أعم من القياس باصطلاح الشافعية كما في كشف البزدوي وغيره فالنافي لجواز التعليل بالقاصرة يريد به القياس وهذا لا يخالف فيه أحد إذ لا يتحقق القياس عند أحد بدون وجود العلة المتعدية والمثبت لجواز التعليل بها يريد به ما لم يكن منه قياسا والظاهر أن هذا لا يخالف فيه أحد أيضا فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد فلا خلاف في المعنى إلا أن هذا يشكل بأن قرينة الحال تفيد أن مورد النفي والإثبات واحد وهو التعليل الكائن في القياس كما يفيده قوله "ولأن الكلام في علة القياس لأن الكلام في شروطه" أي(25/446)
القياس "وأركانه" أي القياس التي منها العلة فينصرف إطلاق جواز التعليل بالقاصرة وعدمه إلى ما هو العلة فيه وحينئذ فلم يقع هذا التعليل موقعه لأنه لا يصلح دليلا على كون الخلاف المذكور لفظيا كما هو ظاهر السياق بل هو قرينة على أن محل الخلاف التعليل بالقاصرة. فإن قلت إنما يصلح ذلك قرينة لهذا لو كان القياس ممكنا مع القاصرة وحيث لم يمكن كان عدم إمكانه معها صارفا عن ذلك فيكون معارضا للقرينة المذكورة. قلت فحينئذ لا حاجة إلى ذكر ذلك المفيد لها بل يجب سقوطه وقوله "وإلا فلهم كثير مثله في الحج وغيره" كأنه يريد به ولو لم يكن التعليل هو القياس كما هو مصطلح الحنفية لم يستقم لهم منع التعليل بالقاصرة في الحج وغير الحج وكأنه يشير بما في الحج إلى ما في الهداية وغيرها ويرمل في الثلاث الأول من الأشواط وكأن سببه إظهار الجلد للمشركين حتى قالوا أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى وهو ظاهر وبما في غير الحج إلى مثل تعليل وجوب الاستبراء على الرجل فيما إذا حدث له ملك الرقبة بتعرف براءة الرحم قاصر عن الصغيرة والآيسة ووجوب العدة على المرأة في الفرقة الطارئة على النكاح بهذا أيضا فإنه قاصر عنهما أيضا "لكن ربما سموه" أي(25/447)
ص -217-…الحنفية التعليل بالقاصرة "أبدا حكمة لا تعليلا" كأنه تمييز بينه وبين التعليل بالمتعدية الذي هو القياس يعني وحمل كلام العقلاء فضلا عن العلماء النبلاء على عدم التناقض ما أمكن مقدم على حمله على التناقض وقد أمكن هنا كما ذكرنا فيتعين هذا غاية ما ظهر لي في شرح هذا الكلام ويتلخص منه أنه استدل على أن الخلاف لفظي بأن التعليل هو القياس باصطلاح وأعم منه بآخر فيحمل النفي على القول باتحادهما والإثبات على كون التعليل أعم حال كونه مرادا به ما ليس بقياس وهذا حق غير أن هذه الجملة لا تفي العبارة بالدلالة عليها وأنه ثانيا أفاد أن محل الخلاف إنما هو علة القياس ومعلوم أن الخلاف على هذا لا يكون لفظيا بل غايته أنه لا ينبغي أن يقع خلاف في عدم جواز التعليل بها فلا ينبغي أن يذكر دليلا على كونه لفظيا وأنه ثالثا لو لم يكن المراد بالتعليل عند الحنفية القياس لم يستقم لمانعيه بالقاصرة منهم التعليل بها في المواضع المذكورة وهذا لا بأس به في الجملة ثم حق التحرير أن يقال ولا شك أنه لفظي لأن التعليل هو القياس عند الحنفية وأعم عند الشافعية فالنافي يريد القياس والمجيز يريد ما ليس منه بقياس وكلاهما حق إذ لا قياس بدون المتعدية ولا مانع من إبداء الحكمة وإن لم يعم مواقع الحكم كلها والله سبحانه أعلم.(25/448)
"وجعله" أي الخلاف "حقيقيا مبني على اشتراط التأثير" في التعليل "أو الاكتفاء بالإخالة" فيه "فعلى الأول" وهو اشتراط التأثير فيه كما عليه الحنفية "تلزم التعدية" وعلى الثاني وهو الاكتفاء بالإخالة كما عليه الشافعية لا تلزم التعدية وطواه لدلالة مقابله عليه وخصه بالطي لأن الأول هو المقصود بالذكر لإفادة تعقبه والجاعل: صدر الشريعة "غلط إذ لا يلزم فيه" أي التأثير "وجود عين علة لحكم الأصل في" محل "آخر يكون فرعا للاكتفاء بجنسه" أي المدعى علة "في" محل "آخر لما صرح به من صحة التعليل بلا قياس" والحاصل كما قال المصنف أن اللازم في التأثير كون العين المعلل بها الحكم ثبت اعتبار جنسها في جنس الحكم أو عينه وهذا لا يستلزم كون العين الذي علل بها ثابتا في محل آخر بل جاز كون ذلك المعلل به الحكم غير ثابت بعينه في غيره ودل على اعتباره ثبوت اعتبار جنسه في جنس ذلك الحكم أو عينه "بذلك" أي الاكتفاء بالجنس في آخر "إنما تعدد محل الجنس" وهو لا يستلزم تعدد محل ذلك العين لجواز كون ذلك الجنس في فرد آخر غير ذلك العين فلم يتعدد محل ما جعل علة "وليس" الجنس هو "المعلل به وإلا" لو كان هو المعلل به "لكان الأخص عين الأعم وكانت العلة جنسه" أي جنس العين "لا هو" أي العين "وهو" أي وكونها جنسه "غير الفرض" لأن الفرض وجود عين المدعى علة لحكم الأصل في آخر "فلا يستلزم التأثير تعدي ما علل به" بعينه إلى آخر "وجعل ثمرته" أي هذا الخلاف "منع تعدية حكم أصل فيه" وصفان "متعد وقاصر للمجيز" للتعليل بالقاصرة "لا المانع" للتعليل بها كما ذكره صدر الشريعة "كذلك" أي غلط أيضا "بل الوجه إن ظهر استقلال" الوصف "المتعدي" في العلية "لا يمنع اتفاقا أو" ظهر "التركيب" للعلة من المتعدي والقاصر "منع اتفاقا" وفي التلويح واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة الغير المنصوصة لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك فلا نزاع وإن أريد عدم(25/449)
ص -218-…الظن فبعد ما غلب على رأي المجتهد عليه الوصف القاصر وترجح عنده بأمارة معتبرة في استنباط العلل لم يصح نفي الظن ذهابا إلى أنه مجرد وهم. وأما عند عدم رجحان ذلك أو عند تعارض القاصر والمتعدي فلا نزاع في أن العلة هي الوصف المتعدي وأجيب بأن مبنى الخلاف على تقدير اشتراط التأثير وعدمه فحينئذ يكون للنزاع معنى ظاهر لأن من اشترط التأثير في التعليل لا يغلب على رأي المجتهد كون القاصرة علة بخلاف من اكتفى بمجرد الإخالة فإن عنده يحصل الوقوف على العلية مع الاقتصار على مورد النص انتهى وذكر السبكي أن الشافعية اختلفوا فيما إذا اجتمعت القاصرة والمتعدية وتعارضتا فالجمهور رجح المتعدية. وقيل القاصرة وقيل بالوقف ثم أفاد إنما ترجح المتعدية على القاصرة إذا تساوتا من كل وجه إلا وجهي التصور والتعدي أما لو رجحت القاصرة بالإجماع عليها أو بغيره فهي أرجح وقد تترجح القاصرة بوجه يقابل وجه التعدي فيتعادلان فتكون الفائدة الوقف ومنع التعدية من المتعدي "وما أورد على الحنفية" القائلين بعدم صحة العلة القاصرة "من التعليل بالثمنية للزكاة" في المضروب "على ظن الخلاف" المعنوي في جواز التعليل بالقاصرة "وهو" أي التعليل بالثمنية لها وصف "قاصر منع" وروده "بتعديه" أي وصف الثمنية "إلى الحلي" فهو تعليل بوصف متعد "ولقد كان الأوجه جعل الخلاف على عكسه" أي عكس الخلاف في جواز التعليل بالقاصرة "من التعليل بعلة يثبت بها حكم محل غير منصوص" فينسب إلى الحنفية الجواز وإلى الشافعية عدمه وإنما كان هذا أوجه "لما تقدم" في المرصد الأول "من قبولهم" أي الحنفية "التعليل بلا قياس بما ثبت لجنسها إلخ" أي العلة التي ثبت لجنسها أو لعينها اعتبار في جنس الحكم. "وهو" أي التعليل بما اعتبر جنسه أو عينه في جنس الحكم تعليل "بقاصرة إذ لم توجد" تلك العلة "بعينها في محلين" وحينئذ فيقال في الجواب "فالحنفية نعم" يجوز التعليل بعلة يثبت بها حكم محل غير(25/450)
منصوص عليه "إذا ثبت الاعتبار" لها "بما ذكرنا في الأقسام الثلاثة" من تأثير جنسها في عين الحكم أو جنسه وتأثير عينها في جنس الحكم "والشافعية لا" يجوز التعليل بها "لأنه" أي ذلك الوصف الذي هذا شأنه "من المرسل" الملائم على ما ذكر ابن الحاجب وموافقوه لكن الشأن في أن هذا غير مقبول عندهم وقد تقدم ما فيه وأن الآمدي ذكر أن ما اعتبر جنسه في جنسه فقط ولا نص ولا إجماع من جنس المناسب القريب وأنه مقبول والله تعالى أعلم.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "على" قول "من قدم قول الصحابي" على القياس "أن لا تكون" العلة "معدية" من الأصل "إلى الفرع حكما يخالف قول الصحابي فيه" أي في الفرع "بشرطه" أي تقديم قوله عليه "السابق في وجوب تقليده" المذكور في مسألة قبيل فصل في التعارض "وتجويز كونه" أي قول الصحابي في الفرع واقعا "عن" علة "مستنبطة" من أصل آخر فحينئذ لا تكون مخالفة قوله دافعة للظن بعلية ما جعل علة في الأصل الذي قصد تعدية حكمه إلى ذلك الفرع كما ذهب إليه المجوزون "وذكر عضد الدين أنه الحق" "عند هؤلاء" القائلين بتقديم قوله على القياس "احتمال مقابل لظهور كونه" أي قوله واقعا "عن نص" فيه(25/451)
ص -219-…"كما سبق" ثمة حيث قال بل يفوت فيه احتمال السماع ولو انتفى فإصابته أقرب إلخ فلا يقدح في الحجية ثم لا خفاء في أن هذا إذا كان قولا يدرك بالقياس أما ما لا يدرك به فيشترط خلوه عنه للاتفاق على تقديمه على القياس لأن له حكم الرفع.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "عدم نقض" العلة "المستنبطة عند تخلف الحكم عنها في محل" ولو بمانع أو عدم شرط "لمشايخ ما وراء النهر من الحنفية" وأبي منصور الماتريدي وفخر الإسلام والشافعي في أظهر قوليه وأكثر أصحابه "وأبي الحسين" البصري "إلا أبا زيد" من مشايخ ما وراء النهر فإنه وأكثر العراقيين أيضا ومنهم الكرخي والرازي ومالكا وأحمد وعامة المعتزلة على أنه ليس بشرط "واختلفوا" أي الحنفية الشارطون عدم النقض في صحة المستنبطة "في المنصوصية فمانع أيضا" عندهم وبه قال الإسفراييني وعبد القاهر البغدادي. وقيل إنه منقول عن الشافعي "ومجوز" وهم أكثرهم "والأكثر ومنهم عراقيو الحنفية كالكرخي والرازي" وأبي عبد الله الجرجاني وأكثر الشافعية على ما في البديع "يجوز" التخلف في محل "بمانع أو عدم شرط فيهما" أي المستنبطة والمنصوصة فقيل يقدح مطلقا قال السبكي وهو المنسوب إلى الشافعي وأصحابه ويعده أصحابنا في جملة مرجحات مذهب الشافعي على غيره ويقولون علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها لا يصدها صاد ثم قال وعليه القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري وجماهير المحققين "واختار المحققون" كابن الحاجب "الجواز" للنقض "في المستنبطة إذا تعين المانع" من العلية في محل النقض ولو عدم شرط فإنه مانع أيضا "وفي المنصوصة بنص عام" يدل بعمومه على العلية في محل النقض ويعارضه عدم الحكم فيه لدلالته على عدم العلية فيه "لكن إن لم يتعين" المانع من العلية في محل النقض "قدر" وجوده فيه مثاله أن يرد الخارج النجس ناقض ويثبت أن الفصد لا ينقض فيحمل على غير الفصد ووجب تقدير مانع إن لم يعلمه "أما" إذا كانت منصوصة "بقاطع(25/452)
في محل النقض فيلزم الثبوت فيه" أي في محل النقض لعدم جواز تخلف المدلول عن دليله القطعي "أو في غيره" أي غير محل النقض "فقط فلا تعارض" لأن النص القاطع إنما دل على عدم عليته في محل النقض. وتخلف الحكم إنما دل على عدم عليته في محل النقض ولا تعارض عند تغاير المحلين فلا نقض لأن معناه أن الدليل دل على علية الوصف فيه وتخلف الحكم دل على عدم عليته فيه وليس هذا كذلك "قيل ولا فائدة في قيد القاطع لأن الظني كذلك" كما أشار إليه التفتازاني بقوله ولا خفاء في أنه لو ثبت العلية في غير محل النقض خاصة بظني فلا تعارض أيضا انتهى لتغاير المحلين ويزداد انتفاء إن كان حكم محل النقض ثابتا بقطعي لأن الظني لا يعارض القطعي "وهذا" التفصيل "مراد الأكثر" بقولهم يجوز بمانع أو عدم شرط فيهما لأنه مقتضى الدليل ويبعد منهم مخالفته "وليس" هذا مذهبا "آخر" غيره كما هو صريح كلام ابن الحاجب. "ونقل الجواز" أي جواز النقض "فيهما" أي المستنبطة والمنصوصة "بلا مانع" وعبر عنه السبكي بلا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد "و" جواز النقض "كذلك" أي بلا مانع "في المستنبطة فقط" نقله ابن الحاجب(25/453)
ص -220-…وغيره "والحق نقل بعضهم" وهو الشيخ قوام الدين الكاكي "الاتفاق على المنع" من التعليل بعلة منقوضة "بلا مانع" لأن المنقوض لا يصلح علة قال المصنف "ومعنى قولهم" أي القائلين يجوز فيهما أو في المستنبطة بلا مانع "الحكم به" أي بالمانع "إن لم يتعين" المانع "لدليلهم" أي المجوزين في المستنبطة بلا مانع "القائل المستنبطة علة" بما يوجب الظن بدليل ظاهر من الطرق الدالة على العلة توجب ظنها "والتخلف مشكك" أي موجب للشك "في عدمها" أي العلية "فلا يوجب ظن عدمها" بل إنما يوجب الشك فيه "فإنه" أي التخلف "إن" كان "بلا مانع فلا علة" لاستناد التخلف حينئذ إلى عدم المقتضي "و" إن كان "معه" أي المانع فالعلة "ثابتة" لأن الظن كما هو "وجوازهما" أي الوجود والعدم "على السواء" والظن لا يرفع الشك فالتخلف لا يبطل العلية. قال المصنف ووجه دلالة دليلهم على اشتراط تقديره أن قولهم: أن بلا مانع لا علة ومع المانع العلية ثابتة فلما لم يعلم الواقع من أحد الأمرين ودليل العلية القائم أوجب ظنها لزم اعتبار عليتها فلزوم اعتبار عليتها مع تصريحهم بعدم العلية عند عدم المانع يوجب منهم تقديره مع حكمهم بقيام العلية مع التخلف بالضرورة انتهى ومثل هذا يجيء في المنصوصة "وأجيب" عن هذا الدليل أن التخلف "إن" كان "أوجب الشك في عدمها" أي العلية "أوجب في نقيضها" أي العلية لأن الشك في أحد المتقابلين يوجبه في الآخر إذ حقيقة احتمال المتقابلين سواء "فناقض قولكم" العلة "مظنونة" قولكم العلة "مشكوكة" لأن المظنون محل الظن ولا يجتمع الظن مع الشك في محل واحد لتضادهما ولا خفاء في أن قولكم مفعول ناقض و "مشكوكة" فاعله وفي الحقيقة خبر جملة مقول القول المقدر كما رأيت والكلام المتناقض لا يلتفت إليه "وقول الفقهاء لا يرفع الظن بالشك أي حكمه" أي الظن "السابق لا يرفع شرعا لطرو الشك فيه المستلزم لارتفاعه عن البقاء" لجواز أن يجعل الشرع حكم الضد الزائل باقيا(25/454)
بأن يجوز الصلاة مع زوال ظن الطهارة بالشك في الحدث لا أن معناه أن نفس الظن لا يزول بنفس الشك فإن زوال الضد عند طرو الضد ضروري فلا يلزم من كلامهم اجتماع الظن والشك في متعلق واحد "ولا يمكن مثله" أي مثل هذا المراد "هنا" أي في مظنونية العلة ومشكوكية عدمها "لأنه" أي الكلام "في ظن العلية لا حكمها" فإذا زال بالشك لئلا يلزم اجتماعهما في محل واحد حكمنا بعدم الاعتبار نعم لو ثبت من الشارع جواز القياس مع زوال ظن العلية بالشك لتابعناه وقلنا فيه مثل ما تقدم "وإذا لزم من كلامهم تقدير المانع" إذا لم يتعين "كفاهم" في الجواب "التخلف لمانع يوجب نفي ظنها" أي العلية "والدليل أوجبه" أي ظنها "وأمكن الجمع" بينهما "بتقديره" أي المانع في التخلف إذ يعمل بالدليل الموجب لظنيها في غير صورة النقض وبالموجب للإهدار في صورة النقض فوجب المصير إليه كغيره من المواضع التي يجمع فيها بين الدليلين. "قالوا" أي القائلون بالجواز في المستنبطة ثانيا "لو توقف الثبوت" للحكم "بها" أي بالعلية "في غير محل التخلف" للحكم "عليه" أي ثبوت الحكم "بها" أي بالعلية "فيه" أي في محل التخلف "انعكس" أي توقف ثبوت الحكم في محل التخلف عليه بها في غير محل التخلف "فدار أو لا" ينعكس "فتحكم" لأنه(25/455)
ص -221-…ترجيح بلا مرجح ووقع في كلام ابن الحاجب قلب هذا وهذا أوجه "أجيب" باختيار الأول ولا ضير في لزوم الدور المذكور إذ هو "دور معية" لا دور تقدم "وهذا" الجواب "صحيح إذا أريد توقف اعتبار الشارع" كونها علة "لكن الكلام" ليس فيه بل "في الدلالة عليها" أي على عليتها "أي لو توقف العلم بالثبوت بها أي بعليتها" تفسير للثبوت بها "إلخ" أي في غير محل التخلف عليه بها فيه انعكس فدار "وإذن فترتب" أي فهو دور ترتب "لأنا لا نعلمها" أي عليتها "إلا بالثبوت" أي بالعلم بثبوت الحكم بها "في الكل" أي في جميع صور وجودها إذ كاسب العلم لا يكون إلا عالما ولذا قال "فلو علم بها" أي بالعلية "الثبوت" للحكم "تقدم كل" منهما على الآخر "لأن ما به العلم" بالشيء "قبله" أي قبل العلم بالشيء فيلزم توقف العلم بعليتها على العلم بثبوت الحكم بها وثبوت الحكم بها على العلم بعليتها. ؛ "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "الجواب منع لزوم الانعكاس والتحكم إذ ابتداء ظن العلية" إنما هو "بأحد المسالك" للعلة من مناسبة وغيرها "فإذا استقرأت المحال" للعلة "لاستعلام معارضة من التخلف لا لمانع فلم يوجد" التخلف لا لمانع في محل منهما "استمر" ظن العلية "فاستمراره" أي ظنها هو "الموقوف على الثبوت" للحكم في جميع المحال "أو" على "عدمه" أي الثبوت في بعض المحال "مع المانع والحكم بالثبوت به" أي بالوصف إنما يتوقف "على ابتداء ظنها" أي علية الوصف المذكور "في الجملة" فلا دور "واستشكل" هذا "بما إذا قارن" ظن العلية "العلم بالتخلف" إذ لا يتأتى حينئذ ذكر الاستمرار بخلاف ما إذا كان متأخرا "كما لو سأله فقيران" غير فاسق وفاسق "فأعطى أحدهما" وهو غير الفاسق "ومنع الفاسق فإن العلم بعلية الفقر" لإعطائه "يتوقف على العلم بمانعية الفسق" للإعطاء "وبالعكس" أي والعلم بمانعية الفسق يتوقف على العلم بعلية الفقر "فالصواب أن المتوقف على العلم بالعلية العلم بالمانعية(25/456)
بالفعل والمتوقف عليه العلية هو المانعية بالقوة وهو" أي المانع بالقوة "كون الشيء بحيث إذا جامع باعثا منعه" أي الباعث "مقتضاه" والفسق للإعطاء كذلك إذ الفسق كونه بحيث إذا جامع الفقر منعه مقتضاه الذي هو الإعطاء وجد الفقر أو لا لا أن المتوقف عليه العلة المانعية بالفعل وهذه الجملة من شرح القاضي عضد الدين.
قال المصنف "وهذا" الدليل مع جوابه "مشترك القولين" اللذين أحدهما يجوز في المنصوصة والمستنبطة والآخر يجوز في المستنبطة فقط "ويزيد المانع في المنصوصة باستلزامه" أي النقض فيها "بطلان النص المقتضي الثبوت في محل التخلف" لتناول النص المذكور محل التخلف "بخلاف المستنبطة" فإن دليلها ترتب الحكم عليها عند خلوها عن المانع ولا تخلف للحكم عن هذا الدليل لأن انتفاء العلية في صورة النقض مبني على انتفاء الدليل. "أجيب" عن هذا "إن" كان النص "قطعيا بالثبوت في محل التخلف لم يقبل التخصيص" كغيره من التخصيصات التي تتصور للقواطع فإن القاطع لا يقبل شيئا منها "أو" كان "ظنيا وجب قبوله وتقدير المانع جمعا" بين دليلي الاعتبار والإهدار كما تقدم آنفا "وأنت علمت ما يكفيهم" في الجواب عن هذا من أن التخلف لا لمانع يوجب نفي ظنها والدليل(25/457)
ص -222-…أوجبه وأمكن الجمع بتقديره فوجب كما في غيره فليقتصر عليه "فإنما هذا من تصرفات المولعين بنقل الخلاف دون تحرير وللعاكس" للجواز في المستنبطة لا المنصوصة وهو القائل بالجواز في المنصوصة لا المستنبطة "نحوه" أي هذا الدليل المذكور للجواز في المستنبطة وهو "لو صحت المستنبطة مع نقضها كان" كونها صحيحة "للمانع" أي لتحقق المانع في محل التخلف "فتوقفت صحتها" حال كونها "منقوضة عليه" أي المانع "وإلا" لو تخلفت بلا مانع "فلا اقتضاء وتحققه" أي المانع "فرع صحة عليتها" إذ لو لم تصح العلية لكان عدم الحكم لعدم العلة لا لوجود المانع ولا أثر لما يتصور مانعا فلا يكون مانعا فتتوقف الصحة على المانع والمانع على الصحة "فدار أجيب بأنه" أي هذا الدور دور "معية" إذ غايته امتناع انفكاك كل عن الآخر. وأما عدم الانفكاك بصفه التقدم فلا "ودفع" هذا الجواب "بأن حقية المراد" من الدليل المذكور "العلم بالصحة والمانعية" لأن المعتبر في تحقيق المقتضى والمانع هو العلم بذلك ليتأتى ترتيب الحكم "وهو" أي توقف كل منهما على الآخر "ترتب" أي دور مرتب لظهور تقدم كل على الآخر إذ لا تعلم المانعية إلا بعد العلم بالاقتضاء ولا يعلم الاقتضاء إلا بعد العلم بالمانعية "بل الجواب أنا نظن صحتها" أي العلية "أولا بموجبه" أي الظن "ثم نستقرئ إلخ" أي المحال لاستعلام معارضه من التخلف لا لمانع. فإن لم نجد استمر الظن بصحتها وإن وجدنا التخلف في بعض المحال. فإن وجدنا أمرا يصلح أن ينسب إليه ذلك حكمنا على ذلك الأمر بأنه مانع واستمر ظن الصحة وإلا زال فإذا استمرار الظن بصحتها يتوقف على وجود المانع وكونه مانعا بالفعل يتوقف على ظهور الصحة وظنها لا على استمراره فزال الدور لأن المتوقف هو استمرار الظن والمتوقف عليه نفس الظن وإيضاحه أن من أعطى فقيرا يظن أنه إنما أعطاه لفقره فإذا لم يعط آخر توقف الظن لجواز وجود المانع وعدمه. فإن تبين مانع كفسقه استمر ظن(25/458)
أنه كان للفقر وإنما لم يعط الآخر مع وجود الباعث لفسقه وإلا زال ظن كونه للفقر فظهر أنه لا يعلم أن الفسق مانع إلا بعد العلم بأن الفقر مقتض وإلا لجاز أن يكون عدم الإعطاء بناء على المقتضي ولا نعلم أن الفقر مقتض إلا بعد العلم بأن الفسق كان مانعا وإلا لكان التخلف قاطعا في عدم المقتضي "ويجري فيه" أي في هذا الجواب "إشكال المقارنة" أي ما إذا كان العلم بالتخلف مقارنا لظهور العلية إذ لا يتأتى حينئذ ذكر الاستمرار "ودفعه" أي إشكالها بأن ما يتوقف على العلم بالعلية هو العلم بالمانعية بالفعل وما يتوقف عليه العلية هو المانعية بالقوة بمعنى كون الشيء بحيث إذا جامع الباعث منع مقتضاه كما تقدم كل منهما آنفا "وجه المختار" وأن عدم النقض في كل من المنصوصة والمستنبطة ليس بشرط في صحتها "أنه" أي التخلف "تخصيص لعموم دليل حكم" وهو كون الوصف علة "فوجب قبوله كاللفظ" أي كما يجب قبول التخصيص في العموم اللفظي إذ لا فرق مؤثر بينهما. "وما قيل الخلاف" في جواز التعليل بعلة منقوضة "مبني على الخلاف في قبول المعاني العموم فالمانع" أن لها عموما "إذ" المعنى واحد "لا تعدد إلا في محاله" فلا يقبل التخصيص "مانع هنا" أي من تخصيص العلة لأنها معنى والقائل بأن لها(25/459)
ص -223-…عموما يجوز تخصيص العلة لعمومها ثم الخلاف مبتدأ خبره "غير لازم لوقوع الاتفاق حينئذ" أي حين كانت حجة المانع هذا "على تعدد محاله" أي المعنى "والكلام هنا" أي في تخصيص العلة "ليس إلا باعتبارها" أي محالها "إذ حاصله" أي تخصيص العلة "أنه" أي المعنى "يوجب الحكم في محاله إلا محل المانع" من الحكم "والمانع هو دليل التخصيص وبه" أي بهذا التقرير "اندفع قول المانعين" من تخصيص العلة "أنه" أي تخصيصها "تناقض لا تخصيص" قالوا "لأن دليل العلية يوجب قوله" أي المعلل "هذا الوصف مؤثر في الحكم كقوله جعلته" أي الوصف "أمارة عليه" أي الحكم "أينما وجد" أي الوصف وإنما اندفع قولهم لأنا لا نسلم أن دليل العلية يوجب جعله أمارة عليه أينما وجد "بل" إنما يوجب جعله أمارة عليه "في غير محل التخلف غير أنا إذا قطعنا بانتفاء الحكم في بعض محاله" أي الحكم "مع النص على العلة ولم يظهر ما يصح إضافة التخلف إليه قدرنا مانعا" من الحكم في ذلك المحل "جمعا بين الدليلين" دليل العلة في غير محل التخلف ودليل التخلف في محله. "وهو أولى من إبطال دليل العلة وما قيل" أي وما أشار إليه صدر الشريعة وقرره في التلويح من أن التخصيص من الأحكام التي لا يمكن تعديتها من الأصل أعني الدلالة اللفظية إلى الفرع أعني المعلل إذ "التخصيص ملزوم للمجاز الملزوم اللفظ" لأن المجاز من خواص اللفظ واختصاص اللازم بالشيء يوجب اختصاصه به وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم وهو محال "منع بأن الملزوم للمجاز منه" أي التخصيص "تخصيص اللفظ لا" التخصيص "مطلقا بل هو" أي التخصيص مطلقا "أعم" من أن يكون ملزوما للمجاز أو لا ومعنى تعدية الحكم إثبات مثله في صورة الفرع فيثبت في العلل تخصيص بعض الموارد كتخصيص الألفاظ ببعض الأفراد ويتصف به اللفظ ضرورة استعماله في غير ما وضع له ويمتنع اتصاف العلة به إذ ليس من شأنها الاتصاف بالحقيقة والمجاز كذا في التلويح وبعد إصلاحه إلى ومعنى(25/460)
تعدية الحكم إثباته في صور الفرع لما حققه المصنف من أن الثابت في الفرع هو الحكم الذي في الأصل لا مثله كما تقدم في موضعه تعقب بأنه لا يجدي نفعا في إثبات جواز تخصيص العلة قياسا على الدلالة اللفظية إذ لا بد من بيان الجامع المفيد للاشتراك بين الأصل والفرع ولم يوجد هنا بل الفرق بينهما ثابت على ما قرر في المحصول من أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا على الحكم بخلاف العلة فإن دلالتها متوقفة على عدم المخصص وذلك العدم لا يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات أما على قول من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودي فظاهر. وأما على قول المجوز فلاشتراطه أن يكون مناسبا "قالوا" أي المانعون لا نسلم وجود العلة في محل التخلف "إذ لا بد في صحتها من المانع" والوجه من عدم المانع فسقط لفظ عدم من القلم "ووجود الشرط فعدمه" أي المانع "ووجوده" أي الشرط "جزء العلة لأن المجموع" منهما ومن الوصف هو "المستلزم" للحكم وقد وجد المانع أو فقد الشرط في محل التخلف فلم يوجد تمام العلة "قلنا فرجع" الخلاف(25/461)
ص -224-…في تخصيص العلة خلافا "لفظيا مبنيا على تفسيرها أهي الباعث" على الحكم "أو" هي "جملة ما يتوقف عليه" الحكم. فإن فسرت بالباعث على الحكم فليس عدم المانع ووجود الشرط من الباعث في شيء فجاز النقض وإن فسرت بالمستلزم فوجوده وجود الحكم فحينئذ لم يجز النقض "لكن الحق خطؤكم" في دعواكم عدم جواز النقض "لتفسيركم" العلة "بالمؤثر والشرط وعدم المانع لا دخل لهما في التأثير بموافقتكم". "وأما إلزام تصويب كل مجتهد" للقول بجواز تخصيص العلة لأن صحة الاجتهاد إنما تثبت بسلامته من المناقضة وفساده وخطؤه بانتقاضه فإذا جاز تخصيص العلة أمكن لكل مجتهد إذا ورد عليه النقض في علته أن يقول امتنع حكم علتي ثمة لمانع وفي تصويب كل مجتهد قول بوجوب الأصلح على الله إذ الأصلح في كل مجتهد أن يكون مصيبا والقول بوجوب الأصلح باطل فما يؤدي إليه كذلك "فمنتف لأن ادعاءه" أي المجتهد "علية الوصف لا يقبل منه أولا إلا بدليل ومع التخلف لا يقبل منه" كون العلة هي وصف كذا لكن امتنع حكمها في محل كذا المانع "إلا أن يبين مانعا" صالحا للتخصيص ومن المعلوم أنه لا يتيسر لكل مجتهد عند ورود النقض على علته بيان مانع صالح للتخصيص، على أن للمجيزين أن يقبلوا هذا على المانعين بأن يقولوا لما كان عدم الحكم عندكم في صورة التخصيص مضافا إلى عدم العلة بتغير ما يمكن حينئذ لكل مجتهد إذا ورد عليه نقض أن يقول عدمت علتي في صورتي النقض لزيادة وصف فيها أو نقصانه عنها ويتخلص عن النقض فتبقى علته على الصحة فيكون كل مجتهد مصيبا. "وإنما ذلك" أي إلزام تصويب كل مجتهد "لازم" للقول بجواز تخصيص العلة "مع إجازته" أي النقض "بلا تعينه" أي المانع من الحكم "كما حررناه أو بلا مانع كما قيل أو دليل" والحق أنه لا بد من بيان مانع صالح للتخصيص، ثم لا نسلم أنه يلزم منه تصويب كل مجتهد لجواز إبطال علته بسائر الطرق من الممانعة والمعارضة وفساد الوضع والقلب وغيرها ولئن سلم أن(25/462)
يلزم منه ذلك لكن إنما يلزم منه التصويب في حق العمل لا في حق الحكم الثابت عند الله كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد وهذا لا يؤدي إلى القول بوجوب الأصلح على الله تعالى بل غايته وقوع الأصلح والقول بوجوب الأصلح باطل لا بوقوعه منه تعالى لاتفاق الفقهاء على أن أفعال العباد وأحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد كما تنادي به تعليلاتهم في شرعية المعاملات والعقوبات "وقولهم" أي المانعين "صحة العلية تستلزم ثبوت الحكم في محل التخلف" لأن من ضرورة صحتها لزوم المعلول لعلته "ليس بشيء بعد ما ذكرنا" آنفا من أن المراد بالعلة الباعث والمؤثر لا لزوم الحكم لها مطلقا وإنما لزومه مشروط بعدم المانع ووجود الشرط وليسا من الباعث والمؤثر "وقولهم" أي المانعين أيضا "تعارض دليل الاعتبار" للعلة وهو وجود الحكم مع الوصف الذي هو علة "و" دليل "الإهدار" وهو التخلف عنه فتساقطا "فلا اعتبار" بدليل العلية وهو المطلوب "ممنوع لأن التخلف ليس دليل الإهدار إلا" إذا كان "بلا مانع" لعدم المقتضي حينئذ فبطل الاقتضاء لكن الفرض أنه لمانع والله سبحانه أعلم.(25/463)
ص -225-…هذا وقد قال صدر الإسلام تكلم الناس في تخصيص العلة قديما وحديثا إلا أنه لم يرو عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وسائر أصحابه نص فيه وادعى قوم من أجلاء أصحابنا كالكرخي والرازي والدبوسي والقاضي خليل بن أحمد الشجري أن مذهب أبي حنيفة القول بتخصيص العلة واستشهدوا بمسائل. وذكر المحاسبي من الأشاعرة أن أبا حنيفة كان يقول ذلك وعده من مناقبه ولفظ الشيخ أبي بكر الرازي تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا وعند مالك بن أنس، وأباه بشر بن غياث والشافعي والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك أخذناه عمن شاهدناه من الشيوخ الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة الإسلام يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، ويحكون عن شيوخهم الذين شاهدوهم ومسائل أصحابنا وما عرفنا من مقالتهم فيها يوجب ذلك وما أعلم أحدا من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم إلا بعض من كان ها هنا بمدينة الإسلام في عصرنا من الشيوخ فإنه كان ينفي أن يكون القول بتخصيص العلة من مذاهبهم وله مناكير في هذا الباب في أجوبة مسائلهم انتهى وفي التحقيق ثم من أجاز تخصيص العلة من مشايخنا زعم أن ذلك مذهب علمائنا الثلاثة فإنهم قالوا بالاستحسان وليس ذلك إلا تخصيص العلة فإن معناه وجود العلة مع عدم الحكم لمانع والاستحسان بهذه الصفة فإن حكم القياس امتنع في صورة الاستحسان لمانع مع وجود العلة ونسبه في الكشف إلى الكرخي ونازعهم في ذلك فخر الإسلام وشمس الأئمة ومن تبعهما من المتأخرين وقالوا هو ليس من تخصيص العلة بل الحكم إنما انعدم فيه لعدم علته لأن القياس إذا عارضه استحسان لم يبق الوصف علة لأن دليل الاستحسان إن كان نصا فلا اعتبار لعلة القياس في مقابلته لأن من شرط صحة التعليل عدم النص، وإن كان إجماعا فكذلك لأنه مثل النص في إيجاب الحكم فكان أقوى من العلة والضعيف في مقابلة القوي معدوم حكما. وكذا إن كان ضرورة لأن اعتبارها بالإجماع أو قياسا خفيا لأنه(25/464)
أقوى من القياس الجلي والمرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العدم بسبب أن عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع مع قيامها وقال الفاضل القاآني والحق عندي هو التفضيل وهو أن كل موضع استحسنا فيه بالأثر والإجماع والضرورة يصار إلى القول بالتخصيص وإلا يلزم الفساد والتناقض بين قولهم التخصيص باطل وقولهم شرط صحة التعليل أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس لأنه إن لم تكن العلة موجودة مع تخلف الحكم فيها كيف يكون معدولا عن القياس ولا يبقى لقوله صلى الله عليه وسلم ورخص في السلم معنى لأن الترخص إنما يتحقق عند تخلف الحكم لعذر وضرورة وكل موضع استحسنا فيه بالقياس الخفي لا يصار إلى التخصيص لانتفاء ما ذكرنا من المحذورات أما الثاني والثالث فظاهر. وأما الأول فكذلك لأن بوجه الاستحسان يظهر أن ما كان يتراءى علة لم يكن علة حقيقة حتى يحتاج إلى القول بالتخلف لمانع بل العلة كانت غيره لما قلنا في سؤر سباع الطير بوجه الاستحسان ظهر أن التبعية ليست علة لنجاسة سؤر سباع الوحش من البهائم بل الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وتلك العلة غير موجودة في سباع الطير(25/465)
ص -226-…فلم يتنجس سؤرها لعدم علة ولهذا لا يقال إن المستحسن بالقياس الخفي معدول به عن القياس انتهى.
"تنبيه قسم المصححون" لتخصيص العلة "مع المانع من الحنفية الموانع إلى خمسة ما يمنع انعقاد العلة كبيع الحر" إذ البيع علة ثبوت الملك في المبيع للمشتري وفي الثمن للبائع لكن وجد المانع من انعقاده علة لذلك هنا كما أشار إليه بقوله "وهو" أي المانع من انعقادها فيه "انتفاء محلها" وهو المال لأن البيع مبادلة مال بمال بالتراضي والحر ليس بمال "ولا علة في غير محل" فهذا هو المانع الأول "و" ما يمنع "تمامها" أي العلة "في حق غير العاقد" أي في حق المالك "كبيع عبد الغير" بغير إذنه ولا ولاية له عليه فإن بيعه علة "تامة في حق العاقد" حتى لم يكن له ولاية إبطاله "لا" في حق "المالك" لعدم ولاية العاقد عليه ولهذا يبطل بموته ولا يتوقف على إجازة وارثه نعم أصل الانعقاد ثابت في حقه إذ لا ضرر فيه عليه "فجاز بإجازته وبطل بإبطاله" ولو لم ينعقد لم يلزم بالإجازة وهذا هو المانع الثاني "وما يمنع ابتداء الحكم كخيار الشرط للبائع يمنع الملك" في المبيع "للمشتري" وإن انعقد البيع في حقهما على التمام وهذا هو المانع الثالث "و" ما يمنع "تمامه" أي الحكم لا أصله "كخيار الرؤية لا يمنعه" أي الحكم الذي هو الملك "لكن لا يتم بالقبض معه" أي خيار الرؤية "ويتمكن من له الخيار من الفسخ بلا قضاء و" لا "رضاء" فكان غير لازم لعدم التمام وهذا هو المانع الرابع "و" ما يمنع "لزومه" أي الحكم "كخيار العيب يثبت" الحكم "معه تاما" حتى لا يكون له ولاية التصرف في المبيع "ولا يتمكن من الفسخ بعد القبض إلا بتراض أو قضاء". وهذا هو المانع الخامس وإنما اختلفت مراتب هذه الخيارات لأن خيار الشرط لما كان داخلا على الحكم كما عرف كان الحكم معلقا به فيكون معدوما قبل وجوده وفي خيار الرؤية صدر البيع مطلقا عن الشرط فأوجب الحكم وهو الملك لكن لم يتم لعدم الرضا به عند(25/466)
عدم الرؤية، وفي خيار العيب حصل السبب والحكم باتا لتمام الرضا لوجود الرؤية لكن على تقدير العيب يتضرر المشتري فقلنا بعدم اللزوم ولهذا يتمكن المشتري في خيار العيب من رد بعض المبيع بعد القبض لأنه تفريق الصفقة بعد التمام وأنه جائز ولا يتمكن منه مطلقا في خيار الرؤية لأنه تفريق قبل التمام وهو لا يجوز، وأورد بأن هذا يشير إلى الفرق بينهما بعد القبض والمدعى الفرق بينهما مطلقا وأجيب بأن الفرق بينهما كما هو ثابت بينهما بعده كما ذكرنا كذلك ثابت بينهما قبله لأن المشتري في خيار العيب لا يتمكن من الفسخ قبل القبض بدون الرضاء أو القضاء وفي خيار الرؤية ينفرد بالرد بلا قضاء ولا رضاء مطلقا ثم كون الموانع خمسة هو المذكور في أصول فخر الإسلام وشمس الأئمة وموافقيهما قالوا والحصر فيها استقرائي قيل ويجوز أن يقال ما نحن فيه إنما هو العلة وحكمها وللأول مانعان وللثاني ثلاثة وذلك لأن الرامي إذا قصد الرمي فلا يخلو إما أن يصدر السهم من قوسه رميا أو لا والثاني هو الأول وهو الذي لم ينعقد علة والأول إما أن يصل إلى المرمى أو لا والثاني هو القسم الثاني وهو الذي حال بين الرامي والمقصد حائل فالحائل مانع تمام العلة والأول(25/467)
ص -227-…ليس مما نحن فيه لأنه ثم علة وليس كلامنا في العلل بل في الموانع ثم إذا أصاب السهم المرمى فلا يخلو إما أن يجرحه أو لا والثاني هو الأول أي الذي منع ابتداء الحكم بدفعه بقوس أو غيره والأول إما أن يزول الجرح بالاندمال أو لا والأول هو القسم الثاني وهو الذي منع تمام الحكم والثاني هو الثالث الذي يمنع لزوم الحكم وهذه قسمة دائرة بين النفي والإثبات فتفيد الجزم ولا محالة. والمذكور في تقويم القاضي أبي زيد أربعة لأنه إن كان بحيث لا يحدث مع شيء من الأجزاء فهو المانع من الابتداء والانعقاد وإلا فهو المانع من التمام وكل منهما في العلة أو الحكم ووافقه الفاضل القاآني على هذا فقال ولو جعل أقسام الموانع أربعة وجعل خيار الرؤية والعيب مما يمنع لزوم الحكم لتمكن المشتري من الفسخ فيهما كما جعله القاضي الإمام أبو زيد لكان أوجه وفيه تأمل يظهر مما تقدم.(25/468)
"وخرج بعضهم" أي الحنفية "على الخلاف" في تخصيص العلة "فرعا على مذهبهم" أنفسهم وهو الصائم "النائم إذا صب في حلقه ماء فسد" صومه "عندهم لفوات ركنه" أي الصوم وهو الإمساك عن المفطر لوصول الماء إلى جوفه "فهو" أي فوات ركنه بوصول الماء إلى جوفه "علة الفساد" للصوم لأنه وصف مؤثر فيه الفساد وقد "تخلف" الفساد "عنها" أي العلة المذكورة في صوم الشارب "الناسي" لصومه لأن بشربه ناسيا لا يفسد صومه "فالمجيز" تخصيص العلة يقول تخلف الحكم "لمانع هو الحديث" وهو ما قدمنا في شرط حكم الأصل أن لا يكون معدولا عن القياس من سنن الدارقطني وصحيح ابن حبان أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت صائما فأكلت وشربت ناسيا فقال صلى الله عليه وسلم "أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك" "مع وجود العلة" وهو فوت الركن. "والمانع" تخصيص العلة يقول تخلف الحكم "لعدمها" أي العلة فيه "حكما لأن فعل الناسي نسب إلى مستحق الصوم" وهو الله تعالى "لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما أطعمك الله وسقاك" فكان أكله كلا أكل فبقي الركن حكما و" الصائم النائم "المصبوب في فيه" الماء "ليس في معناه" أي الصائم الناسي "إذ ليس" فعله المفوت للركن "مضافا إلى المستحق" للصوم "فلم يسقط اعتباره بخلاف الساقط في حلقه" حال كونه "نائما" ماء "مطر" لا يفسد صومه "كما هو مقتضى النظر" لأنه لا ينزل عن شرب الناسي لعدم إضافته إلى أحد من البشر وإذا كان بعض المشايخ على أنه لو دخل في حلق المستيقظ مطر أو ثلج لا يفسد صومه للضرورة فما الظن بهذا نعم آخرون على أنه يفسد في هذه وذكروا أنه الأصح لإمكان الامتناع عنه بأن يأوي إلى خيمة أو سقف فينقدح على هذا أن يقال فيما نحن فيها إن كان بحيث يمكنه أن ينام مستورا بما يمنع دخوله في حلقه أفطر وإلا فلا كما ينقدح أن يقال في المستوضح بها أنه إذا كان لا يمكنه الامتناع منه بأن كان سائرا في فلاة ولا خيمة ولا سقف أو ثم أحدهما وهو(25/469)
بحيث يمنع منه ينبغي أن لا يفسد حينئذ كقول الماضين ثم كلمتهم على أنه لو دخل حلقه غبار لا يفسد ولم يقيدوه بشيء وقالوا إنه لا يستطاع الامتناع منه ومن المعلوم أنه يمكنه الامتناع منه في بعض الصور بأن يكون إثارة الغبار من تعاطيه أو بدنوه. فإن تم إطلاق عدم الفساد فيه مع هذا تم أنه لا يفسد صوم النائم(25/470)
ص -228-…الساقط في حلقه ماء مطر مطلقا وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان وغيره خاض الماء فدخل أذنه لا يفسد صومه وإن صب الماء في أذنه اختلفوا فيه والصحيح هو الفساد لأنه وصل إلى الجوف بفعله فلا يعتبر فيه صلاح البدن انتهى ومعلوم أن خوض الماء قد يكون له عنه بد والله سبحانه أعلم.
"ولا خفاء أنه" أي ما يسمى علة في هذه المواضع "غير ما نحن فيه" من العلة بمعنى الباعث فإن عدم الركن ليس من ذلك "فظهر أن حقيقة المانع" من فساد صوم الناسي "الإضافة إلى المستحق" وبهذا يظهر عدم إلحاق الشارب نائما بالشارب ناسيا فإن في المنتقى يفسد صومه والله تعالى أعلم هذا وقد ذكر صاحب الكشف أن الخلاف في مسألة تخصيص العلة راجع إلى العبارة في التحقيق لأن العلة في غير موضع تخلف الحكم عنها صحيحة عند الفريقين وفي موضع التخلف الحكم معدوم بلا شبهة إلا أن العدم مضاف إلى المانع عندهم وعندنا إلى عدم العلة وذكر السبكي أنه ليس بلفظي بل يترتب عليه أولا فائدة عظيمة وهي مسألة التعليل بعلتين فيمتنع إن قدح التخلف وإلا فلا ونسب إلى السهو وفي هذا فإنه إنما يتأتى في تخلف العلة عن الحكم والكلام في عكس ذلك وثانيا الخلاف في انقطاع المستدل فإن النقض من عظائم أبواب الجدل والمراد منه انقطاع الخصم فالقائلون بجواز التخصيص يقولون يقبل قوله أردت العلية في غير ما حصل فيه التخلف أو هذه من البعض الذي لا يلزمني الاحتراز عنه بخلاف القائلين بعدم جوازه فإنهم يقولون لا نسمع هذا منك فإن كلامك مطلق وأنت بسبيل من الاحتراز فلم لا احترزت. وثالثا الخلاف في انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية فيحصل إن قدح التخلف على قول المانعين ولا يحصل على قول المجوزين وإنما ينتفي الحكم عندهم لوجود المانع كما عليه الإمام الرازي "وأما نقض الحكمة فقط بأن توجد الحكمة دون العلة" أي الوصف الذي هو مظنة الحكمة "في محل ولم يوجد الحكم ويسمى كسرا باصطلاح فشرط عدمه لصحة(25/471)
العلة والمختار" عند ابن الحاجب والآمدي وعزاه إلى الأكثرين "نفيه" أي شرط عدمه "فلو قال" قائل للقائل بأن علة الترخص بالقصر للمسافر كائنا من كان هي السفر "لا تصح علية السفر" للترخص المذكور "لانتقاض حكمتها المشقة بصنعة شاقة" كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قرب النار في ظهيرة القيظ في القطر الحار "في الحضر" لوجود المشقة في المحل الذي هو الصنعة الشاقة بدون علتها التي هي السفر وتخلف الحكم وهو رخصة القصر "لم يقبل لأنها" أي الحكمة "غيرها" أي العلة "وكونها" أي الحكمة هي "المقصودة" من العلة إلا أنه لما عسر ضبطها لاختلاف مراتبها بحسب الأشخاص والأحوال وليس كل قدر منها يوجب الترخص وتعيين القدر الذي يوجبه متعذر لعدم ظهوره وانضباطه ضبطت بالعلة التي هي السفر لأنه وصف ظاهر منضبط "فيبطل ببطلانها" أي الحكمة وفاعل يبطل "ما لم يعتبر إلا لها" أي الحكمة وهو علية السفر "إنما يلزم لو اعتبر مطلقها" أي المشقة. "وهو" أي اعتبار مطلقها "منتف بالصنعة" الشاقة لأن غير السفر من الصنائع الشاقة معلوم فيها انتفاء الترخص بالقصر "فالحكمة التي هي العلة في(25/472)
ص -229-…الحقيقة مشقة السفر ولم يعلم مساواتها" العلة "المنقوضة" وهي مشقة الصنعة الشاقة في الحضر "ولو فرض العلم برجحان المنقوضة في موضع يلزم بطلان العلة" في ذلك الموضع "إلا أن شرع حكم" آخر هو "أليق بها" أي بتلك الحكمة من ذلك الحكم، والبطلان في صورة لا ينافي صحة العلية وصلاح الأصل لكونه مقيسا عليه "كالقطع بالقطع" أي كقطع اليد بقطع اليد شرع "لحكمة الزجر" للمكلف عن الإتيان بمثله "تخلف" القطع "في القتل" العمد العدوان مع أن الحكمة فيه أزيد مما لو قطع "لشرع ما هو أنسب به" أي بالقتل العمد العدوان "وهو" أي ما هو أنسب به من القطع "القتل" إذ القتل أكثر عدوانا من القطع فيليق بالزجر عنه حكم يحصل به زجر أكثر من زجر القطع وذلك الحكم أمر يحصل به ما يحصل بقطع اليد وزيادة على ذلك فشرع القتل الذي يحصل به ما يحصل بقطع اليد وسائر الأعضاء ليكون زائدا على القطع الذي لا يحصل به سوى إبطال اليد والحاصل أنه لما كان القتل أقوى افتقر إلى زجر أقوى فشرع زاجر أقوى ولم يلزم منه عدم اعتبار حكمة الزجر بل قوة اعتباره. "وأنت إذ علمت أن الحكمة المعتبرة" لعسر ضبطها وتعذر تعين القدر الذي توجبه "ضبطت شرعا" بمظنة خاصة وهو الوصف الظاهر المنضبط "لم تكد تقف على الجزم بأن التخلف" للحكم "عن مثلها أو أكبر مما لم يدخل تحت ضابطها" ولو كان عدم دخوله "بلا مانع" لا ينقض عليتها خصوصا إذا "كانت مومى إليها" أيضا مثل {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] لأن الحكمة المعتبرة شرعا مثلا مشقة السفر بخصوصه "ألا يرى أن البكارة علية الاكتفاء في الإذن" أي في إذن الحرة البكر العاقلة البالغة لوليها أو رسوله في نكاحها "بالسكوت" في النكاح الاختياري منها "لحكمة الحياء" كما يشير إليه ما في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عائشة قلت يا رسول الله لسنا من النساء قال "نعم" قلت إن البكر تستحي فتسكت قال "سكوتها إذنها" "ولو فرض ثيب أوفر حياء" منها "أو سبب(25/473)
اقتضاه" أي حياء أوفر من حيائها "كزنا اشتهر لم يكتف بسكوتها إجماعا" وإن ثبت قدر من الحكمة وهو الحياء في هاتين أكثر من حكمة البكارة وهو حياؤها "فتخلف" الحكم الذي هو الاكتفاء في الإذن بالسكوت فيهما مع وجود حكمة تفوق حكمة البكارة "ولم تبطل علية البكارة" للاكتفاء بالسكوت "وما ذاك" أي عدم بطلان عليتها "إلا لأن الحكمة حيث ضبطت بالبكارة كانت العلة بالحقيقة حياء البكر فلم يلزم في حياء فوقه" أي حياء البكر "ثبوت الحكم" الذي هو الاكتفاء بالسكوت في ذلك "معه" أي مع حياء فوقه "لعدم دليله" أي الحكم المذكور "بخصوصه" وهو المجعول ضابطا "فلا تنتقض العلة بنقضه لأنه غير المعتبر. وأما النقض المكسور وهو نقض بعض" العلة "المركبة على اعتبار استقلاله" أي ذلك البعض المنقوض "بالحكمة" حتى كأنه قال الحكمة المعتبرة تحصل باعتبار هذا البعض وقد وجد في المحل ولم يوجد الحكم فيه وهو نقض لما ادعاه علية باعتبار الحكمة "كما لو قال" الشافعي "في منع بيع الغائب" هو بيع "مجهول الصفة" عند العاقد حال العقد "فلا يصح بيعه" "كبيع عبد بلا تعيين" له والجامع الجهل بصفة المبيع "فنقض" المعترض "المجهولية بتزوج من لم يرها" فإنها مجهولة الصفة عند العاقد حال العقد "مع الصحة" لتزوجها إجماعا "وحذف(25/474)
ص -230-…المبيع" فاختلف في إبطاله للعلية قيل يبطلها "والمختار" عند المصنف كما عند الآمدي وابن الحاجب أنه "لا يمنع" العلية "لأنها" أي العلية "المجموع ولم ينتقض" المجموع إذ لا يلزم من عدم علية البعض عدم علية الجميع لجواز أن يكون للجميع ما ليس للجزء هذا إذا اقتصر على نقض البعض "فلو أضاف إليه" أي إلى ذلك البعض المنقوض "إلغاء" الوصف "المتروك" وأنه وصف طردي لا مدخل له في العلية بأن بين عدم تأثير كونه مبيعا "بأن قال الجهالة" للصفة عند العاقد حال العقد "مستقلة بالمباشرة ولا دخل لكونه مبيعا" في منع الصحة "صح" النقض لوروده على ما يصلح علة ولا يكون مجرد ذكر المستدل ذلك البعض الذي ألغاه المعترض رافعا للنقض لأن بمجرد ذكره لا يصير جزءا من العلة إذا قام الدليل للمعترض على أنه ليس جزءا ويتعين الباقي لصلوح العلية فيبطله بالنقض إذ النقض على العلة لا على مانعها فظهر انتفاء ما ذهب إليه سواه من أن مجرد ذكره يكون دافعا للنقض. "وحاصله" أي النقض المكسور سؤال ترديد وهو "إن عين المجموع" العلة "لم يصح" تعينه لها "لإلغاء الملغي أو" عينت "ما سواه" أي الملغي العلة "فكذا" لا يصح "للنقض" هذا وكون الكسر والنقض المكسور ما تقدم هو ما ذكره الآمدي وابن الحاجب وكان إلى هذا أشار المصنف بقوله باصطلاح وعرف الكسر البيضاوي كالإمام الرازي بعدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض الآخر كما يقال في إثبات صلاة الخوف هي صلاة يجب قضاؤها إذا لم تفعل فيجب أداؤها كصلاة الآمن فيقول المعترض خصوص كونها صلاة ملغي لأن الحج واجب الأداء كالقضاء فلم يبق علة إلا قولك يجب قضاؤها وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى فإن الحائض يجب عليها قضاء الصوم دون أدائه وقال السبكي وقال الأكثرون من الأصوليين والجدليين الكسر عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة وإخراجه عن الاعتبار قال الشيخ أبو إسحاق وهو سؤال مليح والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة وقد اتفق(25/475)
أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به ويسمونه النقض من طريق المعنى والإلزام من طريق الفقه وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين انتهى وهذا بعينه ما تقدم أنه النقض المكسور.
"ومنها" أي شروط العلة "انعكاسها عند قوم وهو" أي انعكاسها "انتفاء الحكم لانتفائها لمنع تعدد" العلل "المستقلة فينتفي" الحكم "لانتفاء خصوص هذا الدليل وهو العلة" التي لم تنعكس "إذ لا يكون الحكم بلا باعث تفضلا" من الله تعالى كما نقوله نحن معشر أهل السنة والجماعة أو وجوبا كما يقوله المعتزلة ثم من مشترطي العكس من قال لا بد منه على العموم كما في الاطراد وقال الأستاذ أبو إسحاق يكتفى به ولو في صورة ثم حيث كان الخلاف في اشتراطه مبنيا على الخلاف في جواز تعدد العلل المستقلة كما ذكره الجمهور منهم القاضي فمن سعد بالوجه فيه سعد بما ينبني عليه اشتغل به فقال "والمختار" كما هو رأي الجمهور منهم القاضي كما نص عليه في التقريب "جواز التعدد مطلقا" أي منصوصة كانت أو مستنبطة "والوقوع فلا يشترط انعكاسها" لجواز أن يكون الحكم لوصف غير الوصف المفروض علة(25/476)
ص -231-…وقال "القاضي" كما يشير إليه برهان إمام الحرمين ونص عليه ابن الحاجب يجوز التعدد "في المنصوصة لا المستنبطة" وهو رأي ابن فورك واختاره الإمام الرازي وأتباعه "وقيل عكسه" أي يجوز التعدد في المستنبطة لا المنصوصة حكاه ابن الحاجب قال السبكي ولم أره لغيره وقال "الإمام" أي إمام الحرمين "يجوز" عقلا "ولم يقع" لا أن مذهبه المنع مطلقا كما قال الآمدي لأنه قال في البرهان نحن نقول تعليل حكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا نظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا. وقيل ممتنع مطلقا واختاره الآمدي "لنا" على المختار "أن البول والمذي والرعاف" أمور مختلفة الحقيقة "ثم كل" منها وحده "يوجب الحدث وهو" أي وإيجاب كل منها الحدث هو "الاستقلال وكذا القتل" العمد العدوان "والردة" كل منهما علة مستقلة "تحله" أي القتل لأن الإبطال حياة الواحد بواحد "فإن منع اتحاد الحكم بل وجوب القتل قصاصا غيره" أي غير وجوبه "بالردة ولذا" أي ولكون أحدهما غير الآخر "انتفى" قتل القصاص "بالعفو" ممن له ولاية طلب القصاص "أو الإسلام" أي انتفى قتل الردة بالعود إلى الإسلام "وبقي الآخر" أي قتل الردة على التقدير الأول وقتل القصاص عند عدم العفو على التقدير الثاني "عورض لو تعددت" الأحكام في هذه "كان" تعددها "بالإضافات" إلى أدلتها "إذ ليس ما به الاختلاف" أي اختلافها "سواه" أي إضافتها إلى أدلتها "واللازم" أي تعددها بالإضافات "باطل لأن الإضافات لا توجب تعددا في ذات المضاف" وهو الحكم كالحدث في المثال الأول "وإلا" لو أوجبته "لوجب" فيه "لكل حدث وضوء وكان يرتفع أحدها" أي الأحداث بالوضوء الواحد "ويبقى الآخر". هذا "ثم الجواب" عن هذه المعارضة "أن ذلك" أي وجوب الوضوء لكل وارتفاع أحدها به مرة دون الآخر إنما هو "إلى الشرع فجاز أن يعتبر التلازم بين مسببات في الارتفاع" كالحدث المسبب عن البول والمذي والرعاف مثلا فإذا ارتفع أحدهما لا يبقى الآخر "ولا(25/477)
يعتبر" التلازم في الارتفاع "في" مسببات "أخرى" كالقتل المسبب عن الردة وعن القتل العمد العدوان وعن الزنا إذ يرتفع أحدهما ولا يرتفع الآخر ثم الجواب مبتدأ خبره "كلام على السند" أي قوله وإلا وجب لكل حدث وضوء إلى آخره "والمطلوب" وهو المعارضة المذكورة "ثابت دونه" أي ذكر السند "للقطع بأن تعدد الإضافة لا يوجبه" أي التعدد "في ذاته" أي المضاف وإلا لزم تعدد الشخص الواحد إذا عرضت له الإضافات إلى كثير من الأبوة والبنوة والأخوة والجدودة وغيرها وهو ضروري البطلان "وثبوت ارتفاع بعضهما" أي الأحكام "دون بعض في صورة" أي القتل قصاصا وردة "إنما يكفي دليلا على التعدد" للأحكام "فيها" أي في تلك الصورة بسبب خصها "لا في غيرها كما في القتل لأن أحدهما" أي القتلين وهو القتل بالردة "حق الله تعالى" يجب على الإمام ولا يجزئ فيه العفو ولا البدل "والآخر" وهو القتل قصاصا "حق العبد" يجوز له بإذن الإمام ويجزئ فيه العفو والبدل. "وما عن أبي حنيفة حلف لا يتوضأ من الرعاف فبال ثم رعف فتوضأ حنث لا يشكل مع قوله باتحاد الحكم لا العرف في مثله" إذ العرف أن يقال لمن توضأ بعد بول ورعاف "توضأ من الرعاف وغيره" والأيمان مبنية عليه "قيل" أي قال الآمدي "والخلاف في"(25/478)
ص -232-…الحكم "الواحد بالشخص والمخالف" في جواز التعدد "يمنعه" أي الواحد بالشخص "في الصورة المذكورة" بل الحكم فيها وهو الحدث واحد بالنوع "والظاهر بعده" أي الواحد الشخصي "من الشرع وشخصية متعلقه" أي الحكم كما عز مثلا "لا توجبه" أي تشخص الحكم لأن ثبوته في ذلك الواحد ليس إلا باعتبار اندراجه في كلي كالزاني مثلا ذكره المصنف "بل" إنما يوجب شخصية الحكم "ما" يكون مخصوصا بمتعلق خاص بعينه شرعا "كشهادة خزيمة" في الاكتفاء بها وحدها من حيث هو متعلقها "ولا يتعدد في مثله" أي مثل هذا "علل". قال المصنف فالحاصل أن الواحد الشخصي بعيد والحقيقي متفق عليه فينبغي أن يكون النزاع في الواحد النوعي "وأما الاستدلال" للمختار كما ذكر ابن الحاجب "لو امتنع" تعدد العلل المستقلة "امتنع تعدد الأدلة" لأن العلل الشرعية أدلة لا مؤثرات "فقد منعت الملازمة" وأسند المنع كما ذكر عضد الدين "بأن الأدلة الباعثة أخص" من مطلق الأدلة. وقد مر أن العلل أدلة باعثة لا مجرد أمارة فيصير حاصل الملازمة لو امتنع تعدد الأدلة الباعثة لامتنع تعدد الأدلة فيلحقها المنع بأنه لا يلزم من امتناع الأول امتناع الثاني إذ لا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم فلا يصح لامتنع تعدد الأدلة مطلقا "المانعون" تعدد العلل قالوا "لو تعددت" العلل المستقلة "لزم التناقض وهو" أي التناقض اللازم "الاستقلال" أي استقلالها "وعدمه" أي وعدم استقلالها "للثبوت" أي لفرض ثبوت الحكم "بكل" منها "بلا حاجة إلى غيره" من الباقية "وهو" أي ثبوت الحكم بكل واحد منها من غير حاجة إلى أخرى هو "الاستقلال وعدمه" أي والفرض عدم ثبوت الحكم بكل واحد منها "لاستقلال غيره" أي لفرض استقلال غير ما ثبت به ذلك الحكم "به" أي بثبوت الحكم "واستغناء المحل" بالجر عطف على الثبوت "في ثبوت الحكم له عن كل بالآخر وعدمه" أي ولعدم استغناء المحل في ثبوت الحكم له عن كل بالآخر "مطلقا" أي سواء ترتبت الأوصاف أو(25/479)
وجدت معا والحاصل كما قال المصنف إلزام التناقض في المحل بالنسبة إلى العلة والحكم "و" لزم "الثبوت" للحكم "بهما" أي بالعلتين تحقيقا لمعنى الاستقلال "لا بهما" لأن الثبوت بكل يمنع الثبوت بالآخر "في المعية" ومن المعلوم أن هذا تناقض ظاهر وهو لا يزيد على الأول فكان تركه أولى. "و" لزم "تحصيل الحاصل في الترتيب" أي في حصول أحدهما بعد الآخر لأنه حصل بالعلة الثانية ما كان حاصلا بالأولى وهذا لازم آخر فوق اجتماع النقيضين كما لا يخفى "والجواب الاستقلال" أي معناه فيها "كونها بحيث إذا انفردت ثبت بها أي عندها" الحكم "والحيثية" أي وهذه الحيثية ثابتة "لها" أي العلة "في المعية والترتيب" كما في الانفراد "لا" أن الاستقلال فيها "بمعنى إفادتها الوجود كالعقلية عند القائل به" أي بأن العلة العقلية تفيد الوجود وإنما قال هذا لأن الوجود عند أهل الحق لا تفيده علة أصلا بل الفاعل المختار جل وعلا وبهذا ظهر وجه تفسير بها بعندها "فانتفى الكل" أي لزوم التناقض وتحصيل الحاصل كما هو ظاهر "قالوا" أي المانعون تعدد العلل مطلقا "أيضا أجمعوا" أي الأئمة "على الترجيح في علة الربا" أهي "القدر والجنس" كما تقوله أصحابنا "أو الطعم" كما تقوله الشافعية "أو الاقتيات" كما تقوله المالكية "وهو" أي الترجيح(25/480)
ص -233-…"فرع صحة استقلال كل" منها إذ لا معنى للترجيح بين ما يصلح وما لا يصلح "و" فرع "لزوم انتفاء التعدد" أي لو جاز التعدد لقالوا به ولم يتعلقوا بالترجيح لتعيين واحدة ونفي ما سواها لأنه حينئذ يكون عبثا بل باطلا. "والجواب أنه" أي الإجماع على الترجيح "للإجماع على أنها" أي العلة "هنا" أي في الربا "إحداها" أي المذكورات "وإلا" لو انتفى الإجماع على هذا "جعلوها" أي العلة "الكل" أي جميع المذكورات الثلاثة لأن المفروض أنهم يرون صلاحية كل للعلية ولا دليل على إلغاء واحدة منها فوجب اعتبارها جميعا وذلك قول بجزئية كل للعلة ليكون لكل دخل في العلية لا سيما عند عدم ظهور وجه الترجيح وقال "القاضي" حال كونه مجوزا في المنصوصة لا المستنبطة "إذا نص على استقلال كل من متعدد" من الأوصاف بالعلية "في محل ولا مانع منه" أي التعدد "ارتفع احتمال التركيب" لمنافاته الاستقلال والفرض وقوع ذلك في المنصوصة فجاز التعدد فيها "وما لم ينص" فيه من الأوصاف المجتمعة في محل "مع الصلاحية" أي صلاحية كل منها للعلية "بأحد الأمرين" بخصوصه "من الجزئية" أي كون كل منهما جزءا من العلة "أو الاستقلال" أي كون كل منهما علة مستقلة "فتعيين إحداهما" أي الجزئية والاستقلال "تحكم" لقيام الاحتمال على السواء في نظر العقل وفرض انتفاء النص على أحدهما "فظهر أن اعتقاده" أي القاضي "جواز التعدد فيهما" أي المنصوصة والمستنبطة "غير أنه لا يقدر على الحكم به" أي التعدد "في المستنبطة للاحتمال" أي لاحتمال أن يكون كل منهما جزءا في هذه الحالة كما يحتمل أن يكون علة مستقلة ويقدر على الحكم به في المنصوصة للنص على استقلال كل وانتفاء المانع من التعدد "فإذا اجتمعت" العلل المستنبطة "يثبت الحكم على كل تقدير" من الجزئية والاستقلال لا بناء على الجزئية عينا. "والجواب منعه" أي لزوم التحكم على تقدير تعيين إحداهما لجواز استنباط الاستقلال لكل منهما بالعقل وذلك "بالعلم(25/481)
بالحكم" أي بثبوته "مع إحداهما في محل كما" يعلم ثبوته "مع" علة "أخرى في" محل "آخر فيحكم به" أي الاستقلال "لكل" منها "في محل الاجتماع وعاكسه" أي مذهب القاضي يقول "يقطع في المنصوصة بأنها الباعث" للشارع على الحكم لتعيينه إياها له "فانتفى احتمال غيرها" للعلية كلا وجزءا للمنافاة بينهما "والمستنبطة وهمية" بالمعنى اللغوي أي غير قطعية "لا ينتفي فيها ذلك" أي احتمال غيرها للعلية جزءا وكلا فيمكن أن يكون الباعث المجموع منهما وأن يكون هذا كما يمكن أن يكون ذاك على سواء وقد ترجح كل بدليله فيحصل الظن بعلية كل منهما فيجب اتباعه "والجواب منع الكل" أي القطع بالمنصوصة فإن المراد بها الملفوظة السمعية ويجوز أن تكون دلالتها ظنية أو إسنادها ظنيا وانتفاء احتمال غيرها لجواز تعدد البواعث فإن الحكم الواحد قد يكون محصلا لمصالح متعددة ودافعا لمفاسد مختلفة. وقال "الإمام لو لم يمتنع" التعدد "شرعا وقع عادة ولو" كان الوقوع "نادرا" لأن النادر لا بد أن يقع على مر الدهور ولم يقع "والثابت بأسباب الحدث متعدد كما تقدم" حتى قيل إذا نوى رفع أحد أحداثه لم يرفع الآخر "أجيب بمنع عدم الوقوف بل ما ذكر" من أسباب الحدث والقتل يفيد الوقوع "وكون الثابت بكل" من الأسباب المذكورة "غيره" أي غير(25/482)
ص -334-…بصيغ العقود وهذا ثالث الاعتراضات الأربعة "وكونه" أي الوصف "غير منضبط كالحكم" جمع حكمة وهي الأمر الباعث من المقاصد "والمصالح" أي ما يكون لذة أو وسيلة إلى لذة "كالحرج والزجر لأنها" أي الحكم والمصالح "مراتب على ما تقدم" في الكلام على العلة بحسب المقاصد وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فلا يمكن تعيين القدر المقصود منها "وجوابه بإبداء الضابط بنفسه" كما يقال في المشقة والمضرة إنهما منضبطان عرفا "أو" أن الوصف "نيط بمنضبط كالسفر" نيط حصول المشقة به "والحد" نيط القدر المعتبر في حصول الزجر به وهذا رابع الاعتراضات الأربعة "ولم يذكرها الحنفية لا لاختصاصها بالمناسبة لأن هذا" أي انتفاءها "اتفاق بل لأنها" أي هذه الاعتراضات "انتفاء لوازم العلة الباعثة مطلقا" أي بأي مسلك كان "كما تقدم" في فصل العلة. "ومعلوم أن بانتفاء لازمها" أي العلة الباعثة "يتجه إيراده" أي انتفائها "إذ يوجب" انتفاء لازمها "انتفاءها" لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم "فهو" أي انتفاء هذه الاعتراضات "معلوم من الشروط" لها "ومنعهم" أي الحنفية "بعضها" أي هذه الاعتراضات "وهو مرجع الثاني والرابع" من منع التأثير "لمنعهم المعارضة لعلة الأصل كما سنذكره إن شاء الله تعالى" إذا أفضت النوبة إلى الكلام فيها "وذكروا" أي الحنفية "منع الشروط" للتعليل وصح فيها لأن شرط دليل وجوب العمل سابق عليه فلا بد من إثباته ثم القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي لم يشترطا كون الشرط متفقا عليه "وقيد فخر الإسلام محله" أي منع الشرط "بمجمع عليه" فقال وإنما يجب أن يمنع شرط منها وهو شرط بالإجماع وقد عدم في الفرع أو الأصل "فيتجه" المنع "عند عدمه" أي الشرط المذكور فيفيد منعه بطلان التعليل في المتنازع فيه وأما إذا منع شرطا مختلفا فيه فيقول المعلل ذلك ليس بشرط عندي فلا يضر عدمه فحينئذ يؤول الكلام إلى أن مانعه شرط أم لا فيخل بالمقصود إذ المقصود إثبات(25/483)
الحكم المتنازع فيه لا إثبات شرط القياس قلت ومن هنا قال الشيخ قوام الدين الأتقاني أن فخر الإسلام شرط أن يمنع الشارط وجوب شرط هو شرط باتفاق بين السائل والمجيب فأشار إلى أن ليس المراد بالإجماع الإجماع المطلق هذا وفي الكشف وغيره. ومع هذا لو منع شرطا مختلفا فيه يجوز لأنه يفيد دفع إلزام المعلل عن نفسه وإن لزم منه الانتقال إلى محل آخر ا هـ قلت ويمكن أن يؤخذ من هذا التوفيق بين كلام فخر الإسلام وكلام أبي زيد والسرخسي فإن محل وجوب المنع الشرط بالاتفاق عنده وهما لم ينفياه ومحل جواز المنع عندهما الشرط من غير تعرض لهذا القيد وهو لم ينفه وحينئذ فقول الأتقاني عدم اشتراطهما كون الشرط متفقا عليه هو الحق عندي لأن قول المجيب ليس بشرط عندي ليس بحجة على السائل فيثبت المجيب ما ادعاه على وجه يقبله السائل أو يسكت عن إنكاره يوهم أن فخر الإسلام يخالف هذا وليس كذلك فليتنبه له وقد مثله فخر الإسلام بقول الشافعي يجوز السلم الحال لأن المسلم فيه أحد عوضي البيع فيجوز حالا ومؤجلا كثمن المبيع فيقال له لا نسلم أن شروط التعليل موجودة في هذا فإن من شروطه بالاتفاق أن لا يتغير حكم النص بعد التعليل وأن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس وقد تغير هنا لأن(25/484)
ص -335-…شرط البيع أن يكون المبيع موجودا مملوكا مقدور التسليم والشرع نقل القدرة الحقيقية في البيع إلى القدرة الاعتبارية في السلم بذكر الأجل فصار ذلك رخصة نقل إلى خلف فلو جاز السلم حالا لصار رخصة إسقاط لا إلى خلف فكان تغييرا لحكم النص والسلم معدول عن القياس لكونه بيع ما ليس عند الإنسان.
"رابعها" أي المنوع الواردة على حكم الأصل "النقض وتسميه الحنفية المناقضة وهي للجدليين منع مقدمة معينة" من الدليل سواء كان مع السند أو لا وقد سلف أن السند ما كان المنع مبنيا عليه وللسند صيغ ثلاث إحداها لا نسلم هذا لم لا يجوز أن يكون كذا ثانيتها لا نسلم لزوم ذلك وإنما يلزم أن لو كان كذا ثالثتها لا نسلم كيف هذا والحال كذا "وغير المعينة" أي ومنع المقدمة التي ليست بمعينة من الدليل "بأن يلزم الدليل ما يفسده" أي الدليل "فيفيد" لزوم ذلك له "بطلان مقدمة غير معينة" من الدليل وغير خاف أن قوله وغير المعينة مبتدأ وخبره "النقض الإجمالي وردوا" أي الأصوليون "النقض" الكائن عندهم "إلى منع مسند" وتخلف الحكم بمنزلة السند له "وإلا" لو لم يرد إليه "كان" النقض "معارضة قبل الدليل" وهي لا تكون قبله "وعلى هذا يجب" أن يكون النقض "معارضة لو" كان "بعده" أي الدليل "لأنه" أي المعترض "استدل على بطلانه" أي كون الوصف علة "بالتخلف" أي بوجوده في صورة مع عدم الحكم فيها "ويجيب الآخر" أي المستدل "بمنع وجودها" أي العلة "في محل التخلف ويستدل المعترض عليه" أي على وجودها في محل التخلف "بعده" أي منع المستدل وجودها في محل التخلف "أو ابتداء" أي قبل منع المستدل إياه "فانقلب" المعترض معللا والمعلل معترضا. "وقيل لا" يقبل من المعترض إقامة الدليل على وجود الوصف إذا منع المستدل وجوده في صورة التخلف لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال وهذا محكي عن الأكثر منهم الإمام الرازي وأتباعه "وقيل" لا يقبل "إن كان" ذلك الوصف "حكما شرعيا" لأن الاشتغال(25/485)
بإثبات حكم شرعي هو بالحقيقة الانتقال الممنوع وإلا فنعم لظهور تتميم المعترض لدليله على نفي العلة وعلى بطلان قياس المستدل ذكره ابن الحاجب قال السبكي ولم يوجد لغيره "وقيل" يقبل "إن لم يكن له قادح أقوى" من النقض فإن كان له قادح أقوى منه لا يقبل لأن غصب المنصب والانتقال إنما ينفعان استحسانا فإذا وجد الأحسن لم يرتكبهما وإلا فالضرورات تبيح المحظورات "وليست" هذه الأقوال "بشيء" قوي "فلو كان المستدل استدل على وجودها" أي العلة "في الأصل بموجود" أي بدليل موجود "في محل النقض فنقضها" أي المعترض العلة "فمنع" المستدل "وجودها" أي العلة في صورة النقض "فقال المعترض فيلزم إما انتقاض العلة أو" انتقاض "دليلها وكيف كان" اللازم أي انتقاض العلة أو دليلها "لا تثبت" العلية أما على الأول فلما مر من أن النقض يبطل العلية وأما على الثاني فلأنه لا بد لثبوت العلية من ملك صحيح "قبل" بالاتفاق فإن عدم الانتقال فيه ظاهر إن لم يترك ذكر نقض العلة. "ولو نقض" المعترض "دليلها" أي العلية "عينا فالجدليون لا يسمع" هذا من المعترض "لسلامة العلة إذ نقضه" أي دليلها المعين "ليس نقضها" أي العلة فقد انتقل من نقضها إلى(25/486)
ص -336-…نقض دليلها "ونظر فيه" أي في عدم سماعه والناظر ابن الحاجب "بأن بطلانه" أي دليل العلية "بطلانها" أي العلة "أي عدم ثبوتها إذ لا بد لها" أي العلة "من مسلك صحيح وهو" أي بطلان العلة "مطلوبه" أي المعترض "وإلا" لو لم يكن المراد ببطلانها عدم ثبوتها "فبطلان الدليل المعين لا يوجبه" أي بطلانها "لكنه" أي بطلان الدليل المعين "يحوجه" أي المستدل "إلى الانتقال إلى" دليل "آخر لإثبات الأول" أي العلية "ويجيب" المستدل "أيضا" عوضا عن منع وجودها "بمنع انتفاء الحكم في ذلك" أي في محل النقض اتفاقا "وللمعترض الدلالة" أي إقامة الدليل "عليه" أي على انتفاء الحكم "في المختار" إذ به يحصل مطلوبه وهو إبطال دليل المستدل وقيل لا لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال وقيل نعم إذا لم يكن له طريق أولى من النقض بالقدح وإلا سمع لمكان الضرورة "والمختار عدم وجوب الاحتراس عن النقض" على المستدل "في الاستدلال وقيل يجب" الاحتراس منه فيذكر قيدا يخرج محل النقض لئلا تنتقض العلة قال السبكي وهو الصحيح عندي. "وقيل" يجب "إلا في المستثنيات" وهي الصور التي ينتفي فيها الحكم وتوجد العلة أية كانت من العلل المعتبرة في حكم المسألة على اختلاف المذاهب فإنه لا نزاع في أن ورود النقض على سبيل الاستثناء لا يفيد العلية لأنه لما ورد على كل مذهب كان مجامعا لما هو عليه ولهذا اتفقوا على أن المستثنى لا قياس عليه ولا يناقض به "كالعرايا عند الشافعية" إذا وردت على الربويات لأنهم يفسرون العرايا بما يقتضي ورودها على كل المذاهب سواء علل الربا بالطعم أو القوت أو الكيل والوزن وهي بيع الرطب على رءوس النخيل بقدر كيله من التمر خرصا لو جف فيما دون خمسة أوسق قال المصنف أما الحنفية فليست العرية عندهم إلا العطية وليس بين المعري والمعرى بيع حقيقي فلا يتصور هذا القول عندهم "لنا أنه" أي المستدل "أتم الدليل إذ انتفاء المعارض" له "ليس منه" أي الدليل ثم هو(25/487)
غير ملتزم لنفي المعارض فلا يلزمه "ولأنه" أي الاحتراس عنه بذكر قيد يخرج محل النقض "لا يفيد" دفع الاعتراض بالنقض "إذ يقول" المعترض "القيد طرد والباقي" بعده "منتقض وهذان" أي منع وجود العلة ومنع انتفاء الحكم "دفعان" لتحقق النقض "والجواب الحقيقي بعد الورود" أي تحققه "بإبداء المانع في محل التخلف وهو" أي المانع "معارض اقتضى نقيض الحكم" الذي أثبته المستدل "فيه" أي في محل التخلف كنفي الوجوب للوجوب "أو" اقتضى "خلافه" أي الحكم الذي أثبته المستدل والمراد به هنا المغاير الوجودي غير المساوي فيتناول الضد وهذا الاقتضاء "لتحصيل مصلحة كالعرايا لو أوردت على الربويات" لعموم الحاجة إلى الرطب والتمر لهم وقد لا يكون عندهم ثمن آخر. "وكذا الدية" أي كضربها "على العاقلة" إذا أورد "على الزجر" للقاتل بسبب مشروعيتها "لمصلحة أوليائه" أي المقتول "مع عدم تحميله" أي القاتل شيئا منها ما لم يقصد به القتل "للشافعية" وإنما قيد بهم لأن عند الحنفية يؤدي القاتل كأحدهم "أو لدفع مفسدة كالاضطرار لو ورد على تعليل حرمة الميتة بالاستقذار فإنه" أي الاضطرار "اقتضى خلافه" أي التحريم "من الإباحة" فإن دفع هلاك النفس أعظم من مفسدة أكل القاذورات هذا(25/488)
ص -337-…كله إذا لم تكن العلة منصوصة بظاهر عام "فلو كانت" العلة "منصوصة ب" ظاهر "عام" لا يجب إبداء المانع بعينه بل "وجب تقدير المانع وتخصيصه" أي الظاهر العام "بغير محل النقض" جمعا بين الدليلين "وهذا" أي تخصيصه بغير محل النقض "إذا كان النص على استلزامها" أي العلة الحكم "في المحال لا على عليتها" أي العلة "فيها" أي المحال "إذ لا تنتفي عليتها بالمانع أو" كانت منصوصة "بخاص فيه" أي في محل النقض "وجب تقديره" أي المانع "فقط والحكم بعليتها فيه" أي في محل النقض "أما مانعو تخصيص العلة فبعدم وجودها" أي العلة أي يجيبون بهذا بدل إبداء المانع "إذ هي" أي العلة "الباعثة" على الحكم "مع عدمه" أي المانع "فهو" أي عدم المانع "شرط عليتها وغيرهم" أي المانعين لتخصيصها وهم الأكثرون عدم المانع "شرط ثبوت الحكم وتقدم" في المرصد الثاني في شروط العلة "ما فيه" أي هذا البحث فليراجع منه. "وبعض الحنفية" قالوا "لا يمكن دفع النقض عن الطردية" لأنه يبطلها حقيقة "إذ الاطراد لا يبقى بعد النقض" كما يفيده عبارة عامة المتأخرين كصاحب الكشف وهي أي المناقضة تلجئ أصحاب الطرد إلى القول بالأثر لأن الطرد الذي تمسك به المجيب لما انتقض بما أورده السائل من النقض لا يجد المجيب بدا من المخلص عنه إلا ببيان الفرق وعدم وروده نقضا ولا يتحقق ذلك إلا بالعدول عن ظاهر الطرد إلى بيان المعنى وهذا إن لم يجعل ذلك انقطاعا أو سامحه السائل ولم يناقشه في الشروع في بيان الفرق والتأثير فأما إذا جعل انقطاعا كما هو مذهب البعض ولم يسامحه السائل في ذلك بأن يقول احتججت علي باطراد هذا الوصف وقد انتقض ذلك بما أوردته فلم يبق حجة فلا ينفعه بيان التأثير والشروع في الفرق في هذا المجلس لأن ذلك انتقال عن حجة هي الطرد إلى حجة أخرى وهي التأثير لإثبات المطلوب الأول فلا يسمع منه فيضطر إلى التمسك بالتأثير والرجوع عن الطرد فيما بعد من المجالس "وهو" أي عدم إمكان دفع(25/489)
النقض عنها "بعد كونه على" تقدير "النقض في نفس الأمر وعرف ما فيه" حيث قال سالفا وعلى الطردية ترد مع القول بالموجب ولا وجه لتخصيصها به ودفع بأن الإيراد باعتبار ظنه العلية لإنكار ظنه لا على الشرعية في نفس الأمر إلخ "بناء على قصر الطردية على ما" يكتفى فيها "بالدوران" أي بمجرد دوران الحكم مع العلة وجودا فقط أو عدما "ولا وجه له" أي لقصرها على ما بالدوران "بل" الطردية هي "غير المؤثرة" فتعم المناسب والملائم باصطلاح الحنفية. "وعلى" تقدير "الورود" للنقض على الطردية لجوازه كما سلف "يحوج" وروده "إلى التأثير كطهارة" أي كقول الشافعي الوضوء طهارة "فيشترط لها النية كالتيمم فينقض بغسل الثوب" من النجاسة فإنه طهارة ولا يشترط فيه النية "فيفرق" بينهما "بأنها" أي الطهارة التي هي الوضوء طهارة "غير معقولة" لأنه لا يعقل في محلها نجاسة "فكانت متعبدا بها فافتقرت إلى النية" تحقيقا لمعنى التعبد إذ العبادة لا تنال بدون النية "بخلافه" أي غسل الثوب من النجاسة "لعقلية قصد الإزالة" للنجاسة به لا لتحقيق معنى التعبد "وبالاستعمال" للمائع القالع الطاهر فيه "تحصل" الإزالة "فلم يفتقر" غسله إلى النية وتقدم في شروط الفرع ما يدفع هذا عن الحنفي "وأما" العلل "المؤثرة فتقدم(25/490)
ص -338-…صحة ورود النقض عليها" بناء على دعوى المجيب كونها علة مؤثرة لا على كونها مؤثرة في نفس الأمر "وحيث ورد" النقض صورة عليها وكان من مفسداتها كما هو الحق وعليه الجمهور لأنها لما كانت مستلزمة للحكم لا يجوز تخلفه عنها إلا لمانع أو زوال شرط فقد "دفع بأربع إبداء عدم الوصف" في صورة النقض "كخارج نجس" أي كما يقال في الخارج النجس من بدن الإنسان من غير السبيلين إنه ناقض للوضوء لأنه خارج نجس "من البدن فحدث كما في السبيلين فينقض بما لم يسل" من رأس الجرح فإنه ليس بحدث مع أنه خارج نجس من البدن "فيدفع" النقض به "بعدم الخروج" في القليل من غير السبيلين "لأنه" أي الخروج "بالانتقال" من مكان باطن إلى مكان ظاهر ولم يوجد هذا في غير السائل بل ظهرت النجاسة بزوال الجلدة الساترة لها ثم هو ليس بنجس كما هو المروي عن أبي يوسف. والمختار عند كثير من المشايخ بخلاف السبيلين فإنه لا يتصور ظهور القليل إلا بالخروج فانتفى الحكم في هذه الصورة لعدم علته "وملك بدل المغصوب" للمغصوب منه "علة ملكه" أي المغصوب للغاصب لئلا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد "فينقض بالمدبر" فإن غصبه سبب الملك بدله للمغصوب منه ومع هذا لا يملك الغاصب المبدل ولم يزل عن ملك المغصوب منه "فيمنع ملك بدله" أي المغصوب "بل" هو "بدل اليد" لأن ضمانه ليس بدلا عن العين بل عن اليد الفائتة فلم يلزم من ملك البدل زوال ملك الرقبة فكان عدم الحكم أيضا في هذه الصورة وهو ملك رقبة المدبر للغاصب لعدم علته وهي كون الغصب سبب ملك الرقبة فهذا أحد الطرق الدافعة للنقض مع التمثيل له "ويمنع وجود المعنى الذي به صار" الوصف "علة" وذلك المعنى بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص بمعنى أن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو المؤثر في الحكم "فينتفي" وجود المعنى المذكور معنى. "وإن وجد" المعنى "صورة كمسح" أي كما يقال في مسح الرأس مسح "فلا(25/491)
يسن تكراره كمسح الخف فينتقض بالاستنجاء" بالحجر فإنه مسح والعدد وإن لم يكن مسنونا فيه عند أصحابنا يقع تثليثه سنة بالإجماع إذا احتيج إليه "فيمنع فيه" أي في الاستنجاء "المعنى الذي شرع له" المسح في الوضوء "وهو" أي المعنى الذي شرع له "التطهير الحكمي" لأن الاستنجاء تطهير حقيقي "وله" أي ولأجل أن المسح تطهير حكمي "لم يسن" التكرار فيه "لأنه" أي التكرار "لتأكيد التطهير المعقول" المعنى وهو غسل النجاسة الحقيقية "لتحقق الإزالة" وتأكدها به "وهو" أي التطهير المعقول المعنى ثابت "في الاستنجاء" لأنه إزالة عين النجاسة "دونه" أي مسح الرأس "كما في التيمم" فإن كلا منهما تطهير غير معقول المعنى ولهذا كان الغسل في الاستنجاء أفضل بخلافه في مسح الرأس ولو أحدث بالريح لم يكن الاستنجاء سنة ثم المعنى اللغوي للمسح مما يشير إلى هذا لأنه الإصابة وهي تنبئ عن التخفيف. هذا وفي التلويح ومبنى هذا الكلام على أن يكون المراد بعدم سنية التثليث كراهته لئلا يكون حكما شرعيا فيعلل وهذا ثاني الطرق الدافعة للنقض مع مثاله "ويمنع التخلف" للحكم عن العلة في صورة النقض والقول بتحقق الحكم فيها "كما إذا نقض" المثال "الأول"(25/492)
ص -339-…لإبداء عدم الوصف "بالجرح السائل" فإن خروج النجاسة موجود فيه بدون الحدث "فيمنع كونه" أي خروج النجاسة فيه "ليس حدثا بل هو" حدث "وتأخر حكمه" الذي هو الحدث "إلى ما بعد خروج الوقت" على قول أبي حنيفة وموافقه "أو الفراغ" من المكتوبة وما يتبعها من النوافل على قول الشافعي وموافقه "ضرورة الأداء" لأنه مخاطب بأدائها فلزم أن يكون قادرا ولا قدرة إلا بسقوط حكم الحدث في هذه الحالة "ولذا" أي تأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت "لم يجز مسحه" أي صاحب الجرح السائل "خفه إذا لبسه في الوقت مع السيلان" أو كان السيلان مقارنا للوضوء أو بعده قبل اللبس "بعد خروجه" أي الوقت لأن بخروج الوقت يصير محدثا بالحدث السابق إذ خروج الوقت ليس بحدث إجماعا والحكم قد يتصل بالسبب وقد يتأخر عنه لمانع كالبيع بشرط الخيار بخلاف ما إذا كان الوضوء واللبس على الانقطاع فإنه يمسح بعد الوقت إلى تمام المدة كغيره من الأصحاء لعدم صيرورته محدثا بالحدث السابق عليهما وهذا ثالث الطرق الدافعة للنقض مع مثاله. قلت وبعد العلم بمعنى هذا الطريق من الدفع فمن العجب قول فخر الإسلام في شرح التقويم أن هذا الوجه لا يسلم من القول بتخصيص العلة وقول صاحب الكشف إن هذا إنما يتأتى على قول مجوز تخصيص العلة لمانع لا على قول من لا يجوزه فإن الفرض أن الحكم لم يتخلف بل هو موجود كما أن العلة كذلك ولا تخصيص للعلة بدون وجودها وانتفاء حكمها لمانع والله الموفق.(25/493)
"وبالغرض" المطلوب بالتعليل "فيقول" المستدل "في المثال" الأول لإبداء عدم الوصف "غرضي بهذا التعليل التسوية بين الخارج من السبيل وغيره في كونهما" أي الخارج منه والخارج من غيره "حدثا وإذا لزما" أي استمرا "صار عفوا" بأن يسقط حكمهما في تلك الحالة ضرورة توجه الخطاب بأداء الصلاة حينئذ "فإن البول" الذي هو الأصل "كذلك" أي إذا دام يصير عفوا لهذا المعنى "فوجب في الفرع" أي الجرح السائل "مثله" أي إذا دام يصير عفوا لهذا المعنى وإلا لكان الفرع مخالفا للأصل وهو لا يجوز والحاصل أنه كما أن العلة موجودة في الصورتين فكذا الحكم وكما أن ظهور الحكم قد يتأخر في الفرع فكذا في الأصل فالتسوية حاصلة بكل حال وهذا رابع الطرق الدافعة للنقض مع مثاله "وحاصل الثاني الاستدلال على انتفائها" أي العلة "إذ هي" أي العلة "بمعناها لا بمجرد صورتها" والرابع كما في التلويح راجع إلى منع انتفاء الحكم لأن المناقض يدعي أمرين ثبوت العلة وانتفاء الحكم فلا يصح دفعه إلا بمنع أحدهما وإذا لم يتيسر الدفع للنقض بأحد هذه الطرق فقد بطلت. "وذكر الشافعية من الاعتراضات نقض الحكمة ويسمونه كسرا وتقدم" في المرصد الثاني في شروط العلة "الخلاف في قبوله وأن المختار" عند الآمدي وابن الحاجب "قبوله عند العلم برجحان" الحكمة "المنقوضة" في محل النقض على المذكورة في الأصل "أو مساواتها" أي المنقوضة لها إلا أن شرع حكم آخر أليق بها فيسمع حينئذ "وحققنا ثمة خلافه" أي هو المختار وهو أنه لا يسمع وإن علم رجحان المنقوضة للإجماع على عدم الاكتفاء بسكوت بكر زانية اشتهر زناها وإن كان حياؤها أكثر من حياء بكر لم تزن "ثم منع وجود(25/494)
ص -340-…العلة هنا" أي في الكسر "على تقدير سماعه" أي الكسر "أظهر منه" أي من منع وجودها "في النقض" لأن قدر الحكمة متفاوت فقد لا يحصل ما هو مناط الحكم منه في الأصل في الفرع بخلاف نفس الوصف فإنه لا يتفاوت ومنع انتفاء الحكم هنا قد يدفع بوجه آخر وهو أنه لم لا يجوز أن يثبت حكم هو أولى بالحكمة ثم حيث يسمع فالكلام فيه كالكلام في النقض من أنه يجاب بأجوبة ثلاثة مما مضى بمنع وجود المعنى في صورة النقض أولا وبمنع عدم الحكم فيها كي لا يتحقق ثانيا وبإبداء المانع فيها إذا تحقق ثالثا وحينئذ فهل للمعترض أن يدل على وجود المعنى فيه المذاهب الأربعة الماضية وعلى وجود الحكم فيه المذاهب الثلاثة السابقة وهل يجب الاحتراز عن الكسر في متن الاستدلال؟ المختار أنه لا يجب هذا وقدمنا مراد الإمام الرازي وأتباعه بالكسر وما ذكره السبكي في ذلك فليراجع.(25/495)
"خامسها" أي المنوع الموردة على حكم الأصل "فساد الوضع" وهو "أخص من فساد الاعتبار من وجه إذ قد يجتمع ثبوت اعتبارها" أي العلة "في نقيض الحكم" الذي هو فساد الوضع "مع معارضة نص أو إجماع" لذلك الذي هو فساد الاعتبار "ولا يخفى الآخران" أي انفراد ثبوت اعتبارها في نقيض الحكم عن كون القياس معارضا بالنص أو الإجماع وبالعكس وقيل فساد الاعتبار من جهة عدم اعتباره فقط وذلك لأنه لا يمكن اعتبار القياس في ترتيب الحكم عليه لا لفساد في وضعه وتركيبه وهو أن لا يكون على الهيئة الحاصلة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه لصحته بل لمخالفته النص فقط فعلى هذا كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس فيكون فاسد الوضع أخص مطلقا من فاسد الاعتبار وهو ظاهر كلام الآمدي وقيل هما واحد وعليه أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين "ويفارق" فساد الوضع "النقض بتأثيره" أي الوصف في فساد الوضع "في النقيض" فإن الوصف في فساد الوضع هو الذي يثبت النقيض بخلاف النقض فإنه لا تعرض فيه لثبوته به وإنما يثبت النقيض معه سواء كان به أو بغيره "و" يفارق "القلب بكونه" أي الوصف في فساد الوضع يثبت نقيض الحكم "بأصل آخر" وفي القلب يثبت نقيض الحكم بأصل المستدل. "و" يفارق "القدح في المناسبة بمناسبته" أي الوصف في فساد الوضع "نقيضه" أي الحكم "من حيث هو كذلك" إما مناسب لنقيضه لا من حيث الإفضاء إلى المصلحة "إذا كان" التناسب "من جهته" أي التناسب للحكم فتكون مناسبته لنقيض الحكم والحكم من جهة واحدة "بخلافه" أي ما إذا كان التناسب للنقيض "من غيره" أي التناسب للحكم "إذا كان له" أي للوصف "جهتان" يناسب بإحداهما الحكم وبالأخرى نقيضه "ككونه" أي المحل "مشتهى" للنفوس "يناسب الإباحة" لنكاحه "لدفع الحاجة والتحريم لقطع الطمع" فإنه لا يقدح في المناسبة لأنه لا يلزم بطلان المناسبة حينئذ لجواز تعليل الضدين بوصف واحد بشرطين متضادين إذ عند التحقيق علة هذا غير علة ذلك وقد تلخص(25/496)
أن ثبوت النقيض مع الوصف نقض فإن زيد ثبوت النقيض بذلك الوصف ففساد الوضع وإن زيد على الفساد كونه به في أصل المستدل فقلب وأما بدون ثبوت النقيض مع الوصف في أصل فالمناسبة فإن ناسبت الحكم ونقيضه من جهة واحدة كان قدحا فيها ومن(25/497)
ص -341-…جهتين لا "مثاله" أي فساد الوضع قول القائل في التيمم "مسح فيسن تكراره كالاستنجاء فيرد" أن يقال المسح لإثبات التكرار فاسد الوضع إذ المسح "معتبر في كراهته" أي التكرار "كالخف" فإن تكرار المسح عليه يكره بالإجماع "وجوابه" أي هذا المنع "بالمانع" أي ببيان وجود المانع "فيه" أي في الخف الذي هو أصل المعترض أي بذكر "فساده" أي إنما كره التكرار في الخف لأنه يعرضه للتلف "و" مثاله "للحنفية إضافة الشافعي الفرقة" بين الزوجين الكافرين إذا أسلمت وأبى "إلى إسلام الزوجة" فإن هذه الإضافة من فساد الوضع "فإنه" أي الإسلام "اعتبر عاصما للحقوق" كما اقتضاه حديث الصحيحين السالف في بحث التأثير قلت وهذا مما اجتمع فيه فساد الوضع والاعتبار فليتأمل. "فالوجه" إضافة الفرقة بينهما "إلى إبائه" أي امتناعه من الإسلام لصلاحيته لإضافة انقطاع النكاح إليه لأنه عقوبة وهو رأس أسباب العقوبات كما تقدم ثمة أيضا "وكقوله" أي الشافعي في علة تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح أنها الطعم إذ "المطعوم ذو خطر" أي عزة وشرف لتعلق قوام النفس وبقاء الشخص به والحرمة للشيء تشعر بتضييق طريق الوصول إليه وهو أمارة الخطر لأن ما ضاق إليه الوصول عز في الأعين إذا أصيب وإذا اتسع الوصول إليه هان في الأعين "فيزاد فيه" أي في تملكه "شرط التقابض" إظهارا للخطر كالنكاح فإنه لما كان استيلاء على محل ذي خطر لتعلق بقاء النوع به شرط لجوازه شرط زائد على غيره من العقود وهو حضور الشهود "فيرد اعتبار مساس الحاجة" إلى الشيء إنما يناسب أن يكون مؤثرا "في التوسعة" والإطلاق لا في التحريم والتضييق بدليل حل الميتة عند الاضطرار وجرت سنة الله بتسهيل طريق الوصول إلى كل ما كانت الحاجة إليه أمس كالهواء والماء والتراب بخلاف النكاح فإنه يرد على الحر والحرية تنبئ عن الخلوص والخلوص يمنع وروده عليها لأنه نوع رق فيصلح أن يكون الأصل فيه التحريم ولكن ثبت الحل(25/498)
بعارض الحاجة إلى بقاء النسل وما ثبت بالعارض يجوز توقفه على أشياء لمخالفته الأصل فظهر أن في ترتيب اشتراط التقابض في تملك المطعوم على كونه ذا خطر فساد الوضع لأنه نقيض ما يقتضيه من التوسعة والتيسير ثم هذا المنع يبطل العلة بكليتها ولا يندفع إلا بتغيير الكلام فهو فوق النقض.
"سادسها المعارضة في الأصل" وهي "أن يبدي" المعترض "فيه وصفا آخر صالحا" للعلية "يحتمل أنه" وحده "العلة" وأن يكون هو مع وصف المستدل ولعله لم يذكره اكتفاء بقسيمه أعني "أو" أنه "مع وصف المستدل" العلة "فالأول" أي إبداء الوصف الآخر الصالح للعلية المحتمل أنه العلة أو أنه مع وصف المستدل العلة "معارضة الطعم بالقوت أو الكيل" أي معارضة المعترض تعليل المستدل حرمة الربا بالطعم بأحدهما إذ يحتمل أن يكون القوت أو الكيل هو العلة وحده أو العلة مجموع الطعم والقوت أو مجموع الطعم والكيل "والثاني" أي إبداء الوصف الآخر الصالح للعلية المحتمل أن يكون مع وصف المستدل العلة "الجارح للقتل" العمد "العدوان" أي معارضة المعترض تعليل المستدل القصاص في المحدد بكونه قتلا عمدا عدوانا بكونه بالجارح "لنفي المثقل" أي القصاص بالقتل به كالحجر فإنه(25/499)
ص -342-…يجوز كون الجرح من القتل هو المعتبر علة للقصاص والجارح لا يصلح سوى أن يكون هو جزء العلة لأنه لا يصلح للاستقلال. "واختلف فيه" أي هذا المنع "في المذهبين" للحنفية والشافعية فمذهب الحنابلة "والمختار للشافعية قبوله لتحكم المستدل باستقلال وصفه" بثبوت الحكم دون الوصف المعارض المبدي "مع صلاحية المبدى له" أي للاستقلال بالعلية "وللجزئية" أي وأن يكون جزء العلة بأن يكون مع الأول علة مستقلة لذلك الحكم لتساويهما في الصلوح من غير مرجح في الوجود فإن قيل لا تحكم مع الرجحان ووصف المستدل راجح إذ في اعتباره دون وصف المعترض توسعة في الأحكام لأنه إذا اعتبر تعدى الحكم إلى الفرع ولو اعتبر وصف المعترض وهو لا يوجد في الفرع لم يتعد فالجواب أن الرجحان لوصف المستدل ممنوع "ولا يرجح" لكونه علة "بالتوسعة لأنه" أي حصول التوسعة "مرجح لما ثبتت عليته والكلام فيه" أي في ثبوت العلية لوصف المستدل هنا "ولو سلم" أنه يدل على ثبوت العلية "فمعارض بما يرجح وصف المعارضة وهو" أي المعارض1 "موافقة الأصل" وهو عدم الحكم "بالانتفاء" للحكم "في الفرع و" المختار "للحنفية نفيه" أي نفي قبوله "ويسمونها" أي المعارضة في الأصل "المفارقة فإن كان" الفرق "صحيحا فليجعل ممانعة ليقبل" من المعترض لأن المفارقة من الأسئلة الفاسدة عند الجمهور والممانعة أساس المناظرة وبها يعرف فقه الرجل "ففي إعتاق عبد الرهن" أي إعتاق الراهن العبد المرهون إذا قال الشافعي ببطلانه لأنه "تصرف لاقى حق المرتهن" بالإبطال بدون رضاه "فيبطل كبيعه" أي كما لو باعه الراهن بغير قضاء الدين ولا إذنه "لو قال" الحنفي "هي" أي العلة "في الأصل" أي البيع "كونه" أي البيع "يحتمل الرفع" بعد وقوعه فيمكن القول بانعقاده على وجه يتمكن المرتهن من فسخه بخلاف العتق فإنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه فلا يظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ لكان فقها صحيحا في نفسه لكن إذا "لم يقبل" لصدوره(25/500)
ممن ليس له ولاية الفرق وهو السائل "فليقل إن ادعيت حكم الأصل" أي بيع العبد الرهن "البطلان منعناه" أي كون حكمه البطلان. "أو" ادعيت حكمه "التوقف" على إجازة المرتهن أو قضاء دينه "فغير حكمك في الفرع" بالبطلان ومن شرط صحة القياس أن يكون حكم الأصل والفرع واحدا وقد ظهر أنه لو قيل ابتداء حكم الأصل التوقف ولم يوجد في الفرع لكفى "وهذا" أي كون المختار نفي قبوله "لأنه غصب" لمنصب التعليل والسائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار فإذا ادعي عليه شيء آخر وقف موقف الدعوى وهذا بخلاف المعارضة فإنها إنما تكون بعد تمام الدليل فالمعارض لا يبقى سائلا بل يصير معللا مدعيا ابتداء "وليس" كذلك "لأنه لا يستدل عليه بل يجوز كونه" أي المبدي وحده "العلة أو مع ما ذكر" المستدل "وحاصله" أي هذا السؤال "منع استقلاله" أي وصف المستدل بالعلية "وتسميته معارضة تجوز لقولهم" أي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله أي المعارض عبارة التيسير [وهو] أي ما يرجح وصفها الخ وهي أحسن مما هنا فتأمل كتبه مصححه.(26/1)
ص -343-…الأصوليين "إذا أطلقت" المعارضة في باب القياس "فما في الفرع" أي فالمعنى بها المعارضة في الفرع "وهذه" أي المعارضة في الأصل تذكر "بقيد" هو في الأصل "وإذا رد النقض إلى المنع" كما صرحوا به وقد تقدم في تعريفه "فهذا" أي رد المعارضة في الأصل إلى المنع "أولى" منه في ذلك لأنه في النقض مستدل على البطلان بالتخلف وهنا يجوز المبدي تجويزا فلا جرم أن في التلويح ولا يخفى أنه نزاع جدلي يقصدون به عدم وقوع الخبط في البحث وإلا فهو ساع في إظهار الصواب. "قالوا" أي الحنفية "ولجواز علتين في الأصل تعدى بكل" منهما "إلى محلها" الذي وجدت فيه وإن لم توجد الأخرى فيه "فعدم إحداهما" بعينها "في محل لا ينفي" كون "الأخرى" علة لحكمها المنسوب إليها في محل آخر وجدت فيه "وهذا" الوجه "يقتصر" أي يفيد اقتصار نفي القبول "على ما يجب فيه استقلال كل" من العلتين بدليل موجب لذلك "دون تجويز جزئيته" أي المبدي للعلة الذي ذكرها المستدل "فالحق إن أجمع على أنها" أي العلة "في محل النزاع إحداهما" أي المذكورتين المستدل والمعترض بالاستقلال "كعلة الربا" أهي الكيل والوزن أو الطعم أو الاقتيات والادخار "قبل" هذا الاعتراض للتجويز المذكور "وإلا" لو لم يجمع على أنها في محل النزاع إحداهما بالاستقلال "لا" يقبل بتقدير الاستقلال لإحداهما أو لكل منهما لما ذكر في وجه المختار للشافعية "وقولهم" أي الشافعية الثابت "بالاستقراء مباحث الصحابة جمع" أي تعميم الحكم بين أصل وفرع بموجب وصف مشترك بينهما "وفرق" أي تخصيص ذلك الحكم بالأصل بموجب وصف مختص بالأصل والبحث والنظر إنما هو في أن علة الحكم في الأصل هي ذلك الوصف المشترك أو المختص وذلك إجماع على جواز إبداء وصف فارق غير موجود في الفرع في معارضة وصف جامع اعتبره المعلل وأنه يقبل ويترك به قياس المستدل ولا معنى لقبول المعارضة سوى هذا "لا يمسه" أي القبول على العموم "إلا إن انفلت" مباحثهم جمعا وفرقا(26/2)
"على العموم ولا يمكن" نقلها كذلك. "وعلى قبولها" أي المعارضة في الأصل هل يلزم المعترض بيان أن وصفه الذي أبداه في الأصل معارضا منتف في الفرع فيه أقوال فأحدها يلزمه لينفعه دعوى التعليل به إذ لولاه لم تنتف العلة في الفرع فيثبت الحكم فيه ويحصل مطلوب المستدل فثانيها لا يلزمه لأن غرضه عدم استقلال ما ادعى المستدل استقلاله وهذا يحصل بمجرد إبدائه "فثالثها" الذي هو "المختار لا يلزم" المعترض "بيان انتفائه" أي الوصف المبدي في الأصل معارضا "عن الفرع إلا إن ذكره" أي المعترض انتفاءه في الفرع "لأن مقصوده" أي المعترض "لم ينحصر في ضده" أي صرف المستدل "عن التعليل" بذلك "لينتفي لزومه" أي بيان انتفائه "مطلقا" أي ذكره أو لم يذكره كما هو وجه القول الأول "ولا نفى حكمه" أي ولم ينحصر في نفي حكمه "في الفرع ليلزم" بيان انتفائه "مطلقا" أي ذكره أو لم يذكره كما يشير إليه وجه القول الثاني "بل قد" يكون مقصود المعترض الأمر الأول. "وقد" يكون مقصوده الأمر الثاني "فإذا ادعاه" أي المعترض انتفاء كأن قال هذا الوصف الآخر الصالح في الأصل منتف في الفرع "لزمه" أي المعترض "إثباته" لأنه التزم أمرا فيلزمه بالتزامه وإن لم يجب عليه(26/3)
ص -344-…ابتداء ثم هل يلزم المعترض ذكر أصل يبين تأثير وصفه الذي أبداه في ذلك الوصف حتى يقبل منه قيل يلزمه لأن المناسبة بدون الاقتران لا تدل على علية الوصف فلا بد له من أصل يشهد له بالاعتبار "و" المختار "لا" يلزم المعترض "ذكره أصلا لوصفه" الذي أبداه في الأصل يبين تأثيره في ذلك الحكم "كمعارضة الاقتيات بالطعم" أي كأن يقول العلة الطعم لا القوت "كما في الملح" فإنه طعم وليس بقوت وقد أثر فيه حيث جعل من الربويات "لأنه" أي المعترض "لم يدعه" أي كون وصفه علة حتى يحتاج إلى شهادة الأصل "إنما جوز ما ذكر" من كون وصفه علة أو جزأها "ليلزم" المستدل "التحكم" على تقدير كون وصف المستدل علة دون وصفه مع تساويهما في الصلوح من غير مرجح في الوجود "وأيضا يكفيه" أي المعترض في وصفه المبدي "أصل المستدل" إذ أصل المستدل أصله إذ لا بد من وجود وصفه فيه وإلا لم يعارض "فيقول" المعترض "جاز الطعم أو الكيل أو هما" علة "كما في البر بعينه وجوابها" أي المعارضة من المستدل "على القبول بمنع وجوده" أي الوصف المعارض به في الأصل مثل أن يقول لا نسلم أنه مكيل في زمانه صلى الله عليه وسلم وهو المعتبر. "أو" منع "تأثيره" أي الوصف المعارض به "إن كان" وصف المستدل أي عليته "لم يثبته المستدل أو أثبته" المستدل "بما" أي بأي طريق "كان وتقييد سماعه" أي هذا السؤال وهو مطالبة المستدل المعترض بتأثير وصف المعترض "من المستدل بما إذا كان المستدل أثبت وصفه" أي عليته "بالمناسبة ونحوها" أي بالشبهة لأن المناسبة إنما تؤثر إذا لم تعارض بمناسبة أخرى "لا" إذا أثبت وصفه "بالسبر ونحوه" لأن الوصف يدخل في السبر بمجرد احتمال كونه مناسبا وإن لم تثبت المناسبة بالنظر إليه أو إلى الخارج على ما يعم الشبه فتتم المعارضة بمجرد إبداء وصف آخر محتمل للعلية من غير أن يثبت مناسبته كما ذكره القاضي عضد الدين "تحكم لأن ذاك" المثبت بما كان من الطريق "وصفه" أي المستدل(26/4)
"وهذا" المبدي وصف "آخر مجوز" أي جوزه المعترض وقد "دفعه" المستدل "بعدم التأثير وهو" أي عدم التأثير "عدم المناسبة عندهم" أي الشافعية "فيجب إثباته" على المعترض بما شاء "فبالمناسبة ظاهر وكذا بالسبر لأن ما أفاد العلية أفاد المناسبة إذ هي" أي المناسبة "لازم العلة بمعنى الباعث" فما أفادها أفادها "لكن لا يلزم إبداؤها" أي المناسبة "في السبر ونحوه ولذا" أي عدم لزوم إبدائها1 فيه "عورض المستبقى فيه" أي السبر "لعدمها" أي المناسبة "وقيل المعنى" للمستدل مطالبة المعترض بكون وصفه مؤثرا "إذا كان المعترض أثبته بالمناسبة" كما ذكره جماعة من شارحي مختصر ابن الحاجب "وهو خبط إذ بفرض إثباته" أي المعترض كون الوصف علة "بها" أي بالمناسبة "كيف يمنع" المستدل "التأثير وهو" أي التأثير "هي" أي المناسبة "إذ لا يمكن حمله" أي التأثير "على اصطلاحهم" أي الشافعية "فيه" أي في التأثير "وهو كون العين في العين بالنص أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قوله أي عدم لزوم إبدائها الخ عبارة التيسير [ولذا] أي لما ذكر من الزوم المناسبة لمطلق العلة إلى أن قال فقد علم أن المشار إليه بقوله ولذا لزوم الناسبة لا عدم إبدائها كما زعم الشارح اهـ كتبه مصححه.(26/5)
ص -345-…الإجماع إذ لا يتعين" إثبات المعترض كون الوصف علة بهذا "عليه" أي المعترض "بعد إثباته" أي المعترض كون الوصف علة "بطريق صحيح هي المناسبة بالفرض نعم" يتعين على المعترض إثباته بالتأثير "لو كان المعترض حنفيا فإن المناسبة لا تستلزم الاعتبار عندهم" أي الحنفية كما تقدم "فالتأثير عندهم شرط مع المناسبة وهو" أي التأثير عندهم "إن ثبت اعتبار جنس المناسبة إلى آخر الأقسام" الماضية في بحث التأثير. "ولا يصح" ممن أثبت وصفه بالسبر مستدلا كان أو معترضا الترجيح "بترجيح السبر" على المناسبة "لتعرضه" أي لأجل تعرض السبر "لنفي غيره و" لا "بكثرة الفائدة" وإنما لا يصح "لأن ذلك" أي تعرضه لنفي غيره إنما يكون مرجحا "بعد ظهور شرطه" أي السبر وهو مناسبة المستبقى لأن شرط كل علة مناسبتها في نفس الأمر إلا أنه لا يجب إظهارها على المعلل في كل إثبات لأن بعض طرق العلة لا تتعرض لذلك كالسبر "أو عدم ظهور عدمه" أي الشرط وهو منتف هنا "أما مع ظهوره" أي عدم الشرط كما إذا قال المعترض المستبقى أيضا غير مناسب فيما إذا أبدى وصفا آخر ليبطل الحصر فقال المعلل هذا لم أدخله في سبري لعدم مناسبته "فلا" يترجح السبر "إذ لا يفيد" السبر "مع عدم الشرط" أي المناسبة "وهو" أي عدم الشرط هو "المعترض به" لأن المعترض عارض ظهور مناسبة المستبقى عنده بظهور عدم مناسبة المستبقى عنده "أو بيان خفائه" أي الوصف المعارض به فهو مجرور بالعطف على منع وجوده أو تأثيره. وكذا "أو عدم انضباطه أو منع ظهوره أو" منع "انضباطه" أو كل منها عطف على ما يليه إذ هذه الأربعة من أجوبة المعارضة لما علم في شروط العلة اشتراط الظهور والانضباط في الوصف المعلل به فلا بد في دعوى صلوح الوصف علة من بيانهما والصادر عنهما إن تبين عدمها وأن يطالب ببيان وجودهما "أو أنه" أي الوصف المعارض به ليس وصفا وجوديا بل هو "عدم معارض في الفرع" والعدم لا يكون علة ولا جزءا من العلة في الحكم(26/6)
الثبوتي على ما هو المختار "كالمكره" أي كقياس القاتل المضطر إلى القتل "على المختار" أي القاتل باختياره "في" وجوب "القصاص بجامع القتل فيعارض بأنها" أي العلة "هو" أي القتل "مع الطواعية" فإنها مناسبة لإيجاب القصاص فلا تكون العلة القتل العمد العدوان فقط بل بقيد الاختيار "فيجيب" المستدل "بأنها" أي الطواعية "عدم الإكراه لا الإكراه المناسب لنقيض الحكم" أي عدم القصاص وعدم الإكراه عدم المانع وصف طردي لا يسند الحكم إليه لأنه ليس من الباعث في شيء وهذا أيضا من أجوبة المعارضة كقوله "أو بإلغائه" أي كون الوصف المعارض به ملغى إما مطلقا في جنس الأحكام كالطول والقصر أو في الحكم المعلل به كالذكورة في العتق "باستقلال وصفه" أي بسبب استقلال وصف المستدل بالعلية "بنص أو إجماع كـ "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" وقدمنا في مباحث الاستثناء أن الشافعي أخرجه بمعناه "في معارضة الطعم" أي كجواب المستدل على أن علة الربا الطعم لمعترضه بمعارضته "بالكيل" بأن النص دل على اعتبار الطعم في صورة ما وهو هذا الحديث فإن اعتبار الحكم مرتبا على وصف يشعر بالعلية "ومن بدل دينه فاقتلوه" كما هو حديث صحيح(26/7)
ص -346-…أخرجه البخاري وغيره. "عند معارضة مطلقه" أي التبديل "بتبديل الإيمان بالكفر" أي وكجواب المستدل على قتل اليهودي إذا تنصر والنصراني إذا تهود إلا أن يسلم كالمرتد لتبديله دينه لمعترضه بمعارضته لوصفه الذي هو مطلق التبديل بأن العلة تبديل الكفر بالإيمان بأن التبديل معتبر في صورة ما للحديث المذكور "ولو قال" المستدل "عم" الحديث "في كل تبديل" سواء كان تبديل دين حق بباطل أو باطل بباطل "كان" هذا القول "شيئا آخر" أي إثباتا للحكم بالنص لا بالقياس والمقصود إثباته به بل ويكون القياس حينئذ ضائعا ومن ثمة لم يسمع منه هذا نعم لا يضره كونه عاما إذا لم يتعرض للتعميم ولم يستدل به "وليس منه" أي الإلغاء المقبول "انفراد الحكم عنه" أي الوصف المبدي للمعترض "لعدم" اشتراط "العكس" في العلة على ما هو المختار "لكن يتم استقلال وصف المستدل" لكونه لا يلزم من ثبوت الحكم بدون الوصف عدم علية الوصف وكونه لغوا "ولكونه" أي انفراد الحكم عنه "ليس إلغاء لا يفيد" المستدل في تمام إلغاء الوصف المعارض به في صورة عدمه "إبداء الخلف" أي وصف آخر يخلف الوصف المبدي أولا الذي ألغاه المستدل "من المعترض" لئلا يكون وصف المستدل مستقلا وإنما لا يفيد المستدل هذا تمام إلغائه لابتناء إلغاء الوصف المعارض به على استقلال وصف المستدل في صورة عدم الوصف المعارض به وقد بطل استقلاله بإبداء المعترض قيدا آخر ينضم إليه فيبطل ما يبتنى عليه. "وهو" أي فساد الإلغاء على هذا الوجه "تعدد الوضع" لتعدد أصلي الوصفين اللذين أوردهما المعترض وصيرورته معللا بكل منهما على وضع أي مع قيد "نحو" أن يقال في صحة أمان العبد المسلم العاقل للحربي "أمان" صادر "من مسلم عاقل فيقبل كالحر" أي كأمان الحر المسلم العاقل له "لأنهما" أي الإسلام والعقل "مظنتان للاحتياط للأمان" أي لإظهار مصلحة بدل الأمان "فيعترض باعتبار الحرية معهما" أي الإسلام والعقل "لأنها" أي الحرية "مظنة(26/8)
التفرغ" للنظر في مصلحة الأمان لعدم اشتغاله بخدمة المولى "فنظره" أي الحر "أكمل" من نظر العبد "فيلغيها" أي المستدل الحرية "بالمأذون في القتال" أي باستقلال الإسلام والعقل بالأمان في العبد الذي أذن سيده له في قتال الكفار فإن له الأمان بالاتفاق "فيقول" المعترض "الإذن" أي إذن السيد له في ذلك "خلفها" أي الحرية "لدلالته" أي إذن السيد له في ذلك "على علم السيد بصلاحه" لإظهار مصالح الأمان أو قام الإذن مقام الحرية فإنه مظنة لبذل الوسع في النظر "فالباقي" أي الإسلام والعقل "علة على وضع أي قيد الحرية" أي هما معها "وآخر" أي والباقي علة أيضا على وضع آخر وهو كون الإسلام والعقل مع "الإذن وجوابه" أي تعدد الوضع "أن يلغي" المستدل ذلك "الخلف بصورة ليس" ذلك الخلف "فيها فإن أبدى" المعترض "فيها" أي الصورة المبداة "خلفا" آخر "فكذلك" أي فجوابه إلغاؤه بإبدائه صورة أخرى لا يوجد فيها ذلك الخلف أيضا وعلى هذا "إلى أن يقف أحدهما" إما المستدل لعجزه عن الإلغاء أو المعترض لعجزه عن ثبوت عوض في هذا المقام يظهر الرجال ويتبين فرسان الجدال. "ولا يلغي" أي ولا يفيد المستدل إلغاء الوصف المعارض به في الأصل "بضعف الحكمة إن سلم" المستدل "المظنة" أي وجود(26/9)
ص -347-…المظنة المتضمنة لتلك الحكمة "كالردة علة القتل" في قياس المرتدة على المرتد في وجوب القتل "فيقال" من قبل المعترض بل "مع الرجولية لأنه" أي كون المرتد رجلا "المظنة لقتال المسلمين" إذ يعتاد ذلك من الرجال دون النساء "فيلغيه" أي المستدل كون المرتد رجلا المظنة لذلك "بمقطوع اليدين" لضعف الرجولية فيه مع أنه يقتل اتفاقا إذا ارتد فهذا "لا يقبل" من المستدل أي لا ينفعه "بعد تسليم كون الرجولية مظنة" اعتبرها الشارع فيدار الحكم عليها غير ملتفت إلى حكمتها كسفر الملك المرفه لا يمنع الرخص "ولا يفيد ترجيح المستدل وصفه" على وصف المعترض "بشيء" من وجوه الترجيح في جواب المعارضة خلافا للآمدي "لأن المفيد" في ذلك "ترجيح أولوية استقلال وصفه" أي المستدل على أولوية استقلال وصف المعارضة إذ لا تعليل بالمرجوح مع وجود الراجح "وهو" أي ترجيحها "منتف مع احتمال الجزئية" أي جزئية وصف المعارضة لوصف المستدل وهو باق إذ لا يمتنع ترجيح بعض أجزاء العلة على بعض كما في القتل العمد العدوان فإن القتل أقوى في العلية من العمد العدوان فلو قيل باستقلال وصف المستدل على وصف المعارضة كان تحكما "أو يدعي" أي إلا أن يدعي "المعترض استقلال وصفه" أي وصف نفسه فإنه حينئذ يفيد ترجيح وصف نفسه. "وأما أن" العلة "المتعدية لا ترجح" على القاصرة "لمعارضة موافقة الأصل" أي لكون القاصرة معارضة لها بأنها موافقة للأصل الذي هو عدم الأحكام كما أشار إليه عضد الدين "فلا" قال المصنف أي فلا يصح هذا التنزل منهم بعدم الترجيح لأجل معارضة الأصل بل يكون الوصف المستقل المتعدي مرجحا على المستقل القاصر.(26/10)
"واختلف في" جواز "تعدد الأصول" أي أصول المستدل المقيس عليها "فقيل لا" يجوز "لأن" الأصل "الزائد لا يحتاج إليه" لأن المقصود الظن وهو يحصل به "ويدفع" هذا "بثبوت الحاجة" إلى الزائد عليه "لزيادة القوة" في الظن فإن قوته مقصودة أيضا "والوجه الآخر" لهذا القول "وهو تأديه" أي جواز تعدد الأصول "إلى الانتشار وزيادة الخبط يدفعه" أي هذا الدفع المذكور "لأن معه" أي مع تأديه إلى هذا "يبعد الظن فضلا عن زيادته" أي الظن "فاختيار جوازه" أي التعدد "مطلقا" كما هو صنيع ابن الحاجب "ليس بذاك" القوي "بل" الوجه جوازه "في نظره لنفسه" لانتفاء الانتشار "لا" في "المناظرة" لتأديه إلى النشر "وعلى الجواز" أي جواز تعددها "اختلف في اقتصار المعارض على أحدها فالمجيز" لاقتصاره على أحدها. قال "إبطال جزء من كلامه" أي المستدل "إبطاله" أي كلامه من حيث هو مجموع "وملزم إبطال الكل" قال "إذا سلم له" أي المستدل "أصل كفاه" في مطلوبه لسلامته عن المعارض فيتم القياس المقتضي للمقصود من الحكم "ومحله" أي هذا القول "اتحاد الوصف" المعارض به في الجميع كما أوجبه بعضهم حذرا من انتشار الكلام "دون تعدده" أي الوصف المذكور فيها أي جواز المعارضة في كل واحد بغير ما عارض به في الأصل الآخر لجواز أن يساعده في الكل علة واحدة "ولا يتلاقيان" أي هذان القولان "فنظر الأول إلى أنه" أي المستدل "التزم صحة الإلحاق بكل" من الأصول المذكورة "وعجز عنه" أي عن الإلحاق بكل "فبطل" الإلحاق(26/11)
ص -348-…"والآخر" قائل "المقصود إثباته" أي الحكم "في الفرع ويكفيه" أي إثباته في الفرع "ما سلم" له من الأصول "وفي معارضة الكل" أي جميع الأصول "لو أجاب" المستدل "عن أحدها" أي دفع المعارضة عن أصل واحد "فالقولان" مجتمعان على أنه "لا بد أن يدفع" المستدل "عما التزمه" وهو الكل لأنه التزم ذلك ضمنا "يكفيه واحد" "وأما سؤال التركيب فتقدم في الشروط" لحكم الأصل حيث قال ومنها في كتب الشافعية أن لا يكون ذا قياس مركب إلخ وأن حاصله المنع أما العلية علة حكم الأصل أو لوجودها أو لحكم الأصل فهو مندرج في هذه المنوع وليس سؤالا برأسه والأمثلة مذكورة ثمة "وسؤال الترجيح بالتعدية" أي وأما سؤال التعدية كأن يقول المستدل في إجبار الأب أو الجد البكر البالغة على النكاح بكر فتجبر كالصغيرة "فيعارض البكارة المتعدية إلى البالغة" وغيرها "بالصغر المتعدي إلى الثيب" الصغيرة والبكر الصغيرة لمناسبته للإجبار "ليتساويا" في التعدية. "ومرجعه" أي هذا السؤال "إلى المعارضة في الأصل بما يساوي" العلة "الأخرى في التعدية" دفعا لترجيح الوصف الذي عينه المستدل بالتعدية "ولا ترجيح بزيادة التعدية للحنفية بخلاف أصلها" أي التعدية فإنه يكون مرجحا فلا يكون هذا السؤال سؤالا آخر بل هو من المعارضة في الأصل ثم عبارة الآمدي في تعريفه هو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فكذا ما عللت به تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر "وإذ لم يقبلوا" أي الحنفية "المعارضة في الأصل لم يذكروا سؤال اختلاف جنس المصلحة" في الأصل والفرع بعد اتحاد الضابط فيهما "كإيلاج محرم" أي كأن يقول المستدل للحد باللواط هو إيلاج فرج محرم في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا "فيحد به كالزنا فيقول" المعترض "المصلحة مختلفة في تحريمهما" أي اللواط والزنا "ففي الزنا اختلاط النسب المفضي إلى عدم تعهد الولد وهو" أي عدم(26/12)
تعهده "قتل معنى وفي اللواط دفع رذيلته" وقد يتفاوتان في نظر الشرع بحيث لا تقوم إحداهما مقام الأخرى فيناط الحكم بإحداهما دون الأخرى وإنما لم يذكروا هذا السؤال تفريعا على عدم قبولهم المعارضة في الأصل "لأنه" أي هذا السؤال "هي" أي المعارضة في الأصل لإبداء خصوصية في الأصل فلم يذكروه مفردا. وإنما قلنا أنه هي "إذ حاصله" أي قول المعترض "العلة" في الأصل "شيء آخر" وهو كونه موجبا لاختلاط النسب "مع ما ذكرت ولذا" أي كونه معارضة في الأصل لإبداء خصوصية في "كان جوابه جوابها بإلغاء الخصوصية" أي مع إلغائها "بطريقه" أي الإلغاء فيحتاج إلى الأمرين "مع أنه" أي هذا السؤال "يندرج في معنى الشروط" للفرع إذ من شرطه أن يساوي الأصل فيما علل به حكمه من غير، إلى آخر ما تقدم والمساواة هنا في الفرع منتفية على تقدير أن علة الأصل كونه موجبا لاختلاط النسب مع ما ذكره المعترض.
"الثالث" من مقدمات القياس المتقدم ذكرها وهو ثبوت العلة في الفرع "عليه سؤالان الأول منع وجودها" أي العلة "في الفرع كقول الحنفية في قولهم" أي الشافعية للحنفية "بيع التفاحة بثنتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فلا يصح كصبرة بصبرتين" ومقول قول الحنفية(26/13)
ص -349-…"يمنع وجوده" أي الوصف "في الفرع لأن المجازفة باعتبار الكيل وهو" أي الكيل "منتف فيه" أي التفاح "ويرد" على هذا المنع "أنها" أي المجازفة "باعتبار المقدر" لذلك شرعا "كيلا ووزنا فالإلحاق" للفرع بالأصل المذكورين "باعتبار" المقدم "الأعم" من الكيل والوزن "فإنما يدفع هذا" الإيراد "بانتفائهما" أي الكيل الوزن "لأنه" أي التفاح "عددي وهو" أي كونه عدديا "موقوف على أنه" أي التفاح "كذلك" عددي "في زمنه عليه الصلاة والسلام وإلا" لو لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم عدديا "فالعادة" أي فالعبرة بما هو العرف في بيعه من وزن أو غيره "وهي" أي العادة "مختلفة فيه" أي التفاح من كونه وزنيا وغيره "ولمحمد" أي وكما فيما لمحمد "في إيداع الصبي" غير المأذون مالا غير الرقيق حيث لا يضمن إذا أتلفه لأن مالكه "سلطه على استهلاكه" كما تقدم تقريره "فيمنعان" أي أبو حنيفة وأبو يوسف كما هو ظاهر هذه المقابلة "أنه" أي إيداعه "تسليط" له على إتلافه لكن المسطور في غير ما موضع كما مشينا عليه فيما سلف أن أبا حنيفة لا يضمنه كمحمد "وللشافعية" أي وكما فيما لهم "في" صحة "أمان العبد أمان من أهله فيعتبر كالمأذون له في القتال فيمنع أهليته" أي العبد "له" أي الأمان "وجوابه" أي هذا السؤال "ببيان وجوده" أي هذا الوصف "بعقل أو حس أو شرع" أي بما هو طريق مثله من هذه الأمور الثلاثة "ويزيد المستدل هنا" أي في هذا الفرع "بيان مراده بالأهلية وهو" أي بيان مراده بها "كونه" أي المؤمن "مظنة لرعاية مصلحته" أي الأمان الثابتة للمسلمين فيه "وهو" أي كونه مظنة لذلك "بإسلامه وبلوغه ولو زاد المعترض بيان الأهلية ليظهر انتفاؤها" في الفرع "فالمختار لا يمكن" منه "إذ هو" أي بيان المراد بها "وظيفة المتكلم به" أي بهذا اللفظ لأنه العالم بمراده فيتولى تعيين ما ادعاه "دفعا لنشر الجدال" بالانتقال والاشتغال.(26/14)
السؤال "الثاني المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم" أي حكم المستدل "فيه" أي في الفرع بأن يقول ما ذكرته من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه فيتوقف دليلك "وهي" أي وهذه هي "المعارضة إذا أطلقت" في باب القياس كما تقدم "ولا بد له" أي لما يقتضي نقيض الحكم فيه "من أصل" بجامع بينهما يثبت عليته "فهي" أي هذه المعارضة "معارضة قياسين ولذا" أي كونها معارضة قياسين "كانت" هي المعارضة "الحقيقة" أي حقيقة المعارضة المطلقة "وله" أي المعترض "إثبات وصفه" أي عليته "بمسلكه وللآخر" أي المستدل "اعتراضه بما يعترض به على المستدل فينقلبان" أي فيصير المعترض مستدلا والمستدل معترضا لانقلاب وظيفتهما "وهو" أي انقلابهما لانقلاب التناظر "وجه منع مانعها" أي القائل بعدم سماعها لأنه خروج مما قصداه من معرفة صحة نظر المستدل في دليله إلى أمر آخر وهو معرفة صحة نظر المعترض في دليله والمستدل لا تعلق له بمعرفة صحة نظر المعترض في دليله ولا عليه أتم نظر المعترض في دليله أم لا "ودفع بأن" الانقلاب "الممتنع أن يثبت" المعترض "مقتضى دليله" نفسه "وهذا" ليس كذلك بل قصده "لهدمه" أي دليل المستدل "بنقيضه بعد تمامه" أي نقيضه "فالمعنى تمام دليلك" أيها المستدل "موقوف على هدم هذا" أي دليلي لمعارضته لدليلك وقد يجاب عن(26/15)
ص -350-…سؤال المعارضة بوجه من الوجوه المذكورة في ترجيح القياس للعجز عن القدح فيها واختلف في قبول الترجيح "والمختار قبول الترجيح بما تقدم" في ترجيح القياس "ولا خلاف فيه" أي في قبول الترجيح فيه "عند الحنفية لأن وجوب العمل" بالدليل المعارض "بعد المعارضة موقوف عليه" أي الترجيح "وقيل لا" يقبل الترجيح "لتعذر العلم بتساوي الظنين" إذ لا ميزان يوزن به الظنون ولا معيار يعرف به مراتبها "والترجيح فرعه" أي تساويهما "وهذا" ممنوع فإنه "يبطل الترجيح مطلقا ودلالة الإجماع عليه" أي الترجيح للإجماع على وجوب العمل بالراجح "يبطله" أي إبطال الترجيح مطلقا. "وعلى المختار" من قبول الترجيح هل يجب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل كأن يقول أمان من مسلم عاقل موافقا للبراءة الأصلية فيه خلاف قيل يجب لأن الرجحان شرط العمل بالدليل فلا يثبت الحكم بدونه والمختار عند ابن الحاجب "لا تجب الإشارة إليه" أي الترجيح "على المستدل" قبل المعارضة "لأنه" أي الترجيح "ليس" جزءا "منه" أي الدليل للتوصل بالدليل إلى المدلول مع قطع النظر عنه نعم يوقف العمل بالدليل عليه عند حصول المعارض "وتوقف العمل عليه" أي الترجيح "عند ظهور المعارضة شرط" له "معلق على شرط" وهو ظهور المعارضة فهو من توابع ظهورها لدفعه لأنه جزء من الدليل فلا يجب ذكره في الدليل قال المصنف "والوجه لزومه" أي الإيماء إلى الترجيح في الدليل "في العمل" أي عمل المناظر "لنفسه" لأنه لا يتم دليلا موجبا للعمل إلا بشرط عدم المعارض أو مرجوحيته فيلزم الإيماء إلى الترجيح في دليله على تقدير وجود المعارض ليتحقق الشرط الموجب للعمل "لا" في "المناظرة" لعدم الاحتياج إليه قبل إبداء المعارضة. "وأما ما ذكر الشافعية من سؤال اختلاف الضابط" أي الوصف المشتمل على الحكمة المقصودة في الأصل والفرع وهو "أن يجمع بمشترك بين علتين كشهود الزور" إذا شهدوا على إنسان بقتل عمد عدوان فقتل بشهادتهم ثم ظهر(26/16)
كذبهم برجوعهم فيقال يقتلون لأنهم "تسببوا في القتل فيقتص" منهم "كالمكره" لغيره على قتل عمد عدوان "فيقال الضابط" فيهما مختلف "في الأصل الإكراه وفي الفرع الشهادة ولم يثبت اعتبار تساويهما" أي الإكراه والشهادة "مصلحة" وهي الزجر عن التسبب للقتل الظلم "شرعا ليقتل" الشاهد "بالشهادة" فقد يكون ما وجد من التسبب في ضابط الأصل راجحا على ما وجد منه في ضابط الفرع فلا يمكن تعدية الحكم إليه. "وجوابه" أي المستدل لهذا السؤال "إما بأن الضابط" بين هذين السببين الخاصين "التسبب" المطلق وهو "منضبط عرفا" وهذا الجواب "على قياس ما تقدم" في مسألة حكم القياس الثبوت في الفروع "من القياس للعلة" أي لا يعلل لإثباتها "لمن منعه" أي القياس بها "وجعل" المناط "المشترك" بين الأمر الذي ثبت عليته لحكم وبين غيره مما هو كذلك "علته" أي علة ذلك المناط المشترك إن انضبط وكان ظاهرا وحينئذ فلا قياس وما يخال أصلا وفرعا إنما هما فردا ذلك المناط المشترك "أو بأن إفضاءه" أي الضابط إلى المقصود في الفرع "مثله" أي مثل إفضاء الضابط إلى المقصود في الأصل "أو أرجح" منه فيثبت الحكم فيه بطريق المساواة على التقدير الأول وبطريق أولى على التقدير الثاني كما "فيما لو جعل أصله"(26/17)
ص -351-…أي أصل هذا الفرع "إغراء الحيوان" بأن يقول المستدل يجب القصاص على الشاهد زورا بإغرائه لأولياء المقتول على القتل بالقصاص لشهادته قياسا على إغراء الحيوان على القتل "فإن الشهادة أفضى إلى القتل منه" أي من إغراء الحيوان فإن انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بالقتل طلبا للتشفي والأخذ بثأر المقتول أرجح من انبعاث الحيوان على قتل من يغري هو عليه لسبب نفرته عن الآدمي وعدم علمه بالإغراء. "وكونهما" أي الأصل والفرع في القياس المذكور "التسبب بالشهادة على التسبب بالإغراء" كما اقتضاه كلام ابن الحاجب وصرح به عضد الدين قياس "بلا جامع بل" الوجه فيهما "الشهادة" أي قياسها "على الإكراه أو الإغراء أو الشاهد" أي قياسه "على المكره بالتسبب أو بإلغاء التفاوت" بين ضابطي الأصل والفرع في المصلحة "إذا أثبته" أي المستدل التفاوت "في خصوصه" أي ذلك المحل كما إذا قال التفاوت المذكور ملغى في القصاص لمصلحة حفظ النفس إذ لا فرق في القصاص بالموت بقطع الأنملة وبالموت بضرب الرقبة وإن كان ضرب الرقبة أشد إفضاء إلى الموت من قطع الأنملة "وإلا" لو لم يثبته في خصوصه "لم يفد" لأنه لا يلزم من إلغاء فارق معين إلغاء كل فارق "فلم تذكره" أي هذا السؤال "الحنفية لرجوعه إلى المعارضة في الأصل وسؤال القلب مندرج في المعارضة" لأنها دليل يثبت به خلاف حكم المستدل والقلب كذلك إلا أنه نوع منها مخصوص فإن الأصل والجامع فيه مشترك بين قياسي المستدل والمعارض ذكره عضد الدين شرحا لقول ابن الحاجب والحق أنه نوع معارضة اشترك فيه الأصل والجامع لكن قال الأبهري المراد بهذه المعارضة ما عليه اصطلاح الخلافيين وهي إقامة الدليل على خلافه ما أقام المستدل عليه سواء كان مغايرا لدليله أو عينه وهي أعم من المعارضة في الأصل والفرع على الوجه المذكور لاشتراط مغايرة الوصفين أعني وصفي المعلل والمعارض فيها ا هـ فعلى هذا قول عضد الدين. وفائدة ذلك أنه(26/18)
يجيء الخلاف المذكور في المعارضة في قبوله ويكون المختار قبوله إلا أنه أولى بالقبول من المعارضة المحضة لأنه أبعد من الانتقال فإن قصد هدم دليل المستدل لأدائه إلى التناقض ظاهر في القلب ولأنه مانع للمستدل من ترجيح دليله على دليل المعترض بالتوسعة والتعدية إذ الترجيح إنما يتصور بين الدليلين وهنا دليل واحد ا هـ موضحا فيه تأمل. "وكلام الحنفية المعارضة" وأسلفنا بيانها "نوعان" النوع الأول "معارضة فيها مناقضة" وهي المقابلة بالتعليل المبطل لتعليل المعلل "وهي القلب" وتحقيقها أن المعارضة إبداء دليل مبتدأ بدون التعرض لدليل المعلل والمناقضة إبطال دليل المعلل بدون إبداء دليل مبتدأ ولما كان القلب مركبا من أحد جزأي المعارضة وهو إبداء علة مبتدأة وأحد جزأي المناقضة وهو إبطال الدليل سميناه باسم آخر منبئ عنهما وهو معارضة فيها مناقضة ولم يسم مناقضة فيها معارضة لأن إبداء العلة بمقابلة دليل المعلل سابق ومقصود وتخلف الحكم في ضمن ذلك فكانت المعارضة أصلا "ويقال" القلب "لجعل الأعلى أسفل" والأسفل أعلى كقلب الإناء "ومنه" أي جعل الأعلى أسفل والأسفل أعلى "جعل المعلول علة وقلبه" أي جعل العلة معلولا(26/19)
ص -352-…فجعل المعلول علة جعل الأسفل أعلى وجعل العلة معلولا جعل الأعلى أسفل "فإن العلة أعلى للأصلية" أي لأنها أصل في إثبات الحكم والمعلول فرع وهو أسفل فتبديلهما بمنزلة جعل الإناء منكوسا. "وإنما يمكن" هذا النوع من القلب "في التعليل بحكم" أي فيما إذا جعل المستدل حكما في الأصل علة لحكم آخر فيه عداه إلى الفرع لأن كلا منهما كما استقام علة استقام حكما لا في التعليل بالوصف المحض لأنه لا يصير حكما بوجه ولا الحكم الثابت به علة له أصلا "كالكفار يجلد بكرهم" أي كقول الشافعي: الإسلام ليس بشرط الإحصان حتى لو زنى الذمي الحر العاقل البالغ الذي وطئ امرأة في القبل بنكاح صحيح يرجم لأن الكفار جنس يجلد بكرهم مائة إذا كان حرا "فيرجم ثيبهم كالمسلمين" أي كما أن المسلمين الأحرار البالغين العقلاء الواطئين لامرأة في القبل بنكاح صحيح يرجمون لأنه يجلد بكرهم مائة فجعل جلد البكر مائة علة لوجوب رجم الثيب في المسلمين وقاس الكفار عليهم بهذا الجامع وهو حكم من الأحكام والبكر والثيب يقعان على الذكر والأنثى "فيقول" الحنفي المعترض لا نسلم أن المسلمين إنما يرجم ثيبهم لأنه يجلد بكرهم بل "إنما جلد بكر المسلمين لأنه يرجم ثيبهم" فلا يلزم رجم الذمي الحر العاقل البالغ الثيب الزاني "فحيث جعل" الحنفي المعترض ما جعله الشافعي المستدل "العلة" في الأصل وهو جلد المائة "حكما" فيه وما جعله حكما فيه وهو رجم الثيب العلة فيه كان هذا القلب معارضة صورة لتعليل المستدل بتعليل يدل على خلاف الحكم الذي أوجبه المستدل وكان الحكم علة "لزمها النقض" لأنها لما صارت حكما فهي توجد ولا يوجد معها الحكم وليس النقض إلا وجود المدعي علة مع تخلف الحكم "وهو" أي وهذا "قولهم" أي الحنفية معارضة "فيها مناقضة" أي إبطال لتعليل المعلل. هذا على ما مشى عليه فخر الإسلام ولم يذكر القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وعامة الأصوليين معنى المعارضة في هذا القلب وجعلوه(26/20)
إبطالا لدليل المستدل وفي شرح البديع للهندي وهو الأظهر لأن المعارضة إبداء دليل يوجب خلاف ما أوجبه دليل المعلل في محل استدلاله عليه ولم يوجد هذا هنا في القلب إذ الحكم الثابت بتعليل القالب لا يتعرض لحكم المعلل لا بنفي ولا إثبات وإنما يدل تعليله على فساد تعليل المعلل فكان إبطالا لا معارضة وفي الكشف لكن فخر الإسلام اعتبر صورة المعارضة من حيث إن الغالب عارض تعليل المعلل بتعليل يلزم منه بطلان تعليل المستدل ثم يلزم منه بطلان حكمه المرتب عليه ثم أقام الدليل على معنى المناقضة في الأصل في المقيس عليه بتعليل القالب فلا جرم أن قال بعضهم لا خلاف في المعنى لكن تعقب بأنه لا يلزم من عدم العلة المعينة عدم المعلول لجواز ثبوته بعلة أخرى ولو سلم أنه يلزم لا يصح أن يكون معارضا لدليل المستدل لأن دليله تعليل بأمر وجودي وهذا عدمي وقد عرف الخلاف فيه وأن الأصح عدم جوازه فلا جرم أن في الكشف ولعمري هو أقرب إلى الممانعة منه إلى المعارضة لأنه في الحقيقة يمنع نفس الدليل وصلاحيته لإثبات الحكم المتنازع فيه وقطع به سراج الدين الهندي. "والاحتراس عنه" أي عن هذا القلب حتى لا يتأتى(26/21)
ص -353-…إيراده على المعلل "جعله" أي الكلام "استدلالا" أي لا يورد الحكمان بطريق تعليل أحدهما بالآخر بل بطريق الاستدلال بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر إذ لا امتناع في جعل المعلول دليلا على العلة بأن يقيد الثبوت بتصديقها كما يقال هذه الخشبة قد مستها النار لأنها محترقة وهذا الإنسان متعفن الأخلاط لأنه محموم "وهو" أي الاحتراس عنه بهذا الطريق إنما يتم "إذا ثبت التلازم شرعا" بين الحكمين بحيث يمكن أن يستدل بثبوت كل منهما على صاحبه ويكون كل منهما دليل الآخر ومدلوله "كالتوأمين" أي المولودين في بطن واحد "في الحرية والرق والنسب" فإنه يثبت حرية الأصل لأحدهما أيهما كان لثبوته في الآخر والرق في أيهما كان لثبوته في الآخر ونسب أحدهما أيهما كان لثبوته في الآخر مثاله قول الحنفي: الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فلو قيل قلبا البكر الصغيرة يولى عليها في مالها لأنه يولى عليها في نفسها لا يضر لأن المثبت للولاية إنما هو العجز الموجود في المولى عليه عن التصرف بنفسه لنفسه مع حاجته إلى التصرف إذ الأصل عدم الولاية على الحر اكتفاء برأيه وإنما يقام رأي غيره مقامه إذا عدم لصغر أو جنون نظرا له ولهذا كانت تصرفات الولي له مشروطة بالغبطة فالولاية للولي ظاهرا وعليه معنى ولهذا لا يتمكن من ردها ويأثم بتقصيره في رعاية الأصلح له. والنفس والمال والثيب والبكر في العجز والحاجة سواء فأمكن الاستدلال بثبوت الولاية في إحدى الصورتين على ثبوتها في الأخرى للمساواة في العلة بخلاف تعليل الشافعي المذكور فإنه لا يصح فيه هذا المخلص بهذا الطريق لأنه لا مساواة بين الرجم والجلد لا من حيث الذات لأن الرجم نهاية العقوبة لإتيانه على النفس والجلد نائب محله ظاهر البدن ولا من حيث الشرط لأن النيابة شرط الرجم دون الجلد فجاز أن يفرقا في شرط الإسلام فلا يمكن الاستدلال بثبوت أحدهما على الآخر فيلزم الانقطاع(26/22)
صورة هذا وظاهر كلام صاحب الكشف وغيره يوهم أن المستدل يصير منقطعا بالقلب فلا يمكنه التدارك بعده قال الفاضل القاآني وفيه نظر لأنه لا يخلو إما أن صرح بأن هذا علة لذاك أو لا بأن يقول الكفار يجلد بكرهم ويرجم ثيبهم كالمسلمين كما قال فخر الإسلام وعلى التقديرين التدارك ممكن أما على الأول فبأن يقول العلة كما تطلق على المؤثر تطلق على المعرف والمراد هو الثاني فلا يضرنا القلب لأن الشيء جاز أن يكون معرفا لشيء وذلك الشيء معرفا له كالنار مع الدخان قال في المحصول يجوز أن يكون كل واحد من الحكمين علة لصاحبه بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه وأما على الثاني فبأن يقول غرضي الاستدلال بثبوت أحدهما على الآخر وما ذكرت من القلب لا ينافي غرضي فظهر أن المعلل لا ينقطع بالقلب وله أن يتخلص عنه بهذا الطريق "و" يقال "لجعل الظهر بطنا" والبطن ظهرا كقلب الجراب "ومنه" أي هذا النوع "جعل وصفه" أي المستدل "شاهدا" أي حجة "لك" أيها المعترض لإثبات حكم يخالف حكمه بعد أن كان شاهدا له عليك في إثبات مدعاه فوجه الوصف كان إلى المعلل أي مقبلا عليه وظهره إلى السائل أي معرضا عنه فصار وجهه إلى السائل وظهره إلى المعلل(26/23)
ص -354-…وهذا أيضا فيه معنى المناقضة من حيث إن الوصف لما شهد للمعترض بعد ما شهد عليه صار متناقضا في شهادته فبطلت شهادته. "ولا بد فيه" أي في هذا النوع "من زيادة" في الوصف الذي ذكره المعترض على الوصف الذي ذكره المستدل "تورد تفسيرا لما أبهمه المستدل" من الوصف وتقريرا له لا تغييرا فكان الحكم معلقا بعين ذلك الحكم لا بغيره ليلزم أن لا يكون قلبا بل يكون معارضة محضة غير متضمنة للإبطال وحقيقة هذا النوع من القلب أنه ربط خلاف قول المستدل على علة المستدل إلحاقا بأصل المستدل "كصوم فرض" أي كقول الشافعي في نية صوم رمضان صوم فرض "فلا يتأدى بلا تعيين" للنية "كالقضاء" أي كصوم القضاء فعلق وجوب التعيين بوصف الفرضية "فيقول" الحنفي "صوم فرض متعين" قبل الشروع فيه لانتفاء سائر الصيامات عن الوقت "فلا يحتاج إليه" أي إلى تعيين النية بعد تعينه "كالقضاء" أي كصومه "بعد الشروع فيه" فإنه بعد ما عين مرة لا يجب تعيينه ثانيا فالمستدل قال صوم فرض ولم يذكر متعينا في هذا الوقت ترويجا لمطلوبه وذكره المعترض تفسيرا له وبيانا لمحل النزاع فإن محله الصوم الفرض المتعين في وقته فيكون الأصل له صوم القضاء بعد الشروع فيه غايته أن تعيين الصوم في رمضان قبل الشروع بتعيين الله تعالى وفي القضاء بالشروع بتعيين العبد ولا ضير فإنه لا يكون تعيين الشارع أدنى من تعيين العبد. "ومنه" أي هذا النوع قول الشافعي في مسح الرأس في الوضوء المسح "ركن في الوضوء فليس تكريره كالغسل فيقول" الحنفي المسح "ركن فيه" أي الوضوء "أكمل بزيادة على الفرض" وهو استيعاب باقيه "فلا يسن تكراره كالغسل فهي" أي الزيادة التي هي أكمل بزيادة على الفرض "تفسير" لحصول محل النزاع "لأن الخلاف في تثليث المسح بعد إكماله كذلك" أي زيادة على الفرض "وهو الاستيعاب ولم يصح إيراد فخر الإسلام لهذا" المثال "في المعارضة الخالصة" بناء على أن الوصف مع تلك الزيادة ليس دليل المستدل بعينه(26/24)
لأن الزيادة تقرير في المعنى فيكون من قبيل ما جعل دليل المستدل دليلا على نقيض مدعاه فيلزم إبطاله "وإذا علمت" في أوائل هذا الفصل "أن الإيراد" أي إيراد المعترض للاعتراض إنما هو "على ظنه" أي المستدل "التأثير لا" على "حقيقته" أي التأثير في نفس الأمر "صح إيراد القلب على" العلل "المؤثرة كفساد الوضع" إذ المنافاة إنما هي بين التأثير في نفس الأمر وتمام المعارضة على القطع ولا قائل بذلك "ويخالفه" أي القلب فساد الوضع "بالزيادة" في النوع الثاني من القلب "وبكونه" أي الوصف الذي ذكره المستدل في هذا النوع من القلب "أعم من مدعاه" فلا يكون منع وروده على المؤثرة صحيحا على هذا التقدير.
هذا وقد ذكر بعض الأصوليين أن القلب مردود لأن القالب إن لم يتعرض لنقيض حكم المعلل فلا يقدح في دليله لجواز أن يكون للعلة الواحدة والأصل الواحد حكمان غير متنافيين. وإن تعرض لنقيضه فلا يمكن اعتباره بأصل المستدل ولا إثباته بعلته لاستحالة اجتماع النقيضين في محل واحد واستحالة اقتضاء العلة حكمين متنافيين لتعذر مناسبتهما لهما وأجيب عن الأول بالمنع لجواز أن يكون ما تعرض لنفيه من لوازم حكم المستدل فلا(26/25)
ص -355-…يخرج بذلك عن كونه قادحا في الدليل وعن الثاني بأن شرط القلب اشتمال الأصل على حكمين غير متنافيين في ذاتيهما قد امتنع اجتماعهما في الفرع بدليل منفصل وأن لا يكون مناسبة الوصف للحكم ونقيضه حقيقة فلم يكن اجتماعهما في أصل اجتماع النقيضين ويمكن أن تكون العلة مناسبة للحكم في نظر المستدل ولنقيضه في نظر المعترض فلا يلزم اجتماع النقيضين في الفرع ثم حيث ثبت أن القلب صحيح وهو معارضة فللمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه ببيان أن اللازم لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضا لحكمه لأن قلب القلب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب كذا في عامة نسخ الأصول وقيل لا يسمع القلب والنقض على القلب لأنه خرج مخرج الإفساد لكلام الخصم لا على سبيل التعليل ولا يندفع إلا ببيان أن هذا القلب لا يخرج دلالة الوصف على الحكم والأول أصح لأنه تعليل في مقابلة تعليل المعلل فيرد عليه ما يرد على الأول كذا في الكشف وغيره.(26/26)
"قالوا" أي الحنفية "ويقلب العلة من وجه فاسد كعبادة لا يجب المضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء" أي كقول الشافعي في أن الشروع في نفل من صلاة أو صوم غير ملزم للشارع فيه إتمامه وقضاؤه إذا أفسد لأنه عبادة لا يجب المضي فيها إذا فسدت كالوضوء فإنه عبادة لا يمضي في فاسدها فلم يلزم بالشروع فيه بجامع أن الكل عبادة ولا يمضي في فاسدها واحترز بلا يجب المضي في فاسدها عن الحج لأنه يجب المضي فيه بالشروع لوجوب المضي في فاسدها بالإجماع وهذا ظاهر في أن عدم وجوب المضي في الفاسدة علة لعدم الوجوب بالشروع "فيقول" الحنفي ما كان عبادة لا يمضي في فاسدها "فيستوي عمل النذر والشروع فيها كالوضوء" أي كما استوى عملهما في الوضوء فإن الوضوء لما لم يلزم بالشروع لم يلزم بالنذر "فتلزم" العبادة النافلة "بالشروع لأنها تلزم بالنذر" إجماعا لأنه كما ذكر فخر الإسلام الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر لأن الناذر عهد أن يطيع الله فلزمه الوفاء به لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] والشارع عزم على الإبقاء فلزمه الإتمام صيانة لما أدى عن البطلان لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وحيث وجبت بالنذر إجماعا وجبت بالشروع عملا بقضية الاستواء ويسمى هذا قلب التسوية "وسماه فخر الإسلام عكسا لأن حاصله عكس خصوص حكم الأصل وهو" أي حكم الأصل وهو الوضوء في هذا المثال "عدم اللزوم بالنذر ولشروع في الفرع" أي العبادة النافلة وهو لزومها بهما. "وهذا" النوع من القلب هو "المنسوب إلى الحنفية أول القياس مسمى بقياس العكس" وليس بقياس "وإنما هو اسم لاعتراض" هو رد الحكم على خلاف سنن الأصل "واختلف في قبوله فقيل نعم" يقبل وهو معزو إلى الأكثر منهم أبو إسحاق الشيرازي والإمام الرازي "إذ جعل" المعترض "وصفه" أي المستدل "شاهدا لما يستلزم نقيض مطلوبه" أي المستدل "وهو" أي الحكم المستلزم(26/27)
لنقيض مطلوب المستدل "الاستواء" لأن الاستواء(26/28)
ص -356-…الشروع والنذر لو ثبت يلزم منه كون الشروع ملزما كالنذر وهو خلاف دعوى المستدل "والمختار" كما ذهب إليه آخرون منهم القاضي أبو بكر وابن السمعاني والخبازي وصاحب البديع أنه "لا" يقبل "لأن كون الوصف يوجب شبها في شيء لا يستلزم عموم الشبه" بين المتشابهين في كل شيء "ليلزم الاستواء مطلقا" لهما فيما يتعلق بهما ثم القياس المذكور باطل لانتفاء اتحاد الأصل والفرع في الحكم لاختلاف الاستواء فيهما فإن استواء النذر والشروع في الوضوء سقوط الإلزام بمعنى أنه لا أثر للنذر والشروع في إيجاب الوضوء بالإجماع واستواؤهما في الصوم والصلاة ثبوت الإلزام بمعنى أنه إذا ثبت استواؤهما كان كل منهما ملزما والثبوت والسقوط معنيان متنافيان وكيف لا وظاهر امتناع تعدية استواء السقوط في الوضوء لإثبات الاستواء في الصوم والصلاة والقياس الصحيح لا يعارضه القياس الفاسد. "وما أورده الشافعية من" النوع "الثاني" من القلب "وهو دعوى تجويز ثبوت نقيض حكم المستدل في الفرع بوصفه" أي وصف حكم المستدل في الأصل والحاصل أنه دعوى المعترض أن وجود الجامع في الفرع يستلزم مخالفة حكمه حكم الأصل فوجود الجامع في الأصل والفرع مستلزم لحكمين متخالفين فيهما يصح إضافتهما إلى الجامع لأنهما لازمان له وإلى الأصل والفرع لحلولهما فيهما "وهو قلب" من المعترض "لتصحيح مذهبه" أي المعترض "ليبطل المستدل" أي مذهبه فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما "كلبث" أي كقول الحنفي الاعتكاف يشترط فيه الصوم لأنه لبث مخصوص "ومجرده غير قربة" إلى الله تعالى "كالوقوف" بعرفة فإن مجرده غير قربة وإنما صار قربة بانضمام عبادة إليه وهي الإحرام فلا بد حينئذ من اعتبار عبادة معه في كونه قربة "فيشترط فيه" أي في الاعتكاف "الصوم" لأن من قال لا بد من انضمام عبادة إليه في كونه قربة قال هي الصوم لا غير "فيقول" الشافعي "فلا يشترط" فيه الصوم "كالوقوف" بعرفة فقد تعرض كل منهما لتصحيح(26/29)
مذهبه إلا أن المستدل أشار إلى اشتراط الصوم بطريق الإلزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا "و" قلب "لإبطال" مذهب "المستدل صريحا لتصحيح مذهبه" أي المعترض "كالحنفي في الرأس" أي كقوله في مسح الرأس أنه مقدر بالربع لأنه عضو "من أعضاء الوضوء فلا يكفي أقله" أي الرأس وهو ما ينطلق عليه اسم الرأس "كبقية الأعضاء فيقول" الشافعي عضو من أعضاء الوضوء "فلا يقدر بالربع كبقيتها" أي أعضاء الوضوء "ووروده" أي هذا القلب بناء "على أن المراد اتفقنا" معاشر الحنفية والشافعية على "أن الثابت أحدهما" أي أقل الرأس أو الربع فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر وإلا فلا يلزم من وروده صحة مذهب المعترض إذا كان ثم قول ثالث وهو هنا الاستيعاب لجواز أن يكون هو الصحيح. "أو" لإبطال مذهب المستدل "التزاما كقوله" أي الحنفي "في بيع غير المرئي عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقول" الشافعي عقد معاوضة "فلا يثبت فيه خيار الرؤية" كالمرأة في النكاح فالمعترض لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل وهو القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام لأن من قال بها قال بخيار الرؤية فهما متلازمان عنده فيلزم من انتفاء خيار(26/30)
ص -357-…الرؤية انتفاء الصحة ومن ثمة قال "فلا يصح" إذ يقال له لكنك قلت إذا رأى المشتري المبيع بعد البيع فله الخيار إن شاء فسخه وإن شاء استمر عليه وخيار الرؤية لازم للصحة عندك وقد انتفى اللازم فينتفي الملزوم ثم في الكشف قلت هذه أقيسة ليست بمناسبة فضلا من أن تكون مؤثرة بل بعضها طردية وبعضها شبهية فأصحاب أبي حنيفة الشارطون للتأثير المعرضون عن الطرد والشبه كيف يخطر ببالهم مثل هذه الأقيسة وكيف يعللون بها والالتفات إلى مثلها ليس ممن دأبهم وهجيراهم لكن المخالفين وضعوها من عند أنفسهم ونسبوها إلى أصحابنا وأوردوها أمثلة في كتبهم ليصح لهم أقسام القلب التي ذكروها.(26/31)
النوع "الثاني" من نوعي المعارضة "المعارضة الخالصة" من معنى المناقضة "في" حكم "الفرع" وهو أن يذكر المعترض علة أخرى توجب خلاف ما توجبه علة المستدل "بلا تغيير" ولا زيادة في الحكم الأول في ذلك المحل بعينه فيقع به محض المقابلة من غير تعرض لإبطال علة المستدل فيمتنع العمل بهما لمدافعة كل منهما ما يقابلها ما لم تترجح إحداهما على الأخرى فإذا ترجحت وجب العمل بالراجحة فلا جرم أن قال "ويستدعي أصلا آخر وعلة" أخرى "كالمسح ركن في الوضوء فيسن تكريره كالغسل" أي كقول الشافعي هذا في مسح الرأس "فيقول" الحنفي مسح الرأس "مسح فلا يكرر كمسح الخف" فهذا قسم من أقسام المعارضة الخالصة الصحيحة مثبتا حكما مخالفا للأول بعلة أخرى في ذلك المحل بعينه من غير زيادة ولا تغيير في ذلك الحكم إذ أصل الأول الغسل وعلته الركنية وأصل الثاني مسح الخف وعلته كونه مسحا "والأحسن أن يجعل أصله" أي المعترض "لتيمم" فيقال كالتيمم "فيندفع" على هذا "المتوهم من مانع فساد الخف" أي إنما لم يكرر مسح الخف لإفضائه إلى التلف وأشار إلى القسم الثاني منها بعطفه على بلا تغيير قوله "أو بتغيير ما" في الحكم المتنازع فيه كقول الحنفي في إثباته ولاية التزويج لغير الأب والجد من الأولياء كالأخ "في صغيرة بلا أب وجد صغيرة فيولى عليها في الإنكاح كذات الأب" أي كالصغيرة التي لها أب بجامع الصغر الموجب للعجز عن مراعاة مصالحه "فيقول" الشافعي "الأخ قاصر الشفقة فلا يولى عليها كالمال" فإن الأخ لا ولاية له على المال إجماعا، وهذا معارضة صحيحة خالصة صحيحة مثبتة حكما مخالفا للأول بعلة أخرى في ذلك المحل بعينه لكن مع تغيير ما في الحكم الأول إذ العلة في الأول الصغر وفي الثاني قصور الشفقة وفي الحكم تغيير من إطلاق يشمل الأخ وغيره إلى تقييد بالأخ. "وأما نظمه" أي المعترض المعارضة "صغيرة فلا يولى عليها قرابة الإخوة كالمال" كما في أصول فخر الإسلام والتنقيح وغيرهما لكن(26/32)
المذكور فيها بولاية الإخوة "فليس منه" أي هذا القسم من المعارضة الخالصة بل من القلب فالمعترض "عارض مطلق الولاية" التي أثبتها المستدل "بنفيها" أي الولاية "عن خصوص" وهو الأخ فهذا القدر معارضة فاسدة لعدم قدحه في كلام المعلل لكن لما كان "يلزمه" أي نفيها عنه "نفي" حكم "المعلل لأن قرابته" أي الأخ "أقرب" إليها "بعد الولاد" أي الأب والجد والولد "فنفيها" أي ولاية الأخ "نفي ما بعدها" من ولاية من سواه من عم وغيره "مطلقا" ظهر(26/33)
ص -358-…معنى الصحة فيه وأشار إلى القسم الثالث منها بقوله "أو إثبات" المعترض حكما "آخر" يخالف في الصورة حكما آخر غير ما ذكره المعلل مقابلا لذلك الآخر لكنه "يستلزمه" أي نفي حكم المعلل "كقول أبي حنيفة في أحقية المنعي" أي الذي نعي إلى زوجته أي أخبرت بموته فتربصت منه ثم تزوجت "بولدها" الذي ولدته "في نكاح من تزوجته بعده" أي المنعي إذا جاء من الذي تزوجها بعده المنعي "صاحب فراش صحيح" لقيام نكاحه "فهو أحق" بالولد "من" صاحب الفراش "الفاسد" وهو المتزوج بها مع قيام نكاح المنعي "كما لا يحصى" من تقديم الصحيح على الفاسد عند التعارض "فيقول" المعترض كالصاحبين الزوج "الثاني صاحب فراش فاسد فيلحقه" الولد "كالمتزوج بلا شهود" إذا ولدت المتزوج بها يثبت النسب منه. وإن كان الفراش فاسدا "فإثباته" أي الولد "من الثاني" معارضة فاسدة لأن هذا حكم آخر في غير المحل الذي أثبت المعلل فيه حكمه لأن المعلل أثبت النسب من الأول بفراش صحيح والمعترض أثبته من الثاني بفراش فاسد واتحاد المحل شرط لصحتها لكن لما كان "يلزمه" أي هذا الإثبات "نفيه" أي لولد "عن الأول للإجماع أن لا يثبت منهما" وقد وجد ما يصلح سببا لاستحقاق النسب في حق الثاني وهو الفراش الفاسد صحت واحتيج إلى الترجيح "فرجح" أبو حنيفة "الملك والصحة" الكائنين للأول لأن فراشه صحيح وملكه قائم "على الحضور والماء" أي كون الثاني حاضرا والماء له "كالزنا" قال المصنف "والوجه" أن يقال "ترجح" الأول "بالصحة على" الثاني بمجرد "الحضور" مع انتفاء الصحة لأن صحة الفراش توجب حقيقة النسب والفاسد شبهته وحقيقة الشيء أولى بالاعتبار من شبهته "أما الماء فمقدر فيهما" أي الزوج الأول والزوج الثاني لعدم القطع به من الثاني قلت فاندفع ما في التلويح وربما يقال في الحضور حقيقة النسب وحقيقة الشيء أولى لأنه ولد من مائه. "وذكر الشافعية من الأسئلة مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل" إذ لا يصح معها قياس(26/34)
إذ من شرطه اتحاد الحكم كما عرف "كقياس البيع على النكاح وعكسه" أي النكاح على البيع "في عدم الصحة" بجامع في صورة "فيقول" المعترض الحكم مختلف حقيقة "عدمها" أي الصحة "في البيع حرمة الانتفاع" بالبيع "و" عدمها "في النكاح حرمة المباشرة والجواب البطلان" الذي هو عدم الصحة فيهما في الحقيقة "واحد عدم" ترتب "المقصود من العقد" عليه "وإن اختلفت صوره" أي محاله من كونه بيعا ونكاحا إذ اختلاف المحل لا يوجب اختلاف الحال بل اختلاف المحل شرط في القياس ضرورة فكيف يجعل شرطه مانعا منه إذ يلزم امتناعه أبدا ثم الحاصل أن جواب هذا السؤال ببيان الاتحاد عينا كالجواب المذكور أو جنسا كما في قطع الأيدي باليد كالأنفس بالنفس وأما إن اختلف الحكم جنسا ونوعا كوجوب على تحريم ونفي على إثبات وبالعكس فباطل لأن الحكم إنما شرع لإفضائه إلى المقصود واختلافه موجب للمخالفة بينهما في الإفضاء "وهذا" السؤال "وغيره" من الأسئلة "ككون الأصل معدولا" عن القياس "داخل فيما ذكر الحنفية من منع وجود الشرط" فلا حاجة إلى إفراده بالذكر. "وأما سؤال الفرق" بين الأصل والفرع "إبداء خصوصية في الأصل هي" أي الخصوصية "شرط"(26/35)
ص -359-…للوصف "مع بيان انتفائها في الفرع أو بيان مانع" بالرفع عطف على إبداء "فيه" أي في الفرع من الحكم "و" بيان "انتفائه" أي المانع "في الأصل فمجموع معارضتين في الأصل والفرع" أي فالفرق مجموعهما إذا تعرض لانتقاء الشرط في الفرع أو عدم لمانع في الأصل أما الأول فلأن إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل معارضة في الأصل وبيان انتفائها في الفرع معارضة فيه وأما الثاني فكما قال "وهو" أي وكونه مجموعهما "في الثاني" أي بيان مانع في الفرع وانتفائه في الأصل بناء "على أن العلة الوصف مع عدم هذا المانع" لا الوصف نفسه فيكون بيان وجود المانع في الفرع معارضة فيه بناء على أن المانع من الشيء في قوة المقتضى لنقيضه فيكون في الفرع وصف يقتضي نقيض الحكم الذي أثبته المستدل ويستند إلى أصل لا محالة وبيان انتفائه في الأصل على هذا معارضة في الأصل حيث أبدى علة أخرى لا توجد في الفرع. "وعليه" أي المعترض "بيان كونه" أي ما أبداه من الخصوصية في الأصل شرطا "أو" ما أبداه من المانع في الفرع "مانعا على طريق إثبات المستدل علية الوصف" المعلل به من التأثير وغيره قال المصنف "والوجه أنه" أي الفرق معارضتان في الأصل والفرع "على ادعاء الشرط و" معارضة "في الفرع فقط على المانع لما تقدم" في شروط العلة "من الحق أن عدم المانع ليس جزءا من العلة الباعثة" زاد المصنف هنا "بخلاف الشرط لأنه" أي الشرط "خصوصية زائدة على الوصف" الذي علل به المعلل فهي جزء منه. "ولو لم يتعرض" المعترض "لانتفائه" أي الشرط "من الفرع لم يكن" إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل "الفرق بل" هو "معارضة في الأصل المسمى مفارقة" عند الحنفية وتقدم الكلام فيها فلم يذكروه اكتفاء بذكر المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع غير أن من الشافعية من يقول الفرق راجع إلى المعارضة في أحدهما فلا يتم نفي كون الاقتصار على إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل فرقا وإنما يتم على(26/36)
القائلين منهم برجوعه إليهما، هذا وعلى القول بجواز تعدد الأصول لو فرق المعترض بين الفرع وأصل منها كفى في القدح فيها لأنه يبطل جمعها المقصود وقيل لا يكفي لاستقلال كل منها وقيل يكفي إن قصد الإلحاق بمجموعها لأنه يبطله بخلاف ما إذا قصد بكل منها وهو حسن ولم يذكر غير واحد منهم جواب هذا السؤال ومما يجاب به منع كون المبدأ في الأصل جزءا من العلة في الفرع مانعا من الحكم وفي اقتصار المستدل على جواب أصل واحد على تقديره فرق المعترض بين الفرع وأصل من الأصول حيث جاز تعددها قولان يكفي لحصول المقصود بالدفع عن واحد ولا يكفي لأنه التزم الجميع فلزمه الدفع عنه وقد عرفت مما تقدم في بحث جواز التعدد وعدمه أنهما لم يتلاقيا ثم هذا هو التحقيق لا ما ذكر إمام الحرمين من أن الكلام في الفرق وراء المعارضة وإن خاصه وسره فقد يناقضه قصد الجميع ثم هو وابن السمعاني في طرفي نقيض في أمر هذا السؤال من القبول والرد كما يعرف من الوقوف على كلامهما والله سبحانه الموفق للصواب.
"والاتفاق على جمعها" أي الاعتراضات "من جنس" واحد إذ لا يلزم منها تناقض ولا(26/37)
ص -360-…انتقال من سؤال إلى آخر "وبعض الأصوليين" يذكر في كلامهم "النوع للجنس والجنس للنوع" عكس ما عليه اصطلاح الأصوليين بل ذكر عضد الدين أنه اصطلاح الأصوليين ووافقه التفتازاني عليه "وأصول الحنفية" وفروعهم أيضا يذكر فيهما "الجنس للنوع" كالحنطة "والنوع" والجنس أيضا "للصنف كرجل" ولا مناقشة في الاصطلاح "وذلك" أي جمعها من جنس "كالاستفسارات والمنوع والمعارضات" فإن الاستفسارات يجمعها الاستفسار والمنوع يجمعها المنع والمعارضات تجمعها المعارضة "وفي الأجناس منعه" أي جمعها "السمرقنديون للخبط" اللازم من ذلك "للانتشار" وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد حرصا على الضبط قالوا ولا يرد علينا إن كانت من جنس كما ألزمهم به الآمدي فإنا جوزنا تعددها وإن أدت إلى النشر لأن النشر في المختلفة أكثر منه في المتفقة والجمهور جوزوا الجمع بينها قال السبكي وهو الحق "ثم" إذا جاز الجمع "منع أكثر النظار" الاعتراضات "المرتبة طبعا" من نوع واحد "كمنع حكم الأصل ومنع أنه معلل بذلك" إذ تعليل الحكم بعد ثبوته طبعا "إذ يفيد" الأخير "تسليم الأول" فيتعين الأخير سؤالا فيجاب عنه دون الأول فيضيع الأول "والمختار" كما ذكره الآمدي وابن الحاجب "جوازه" أي جمع الاعتراضات المرتبة طبعا من نوع واحد كما ذهب إليه أبو إسحاق الإسفراييني "لأن التسليم" للمتقدم "فرضي أي لو سلم" الأول "ورد الثاني" وهو لا يستلزم التسليم في نفس الأمر. "وحينئذ" أي حين إذا كان المختار جوازه وإن أدى إلى التسليم إذ كان التسليم فرضيا "الواجب ترتيبها" أي الاعتراضات المرتبة طبعا "وإلا" لو لم يجب ترتيبها "فمنع بعد التسليم" إذا عكس الترتيب "إذ" قول المعترض "لا نسلم أن الحكم معلل بكذا يتضمن تسليمه" أي الحكم المذكور "فقوله" بعد ذلك "بمنع ثبوت الحكم رجوع" عن تسليمه "لا يسمع" لأنه إنكار بعد إقرار فيلزم أن يكون الشيء الواحد مسلما غير مسلم وحينئذ فيرد هذا إشكالا على أكثر النظار(26/38)
فإنهم لما منعوها مرتبة لما يلزم من التسليم بعد المنع يلزمهم أن لا يوجبوها غير مرتبة كما أشار إليه بقوله "فيبطل ما يلزم قول الأكثرين من وجوبها غير مرتبة" فإنه يستلزم المنع بعد التسليم وهو أقبح من التسليم بعد المنع "وإلا فالاتفاق على" جواز "التعدد من نوع ولا مخلص لهم" أي للأكثر "إلا بادعاء أن منع العلية بفرض وجود الحكم" إلا أن يجيبوا بأن تسليم حكم الأصل إنما يوجبه منع علية الوصف استلزاما ظاهرا فإذا صرح بعده بمنعه حمل على إرادته منع علية الوصف بفرض وجود الحكم كما أجبنا به فكأنه قال لا نسلم علية هذا الوصف لهذا الحكم لو كان ثابتا ونحن نمنع ثبوته وحينئذ يلزمهم مثله في منعهم المترتبة كذا أفاده المصنف. "وما قيل" أي وقول التفتازاني "كل من الخمسة والعشرين" اعتراضا الواردة على القياس الماضية "جنس يندرج تحت نوع" على ما هو مصطلح الأصول من اندراج الأجناس تحت الأنواع "غلط يبطل حكاية الإنفاق على المتعدد من جنس إذ لا يتصور التعدد مثلا من منع وجود العلة وهو" أي منع وجودها "أحدها" أي الخمسة والعشرين بل المنع نوع يندرج فيه منع حكم الأصل ومنع وجود الوصف ومنع عليته(26/39)
ص -361-…ومنع وجودها في الفرع والمعارضة نوع يندرج فيها المعارضة في الأصل وفي الفرع وغير ذلك وهذه أجناس لأن تحتها أشخاص المنوع والمعارضات إذ الفرض أن الجنس هو النوع المنطقي بهذا الاصطلاح فالنقض حينئذ جنس انحصر فيه نوعه ذكره المصنف "وكلامهم" أي الأصوليين أيضا "في المثل وذكر الأجناس خلافه" أي هذا الذي ذكره التفتازاني ثم إذا وجب الترتيب فترتب الترتيب الطبيعي ليوافق الوضعي الطبيعي. وحينئذ فالأولى كما قال الآمدي وغيره أن يبدأ بالاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه ثم بفساد الاعتبار لأنه نظر في الدليل من جهة الجملة وهو قبل النظر في تفصيله ثم بفساد الوضع قال الآمدي لكونه أخص من فساد الاعتبار يعني مطلقا وقد عرفت أنه أخص منه من وجه على قول غيره كما أشار إليه المصنف "فتقدم المتعلق بالأصل" فتقدم منع حكم الأصل لأنه نظر فيه من جهة التفصيل "ثم" المتعلق "بالعلة" لأنه نظر فيما هو متفرع عن حكم الأصل فتقدم منع وجود علة الأصل فيه ثم المطالبة بتأثير الوصف وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير مفض إلى المقصود منه لكون هذه الأسئلة صفة وجود العلة ثم النقض والكسر لكونه معارضا لدليل العلة ثم المعارضة في الأصل والتعدية والتركيب لأنه معارض للعلة "ثم" المتعلق "بالفرع" لابتنائه على العلة وحكم الأصل فيذكر منع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط أو الحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب ثم القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له. "وتقدم النقض على معارضة الأصل عند معتبرها" أي معارضة الأصل "إذ هي" أي معارضة الأصل "لإبطال استقلالها" أي العلة بالتأثير والنقض لإبطال أصل العلة فقدم عليها فيقال ليس بعلة لعدم الاطراد ولو سلم فليس بمستقل "ومنع وجود العلة في الأصل قبل منعها والقلب قبل المعارضة(26/40)
الخالصة لأنه معارضة بدليل المستدل" بخلاف المعارضة الخالصة فيذكر القلب أولا "ثم يقال" إذا ذكرت هي ثانيا "ولو سلم أنه" أي دليل المستدل "يفيد مطلوبه عندنا دليل آخر ينفيه" أي مطلوبه وأوجب أبو محمد البغدادي ترتيب الأسئلة فاختار فساد الوضع ثم الاعتبار ثم الاستفسار ثم المنع ثم المطالبة وهو منع العلة في الأصل ثم الفرق ثم النقض ثم القول بالموجب ثم القلب ورد التقسيم إلى الاستفسار أو الفرق وأن عدم التأثير مناقشة لفظية وعليه ما لا يخفى وقد اعترفوا بالفرق بين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد. ومن هنا وقع التخبط وإلا فالحق أن لا يبنى الجدل إلا على وجه الإرشاد والاسترشاد لا للعلية والاستدلال والواجب رد الجميع إلى ما دلت عليه الأدلة الشرعية وكيف لا والجدل مأمور به بالحق كما دل عليه القرآن وفعله الصحابة والسلف ثم كما في الواضح لولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا وإذا نفرت النفوس عميت القلوب وخمدت الخواطر وانسدت أبواب الفوائد ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق والتقوي على الاجتهاد ونعوذ بالله من قصد المغالبة وبيان الفراهة فضلا(26/41)
ص -362-…عن قصد التغطية على الحق وترويج الباطل بآفة من الآفات من محاباة لأرباب المناصب تقربا إليهم أو مناضلة مردودة دوما لحصول المنزلة في قلوب العوام والتعظيم لديهم إلى غير ذلك من القصود المحرمة أو المكروهة ومن بان له سوء قصد خصمه فالذي يظهر أنه إن أدى إلى مكروه فمكروه ومحرم فمحرم لأنه إعانة على ذلك وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال عز وجل: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] قال ابن الجوزي وهذا أدب حسن علمه الله تعالى عباده ليردوا به من جادل تعنتا فلا يجيبوه وقد ذكر بعض العلماء أن اجتماع جمع متجادلين في مسألة مع أن كلا منهم لا يطمع أن يرجع إذا ظهرت له الحجة ولا فيه مؤانسة ومودة وتوطئة القلوب لوعي الحق بل هو على الضد محمل ما روى أحمد وحسنه وصححه الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف: 58] " وروى أحمد عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك المراء". وكون مكحول لم يسمع من أبي هريرة غير قادح في هذا عند التحقيق وروى أبو داود وابن ماجه والترمذي واللفظ له عن أبي أمامة مرفوعا: "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ومن حسن خلقه بني له في أعلاها" قال الترمذي حديث حسن يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل والمراء استخراج غضب المجادل من مريت الشاة استخرجت لبنها وفي الواضح واحذر الكلام في مجالس الخوف أو التي لا إنصاف فيها وكلام من تخافه أو تبغضه أو لا يفهم عنك واستصغار الخصم ولا ينبغي كلام من عادته ظلم خصمه والهزء والتشفي لعداوته والمترصد للمساوئ والتحريف والتزيد والبهت، وكل جدل وقع فيه ظلم الخصم اختل فينبغي(26/42)
أن يحترز منه وقدر في نفسك الصبر والحلم ولا ينقص بالحلم إلا عند جاهل ولا بالصبر على شغب السائل إلا عند غبي وترتفع في نفوس العلماء وتنبل عند أهل الجدل ومن خاض في الشغب تعوده ومن تعوده حرم الإصابة واستدرج إليه ومن عرف به سقط سقوط الدرة وفي رد الغضب الظفر ولا رأي لغضبان والغالب في السفه الأسفه كالغالب بالعلم الأعلم ومع هذا فلا أحد يسلم من الانقطاع إلا من عصمه الله. وليس حد العالم كونه حاذقا بالجدل فإنه صناعة والعلم صناعة وهو مادة الجدل يحتاج إلى العالم ولا عكس وأدب الجدل يزين صاحبه وتركه يشينه ولا ينبغي أن ينظر لما اتفق لبعض من تركه من حظوة في الدنيا فإنه وإن كان رفيعا عند الجهال فهو ساقط عند أولي الألباب قال أبو محمد البغدادي ويكره اصطلاحا تأخير الجواب عن السؤال كثيرا وعند بعض الجدليين منقطع والله سبحانه الموفق لمحاسن الآداب والهادي إلى سبيل الصواب.
[خاتمة المقالة الثانية]
"خاتمة" للكلام في هذه المقالة الثانية "الاتفاق على الأربعة" أي على كون الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة شرعية للأحكام "عند مثبتي القياس" وهم الجمهور منهم الأئمة(26/43)
ص -363-…الأربعة "واختلف في أمور" أخرى أي في كونها أدلة شرعية للأحكام "الاستدلال بالعدم" والظاهر أن المراد به التعليل بالعدم فإنه الذي "نفاه الحنفية" وتقدم في المرصد الثاني من شروط العلة الكلام فيه نفيا له مطلقا عنهم إلا عدم علة متحدة كقول محمد ولد المغصوب لا يضمن لأنه لم يغصب على تحقيق للمصنف رحمه الله في أن إضافة الحكم إلى هذه العلة إنما هي إضافة إلى العدم لفظا وإلى الوجود معنى كما عرف ثمة وإثباتا له عن غيرهم على تفصيل فيه بين أن يكون عدما مطلقا ومضافا وبين أن يكون الحكم المعلل به وجوديا وعدميا وإلا فكلام المصنف ثمة يفيد أن عدم الحكم لعدم دليله صحيح عند الحنفية كما نزل عليه قول محمد المذكور ومشى عليه البيضاوي وقرره بقوله فقدان الدليل بعد الفحص البليغ يغلب ظن عدمه وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل إذ الوجه أن يكون المراد فقدان الدليل بعد الفحص البليغ ما يتعلق بالفعل المخصوص من الحكم الشرعي يوجب ظن عدم الدليل على ذلك وإلا فالوقف عليه وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم الشرعي إذ لو ثبت فيه وليس عليه دليل لزم تكليف الغافل وهو ممتنع والعمل بالظن واجب غير أن عده إياه من الأدلة المقبولة الشرعية للأحكام الشرعية غير ظاهر فإن الظاهر أن عدم الحكم الشرعي الخاص أو مطلقا ليس بحكم شرعي فصدق أن العلة ليست من الأدلة الشرعية للأحكام الشرعية فلا جرم أن في التلويح لا قائل بأن التعليل بالنفي أحد الحجج الشرعية ا هـ وإنما هو نفي الحكم الشرعي لنفي المدرك الشرعي فليحمل كلام البيضاوي عليه والله سبحانه أعلم فهذا واحد من الأمور المذكورة.(26/44)
"والمصالح المرسلة" وهي التي لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع ولا بالإلغاء وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول "أثبتها مالك" والشافعي في قول قديم "ومنعها الحنفية وغيرهم" منهم أكثر الشافعية ومتأخرو الحنابلة "لعدم ما يشهد" لها "بالاعتبار ولعدم أصل القياس فيها كما يعرف مما تقدم" في المرصد الأول من فصل العلة فلا حاجة إلى إعادته وأما قول القرافي المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ولا يعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك ومما يؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقديم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير وكذلك ترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعمل ذلك عمر رضي الله عنه وهذه الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي الله عنه وتجديد أذان في الجمعة بالسوق وهو الأذان الأول فعله عثمان ثم نقله هشام إلى المسجد وذكر كثير حدا لمطلق المصلحة وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أمورا وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة انتهى فلا يخفى ما فيه لمن تتبع وحقق والله سبحانه أعلم وهذا ثان من الأمور المذكورة.(26/45)
ص -364-…"وتعارض الأشباه" أي بقاء الحكم الأصلي في المتنازع فيه لتعارض أصلين فيه يمكن إلحاقه بكل منهما "كقول زفر في المرافق" لا يجب غسلها في الوضوء لأنها "غاية" لغسل اليد والغاية قسمان "دخل منها" في المغيا قسم كقوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: 1] "وخرج" منها عن المغيا قسم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وإذ كانت كذلك فليس دخول المرافق في الغسل بأولى من عدم دخولها فيه "فلا يدخل بالشك" أي ولم يكن غسلها واجبا فلا يجب بالشك "ودفع" كونه دليلا "بأنه إثبات حكم شرعي بالجهل وأجيب بأن المراد" لزفر "الأصل عدمه" أي دخول المرافق في الغسل "فيبقى" عدمه مستمرا "إلى ثبوت موجبه" أي الدخول "والثابت" في الغاية بالنسبة إلى المغيا دخولا وخروجا إنما هو "التعارض" والجواب عن هذا يعرف مما تقدم في مسألة إلى من حروف الجر فليراجع وهذا ثالث من الأمور المذكورة.(26/46)
"ومنها" أي الأمور المذكورة "الاستدلال" وهو استفعال من الدلالة ومعلوم أنه في اللغة يرد لمعان منها الطلب كاستغفر الله والاتخاذ كاستعبد فلان فلانا واستأجره أي اتخذه عبدا وأجيرا فذكر القاضي عضد الدين وغيره أنه في اللغة طلب الدليل وفي العرف يطلق على إقامة الدليل مطلقا من نص أو إجماع أو غيرهما وعلى نوع خاص من الدليل وهو المقصود هنا "قيل ما ليس بأحد" الأدلة "الأربعة" الكتاب والسنة والإجماع والقياس "فيخرج قياسا الدلالة وما في معنى الأصل تنقيح المناط" وقد عرفت أن قياس الدلالة ما لا يذكر فيه العلة بل وصف ملازم لها كالنبيذ حرام كالخمر بجامع الرائحة المشتدة وإن القياس الذي في معنى الأصل ويسمى تنقيح المناط الجمع بين الأصل والفرع بإلغاء الفارق كقياس البول في إناء وصبه في الماء الدائم على البول فيه في المنع بجامع أن لا فرق بينهما في مقصود المنع الثابت في صحيح مسلم من نهيه صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد كما يخرج قياس العلة وهو ما صرح فيه بالعلة نحو يحرم النبيذ كالخمر للإسكار لإطلاق نفي كونه قياسا أيضا لأن منافي الأعم مناف للأخص. "وقد يقيد القياس" المنفي "بقياس العلة فيدخلانه" أي قياسا الدلالة وما في معنى الأصل في الاستدلال فيكون الأول أخص لأن القياس أعم من قياس العلة ونفي الأعم لكونه أخص يكون أخص من نفي الأخص "واختير" أي واختار ابن الحاجب "أن أنواعه" أي الاستدلال ثلاثة "شرع من قبلنا والاستصحاب والتلازم وهو" أي التلازم "المفاد بالاستثنائي والاقتراني بضروبهما" في مباحث النظر "وقدمنا زيادة ضرب في تساوي المقدم والتالي" بل ضربين ضرب حاصل منهما مع استثناء نقيض المقدم كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكنه ليس بواجب فتاركه لا يستحق العقاب وضرب حاصل منهما مع استثناء عين التالي كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكن تاركه يستحق العقاب فهو واجب فتصير ضروبه أربعة هذين والضربين(26/47)
المتفق على إنتاجهما وهما الحاصل منهما مع استثناء عين المقدم كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكنه واجب فتاركه يستحق العقاب والحاصل منهما مع استثناء نقيض التالي(26/48)
ص -365-…كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكن تاركه لا يستحق العقاب فهو ليس بواجب "وكذا" زيادة ضرب "في الاقتراني" وهو المركب من كليتين صغرى سالبة وكبرى موجبة متساوية الطرفين كلا شيء من الإنسان بصهال وكل صهال فرس فلا شيء من الإنسان بفرس وذكر العبد الضعيف غفر الله تعالى له ثمة أنه يلزم من صدق هذا زيادة ضرب آخر أيضا وهو المركب من جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى متساوية الطرفين كليس بعض الإنسان بفرس وكل فرس صهال فليس بعض الإنسان بصهال لاتحاد الوسط المقتضي للإنتاج في هذا كما فيما قبله "إلا أنه" أي التلازم "هنا على خصوص هو إثباته أحد موجبي العلة بالآخر فتلازمهما" أي موجبيها وهما الحكمان "بلا تعيين علة" جامعة. "وإلا" لو كان إثبات أحدهما بالآخر لتلازمهما بعلة جامعة "فقياس" أي فإثباته بها قياس "ويكون" التلازم "بين ثبوتين" ولا بد فيه إما من الاطراد والانعكاس من الطرفين كما فيما يكون التالي فيه مساويا للمقدم أو طردا لا عكسا من طرف واحد فيما يكون التالي أعم من المقدم "كمن صح طلاقه صح ظهاره وهو" أي وثبوت التلازم بينهما يكون "بالاطراد" الشرعي وهو أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص صح طلاقه صح ظهاره وكل من صح ظهاره صح طلاقه "ويقوى" ثبوته بينهما "بالانعكاس" وهو أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره وكل شخص لا يصح ظهاره لا يصح طلاقه وحاصله التمسك بالدوران ممكن على أن العدم ليس جزءا منه بل هو شرط له وهذا بالنسبة إلى الشافعي وموافقه القائل بصحة ظهار الذمي لا الحنفي وموافقه القائل بعدم صحة ظهار الذمي فإنه لا تلازم عنده في هذا عكسا في كلا الطرفين بل في أحدهما الذي هو الظهار وسيشير المصنف إليه ثم هذا من باب الاستدلال على التعريفين له "ويقرر" ثبوت التلازم بينهما أيضا إذا كانا أثرين لمؤثر بالاستدلال "ثبوت أحد الأثرين فيلزم" أن يوجد الأثر "الآخر للزوم" وجود "المؤثر" له ضرورة أنه أثره وكون(26/49)
نسبته إلى المؤثر كنسبة الآخر إليه. "و" يقرر "بمعناه" أي معنى هذا وهو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على ثبوت المؤثر ثم ثبوته على ثبوت الآخر "كفرض الصحتين" للطلاق والظهار "أثر الواحد" كالأهلية لهما فإذا ثبت صحة الطلاق ثبت الأهلية لها ويلزم من ثبوت الأهلية ثبوته لصحة الظهار لما ذكرنا وهذا من باب الاستدلال على التعريف الثاني لأنه ليس من قياس العلة بل من قياس الدلالة دون التعريف الأول له لأن قياس الدلالة نوع من أنواع القياس لكن بشرط أن لا يتعرض لتعيين المؤثر "ومتى عين المؤثر خرج" عن الاستدلال "إلى قياس العلة وبين نفيين" أي ويكون التلازم بينهما "ولا بد من كونه" أي التنافي بين "الطرفين" فسقط من القلم لفظ بين "طردا وعكسا" أي إثباتا ونفيا كما هو المنفصلة الحقيقية "أو أحدهما" أي طردا فقط كما هو مانعة الجمع أو عكسا فقط كما هو مانعة الخلو مثاله "لا يصح التيمم بلا نية فلا يصح الوضوء" بلا نية "وهو" أي ثبوت التلازم بينهما "أيضا بالاطراد" أي كل تيمم لا يصح إلا بالنية وكل وضوء لا يصح إلا بالنية "ويقوى بالانعكاس" أي كل تيمم يصح بالنية وكل وضوء يصح بالنية وهذا بالنسبة إلى الشافعي وموافقه وأما بالنسبة إلى أبي حنيفة وصاحبه(26/50)
ص -366-…فيتم التلازم طردا وعكسا في أحد الطرفين فقط وهو التيمم فإن عندهم كل تيمم بالنية صحيح وبغير النية غير صحيح دون الآخر وهو الوضوء فإنه وإن كان كل وضوء بالنية صحيحا فليس عندهم كل وضوء بلا نية غير صحيح بل ذاك الوضوء الذي هو عبادة لا الوضوء الذي ليس بعبادة فلا تلازم بينهما في النفي كما سيشير إليه المصنف. وأما بالنسبة إلى زفر فلا تلازم بين هذين النفيين أصلا لعدم توقف صحة وضوء وتيمم على النية عنده "ويقرر" ثبوت التلازم بينهما إذا كانا أثرين لمؤثر "بانتفاء أحد الأثرين فالآخر" أي فيلزم انتفاء الأثر الآخر لانتفاء المؤثر لفرض ثبوتهما أثرا لواحد وليس فرض كون الثواب واشتراط النية أثرين للعبادة "يوجبه" أي التلازم بين النفيين "على الحنفي" لأنه لا يشترط في صحة كون الوضوء شرطا للصلاة كونه عبادة "وبين نفي لازم للثبوت" أي ويكون التلازم بين ثبوت ملزوم ونفي لازم له "وعكسه" أي وبين نفي ملزوم وثبوت لازم مثال الأول هذا "مباح فليس بحرام" ومثال الثاني هذا "ليس جائزا فحرام ويقرران" أي التلازمان بينهما "بإثبات التنافي بينهما" كذا ذكر ابن الحاجب وظاهره أن المراد بين الثبوت والنفي وليس كذلك فإنه لا تنافي بين المباح وعدم الحرام لجواز اجتماعهما لأن عدم الحرام أعم من المباح ولا بين غير الجائز والحرام لأن غير الجائز إما مساوي الحرام أو أعم منه فلا جرم أن قال غير واحد من الشارحين أي بين المباح والحرام لكن في الاقتصار على هذا قصور بل وبين الجائز والحرام ثم كما قال العلامة في الأول وهو في الإثبات ولهذا استلزم المباح عدم الحرام وعكسه لا في النفي ولهذا لم يستلزم عدم المباح الحرام ولا عكسه قلت إلا أن في استلزام عدم الحرام المباح كما أشار إليه بقوله وعكسه نظرا إلا أن يريد في الجملة فإن عدم الحرام لا يستلزم المباح ألبتة بل كما يستلزمه يستلزم المندوب. وقال في الثاني وهو في النفي والإثبات ولهذا يلزم من عدم(26/51)
الجواز الحرمة وعكسه ومن الجواز عدم الحرمة والعكس ويخص هذا موجها له الفاضل الأبهري فقال أي التلازم بين الثبوت ونفيه وعكسه يقرران ببيان ثبوت التنافي بين الثبوتين فإن كان التنافي بينهما في الجمع كما بين المباح والحرام استلزم كل من الثبوتين نفي الآخر فيصدق ما كان مباحا لا يكون حراما وإن كان التنافي بينهما في الخلو كما بين الجائز بمعنى ما لا يمتنع شرعا استلزم نفي كل من الثبوتين عين الآخر فيصدق ما لا يكون جائزا يكون حراما انتهى ولا يخفى أن هذه العناية لا تفيدها العبارة وقال بعضهم كالسبكي أي بين الحكمين وهو مع إبهامه راجع إلى أحد القولين الماضيين فعليه ما على أحدهما المراد منه ومن العجب إهمال عضد الدين ثم التفتازاني الكلام على هذا "أو" بإثبات التنافي بين "لوازمهما" وهو التأثيم اللازم لفعل الحرام وعدمه اللازم لفعل المباح والجائز فيلزم التنافي بين ملزومهما لأن تنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات "ويرد عليها" أي الأقسام الأربعة "منع اللزوم كالحنفي في الأولين" أي كمنع الحنفي التلازم بين الظهار والطلاق ونفي صحة التيمم بلا نية ونفي صحة الوضوء بلا نية كما قدمنا بيانه. "و" منع "ثبوت الملزوم وما لا يختص بالعلة" من الأسئلة الواردة على القياس(26/52)
ص -367-…لأنه لم تتعين العلة في التلازم وما لم يتعين لم يرد عليه شيء "ويختص" التلازم بسؤال لا يرد على القياس وهو منع تحقق الملازمة "في مثل تقطع الأيدي بيد" واحدة "كقتل الجماعة بواحد لملازمته" أي القصاص "لثبوت الدية على الكل في الأصل أي النفس لأنهما" أي القصاص والدية "أثران فيها" أي النفس يترتبان على الجناية "ووجد أحدهما" أي الأثرين وهو الدية "في الفرع" أي اليد "فالآخر" أي الأثر الآخر وهو "القصاص" على الكل يؤخذ فيه أيضا "لأن علتهما" أي الأثرين وهما القصاص والدية "في الأصل إن" كانت "واحدة فظاهر" وجود وجوب القصاص على الجميع في الفرع إذ لا خفاء في وجود الأثر عند وجود المؤثر "أو" كانت "متعددة فتلازمهما" أي الأثرين اللذين هما وجوب الدية والقصاص على الجميع "في الأصل" أي النفس دليل "لتلازمهما" أي العلتين فوجود أحد الأثرين وهو الدية في الفرع يستلزم وجود علته وهو يستلزم وجود علة الأثر الآخر "فيثبت" الأثر "الآخر" وهو القصاص في الفرع أيضا لثبوت علته المذكورة فيه "فيرد" الوارد المختص بهذا المثال وهو "تجويز كونه" أي ذلك الأثر الذي هو ثبوت الدية على الكل "بعلة" في الفرع أي اليد تقتضي وجوب الدية في الكل ثم "لا تقتضي قطع الأيدي" باليد "ولا" تقتضي "ملازمة مقتضيه" أي قطع الأيدي باليد. "وفي الأصل" أي النفس "بأخرى تقتضيهما" أي القصاص ووجوب الدية "أو" بعلة أخرى "لا تلازم مقتض قبل الكل ويرجح" المعترض كون ثبوته في الرفع بعلة أخرى "باتساع مدارك الأحكام" أي أدلتها التي يدرك بها فإن وجوب الدية على الجميع في الفرع بعلة أخرى يوجب التعدد في مدرك حكم الأصل والفرع "وهو" أي اتساع مدارك الأحكام "أكثر فائدة وجوابه" أي هذا السؤال "الأصل عدم" علة "أخرى" "ويرجح الاتحاد" أي اتحاد العلة في الحكم الواحد وهو الدية مثلا على تعددها "بأنها" أي العلة المتحدة "منعكسة" والمنعكسة علة باتفاق بخلاف غيرها والمتفق عليها أرجح(26/53)
"فإن دفعه" أي المعترض الجواب المذكور بأنه معارض "بأن الأصل أيضا عدم علة الأصل في الفرع قال" المستدل إذا تعارض الأصلان وتساقطا كان الترجيح معنا من وجه آخر وهو العلة "المتعدية" من النفس إلى اليد "أولى" من القاصرة على النفس للاتفاق عليها والخلاف في القاصرة ولكثرتها وقلة القاصرة فإنا إذا أثبتنا الحكم في الفرع بعلة الأصل فقد عديناها من الأصل إلى الفرع وإذا لم يثبت بهما فقد قصرنا علة الأصل على الأصل وعلة الفرع على الفرع قال "الآمدي ومنه" أي الاستدلال "وجد السبب" فيثبت الحكم لأن الدليل ما يلزمه المطلوب بتقدير تحققه قطعا أو ظاهرا وما ذكر كذلك والمطلوب وإن توقف وجوده على الدليل في آحاد الصور فوجود الدليل غير متوقف على وجوده بل تميزه في نفسه فلا دور كما في منتهى السول له أي المطلوب يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور والدليل يتوقف على لزوم المطلوب من جهة حقيقته فلا دور ثم قال وليس نصا ولا إجماعا ولا قياسا لاحتمال تقرير سببية نص أو إجماع. "و" وجد "المانع وفقد الشرط" فيعدم الحكم "ونفي الحكم لانتفاء مدركه" وقد عرفت أنه المراد بالتعليل بالعدم "والحنفية وكثير على نفيه" أي الاستدلال بأحد(26/54)
ص -368-…هذه الأمور الأربعة "إذ هو دعوى الدليل" فهو بمثابة وجد دليل الحكم فيوجد فلا يسمع ما لم يعين الدليل المدعى وجوده "فالدليل وجود المعين" أي المقتضي أو المانع أو فقد الشرط "منها" أي هذه الأمور المستلزمة للحكم "وأجيب بأنه" أي المذكور "دليل" وهو مثلا هذا حكم وجد سببه وكل حكم وجد سببه فهو موجود "بعض مقدماته نظرية" وهي الصغرى فإن الكبرى بينة "والمختار" عند ابن الحاجب "إن لم يثبت ذلك" أي وجود السبب أو المانع أو فقد الشرط "بأحدها" وهو سهو والصواب بغيرها أي النص والإجماع والقياس "فاستدلال وإلا" فإن ثبت بأحدها "فبأحدها" أي فهو ثابت بأحدها من نص أو إجماع أو قياس لا بالاستدلال "وعلى هذا" التفصيل "يرد الاستدلال مطلقا إلى أحدها إذ ثبوت ذلك التلازم لا بد فيه شرعا منه" أي من أحدها "وإلا" لو لم يكن التلازم ثابتا شرعا بأحدها "فليس" ذلك الحكم الثابت به "حكما شرعيا" لأن الحكم الشرعي لا بد من أن يكون ثابتا بأحدها. "فالحق أنه" أي الاستدلال "كيفية استدلال" بأحد الأربعة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس "لا" دليل "آخر غير الأربعة وتقدم شرع من قبلنا" قبل فصل التعارض بمسألتين "ويرد إلى الكتاب" بقصه له من غير إنكار "والسنة" بقصها له من غير إنكار "وقول الصحابي" وما فيه من التفصيل "ورد إلى السنة" حيث وجب العمل به في المسألة التي يليها فصل التعارض "ورد الاستصحاب إلى ما به ثبت الأصل المحكوم باستمراره" "فهو" أي الاستصحاب "الحكم" ظنا "ببقاء أمر تحقق" سابقا "ولم يظن عدمه" بعد تحققه "وهو حجة عند الشافعية وطائفة من الحنفية" السمرقنديين منهم أبو منصور الماتريدي واختاره صاحب الميزان والحنابلة "مطلقا" أي للإثبات والدفع "ونفاه" أي كونه حجة "كثير" من الحنفية وبعض الشافعية والمتكلمون "مطلقا" أي للإثبات والدفع "وأبو زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام" وصدر الإسلام ومتابعوهم قالوا هو حجة "للدفع" لا للإثبات(26/55)
"والوجه ليس حجة" أصلا كما قال الكثير "والدفع استمرار عدمه" أي عدم ذلك الأمر الطارئ "الأصلي" على ما تحقق وجوده "لأن موجب الوجود ليس موجب بقائه" أي الوجود وكيف لا وبقاء الشيء غير وجوده لأنه استمرار الوجود بعد الحدوث "فالحكم ببقائه" أي الوجود يكون "بلا دليل قالوا" أي القائلون بحجيته مطلقا الحكم ظنا بالبقاء المذكور الذي هو معنى الاستصحاب أمر "ضروري لتصرفات العقلاء باعتباره" أي الحكم ظنا بالبقاء المذكور "من إرسال الرسل والكتب والهدايا" من بلد إلى بلد إلى غير ذلك ولولا الحكم ظنا بالبقاء المذكور لكان ذلك سفها والاتفاق على أنه ليس كذلك وإذ ثبت الحكم ظنا بالبقاء المذكور فهو متبع كما عرف. "ومنهم" أي القائلين بحجيته مطلقا "من استبعده" أي كونه حجة بالضرورة "في محل النزاع فعدلوا إلى أنه لو لم يكن حجة لم يجزم ببقاء الشرائع مع احتمال الرفع" أي طريان الناسخ واللازم باطل للقطع ببقاء شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وبقاء شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم أبدا "و" إلى "الإجماع" أيضا "عليه" أي على الاستصحاب أي اعتباره في كثير من الفروع كما "في نحو بقاء الوضوء والحدث والزوجية والملك" إذا ثبت "مع طرو الشك" في طريان الضد "وأجيب" عن الأول "بمنع(26/56)
ص -369-…الملازمة لجوازه" أي الجزم ببقائها والقطع بعدم نسخها "بغيره" أي بدليل آخر غير الاستصحاب "كتواتر إيجاب العمل في كل شريعة بها" أي بتلك الشريعة لأهلها "إلى ظهور الناسخ" ووجود القاطع على أنه لا نسخ لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "وتلك الفروع" ليست مبنية على الاستصحاب بل "لأن الأسباب توجب أحكاما ممتدة" من جواز الصلاة وعدم جوازها وحل الوطء والانتفاع بحسب وضع الشارع "إلى ظهور الناقض شرعا واعلم أن مدار الخلاف" في كون الاستصحاب حجة أو لا مبني "على أن سبق الوجود مع عدم ظن الانتفاء هل هو دليل البقاء فقالوا" أي الشافعية وموافقوهم "نعم فليس الحكم به" أي بالاستصحاب حكما "بلا دليل والحنفية" قالوا "لا إذ لا بد في الدليل من جهة يستلزم بها" المطلوب "وهي" أي الجهة المستلزمة له "منتفية" في حق البقاء "فتفرعت الخلافيات" بين الحنفية والشافعية "فيرث المفقود" من مات من ورثته في غيبته "عنده" أي الشافعي عملا باستصحاب حياته المفيدة لاستحقاقه "لا عندهم" أي الحنفية لأن الإرث من باب الإثبات وحياته بالاستصحاب فلا يوجب استحقاقه. "ولا يورث لأنه" أي عدم الإرث "دفع" للاستحقاق فيثبت بالاستصحاب "وعلى ما حققنا عدمه أصلي" من أنه ليس بحجة أصلا وأن الدفع استمرار العدم الأصلي للأمر الطارئ إنما لا يورث "لعدم سببه" أي الإرث "إذ لم يثبت موته" أي المفقود كما هو الفرض "ولا صلح على إنكار" أي لا صحة له مع إنكار المدعى عليه عند الشافعي "لإثبات استصحاب براءة الذمة" للمدعى عليه التي هي الأصل فكانت حجة على المدعي "كاليمين وصح" الصلح على إنكار "عندهم" أي الحنفية لأن الاستصحاب لا يصلح حجة للإثبات فلا تكون براءة الذمة حجة على المدعي فيصح الصلح "ولم تجب البينة على الشفيع" على الملك المشفوع به لإنكار المشتري الملك المشفوع به للشفيع عند الشافعي لأنه متمسك بالأصل فإن اليد دليل الملك في الظاهر والتمسك بالأصل يصلح حجة(26/57)
للدفع والإلزام جميعا عنده "ووجبت" البينة المذكورة "عندهم" أي الحنفية لأن التمسك بالأصل لا يصلح حجة للإلزام إلى غير ذلك من الخلافيات هذا وأما السبكي فقال واعلم أن علماء الأمة أجمعوا على أنه ثم دليل شرعي غير ما تقدم واختلفوا في تشخيصه فقال قوم هو الاستصحاب وقال قوم هو الاستحسان وقال قوم هو المصالح المرسلة ونحو ذلك وقد علمت موارد استفعل في اللغة. وعندي أن المقصود منها في مصطلح الأصوليين الاتخاذ والمعنى أن هذا باب ما اتخذوه دليلا والسر في جعل هذا الباب متخذا دون الكتاب والسنة والإجماع والقياس أن تلك الأدلة قام القاطع عليها ولم يتنازع المعتبرون في شيء منها فكان منالها لم ينشأ عن صنعهم لاجتهادهم بل أمر ظاهر وأما ما عقد له هذا الباب فهو شيء آخر قاله كل إمام بمقتضى تأدية اجتهاده فكأنه اتخذه دليلا كما قال الشافعي يستدل بالاستصحاب ومالك بالمصالح المرسلة وأبو حنيفة بالاستحسان أن يتخذ كل منهم ذلك دليلا كما يقول يحتج بكذا وهذا معنى مليح في سبب تسميته بالاستدلال والله سبحانه أعلم.(26/58)
ص -370-…المقالة الثالثة
في الاجتهاد وما يتبعه من التقليد والإفتاء
"هو" أي الاجتهاد "لغة بذل الطاقة في تحصيل ذي كلفة" أي مشقة يقال اجتهد في حمل الصخرة ولا يقال اجتهد في حمل النواة والمراد ببذل الوسع استفراغ القوة بحيث يحسن العجز عن المزيد "واصطلاحا ذلك" أي بذل الطاقة "من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني" فبذل الطاقة جنس يصلح أن يتعلق بالمقصود وغيره وفيه إشارة إلى خروج اجتهاد المقصر وهو الذي يقف عن الطلب مع تمكنه من الزيادة على ما فعل من السعي فإن هذا الاجتهاد لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبرا ومن الفقيه احتراز من بذل الطاقة من غيره في ذلك فإنه ليس باجتهاد اصطلاحي. وفي تحصيل حكم شرعي احتراز من بذلها منه في غيره من حسي أو عقلي فإنه ليس بذلك أيضا وظني قيل لأن القطعي لا اجتهاد فيه وسيأتي منعه وفيه إشارة إلى أن استغراق الأحكام في الاجتهاد ليس بشرط كما أنه ليس من شرط المجتهد أن يكون محيطا بجميع الأحكام ومداركها بالفعل لأن ذلك غير داخل تحت وسع البشر "ونفي الحاجة إلى قيد الفقيه" كما ذكر التفتازاني "للتلازم بينه" أي الفقيه "وبين الاجتهاد" فإنه لا يصير فقيها إلا بعد الاجتهاد ولهذا لم يذكره الغزالي والآمدي اللهم إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الأحكام "سهو لأن المذكور" جنسا في التعريف إنما هو "بذل الطاقة لا الاجتهاد ويتصور" بذل الطاقة "من غيره" أي الفقيه "في طلب حكم" شرعي والظاهر كلام الأصوليين أنه لا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق وهو بالغ عاقل مسلم ذو ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مأخذها. "وشيوع الفقيه لغيره" أي المجتهد "ممن يحفظ الفروع" إنما هو "في غير اصطلاح الأصول" والكلام إنما هو في اصطلاح الأصول "ثم هو" أي هذا التعريف ليس تعريفا للاجتهاد مطلقا بل "تعريف لنوع من الاجتهاد" وهو الاجتهاد في الأحكام الشرعية الظنية "لأن ما" أي الاجتهاد "في العقليات(26/59)
اجتهاد غير أن المصيب" في العقليات "واحد والمخطئ آثم والأحسن تعميمه" أي التعريف في الحكم الشرعي ظنيا كان أو قطعيا "بحذف ظني" فإن الاجتهاد قد يكون في القطعي من الحكم الشرعي ما بين أصلي وفرعي غايته أن الحق فيه واحد والمخالف فيه مخطئ آثم في نوع منه غير آثم في نوع آخر كما سيأتي نعم إن لزم أن يكون محل الاجتهاد لا يحكم فيه بإثم المخطئ فيه احتيج إلى قيد مخرج لما يكون المخطئ آثما فيه من ذلك والشأن في ذلك وحينئذ فقول الآمدي والرازي وموافقهما المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي في حيز المنع.
"ثم ينقسم" الاجتهاد "من حيث الحكم" المتعلق به "إلى واجب عينا على المسئول" على الفور في حق غيره "إذا خاف فوت الحادثة" على غير الوجه الشرعي وفي حق نفسه إذا(26/60)
ص -371-…نزلت الحادثة به بهذا الشرط أيضا "وكفاية" أي وإلى واجب كفاية على المسئول في حق غيره "لو لم يخف" فوات الحادثة على غير الوجه الشرعي "وثم غيره" من المجتهدين فيتوجه الوجوب على جميعهم وأخصهم بوجوبه من خص بالسؤال عن الحادثة حتى لو أمسكوا مع ظهور الجواب والصواب لهم أثموا وإن أمسكوا مع التباسه عليهم عذروا ولكن لا يسقط عنهم الطلب وكان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب كما أشار إليه بقوله "فيأثمون بتركه" أي الاجتهاد حيث لا عذر لهم في تركه "ويسقط" الوجوب عن الكل "بفتوى أحدهم" لحصول المقصود بها "وعلى هذا" أي سقوط الوجوب بفتوى أحدهم لو أن مجتهدا ظن خطأ المفتي فيما أجاب به "لا يجب على من ظنه" أي الجواب "خطأ" الاجتهاد فيه لسقوط الوجوب بذلك الاجتهاد هذا وذكر السبكي أن أصح الوجهين عندهم عدم الإثم بالرد إذا كان هناك غير المسئول وأصحهما فيما إذا كان في الواقعة شهود يحصل الغرض ببعضهم وجوب الإجابة إذا طلب الأداء من البعض قال وفي الفرق غموض انتهى قيل ولعل الفرق أن الفتوى تحتاج إلى نظر وفكر والمشوشات كثيرة بخلاف الشهادة فإنه لا يحتاج فيها إلى ذلك ولا يعرى عن بحث "وكذلك حكم تردد بين قاضيين" مجتهدين مشتركين في النظر فيه يكون وجوب الاجتهاد على كل منهما بالنسبة إلى الآخر وجوب كفاية "أيهما حكم بشرطه" المعتبر فيه شرعا "سقط" الوجوب عنهما وإن تركاه بلا عذر أثما "و" إلى "مندوب" وهو ما "قبلهما" أي وجوبه عينا ووجوبه كفاية كالاجتهاد في حكم شيء بلا سؤال عنه ولا نزوله ليطلع على معرفة حكمه قبل نزوله "ومع سؤال فقط" أي وفيما يستفتى عن حكمه قبل وقوعه "و" إلى "حرام" وهو الاجتهاد "في مقابلة" دليل "قاطع" من "نص" "أو إجماع" "وشرط مطلقه" أي الاجتهاد في حق المجتهد "بعد صحة إيمانه" بمعرفة الباري تعالى وصفاته وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزاته فيما جاء به من عند الله، وسائر ما يتوقف عليه ذلك ولو بالأدلة(26/61)
الإجمالية دون التدقيقات التفصيلية على ما هو دأب المتبحرين في الكلام وبلوغه وعقله "معرفة محال جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية المتقدمة للمتن من شخص الكتاب والسنة في الظهور كالظاهر" والنص والمفسر والمحكم "والعام" والخاص "والخفاء كالخفي والمجمل" والمشكل والمتشابه إلى غير ذلك مما تقدم في انقسامات المفرد السابقة في فصولها مما يتعلق بالأحكام بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم كما جزم به غير واحد منهم الإمام الرازي ثم قيل: هو من الكتاب خمسمائة آية كما مشى عليه الغزالي وابن العربي قيل: وكأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أول من أفرد آيات الأحكام بالتصنيف ذكرها خمسمائة ودفع بأنه أراد الظاهرة لا الحصر، ومن السنة خمسمائة حديث، وقيل ثلاثة آلاف، وعن أحمد ثلاثمائة ألف، وقيل: خمسمائة ألف وحمل على الاحتياط والتغليظ في الفتيا، أو أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه فقد قال: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين لا معرفة الجميع، وهو في السنة ظاهر لتعذره لسعتها وإلا لانسد باب الاجتهاد فلا جرم أن قال الشيخ أبو بكر الرازي: ولا يشترط(26/62)
ص -372-…استحضاره جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الإحاطة، ولو تصور لما حضر ذهنه عند الاجتهاد، وقد اجتهد عمر وغيره من الصحابة في مسائل كثيرة لم يستحضروا فيها النصوص حتى رويت لهم فرجعوا إليها. وأما في القرآن فقيل: مشكل؛ لأن تمييز آيات الأحكام من غيرها يتوقف على معرفة الجميع بالضرورة، وتقليد الغير في ذلك ممتنع؛ لأن المجتهدين متفاوتون في استنباط الأحكام من الآيات على أن ما يتعلق منه بالأحكام غير منحصر في العدد المذكور بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله تعالى على عباده من وجوه الاستنباط، ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام بالمطابقة لا بالتضمن والالتزام كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره إذ غالب القرآن لا يخلو من أن يستنبط منه حكم شرعي "وهي" أي جزئيات تلك المفاهيم "أقسام اللغة متنا واستعمالا لا حفظها" أي المحال المذكورة عن ظهر قلب كما نبه عليه الغزالي وغيره، وقيل: يجب حفظ ما اختص بالأحكام من القرآن ونقل في القواطع عن كثير من أهل العلم أنه يلزم أن يكون حافظا للقرآن؛ لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه ونقله القيرواني في المستوعب عن الشافعي قلت والأول أشبه نعم الحفظ أحسن كما تعليل اللزوم يفيده "وللسند من المتواتر والضعيف والعدل والمستور والجرح والتعديل" قالوا: والبحث عن أحوال الرواة في زماننا مع طول المدة وكثرة الوسائط كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة المعروف صحة مذهبهم في التعديل، وكذا الكلام في الجرح "وعدم القاطع" بالرفع عطف على " معرفة " "و" عدم "النسخ" ووجه اشتراط هذه الجملة غير خاف؛ لأن الاستنباط فرع معرفة المستنبط منه. وكيفية الاستنباط وفهم المراد من المستنبط منه واعتباره موقوف على كون المستنبط منه غير مخالف للقاطع ولا منسوخ ولا مجمع على خلافه، وعلى هذا يزاد ومعرفته بمواقع الإجماع كي لا يخرقه، وذلك كما ذكر الغزالي أن يعلم أنه موافق مذهب ذي(26/63)
مذهب من العلماء وأنه واقعة متجددة لا خوض فيها لأهل الإجماع ولا يلزمه حفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف. "و" شرط "الخاص منه" أي الاجتهاد معرفة "ما يحتاج إليه من ذلك" المذكور آنفا على اختلاف أصنافه "فيما فيه" الاجتهاد "كذا لكثير" منهم صاحب البديع "بلا حكاية عدم جواز تجزي الاجتهاد" أي أن يقال شخص منصب الاجتهاد في بعض المسائل فيحصل له ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة فيها دون غيرها "كأنهم لا يعرفونها" أي حكاية عدم جواز تجزيه "وعليه" أي جواز تجزيه "فرع" أنه يجوز "اجتهاد الفرضي في" علم "الفرائض" بأن يعلم أدلته باستقراء منه أو من مجتهد كامل وينظر فيها "دون غيره" من العلوم الشرعية إذا لم يبلغ فيها رتبة الاجتهاد "وقد حكيت" هذه المسألة في أصول ابن الحاجب وغيرها وذكر فيها جوازه، وهو قول بعض أصحابنا على ما ذكره البستي من مشايخنا ومختار الغزالي ونسبه السبكي وغيره إلى الأكثر وقال: إنه الصحيح وقال ابن دقيق العيد: وهو المختار وسيذكر المصنف أنه الحق في مسألة غير المجتهد المطلق يلزمه التقليد وظاهر كلام ابن الحاجب التوقف "واختار طائفة نفيه مطلقا؛ لأنه" أي المجتهد "وإن ظن حصول كل ما يحتاجه لها" أي للمسألة التي هو مجتهد فيها "احتمل غيبة بعضه" أي(26/64)
ص -373-…ما يحتاجه لها مما يقدح في ظن الحكم "عنه وهذا الاحتمال" المذكور ثابت "كذلك للمطلق" أي للمجتهد المطلق أيضا، وهو الذي يفتي في جميع الأحكام الشرعية فإن ظن كل منهما حصول ما يحتاج إليه في ذلك إنما هو بحسب ظنه لا بحسب الواقع "لكنه" أي هذا الاحتمال "يضعف" أو ينعدم "في حقه" أي المجتهد المطلق "لسعته" أي نظره وإحاطته بالكل بحسب ظنه فيبقى ظنه بالحكم بحاله "ويقوى في غيره" أي غير المجتهد المطلق لعدم إحاطته بالكل بحسب ظنه فلا يبقى بالحكم بحاله فلم يقدح في الحكم بالنسبة إلى المطلق وقدح فيه بالنسبة إلى غيره. "وقد يمنع التفاوت" أي تفاوتهما ما في الاحتمال المذكور "بعد كون الآخر" الذي ليس بمجتهد مطلق "قريبا" من درجة الاجتهاد المطلق محصلا في ذلك المطلوب بخصوصه ما حصله المجتهد المطلق "بل" ذلك المجتهد في المطلوب الخاص "مثله" أي المجتهد المطلق فيه "وسعته" أي المطلق "بحصول مواد أخرى لا توجبه" أي التفاوت في الاحتمال المذكور؛ لأنه لا مدخل لذلك فيه "فإذا وقع" الاجتهاد "في" مسألة "صلوية" أي متعلقة بالصلاة "وفرض" وجود "ما يحتاج إليها من الأدلة والقواعد فسعة الآخر" أي المجتهد المطلق "بحضور مواد" الأحكام "البيعيات والغصبيات" وغيرها من المعاملات مثلا "شيء آخر" لا يوجب التفاوت في الاحتمال المذكور بالنسبة إليهما وحيث لم يقدح هذا بالنسبة إلى المطلق فكذا بالنسبة إلى غيره "وأما ما قيل" من قبل المثبتين "لو شرط" عدم التجزؤ للاجتهاد "شرط في الاجتهاد العلم بكل المآخذ" أي الأدلة. "ويلزم" هذا "علم كل الأحكام" واللازم منتف؛ لأن كثيرا من المجتهدين توقفوا في مسائل بل لم يحط أحد من المجتهدين علما بجميع أحكام الله تعالى "فممنوع الملازمة" أي لا نسلم أن العلم بجميع المآخذ يوجب العلم بجميع الأحكام "للوقف بعده" أي العلم بكل المآخذ المترتب عليه العلم بالأحكام "على الاجتهاد" ثم قد يوجد الاجتهاد ولا يوجد الحكم لتعارض(26/65)
الأدلة وعدم الإطلاع على مرجح أو لتشويش فكر أو غيرهما قلت ثم قد ظهر من هذه الجملة أن ما ذكر ابن الأنباري من تقييد صحة جواز التجزؤ بوجود الإجماع على ضبط مأخذ المسألة المجتهد فيها لا موجب له. وأما قول ابن الزملكاني: الحق التفصيل فما كان من الشروط كليا كقوة الاستنباط ومعرفة مجازي الكلام، وما يقبل من الأدلة وما يرد ونحوه فلا بد من استجماعه بالنسبة إلى كل دليل ومدلول فلا تتجزأ تلك الأهلية، وما كان خاصا بمسألة أو مسائل أو باب، فإذا استجمعه الإنسان بالنسبة إلى ذلك الباب أو تلك المسألة أو المسائل مع الأهلية كان فرضه في ذلك الجزء الاجتهاد دون التقليد فحسن، ولكن ظاهره أنه قول مفصل بين المنع والجواز، وليس كذلك فإن الظاهر أن هذا قول المطلقين لتجزي الاجتهاد. غايته أنه موضح لمحل الخلاف فليتأمل.
"وأما العدالة" في المجتهد "فشرط قبول فتواه" فإنه لا يقبل قول الفاسق في الديانات لا شرط صحة الاجتهاد لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد حتى كان له أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه، ولا يشترط أيضا الحرية ولا الذكورة ولا علم الكلام ولا علم الفقه(26/66)
ص -374-…لإمكان حصول قوة الاجتهاد بدونها وانتفاء الموجب لاشتراطها، أما الحرية والذكورة فظاهر، وأما علم الكلام فقالوا: لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا، وأما علم الفقه فلأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته. نعم منصب الاجتهاد في زماننا إنما يحصل بممارسته فهو طريق إليه في هذا الزمان.
مسألة: المختار عند الحنفية المتأخرين أنه عليه السلام مأمور بانتظار الوحي أولاً ما كان راجيه إلى خوف فوت الحادثة:(26/67)
"المختار عند الحنفية" المتأخرين ما عن أكثرهم "أنه عليه السلام مأمور" في حادثة لا وحي فيها "بانتظار الوحي أولا ما كان راجيه" أي الوحي "إلى خوف فوت الحادثة" بلا حكم "ثم بالاجتهاد" ثانيا إذا مضى وقت الانتظار، ولم يوح إليه؛ لأن عدم الوحي إليه فيها إذن في الاجتهاد حينئذ، ثم كون مدة الانتظار مفسرة بهذا، وهو يختلف بحسب الحوادث هو الصحيح، وقيل: هي ثلاثة أيام ولا دليل عليه "وهو" أي الاجتهاد "في حقه" صلى الله عليه وسلم "يخص القياس بخلاف غيره" من المجتهدين "ففي دلالات الألفاظ" على ما هو المراد منها لعروض خفاء واشتباه فيه يكون لغيره فيها الاجتهاد "و" في "البحث عن مخصص العام و" بيان "المراد من المشترك وباقيها" أي الأقسام التي في دلالتها على المراد خفاء من المجمل والمشكل والخفي والمتشابه على قول القائلين الراسخ في العلم بعلم تأويله غير أن الاجتهاد في بيان المراد من المجمل يكون معناه على قول مشايخنا بذل الوسع في الفحص عما جاء من بيانه من قبل المجمل ليقف على مراده منه لما علم من تصريحهم بأنه لا ينال المراد به إلا ببيان من المجمل نعم قد يكون ذلك البيان محتاجا في تحقق المراد به إلى نوع اجتهاد بخلاف المجمل على قول الشافعية، فإن بعض أفراده قد ينال المراد به من غير المجمل عندهم كما تقدم هذا كله في موضعه فيوافق الأقسام الباقية التي في دلالتها خفاء في أن معنى الاجتهاد في بيان المراد به بذل الوسع في الوقوف عليه أعم من أن يكون باتفاق من المتكلم أو بغالب الرأي فليتنبه لذلك. ثم هذا بالنسبة إلى دلالات الألفاظ عطف تفسيري لها أما النبي صلى الله عليه وسلم فكل هذا واضح لديه بلا اجتهاد "و" في "الترجيح" لأحد الدليلين "عند التعارض" بينهما "لعدم علم المتأخر" أي لهذا السبب، وأما للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا غير متأت في حقه لانتفاء تحقق التعارض بالنسبة إليه وانتفاء عزوب تأخر المتأخر على المتقدم عن علمه على(26/68)
تقدير وجود صورة التعارض "فإن أقر" صلى الله عليه وسلم على ما أدى إليه اجتهاده عند خوف الحادثة "أوجب" إقراره عليه "القطع بصحته" أي ما أدى إليه اجتهاده لما سيأتي من أن اجتهاده لا يحتمل الخطأ أو أنه لا يقر على الخطأ "فلم يجز مخالفته" كالنص "بخلاف غيره من المجتهدين" فإنه يجوز مخالفته إلى اجتهاد مجتهد آخر لاحتمال الخطأ والقرار عليه "وهو" أي اجتهاده المقر عليه "وحي باطن" على ما عليه فخر الإسلام وموافقوه وسماه شمس الأئمة السرخسي ما يشبه الوحي في حقه صلى الله عليه وسلم وقال: فإن ما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون صوابا لا محالة فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة. "والوحي عندهم" أي الحنفية الذين هم فخر الإسلام وموافقوه "باطن(26/69)
ص -375-…هذا" الاجتهاد الذي أقر عليه "وظاهر ثلاثة" من الأقسام "ما يسمعه" النبي صلى الله عليه وسلم "من الملك شفاها" بعد علمه بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله عز وجل، وهو جبريل عليه السلام المراد بروح القدس في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وبالروح الأمين في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193- 195] وبرسول كريم في قوله سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19- 21] بالعلم الضروري أنه هو وهذا أحدها "أو" ما "يشير إليه" الملك "إشارة مفهمة" للمراد من غير بيان بالكلام "وهو المراد بقوله" صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وهذا هو المراد بقوله "الحديث" أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام وللحديث ألفاظ أخر عند غيره منها ما عن حذيفة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس فقال: "هلموا إلي" فأقبلوا إليه فجلسوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا رسول رب العالمين جبريل عليه السلام نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته" رواه البزار قال الحافظ المنذري ورواته ثقات إلا قدامة بن زائدة بن قدامة فإنه لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل ونفث بالمثلثة في روعي بضم الراء ألقى في قلبي وأجملوا في الطلب أي للرزق بمباشرة الأسباب المشروعة أو ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في المحظور معتقدين أن الرزق من الله لا من الكسب وهذا ثانيا. "أو" ما "يلهمه، وهو" أي(26/70)
الإلهام "إلقاء معنى في القلب بلا واسطة عبارة الملك وإشارته مقرون بخلق علم ضروري أنه" أي ذلك المعنى "منه تعالى جعله وحيا ظاهرا" وهذا ثالثها، ولما كان مما يتبادر أن هذا باطن أشار إلى نفيه بتوجيه كونه ظاهرا بقوله "إذ في الملك" أي مشافهته "لا بد من خلق" العلم "الضروري أنه" أي المخاطب "هو" أي الملك فلم يخالفه إلا بعدم مشافته وإشارته، وذلك لا يمنع عده ظاهرا "ولذا" أي كون الإلهام وحيا "كان حجة قطعية" "عليه" صلى الله عليه وسلم "وعلى غيره بخلاف إلهام غيره" من المسلمين فإن فيه أقوالا أحدها حجة في حق الأحكام، وهذا في الميزان معزو إلى قوم من الصوفية بل عزي فيه إلى صنف من الرافضة لقبوا بالجعفرية أنه لا حجة سواه. ثانيها: حجة عليه لا على غيره وهذا ذكره غير واحد منهم صاحب الميزان أي يجب العمل به في حق الملهم ولا يجوز أن يدعو غيره إليه، وعزاه فيه إلى عامة العلماء ومشى عليه الإمام السهروردي واعتمده الإمام الرازي في أدلة القبلة وابن الصباغ من الشافعية قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض من خاطر آخر "ثالثها المختار فيه" أي إلهام غيره أنه "لا حجة عليه ولا" على "غيره لعدم ما يوجب نسبته" أي الملهم به "إليه تعالى" هذا وشمس الأئمة السرخسي جعل الوحي الظاهر قسمين ما ثبت بلسان الملك، وما ثبت بإشارته وجعل الباطن ما ثبت بالإلهام قال الشيخ قوام الدين الأتقاني: وما قال شمس الأئمة أحق؛ لأن ما يثبت في القلب بالإلهام ليس بظاهر بل هو(26/71)
ص -376-…باطن، وقد يقال: المراد بالباطن ما ينال المقصود به بالتأمل في الأحكام المنصوصة وبالظاهر ما ينال المقصود به لا بالتأمل فيها وحينئذ ما قاله فخر الإسلام أوجه. قلت: ويبقى عليهما التكليم ليلة الإسراء بلا واسطة، وظاهر أنه من الوحي الظاهر ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. والظاهر أنهما من الباطن ولم يتعارضا لهما والله سبحانه أعلم.(26/72)
ثم شرع في قسم المختار فقال: "والأكثر" أنه صلى الله عليه وسلم مأمور "بالاجتهاد مطلقا" وغير خاف أن تقدير مأمور هو الذي يقتضيه سوق الكلام وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي وقيل بالجواز أي بجواز كونه متعبدا بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والأمور الدينية من غير تقييد بشيء منها أو من غير تقييد بانتظار الوحي، وهو مذهب عامة الأصوليين ومالك والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث، ومنقول عن أبي يوسف انتهى ولعل المراد بالأكثر هؤلاء إلا أن المصنف حمل الجواز على كونه مأمورا به موافقة في المعنى لمثل ما في منتهى السول للآمدي ذهب أحمد والقاضي أبو يوسف إلى أن النبي كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه انتهى. وبناء على أن محل النزاع إنما هو إيجابه عليه وأنه لا قائل بالجواز دون الوجوب كما سيصرح به لكن قول الآمدي بعيد ما قدمناه عنه وجوز الشافعي ذلك في رسالته من غير قطع وبه قال بعض الشافعية والقاضي عبد الجبار انتهى ظاهر في مخالفة هذا ذاك، وأن المراد بهذا مجرد الجواز العقلي كما سيذكره عن بعضهم أيضا، وفي المعتمد لأبي الحسين إن أريد باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الاستدلال بالنصوص على مراد الله فذلك جائز قطعا، وإن أريد به الاستدلال بالأمارات الشرعية، فإن كانت أخبار آحاد فلا يتأتى منه صلى الله عليه وسلم وإن كانت أمارات مستنبطة يجمع بها بين الأصل والفرع فهو موضع الخلاف في أنه هل كان يجوز له أن يتعبد به والصحيح جوازه وذكر ابن أبي هريرة والماوردي أن في وجوب الاجتهاد عليه بعد جوازه له وجهين وصحح ابن أبي هريرة الوجوب، وقال الماوردي والأصح عندي التفصيل بين حقوق الآدميين فيجب عليه؛ لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاد، ولا يجب في حقوق الله انتهى، وهذا صريح أيضا في أنه ثم من يقول بالجواز دون الوجوب. "وقيل" أي وقال الأشاعرة وأكثر المعتزلة والمتكلمين: "لا" يكون الاجتهاد في الأحكام الشرعية حظه صلى(26/73)
الله عليه وسلم ثم بعضهم على أنه غير جائز عليه عقلا، وهو عن الجبائي وابنه وبعضهم جائز عليه عقلا، ولكنه لم يتعبد به شرعا ذكره في الكشف وغيره وقيل كان له الاجتهاد في الأمور الدينية والحروب دون الأحكام الشرعية حكاه في شرح البديع "وقيل" كان له الاجتهاد "في الحروب فقط"، وهو محكي عن القاضي والجبائي "لقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فعوتب على الإذن لما ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب فيما صدر عن وحي فيكون عن اجتهاد لامتناع الإذن منه تشهيا ودفعه السبكي بأن غير واحد قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الإذن وعدمه فما ارتكب إلا صوابا فإن الله تعالى يقول {فَأْذَنْ لِمَنْ(26/74)
ص -377-…شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من شرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليهم فيما فعل ولا خطأ قال القشيري: ومن قال العفو لا يكون إلا عن ذنب فهو غير عارف بكلام العرب وإنما معنى عفا الله عنك لم يلزمك ذنبا كما في عفا عن صدقة الخيل ولم يجب عليهم ذلك قط، ومن هنا قال الكرماني ولقائل أنه عتاب على ترك الأولى ولكن لا يعرى عن بحث "و" لقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [لأنفال:68] فإنها نزلت في فداء أسارى بدر ففي صحيح مسلم عن ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر وساق الحديث إلى أن قال: قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر "ما ترون في هؤلاء الأسارى" فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب" قال: قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي الذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [لأنفال: 67] إلى قوله {فَكُلُوا(26/75)
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [لأنفال: 69] فأحل الله الغنيمة لهم. قال صدر الشريعة أي لولا حكم سبق في اللوح المحفوظ، وهو أنه لا يعاقب أحد بالخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم كان سببا لإسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأقل لشوكتهم، وقد رد القاضي أبو زيد هذا فقال في التقويم: فإن قيل أليس الله عاتب رسوله على الفداء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر" فدل أن أبا بكر كان مخطئا قلنا: هذا لا يجوز أن يعتقد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل برأي أبي بكر ولا بد أن يقع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقر عليه صوابا والله تعالى قرره عليه فقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وتأويل العتاب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وكان لك كرامة خصصت بها رخصة لولا كتاب من الله سبق بهذه الخصوصية لمسكم العذاب لحكم العزيمة على ما قال عمر والوجه الآخر ما كان لنبي أن يكون له أسرى قبل الإثخان، وقد أثخنت يوم بدر فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة فلولا الكتاب السابق في إباحة الفداء لك لمسكم العذاب. والملخص على هذا ما ذكره الكرماني بحثا، وهو أنه أيضا ترك الأولى، ولو كان حكمه فيه خطأ لكان الأمر بالنقض مع أنه ليس فيه إلزام ذنب(26/76)
ص -378-…للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء فكأنه قال: ما كان هذا النبي غيرك وتريدون الخطاب فيه لمن أراد منهم ذلك وليس المراد بالمريد النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته ثم الحاصل من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان له العمل برأيهم عند عدم النص فبرأيه أولى؛ لأنه أقوى على أن في الكشف وغيره، وكلهم اتفقوا أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا "وقد قلنا به" أي بوجوب اجتهاده في الحروب مستدلين بما استدلوا به من الآيتين وبوجوب اجتهاده في الأحكام أيضا بآية مفاداة الأسارى فإن جواز مفاداتهم وفسادها من أحكام الشرع. "وثبت" اجتهاده "في الأحكام أيضا بقوله" صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي"، وهو في صحيح مسلم بلفظ "لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" وفي صحيح البخاري بلفظ "ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" وذلك حين أذن لمن لم يسق الهدي من أصحابه في حجتهم معه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا؛ لأن السوق مانع من التحلل حتى يبلغ الهدي محله "وسوقه" أي الهدي "متعلق حكم المندوب" فهو مندوب "وهو" أي الندب "حكم شرعي"، ولو لم يكن عن وحي؛ لأنه ليس له أن يبدله من تلقاء نفسه، ولا بالتشهي لامتناعه عليه فكان بالاجتهاد قلت: ومما هو نص صريح في المطلوب أيضا ما عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي وإنما أقضي برأيي فيما لم ينزل علي فيه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة على عنقه"، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود ورواته رواة الصحيح إلا أسامة بن زيد، وهو مدني صدوق في حفظه شيء وأخرج له مسلم استشهادا "ولأنه" أي الاجتهاد "منصب شريف" حتى قيل: إنه أفضل درجات العلم للعباد فإذن "لا يحرمه"(26/77)
أفضل الخلق "وتناله أمته ولأكثرية الثواب لأكثرية المشقة" كما يشير إليه ما أسلفناه في مسألة جواز النسخ من صحيح البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة "فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم آتينا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك" وأخرجه الدارقطني والحاكم بلفظ "إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك" فإن ظاهره كما ذكره النووي أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة وفي الاجتهاد من المشقة ما ليس في العمل بدلالة النص لظهوره لكن هذا متعقب بأنه ليس بمطرد مطلقا إذ قد يفضل بعض العبادات الخفيفة على غيرها مما هو أكثر عملا وأشق في صور فالإيمان أفضل الأعمال مع سهولته وخفته على اللسان. وفرض الصبح أفضل من أعداد من الركعات النافلة، ودرهم من الزكاة أفضل من دراهم من الصدقة النافلة، وفريضة في المسجد الحرام أفضل من فرائض في غيره إلى غير ذلك.
"وأما الجواب" عن هذا الدليل كما أشار إليه ابن الحاجب وقرره القاضي عضد الدين "بأن السقوط" للاجتهاد "للدرجة العليا" وهي الوحي فإن متعلقه أعلى من متعلق الاجتهاد فإن الحكم بالوحي مقطوع به بخلافه بالاجتهاد فسقوطه "لا يوجب نقصا في قدره وأجره ولا(26/78)
ص -379-…اختصاص غيره بفضيلة ليست له فقيل" كما أشار إليه التفتازاني "ذلك" أي سقوط الأدنى للأعلى ثم لا يكون فيه نقص آخر ممن لم يتصف بالأدنى ولا اختصاص المتصف به بفضيلة ليست لمن لم يتصف به إنما هو "عند المنافاة" بين الأدنى والأعلى بحيث لا يجتمعان "كالشهادة مع القضاء والتقليد مع الاجتهاد" أما عند عدم المنافاة بينهما فلا يسقط الأدنى بالأعلى، والوحي مع الاجتهاد من هذا القبيل فلا يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم. "والحق أن ما سوى هذا" الدليل المعنوي من أدلة المثبتين "لا يفيد محل النزاع، وهو الإيجاب" للاجتهاد عليه فيما لا نص فيه "وأما هذا" الدليل ففي التحقيق أنه لا يفيده أيضا "فقد اقتضت رتبته صلى الله عليه وسلم مرة سقوط" حرمة "ما" يحرم "على غيره" من أمته "كحرمة الزيادة" من الزوجات "على الأربع ومرة لزوم ما ليس" بلازم "عليهم" كمصابرة العدو وإن زاد عددهم بخلاف الأمة فإنه إنما يلزمهم الثبات إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف، وإنكار المنكر وتغييره مطلقا؛ لأن الله تعالى وعده بالعصمة والحفظ، وغيره إنما يلزمه عند الإمكان والسؤال على ما صحح إلى غير ذلك. وإذا كان كذلك "فالشأن في تحقيق خصوصية المقتضى في حقه في المواد وعدمه" أي تحقيق خصوصيته في حقه فيها "وغاية ما يمكن" فيما نحن فيه "أنها" أي أدلة المثبتين "لدفع المنع" لوجوب الاجتهاد عليه عند عدم النص في ذلك، وإذا اندفع منع وجوبه عليه "فيثبت الوجوب إذ لا قائل بالجواز دونه" أي الوجوب ولكن قد عرفت ما على هذا من التعقب واحتج "المانع" لتعبده صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد بقوله تعالى: "{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ}" أي ما ينطق به " {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم: 4]" إذ هو ظاهر في العموم أي كل ما ينطق به فهو عن وحي فينتفي الاجتهاد "أجيب بتخصيصه" أي هذا النص "بسببه" فإنه نزل "لنفي دعواهم" أي الكفار "افتراءه" القرآن وحينئذ فالمراد بقوله: إن هو(26/79)
القرآن فينتفي العموم "سلمنا عمومه" في القرآن وغيره بناء على أن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم وأنه ليس هنا ما يقتضي التخصيص بما يبلغه عن الله تعالى من القرآن فلا نسلم أن عموم قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ينافي جواز اجتهاده "فالقول عن الاجتهاد ليس عن الهوى بل عن الأمر به" أي بالاجتهاد وحيا فيكون الاجتهاد وما يستند إليه وحيا. "وهذا وإن كان خلاف الظاهر، وهو" أي الظاهر "أن ما ينطق به نفس ما يوحى إليه" والحكم الثابت بالاجتهاد على هذا إنما هو بالوحي لا وحي "يجب المصير إليه للدليل المذكور" أي الدال على وقوع الاجتهاد من نحو {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] و {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [لأنفال: 67] الآيتين "ولا يحتاجه" أي الدليل المذكور في الحمل المذكور "الحنفية إذ هو" أي اجتهاده "وحي باطن" إذ أقر عليه عند فخر الإسلام وموافقيه وبمنزلة الوحي عند شمس الأئمة.
"قالوا" أي مانعو تعبده بالاجتهاد ثانيا: "لو جاز" له الاجتهاد "جازت مخالفته" أي اجتهاده للمجتهدين؛ لأن جواز المخالفة من أحكام الاجتهاد إذ يجوز للمجتهد مخالفة المجتهد؛ لأنه لا قطع بأن الحكم الصادر من الاجتهاد حكم الله لاحتمال الإصابة، والخطأ، والجواب منع لزوم أحكام الاجتهاد له مطلقا بل إذا لم يقترن به ما يمنع مخالفته من قطع به، ومن ثمة لم تجز(26/80)
ص -380-…مخالفة اجتهاد صار سندا للإجماع وهذا اقترن به ما يمنع مخالفته كما أشار إليه بقوله "وتقدم" في أوائل المسألة "ما يدفعه" يعني قوله: فإن أقر وجب القطع بصحته فلم يجز مخالفته ويأتي أيضا.
"قالوا" أي المانعون المذكورون ثالثا "لو أمر" النبي صلى الله عليه وسلم "به" أي بالاجتهاد "لم يؤخر جوابا" عن سؤال بل يجتهد ويجيب لوجوبه عليه "وكثيرا ما أخر" جواب كثير من المسائل كحكم الظهار وقذف الزوجة بالزنا وما تضمنه الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد، والطبراني وغيرهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر قال: "لا أدري حتى أسأل" فسأل جبريل عن ذلك فقال: "لا أدري حتى أسأل ربي." فانطلق فلبث ما شاء الله ثم جاء فقال: "إني سألت ربي عن ذلك فقال: شر البلاد الأسواق" "الجواب جاز" التأخير "لاشتراط الانتظار" للوحي ما كان راجيه إلى خوف الحادثة "كالحنفية أو لاستدعائه" أي الاجتهاد "زمانا" فإن استفراغ الوسع يستدعي زمانا أو لكون المسئول عنه مما لا مساغ للاجتهاد فيه.(26/81)
"قالوا" أي المانعون المذكورون: رابعا هو قادر على اليقين في الحكم بالوحي، والحكم بالاجتهاد لا يفيد إلا ظنا ومعلوم أنه "لا يجوز الظن مع القدرة على اليقين" إجماعا، ومن ثمة حرم على معاين القبلة الاجتهاد فيها فلا يجوز له الحكم بالاجتهاد "أجيب بالمنع" أي منع كونه قادرا على اليقين قال المصنف: "فإن" كان هذا المنع "بمعنى أنه" أي اليقين، وهو الوحي هنا "غير مقدور له فصحيح" إذ لا قدرة له على وصول الوحي إليه "لكنه"، والوجه الظاهر، وهو أي هذا المنع بهذا المعنى "لا يوجب النفي" لتعبده بالاجتهاد "بل" إنما يوجب "أن لا يجتهد إلى اليأس من الوحي أو" إلى "غلبة ظنه" أي اليأس من الوحي "مع خوف الفوت" للحادثة بلا حكم "وهو" أي وهذا "قول الحنفية كل من طريقي الظن، واليقين" بالحكم "ممكن فيجب تقديم الثاني" أي اليقين "بالانتظار" للوحي "فإذا غلب ظن عدمه" أي الوحي "وجد شرط الاجتهاد، وهو" أي قول الحنفية "المختار" ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان من شأنه الانتظار للوحي فيما يسأل عنه، ولم يكن أوحي إليه فيه شيء ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل ما بركات الأرض قال زهرة الدنيا فقال له رجل هل يأتي الخير بالشر فصمت حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه" وفي رواية لمسلم فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وهو العرق وقال: "أين السائل" قال: ها أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير" الحديث وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي وثقله عليه "وإن" كان هذا المنع "بمعنى جواز تركه" أي اليقين "مع القدرة" عليه "إلى محتمل الخطأ مختارا فيمنعه" أي جواز ترك اليقين إلى محتمل الخطأ "العقل وما أوهمه" أي جوازه "سيأتي جوابه" غير أن هذا الشق لا يحتمله مع كونه قادرا على اليقين الذي هو محل الترديد اللهم(26/82)
إلا فرضا ولا داعي إليه "وقد ظهر من المختار جوازا لخطأ عليه عليه السلام" أي على اجتهاده "إلا أنه لا يقر(26/83)
ص -381-…عليه" أي على الخطأ "بخلاف غيره" من المجتهدين، وهذا قول أكثر الحنفية ونقله الآمدي عن الشافعية، والحنابلة وأصحاب الحديث واختاره هو وابن الحاجب "وقيل بامتناعه" أي جواز الخطأ على اجتهاده نقله في الكشف وغيره عن أكثر العلماء. وقال الإمام الرازي والصفي الهندي: إنه الحق وجزم به الحليمي والبيضاوي وذكر السبكي أنه الصواب وأن الشافعي نص عليه في مواضع من الأم "لأنه" أي اجتهاده "أولى بالعصمة عن الخطأ من الإجماع؛ لأن عصمته" أي الإجماع عن الخطإ "لنسبته" أي الإجماع بواسطة الأمة "إليه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "وللزوم جواز الأمر باتباع الخطإ"؛ لأنا مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلى غير ذلك "و" لزوم "الشك في قوله" صلى الله عليه وسلم أصواب هو أم خطأ "فيخل بمقصود البعثة"، وهو الوثوق بما يقول: إنه حكم الله "أجيب عن هذا" الأخير "بأن المخل ما في الرسالة" أي جواز الخطإ فيما ينقله عن الله تعالى من إرساله، وهو معلوم الانتفاء بدلالة تصديق المعجزة لا تجويز الخطإ في اجتهاده "و" أجيب "عما قبله"، وهو لزوم جواز الأمر باتباع الخطإ "بمنع بطلانه" بوجوب اتباع العوام للمجتهدين منا مع جواز تقريرهم على الخطإ فضلا عن خطئهم فيه وتعقب الفاضل الكرماني هذا النقض بأنه غير وارد؛ لأن المتابعة إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله، والعامي لا يتبع المجتهد في اجتهاده بل يقلده، والفرق بين صورة النقض وما لزم من الدليل أن المأمور باتباعه قادر على الإصابة كالمجتهد ولا كذلك العامي، وإذن لم يؤمر أحد بالخطأ، وإنما العامي مأمور بالتقليد، والخطأ واقع في طريقه. قال الفاضل الأبهري: والأول مدفوع؛ لأن الوجه المذكور في تعريف المتابعة جهة للفعل وكيفية له، والاجتهاد ليس كذلك بل هو كيفية للمجتهد، والفاعل فتعريفه المتابعة لا(26/84)
يقتضي الاتباع في الاجتهاد، وعلى تقدير الاقتضاء اتباع الاجتهاد مخصوص من الأمر بالاتباع إجماعا سواء كان الأمر باتباع الرسول عليه السلام أو باتباع غيره من المجتهدين، وقد ذكر صاحب المنهاج كونه مخصوصا في بيان حجة الإجماع، وكذا الثاني؛ لأن جميع الأمة مأمورون بمتابعة الرسول عليه السلام سواء في ذلك مجتهدهم ومقلدهم فلا فرق. وأيضا مقدور المجتهد تحصيل الظن بالحكم لا الإصابة فيه وإذا جاز كون اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ فاجتهاد غيره أولى بجواز كونه خطأ وكذا الثالث؛ لأن الأمر بالاتباع أمر باتباع الفعل كما ذكره، وإذا كان إيقاعه على الوجه الذي فعله خطأ كان العامي مأمورا بالخطأ هذا وحل الاستدلال المذكور أن الحكم الخطأ له جهتان كونه غير مطابق للواقع وكونه مجتهدا فيه فالأمر فيه للجهة الثانية لا الأولى ولا امتناع فيه فإن المجتهد مأمور بالعمل بما أدى إليه اجتهاده إجماعا، وإن كان خطأ فلا بعد في أمر غيره أيضا بالعمل به لذلك، وإلى ملخص هذا يشير قوله "على أن الأمر باتباعه" أي الاجتهاد إنما هو "من حيث هو" أي الحكم الاجتهادي "صواب في نظر العالم وإن خالف نفس الأمر"، والحاصل أنه يؤدي إلى العمل بالاجتهاد الذي هو صواب عملا كما هو مذهب المخطئة أو مطلقا كما هو مذهب المصوبة ولا بأس "و" أجيب "عن الأول"، وهو أنه أولى بالعصمة من الإجماع "بأن(26/85)
ص -382-…اختصاصه" صلى الله عليه وسلم "برتبة النبوة وإن رتبة العصمة للأمة لاتباعهم" له "لا يقتضي لزوم هذه الرتبة له كالإمام" الأعظم "ولا يلزم له رتبة القضاء" وإن كانت مستفادة منه ثم لا يعود ذلك عليه بنقص وانحطاط درجة فكذا هنا "وتقدم ما يدفعه" من أن هذا إنما هو عند المنافاة ولا منافاة بين مرتبة النبوة ودرجة الاجتهاد "وأيضا فالوقوع" للاجتهاد "يقطع الشغب" بالسكون أي النزاع في الجواز كما عليه الجمهور منهم الآمدي وابن الحاجب "ودليله" أي الوقوع قوله تعالى: "عفا الله عنك" الآية وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [لأنفال: 67] الآية "حتى قال عليه السلام "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر" رواه الواقدي في كتاب المغازي، والطبري بلفظ "لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ" إلا أنه يطرق الاستدلال على الوقوع بالآية الأولى ما سلف من قول إنه كان مخيرا في الإذن، والعتاب بها على ما يشوبه من بحث نعم لا يضر في الاستدلال على الوقوع بالآية الثانية ما سلف فيها عن القاضي أبي زيد فليتأمل وحينئذ ينتفي إنكار وقوعه مطلقا كما عليه بعضهم، والتوقف فيه كما اختاره القاضي والغزالي في المستصفى "وبه" أي بالوقوع "يدفع دفع الدليل القائل لو جاز" امتناع الخطأ عليه، والأحسن كما قال ابن الحاجب لو امتنع "لكان" امتناعه عليه "لمانع"؛ لأن الخطأ ممكن لذاته "والأصل عدمه" أي المانع "بأن المانع" من جوازه "علو رتبته وكمال عقله وقوة حدسه وفهمه" صلى الله عليه وسلم كما ذكر هذا الدفع العلامة، وقد أجيب أيضا بأن هذه الأوصاف لا تؤثر في المنع؛ لأن جواز الخطإ، والسهو من لوازم الطبيعة البشرية، فإذا جاز سهوه حال مناجاته مع الرب سبحانه وتعالى على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سها فسجد فجواز الخطإ عليه في غير حال الصلاة بالطريق الأولى. "وأما الاستدلال" لجواز الخطإ عليه "بقوله" صلى الله عليه وسلم:(26/86)
"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه "وقوله" صلى الله عليه وسلم "أنا أحكم بالظاهر" وقدمنا في فصل شرائط الراوي عن المزي، والذهبي وشيخنا أنه لا وجود له وأن ابن كثير قال: يؤخذ معناه من الحديث السابق إلى غير ذلك "فليس بشيء" مثبت له؛ لأن الخلاف إنما هو في الخطإ في استنباط الحكم الشرعي عن أمارته لا في الخطإ في ثبوت الحكم الشرعي لمعين في أنه هل يندرج تحت العموم الذي أثبت له حكم هو صواب كما إذا جزم بأن الخمر حرام، ثم زعم أن هذا المائع خمر محرم لحرمته فإن الاندراج وعدمه ليس من الأحكام الشرعية "وكذا" ليس بشيء "ما يوهمه عبارة بعضهم من ثبوت الخلاف في الإقرار على الخطإ فيه" أي الاجتهاد، وهو القاضي عضد الدين فإنه قال: أقول بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له الاجتهاد فهل يجوز عليه الخطأ فيه خلاف، فإذا وقع هل يقرر عليه أو ينبه على الخطإ المختار أنه لا يقرر انتهى. "بل" كما قال المصنف "نفيه" أي الإقرار عليه "اتفاق" كما صرح به العلامة ثم قد ظهر سقوط التوقف في جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم كما مال إليه الإمام الرازي وعزاه في المحصول لأكثر المحققين هذا، وقد ذكر القرافي أن محل(26/87)
ص -383-…الخلاف الفتاوى أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع ولم أقف على هذا لغيره، والوجه غير ظاهر.
فرع قال الغزالي: وإذا اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم فقاس فرعا على أصل فيجوز القياس على هذا الفرع؛ لأنه صار أصلا بالنص، وكذا لو أجمعت الأمة عليه، وهو حسن ظاهر والله سبحانه أعلم.
مسألة: قالت طائفة: لا يجوز عقلاً اجتهاد غير النبي صلى الله عليه وسلم في عصره
"طائفة لا يجوز" عقلا "اجتهاد غيره" أي النبي صلى الله عليه وسلم "في عصره عليه السلام، والأكثر يجوز" عقلا "فقيل" يجوز "مطلقا" أي بحضرته وغيبته نقله إلكيا عن محمد بن الحسن، وهو المختار عند الأكثرين منهم القاضي والغزالي والآمدي والرازي "وقيل" يجوز "بشرط غيبته للقضاة"، والولاة دون غيرهم. "وقيل" يجوز "بإذن خاص" ثم منهم من شرط صريحه، ومنهم من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه منزلة الإذن "وفي الوقوع" مذاهب "نعم" وقع "مطلقا" أي في حضوره وغيبته لكن "ظنا" واختاره الآمدي وابن الحاجب قال السبكي ولم يقل أحد: إنه وقع قطعا "ولا" أي لم يقع أصلا ", والمشهور أنه" أي هذا مذهب "للجبائي وأبي هاشم، والوقف" في الوقوع مطلقا ونسبه الآمدي إلى الجبائي "وقيل" الوقف "فيمن بحضرته" صلى الله عليه وسلم "لا من غاب"، وهو مذهب عبد الجبار ونقله الرازي عن الأكثرين ومال إلى اختياره. وقيل: وقع للغائب دون الحاضر واختاره القاضي في التقريب والغزالي في المستصفى وابن الصباغ وإليه ميل إمام الحرمين ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء، والمتكلمين قال: وهو أدخل في الاستقامة وأميل إلى الاقتصاد من حيث تعذر المراجعة مع تنائي الدار في كل واقعة وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى على أصول المالكية وقال صاحب اللباب: إنه الصحيح "الوقف لا دليل" يدل على الوقوع مطلقا في المطلق وفيمن بحضرته للمقيد به وكل من الوقوع وعدمه جائز فلا يحكم بأحدهما إلا بدليل "المانع" مطلقا مجتهد وعصره(26/88)
"قادرون على العلم بالرجوع إليه فامتنع ارتكاب طريق الظن"، وهو الاجتهاد؛ لأن القدرة على العلم تمنعه "أجيب بمنع الملازمة بقول أبي بكر" رضي الله عنه في حديث أبي قتادة الأنصاري خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فذكر قصته في قتله القتيل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه"، وقوله: فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك الثانية فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثالثة مثله فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك أبا قتادة" فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني فقال أبو بكر جوابا لهذا القائل لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال عليه السلام "صدق" فإن الظاهر أن هذا من أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد، وهو بحضرته، وقد صوبه صلى الله عليه وسلم بتصديقه له في ذلك، والحديث في الصحيحين هذا وقد ذكر ابن مالك وغيره في(26/89)
ص -384-…لاها الله أربع لغات: حذف ألف ها وإثباتها كلاهما مع وصل همزة الله وقطعها ثم إن المصنف أسقط إذا مع ثبوتها في الرواية إما اختصارا، وإما لما في ذلك من المقال فقد أنكر الخطابي وغيره من أهل العربية ثبوت الألف في أول إذا وقالوا: إنه تعبير من بعض الرواة وصوابه لاها الله ذا بغير ألف في أوله قالوا، ومنهم ابن الحاجب؛ لأن العرب لا تقول لاها الله إلا مع ذا. ولو سلم أنه يقال مع غير ذا كما نص عليه ابن مالك فليس هذا موضع إذن؛ لأنها تقع جوابا وجزاء وهي هنا جواب لقول من طلب السلب، وهو غير قاتل مع أنها ليست جزاء لفعله الذي هو الطلب وإلا لقال: إذن تعمد ويمكن أن يقال: هي جزاء لإقراره بأن السلب لأبي قتادة؛ لأن إقراره سبب لعدم العمد إلى إعطاء ما هو حق غيره لا لطلبه، والرواة ثقات فحمل روايتهم على التصحيف بعيد، ومن هذا قال بعض المتأخرين من النحويين: جعل لا يعمد جواب فأرضه عني ليس بصحيح وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه قول الشاهد لأبي قتادة صدق فكأن أبا بكر رضي الله عنه قال: إذا صدق أنه صاحب السلب إذن لا يعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه، والجزاء على هذا صحيح؛ لأن صدقه سبب في أن لا يعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلبه فيعطيه من طلبه وهذا واضح لا تكلف فيه "وتقدم" في التي قبل هذه "أن ترك اليقين لطالب الصواب إلى محتمل الخطإ مختارا يأباه العقل" فلا يكون الاجتهاد مع إمكان الرجوع إليه تركا لليقين إلى محتمل الخطإ غير أن هذا لا يتم الاستدلال به على الجواز بحضرته وغيبته بناء على ما قيل بأن هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان مخيرا بين أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلم أو يجتهد فيحكم إذ لو تعين عليه العلم بالرجوع إليه صلى الله عليه وسلم لما جاز له العدول إلى الاجتهاد بل يتم على الجواز بحضرته كما أشير إليه بقوله "واجتهاد أبي بكر في هذه الحالة لا يستلزم تخييره مطلقا لعلمه"(26/90)
أي أبي بكر "أنه لكونه بحضرته" صلى الله عليه وسلم "إن خالف" الصواب في اجتهاد "رده" أي اجتهاده وهذا مفقود إذا كان في غيبته ولم يوقف عليه. "فالوجه جوازه" أي الاجتهاد في عصره "للغائب" عنه صلى الله عليه وسلم سواء كان قاضيا أو لا "ضرورة"، والظاهر أنها إنما تتحقق عند تعسر الرجوع أو تعذره عليه فيحسن تقييده بمن هو بهذه الحالة فلا يجوز لمن ليس بها لسهولة المراجعة عليه ثم قصة معاذ الشهيرة في إرساله إلى اليمن شاهدة بذلك وقصر الجواز على القضاة، والولاة لحفظ منصبهم عن استنقاص الرعية لهم إذا رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقع لهم بخلاف غيرهم مما يتعجب من تكلف كتابته بلا تعقبه بالرد "والحاضر بشرط أمن الخطإ هو" أي أمنه "بأحد أمرين حضرته" كما تقدم لأبي بكر رضي الله عنه "أو إذنه" في ذلك "كتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة"، ومن ثمة لما حكم بقتل الرجال وقسم الأموال وسبي الذراري، والنساء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله" كما في الصحيحين. وفي رواية ابن سعد في الطبقات "الذي حكم به من فوق سبع سموات" وكلاهما يرجحان كسر اللام في الرواية الأخرى في الصحيحين بحكم الملك والله سبحانه أعلم.
مسألة: العقليات ما لا يتوقف على سمع كحدوث العالم الخ
"العقليات ما لا يتوقف على سمع كحدوث العالم ووجود موجده تعالى بصفاته وبعثه(26/91)
ص -385-…الرسل، والمصيب من مجتهديها" أي العقليات "واحد اتفاقا"، وهو الذي طابق اجتهاده الواقع فأصاب الحق لعدم إمكان وقوع النقيضين في نفس الأمر "والمخطئ" منهم "إن" أخطأ "فيما ينفي ملة الإسلام" كلا أو بعضا "فكافر آثم مطلقا" أي اجتهد وعجز عن معرفة الحق أو لم يجتهد "عند المعتزلة أي بعد البلوغ وقبله" أيضا "بعد تأهله للنظر وبشرط البلوغ عند من أسلفنا" في فصل الحاكم "من الحنفية كفخر الإسلام إذا أدرك مدة التأمل" وقدرها إلى الله تعالى كما سلف ثمة "إن لم يبلغه سمع ومطلقا" أي أدرك مدة التأمل أم لا "إن بلغه" السمع "وبشرط بلوغه" أي السمع إياه "للأشعرية وقدمناه" ثمة "عن بخاري الحنفية، وهو المختار"؛ لأن حقيقة ملة الإسلام أبين من النهار لا مجال لنفيها بالاجتهاد ولا بغيره إذ الاجتهاد إنما يكون فيما فيه خفاء وغموض، والمعاند مكابر فيها "وإن" كان ما أخطأ فيه "غيرها" أي ملة الإسلام من المسائل الدينية "كخلق القرآن" أي القول بخلقه "وإرادة الشر" أي القول بعدم إرادة الله تعالى الشر فكان الأولى عدم إرادة الشر "فمبتدع آثم لا كافر وسيأتي فيه" أي في هذا النوع "زيادة" في التتمة التي تلي المسألة التي بعد هذه وما عن الشافعي من تكفير القائل بخلق القرآن فجمهور أصحابه تأولوه على كفران النعمة كما قاله النووي وغيره وإن كان من غير المسائل الدينية كوجوب تركيب الأجسام من ثمانية أجزاء ونحوه فلا المخطئ فيه آثم ولا المصيب فيه مأجور إذ يجري مثل هذا مجرى الخطإ في أن مكة أكبر من المدينة أو أصغر كذا في بحر الزركشي هذا كله في الكلامية "وأما الفقهية فمنكر الضروري" منها "كالأركان" أي فرضية الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج التي هي الأركان الأربعة للإسلام بعد الشهادتين "وحرمة الزنا، والشرب" للخمر وقتل النفس المحرمة، والربا "والسرقة كذلك" أي كافر آثم لتكذيبه الله ورسوله "لانتفاء شرط الاجتهاد"، وهو كون المجتهد فيه نظريا "فهو إنكار(26/92)
للمعلوم ابتداء عنادا أو" منكر "غيرها" أي الضرورية "الأصلية" القطعية من الفقهية "ككون الإجماع حجة، والخبر" أي خبر الواحد حجة "والقياس" حجة فهو مخطئ "آثم" وقال القرافي، وقد خالف جماعة من الأئمة في مسائل ضعيفة المدارك كالإجماع السكوتي، والإجماع على الحروب ونحوهما فلا ينبغي تأثيمه؛ لأنها ليست قطعية كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمانين، أو يقول بنفي الخلاء وإثبات الملاء وغير ذلك "بخلاف" إنكار "حجية القرآن"، والسنة "فإنه" أي إنكارها "كفر و" منكر "غيرها" أي الضرورية "الفرعية" الاجتهادية من الفقهية "فالقطع لا إثم، وهو" أي، والقطع بنفي الإثم "مقيد بوجود شرط حله" أي الاجتهاد "من عدم كونه في مقابلة قاطع نص، أو إجماع ولا يعبأ" أي لا يعتد "بتأثيم بشر" المريسي "والأصم" أبي بكر وابن علية، والظاهرية، والإمامية المخطئ في الاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية بناء على أن ما من مسألة إلا، والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ويفسق على ما ذكر ابن برهان ولا يفسق على ما ذكر الآمدي وغيره عنهم، وإنما لا يعبأ به "لدلالة إجماع الصحابة على نفيه" أي تأثيم المخطئ فيها "إذ شاع اختلافهم" في المسائل الاجتهادية ومعلوم أن الحق ليس مع(26/93)
ص -386-…الجميع "ولم ينقل تأثيم" من بعضهم لبعض معين بأن يقول أحد الفريقين: الآخر آثم ولا مبهم بأن يقولوا: أحدنا آثم "ولو كان" أي وجد الإثم للمخطئ "لوقع" ذكره؛ لأنه أمر خطير من المهمات، ولو ذكر لنقل واشتهر ولما لم ينقل تأثيم علم قطعا عدم الإثم. "ولو استؤنس لهما" أي بشر والأصم "بقول ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا" ذكره في التقويم "أمكن" القدح في دعوى الإجماع على عدم التأثيم به لكن هذا إذا اتبع ابن عباس على مثله "لكنه" أي ابن عباس "لم يتبع على مثله إذ وقائع الخلاف أكثر من أن تحصى ولا تأثيم" من بعضهم لبعض فيها منقول عنهم، وقال "الجاحظ: لا إثم على مجتهد، ولو" كان الاجتهاد "في نفي الإسلام، وإن" كان نفيه اجتهادا "ممن ليس مسلما وتجري عليه" أي النافي في الدنيا "أحكام الكفار، وهو" أي نفي الإثم "مراد" عبد الله بن الحسن قاضي البصرة المعتزلي "العنبري بقوله: المجتهد في العقليات مصيب وإلا" لو لم يكن مراده هذا بل أراد وقوع معتقده في نفس الأمر "اجتمع النقيضان" في شيء واحد بتقدير اختلاف المجتهدين في القضايا العقلية كالقدم، والحدوث في اعتقاد قدم العالم وحدوثه "في نفس الأمر" فخرج عن المعقول؛ لأن النقيضين لا يكونان حقين في نفس الأمر هذا ما مشى عليه الآمدي وغيره ونفى السبكي أن يكون أراد نفي الإثم فإن ذلك مذهب الجاحظ بلا زيادة بل أراد أن ما يؤدي إليه اجتهاده فهو حكم الله في حقه سواء وافق ما في نفس الأمر أم لا ووافقه الكرماني على هذا وتعقبه التفتازاني بأن الكلام في العقليات التي لا دخل فيها الوضع الشارع ككون العالم قديما وكون الصانع ممكن الرؤية، أو ممتنعها ثم قال السبكي ثم قيل: إنه عمم في العقليات حتى يشمل أصول الديانات وإن اليهود، والنصارى، والمجوس على صواب، وهذا ما ذكر القاضي في التقريب أنه المشهور عنه، وقيل: أراد أصول الديانات التي يختلف فيها أهل(26/94)
القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال. وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود، والنصارى، والمجوس فإن في هذا الموضع أن الحق فيما يقوله أهل الإسلام حكاه صاحب القواطع ثم قال: وينبغي أن يكون التأويل على هذا الوجه؛ لأنا لا نظن أن أحدا من هذه الأمة لا يقطع بتضليل اليهود، والنصارى، والمجوس وأن قولهم باطل قطعا ولأن الدلائل القطعية قامت لأهل الإسلام في بطلان قول هؤلاء الفرق، والدلائل القطعية توجب الاعتقاد القطعي فلم يكن بد من القول بأنهم ضالون مخطئون قطعا، وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا فيه أهل الملل فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية، والمجسمة، والجهمية، والروافض، والخوارج وسائر من يخالف أهل السنة؛ لأنا نقول: إن الدلائل القطعية قد قامت لأهل السنة على ما يوافق عقائدهم فيثبت ما اعتقدوه قطعا، وإذا ثبت ما اعتقدوه قطعا حكم ببطلان ما يخالفه قطعا، وإذا حكم ببطلان ذلك قطعا ثبت أنهم ضلال ومبتدعة انتهى. ومشى على هذا التأويل لمذهب العنبري الكرماني والتفتازاني واستشهد السبكي له بما نقله صاحب القواطع عنه أيضا أنه حكي عنه أنه كان يقول في مثبتي القدر: هؤلاء قوم عظموا الله، وفي نافيه: هؤلاء نزهوا الله ولم ينقل عنه مثل ذلك في حق اليهود، والنصارى وأمثالهم ثم(26/95)
ص -387-…قال السبكي: وعلى هذا ينبغي حمل مذهب الجاحظ أيضا ولكن صرح القاضي عنه في التقريب بخلافه فانتفى ما في حاشية الأبهري وقول من زعم أن يكون الخلاف في الكافر الذي هو من أهل القبلة لاستبعاد الخلاف من المسلم في كون اليهودي مخطئا في نفيه رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس على ما ينبغي؛ لأن القول بأن اليهودي غير مخطئ في نفي رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس بأبعد من القول بأن المجسمة من أهل القبلة غير مخطئة في أن الله جسم وفي جهة انتهى.(26/96)
"لنا إجماع المسلمين قبل المخالف من الصحابة وغيرهم من لدنه عليه السلام وهلم عصرا تلو عصر على قتال الكفار وأنهم في النار بلا فرق بين مجتهد ومعاند مع علمهم بأن كفرهم ليس بعد ظهور حقية الإسلام لهم" جميعهم بل لبعضهم. ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم وأنهم من أهل النار، وهو ظاهر ثم هذا إن كان خلاف المخالف فيمن خالف ملة الإسلام جملة وكيف لا، والمخالف حينئذ خارج عن ملة الإسلام بهذه المخالفة لا يعتد بقوله لو كان قبلها مسلما فالإجماع قائم من هذه الأمة بأسرها لكن كما قال المصنف رحمه الله "والأول" أي الإجماع على قتالهم "لا يجري" دليلا على تأثيم المجتهد منهم "على" قواعد "الحنفية القائلين وجوبه" أي قتالهم "لكونهم حربا علينا لا لكفرهم، وإنما لهم" أي للحنفية في التأثيم "القطع بالعمومات" الدالة على ذلك "مثل: ويل للكافرين، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" وهذا القطع "إما من الصيغة" الموضوعة للعموم مثل الكافرين، والخاسرين "أو" من "الإجماعات" الكائنة من الصدر الأول قبل ظهور المخالف "على عدم التفصيل" في كفرهم، فإن كان خلاف المخالف مخصوصا بما اختلف فيه المسلمون من الأصول فهو محجوج بالإجماع قبله "قالوا" أي القائلون بنفي التأثيم عن المجتهد في نفي الإسلام، وإن كان ممن ليس مسلما "تكليفهم" أي الكفار "بنقيض مجتهدهم" تكليف "بما لا يطاق؛ لأنه" أي ما يؤدي إليه الاجتهاد "كيف"؛ لأنه حكم هو إدراك أن كذا واقع، أو ليس بواقع "لا فعل" اختياري للنفس ليكون مكلفا أن يأتي به على وجه كذا بعينه فهو مدفوع إليه بعد فعله الاختياري، وهو النظر فليس مقدورا له فلا يكلف به "فالمكلف به اجتهاده، وقد فعل، والجواب منع فعله" أي لا نسلم أنه فعل ما كلف به من الاجتهاد "إذ لا شك أن على هذا المطلوب" أي الإيمان "أدلة قطعية ظاهرة لو وقع النظر في موادها لزمها" أي الأدلة القطعية المطلوب "قطعا، فإذا لم(26/97)
يثبت" المطلوب عند مكلف "علم أنه" أي عدم ثبوته عنده "لعدم الشروط" في النظر "بالتقصير" أي بواسطته "مثلا من بلغه بأقصى فارس ظهور مدعي نبوة ادعى نسخ شريعتكم لزمه السفر إلى محل ظهور دعوته لينظر أتواتر وجوده ودعواه ثم أتواتر من صفاته وأحواله ما يوجب العلم بنبوته، فإذا اجتهد جامعا للشروط قطعنا من العادة أنه" أي هذا المجتهد "يلزمه" أي اجتهاده "علمه" أي المجتهد "به" أي بهذا المدعي "لفرض وضوح الأدلة، ولو اجتهد في مكانه فلم يجزم به لا يعذر؛ لأنه" أي اجتهاده "في غير محله" أي ظهور دعوته. "والحاصل أنه كلف بالنظر الصحيح ولم يفعله" على أن القول بأن الاعتقاد غير مقدور لكونه من الصفات، والكيفات النفسانية، والمقدور إنما هو الفعل الاختياري قال الأبهري: لا يتم؛ لأنه(26/98)
ص -388-…إن أريد بالفعل التأثير فلا نسلم أن غيره ليس مقدورا إذ العلم الكسبي مقدور مع أنه ليس تأثيرا بل من الصفات، وإن أريد به ما يحصل به عقيب القدرة الحادثة ويكون أثرا لها على مذهب من يقول: القدرة الحادثة مؤثرة فالاعتقاد من هذا القبيل؛ ولهذا قالت المعتزلة: العلم الكسبي يتولد من النظر وعرفوا التوليد بأن يوجب فعله فعلا آخر لفاعله كيف، ولو لم يكن الاعتقاد مقدورا لامتنع التكليف به.
"وأما الجواب" عن حجتهم كما في الشرح العضدي "بمنع كون نقيض اعتقادهم غير مقدور" لهم "إذ ذاك" أي غير المقدور لهم الذي لا يجوز التكليف به هو "الممتنع عادة كالطيران وحمل الجبل وما ذكروا من الامتناع" لتكليفهم بنقيض مجتهدهم هو امتناع بالغير أي "بشرط وصف الموضوع هكذا معتقد ذلك الكفر يمتنع اعتقاد غيره" أي الكفر "ما دام" الكفر "معتقده، والمكلف به الإسلام، وهو" أي الإسلام "مقدور" له ومعتاد حصوله من غيره ومثله لا يكون مستحيلا وخبر الجواب "لا يزيل الشغب" غير أن الأولى إثبات الفاء فيه؛ لأنه جواب أما، وإنما لا يزيله "إذ يقال التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك" أي الإيمان "فإذا لم يؤد" الاجتهاد "إليه" أي إلى ذلك "لو لزم" ذلك "كان" التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك تكليفا "بما لا يطاق".
مسألة: الجبائي وابنه ونسب إلى المعتزلة: لا حكم في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد سوى إيجابه بشرطه:(26/99)
"الجبائي" وابنه على ما في البديع "ونسب إلى المعتزلة لا حكم في المسألة الاجتهادية" أي التي لا قاطع فيها من نص، أو إجماع "قبل الاجتهاد سوى إيجابه" أي الاجتهاد فيها "بشرطه فما أدى" الاجتهاد "إليه" أنه حكم الله فيها "تعلق" بها وكان هو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده ونسبه إليهم فخر الإسلام وصاحب الميزان والروياني والماوردي وزاد، وهو قول أبي الحسن الأشعري ثم قال وقالت الأشعرية بخراسان: لا يصح هذا المذهب عن أبي الحسن قال: والمشهور عنه عند أهل العراق ما ذكرناه وذكره أيضا عنه وعن القاضي والغزالي والمزني وبعض متكلمي أهل الحديث غير واحد منهم صاحب الكشف فالحق عندهم متعدد، وإنما اختلفوا في أن تلك الحقوق متساوية في الحقيقة أم لا فطائفة منهم نعم وطائفة لا بل أحد تلك الحقوق أحق من غيره "ولا يمتنع تبعيته" أي الحكم المتعلق بها "للاجتهاد" لحدوثه أي الحكم "عندهم" أي المعتزلة، وإنما الشأن فيه على قول الأشعرية؛ لأن الحكم قديم عندهم فذكر التفتازاني أن المعنى أن لله فيها خطابا لكنه إنما يتعين وجوبا، أو حرمة، أو غيرهما بحسب ظن المجتهد فالتابع لظن المجتهد هو الخطاب المتعلق لا نفس الخطاب. وذكر الأبهري أن ليس المراد بالحكم هنا خطاب الله المختلف في قدمه وحدوثه بل ما يتأدى إليه الاجتهاد ويستلزمه ويجب عليه وعلى من يقلده العمل به "والباقلاني" والأشعري على ما ذكر السبكي "وطائفة" الحكم "الثابت" للواقعة "قبله" أي الاجتهاد "تعلق ما يتعين" ذلك الحكم "به" أي بالاجتهاد "وإذ علمه" عز وجل "محيط بما سيتعين" من الحكم(26/100)
ص -389-…"أمكن كون الثابت تعلق" حكم "معين" لها "في حق كل" من المجتهدين "وهو" أي الحكم المعين "ما علم أنه يقع عليه اجتهاده وإذ وجب الاجتهاد" للواقعة على المجتهدين واختلف ما يقع عليه اجتهادهم "تعدد الحكم بتعددهم، والمختار" أن حكم الواقعة المجتهد فيها "حكم معين، أوجب طلبه فمن أصابه" فهو "المصيب ومن لا" يصيبه فهو "المخطئ ونقل" هذا "عن" الأئمة "الأربعة" أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وذكر السبكي أن هذا هو الصحيح عنهم بل نقله الكرخي عن أصحابنا جميعا ولم يذكر القرافي عن مالك غيره وذكر السبكي أنه الذي حرره أصحاب الشافعي عنه وقال ابن السمعاني: ومن قال عنه غيره فقد أخطأ عليه "ثم المختار" كما صرح به أصحابنا وفي المحصول: وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى أبي حنيفة والشافعي "أن المخطئ مأجور" لما تقدم في بحث الخطإ من الصحيحين إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد "وعن طائفة لا أجر ولا إثم" ذكره في الكشف وغيره قال المصنف "ولعله" أي هذا الخلاف "لا يتحقق، فإن القول بأجره ليس على خطئه بل لامتثاله أمر الاجتهاد، وثبوت ثواب ممتثل الأمر معلوم من الدين لا يتأتى نفيه وإثم خطئه موضوع اتفاقا" بين أهل هذين القولين "فهو" أي فهذا القول الثاني هو القول "الأول" قلت: وقد حكى الشافعية فيما عليه الأجر للمخطئ اختلافا فإمام الحرمين الذي ذهب إليه الأئمة أنه لا يؤجر على الخطإ بل على قصده الصواب وقيل بل على اشتداده في تقصي النظر، فإن المخطئ يشتد أولا ثم يزول قال: والأول أقرب؛ لأن المخطئ قد يحيد في الأول عن سنن الصواب والرافعي ثم الأجر علام فيه وجهان عن أبي إسحاق المروزي أحدهما، وهو ظاهر النص واختيار المزني وأبي الطيب أنه على القصد إلى الصواب لا الاجتهاد؛ لأنه أفضى به إلى الخطإ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به انتهى، والنص المذكور قول المزني في كتاب ذم التقليد قال الشافعي في(26/101)
الحديث: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" لا يؤجر على الخطإ؛ لأن الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه قال أبو إسحاق: ويجوز أن يؤجر على قصده، وإن كان الفعل خطأ كما لو اشترى رقبة فأعتقها تقربا إلى الله ثم وجدها حرة الأصل بعد تلف ثمنها فهو مأجور، وإن لم يصح شراؤه ولم يقع عتقه لما أتى به من القصد إلى فك الرقبة، والتقرب إلى الله وشبهه القفال برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصده الإصابة، والثاني يؤجر على القصد، والاجتهاد جميعا لأنه بذل وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه وربما سلك الطريق في الابتداء ولم يتيسر له الإتمام قلت: على هذا أيضا غير واحد من الحنابلة منهم ابن عقيل لكن قال ابن الرفعة: وهذا مناسب إذا سلكه في الابتداء، فإن حاد عنه في الأول تعين الوجه الأول ونص القاضي أبو الطيب على أنه الأصح؛ لأن ذلك الاجتهاد خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق؛ لأنه لو وضعه في صفته ورتبه على ترتيبه لأفضى به إلى الحق فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه قلت: ولا يعرى عن نظر للمنصف هذا، وأورد عليه لو كان على القصد لوجب أن يكون له عشر أجر المصيب للحديث الصحيح من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة كاملة،(26/102)
ص -390-…فإن عملها كتبت له عشر حسنات وأجيب بالقول بالموجب لما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقض بينهما" فقلت: يا رسول الله كنت أولى قال: "وإن كان قلت ما أقضي" قال: "إنك إن أصبت كان لك عشر حسنات، وإن أخطأت كان لك حسنة واحدة" أخرجه النقاش في كتاب القضاة وصححه الحاكم في المستدرك لكن تعقب بأن مداره على فرج بن فضالة ضعفه الأكثرون، ومحمد بن عبد الله النهرواني وأبوه مجهولان قلت: ويمكن التقصي عن هذا الإيراد على قاعدة الشافعية بأن حديث الصحيحين مقدم على ذا؛ لأنه خاص وذا عام، والخاص مقدم على العام عندهم، وأما على قاعدة الحنفية فغير ظاهر إلا أنه لا إشكال بهذا عليهم حيث كان الأجر على نفس الاجتهاد كما هو ظاهر كلام المصنف والله سبحانه أعلم هذا وقال ابن دقيق العيد: لله تعالى في الواقعة حكمان أحدهما مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل، والأمارات، فإذا أصيب حصل أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد. والثاني: وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد وهذا متفق عليه فمن نظر إلى هذا الثاني ولم ينظر إلى الأول قال: حكم الله على كل أحد ما أدى إليه اجتهاده، ومن نظر إلى الأول قال المصيب واحد وكلا القولين حق من وجه دون وجه أما أحدهما فبالنظر إلى وجوب المصير إلى ما أدى إليه الاجتهاد، وأما الآخر فبالنظر إلى الحكم الذي في نفس الأمر المطلوب بالنظر انتهى ثم قد أورد كيف يثاب على الإصابة وهي ليست من صنعه وأجيب؛ لأنها من آثار صنعه وقيل: يجوز أن يكون الثواب الثاني لكونه سن سنة حسنة يقتدي به فيها من يتبعه من المقلدين قيل: فعلى هذا لا يؤجر المخطئ على اتباع المقلدين له بخلاف المصيب؛ لأن مقلد المصيب قد اهتدى به؛ لأنه صادف الهدى، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم "ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" بخلاف مقلد المخطئ، فإن المخطئ لم يحصل على شيء غاية الأمر سقط الحق عنه(26/103)
باعتبار ظنه. قلت: وفيه نظر يظهر مما يذكر في آخر هذه المسألة والله سبحانه أعلم.
"وهذان" القولان بناء "على أن عليه" أي حكم الله في الحادثة "دليلا ظنيا"، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين "وقيل" بل عليه دليل "قطعي، والمخطئ آثم"، وهو "قول بشر، والأصم" ذكره ابن الحاجب وغيره وزاد بعضهم وابن علية وبعضهم ابن أبي هريرة "وقيل: غير آثم لخفائه" أي الدليل القطعي وغموضه وعزاه في الكشف إلى الأصم وابن علية وأنه مال إليه أبو منصور الماتريدي وفي المحصول إلى الجمهور من قائلي: إن عليه دليلا قطعيا، وقيل: لا دلالة عليه ولا أمارة بل هو كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقا فمن وجده فله أجران ومن أخطأ فله أجر وعزى هذا في المحصول وغيره إلى طائفة من الفقهاء، والمتكلمين زاد القرافي ونقل عن الشافعي "ونقل الحنفية الخلاف أنه" أي المخطئ "مخطئ ابتداء وانتهاء" في اجتهاده وفيما أدى إليه اجتهاده، وهو اختيار أبي منصور الماتريدي. "أو" مصيب في ابتداء اجتهاده مخطئ "انتهاء" فيما طلبه، وهو قول الرستغفني وعزاه بعضهم إلى الشافعي "وهو" أي وهذا الأخير "المختار" عند فخر الإسلام وموافقيه(26/104)
ص -391-…وغير خاف أن نقل الحنفية مبتدأ خبره "لا يتحقق إذ الابتداء بالاجتهاد، وهو" أي المجتهد "به" أي بالاجتهاد "مؤتمر غير مخطئ به" أي بالاجتهاد "قطعا" وكيف، وهو آت بما كلف به ممتثل لما أمر به بقدر وسعه ويشهد له أيضا ما في التقويم، وقال علماؤنا: كان مخطئا للحق عند الله مصيبا للحق في حق عمله حتى إن عمله يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله تعالى بلغنا عن أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتي: وكل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد فبين أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله، وقال محمد بن الحسن في كتاب الطلاق: إذا تلاعن الزوجان ثلاثا ثلاثا ففرق القاضي بينهما نفذ قضاؤه، وقد أخطأ السنة فجعل قضاءه في حقه صوابا مع فتواه أنه مخطئ الحق عند الله تعالى انتهى وقد ظهر من هذا أن ما نقله الماوردي وغيره عن أبي يوسف كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق في واحد فمن أصابه فقد أصاب الحق ومن أخطأه فقد أخطأه انتهى غير مخالف في المعنى لما عن أبي حنيفة ومحمد والله سبحانه أعلم.(26/105)
"وإن حمل" كونه مخطئا ابتداء "على خطئه فيه" أي في الاجتهاد "لإخلاله ببعض شروط الصحة" للاجتهاد "فاتفاق" أي فكونه مخطئا اتفاق وقيل هو نزاع لفظي؛ لأن من قال المجتهد مخطئ انتهاء وابتداء أراد بالإصابة أن دليله لا بد وأن يكون موصولا إلى ما هو حق عند الله. ومن قال: مخطئ انتهاء لا ابتداء أراد بالإصابة ابتداء استفراغ الجهد في رعاية شروط الاجتهاد وفي الدليل الموصل إلى ما هو الحق "لنا" على المختار "لو كان الحكم" في الحادثة "ما" أدى اجتهاد المجتهد "إليه كان" المجتهد "بظنه" للحكم "يقطع بأنه" أي مظنونه "حكمه تعالى، والقطع" ثابت "بأن القطع" بأن مظنونه حكم الله تعالى "مشروط ببقاء ظنه" لذلك الحكم "والإجماع" أيضا ثابت "على جواز تغيره" أي ظنه بظن غيره. "و" على "وجوب الرجوع" عن الحكم الأول إلى ذلك الغير "وأنه" أي ذلك الحكم الأول "لم يزل عند ذلك القطع" به بل يتأكد أن حكم القطع به القطع بأن متعلقه هو الحكم في حق المجتهد ويجب عليه العمل به أيضا فيكون عالما بالشيء ما دام ظانا له ولا يقال: لا نسلم اجتماع الظن، والعلم فيه إذ الظن ينتفي بالعلم؛ لأنا نقول: انتفاء الظن ممنوع، فإنا نقطع ببقاء الظن "وإنكاره" أي بقاء الظن "بهت" أي مكابرة "فيجتمع العلم، والظن" للشيء الواحد "فيجتمع النقيضان تجويز النقيض" للحكم "وعدمه" أي تجويز نقيضه "وإلزام كونه" أي اجتماع النقيضين "مشترك الإلزام"، فإنه كما يلزم إصابة كل مجتهد يلزم إصابة واحد وخطأ الآخرين أيضا للعلم بالدليل القاطع، وهو الإجماع أن الحكم الذي أدى إليه الاجتهاد صوابا كان، أو خطأ يجب اتباعه على الوجه الذي أدى إليه من الوجوب وغيره، والعلم بوجوب متابعته مشروط ببقاء ظن المجتهد فيكون المجتهد عالما حال كونه ظانا فيلزم القطع وعدم القطع وهما نقيضان، وإذا كان مشترك الإلزام كان الدليل باطلا إذ به يعلم أن منشأ الفساد ليس خصوصية أحد المذهبين "منتف"؛ لأنه إنما يتم لو اتحد(26/106)
متعلق الظن، والعلم هنا لكنه لم يتحد هنا "لاختلاف محل الظن، وهو" أي محله "حكمه أي خطابه" تعالى المطلوب بالاجتهاد "و" محل "العلم، وهو" أي محله "حرمة(26/107)
ص -392-…مخالفته" أي الحكم المذكور؛ لأنه واجب الاتباع "بشرط بقاء ظنه" لوجوب اتباع الظن لا أن محله الحكم المطلوب بالاجتهاد "فهنا خطأ بأن الثابت في نفس الأمر، وهو المظنون وتحريم تركه" أي المظنون "ويلازمه" أي هذا المجموع "إيجاب الفتوى به" أي بذلك الحكم المظنون "وهما" أي تحريم تركه وإيجاب الفتوى به "متعلقة" أي الحكم المظنون "المعلوم" بالرفع صفة متعلقة فلم يتحد المحلان "بخلاف" قول "المصوبة، فإن الحكم في نفس الأمر ليس إلا ما تأدى إليه" الاجتهاد فيكون الخطاب متعلق العلم كما هو متعلق الظن فيتحد المحلان.(26/108)
"فإن قالوا" أي المصوبة هذا الجواب بعينه، وهو بيان تعدد متعلقي العلم، والظن يجري في دليلكم؛ لأنا "نقول متعلق الظن كونه" أي الدليل "دليلا" أي دالا على الحكم "و" متعلق "العلم ثبوت مدلوله" أي الدليل، وهو الحكم "شرعا بذلك الشرط" أي بقاء ظنه "فإذا زال" ظنه "رجع" عنه لزوال شرط ثبوته، وهو ظن الدلالة عليه؛ لأن الشيء كما ينتفي بانتفاء موجبه قد ينتفي بانتفاء شرطه "أجيب بأن كونه" أي الدليل "دليلا" أيضا "حكم شرعي، وإن كان غير عملي" أي ليس بخطاب تكليف بل هو حكم شرعي اعتقادي هو كون الدليل الذي لاح للمجتهد دليلا "فإذا ظنه" أي كون الدليل دليلا فقد "علمه" أي كون الدليل دليلا إذ لو لم يعلم كونه دليلا لجاز أن يكون الدليل عنده غيره فيجب عليه العمل بذلك الغير لا به فلا يحصل له الجزم بوجوب العمل بظنه ويكون مخطئا في اعتقاد أنه دليل فلا يكون كل مجتهد مصيبا إذ هذا مجتهد، وقد أخطأ في هذا الحكم، وهو اعتقاد أنه دليل "ويتم إلزامه" أي دليل المصوبة "اجتماع النقيضين"، وهو القطع بكون الدليل دليلا وعدم القطع به بخلاف المخطئة، فإن على مذهبهم لا يوجب ظن كون الدليل دليلا العلم به وجاز أن يكون في ظن الدليل دليلا مخطئا أيضا، ولا يلزم خلاف الفرض هذا وفي حاشية الأبهري وهنا نظر؛ لأن الشارع جعل مناط وجوب العمل بالدليل الظني ظن كونه دليلا لا نفس الدليل فيجوز أن يوجب مجرد الظن بكونه دليلا العلم بوجوب العمل به من غير أن يحصل الجزم بكونه دليلا، وتجويز كون غيره دليلا لا يوجب العمل بالغير ما لم يتعلق الظن بكون الغير دليلا فالمظنون ما دام مظنونا يجب العمل به، وإذا صار غيره مظنونا انتفى الظن المتعلق فلا يجب العمل به فلا فرق بين المذهبين في اندفاع التناقض على أن المراد بكون كل مجتهد مصيبا إصابته في الأحكام الفقهية لا في كل حكم فلا يتم الإلزام.(26/109)
وقال المصنف: "والجواب" من قبل المصوبة عن هذا الجواب "أن اللازم" من ظن الدليل "ثبوت العلم بالحكم ما لم يثبت الرجوع" عنه "وهو" أي ما يثبت الرجوع عنه "انفساخ هذا الحكم بظهور" الحكم "المرجوع" إليه "لا" ظهور "خطئه" أي الحكم الأول "وبطلانه عندهم" أي المصوبة "وتجويز انقضاء مدة الحكم" الأول "بعد هذا الوقت لا يقدح في القطع به حال هذا التجويز" لنقيض الحكم، وهو المرجوع إليه "فبطل الدليل" المذكور للمخطئة "عنهم" أي المصوبة. "وبهذا" الجواب "يندفع" عن المصوبة الدليل "القائم" من المخطئة "لو كان"(26/110)
ص -393-…ظن الحكم موجبا للعلم به على ما هو اللازم لتصويب كل مجتهد "امتنع الرجوع" عن الحكم "لاستلزامه" أي الرجوع عنه "ظن النقيض" للحكم "والعلم" به "ينفي احتماله" لظن نقيضه "فلم يكن العلم حين كان علما، أو لو كان" ظن الحكم موجبا لعلمه "جاز ظنه" أي النقيض "مع تذكر موجب العلم" بالحكم الذي نقيضه ذلك "وهو" أي موجب العلم "الظن الأول" وجواز الظن مع تذكر موجب العلم باطل، بيان الملازمة قوله: "لجواز الرجوع، أو لو كان" ظن الحكم موجبا للعلم به "امتنع ظنه" أي ظن نقيضه "مع تذكر الظن" للحكم الأول "لامتناع ظن نقيض ما علم مع تذكر الموجب" للعلم به لوجود دوام العلم بدوام ملاحظة موجبه "وإلا" لو لم يمتنع ظن نقيضه مع تذكر الموجب "لم يكن" ذلك الموجب "موجبا" هذا خلف "لكنه" أي ظن نقيض الأول "جائز بالرجوع" عن الأول إلى نقيضه ثم هذه الأوجه الثلاثة يمكن أن تجعل أدلة مستقلة من قبل المخطئة لإبطال مذهب المصوبة "وقد لا يكتفى بدعوى ضرورية البهت" لإمكان بقاء الظن "فتجعل" هذه الأوجه الثلاثة "دليل بقاء الظن عند القطع بمتعلقه" أي الظن "لا" دليلا "مستقلا وألزم على المختار"، وهو قول المخطئة "انتفاء كون الموجب موجبا في الأمارة" حيث قالوا: لا يمتنع زوال ظن الحكم إلى ظن نقيضه مع تذكر الأمارة التي عنها الظن مع أنها بمنزلة الموجب.(26/111)
"وجوابه" أي هذا الإلزام "أن بطلانه" أي كون الموجب موجبا الذي هو التالي إنما هو "في غيرها" أي الأمارة "أما هي" أي الأمارة "فإذن لا ربط عقلي" بين الظن، وما ينشأ عنه حتى يكون بمنزلة الموجب له كما في العلم الذي لا يكون إلا عن موجب "جاز انتفاء موجبها مع تذكرها" كما يزول ظن نزول المطر من الغيم الرطب الذي هو مظنة له إلى عدم نزوله مع وجوده بل ربما يحصل الظن بشيء ثم يحصل العلم بنقيضه كما إذا ظن شخص كون زيد في الدار لأمارات تدل عليه ثم رآه خارج الدار، وإذا لم يسلم للمخطئة ما تقدم دليلا لهم مع أن المطلوب حق لم يكن ذلك هو الدليل "بل الدليل إطلاق" الصحابة "الخطأ في الاجتهاد شائعا متكررا بلا نكير كعلي وزيد بن ثابت وغيرهما من مخطئة ابن عباس في ترك العول، وهو" أي ابن عباس "خطأهم" في القول به "فقال من شاء باهلته" أي لاعنته، والحقيقة التضرع في الدعاء باللعن "إن الله لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا" لكن قال شيخنا الحافظ: ولم أقف على إنكار علي وزيد صريحا وقدمنا في الإجماع في مسألة إذا أفتى بعضهم تخريج تخطئة ابن عباس معنى للقائلين بنحو هذا السياق بدون من شاء باهلته "وقول أبي بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي "فإن يكن صوابا فمن الله" إلى قوله: "وإن يكن خطأ فمني، ومن الشيطان" أراه ما خلا الولد، والوالد فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رواه البيهقي وقال ورويناه عن ابن عباس وابن أبي شيبة قال أبو بكر: رأيت في الكلالة رأيا، فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمن قبلي والشيطان، الكلالة ما عدا الوالد، والولد. "ومثله" أي هذا القول "قول ابن مسعود في المفوضة المتوفى عنها" زوجها "أجتهد إلى قوله فإن يكن خطأ فمن ابن أم عبد" ولم أقف عليه مخرجا ويغني عنه قوله "وعنه"(26/112)
ص -394-…أي ابن مسعود "مثل" قول "أبي بكر" الماضي ففي سنن أبي داود عنه، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، وقد تقدم الأثر بدون هذا في الكلام في جهالة الراوي "وقول علي لعمر في المجهضة" بضم الميم وكسر الهاء وهي المرأة التي أسقطت جنينا ميتا خوفا من عمر لما استحضرها وسأل عمر من حضره عن حكم ذلك فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا ثم سأل عليا: ماذا تقول فقال: "إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ يعني عثمان وعبد الرحمن بن عوف"، وإن لم يجتهدا فقد غشاك كذا في شرح العلامة ومشى عليه التفتازاني والذي في الشرح العضدي وعن علي في قصة المجهضة إن كان قد اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك انتهى، وهو المذكور في رواية البيهقي فأخرج عن الحسن البصري أن عمر أرسل إلى امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل يدعوها وكانت ترقى في درج ففزعت فألقت حملها فاستشار عمر الصحابة فيها فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدب ولا شيء عليك قال علي: إن اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك عليك الدية فقال عمر لعلي: عزمت عليك لتقسمنها على قومك قيل أراد قوم عمر وأضافهم إلى علي إكراما، وقد ظهر أن الضمير في إن كان وما بعده في العضدي لعبد الرحمن لا لعثمان كما ذكر الكرماني ثم هذا مذهب الشافعي خلافا لأصحابنا ولا حجة له في هذا على أصوله؛ لأنه منقطع، فإن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ثم الإجهاض إلقاء الولد قبل تمامه، والمعروف تخصيصه بالإبل قاله ابن سيده وغيره.(26/113)
"واستدل" للمختار بأوجه ضعيفة أحدها إن كان أحد قولي المجتهدين، أو كلاهما بلا دليل فباطل؛ لأن القول في الدين بلا دليل باطل، وإن كان قولهما بدليل فالجواب "إن تساوى دليلاهما تساقطا" وكان الحكم الوقف، أو التخيير فكانا في النفي، والإثبات مخطئين "وإلا" إن ترجح أحدهما "تعين الراجح" للصحة ويكون الآخر خطأ إذ لا يجوز العمل بالمرجوح "وأجيب أن ذلك" التقسيم إنما هو "بالنسبة إلى نفس الأمر لكن الأمارات ترجحها بالنسبة إلى المجتهد" إذ ليست أدلة في نفسها بل بالنسبة إلى نظر الناظر، فإنها أمور إضافية لا حقيقية "فكل" من القولين "راجح عند قائله وصواب" لرجحان أمارته عنده، ورجحانه عنده هو رجحانه في نفس الأمر؛ لأنه تابع لظن المجتهد ثانيها ما أشار إليه بقوله "وبأن المجتهد طالب" لمعرفة حكم الله في الواقعة "ويستحيل" طالب "بلا مطلوب" فإذن له مطلوب "فمن أخطأه" أي ذلك المطلوب فهو "المخطئ"، ومن وجده فهو المصيب "أجيب نعم" يستحيل طالب ولا مطلوب "فهو" أي المطلوب "غلبة ظنه" أي المجتهد "فيتعدد الصواب" لتعدد الغالب على الظنون للمجتهدين ثالثها ما أشار إليه بقوله: "وبالإجماع على شرع المناظرة" بين المجتهدين "وفائدتها ظهور الصواب" عن الخطإ وتصويب الجميع ينفي ذلك "وأجيب بمنع الحصر" أي حصر فائدة المناظرة في ذلك "لجوازها" أي فائدتها أن تكون "ترجيحا" أي بيان ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى فتعتمد الراجحة، أو تساويهما فيحكم بمقتضاه من وقف،(26/114)
ص -395-…أو غيره "وتمرينا" للنفس على المناظرة فتحصل ملكة الوقوف على المأخذ ورد الشبه وتشحيذ الخاطر فيكون ذلك عونا على الاجتهاد "ولا يخفى ضعفه" أي تمرينا، فإن من الظاهر أن شرع المناظرة ليس لهذا ففي ما قبله كفاية رابعها ما أشار إليه بقوله. "وبلزوم" المحال كحل الشيء وتحريمه معا في زمان واحد على تقدير التصويب مثل "حل المجتهدة كالحنفية وحرمتها لو قال بعلها المجتهد كالشافعية: أنت بائن ثم قال: راجعتك" إذ هي بالنظر إلى معتقده حل؛ لأن الكنايات عنده ليست بوائن فتجوز الرجعة وبالنظر إلى معتقدها حرام؛ لأن هذه الكناية عندها طلقة بائنة فلا تجوز الرجعة "وحلها لاثنين لو تزوجها مجتهد بلا ولي" لكونه يرى صحته "ثم مثله" أي ثم تزوجها مجتهد "به" أي بولي لكونه لا يرى صحة الأول "وأجيب" بأن هذا "مشترك الإلزام" إذ يرد على المخطئة "إذ لا خلاف في وجوب اتباع ظنه" أي المجتهد "فيجتمع النقيضان وجوب العمل بحلها له" أي المجتهد كالشافعي لكون مظنونه جواز الرجعة. "ووجوبه" أي العمل "بحرمتها عليه" لكون مظنونها عدم جواز الرجعة "وكذا وجوب العمل بحلها للأول ووجوبه" أي العمل بحلها "للثاني" في المسألة الثانية "فإن لم يكن الوجوبان متناقضين لتناقض متعلقيهما" نظرا إلى نفسيهما، فإنهما متماثلان "استلزم اجتماع متعلقيه" أي الوجوب واجتماع "المتناقضين"، فإن حلها لأحدهما يناقض حلها للآخر في زمان واحد "فإن أجبتم" أيها المخطئة بأنه "لا يمتنع" اجتماع النقيضين "بالنسبة إلى مجتهدين فكذلك المتنازع فيه"، وهو كون كل مجتهد مصيبا لا يمتنع اجتماع النقيضين فيه مثل الحل، والحرمة بالنسبة للمجتهدين "نعم يستلزم مثله مفسدة المنازعة" إذ يلزم على هذا في الأولى أن يكون للزوج طلب التمكين منها وللزوجة الامتناع منه وفي الثانية أن يكون لكل من الزوجين طلب التمكين، وهو محال. "وقد يفضي إلى التقاتل فيلزم فيه" أي في هذا حينئذ "رفعه إلى قاض يحكم برأيه(26/115)
فيلزم" حكمه "الآخر وإذن فالجواب الحق أن مثله مخصوص من تعلق الحكمين" فلا يتعلقان في مثل هذا "بل الثابت حرمتها إلى غاية الحكم؛ لأن لزوم المفسدة يمنع شرع ذلك" أي الحكمين مع إيجاب الارتفاع إلى القاضي؛ لأن تلك المفسدة قد تقع قبل الارتفاع إليه بأن أتاها أي المجوز قبل الارتفاع لشدة حاجة له إليها، أو أتاها كل منهما قبله، وذلك قريب في العادة فتقع مفسدة المنازعة، والتقاتل فوجب أن مثله، وهو ما يؤدي إلى ذلك أن يثبت فيه إذا وجد حكم واحد، وهو حرمتها إلى أن يحكم حاكم ذكره المصنف.
"وبما وضحناه" من أن مثل هذا مخصوص من تعلق الحكمين وأن الثابت حرمتها إلى غاية الحكم "اندفع ما أورد من أن القضاء لرفع النزاع إذا تنازعا في التمكين، والمنع لا لرفع تعلق الحل، والحرمة بواحد"، فإنه بعد الحكم لم يرتفع ذلك التعلق على تقدير تصويب كل مجتهد ذكره الخنجي "وقرره محقق" أي سكت عليه ولم يتعقبه التفتازاني "وهو" أي المورد "بعد اندفاعه بما ذكرنا" الآن من أنه مخصوص من تعلق الحكمين فليس الثابت إلا حرمتها إلى غاية الحكم الرافع للخلاف "غير صحيح في نفسه إذ لا مانع من رفع تعلق الحل، والحرمة بالقضاء مع كون كل منهما" أي الحل، والحرمة "صوابا؛ لأنه" أي رفعه بالقضاء "نسخ منه تعالى"(26/116)
ص -396-…لأحدهما "عند حكم القاضي" بالموافق للآخر "كالرجوع" عن أحد القولين لأحدهما "عندهم" أي المصوبة، وحول هذا حام الأبهري حيث قال: ولقائل أن يقول: بل حكم الحاكم يرفع تعلق الحل، والحرمة؛ لأن ظن المجتهد إنما يفيد تعلق الحكم به إذا لم يعارضه معارض وحكم الحاكم معارض له؛ لأن الشارع أوجب العمل به "قالوا" أي المصوبة "لو كان المصيب واحدا وجب النقيضان على المخطئ إن وجب حكم نفس الأمر عليه" أيضا؛ لأن المخطئ يجب عليه متابعة ظنه إجماعا، وهو محال "وإلا" إذا لم يجب عليه الحكم في نفس الأمر "وجب" عليه "العمل بالخطأ" الذي هو مظنونه "وحرم" عليه العمل "بالصواب" الذي هو الحكم في نفس الأمر "وهو" أي وجوب العمل بالخطأ وتحريمه بالصواب "محال أجيب باختيار الثاني" أي عدم وجوب حكم نفس الأمر ووجوب مظنونه "ومنع انتفاء التالي" أي وجوب العمل بالخطأ "للقطع به" أي بوجوب العمل بالخطأ فيما لو خفي على المجتهد "قاطع" من نص، أو إجماع فأدى اجتهاده إلى مخالفته "حيث تجب مخالفته" لوجوب اتباع الظن "والاتفاق أنه" أي خلاف القاطع "خطأ إذ الخلاف" في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد إنما هو "فيما لا قاطع" فيه من الأحكام الاجتهادية "أما ما فيه" دليل قاطع "فالاجتهاد على خلافه" أي القاطع "خطأ اتفاقا" ثم إن كان قد قصر في طلبه فهو آثم أيضا لتقصيره فيما كلف به من الطلب، وإن لم يكن قصر في طلبه بل إنما تعذر عليه الوصول إليه لبعد الراوي عنه، أو لإخفائه منه فلا إثم عليه.
"قالوا" ثانيا قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فجعل الاقتداء بكل منهم هدى مع اختلافهم "فلا خطأ" في اجتهاده "وإلا" لو كان أحدهم مخطئا في اجتهاده "ثبت الهدى في الخطإ، وهو" أي الخطأ "ضلال" لا هدى؛ لأنه عمل بغير حكم عينه الله تعالى.(26/117)
"أجيب بأنه" أي الخطأ "هدى من وجه"، وهو كونه مما أدى إليه الاجتهاد لإيجاب الشارع العمل به سواء كان مجتهدا، أو مقلدا "فيتناوله" الاهتداء في الحديث؛ لأن المراد به فيه متابعة ما يوصل إلى الصواب، والعمل بما أدى إليه الاجتهاد كذلك لما ذكرنا على أن الحديث له طرق بألفاظ مختلفة ولم يصح منها شيء على ما قالوا، وقد أشبعنا القول فيه في مسألة ولا ينعقد بأهل البيت من مسائل الإجماع تكميل ثم وجه القائلين باستواء الحقوق أن الدليل الدال على تعددها، وهو تكليف الكل بإصابة الحق لم يوجب التفاوت بينها فترجيح بعضها ترجيح بلا مرجح، ووجه القائلين بأن واحدا منها أحق، وهو القول بالأشبه أن استواءها يقطع تكليف المجتهد ببذل المجهود في طلب الحكم في الواقع لتحقق إصابة كل مجتهد ما هو الحق بمجرد اختيار ما غلب عليه ظنه بأدنى نظر؛ لأن الكل حيث كان حقا عند الله على السواء لم يكن في إتعاب النفس وأعمال الفكر في الطلب فائدة بل يختار كل مجتهد ما غلب على ظنه من غير امتحان كالمصلي في جوف الكعبة يختار أي جهة شاء من غير بذل المجهود، وذلك باطل؛ لأن فيه إسقاط درجة العلماء، والاجتهاد، والنظر في المآخذ، والمدارك؛(26/118)
ص -397-…لأن المقصود من النظر إظهار الصواب بإقامة الدليل عليه ودعوة المخالف إليه عند ظهوره بالدليل وإذا كان الكل على السواء في الحقية لم يتجه هذا ألا ترى أنه لا مناظرة في أصناف أنواع الكفارة ولا بين المسافر، والمقيم في أعداد ركعات صلاتهما لثبوت الحقية على السواء فيلزم اللزوم المذكور، وأجيب عن هذا من قبل الأولين بأنه إنما يلزم هذا أن لو كان ما ذهب إليه كل حقا عند الله تعالى قبل الاجتهاد، وليس كذلك بل الحكم بحقية ما أدى إليه اجتهاد كل تابع لاجتهاده وقبل الاجتهاد لا يمكن إصابة الحق بمجرد الاختيار فلا يثبت له ولاية الاختيار وبعد ما اجتهد وأدى اجتهاده إلى شيء مع سلامته عن المعارض لا يجوز له الاختيار أيضا؛ لأن ذلك هو الحق في حقه دون ما أدى إليه اجتهاد غيره فلم تسقط درجة العلماء، والاجتهاد ولا النظر في المآخذ على أن المقصود من المناظرة غير منحصر فيما ذكر كما تقدم والله سبحانه أعلم.(26/119)
"تتمة من المخطئة الحنفية" فقد "قسموا الخطأ" بالمعنى المشار إليه يعني ضد الصواب "وهو" أي الخطأ بهذا المعنى "الجهل المركب" وتقدم في مباحث النظر تعريفه. والكلام فيه "إلى ثلاثة" من الأقسام والذي يظهر أولا أن الخطأ بهذا المعنى أعم من الجهل المركب كما لا يخفى، وثانيا أنهم لم يصرحوا بتخصيص هذه الأقسام الآتية بالجهل المركب ولا يظهر انطباقه على جميعها وخصوصا القسم الثالث كما سيظهر. نعم قسموا الجهل إلى هذه الأقسام ويظهر أن مرادهم به ما هو أعم من كل من البسيط، والمركب كما أشار إليه في التلويح، وقد سبق ذكره في مباحث النظر حيث قال في بحث العوارض المكتسبة فمن الأولى أي التي تكون من المكلف الجهل، وهو عدم العلم عما من شأنه، فإن قارن اعتقاد النقيض فهو مركب وهو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به وإلا فبسيط، وهو المراد بعدم الشعور، وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة فهو في الغاية، وجهل هو دونه وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا غير أن تربيع الأقسام له بناء على ما مشى عليه صدر الشريعة وغيره موافقة لفخر الإسلام، وأما تثليثها كما مشى عليه المصنف فموافقة لصاحب المنار، والأمر في ذلك قريب.(26/120)
القسم "الأول جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة، وهو أربعة" أقسام "جهل الكافر بالذات" أي ذات واجب الوجود تعالى "والصفات" أي وبصفات كماله ونعوت جلاله من الصفات الذاتية وغيرها "لأنه" أي هذا الكافر "مكابر" أي مترفع عن الانقياد للحق واتباع الحجة إنكارا باللسان وإباء بالقلب "لوضوح دليله" أي وجود واجب الوجود بما له من صفات الكمال ونعوت الجلال "حسا من الحوادث المحيطة به" أي بالكافر أنفسا وآفاقا "وعقلا إذ لا يخلو الجسم عنها" أي عن الحوادث من الأعراض وغيرها "وما لا يخلو عنها" أي عن الحوادث "حادث بالضرورة لا بد له من موجد إذ لم يكن الوجود مقتضى ذاته ويستلزم" الحكم بوجود ذاته "الحكم بصفاته" العلى بالضرورة "كما عرف" في فن الكلام. "وكذا منكر الرسالة" من الله(26/121)
ص -398-…تعالى لأحد من رسله ولا سيما لخاتم النبيين محمد عليه من الله أفضل الصلاة، والتسليم إلى الناس أجمعين وتقدم تعريفها في شرح خطبة الكتاب "بعد ثبوت المعجزة" وهي أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى خارق للعادة على وفق دعوى مدعي الرسالة مقرون بها مع عدم المعارضة من المرسل إليهم أي بأن لا يظهر منهم مثل ذلك الخارق ولا سيما القرآن العظيم، فإنه المعجزة المستمرة على ممر السنين "و" ثبوت "تواتر ما يوجب النبوة" لمدعيها من أهليها بالإتيان بما يصدقه في ذلك وتقدمت الإشارة إلى تعريفها في شرح خطبة الكتاب أيضا لكونها ظاهرة محسوسة في زمانه ومنقولة بالتواتر فيما بعده حتى صارت بمنزلة المحسوس وخصوصا ذلك لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم "فلذا" أي فلكون منكرها كافرا مكابرا "لا تلزم مناظرته" لانتفاء ثمرتها حينئذ ثم لانتفاء العذر في حق المصر على الكفر وخصوصا بعد الاطلاع على محاسن الإسلام لم يبق المرتد عن الإسلام على ما صار إليه "بل إن لم يتب المرتد" بأن أصر على ما صار إليه "قتلناه" وخصوصا إن عرض الإسلام عليه ولم يرجع إليه. وفي التلويح، فإن قلت: الكافر المكابر قد يعرف الحق، وإنما ينكره تمردا واستكبارا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] ومثل هذا لا يكون جهلا قلت: من الكفار من لا يعرف الحق ومكابرته ترك النظر في الأدلة، والتأمل في الآيات، ومنهم من يعرف الحق وينكره مكابرة وعنادا قال الله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان، والقبول انتهى، وهذا يفيد أيضا ما ذكرنا من أن مورد التقسيم مطلق الجهل الشامل للبسيط، والمركب وأن من أقسامه ما يكون جهلا بسيطا، ومنها ما يكون جهلا مركبا "وكذا" الكافر مكابر "في حكم لا يقبل التبدل" عقلا ولا شرعا(26/122)
"كعبادة غيره تعالى" لوضوح الأدلة القطعية العقلية، والنقلية على انفراده تعالى باستحقاق العبادة فلا يكون لكفره حكم الصحة أصلا. "وأما تدينه" أي اعتقاد الكافر "في" حكم "غيره" أي غير ما لا يقبل التبدل، وهو ما يقبله كتحريم الخمر حال كونه "ذميا فالاتفاق على اعتباره" أي تدينه "دافعا للتعرض" له حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له "فلا يحد لشرب الخمر إجماعا" لتدينه له "ثم لم يضمن الشافعي متلفها" أي خمرة مثلها إن كان ذميا ولا قيمتها إن كان مسلما وبه قال أحمد للحديث المتفق عليه ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة حتف أنفها ولأنها ليست بمال متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يكون سببا للضمان وعقد الذمة خلف عن الإسلام فكل حكم يثبت به يثبت بعقدها، والحاصل أن عنده خطاب التحريم يتناول الكافر الذمي كالمسلم، وقد بلغه ذلك بإشاعة الخطاب في دار الإسلام، فإنكاره تعنت فلا يكون عذرا إلا أن الشرع أمر بأن لا يتعرض له بعقد الذمة فكل ما يرجع إلى ترك التعرض يثبت في حقه وما يرجع إلى التعرض لا يثبت في حقه "وضمنوه" أي الحنفية متلفها مثلها إن كان ذميا وقيمتها إن كان مسلما، وبه قال مالك "لا للتعدي" لديانة الكافر الذمي حلها "بل لبقاء التقوم" لها "في حقهم" أي أهل الذمة كما يشير إليه ما أخرج عبد الرزاق وأبو عبيد عن(26/123)
ص -399-…سعيد بن عفلة بلغ عمر أن عماله يأخذون الجزية من الخمر فناشدهم ثلاثا فقال له بلال: إنهم ليفعلون ذلك قال فلا تفعلوا ولوهم بيعها زاد أبو عبيد وخذوا أنتم من الثمن وأخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج بلفظ ولوا أربابها بيعها ثم خذوا الثمن منهم ومن أتلف مالا متقوما في حق المتلف عليه وجب أن يضمن كإتلافه الشيء المتفق على ماليته وتقومه بخلاف الميتة حتف أنفها، فإن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولها "ولأن الدفع عن النفس، والمال بذلك" أي بالتضمين؛ لأن المتلف إذا علم أنه إذا أتلف لا يؤاخذ بالضمان أقدم على الإتلاف، والدفع واجب "فهو" أي التضمين "من ضرورته" أي الدفع ثم إذا وجب الضمان وهي من المثليات فعلى المتلف الذمي مثلها؛ لأنه غير ممنوع من تملكها وتمليكها وعلى المسلم قيمتها؛ لأنه ممنوع من تمليكها، والقيمة غيرها. "ثم قال أبو حنيفة ومنع" التدين "تناول الخطاب إياهم" في أحكام الدنيا "مكرا بهم"، وهو الأخذ على غرة "واستدراجا لهم"، وهو تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج على وجه لا شعور للعبد به كالطبيب يترك مداواة المريض ولا يمنعه من التخليط عند يأسه من البرء لا تخفيفا عليه "فيما يحتمل التبدل كخطاب لم يشتهر فلو نكح مجوسي بنته، أو أخته صح في أحكام الدنيا فلا نفرق بينهما لا إن ترافعا إلينا" لانقيادهما لحكم الإسلام حينئذ فيثبت حكم الخطاب في حقهما كما أشار إليه قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] "لا" إن دفع "أحدهما" صاحبه إلينا "خلافا لهما" أي لأبي يوسف ومحمد "في" نكاح "المحارم"؛ لأنهما، وإن وافقا أبا حنيفة على أن ما لإباحته أصل قبل شريعتنا يبقى عليه في حقهم لقصر الدليل عنهم فيه باعتبار ديانتهم وذلك كالخمر، والخنزير فقالا: يقومان في حقهم لإباحتهما قبل شريعتنا فيبقيان على الإباحة، والتقوم، والضمان كقول أبي حنيفة فهما يخالفانه فيما ليس لإباحته أصل قبل شريعتنا(26/124)
فقالا: لا يصح في حقهم أيضا، ونكاح المحارم من هذا القبيل "لأنه" أي جواز نكاحهن "لم يكن حكما ثابتا" قبل الإسلام "ليبقى" النكاح عليه "لقصر الدليل" عنهم بالديانة بل حين وقع وقع باطلا، وإنما تركنا التعرض لهم لتدينهم ذلك وفاء بالذمة "وفي مرافعة أحدهما" صاحبه إلينا أيضا فقالا يفرق بينهما الزوال المانع من التفريق بانقياد أحدهما لحكم الإسلام قياسا على إسلامه، ومن ثمة لا يتوارثون بهذه الأنكحة إجماعا، ولو كانت صحيحة لتوارثوا بها. ووجه قول أبي حنيفة العمل بظاهر الأمر بتركهم وما يدينون استدراجا لهم كما أشار إليه المصنف، وإذا كان الفرض أنهم يدينون نكاح المحارم فيكون صحيحا على أنه قد كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام ثم إذ كان صحيحا فرفع أحدهما لا يرجحه على الآخر بل يعارضه فيبقى على الصحة بخلاف إسلام أحدهما، فإنه وإن عارض الباقي لتغير اعتقاده يترجح عليه لما تقدم في السكر مخرجا موقوفا ومرفوعا: "الإسلام يعلو ولا يعلى", ولو دخل" المجوسي "بها" أي بزوجته التي هي محرم منه "ثم أسلم حد قاذفهما"، والوجه قاذفه كما كانت عليه النسخة أولا وأحسن من هذا ثم أسلما حد قاذفهما عند أبي حنيفة أيضا لإحصانهما بناء على صحة النكاح عنده ولا يحد عندهما لعدم إحصانهما بناء على بطلان النكاح عندهما، فإن قيل: إذا كانت ديانتهم معتبرة في ترك(26/125)
ص -400-…التعرض فيجب أن يتركوا على ديانتهم في الربا قلنا: ليست ديانتهم مطلقا معتبرة في ترك التعرض لهم بل الديانة الصحيحة بالنسبة إليهم وليست ديانتهم تناول الربا صحيحة كما أشار إليه بقوله: "بخلاف الربا؛ لأنهم فسقوا به" أي بالربا "لتحريمه عليهم قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]". وروى القاسم بن سلام عن أبي المليح الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران وكتب لهم كتابا وساقه وفيه "ولا تأكلوا الربا فمن أكل منكم الربا فذمتي منه بريئة". "وأورد" على أبي حنيفة "أن نكاح المحارم كذلك" أي ليست ديانتهم به صحيحة فلا يكون نكاحهن صحيحا فلا يحد قاذفهما بعد إسلامهما إذا دخل بها في الكفر ولا تجب به النفقة "لأنه" أي جواز نكاحهن "نسخ بعد آدم في زمن نوح فيجب أن لا يصح كقولهما: فلا حد ولا نفقة إلا أن يقال بعد ثبوته" أي نسخ جواز نكاحهن "المراد من تدينهم ما اتفقوا عليه" أي ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم وردت به شريعتهم أم لم ترد حقا، كان أو باطلا ونكاح المحارم في زمن المجوس، وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم شائع فيما بينهم فلم تثبت حرمته عندهم فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود، فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابهم إياه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله وليس المراد بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما أشار إليه بقوله "بخلاف انفراد القليل بعدم حد الزنا ونحوه"، فإنه لا يكون دافعا أصلا "ولأن أقل ما يوجب الدليل ك {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]" الآية "الشبهة" لعدم الصحة في حقهم "فيدرأ الحد" بها إذا سلمنا صحة نكاح المحارم وكونها حكما أصليا "وفرق" أبو حنيفة "بين الميراث، والنفقة فلو ترك" المجوسي "بنتين إحداهما زوجته فالمال بينهما نصفان أي باعتبار الرد" مع فرضهما "لأنه" أي الميراث "صلة مبتدأة لا جزاء لدفع الهلاك بخلاف النفقة"، فإن(26/126)
وجوبها لدفع الهلاك عن المنفق عليه؛ لأن سببها عجز المنفق عليه، ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم، فإن دوامه بلا إنفاق يؤدي إلى الهلاك عادة، والمرأة محبوسة على الدوام لحق الزوج فتكون نفقتها عليه لدفع هلاكها فتكون ديانتها محبوسة لحقه على الدوام دافعة للهلاك لا موجبة عليه شيئا "فلو وجب إرث" البنت "الزوجة" بالزوجية "بديانتها" بالزوجية "كانت" ديانتها "ملزمة على" البنت "الأخرى" زيادة الميراث "والزيادة دافعة لا متعدية، وأورد أن الأخرى دانت به" أي بجواز نكاح أختها حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق أختها الزيادة في الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها ولا يلتفت إلى نزاعها فيها؛ لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة "فذهب بعضهم"، وهو في طريقة الدعوى معزو إلى كثير من المشايخ "إلى أنه قياس قوله" أي أبي حنيفة ينبغي "أن ترثا"، والوجه أن ترث بها أيضا أي بالزوجية، أو بهما أي بالزوجية والبنتية لصحة هذا النكاح عنده "وأن النفي" لإرثها بالزوجية "قولهما" أي أبي يوسف ومحمد "لعدم الصحة عندهما وقيل" أي وقال شيخ الإسلام خواهر زاده "بل" إنما لا ترث بالزوجية عنده "لأنه" أي نكاح المحارم "إنما تثبت صحته فيما سلف" أي في شريعة آدم عليه السلام "ولم يثبت كونه" أي نكاحهن "سببا للإرث" في دينه فلا يثبت سببا للميراث في اعتقادهم وديانتهم؛ لأنه لا عبرة(26/127)
ص -401-…لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ومشى عليه في المحيط. ومن هنا ما في التلويح المراد بالديانة المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة "والقاضي أبو زيد الدبوسي" قال: لا ترث البنت الزوجة بالنكاح "لفساده" أي النكاح "في حق" البنت "الأخرى؛ لأنها" أي الأخرى "إذا نازعتها" أي البنت الزوجة "عند القاضي" في استحقاقها الإرث بالزوجية "دل أنها لم تعتقده" أي جواز النكاح، واستحقاق الإرث مبني على النكاح الصحيح ولم يوجد في حقها، وهذا بخلاف الزوج إذا نازع عند القاضي بأن لا ينفق عليها بعد النكاح، فإنه لا يصح منه لما سنذكر قال المصنف "ومقتضاه" أي المذكور لأبي زيد "أنها" أي البنت الأخرى "لو سكتت" عن منازعة أختها الزوجة في استحقاقها الإرث بالزوجية "ورثت" البنت الزوجة بالزوجية أيضا "ولا يعرف عنه" أي عن أبي حنيفة "تفصيل" في أن البنت الزوجة لا تستحق بالزوجية إرثا ثم لما كان يرد على تعليل إيجاب النفقة لها على الزوج بأنه لدفع الهلاك عنها كما تقدم أن ما يكون ثبوته بطريق الدفع لا يكون بدون الحاجة، والزوجة هنا تستحق النفقة، وإن لم تكن محتاجة إليها لكونها غنية، وقد أجيب بأن الحاجة الدائمة بدوام حبس الزوج لا يردها المال المقدم للزوجة فتتحقق الحاجة لا محالة فيكون وجوبها لدفع الهلاك ولا يخفى ما فيه واختار بعضهم طريقا غير هذا فوافقه المصنف عليه وأشار إليه بقوله: "والحق في النفقة أن الزوج أخذ بديانته الصحة" لنكاح محرمه حيث نكحها؛ لأن بذلك التزم النفقة عليها وديانته حجة عليه "فلا يسقط حق غيره"، وهو النفقة على البنت الزوجة "لمنازعته بعده" أي النكاح في ذلك، وإنما يسقط عنه بإسقاط صاحب الحق ولم يوجد "بخلاف من ليس في نكاحهما" كذا وقع في عبارة فخر الإسلام ثم صدر الشريعة، والمراد من ليس مشاركا للبنت الزوجة وأبيها الزوج في النكاح له والأظهر من ليس في نكاحه "وهو البنت الأخرى" التي ليست بمنكوحة له(26/128)
لفوات الالتزام منها في هذا بخصوصه ابتداء وانتهاء هذا وفي المحيط وكل نكاح حرم لحرمة المحل كنكاح المحارم، والجمع بين خمس نسوة وبين الأختين لا يجوز عندهما واختلفوا على قول أبي حنيفة فمشايخ العراق يقع فاسدا؛ لأن ديانتهم لا تصح إذا لم تعتمد شرعا كديانتهم اجتماع رجلين على امرأة واحدة، وديانتهم نكاح المحارم لا تعتمد شرعا؛ لأن نكاحهن لم يكن مشروعا في شريعة آدم عليه السلام إلا لضرورة إقامة النسل حال عدم الأجانب وهم يدينون جوازه في حالة كثرة الأجانب فلا يمكن الحكم بالجواز بديانتهم، ومشايخنا يقع جائزا؛ لأن نكاحهن كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام حال عدم الأجانب ولم يثبت النسخ حال كثرة الأجانب فكان مشروعا في غير حالة الضرورة فقد اعتمدوا ديانتهم جواز ما كان مشروعا، وقد أنكروا النسخ فلم يثبت النسخ في حقهم؛ لأنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون ولهذا لم يثبت حرمة الخمر في حقهم انتهى، وهذا يفيد أن ليس في المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم يظهر أن الأوجه ما عليه العراقيون، ومنهم القدوري لا القول الآخر، وإن اختاره أبو زيد. وذكر صاحب الهداية أنه الصحيح؛ لأن الظاهر أن حل نكاح المحارم في الجملة في شريعة آدم عليه السلام لم يكن(26/129)
ص -402-…حكما أصليا بل كان حكما ضروريا لتحصيل النسل وإلا لم يحصل النسل أصلا، ومن ثمة لم يحل في شرعه للرجل أخته التي في بطنه وحلت له أخته من بطن آخر، والظاهر أنه لاندفاع الضرورة بالبعدى عن القربى وإلا لحلت القربى كالبعدى ثم لما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل تلك الأخوات أيضا على أن المحكي في عامة كتب أصول الحنفية أن الكفار مخاطبون بالمعاملات في أحكام الدنيا بالاتفاق ولا خفاء في أن النكاح من المعاملات فيلزم كما قال شيخنا المصنف رحمه الله: اتفاق الثلاثة على أنهم مخاطبون بأحكام النكاح غير أن حكم الخطاب إنما يثبت في حق المكلف ببلوغه إليه، والشهرة تنزل منزلته وهي متحققة في حق أهل الذمة دون أهل الحرب فمقتضى النظر التفصيل وفي البديع الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا هو الصحيح من الأقوال، وعلى طريق وجوب الضمان وجهان أحدهما أن الخمر، وإن لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في الثاني بالتخلل، والتخليل، ووجوب ضمان الغصب والإتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة ولا نقف على ذلك للحال ألا ترى أن المهر، والجحش وما لا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والإتلاف، والثاني أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير حسا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمرنا أن نتركهم وما يدينون، وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك ونفي الضمان بالغصب، والإتلاف يفضي إلى التعرض؛ لأن السفيه إذا علم أنه إذا غصب، أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على ذلك، وفي ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى انتهى. وهذا أيضا يفيد فساد نكاح المحارم والله سبحانه أعلم فهذا هو الجهل الأول من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.(26/130)
"وجهل المبتدع كالمعتزلة" وموافقيهم "مانعي ثبوت الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والكلام وغيرها لله تعالى "زائدة" على الذات على اختلاف عباراتهم في التعبير عن ذلك فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه إلى غير ذلك كما ذكرناه في فصل شرائط الراوي "و" ثبوت "عذاب القبر"، وإنكاره معزو في المواقف إلى ضرار بن عمر وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة وفي شرح المقاصد اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم من حكى ذلك عن ضرار بن عمرو، وإنما نسب إلى المعتزلة وهم برآء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق. "و" ثبوت "الشفاعة" للرسل، والأخيار وخصوصا سيد ولد آدم النبي المختار في أهل الكبائر في العرصات وبعد دخول النار "و" ثبوت "خروج مرتكب الكبيرة" إذا مات بلا توبة من النار "و" ثبوت جواز "الرؤية" لله تعالى بمعنى الانكشاف التام بالبصر لمن شاء الله تعالى ذلك له فضلا عن وجوبها للمؤمنين في الدار الآخرة "و" مثل "الشبهة لمثبتيها" أي الصفات المذكورة لله تعالى زائدة على الذات لكن "على ما يفضي إلى التشبيه" بالمخلوق سبحانه(26/131)
ص -403-…وتعالى عما يصفون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "لا يصلح عذرا لوضوح الأدلة من الكتاب، والسنة الصحيحة" على ثبوت الصفات المشار إليها على الوجه المنزه عن التشبيه وكذا ما بعدها كما هو مذكور في علم الكلام وغيره "لكن لا يكفر" المبتدع في ذلك "إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل" في الجملة كما هو مسطور في موضعه "وللنهي عن تكفير أهل القبلة" أي ولما روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب" لكن تعقب بأن عن أحمد أنه موضوع لا أصل له كيف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" وأجيب بأن في صحته عن أحمد نظرا، فإن معناه في الصحيحين، وهو ما عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر، وإن شاء عذبه" وروى البيهقي بسند صحيح أن جابر بن عبد الله سئل هل تسمون الذنوب كفرا، أو شركا، أو نفاقا قال معاذ الله: ولكنا نقول مؤمنين مذنبين انتهى. قلت: والأولى صحته عن أحمد بما روى أبو داود وسكت عليه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل"، فإنه هو وحديث "من ترك الصلاة فقد كفر" مؤول بترك جحود أو مقارنة كفر، ولو كان تركها كفرا لما أمر الشارع بقضائها بدون تجديد إيمان "وعنه عليه السلام "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان" رواه النسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي إلا أنهم قالوا بدل فاشهدوا إلخ "فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" كما قدمناه في فصل شروط الراوي(26/132)
وعنه صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] " رواه ابن ماجه، والترمذي وفي لفظ للترمذي بعباد وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه إلا أنهما قالا "فاشهدوا عليه بالإيمان" قال ابن حبان: أي اشهدوا له وقال الحاكم: لم يختلفوا في صحة هذه الترجمة وصدق رواتها "وجمع بينه" أي هذا الحديث "وبين" حديث "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة و ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وللترمذي ورواية لأبي داود ملة مكان " فرقة " ولأحمد ورواية لأبي داود "ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة". وللترمذي "كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا: "من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي" وقال حديث حسن صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمر واستدركه عليه الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا ولكن مقرونا بغيره، وللحديث طرق كثيرة من رواية كثير من الصحابة بألفاظ متقاربة "أن التي في الجنة المتبعون في العقائد، والخصال وغيرهم يعذبون، والعاقبة الجنة وعدوهم من أهل الكبائر"، وقد ذيل القاضي عضد الدين(26/133)
ص -404-…المواقف بذكرهم على سبيل التفصيل وهذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم حيث وقع ما أخبر به ثم قال عطفا على قوله للنهي "وللإجماع على قبول شهادتهم" أي المبتدعة "على غيرهم ولا شهادة لكافر على مسلم" لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] "وعدمه" أي قبول الشهادة "في الخطابية" من الرافضة وتقدم الكلام فيهم في فصل شرائط الراوي "ليس له" أي لكفرهم بل لتدينهم الكذب فيها لمن كان على رأيهم وحلف أنه محق "وإذ كانوا" أي المبتدعة "كذلك" أي غير كفار "وجب علينا مناظرتهم" لإزالة شبهتهم وإظهار الصواب فيما نحن عليه لهم "وأورد استباحة المعصية كفر" وكثير منهم إن لم يكن عامتهم يستبيحها فيكونون كفارا "وأجيب" بأن عد فعلها مباحا إنما يكون كفرا "إذا كان عن مكابرة وعدم دليل بخلاف ما" يكون "عن دليل شرعي"، فإنه لا يكون كفرا "والمبتدع مخطئ في تمسكه" بما ليس عند التحقيق بدليل لمطلوبه "لا مكابر" لمقتضى الدليل "والله تعالى أعلم بسرائر عباده".(26/134)
هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته، وقد يعبر عنه بالمذنب من أهل القبلة كما أشار إليه المصنف سابقا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شيء من موجبات الكفر قطعا من اعتقاد راجع إلى وجود إله غير الله تعالى، أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس، أو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو ذمه، أو استخفافه، ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقدم الكلام ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيا بقوله إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام من حدوث العالم وحشر الأجساد ونفي العلم بالجزئيات، وإن كان من أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات وكذا المتلبس بشيء من موجبات الكفر ينبغي أن يكون كافرا بلا خلاف وحينئذ ينبغي تكفير الخطابية لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي، وقد ظهر من هذا أن عدم تكفير أهل القبلة بذنب ليس على عمومه إلا أن يحمل الذنب على ما ليس بكفر فيخرج المكفر به كما أشار إليه السبكي غير أن قوله: غير أني أقول إن الإنسان ما دام يعتقد الشهادتين فتكفيره صعب وما يعرض في قلبه من بدعة إن لم تكن مضادة لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة له، فإذا فرضت غفلته عنها واعتقاده الشهادتين مستمر فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام، وأكثر الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم إلا أن يقال: ما به كفر لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل نظر. وجميع هذه العقائد التي يكفر بها أهل القبلة قد لا يعتقدها صاحبها إلا حين بحثه فيها لشبهة تعرض له، أو مجادلة، أو غير ذلك وفي أكثر الأوقات يغفل عنها، وهو ذاكر للشهادتين لا سيما عند الموت انتهى فيه ما فيه ثم عدم تكفير أهل القبلة بذنب نص عليه أبو حنيفة في الفقه الأكبر فقال: ولا نكفر أحدا بذنب(26/135)
من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها وجعله من شعار أهل الجماعة على ما في منتقى الحاكم الشهيد عن إبراهيم بن رستم عن أبي عصمة(26/136)
ص -405-…نوح بن أبي مريم المروزي قال سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة فقال: من فضل أبا بكر وعمر وأحب عليا وعثمان ولم يحرم نبيذ الجر ولم يكفر واحدا بذنب ورأى المسح على الخفين وآمن بالقدر خيره وشره من الله ولم ينطق في الله بشيء قالوا: ونقل عن الشافعي ما يدل عليه حيث قال: لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية، فإنهم يعتقدون حل الكذب، والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرهم كما سلف في فصل شرائط الراوي وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات وقال: اختلفنا في عبارة، والمشار إليه واحد قلت بل قال في أول كتاب مقالات الإسلاميين واختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم انتهى فلا جرم أن قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما: أظهر مذهبي الأشعري ترك تكفير المخطئ في الأصول. وقال الإمام أيضا ومعظم الأصحاب على ترك التكفير وقالوا: إنما يكفر من جهل وجود الرب، أو علم وجوده ولكن فعل فعلا، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر ومن قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها وذكر غيره أن على هذا جمهور الفقهاء، والمتكلمين ويترتب على عدم التكفير أنه لا يقطع بخلوده في النار وهل يقطع بدخوله فيها حكى القاضي حسين فيه وجهين وقال المتولي: ظاهر المذهب أنه لا يقطع وعليه يدل كلام الشافعي ثم قد ظهر أنه لا إجماع على قبول شهادتهم، ومن ثمة في الاختيار ولا تقبل شهادة المجسمة؛ لأنهم كفرة ويوافقه ما في المواقف وقد كفر المجسمة مخالفوهم قال الشارحون من أصحابنا والمعتزلة وقال شيخنا المصنف رحمه الله في المسايرة، وهو أظهر، فإن إطلاق الجسم مختارا بعد علمه بما فيه من اقتضاء النقص استخفاف(26/137)
انتهى. نعم من أهل السنة، والجماعة من لم يكفرهم بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب لصاحبه فمن يلزمه الكفر ولم يقل به فليس بكافر، وعليه مشى الإمام الرازي والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم كيف يكون في قبول شهادة أهل الأهواء إجماع ومالك لا يقبلها، ولو لم يكفروا بأهوائهم بناء على أنهم فسقة وتابعه أبو حامد من الشافعية اللهم إلا أن يراد إجماع من قبله، وهو يحتاج إلى ثبت فيه والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثاني من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.
"وجهل الباغي، وهو" المسلم "الخارج على الإمام الحق" ظانا أنه على الحق، والإمام على الباطل متمسكا بذلك "بتأويل فاسد"، فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص، وهو لا يصلح عذرا لمخالفته التأويل الواضح، فإن الدلائل على كون الإمام الحق على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقهم ظاهرة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا قالوا: وهذان الجهلان دون الجهل الأول. وأما قول المصنف جهل الباغي "دون جهل المبتدعة" فلم أقف على تصريحهم به نعم "لم يكفره" أي الباغي "أحد إلا أن يضم" الباغي "أمرا آخر" يكفر(26/138)
ص -406-…به إلى البغي "وقال علي: رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا" فأطلق عليهم أخوة المسلمين وظاهر ذلك لا يقال للكافر "فنناظره" أي الباغي "لكشف شبهته" لعله يرجع إلى طاعة الإمام الحق بلا قتال "بعث علي ابن عباس لذلك" كما أخرجه بطوله النسائي وغيره. "فإن رجع" الباغي إلى طاعة الإمام الحق "بالتي هي أحسن، وإلا وجب جهاده" لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن البغي معصية ومنكر، والنهي عن المنكر فرض وذلك بالقتال حينئذ، وقيل: إنما تجب محاربتهم إذا تجمعوا وعزموا على القتال؛ لأنها إنما تجب بطريق الدفع ثم ظاهر هذا السوق يفيد أن هذه الدعوة لهم قبل القتال واجبة، وأن القتال إنما يجب بعدها وليس كذلك بل القتال واجب قبلها، وأن تقديمها عليه أحسن كما في المبسوط، أو مستحب كما في الاختيار؛ لأنهم علموا لماذا يقاتلون فصاروا كالمرتدين "وما لم يصر له" أي الباغي "منعة" بالتحريك، وقد يسكن أي قوة يمنع بها من قصد من الأعداء "فيجري عليه" أي الباغي "الحكم المعروف" في قصاص النفوس وغرامات الأموال وغيرها بين المسلمين لبقاء ولاية الإلزام في حقه كما في حقهم "فيقتل" الباغي "بالقتل" العمد للعدوان "ويحرم به" أي بالقتل المذكور لمورثه الإرث منه "ومعها" أي المنعة "لا" يجري عليه الحكم المعروف "لقصور الدليل عنه" أي الباغي "لسقوط إلزامه" بسبب تأويله الذي استند إليه لدفع الخطاب عنه "والعجز عن إلزامه" حسا وحقيقة فيما يحتمل السقوط، وهو حق العبد بواسطة المنعة "فوجب العمل بتأويله" الفاسد فيه بخلاف ما لا يحتمل السقوط بها، وهو الإثم، فإن الباغي يأثم، وإن كان له منعة؛ لأنها لا تظهر في حق الشارع ولا تسقط حقوقه؛ لأن الخروج على الله حرام أبدا، والجزاء واجب لله تعالى أبدا إلا أن(26/139)
يعفو "ولا نضمن ما أتلفنا من نفس ومال" وهذا ظاهر لا خلاف فيه، وقد كان الأولى فلا يضمن الباغي ما أتلف من نفس ومال في هذه الحالة بعد أخذه، أو توبته كما في الحربي بعد الإسلام تفريعا على وجوب العمل بتأويله. فإن كان المال قائما في يده ورده على صاحبه؛ لأنه لا يملكه بالأخذ كما لا يملك ماله، والتسوية بين الفئتين المتقابلتين في الدين في الأحكام أصل ثم في المبسوط عن محمد قال: أفتيهم بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس، والأموال ولا ألزمهم بذلك في الحكم قال شمس الأئمة: وهذا صحيح، فإنهم كانوا معتقدين الإسلام، وقد ظهر لهم خطؤهم إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة فيفتون به ولا يفتى أهل العدل بمثله؛ لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر ثم الحاصل أن نفي ضمان الباغي منوط بالمنعة مع التأويل فلو تجردت عنه كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك، ولو انفرد التأويل عنها بأن انفرد واحد، أو اثنان فقتلوا وأخذوا المال عن تأويل ضمنوا إذا تابوا، أو قدر عليهم لإجماع الصحابة على إناطة نفي الضمان بالمنعة. والتأويل كما يفيده ما في مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت(26/140)
ص -407-…بالحرورية فتزوجت ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة قال فكتب إليه: أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ولا قصاصا في دم استحلوه بتأويل القرآن ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه، وإني أرى أن ترد على زوجها وأن يحد من افترى عليها وبقاء ما عدا المجمع عليه على حكمه المعروف له "ويدفف على جرحاهم" في المغرب دفف على الجريح بالدال، والذال أسرع قتله وفي كلام محمد عبارة عن إتمام القتل ويتبع موليهم، وهذا إذا كان لهم فئة أما إذا لم يكن لهم فئة فلا يذفف على جريحهم ولا يتبع موليهم كما في المبسوط وغيره وكان الواجب ذكر القيد المذكور ثم ظاهر الكتاب كغيره وجوب التدفيف، وقد صرح به فخر الإسلام لكن المذكور في المبسوط لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت لهم فئة باقية، وقال الشافعي وأحمد: لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر لما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال يوم الجمل: لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح وأجيب بأن القتل لدفع الشر، وإذا كان لهما فئة لم يخرج عن كونه دفعا؛ لأنهما يتحيزان إلى الفئة ويعود شرهما كما كان وأصحاب الجمل لم يكن لهم فئة أخرى سواهم "ويرث" العادل "مورثه" الباغي "إذا قتله" اتفاقا؛ لأنه مأمور بقتله فلا يحرم الميراث، وقد كان الأولى التصريح بالعادل. "وكذا عكسه" أي يرث الباغي مورثه العادل إذا قتله، وقال: كنت على الحق وأنا الآن عليه موافقة "لأبي حنيفة ومحمد" وكأنه لم يذكر هذا القيد؛ لأن الظاهر من حال إرادته، ولو قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه عندهما وقال أبو يوسف والشافعي: لا يرثه في الوجهين؛ لأن إلحاق التأويل الفاسد بالصحيح بقول الصحابة كما في دفع الضمان، والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق فإلحاقه به بلا دليل وأبو حنيفة(26/141)
ومحمد يقولان: المتحقق من الصحابة جعل تلك المنعة والاعتقاد دافعا ما لولاه لثبت لثبوت أسباب الثبوت ألا ترى أنه لولا تلك المنعة والاعتقاد لثبت الضمان لثبوت سببه من القتل العمد العدوان وإتلاف المال المعصوم فيتناول ما نحن فيه، فإن القرابة التي هي سبب استحقاق الميراث قائمة، والقتل بغير حق مانع وجد عن اعتقاد الحقية مع المنعة فمنع مقتضاه من المنع فعمل السبب عمله من إثبات الميراث "ولا يملك ماله" أي الباغي "بوحدة الدار" أي بسبب اتحاد دار العادل، والباغي؛ لأنهما في دار الإسلام إذ تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار، وهو منتف ثم "على هذا" أي عدم تملك مال الباغي "اتفق علي، والصحابة رضي الله عنهم" فقد أخرج ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال وزاد في رواية ولم يأخذ من متاعهم شيئا وأخرجه عبد الرزاق وزاد فيه وكان علي لا يأخذ مالا لمقتول ويقول: من عرف شيئا فليأخذه إلى غير ذلك ولم ينقل عن غيره من الصحابة مخالفته فكان اتفاقا والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثالث من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.(26/142)
ص -408-…"وجهل من عارض مجتهده الكتاب كحل متروك التسمية عمدا و" جواز "القضاء بشاهد ويمين" من المدعي "مع {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}" الآية قال الفاضل القاآني وفيه نظر؛ لأن المخالفة إنما تتحقق بينهما أن لو لم يكن قوله تعالى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] كناية عما لم يذبحه موحد، وهو ممنوع سلمنا أنه محمول على ظاهره ولكنه يحتمل أن يكون الذكر القلبي كافيا فلم قلت: إنه ليس بكاف فلا بد له من دليل انتهى وأجيب بمنع إرادة هذا الاحتمال هنا؛ لأنه تعالى قرن الذكر بكلمة على، وهو يفيد إرادته باللسان؛ لأنه يقال: ذكر عليه وسمي عليه بلسانه، ولا يقال بقلبه قلت على أنه أيضا لم يرد القائلون بأن المراد بالذكر الذكر القلبي حقيقته، وهو حضور المعنى للنفس كما هو نقيض النسيان، وهو ذهاب المعنى من النفس للزوم عدم جواز أكل ما نسي ذكر الله عليه حينئذ بل أريد به ما أقيم مقامه، وهو الملة ليدخل النسيان أيضا وأيضا النهي يقتضي تصور المنهي عنه وبحمل الذكر على الذكر القلبي ثم إقامة الملة مقامه لا يكون المنهي عنه متصورا فتعين إرادة الذكر اللساني ليكون المنهي عنه متصورا، وفي غاية البيان ولا يقال: المراد ذبيحة المشرك، والمجوسي فيتصور المنهي عنه؛ لأنا نقول: حرمة ذبائحهم لا باعتبار ترك التسمية، فإن المشرك لا تحل ذبيحته، وإن سمى الله تعالى انتهى. هذا وكون ما لم يذكر اسم الله عليه كناية عما لم يذبحه موحد سواء كان ميتة، أو ذكر غير اسم الله عليه، وقد يؤيد بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والفسق ما أهل لغير الله به تأويل مخالف للظاهر محوج إلى معين له، والشأن في ذلك نعم ظاهر الآية حرمة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الحيوان وغيره لكن سوق الكلام وسبب النزول وإجماع من عدا عطاء دل على التخصيص باللحم، والشحم ونحوهما من أعضاء الحيوان وأجزائه ثم هو يعم(26/143)
متروك التسمية مطلقا كما ذهب إليه داود وبشر لكن خرج متروك التسمية نسيانا إما بالإجماع على ما حكاه ابن جرير وغيره على ما فيه من بحث؛ لأنه إن أريد الصدر الأول فيخدشه ما أخرج الشيخ أبو بكر الرازي أن قصابا ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها فأمر ابن عمر غلاما له أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري يقول له: إن ابن عمر يقول لك هذه شاة لم تذك فلا تشتر منها شيئا وأخرج عن علي وابن عباس وغيرهما قالوا: لا بأس بأكل ما نسي أن يسمى عليه عند الذبح وقالوا: إنما هي على الملة، وإن أريد من بعدهم فصحيح إذ لم يصح عن مالك ولا أحمد عدم الأكل في النسيان ولم يعتبر قول داود وبشر في الإجماع على مثله. وإما؛ لأن الناسي ليس بتارك لذكر اسم الله في المعنى على ما قالوا لما عن أبي هريرة سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله قال: اسم الله على كل مسلم" وفي لفظ "على فم كل مسلم" أخرجه الدارقطني وابن عدي لكن فيه مروان بن سالم متروك لكن يشده ما قدمناه في بحث فساد الاعتبار من مراسيل أبي داود ثم ظاهرهما أنه لا فرق بين الناسي، والعامد وبه تتضاءل التفرقة بينهما بعذر الناسي؛ لأن النسيان من قبل من له الحق فأقام الشارع الملة مقام التسمية فجعل عفوا دافعا للعجز وعدم عذر العامد؛ لأن الترك من قبله فلم يكن في معناه، فإن هذا إبطال النص بالمعنى، وهو غير جائز على أنه يرد على هذا أيضا(26/144)
ص -409-…بالنسبة إلى أصل الدليل بعد التنزل نحو هذا، فإن هذا خبر واحد، وهو لا يجوز تخصيص الكتاب به ابتداء فالأول أشبه بعد أن يكون المراد إجماع من يعتد بإجماعه بعد الصدر الأول وحينئذ لا يلحق به العامد؛ لأن الظاهر أن المعقول من حكم الإجماع بالإجزاء إنما هو دفع الحرج، وهو في الناسي لا في العامد ثم هذا في ذبيحة المسلم، وأما ذبيحة الكتابي، فإن ترك التسمية عليها عمدا ففي الدراية لم تحل ذبيحته بإجماع الفقهاء وأهل العلم. وصورة متروك التسمية عمدا أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها أما لو تركها من لا يعلم اشتراطها فهو في حكم الناسي ذكره في الحقائق ومع قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية قالوا: لأن الله تعالى بين المعتاد بين الناس من الشهادة، وهو شهادة رجلين ثم انتقل إلى غيره، وهو شهادة النساء مبالغة في البيان مع أن حضورهن في مجالس الحكم غير معتاد بل هو حرام بلا ضرورة؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت فلو كان يمين المدعي مع شاهد حجة لانتقل إليه لكونه أيسر وجودا ولم ينتقل إلى ما هو غير معتاد إذ لم يتحقق ضرورة مبيحة لحضورهن لإمكان وصوله إلى حقه بشاهد ويمين فكان النص من هذا الوجه بطريق الإشارة دالا على أن الشاهد مع اليمين ليس بحجة، والنص وإن كان في التحمل لكن فائدة التحمل الأداء فهو يفضي إليه وأيضا أول الآية، وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أمر بفعل الاستشهاد، وهو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل: كلوا، فإنه مجمل في حق تناول المأكولات فيكون ما بعده تفسيرا لذلك المجمل وبيانا لجميع ما هو المراد، وهو استشهاد رجلين {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كقوله: كلوا الخبز، واللحم، فإن لم يوجد فالخبز، والجبن، وإذا ثبت أن المذكور في النص هو(26/145)
جميع المستشهد به فلا يكون القضاء بشاهد ويمين حجة إذ لو كان حجة لبينه الله تعالى في معرض الاستقصاء في البيان {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] وأيضا نص الله تعالى على أن أدنى ما تنتفي به الريبة ما هو المذكور في النص حيث قال {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وليس دون الأدنى شيء تنتفي به الريبة فلو كان الشاهد مع اليمين حجة لزم منه انتفاء كون المنصوص أدنى فيكون مخالفا للنص ضرورة.
"والسنة المشهورة" أي وجهل من عارض مجتهده السنة المشهورة "كالقضاء المذكور" أي بشاهد ويمين المدعي "مع" قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لفظ البيهقي ولفظ الصحيحين "واليمين على المدعى عليه" فجعل جنس الأيمان على المنكر، أو على المدعى عليه إذ لا عهد ثمة وليس وراء الجنس شيء فلا يكون بعض الأيمان في جانب المدعي وما أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. أجيب بأنه أخرجه عن سيف عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد ذكر الترمذي أنه سأل محمدا يعني البخاري فقال عمرو لم يسمع هذا من ابن عباس عندي. وقال الطحاوي: قيس بن سعد لا يعلم أنه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء فقد رمى الحديث بالانقطاع في موضعين وسيف عن قيس ذكره ابن عدي في كتابه الموضوع في الضعفاء، وهو(26/146)
ص -410-…الكامل وساق له هذا الحديث وعن ابن المديني أنه قال: غلط سيف في هذا الحديث، والحديث المعروف الذي رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. وسأل عياش ابن معين عن هذا الحديث فلم يعرفه ورواه محمد بن مسلم الطائفي أيضا عن عمرو بن دينار إلا أن محمدا هذا تكلم فيه قال أحمد: ما أضعف حديثه وضعفه جدا ومع ضعفه اختلف عليه في هذا الحديث كما ذكر البيهقي في سننه وذكر في المعرفة أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطا، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث إرساله أشهر انتهى. وروي من وجوه لا تخلوا كلها من النظر وروى ابن أبي شيبة بإسناد على شرط مسلم عن الزهري هي بدعة وأول من قضى بها معاوية وفي مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال: شيء أحدثه الناس لا بد من شاهدين إلى غير ذلك وأورد لم يبق لتضعيف الحديث مجال بعد ما أخرجه مسلم وأجيب بالمنع، فإن مسلما ليس بمعصوم عن الخطإ، وقد وهم في ذلك، وقد أخذ عليه بمثل ذلك غير ناقد فذكر المازري أن فيه أربعة عشر حديثا مقطوعا وقال غيره: أخذ على مسلم في سبعين موضعا رواه متصلا، وهو منقطع ويجوز أن يطلع على أكثر من ذلك على أنه غير خاف رجحان الكتاب، والسنة المشهورة على هذا الحديث مع أنه لا دلالة ظاهرة فيه على المطلوب إذ ليس فيه بيان المحكوم به، والمحكوم عليه ولا كيفية السبب في ذلك ولا المستحلف من هو حتى يصح اعتبار غيره به إذ ليس هو عموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر فيه لفظه بل هو قضية خاصة لا يدرى ما هي أيضا وإذا كان قضية خاصة في شيء خاص فيجوز أن يكون على معنى متفق على جوازه، وهو أن يكون قبل شهادة الطبيب، أو امرأة في عيب لا يطلع عليه غير ذلك الشاهد واستحلف المشتري مع ذلك أنه ما رضي بالعيب فيكون قاضيا في رد المبيع بشاهد واحد مع(26/147)
يمين المشتري ويحتمل أيضا أن يكون معنى قوله: قضى باليمين مع الشاهد أي مع البينة، أو مع الشاهدين فأطلق اسم الشاهد وأراد به الجنس لا العدد إلى غير ذلك ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ثم جمهور العلماء على أن القضاء بيمين المدعي وشاهد واحد في غير الأموال لا يصح، واختلفوا في الأموال فأصحابنا ومن وافقهم لا يصح أيضا والشافعي وآخرون يصح فيها والله أعلم.
"والتحليل" أي وكالقول بحل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول إذا تزوجها الثاني ثم طلقها "بلا وطء" كما هو قول سعيد بن المسيب فقد روى سعيد بن منصور عنه أنه قال: الناس يقولون حتى يجامعها، وأما أنا فأقول: إذا تزوجها نكاحا صحيحا، فإنها تحل للأول "مع حديث العسيلة"، وهو ما روى الجماعة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قال: "حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول"، فإن قول سعيد مخالف لهذه السنة المشهورة واستغرب منه ذلك حتى قيل لعل الحديث لم يبلغه وقال الصدر الشهيد ومن أفتى بهذا القول فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. وفي المبسوط: ولو أفتى فقيه بذلك يعزر.(26/148)
ص -411-…"والإجماع" أي وجهل من عارض مجتهده الإجماع "كبيع أمهات الأولاد" أي جوازه كما ذهب إليه داود الظاهري "مع إجماع المتأخر من الصحابة"، والوجه من التابعين على عدم جواز بيعهن كما عليه الأئمة الأربعة لما تقدم في الإجماع من اختلاف الصحابة في جوازه وإجماع التابعين على منعه "فلا ينفذ القضاء بشيء منها" أي من حل متروك التسمية عمدا، ومن جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي، ومن وجود التحليل بلا وطء، ومن جواز بيع أمهات الأولاد، وأما هذا فقد تقدم في الإجماع ما فيه من اختلاف وأن هذا هو الأظهر من الروايات عنهم وما نبهنا عليه من عدم نفاذ قضاء قاض من قضاة زماننا به، ولو نفذه جم غفير منهم. وأما عدم نفاذ وجود التحليل بلا وطء وعدم نفاذ القضاء بشاهد ويمين المدعي فظاهر لمخالفة كل منهما ظاهر الكتاب، والسنة المشهورة إلا أن كون القضاء بشاهد ويمين المدعي لا ينفذ بل يتوقف على إمضاء قاض آخر هو المذكور في أقضية الجامع وفي بعض المواضع ينفذ مطلقا، وأما عدم نفاذ القضاء بحل متروك التسمية عمدا فهو المذكور لكثير من غير حكاية خلاف، وفي المحيط ذكر في النوادر أنه ينفذ عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف. وفي الخلاصة: وأما القضاء بحل متروك التسمية عمدا فجائز عندهما، وعند أبي يوسف لا يجوز، وهو ظاهر الهداية مع إفادة أن عليه المشايخ "وكترك العول" كما ذهب إليه ابن عباس وخرجناه في الإجماع "وربا الفضل" أي القول بحله كما صح عن ابن عباس، وقد روي رجوعه عنه فأخرج الطحاوي عن أبي سعيد الخدري قلت لابن عباس: أرأيت الذي يقول الدينارين بالدينار، والدرهم بالدرهمين أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نعم فقال: إني لم أسمع هذا إنما أخبرنيه أسامة بن زيد. وقال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس فلا ينفذ القضاء بشيء منهما(26/149)
أيضا لمخالفة الأول الإجماع، والثاني النص، والإجماع، وعلى هذا فقد كان الأولى تأخير قوله فلا ينفذ القضاء بشيء منها إلى ما بعدهما ثم كما قال المصنف رحمه الله في فتح القدير: يراد بالكتاب المجمع على مراده، أو ما يكون مدلول لفظه ولم يثبت نسخه ولا تأويله بدليل مجمع عليه فالأول مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فلو قضى قاض بحل أم امرأته كان باطلا لا ينفذ، والثاني مثل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فلا ينفذ الحكم بحل متروك التسمية عمدا وهذا لا ينضبط، فإن النص قد يكون مؤولا فيخرج عن ظاهره، فإذا منعناه يجاب بأنه مؤول بالمذبوح للأنصاب أيام الجاهلية فيقع الخلاف في أنه مؤول، أو ليس بمؤول فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنه غير مؤول قاضيا على غيره بمنع الاجتهاد فيه نعم قد يترجح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التأويل فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو لا ولذا يمنع نفاذ القضاء في بعض الأشياء ويجيزونه وبالعكس ولا فرق في كونه مخالفا للإجماع بين أن يكون على الحكم، أو على تأويل السمعي.
قلت: ثم لقائل أن يقول المجتهد فيه المعارض لمدلول أحد هذه الأصول الثلاثة المحكوم بعد اعتباره حتى إن القضاء لا ينفذ إما أن يكون معارضا لما كان من الكتاب قطعي(26/150)
ص -412-…الدلالة غير منسوخ، أو ما كان من السنة كذلك متواتر الثبوت، أو ما كان من الإجماع قطعي الثبوت، والدلالة وهذا لا شك فيه لكن في صدور هذا من المجتهد بعد عظيم؛ لأن استحلال مخالفة كل من هذه كفر فلا ينبغي أن يكون المراد وإما أن يكون معارضا لما كان من الكتاب، أو السنة ظني الدلالة سواء كانت السنة قطعية الثبوت، أو لا، أو من الإجماع ما كان ظني الثبوت، أو الدلالة وهذا في عدم نفاذ الحكم بمعارضه مطلقا نظر ظاهر وفي بعض شروح الجامع للمشايخ المتقدمين جملة قضاء القضاة على ثلاثة أقسام قسم منه أن يقضى بخلاف النص، والإجماع وهذا باطل ليس لأحد أن يجيزه ولكل واحد من القضاة نقضه إذا رفع إليه، وقسم منه أن يقضي في موضع مختلف فيه وفي هذا ينفذ قضاؤه وليس لأحد نقضه، وقسم منه أن يقضي بشيء يتعين فيه الخلاف بعد القضاء أي يكون الخلاف في نفس القضاء فبعضهم يقولون نفذ قضاؤه وبعضهم يقولون بل يتوقف على إمضاء قاض آخر إن أجازه جاز ويصير كأن القاضي الثاني قضى في مختلف فيه وليس للثاني نقضه، وإن أبطله الثاني بطل، وليس لأحد يجيزه انتهى، وبعد إحاطة العلم بما ذكرناه لا يخفى ما في القسم الأول من النظر عند تحقيق النظر. ثم إذا عرف هذا فلا خفاء في أن ما عدا التحليل بلا وطء من المجتهدات الأول ليس شيء منها معارضا لنص قطعي الثبوت، والدلالة، والإجماع كذلك فلا يكون القضاء به باطلا قطعا، وإنما الشأن في أنه هل ينفذ من غير توقف على إمضاء قاض آخر، أو يتوقف نفاذه عليه والذي يظهر أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا وبشاهد ويمين المدعي ينفذ من غير توقف على إمضاء قاض آخر ويبيع أمهات الأولاد لا ينفذ ما لم يمضه قاض آخر، وأما القضاء بالتحليل بلا وطء بحكمه من جهة عدم النفاذ أصلا، ومن جهة النفاذ مبني على أن اشتراط الوطء فيه بعد ابن المسيب ثابت بإجماع قطعي، أو ظني للعلم بانتفاء النص القطعي الدلالة عليه، فإن قيل بإجماع ظني لم ينفذ حتى(26/151)
يمضيه قاض آخر، وإن قيل بإجماع قطعي، وهو الأظهر وكيف لا، وقد صار من ضروريات الدين فهو باطل قطعا، وكذا الجواب بحل ربا الفضل وترك العول ثم حيث قلنا: ينفذ القضاء بكذا، أو يتوقف نفاذ القضاء به على إمضاء قاض آخر فهو بالنسبة إلى هذه الأزمان إذا كان ذلك من قاضي مذهب مقلده صح القضاء به على التقدير الأول، وإمضاء ذلك القضاء على التقدير الثاني لما أشرنا إليه في الإجماع من أن قضاة هذه الأزمان إنما فوض إلى كل منهم القضاء بمذهب مقلده من الأئمة الأربعة فلا ولاية له في القضاء بمذهب غير مقلده وإذن ففي هذه الأزمان لا سبيل بحال إلى نفاذ القضاء ببيع أمهات الأولاد بوجود التحليل بلا وطء ولا بحل ربا الفضل ولا بترك العول، ولو فرض وقوع قضاء قضاة الأقطار به وتنفيذهم له وما ذكر من نفاذ بعض ذلك لو وقع فهو بالنسبة إلى القاضي المجتهد المفوض إليه الحكم باجتهاده على ما في ذلك من خلاف فليتنبه له والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الرابع من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.
القسم "الثاني" من أقسام الجهل الثلاثة "جهل يصلح شبهة" دراءة للحد، والكفارة وعذرا في غيرهما وكان الأولى ذكره مثال هذا "كالجهل في موضع اجتهاد صحيح بأن لم يخالف"(26/152)
ص -413-…الاجتهاد "ما ذكر" أي الكتاب، أو السنة المشهورة، أو الإجماع، وكان في مناط الحكم فيه خفاء، وقد اختلف العلماء فيه "كمن صلى الظهر بلا وضوء" ظانا أنه على وضوء "ثم صلى العصر به" أي بوضوء "ثم ذكر" أنه صلى الظهر بلا وضوء "فقضى الظهر فقط ثم صلى المغرب يظن جواز العصر" بجهله بوجوب الترتيب "جاز" أداؤه صلاة المغرب "لأنه" أي ظنه جواز العصر "في موضع الاجتهاد" الصحيح "في ترتيب الفوائت"؛ لأن في مناط الحكم بوجوبه فيها نوع خفاء ولهذا وقع فيه خلاف بين العلماء ثم خلافهم معتبر ليس فيه مخالفة لشيء مما ذكر فكان دليلا شرعيا صالحا لإفادة ظن جواز العصر، فإن كانت في الحقيقة إنما أديت قبل الظهر حتى كان عليه قضاء العصر فكان هذا الجهل عذرا في جواز المغرب لا العصر. والفرق أن فساد الظهر بترك الوضوء فساد قوي مجمع عليه فكانت متروكة بيقين فيظهر أثر الفساد فيما يؤدى بعدها ولم يعذر بالجهل وفساد العصر بترك الترتيب ضعيف مختلف فيه فلم تكن متروكة بيقين فلم يتعد حكمه إلى صلاة أخرى؛ لأن وجوب الترتيب ثبت بالسنة في متروكه بيقين علما وعملا وكان الحسن بن زياد يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم به فليس عليه ذلك؛ لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به وكان زفر يقول: إذا كان عنده أن ذلك يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه فرض الوقت وأجيب بأنه إن كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب غير واجب فهو دليل شرعي، وكذا إن كان ناسيا، فإنه حينئذ معذور غير مخاطب بأداء الثانية قبل أن يذكرها بخلاف ما إذا كان ذاكرا، وهو غير مجتهد، فإن مجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر ومثال الأول ما أشار إليه بقوله: "وكقتل أحد الوليين" قاتل موليه عمدا عدوانا "بعد عفو" الولي "الآخر" جاهلا بعفوه، أو بسقوط القود بعفوه معتمدا على ظن أن القود له "لا يقتص منه"؛ لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد "لقول بعض(26/153)
العلماء" من أهل المدينة على ما في التهذيب "بعدم سقوطه" أي القصاص الثابت للورثة "بعفو أحدهم" حتى لو عفا أحدهم كان للباقين القتل هذا إذا لم يوجد الإجماع سابقا على هذا القول، أو لاحقا إن ثبت عمن يعتد بخلافه وإلا فالظاهر أن هذا مخالف للإجماع؛ لأن الاجتهاد، وإن كان يقتضي أن لكل ولاية الاستيفاء بعد عفو أحدهما لم يقل به أحد من الفقهاء فلا يكون ذلك الاجتهاد صحيحا وحينئذ، فإنما يكون هذا الجهل شبهة في إسقاط القود؛ لأنه جهل في موضع الاشتباه أما على التقدير الأول فلأنه علم وجوب القصاص وما ثبت فالظاهر بقاؤه، والظاهر يكون شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات. وأما على التقدير الثاني فلأن الظاهر أن تصرف غيره في حقه غير نافذ عليه وسقوط القود لمعنى خفي، وهو أن القود لا يقبل التجزؤ فاشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة "فصار" الجهل المذكور "شبهة تدرأ القصاص"، وقد يسقط القود باعتبار الظن كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا، فإذا هو مسلم، وإذا سقط القود بالشبهة لزمه الدية في ماله؛ لأن فعله عمد ويحسب له منها نصف الدية؛ لأن بعفو شريكه وجب له نصف الدية على المقتول فيصير نصف الدية قصاصا بالنصف ويؤدي ما بقي أما لو(26/154)
ص -414-…علم سقوط القود بالعفو ثم قتله عمدا يجب القود لإقدامه على القتل مع العلم بالحرمة ثم هذا كله عند علمائنا الثلاثة وقال زفر عليه القصاص لسقوط القود بالعفو علم به، أو لا اشتبه عليه حكمه، أو لا؛ لأن مجرد الظن غير مانع من وجوب القود بعد ما تقرر سببه كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا، وقد انطوى دفعه فيما تقدم. "و" مثل "المحتجم" في نهار رمضان "إذا ظنها" أي الحجامة "فطرته" فأفطر بعدها "لا كفارة" عليه، وإنما عليه القضاء لا غير "لأن" قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم، والمحجوم" رواه أصحاب السنن وصححه ابن حبان، والحاكم "أورث شبهة فيه" أي في وجوبها بالفطر بعد الحجامة "وهذه الكفارة يغلب فيها معنى العقوبة" على العبادة عند الحنفية "فتنتفي بالشبهة" كما تقدم في فصل الحاكم وهذا يشير إلى أن فطره بعد الحجامة كان اعتمادا على هذا الحديث غير عالم بتأويله ونسخه، وهو عامي، وهو قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن قول المفتي المعتمد في فتواه في بلده إذا كان يورث الشبهة المسقطة حتى لو أفتاه بالفساد كما هو قول أحمد فأفطر بعده لا كفارة عليه؛ لأن الحكم في حق العمل فتوى مفتيه، وإن كان مخطئا فيما أفتى به؛ لأنه لا دليل له سواه فكان معذورا ولا عقوبة على المعذور فقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى؛ لأنه الأصل وقال أبو يوسف: عليه الكفارة؛ لأنه ليس للعامي الأخذ بظاهر الحديث لجواز كونه مصروفا عن ظاهره، أو منسوخا بل عليه الرجوع إلى الفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة صحيح الأخبار وسقيمها وناسخها ومنسوخها، فإذا اعتمده كان تاركا للواجب عليه، وترك الواجب لا يقوم به شبهة مسقطة لها بقي لو أفطر بعدها ظانا الفطر بها ولم يستفت عالما ولم يبلغه الحديث أصلا، أو بلغه ولكن علم تأويله، أو نسخه ولا إشكال في وجوب الكفارة عليه اتفاقا أما الأول فلأن الظن ما استند إلى دليل شرعي، والقياس لا يقتضي ثبوت الفطر بما(26/155)
خرج فيكون ظنه مجرد جهل، وهو لا يكون عذرا في دار الإسلام، وأما الثاني فلتعاضد علمه بكون الحديث على غير ظاهره، أو نسخه مع كون الفطر بها على خلاف القياس على وجوب الكفارة لانتفاء الشبهة حينئذ في وجوبها قالوا: وإن علم أن بعض العلماء قال بالفطر بها ولكن في هذا نظر "ومن زنى بجارية والده"، أو والدته "أو زوجته يظن حلها لا يحد" عند علمائنا الثلاثة وقال زفر: يحد للوطء الخالي عن الملك وشبهته ولا عبرة بتأويله الفاسد كما لو وطئ جارية أخيه، أو عمه على ظن الحل وهم يقولون لا يحد "للاشتباه"؛ لأن بين الإنسان وأبيه وأمه وزوجته انبساطا في الانتفاع بالمال فظنه حل الاستمتاع بأمتهم اعتماد على شبهة في ذلك فاندرأ الحد بها بخلاف الأخ، والعم، فإنه لا انبساط لكل منه، ومنهما في مال الآخر فدعوى ظنه الحل ليست معتمدة على شبهة فلا تعتبر "ولا يثبت نسب" بهذا الوطء، وإن ادعاه الواطئ "ولا عدة" أيضا على الموطوءة بهذا الوطء "لما" عرف "في موضعه" من أنه تمحض زنا إذ لا حق له في المحل، والولد للفراش وللعاهر الحجر ولا عدة من الزنا، وهذه إحدى الشبهتين الدارئتين للحد عندهم وتسمى شبهة في الفعل وشبهة اشتباه؛ لأنها إنما تؤثر في سقوط الحد على من اشتبه عليه لا على من لم يشتبه عليه كقوم سقوا خمرا على مائدة فمن علم بها(26/156)
ص -415-…وجب عليه الحد ومن لا فلا والشبهة الأخرى وتسمى الشبهة في المحل وشبهة الدليل، والشبهة الحكمية وجود الدليل النافي للحرمة في ذاته مع تخلف حكمه لمانع وهذه لا تتوقف على الظن كوطء الأب جارية ابنه، فإنه لا يحد إن قال: علمت أنها حرام علي؛ لأن المؤثر في هذه الشبهة الدليل الشرعي كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" رواه ابن ماجه بسند صحيح، وهو قائم فيؤثر في سقوط الحد مطلقا ويثبت به النسب إذا ادعاه وتصير الجارية به أم ولد وعند أبي حنيفة شبهة أخرى دارئة للحد وهي شبهة العقد سواء علم الحرمة أم لا كوطء التي تزوجها بغير شهود، وإنما لم يتعرض المصنف لهاتين؛ لأنهما ليستا مما هو بصدده كما هو غير خاف ثم كما قال المصنف: ومعنى دعوى ظنه الحل أنه علم أن الزنا حرام لكن ظن أن وطأه ليس زنا محرما فلا يعارض ما في المحيط الآتي قريبا "وكذا حربي دخل دارنا فأسلم فشرب الخمر جاهلا بالحرمة لا يحد"؛ لأنه في موضع الشبهة يحل شربها في وقت "بخلاف ما إذا زنى" بعد دخوله دار الإسلام وإسلامه زاعما حل الزنا، فإنه لا يلتفت إلى زعمه ويحد. وإن فعله أول يوم دخوله الدار وإسلامه "لأن جهله بحرمة الزنا لا يكون شبهة" دارئة للحد عنه؛ لأن هذا الظن في غير محل الشبهة "لأن الزنا حرام في جميع الأديان" فلم يتوقف العلم بحرمته على بلوغ خطاب الشرع لتحقق حرمته قبله "فلا يكون جهله عذرا" لكونه من تقصيره في الطلب "بخلاف الخمر"، فإنها لم يكن شربها حراما في سائر الأديان "فما في المحيط وغيره شرط الحد أن لا يظن الزنا حلالا مشكل"، فإن هذه المسألة تفيد أن ليس شرط وجوب الحد على الزاني عدم ظنه حل الزنا حتى يكون ظنه حله مانعا من إقامته عليه هذا والذي في شرح الهداية للمصنف شرط وجوب الحد أن يعلم أن الزنا حرام انتهى، وهو أخص مما هنا وما في الشرح هو المذكور في محيط رضي الدين وهذا لفظه، وأما شرطه فالعلم بالتحريم حتى لو لم يعلم لم يجب الحد(26/157)
للشبهة وأصله ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا زنى باليمن فكتب في ذلك عمر رضي الله عنه إن كان يعلم أن الله تعالى حرم الزنا فاجلدوه، وإن كان لا يعلم فعلموه، وإن عاد فاجلدوه؛ لأن الحكم في الشرعيات لا يثبت إلا بعد العلم، وإن كان الشيوع، والاستفاضة في دار الإسلام أقيم مقام العلم ولكن لا أقل من إيراث شبهة بعدم التبليغ، والإسماع بالحرمة انتهى غير أن ظاهر قول المبسوط عقب هذا الأثر فقد جعل ظن الحل في ذلك الوقت شبهة لعدم اشتهار الأحكام انتهى يشير إلى أن هذا الظن في هذا الزمان لا يكون شبهة معتبرة لاشتهار الأحكام فيه ولكن هذا إنما يكون مفيدا للعلم به بالنسبة إلى الناشئ في دار الإسلام، والمسلم المهاجر إليها المقيم بها مدة يطلع فيها على ذلك فأما المسلم المهاجر إليها الواقع منه ذلك في فور دخوله فلا، وقد قال المصنف في الشرح ونقل في اشتراط العلم بحرمة الزنا إجماع الفقهاء انتهى، وهو مفيد أن جهله يكون عذرا، وإذا لم يكن عذرا بعد الإسلام ولا قبله فمتى يتحقق كونه عذرا، وأما نفي كونه عذرا في حالة الكفر لتقصيره في الطلب لمعرفة هذا الحكم في تلك الحالة كما تقدم فمحل نظر وحينئذ فالفرع المذكور هو المشكل فليتأمل "بخلاف الذمي أسلم فشرب الخمر" بعد إسلامه،(26/158)
ص -416-…وقال: أعلم بحرمتها "يحد لظهور الحكم في دار الإسلام"، وهو مقيم فيها "فجهله" بحرمتها مع شيوعها فيه "لتقصيره" في معرفته بها فلا يكون جهله عذرا في درء الحد ولا كذلك دار الحرب، فإن حرمتها غير شائعة فيها فكان جهل الحربي بها دارئا للحد عنه في المسألة السابقة.
القسم الثالث جهل يصلح عذرا كمن أسلم في دار الحرب فترك بها صلوات جاهلا لزومها في الإسلام لا قضاء" عليه إذا علمه بعد ذلك؛ لأنه غير مقصر في طلب الدليل، وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه لعدم اشتهاره في دار الحرب لانقطاع ولاية التبليغ عنهم فانتفى سماع الخطاب في حقه حقيقة، وهو ظاهر وتقديرا؛ لأنه بشهرته في محله ودار الحرب ليست محلها فانتفى قول زفر عليه قضاؤها؛ لأن بالإسلام يصير ملتزما أحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به وذا لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب كالنائم إذا انتبه بعد الوقت "وكل خطاب ترك ولم ينتشر فجهله عذر" لانتفاء التقصير عن جاهله بخفائه عنه ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] للذين شربوا" الخمر "بعد تحريمها غير عالمين" بحرمتها وهذا بناء على ما في التيسير من أن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل قوله تعالى: ليس على الذين آمنوا الآية وعن ابن كيسان لما نزل تحريم الخمر، والميسر قال أبو بكر رضي الله عنه كيف بإخواننا الذين ماتوا، وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] أي من الأموات، والأحياء في البلدان {جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] من الخمر، والقمار {ثُمَّ اتَّقَوْا} [المائدة: 93] ما حرم الله عليهم سواهما.(26/159)
"قلت": لكن الذي ذكره الواحدي في سبب نزول الآية ما في الصحيحين عن أنس كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة رضي الله عنه وكان خمرهم يومئذ الفضيخ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها فهرقتها في سكك المدينة فقال بعض القوم قد قتل فلان وفلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية وفي مسند أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فساقه إلى أن قال فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية فقالوا: انتهينا يا رب وقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية. وهذا إنما يفيد أن سبب نزولها القول المذكور نفيا للحرج عن الشاربين قبل التحريم نعم الظاهر أن هذا الحكم لا خلاف فيه "بخلافه" أي الخطاب النازل "بعد الانتشار"، فإن جهله ليس بعذر "لأنه" أي جهله(26/160)
ص -417-…إنما هو "لتقصيره" في معرفته "كمن لم يطلب الماء في العمران فتيمم وصلى لا يصح لقيام دليل الوجود"، وهو العمران؛ لأنه لا يخلو عن الماء غالبا "وتركه العمل" بالدليل، وهو طلبه فيه وهذا إذا لم يستكشف الحال، أو استكشفه فوجد الماء فيه أما لو استكشفه فلم يجده فيه فالظاهر الجواز كما صرح به في بعض الحواشي لظهور انتفاء ذلك في الظاهر، وهذا بخلاف ما لو ترك الطلب في المفازة على ظن العدم فتيمم وصلى حيث جازت صلاته؛ لأنه لم يلزمه الطلب؛ لأنها مظنة العدم لا الوجود "وكذا الجهل" للإنسان "بأنه وكيل، أو مأذون" من سيده إذا كان عبدا "عذر حتى لا ينفذ تصرفهما" الموكل، والمولى قبل بلوغ الوكالة، والإذن إليهما "ويتوقف" نفاذ تصرفهما عليهما على إجازتهما "كالفضولي" أي كتوقف نفاذ تصرفه على من تصرف له على إجازته بشرطها كما عرف في موضعه بأن في التوكيل، والإذن نوع إلزام على الوكيل، والمأذون حيث يلزمهما حقوق العقد من التسليم، والتسلم، والمطالبة وغيرها فلا يثبت حكم الوكالة، والإذن في حقهما قبل العلم دفعا للضرر عنهما، وإذا كانت أحكام الشرع مع كمال ولايته لا تثبت في حق المكلف قبل علمه فأولى أن لا يلزم حكم المكلف الذي هو قاصر الولاية على غيره بدون علمه "إلا في شراء الوكيل"، فإنه لا يتوقف نفاذ شرائه على إجازة الموكل بل "ينفذ" شراؤه "على نفسه". ولو كان ذلك الشيء بعينه كانت الوكالة به "كما عرف" من أن العقد إذا وجد نفاذا على العاقد نفذ عليه.(26/161)
"قلت": كذا ذكر كثير من المشايخ في الأصول هذا الحكم لجهلهما بالوكالة، والإذن وزاد صدر الشريعة معنى قول المصنف كالفضولي إلخ وعليهم جميعا أمران أحدهما أن في النهاية وغيرها اعلم أن الروايات اتفقت أن الوكالة إذا ثبتت قصدا لا تثبت بدون العلم أما إذا ثبتت في ضمن أمر الحاضر بالتصرف بأن قال لغيره: اشتر عبدي من فلان لنفسك، أو لعبده: انطلق إلى فلان ليعتقك، أو لامرأته: انطلقي إلى فلان ليطلقك، فاشترى من فلان، أو أعتق، أو طلق فلان بدون العلم جاز ثم قال: والحاصل أن الوكيل هل يصير وكيلا قبل العلم بالوكالة أم لا فيه روايتان في رواية الزيادات لا يصير وفي رواية وكالة الأصل يصير كذا في المحيط نعم في الخلاصة من أصحابنا من قال: تأويله إذا علم ا هـ. فإن تم هذا وإلا فينبغي أن يقيدوا بالوكالة القصدية اللهم إلا إذا اختير رواية الزيادات ثم في شرح الجامع الصغير لقاضي خان وعن أبي يوسف أن الوكالة بمنزلة الوصاية لا يشترط فيها العلم؛ لأن كلا منهما إثبات الولاية ا هـ وهذا بإطلاقه يعكر حكاية اتفاق الروايات المذكورة الثاني في الخلاصة، ولو قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا صار مأذونا، وإن لم يعلم العبد به فعلى هذا لا يتم كون الجهل عذرا في صحة الإذن غير أن فيها أيضا، ولو قال لآخر: بع عبدك من ابني إن علم الابن صار مأذونا وإلا فلا ولا فرق بينهما مؤثر فيما يظهر ولا محيص في دفع المعارضة بينهما إلا بأن يكون في اشتراط العلم روايتان فيتخرج كل من هذين الفرعين على رواية، وقد أشار إليهما فيها أيضا حيث قال في كتاب المأذون: ولا يصير مأذونا إلا بالعلم فلو قال: بايعوا عبدي، فإنى أذنت له في التجارة فبايعوه، والعبد لا يعلم بذلك من أصحابنا من قال: في(26/162)
ص -418-…المسألة روايتان ا هـ بقي الشأن فيما هو الأرجح منهما، فإن تم كون الشارطة للعلم هي الراجحة فيها وإلا فينتفي التقييد بكون ذلك في رواية وعلى ما ذكره المصنف من الزيادة التي ذكر معناها صدر الشريعة أن ظاهره يفيد أن شراء الفضولي لا ينفذ عليه مطلقا وليس كذلك ففي الخلاصة وفي الفتاوى الصغرى الفضولي إذا اشترى شيئا لغيره هذا على وجوه إن قال البائع: بعت هذا من فلان وقال الفضولي: قبلت، أو اشتريت لفلان، أو لم يقل لفلان يتوقف. ولو قال: بعت منك فقال الفضولي: اشتريت، أو قبلت لفلان لا يتوقف وينفذ عليه بالاتفاق، ولو قال الفضولي: اشتريت هذا لفلان فقال البائع: بعت منك. الأصح أنه لا يتوقف بلا خلاف، ولو قال البائع: بعت منك هذا لأجل فلان وقال المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو قال المشتري: اشتريت هذا لأجل فلان وقال البائع: بعت لا يتوقف وينفذ بالاتفاق والله سبحانه أعلم.
"و" كذا الجهل "بالعزل" للوكيل "والحجر" على المأذون عذر في حقهما لخفاء الدليل لاستقلال الموكل بالعزل، والمولى بالحجر ولزوم الضرر عليهما على تقدير ثبوتهما بدون علمهما إذ الوكيل يتصرف على أن يلزم تصرفه الموكل، والعبد يتصرف على أن يقضي دينه من كسبه، أو رقبته وبالعزل يلزم التصرف الوكيل وبالحجر يتأخر دين العبد إلى العتق ويؤدى بعده من خالص ملكه "فيصح تصرفهما" أي الوكيل، والمأذون على الموكل، والمولى قبل علمهما بالعزل، والحجر.(26/163)
"قلت" كذا ذكروا في الأصول ويتحرر من كلامهم في الفروع أن هذا في العزل من الوكالة إذا كان قصديا أما في الحكمي، وهو العزل بموت الموكل، أو جنونه جنونا مطبقا، أو لحاقه مرتدا بدار الحرب، والحكم به، أو بالحجر عليه إذا كان عبدا مأذونا، وقد وكل ببيع، أو شراء، أو نحوهما، أو بعجزه إذا كان مكاتبا، أو بتصرفه فيما وكل ببيعه تصرفا يعجز الوكيل عن بيعه فلا يتوقف على العلم أما فيما عدا الأخير فلأن الوكالة تعتمد قيام أمر الموكل، وقد بطلت هذه العوارض فبطل ما هو متفرع عليها. وأما في الأخير فلفوات المحل ولعلهم لم يقيدوا بذلك اعتمادا على ذكرهم له في الفروع ولا شك أن الأولى التقييد به فليتنبه له ثم إنما يتوقف انحجار المأذون على علمه بالحجر إذا لم يكن علم بالإذن غيره أما إذا كان الإذن مشهورا لا ينحجر إلا بشهرة حجره عند أهل سوقه، أو أكثره دفعا للضرر عنهم على تقدير نفاذه بدون علمهم؛ لأنهم يبايعونه بناء على ظن تعلق حقهم بكسبه ورقبته لما عرفوه من الإذن، والحال أن حقهم يتأخر إلى ما بعد الحرية فليتنبه لهذا أيضا.
"و" كذا "جهل المولى بجناية العبد" جناية خطأ عذر للمولى في عدم تعين لزوم الفداء مطلقا له إذا أخرجه عن ملكه قبل علمه بها "فلا يكون" المولى "بيعه" أي العبد قبل علمه بها "مختارا للفداء"، وهو الأرش الذي هو أحد الأمرين اللذين هو مخير فيهما، وهو الدفع، والفداء بل يجب عليه الأقل من القيمة، والأرش لخفاء الدليل في حقه لاستقلال العبد بالجناية "و" كذا جهل "الشفيع بالبيع" لما يشفع فيه عذر له في عدم سقوط شفعته إذا أخرج عن ملكه ما(26/164)
ص -419-…يشفع به قبل علمه بالبيع "فلو باع الدار المشفوع بها بعد بيع دار بجوارها" هو شفيعها "غير عالم" ببيع المشفوع فيها "لا يكون" بيعه المشفوع بها "تسليما للشفعة" في المشفوع فيها بل له الشفعة فيهما إذا علم بالبيع؛ لأن دليل العلم خفي لانفراد صاحب الملك ببيعه. "و" كذا جهل "الأمة المنكوحة" عذر لها في عدم سقوط خيار العتق لها "إذا جهلت عتق المولى فلم تفسخ" النكاح "أو علمته" أي عتق المولى "وجهلت ثبوت الخيار لها شرعا لا يبطل خيارها وعذرت" فيكون لها الخيار في مجلس علمها لخفاء الدليل في حقها أما في الأول فلأن المولى مستقل بالعتق ولا يمكنها الوقوف عليه قبل الإخبار، وأما في الثاني فلاشتغالها بخدمة المولى فلا تتفرغ بمعرفة أحكام الشرع في مثله فلا يقوم اشتهار الدليل في دار الإسلام مقام علمها "بخلاف الحرة زوجها غير الأب، والجد" حال كونها "صغيرة فبلغت جاهلة بثبوت حق الفسخ" أي فسخ النكاح "لها" إذا بلغت فلم تفسخه "لا تعذر" بهذا الجهل بهذا الحكم فلا يكون لها حق الفسخ به "لأن الدار دار العلم وليس للحرة ما يشغلها عن التعلم فكان جهلها" بهذا الحكم "لتقصيرها" في التعلم "بخلاف الأمة" كما ذكرنا فافترقتا، وإنما قيد بغير الأب، والجد يعني الصحيح كما هو المراد عند الإطلاق؛ لأنه لا خيار لها ببلوغ في تزويج أحدهما إياها لكمال رأيهما ووفور شفقتهما بخلاف من سواهما، وقد شمل قوله المذكور الأم، والقاضي حيث كانت لها ولاية تزويجها على ما هو الصحيح فيه لعدم كمال الرأي في الأم وعدم وفور الشفقة في القاضي والله تعالى أعلم.
مسألة: المجتهد بعد اجتهاده في حكم ممنوع من التقليد لغيره من المجتهدين فيه(26/165)
"المجتهد بعد اجتهاده في" واقعة أدى اجتهاده فيها إلى "حكم ممنوع من التقليد" لغيره من المجتهدين "فيه" أي في حكم الواقعة "اتفاقا" لوجوب اتباع اجتهاده "والخلاف" إنما هو في تقليده لغيره منهم "قبله" أي اجتهاده في تلك الواقعة "والأكثر" من العلماء على أنه "ممنوع" من تقليد غيره فيها مطلقا منهم أبو يوسف ومحمد على ما ذكر أبو بكر الرازي وأبو منصور البغدادي ومالك على ما في أصول ابن مفلح وذكر الباجي أنه قول أكثر المالكية، والأشبه بمذهب مالك والشافعي في الجديد على ما في أصول ابن مفلح وذكر الروياني أنه مذهب عامة الشافعية وظاهر نص الشافعي وأحمد وأكثر أصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب ويشكل على ما عن أبي يوسف ما في القنية أن أبا يوسف صلى بالناس الجمعة وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر حمام اغتسل منه فقال: نأخذ بقول أصحابنا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا انتهى "وما عن ابن سريج" ممنوع من التقليد "إلا إن تعذر عليه" الاجتهاد في الواقعة فلا يكون ممنوعا بل يتعين "ولا ينبغي أن يختلف فيه" إذ الظاهر أن المسألة مفروضة فيما إذا كان متمكنا من الاجتهاد فلا ينبغي أن يعد هذا قولا آخر كما عدوه ثم الذي حكاه الآمدي عن ابن سريج يجوز تقليد الأعلم إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد هذا ويظهر أن خوف فوت وقت العمل بالحادثة من أسباب تعذر الاجتهاد ثم رأيت عن صاحب المعتمد نقله بخصوصه عنه ويؤيده جزم السبكي بمنعه من(26/166)
ص -420-…الاجتهاد في هذا عن ابن سريج وبطريق أولى أن يكون خوف فوت العمل بالحادثة أصلا من أسباب تعذر الاجتهاد فلا ينبغي أن يعد كل منهما قولا آخر ويستسمع خلاف الأول أيضا. "وقيل لا" يمنع من التقليد مطلقا وعليه سفيان الثوري وإسحاق وأبو حنيفة على ما ذكر الكرخي والرازي قال القرطبي، وهو الذي ظهر من تمسكات مالك في الموطأ وعزاه أبو إسحاق الشيرازي إلى أحمد قال بعض الحنابلة: ولا يعرف "وقيل" يمنع من التقليد "فيما يفتي به" غيره "لا فيما يخصه" أي يكون الغرض من الاجتهاد تحصيل رأي فيما يستقل بعلمه لا فيما يفتي به لغيره وليس المراد به اختصاص الحكم بالمجتهد بحيث لا يعم غيره من المكلفين، وهذا حكاه ابن القاص عن ابن سريج وغيره عن أهل العراق "وقيل" يمنع من التقليد "فيه" أي فيما يخصه "أيضا إلا إن خشي الفوت كأن ضاق وقت صلاة، والاجتهاد فيها" أي في صلاته "يفوتها"، فإنه يجوز له أن يقلد مجتهدا آخر ويعمل بقوله لئلا تفوت بفوات وقتها لو اشتغل بالاجتهاد فيها، وهو عن ابن سريج وهذا ما تقدم الوعد به. "وعن أبي حنيفة روايتان" إحداهما الجواز كما تقدم، والأخرى المنع "وعن محمد يقلد" مجتهدا "أعلم منه" لا أدون منه ولا مساوي له نقله عنه القاضي والروياني وإلكيا قال: وربما قال: إنهما سواء ونقله أبو بكر الرازي عن الكرخي وقال: إنه ضرب من الاجتهاد "والشافعي" في القديم "والجبائي" وابنه أيضا قالوا "يجوز" تقليد غيره "إن" كان الغير "صحابيا راجحا" في نظره على غيره ممن خالف من الصحابة "فإن استووا" أي الصحابة في الدرجة في نظره واختلفت فتواهم "تخير" فيقلد أيهم شاء ولا يجوز له تقليد من عداهم ذكره ابن الحاجب وغيره قال الصفي الهندي: وقضيته أن لا يجوز للصحابة تقليد بعضهم بعضا "وهذا" من الشافعي "رواية عنه" أي الشافعي "في تقليد الصحابي" وهذا هو المذكور في رسالته القديمة قال الأبهري، والمشهور من مذهبه عدم جواز تقليده للغير مطلقا. وقيل:(26/167)
يجوز تقليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا غيرهما مطلقا ونقل أبو منصور البغدادي وإمام الحرمين عن أحمد أنه يجوز تقليد الصحابة ولا يقلد أحدا بعدهم غير عمر بن عبد العزيز واستغربه بعض الحنابلة "وقيل" يجوز تقليده للغير صحابيا "وتابعيا" دون غيرهما وعزا هذا في جامع الأسرار إلى الحنفية لكن بلفظ، أو خيار التابعين وقيل: يجوز للقاضي لا غيره لحاجته في فصل الخصومات إلى إنجازه بخلاف غيره "للأكثر الجواز" للتقليد "حكم شرعي فيفتقر إلى دليل"؛ لأن القول في الدين بلا دليل باطل "ولم يثبت" الدليل، والأصل عدمه "فلا يثبت" الجواز "ودفع" هذا من قبل المجوزين "بأنه" أي الجواز "الإباحة الأصلية" وهي ليست بحكم شرعي "بخلاف تحريمكم" التقليد، فإنه حكم شرعي "فهو المفتقر" إلى الدليل، ولم يثبت فلا يثبت غير أن هذا لا يتم على بعض الحنفية القائلين بأن الإباحة الأصلية حكم شرعي كما تقدم عنهم في النسخ. "وأما" الدفع من الأكثر "بأن الاجتهاد أصل، والتقليد بدل" عنه "فيتوقف" التقليد "على عدمه" أي الاجتهاد إذ لا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكن من المبدل كالوضوء، والتيمم "فمنع بل كل" منهما "أصل" بمعنى أن المجتهد مخير فيهما كما في مسح الخف وغسل(26/168)
ص -421-…الرجل "فإن تم إثبات البدلية" للتقليد عن الاجتهاد "بعموم" قوله تعالى: "{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]" لأنه يفيد الأمر بالاجتهاد، وهو شامل للعامي، والمجتهد إلا أن ترك العمل به بالنسبة إلى العامي لعجزه عنه فيبقى معمولا به في حق المجتهد "تم" الدفع المذكور "وإلا" إذا لم يتم إثبات البدلية بهذا "لا" يتم الدفع المذكور لتوقفه على ثبوت البدلية ولم يثبت بهذا، والأصل عدم الثبوت "واستدل" للأكثر "لا يجوز" التقليد "بعده" أي الاجتهاد "فكذا" لا يجوز التقليد "قبله" أي الاجتهاد "لوجود الجامع" في المنع بينهما "وهو" أي الجامع "كونه" أي المقلد "مجتهدا أجيب بأنه" أي الموجب "في الأصل" أي العلة بالاجتهاد بعد الاجتهاد "إعمال الأرجح، وهو ظن نفسه" بطريق الاجتهاد، فإنه أقوى من ظنه بفتوى غيره؛ لأن الغير يحتمل أن لا يكون صادقا فيما أخبر به عن اجتهاده، والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده وهذا مقصود في الفرع، وهو العمل بالاجتهاد قبل الاجتهاد لا كونه مجتهدا فلم يوجد الجامع بينهما. واحتج "الشافعي" بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فإنه يعلم منه أن اقتداء المجتهد بهم لا يكون ممنوعا إذ لا يمنع الشخص من الاهتداء قال المصنف "ويبعد" الاحتجاج به "منه" أي الشافعي "لأنه" أي هذا "لم يثبت" عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بسطنا القول فيه في الإجماع "ولو ثبت تقدم جوابه" في ذيل مسألة الحكم في المسألة الاجتهادية حيث قال أجيب بأنه هدي من وجه فتناوله.(26/169)
"قلت": لكن لا خفاء في أن هذا لا يفيد منع المجتهد الغير الصحابي من تقليد الصحابي بل هذا الجواب يقرر جواز تقليد غير الصحابي مطلقا أعني سواء كان غير مجتهد، أو مجتهدا قبل اجتهاده، أو بعده للصحابي مطلقا أعني سواء كان مجتهدا، أو لا كما هو ظاهر عموم "بأيهم اقتديتم اهتديتم" لكنه متروك الظاهر بالنسبة إلى المجتهد بعد الاجتهاد إذ لا تقليد له بعده وبالنسبة إلى غير المجتهد إذ لا تقليد إلا لمجتهد فيبقى على عمومه بالنسبة إلى ما عدا هذين ثم غير خاف أنه غير متعرض لمنع تقليد مجتهد غير صحابي لمجتهد غير صحابي، وهو من المطلوب فالحق أنه لو ثبت لكان مثبتا لجزء المطلوب، وهو جواز تقليد مجتهد غير صحابي قبل اجتهاده لمجتهد صحابي إذ المطلوب جواز تقليد المجتهد قبل اجتهاده لمجتهد آخر مطلقا والله سبحانه أعلم.
"المجوز" للتقليد مطلقا قال هو وموافقوه أولا أمر الله تعالى من ليس من أهل العلم بسؤال أهل العلم فيما لا يعلم فقال تعالى "{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] أي العلم بدليل {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]" فيفيد وجوب سؤال المجتهدين؛ لأنهم أهل العلم فيما لا يعلم وأدنى درجاته جواز اتباع المسئول فيما أجاب وإلا لما كان للسؤال فائدة ولا معنى لجواز تقليده إلا العمل بقوله وليس المراد بالسائل من لا يعلم شيئا أصلا بل من لا يعلم بحكم المسألة. "وقيل الاجتهاد لا يعلم" المجتهد المجتهد فيه فشمله طلب سؤال أهل الذكر فشمله أيضا ما يترتب عليه غايته أنه لم يتعين عليه سؤال غيره لتمكنه من العلم بحكم المسألة من(26/170)
ص -422-…اجتهاده أيضا فكان مع مجتهد غيره كمجتهدين بالنسبة إلى العامي فيسوغ له الرجوع إلى كل من اجتهاده واجتهاد غيره كما يجوز للعامي الرجوع إلى كل من اجتهادي مجتهدين "أجيب بأن الخطاب للمقلدين إذ المعنى ليسأل أهل العلم من ليس أهله بقرينة مقابلة من لا يعلم بمن هو أهل" للعلم "وأهل العلم من له الملكة" أي القدرة على تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه "لا بقيد خروج الممكن عنه" من الاقتدار "إلى الفعل"؛ لأن أهل الشيء من هو متأهل له ومستعد له استعدادا قريبا لا من حصل ذلك الشيء له فيختص بالمقلد "قالوا" ثانيا "المعتبر الظن"، فإن المجتهد باجتهاده لا يقدر على غيره "وهو" أي الظن "حاصل بفتوى غيره" فيجب العمل به. "أجيب بأن ظنه اجتهاده" بنصب الدال إما بنزع الخافض أي باجتهاده، أو على أنه بدل من ظنه "أقوى" من ظنه بفتوى غيره "فيجب الراجح، فإن قيل ثبت" في الفروع "عن أبي حنيفة في القاضي المجتهد يقضي بغير رأيه ذاكرا له" أي لرأيه "نفذ" قضاؤه "خلافا لصاحبيه فيبطل" بهذا الثابت عنه "نقل الاتفاق على المنع" من التقليد "بعده" أي الاجتهاد "إذ ليس التقليد إلا العمل، أو الفتوى بقول غيره"، وقد وجد هذا من القاضي المذكور على أنه "وإن ذكر فيها" أي في هذه المسألة "اختلاف الرواية" عن أبي حنيفة فعنه ينفذ وجعلها في الخانية أظهر الروايات؛ لأن رأيه يحتمل الخطأ، وإن كان الظاهر عنده أنه الصواب ورأي غيره يحتمل الصواب، وإن كان الظاهر عنده خطأه فليس واحد منهما خطأ بيقين فكان حاصله قضاء في محل مجتهد فيه فينفذ وبه أخذ الصدر الشهيد والإمام أبو بكر محمد بن الفضل وظهير الدين المرغيناني وعنه لا ينفذ؛ لأن قضاءه به مع اعتقاده أنه غير حق عبث فلا يعتبر كمن اشتبهت عليه القبلة فوقع تحريه إلى جهة فصلى إلى غيرها لا يصح لاعتقاده خطأ نفسه وبه أخذ شمس الأئمة الأوزجندي "فقد صحح أنه" أي نفاذ القضاء "مذهبه" أي أبي حنيفة ففي الفصول العمادية،(26/171)
وهو الصحيح من مذهبه. "قلنا: النفاذ بتقدير الفعل لا يوجب حله" أي الفعل "نعم ذكر بعضهم"، وهو صاحب المحيط "أنه ذكر الخلاف في بعض المواضع في النفاذ وفي بعضها" ذكر الخلاف "في الحل" أي حل الإقدام على القضاء بخلاف مذهبه "لكن لا يلزم أن المعول الحل بل يجب ترجيح رواية النفي" للحل لما تقدم في وجهها ولأن المجتهد مأمور بالعمل بمقتضى ظنه إجماعا وهذا خلاف مقتضى ظنه، وعمله هنا ليس إلا قضاءه فلا جرم أن نص صاحب الهداية، والمحيط على أن الفتوى على قولهما بعدم النفاذ في العمد، والنسيان، وهو مقدم على ما في الفتاوى الصغرى، والخانية من أن الفتوى على قوله: "وصرح بأن ظاهر المذهب عدم تقليد التابعي، وإن روي خلافه" كما تقدم بيانه قبيل فصل التعارض فكون عدم تقليد غيره ظاهر المذهب أولى والله سبحانه أعلم.
مسألة: إذا تكررت الواقعة قيل: المختار لا يلزمه تكرير النظر
"إذا" وقعت واقعة فاجتهد المجتهد فيها وأدى اجتهاده إلى حكم معين لها ثم "تكررت الواقعة" هل يجب عليه تكرير النظر وتجديد الاجتهاد فيها أم يكفي الاجتهاد الأول "قيل"، والقائل ابن الحاجب وابن الساعاتي "المختار لا يلزمه تكرير النظر؛ لأنه" أي إلزامه به "إيجاب(26/172)
ص -423-…بلا موجب وقيل يلزمه" تكرير النظر وبه جزم القاضي وابن عقيل وقال: وإلا يكون مقلدا لنفسه لاحتمال تغير اجتهاده وفيه ما لا يخفى، وقال: وكالقبلة يجتهد لها ثانيا وفيه أيضا بحث وقيل: "لأن الاجتهاد كثيرا ما يتغير" فيرجع صاحبه عنه إلى غيره كما رجع الشافعي عن القديم إلى الجديد "وليس" تغيره "إلا بتكريره" أي النظر "فالاحتياط ذلك" أي تكريره، فإن تغير أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، وإن لم يتغير استمر ظنه بالاجتهاد الأول وأفتى به "أجيب فيجب تكراره" أي النظر "أبدا؛ لأنه" أي الاجتهاد "يحتمل ذلك" أي التغير "في كل وقت يمضي بعد الاجتهاد الأول"، والوجوب الأبدي له باطل اتفاقا قال المصنف: "وهذا" اللازم "ليس بلازم؛ لأن وجوب الاجتهاد لا يثبت إلا عند الحادثة بشرطه" أي وجوبه "فقد أخذ السبب حكمه" بالاجتهاد الأول عندها "واحتمال الخطإ فيه لم يقدح" فيه بعد ذلك "فلا يجب" الاجتهاد "الآخر إلا بمثله" أي الأول من وجود السبب، والشرط بقي الشأن في أن تكرارها هل هو سبب موجب للنظر ثانيا فيها مستجمع لشرط وجوبه لم يفصح المصنف به وقال الآمدي: المختار أنه إن لم يكن ذاكرا لاجتهاده الأول فيجب وإلا فلا واختاره أبو الخطاب من الحنابلة وقال السبكي: واعلم أن الأصح في مذهبنا لزوم التجديد، والمسألة مفروضة فيما إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأول ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرا لم يلزمه قطعا، وإن تجدد ما قد يوجب الرجوع لزمه قطعا انتهى.(26/173)
"قلت:" وسبقه إليه النووي ثم الظاهر أن المراد فإن كان ذاكرا ولم يتجدد ما قد يوجب الرجوع عما ظهر له بالاجتهاد الأول وحذفه لقرينة مقابلة، فإنه يفيد أنه إن تجدد ما قد يوجب الرجوع عنه لزمه سواء كان ذاكرا للدليل الأول، أو لا، وإن كان في لزومه مع ذكر الدليل الأول مطلقا نظر فلا جرم أن قال متأخر منهم، فإن كان الأول راجحا على ما يقتضي الرجوع عمل بالأول ولا يعد الاجتهاد وإلا أعاد بخلاف ما إذا لم يكن ذاكرا له، فإن الأخذ بالأول من غير نظر يكون أخذا بشيء من غير دليل عليه إذ لا ثقة ببقاء الظن منه في هذه الحالة على ما فيه من تأمل، ومن ثمة حكي فيه قول بالمنع بناء على أن الظن السابق قوي فيعمل به؛ لأن الأصل عدم رجحان غيره وقال شريح الروياني في روضة الحكام اجتهد لنازلة فحكم، أو لم يحكم ثم حدثت ثانيا فيه وجهان الصحيح إذا كان الزمان قريبا لا يختلف في مثله الاجتهاد لا يستأنفه، وإن تطاول استأنف، وذكر الشافعية أيضا في العامي يستفتي المجتهد في واقعة ثم تقع له ثانيا إن علم أنه أفتاه عن نص كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو كان قد يتحرى في مذهب واحد من أئمة السلف ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فأفتاه عن نص صاحب المذهب فله أن يعمل بالفتوى الأولى، وإن علم أنه أفتاه عن اجتهاد، أو شك في ذلك فوجهان أصحهما يلزمه السؤال ثانيا لاحتمال تغير اجتهاد المجتهد قال الرافعي: وهذا عندي إذا مضت مدة من الفتوى الأولى يجوز تغير الاجتهاد فيها غالبا، فإن قربت لم يلزمه الاستفتاء ثانيا، وقال النووي: محل الخلاف ما لم يكثر وقوع هذه المسألة، فإن كثر لم يجب على العامي تجديد(26/174)
ص -424-…السؤال قطعا وخص ابن الصلاح الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا كان خبرا عن ميت أنه لم يلزم العامي تجديد السؤال، وهو ظاهر الرافعي وأفاد في جمع الجوامع أنه يلزمه لاحتمال مخالفة ما ذكره أولا باطلاعه على ما يخالفه من نص الإمام وفيه نظر.
مسألة: لا يصح في مسألة لمجتهد قولان متناقضان
قال عامة العلماء: "لا يصح في مسألة لمجتهد" بل لعاقل في وقت واحد "قولان" متناقضان "للتناقض، فإن عرف المتأخر" منهما "تعين" أن يكون ذلك "رجوعا" عن الأول إليه "وإلا" لو لم يعرف المتأخر "وجب ترجيح المجتهد بعده" أي ذلك المجتهد لأحدهما "بشهادة قلبه" كما في تعارض القياسين "وعند بعض الشافعية يخير متبعه المقلد في العمل بأيهما شاء كذا في بعض كتب الحنفية المشهورة وكأن المراد بالمجتهد" المذكور المجتهد "في المذهب وإلا فترجيح" المجتهد "المطلق بشهادته" أي قلبه "فيما عن" أي ظهر "له" نفسه "والترجيح هنا" لأحدهما إنما هو "على أنه المعول" عليه "لصاحبهما" أي القولين "وقول البعض" من الشافعية "يخير المتبع في العمل" بأيهما شاء "ليس خلافا" لما قبله "بل" هو "محل آخر ذكره ذلك البعض بالنسبة إلى غير المجتهد في حق العمل لا الترجيح" لأحدهما فليتنبه له "وفي بعضها" أي كتب الحنفية "إن لم يعرف تاريخ" للقولين "فإن نقل في أحد القولين عنه" أي المجتهد "ما يقويه فهو" أي ذلك المقوى هو "الصحيح عنده" أي المجتهد "وإلا" إذا لم ينقل عنه ما يقوي أحدهما "إن كان" أي وجد "متبع بلغ الاجتهاد" في المذهب كما تقدم "رجح بما مر من المرجحات إن وجد وإلا" إذا لم يجد "يعمل بأيهما شاء بشهادة قلبه، وإن كان عاميا اتبع فتوى المفتي فيه الأتقى الأعلم بالتسامع، وإن" كان "متفقها تبع المتأخرين وعمل بما هو أصوب وأحوط عنده". وملخص ما ذكره الإمام الرازي وأتباعه أنه إن نقل عن مجتهد واحد في حكم واحد قولان متنافيان فله حالان الحالة الأولى أن يكون في موضع واحد كفي هذه(26/175)
المسألة قولان فيستحيل أن يكونا مرادين له لاستحالة اجتماع النقيضين، فإن ذكر عقب أحدهما ما يدل على تقويته كهذا أشبه، أو تفريع عليه فهو مذهبه وإلا فهو متوقف وحينئذ فلعله يريد بقولين احتمالهما لوجود دليلين متساويين، أو مذهبهم لمجتهدين. الحالة الثانية: أن يكون في موضعين بأن ينص في كتاب على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه، فإن علم المتأخر فهو مذهبه ويكون الأول منسوخا، وإلا حكي عنه القولان من غير أن يحكم على أحدهما بالرجوع. "وإذ نقل قول الشافعي في سبع عشرة مسألة فيها قولان" كما ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد، أو في بضع عشرة ست عشرة، أو سبع عشرة كما قال القاضي أبو حامد المروزي، أو في ست عشرة كما نقله القاضي أبو الطيب عن الأصحاب، أو فيما لا يبلغ عشرا كما نقله الباقلاني في مختصر التقريب عن المحققين "حمل على أن للعلماء قولين" فيها فقال بعضهم بذا، وبعضهم بذا فيحكى قولهم وفائدته أن لا يتوهم من أراد من المجتهدين الذهاب إلى أحدهما أنه خارق للإجماع وقيل التنبيه على أن ما سواهما لا يؤخذ به فيطلب ترجيح أحدهما "أو يحتملهما" لوجود تعادل الدليلين عنده وأيا ما كان فلا ينسب إليه شيء منهما ذكره الإمام الرازي وأتباعه وقيل: يجب اعتقاد نسبة(26/176)
ص -425-…أحدهما إليه، ورجوعه عن الآخر غير معين دون نسبتهما جميعا ويمتنع العمل بهما حينئذ حتى يتبين كالنصين إذا علمنا نسخ أحدهما غير معين، وهذا قول الآمدي قال الزركشي: وهو أحسن من الذي قبله، وإن كان خلاف عمل الفقهاء "أولى فيها" قولان "على القول بالتخيير عند التعادل" بين الدليلين قاله القاضي في التقريب وتعقبه إمام الحرمين بأنه بناء على اعتقاده أن مذهب الشافعي تصويب المجتهدين لكن الصحيح من مذهبه أن المصيب واحد فلا يمكن القول منه بالتخيير وأيضا فيكون القولان بتحريم وإباحة ويستحيل التخيير بينهما "أو تقدما" أي القولان "لي" فيحكي قوليه المرتبين في الزمان المتقدم قال إمام الحرمين: وعندي أنه حيث نص على قولين في موضع واحد فليس له فيه مذهب، وإنما ذكرهما ليتروى فيهما وعدم اختياره لأحدهما ولا يكون ذلك خطأ منه بل يدل على علو رتبة الرجل وتوسعه في العلم وعلمه بطريق الأشباه، فإن قيل فلا معنى لقولكم للشافعي قولان إذ ليس له في هذه المسألة قول ولا قولان على هذا قلنا: هكذا نقول ولا نتحاشا منه، وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما ووافقه الغزالي على هذا والله سبحانه أعلم.
"تنبيه"، وأما اختلاف الرواية عن أبي حنيفة وأحمد فليس من باب القولين للقطع فيهما بأن الشافعي نص عليهما بخلاف الروايتين وأن الاختلاف فيهما من جهة المنقول عنه لا الناقل، والاختلاف في الروايتين بالعكس وذكر الإمام أبو بكر البليغي في الغرر أن الاختلاف في الرواية عن أبي حنيفة من وجوه منها الغلط في السماع كان يجيب بحرف النفي إذا سئل عن حادثة ويقول: لا يجوز فيشتبه على الراوي فينقل ما سمع، ومنها أن يكون له قول قد رجع عنه ويعلم بعض من يختلف إليه رجوعه فيروي الثاني، والآخر لم يعلمه فيروي الأول.(26/177)
"قلت": وهذا أقرب من الأول، ومنها أن يكون قال الثاني على وجه القياس ثم قال ذلك على وجه الاستحسان فيسمع كل واحد أحد القولين فينقل كما سمع.
"قلت" وهذا لا بأس به أيضا غير أن تعيين أن يكون الثاني على وجه القياس غير ظاهر بل الظاهر أن الذي يكون على وجه القياس غالبا هو الأول غالبا لما تقرر أن القياس مقدم على الاستحسان إلا في مسائل فالقياس بمنزلة القول المرجوع عنه، والاستحسان بمنزلة القول المرجوع إليه، والمرجوع عنه قبل المرجوع إليه على أن الأولى أن يقال قال أحدهما على وجه القياس، والآخر على وجه الاستحسان فيسمع كل كلا فينقله، ثم إن هذا إنما يتأتى فيما يتأتى فيه كلاهما ولم يكن في إحداهما قياس واستحسان هي ماشية على إحداهما، ومنها أن يكون الجواب في المسألة من وجهين من جهة الحكم، ومن جهة البراءة والاحتياط فينقل كما سمع.
"قلت": ثم لا يخفى أن المراد ما فيه روايتان لا يخرج عن أحد هذه الموارد لا أن كلا(26/178)
ص -426-…مما فيه ذلك يتخرج على كل منهما وحينئذ لا بأس بعدم اطراد كل ما فيه روايتان، فإن الظاهر أن كل ما فيه روايتان صالح لأحدهما، وهو المطلوب والله سبحانه أعلم.
مسألة: لا ينقض حكم اجتهادي صحيح إذا لم يخالف الكتاب والسنة والإجماع والقياس
"لا ينقض حكم اجتهادي" أي ما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فخرج العقلي، واللغوي وغيرهما وما دليله قطعي "صحيح" فخرج غيره ثم يظهر أن الوجه إسقاط "إذا لم يخالف ما ذكر" أي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ لأنه لا يكون صحيحا مع مخالفته لقطعي منها وينقض إذا خالف قطعيا منها اتفاقا، ولا ينقض لمخالفته لظني منها لتساويهما في الرتبة ثم لا فرق بين أن يكون حكم نفسه بأن تغير اجتهاده، أو حكم غيره بأن خالف اجتهاده صح اجتهاده اتفاقا "وإلا" لو نقض بخلافه "نقض" ذلك "النقض" بخلافه أيضا "وتسلسل" إذ يجوز نقض الحكم الذي هو النقض، وهكذا لا إلى نهاية "فيفوت نصب الحاكم من قطع المنازعات" لاضطراب الأحكام وعدم الوثوق بها ثم كذا حكى الاتفاق المذكور ابن الحاجب والآمدي وغيرهما فلا يتم حينئذ تجويز ابن القاسم نقض ما بان أن غيره صواب "وفي أصول الشافعية لو حكم" حاكم مجتهد "بخلاف اجتهاده، وإن" كان الحاكم المجتهد "مقلدا فيه" أي في ذلك الحكم مجتهدا آخر "كان" ذلك الحكم "باطلا اتفاقا وعلل" كما في شرح العضد "بأنه يجب عليه العمل بظنه وعدم جواز تقليده" مع اجتهاده "إجماعا إنما الخلاف" في جواز تقليده لمجتهد آخر "قبله" أي قبل اجتهاده "على ما مر" فيما قيل قبلها "وأنت علمت قول أبي حنيفة بنفاذ قضائه على خلاف اجتهاده فبطل" اتفاق "عدم نفاذه وأن في التقليد" لغيره "بعد الاجتهاد" منه "روايتين" عن أبي حنيفة أيضا "ثم عدم حل التقليد" على ما قيل: إن الخلاف فيه "لا يستلزم عدم النفاذ لو ارتكب" التقليد "فكم تصرف لا يحل يبتنى عليه صحة ونفاذ الآخر" كعتق المشترى شراء فاسدا "وللشافعية" فرع لو تزوج(26/179)
"مجتهد" امرأة "بلا ولي" بناء على جوازه في اجتهاده "فتغير" اجتهاده بأن رآه غير جائز "فالمختار التحريم مطلقا" أي حكم الحاكم بالتحريم أم لا "لأنه مستديم لما يعتقده حراما"، وهو باطل. "وقيل" يحرم "بقيد أن لا يحكم به" أي بالجواز، فإن حكم به لا يحرم "وإلا" لو حرم بعد حكم حاكم بجوازه "نقض الحكم" الجواز "بالاجتهاد" المؤدي إلى التحريم، والحكم لا ينقض بالاجتهاد "ولولا ما عن أبي يوسف" ما سيأتي "لحكم بأن" هذا "الخلاف خطأ وأن القيد" أي عدم حكم الحاكم بالجواز "مراد المطلق" للتحريم "إذ لم ينقل خلاف في" المسألتين "السابقتين" في مسألة الجبائي ونسب إلى المعتزلة لا حكم في المسألة الاجتهادية إلخ يعني في لزوم حل "المجتهدة" الحنفية "زوجة المجتهد" الشافعي له وحرمتها عليه إذا قال لها: أنت بائن ثم راجعها "وحلها" أي المرأة التي تزوجها مجتهد بلا ولي ثم مجتهد بولي "للاثنين" أي المجتهدين المذكورين "ولأن القضاء يرفع حكم الخلاف لكن عنده" أي أبي يوسف "في مجتهد طلق ألبتة ونوى واحدة فقضى" عليه "بثلاث" بها "إن كان" المجتهد "مقضيا عليه لزم" أي وقع عليه الثلاث "أو" كان مقضيا "له أخذ بأشد الأمرين فلو قضى بالرجعة" له "ومعتقده(26/180)
ص -427-…البينونة يؤخذ بها" أي بالبينونة "فلم يرفع حكم رأيه بالقضاء مطلقا كقول محمد"، فإنه قال يرفع مطلقا "ولو أن المتزوج مقلد ثم علم تغير اجتهاد إمامه فالمختار كذلك" أي يحرم عليه كإمامه "ولو تغير اجتهاده في أثناء صلاته عمل في الباقي" من صلاته "به" أي باجتهاده الثاني "والأصل أن تغيره" أي الاجتهاد "كحدوث الناسخ يعمل به في المستقبل، والماضي على الصحة"، والحاصل أن حكم التغيير بالاجتهاد في العبادة، والمعاملة واحد، وهو أنه شبه الناسخ وابتنى عليه في العبادة الصحة في المستقبل وفي المعاملة فساده ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
[مسألة التعريض](26/181)
"مسألة" تعرف بمسألة التعريض "في أصول الشافعية المختار جواز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت بلا اجتهاد، فإنه صواب" أي موافق لحكمي بأن يلهمه إياه ويكون حكمه إذ ذاك من المدارك الشرعية حتى يكون قوله: هذا حلال تعريفا لنا بأن الله حكم في الأزل بحله لا أنه ينشئ الحكم؛ لأن ذلك من خصائص الربوبية قال ابن الصباغ، وهو قول أكثر أهل العلم هذا والتعبير بالمجتهد موافق للآمدي وابن الحاجب، وهو أخص من التعبير بالعالم، والنبي كالبيضاوي والسبكي، فإن المجتهد، وإن عم النبي فهو أخص من العالم ثم على كل يخرج العامي، وقد ذكر الآمدي جوازه عقلا في حقه أيضا ومنعه غيره قيل للإجماع وقيل لفضل المجتهد وإكرامه ورد باستواء العامي وغيره هنا في الصواب لفرض أن ما يحكم به صواب وطريق وصوله إلى غير النبي إخبار النبي به وقيد بلا اجتهاد؛ لأنه بالاجتهاد جائز للعلماء بلا خلاف وللنبي صلى الله عليه وسلم على ما فيه من خلاف كما تقدم "وتردد الشافعي" في الجواز على ما ذكر الآمدي والرازي. قيل وهو في الرسالة واختاره الإمام وأتباعه وقيل يجوز للنبي دون غيره؛ لأن رتبته لا تبلغ أن يقال له ذلك وذكر الآمدي أنه أحد قولي الجبائي واختاره ابن السمعاني وذكر أن كلام الشافعي في الرسالة يدل عليه، وقال أكثر المعتزلة: لا يجوز وقال أبو بكر الرازي: إنه الصحيح إلا بطريق الاجتهاد، وقد عرفت أن هذا لا خلاف فيه "ثم المختار" عند المجيزين كالآمدي وابن الحاجب "عدم الوقوع واستدلوا للتردد بتأديته" أي الجواز "إلى اختيار ما لا مصلحة فيه" لجهل المفوض إليه بوجوه المصالح "فيكون باطلا"؛ لأن الشارع لا يحكم بذلك قال المصنف "وهذا" الدليل "يصلح للنفي" أي نفي الجواز "لا للتردد المفهوم منه الوقف ثم العجب منه" أي الشافعي كيف يتردد في الجواز "والفرض قول الله تعالى ما تحكم به صواب ولا مانع من العقل" إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال "والأليق أن تردده" أي الشافعي "في الوقوع"(26/182)
مع الجزم بالجواز "كما نقل عنه" وفي بحر الزركشي، وهو الأصح نقلا "الوقوع" دليله قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، فإنه لا يتصور تحريم يعقوب ما حرم من الطعام على نفسه إلا بتفويض التحريم إليه وإلا كان المحرم هو الله تعالى "أجيب لا يلزم كونه" أي ما حرم إسرائيل على نفسه "عن تفويض" إليه فيه "لجوازه" أي كونه محرما عليه "عن اجتهاد في(26/183)
ص -428-…ظني" وإسناد التحريم إليه مجاز كما في نحو حرم أبو حنيفة كذا وأباحه الشافعي على أن الحاكم هو الله على كل حال، والتفويض لا يقتضي إسناد الحكم إلى العبد، وإنما يكون فعله علامة على ما ذكرنا وكلامنا في تفويض الحكم إلى المجتهد اختيارا من غير نظر في مستنداته الشرعية لا اجتهادا. "وقد يقال: لو" كان تحريم ما حرم إسرائيل على نفسه "عنه" أي عن اجتهاد ظني "لم يكن كله" أي الطعام "حلا" لبني إسرائيل "قبله" أي إنزال التوراة "لأن الدليل يظهر الحكم لا ينشئه لقدمه" أي الحكم فلا يتم الجواب المذكور "قال" القائل بالوقوع أيضا "قال عليه السلام": "إن الله حرم مكة فلا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فقال "إلا الإذخر" لفظ البخاري أي لا يقطع نباتها الرطب ولا شجرها، والإذخر بالذال، والخاء المعجمتين وكسر الهمزة، والخاء نبت طيب الرائحة معروف "ومثله" أي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يكون عن وحي لزيادة السرعة" في الجواب مع عدم ظهور علامات نزوله "ولا اجتهاد" لذلك أيضا "أجيب بأحد أمور: كون الإذخر ليس منه" أي من الخلا أي لا يصلح لفظ الخلا له ليتناوله الحكم، والدليل الدال على إباحته استصحاب حال الحل "واستثناء العباس منقطع"، وهو شائع سائغ، ولو مجازا. "وفائدته" أي هذا الاستثناء هنا "دفع توهم شموله" أي الإذخر "بالحكم" الذي هو المنع "وتأكيد حاله" أي الإذخر الذي هو الحل "أو" كون الإذخر "منه" أي الخلا أي يصلح لفظ الخلالة "ولم يرده" النبي صلى الله عليه وسلم من عموم لفظ خلاها بناء على تخصيصه منه وصرف اللفظ عن ظاهره حيث أريد به بعض ما هو مدلوله "وفهم" العباس "عدمها" أي عدم إرادته منه "فصرح" بالمراد الذي هو قصر اللفظ على البعض تحقيقا لما فهمه "ليقرر عليه السلام" عليه فقال صلى الله(26/184)
عليه وسلم إلا الإذخر ليقرر ما فهمه لا ليخرج من لفظ خلاها المذكور بعض ما هو داخل بحسب الدلالة غير داخل بحسب الحكم "وأورد إذا لم يرد" الإذخر من دلالة لفظ الخلا "فكيف يستثنى" إذ المستثنى يجب أن يكون مرادا بحسب دلالة اللفظ غير مراد بحسب الحكم "أجيب بأنه" أي إلا الإذخر "ليس" مستثنى "من" الخلا "المذكور بل من مثله مقدرا" فكأن العباس قال لا يختلى خلاها إلا الإذخر وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: لا يختلى خلاها إلا الإذخر فالاستثناء، والتقرير من خلاها المقدر لا المذكور والذي سوغ للعباس تقدير التكرير اتحاد معنى قولهما لا يختلى خلاها بحسب اللغة سواء كان الإذخر مرادا منه، أو لم يكن قال المصنف: "وهذا السؤال بناء على ما تقدم" في بحث الاستثناء "من اختيار أن المخرج" من الصدر "مراد بالصدر بعد دخوله" أي المخرج "في دلالته" أي الصدر عليه "ثم أخرج" المخرج من الصدر "ثم أسند" الحكم إلى الصدر كما هو مختار ابن الحاجب "ونحن وجهنا قول الجمهور أنه" أي المخرج "لم يرد" بالصدر "وإلا قرينة عدم الإرادة" منه "كما هو بسائر التخصيصات فلا حاجة للسؤال وتكلف هذا الجواب وإما منه"، والأحسن، أو منه أي من الخلا أي يصلح لفظه له "وأريد" الإذخر "بالحكم" الذي هو التحريم أيضا "ثم(26/185)
ص -429-…نسخ" تحريمه "بوحي كلمح البصر خصوصا على قول الحنفية إلهامه" صلى الله عليه وسلم "وحي، وهو لاستحقاقهم معنى في القلب دفعة" بلا واسطة عبارة الملك ولا إشارته مقرون بخلق علم ضروري أنه منه تعالى كما تقدم وكأنه إنما لم يذكره اكتفاء بتقدمه، وظهور العلامات إنما يكون في الوحي المندرج لا فيما هو كلمح البصر، أو كان إلهاما "وأورد: الاستثناء يأباه" أي كونه منسوخا بوحي كلمح البصر؛ لأن الاستثناء يمنع من الدخول في الحكم، ومن شأن المنسوخ أن يكون داخلا في الحكم قبل النسخ. "أجيب بأن الاستثناء من مقدر للعباس" مثل المذكور كما ذكرنا "لا مما ذكره عليه السلام، والنسخ بعده" أي بعد ذكره صلى الله عليه وسلم "مع ذكر العباس فذكره عليه السلام بعده" أي بعد ذكر العباس "ثم لا يخفى أن استثناء العباس من مقدر" مثل المذكور "على كل تقدير؛ لأنه" أي استثناء العباس "تركيب متكلم آخر، ووحدة المتكلم معتبرة في الكلام على ما هو الحق لاشتماله" أي الكلام "على النسبة الإسنادية ولا يتصور قيامها بنفسها بمحلين، ومنه" أي وكذا الاستثناء منه "صلى الله عليه وسلم على الثاني" أي إن الإذخر من الخلا ولم يرد منه. "قالوا" أي القائلون بالوقوع أيضا "قال عليه السلام "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" أخرجه النسائي وابن خزيمة وعلقه البخاري جزما إلى غير ذلك فأضاف الأمر إلى نفسه، وهو صريح في أن الأمر وعدمه إليه "وقال" أيضا: "لقائل أحجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال "للأبد، ولو قلت نعم لوجب"" كذا ذكره ابن الحاجب وغير خاف أنه لا حاجة هنا إلى لفظ " فقال " ثم الحديث لم يحفظ بهذا السياق قال شيخنا الحافظ ملفق من حديثين حديث جابر بن عبد الله أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعا لم يحج ثم أذن في الناس بالحج، وفيه فقال سراقة بن جعشم: ألعامنا هذا يا رسول الله، أو للأبد فقال: "بل للأبد"، وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وأخرج(26/186)
المقصود منه البخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا فقال رجل يا رسول الله أفي كل عام فسكت ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، والرجل الأقرع بن حابس كما في رواية أبي داود وغيره، وهو صريح في أن قوله المجرد من غير وحي يوجب فدل على أنه كان مفوضا إليه، فإنه لا ينطق عن الهوى "ولما قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث بأمره عليا رضي الله عنه بذلك بالصفراء في مرجعه من بدر فقتله صبرا ثم سمع ما أنشدته أخته قتيلة. على ما ذكر ابن إسحاق وابن هشام، واليعمري. وقال السهيلي: الصحيح أنها بنت النضر كذلك قال الزبيدي ووقع في الدلائل ومشى عليه الذهبي في التجريد، ومن قبله الآمدي، والرازي وأتباعهما:
ما كان ضرك لو مننت وربما…من الفتى وهو المغيظ المحنق
"في أبيات" سابقة على هذا هي:
يا راكبا إن الأثيل مظنة…من صبح خامسة وأنت موفق(26/187)
ص -430-…أبلغ بها ميتا بأن تحية …ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة…جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعن النضر إن ناديته …أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة…في قومها والفحل فحل معرق
ولاحقة له وهي:
أو كنت قابل فدية فلينفقن…بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة…وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه …لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا …رسف المقيد وهو عار موثق(26/188)
الأثيل موضع قبر أخيها بالصفراء ومعنى من صبح خامسة أي ليلة خامسة؛ لأنها كانت بمكة وبينها وبين الأثيل هذه المسافة وتخفق بضم الفاء وكسرها تضطرب، والهمزة في أمحمد للنداء، والتنوين فيه للضرورة وضنء بكسر الضاد المعجمة وفتحها مع همزة آخره الولد الذي يضن به أي يبخل به لعظم قدره وأعرق فهو معرق على البناء للمفعول فيهما أي له عرق في الكرم وعلى البناء للفاعل بمعنى أنتج، والمعنى أنت كريم الطرفين وما نافية، أو استفهامية، والمعنى أي شيء كان يضرك لو عفوت، والفتى وإن كان مغضبا مضجرا مطويا على حنق وحقد وعداوة قديمة ويعفو وفي هذا اعتراف بالذنب. "قال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه" وذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب فرق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال لأبي بكر لو سمعت شعرها ما قتلت أباها. وهذا مما يشهد بأنها ابنته فلو لم يكن القتل وعدمه إليه لم يفرق الحال بين بلوغ شعرها إليه وعدم بلوغه. "أجيب بجواز كونه" صلى الله عليه وسلم "خير فيها" أي في هذه الصور الثلاثة "معينا" أي كأنه قيل له: أنت مخير في إيجاب السؤال وعدمه وتكرار الحج وعدمه وقتل النضر وعدمه "أو" كون القول المذكور فيها "بوحي سريع" لا من تلقاء نفسه على أن في الاستيعاب قال الزبير وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها ويذكر أنها مصنوعة وقال الإسنوي، والأحسن في الجواب أن يقال: أما قضية النضر فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا فيه وفي غيره من الأسارى، والتخيير ليس بممتنع اتفاقا بل هذا التخيير ثابت في حق كل إمام، وأما قوله للأقرع: لو قلت نعم لوجب فمدلوله الوجوب على تقدير قوله نعم وهذا صحيح معلوم بالضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقول نعم إلا إذا كان الحكم كذلك ولكن من أين لنا أن الحكم كذلك فقد يكون ممتنعا وقوله لو قلت نعم لا يدل على جواز قولها؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذي فيها، وأما قوله "لولا(26/189)
أن أشق على أمتي" فيحتمل أن يكون البارئ تعالى أمره بأن يأمرهم عند عدم المشقة فلما وجد المشقة لم يأمرهم انتهى قال المصنف "ولا يخفى أن" الجواب "الأول رجوع عن الدعوى، وهو" أي الدعوى "أنه" أي التفويض "لم يقع واعتراف بالخطأ" في نفي الوقوع؛ لأنه من قبل نافيه "فالحق أنه" أي التفويض "وقع ولا ينافي" وقوعه "ما تقدم من(26/190)
ص -431-…أنه" صلى الله عليه وسلم "متعبد بالاجتهاد" أي مأمور بالقياس عند حضور الواقعة وعدم النص "; لأن وقوع التفويض في أمور مخصوصة لا ينافيه" أي كونه متعبدا بالاجتهاد، وإنما ينافيه وقوعه في الكل "وإذن فكونه" صلى الله عليه وسلم "كذلك" أي فوض إليه "في الإذخر" فيجاب به عن الاحتجاج به على الوقوع ولا يلزم منه ثبوت المدعى إذ لا يلزم من التفويض إليه في هذه الجزئية الخاصة بل ولا في جزئيات خاصة ثبوته كليا "أسهل مما تكلف" في أجوبته من الوحي، أو النسخ الذي كلمح البصر المقارن لقول العباس مع أن النفس الحادثة لا يرتسم فيها المعاني المتباينة دفعة بل على التعاقب "وأقرب إلى الوجود". قلت: غير أن الكلام المصنف يوهم أن القول ما قاله القائلون بالوقوع وليس كذلك، فإن الذي يظهر كون محل النزاع هو الوقوع كليا؛ لأنه المتنازع في جوازه أولا ثم في وقوعه ثانيا كما هو ظاهر جواب مانعيه وموضع المسألة لا جواز التفويض في الجملة أولا ثم وقوعه ثانيا ليترتب عليه بهذه الجزئيات صحة قول القائلين بالوقوع وعدم صحة قول مانعيه وحينئذ فالحق الأبلج أنه إنما يثبت الوقوع بثبوت سمع يفيده المكلف، أو مجتهد، أو بني على الاختلاف في ذلك، والقطع بانتفائه على التقديرين الأولين، والظاهر انتفاؤه على التقدير الثالث مع ما يشده من وجود المنافي له من تحقق كونه متعبدا بالاجتهاد ثم لا يتعين وقوعه في جزئيات خاصة عن وقوعه له كليا ولا ينبغي أن يختلف فيه هذا وقال ابن السمعاني: هذه المسألة، وإن أوردها متكلمو الأصوليين فليست بمعروفة بين الفقهاء وليس فيها كبير فائدة؛ لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد ولا يتوهم وجوده في المستقبل فأما في حق النبي فقد وجد انتهى، وقد عرفت ما في هذا والله سبحانه أعلم.
مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهد(26/191)
"يجوز خلو الزمان عن مجتهد" كما هو المختار عند الأكثر منهم الآمدي وابن الحاجب "خلافا للحنابلة" والأستاذ أبي إسحاق والزبيدي من الشافعية في منع الخلو عنه مطلقا ولابن دقيق العيد في منعه الخلو عنه ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى جاز الخلو عنه "قلت": وما أظن أن أحدا يخالف في هذا، والظاهر أن إطلاق المطلقين المنع محمول على ما دون هذا "لنا لا موجب" لمنعه. "والأصل عدمه" أي عدم موجب المنع "بل دل على الخلو قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء" وهذا هو المراد بقوله "إلى قوله "حتى إذا لم يبق عالم، أو حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء، أو رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"" رواه أحمد، والستة وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" رواه البخاري، والمراد برفع العلم قبضه.
"قالوا" أي الحنابلة أولا "قال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" أخرجه البخاري بدون لفظ على الحق وابن وهب بلفظ(26/192)
ص -432-…"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى تقوم الساعة" وهذا يبين المراد بأمر الله "أو حتى يظهر الدجال" قال شيخنا الحافظ روينا معناه من حديث قرة بن إياس المزني بلفظ حتى يقاتلوا الدجال أخرجه الحافظ أبو إسماعيل في كتاب ذم الكلام وهي لفظة شاذة فقد رواه الحافظ من أصحاب شعبة عنه بلفظ حتى تقوم الساعة فصرح بعدم الخلو إلى القيامة وأشراطها؛ لأن ظهور طائفة على الحق في عصر مستلزم وجود العلم، والاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا بالعلم فيكون المجتهد موجودا في كل عصر، وهو المطلوب "أجيب لا يدل على نفي الجواز"؛ لأن القضية المطلقة أعم من الضرورية، والعام لا يستلزم الخاص. قال المصنف "ولا يخفى أن مرادهم" أي الحنابلة "لا يقع" خلو الزمان عن المجتهد "وإلا لزم كذبه" لو وقع، واللازم باطل فالملزوم مثله "والحديث يفيده" أي عدم الوقوع "إذ لا يتأتى لعاقل إحالته" أي الخلو "عقلا فالوجه الترجيح بأظهرية الدلالة" للحديث الأول الدال على الخلو "على نفي العالم الأعم من المجتهد" فيستلزم نفي المجتهد؛ لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص "بخلاف الظهور على الحق"، فإنه لا يستلزم وجود المجتهد "لأنه" أي الظهور على الحق الأعم من الاجتهاد "يتحقق دون اجتهاد كما يتحقق بإرادة الاتباع، ولو تعارضا" أي ما يوجب الخلو، وهو الأول وما يوجب عدمه، وهو الثاني وتساقطا "بقي عدم الموجب" لوجود المجتهد فجاز على الله أن لا يوجده لعدم إخبار منه بلا معارض أنه يوجده ألبتة.(26/193)
"قالوا" ثانيا الاجتهاد "فرض كفاية فلو خلا" الزمان عن المجتهد "اجتمعوا" أي الأمة. "على الباطل"، وهو محال "أجيب إذا فرض موت العلماء لم يبق" فرضا؛ لأن شرط التكليف الإمكان، وإذا فرض الخلو بموت العلماء لم يكن ممكنا مقدورا "على أنه" أي هذا الدليل "في غير محل النزاع؛ لأن فرض الكفاية الاجتهاد بالفعل" أي تحصيل المكلف مرتبته، وهو ممكن للعوام، ومحل النزاع إنما هو حصوله بالفعل؛ لأنه المنافي لخلو الزمان بموت العلماء لا الإمكان، والقدرة هذا وقول السبكي لم يثبت وقوع خلو الزمان من المجتهد إن أراد المطلق كما هو ظاهر الإطلاق فمتعقب بقول القفال والغزالي العصر خلا عن المجتهد المستقل وبقول الرافعي الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم وبما في الخلاصة القاضي إذا قاس مسألة على مسألة في حكم فظهر رواية أن الحكم بخلافه فالخصومة للمدعى عليه يوم القيامة على القاضي وعلى المدعي؛ لأن القاضي آثم بالاجتهاد؛ لأنه ليس أحد من أهل الاجتهاد في زماننا، والمدعي آثم بأخذ المال وما قيل الظاهر أن المراد المجتهد القائم بالقضاء، فإن المحققين من العلماء كانوا يرغبون عنه ولا يلي في زمانهم غالبا إلا من هو دون ذلك وكيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوها عن مجتهد والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبرة: تسأل عن مذهب الشافعي أم ما عندي وقال هو والشيخ أبو علي والقاضي حسين لسنا مقلدين للشافعي بل وافق رأينا رأيه فهذا كلام من لا يدعي رتبة الاجتهاد وقال ابن الرفعة: ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد فغير ظاهر بل كلام بعضهم ناب عنه كما رأيت(26/194)
ص -433-…ثم بعد تمشيته على ما فيه لا يلزم منه أنه لم يخل عصر من الأعصار الماضية من المجتهد المطلق ولا يجوز أن يخلو منه عصر من الأعصار الآتية، وهو المطلوب والله سبحانه أعلم.
مسألة: التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج
"التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج" الأربع الشرعية "بلا حجة منها فليس الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منه" أي من التقليد على هذا؛ لأن كلا منهما حجة شرعية من الحجج الأربع، وكذا ليس منه على هذا عمل العامي بقول المفتي وعمل القاضي بقول العدول؛ لأن كلا منهما، وإن لم يكن إحدى الحجج فليس العمل به بلا حجة شرعية لإيجاب النص أخذ العامي بقول المفتي وأخذ القاضي بقول العدول، وكأنه لم يتعرض لهما لظهورهما بل على هذا لا يتصور تقليد في الشرع لا في الأصول ولا في الفروع فإن حاصله اتباع من لم يقم حجة باعتباره، وهذا لا يوجد في الشرع فإن المكلف إما مجتهد فمتبع لما قام عنده بحجة شرعية، وإما مقلد فقول المجتهد حجة في حقه فإن الله - تعالى - أوجب العمل عليه به كما أوجب على المجتهد بالاجتهاد فلو جاز تسمية العامي مقلدا جاز تسمية المجتهد مقلدا، وعلى هذا مشى القاضي الباقلاني ثم ابن السمعاني وابن الحاجب وغيرهم. قال أبو حامد الإسفراييني والروياني وإمام الحرمين، وإنما صورة الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم صورة التقليد وليس بتقليد حقيقة بل نقل الباقلاني الإجماع عليه ومنع بقول أبي محمد الجويني إن الشافعي نص على أنه يسمى تقليدا فإنه قال فيما ذهب إليه من أنه لا يجب الأخذ بقول الصحابي ما نصه فأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا هـ. وكون مراد الشافعي أن صورته صورة التقليد كما ذكر الروياني خلاف الظاهر بل خطأ الماوردي من قال إنه ليس بتقليد ا هـ. نعم قال إمام الحرمين هو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق وقال أيضا الذي عليه معظم(26/195)
الأصوليين أن العامي مقلد للمجتهد فيما يأخذه عنه، وقال بعضهم: إنه المشهور فلا جرم أن ذكر الغزالي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم أنه لو سمى الرجوع إلى الرسول أو إلى الإجماع والمفتي والشهود تقليدا فلا مشاحة في ذلك فإن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء بعد رعاية المناسبة، وعلى هذا قول المصنف "بل المجتهد والعامي إلى مثله، وإلى المفتي" أي بل التقليد رجوع المجتهد إلى مثله والعامي إلى مثله، وإلى المفتي أيضا في الأحكام الشرعية كما ذكر الآمدي وغيره "هذا هو المعروف من تقليد عامة مصر الشافعي ونحوه" وقد يعبر عنه كما في جمع الجوامع بأخذ القول بغير معرفة دليله، وعليه مشى القفال وغيره فخرج أخذه مع معرفة دليله فإنه ليس بتقليد، وإن وافق قول مجتهد به فإنه في الحقيقة أخذ من الدليل لا من المجتهد بل قد قيل: إن أخذه مع معرفة دليله نتيجة الاجتهاد؛ لأن معرفة الدليل إنما يكون للمجتهد لتوقفها على معرفة سلامته من المعارض بناء على وجوب البحث عنه، وهي متوقفة على استقراء الأدلة كلها ولا يقدر على ذلك إلا المجتهد بقي أخذ المجتهد بقول العامي فجزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب أنه لا يسمى تقليدا؛ لأنه لا بد له من نوع اجتهاد. قلت:(26/196)
ص -434-…وفيه نظر فإنه غير لازم كما في الرجوع في قيم المتلفات إلى العامي من أهل الخبرة بها نعم إن كان ذلك مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه ثم قيل على هذا يسمى العمل بقوله صلى الله عليه وسلم تقليدا إذا قلنا كان يقول عن قياس أيضا ولم يدر قال ذلك عن وحي أو قياس قلت وحيث كان المسوغ لتسميته تقليدا عدم العلم بأخذه من الوحي عينا وكان صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ على تقدير تعبده بالاجتهاد فيما لا نص فيه بعد مضي مدة الانتظار للوحي، وأنه وحي باطن كما تقدم هذا كله فلا يسمى تقليد التعين كونه عن الوحي هذا، والمراد بالقول الرأي فيشمل ما كان قولا أو فعلا وهذا أحسن من قول التفتازاني والمراد بالقول ما يعم الفعل والتقرير تغليبا وقول الأبهري هو أعم من اللفظي والنفسي فلا يرد عليه ما قاله بعض المتأخرين من خروج الأخذ بفعل الغير من غير حجة عنه ثم غير خاف أنه لا بد أن يكون ذلك المأخوذ به له نوع اختصاص بالمأخوذ عنه ليخرج ما علم بالضرورة فإنه لا اختصاص له بالمأخوذ عنه، وقال المصنف "وكان الوجه جعل المعرف بما ذكر التقلد؛ لأنه" أي المقلد "جعل قوله" أي من قلده "قلادة" في عنقه وهذا تقلد لا تقليد "فتصحيحه" أن يقال المراد "جعل عمله قلادة إمامه" الذي قلده فكأنه يطوقه ما فيه من تبعة إن كانت.(26/197)
"والمفتي المجتهد وهو الفقيه" أيضا اصطلاحا أصوليا كما قدمناه في أوائل الاجتهاد؛ لأن من قامت به صفة جاز أن يشتق له منها اسم فاعل فلا جرم إن قال الصيرفي موضوع هذا الاسم لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك في السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان إحداهما أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى. والثانية أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول ا هـ. وفي أصول ابن مفلح قال أصحابنا وغيرهم يحرم تساهل المفتي وتقليد معروف به وفي شرح البديع للهندي ويجب أن يكون عدلا ثقة حتى يوثق به فيما يخبر به من الأحكام ا هـ. يعني فهذا من شرط قبول فتواه لا من شرط صحة اجتهاده كما تقدم في أوائل الاجتهاد وأنه لا يشترط فيه الذكورة والحرية وقال أحمد لا ينبغي أن يفتي حتى يكون له نية ووقار وسكينة قويا على ما هو فيه ومعرفته، والكفاية، وإلا مضغه الناس، ومعرفة الناس. قال ابن عقيل: هذه الخصال مستحبة فيقصد الإرشاد، وإظهار أحكام الله تعالى لا رياء ولا سمعة والتنويه باسمه، والسكينة والوقار يرغب المستفتي وهم ورثة الأنبياء فيجب أن يتخلقوا بأخلاقهم والكفاية لئلا ينسبه الناس إلى التكسب بالعلم وأخذ العوض عليه فيسقط قوله ومعرفة الناس تحتمل حال الرواة وتحتمل حال المستفتين فالفاجر لا يستحق الرخص فلا يفتيه بالخلوة بالمحارم مع علمه بأنه يسكر، والحق كما في أصول ابن مفلح أن الخصلة الأولى واجبة، وللمفتي رد الفتوى وفي البلد غيره أهل لها شرعا خلافا للحليمي، وإلا لزمه(26/198)
ص -435-…ذكره أبو الخطاب وابن عقيل وغيرهما ولا يلزمه جواب ما لم يقع وما لا يحتمله السائل ولا ينفعه بل ذكر ابن عقيل أنه يحرم إلقاء علم لا يحتمله ولعله المراد بقول ابن الجوزي لا ينبغي. وقال البخاري قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وروي معناه مرفوعا من غير طريق وسئل أحمد عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم فقال للسائل أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا ويفتى أخرس بإشارة مفهومة أو كتابة، وكان السلف يهابون الفتيا ويشددون فيها ويتدافعونها وينكرون عليها حتى قال ابن أبي ليلى أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه. وقال عطاء بن أبي رباح: أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد إلى غير ذلك وما أحسن قول القائل ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن يبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب ومعلم الخير أن يفتح له طرق السداد وأن يدله على حكمه الذي شرعه لعباده في تلك المسألة وما أجدر من فضل ربه أن لا يحرمه إياه.(26/199)
"والمستفتي من ليس إياه" أي مفتيا "ودخل" في المستفتى "المجتهد في البعض" من المسائل الاجتهادية "بالنسبة إلى" المجتهد "المطلق" نعم حيث قلنا بتجزؤ الاجتهاد فقد يكون الشخص مفتيا بالنسبة إلى أمر مستفتيا بالنسبة إلى آخر، وينبغي له حفظ الأدب مع المفتي، وإجلاله قولا وفعلا، وتركه ما لا يعنيه من السؤال واحتج الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله - تعالى - {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال وكثرة السؤال. وفي لفظ "إن الله كره لكم ذلك" متفق عليه وقال البيهقي: كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة؛ لأن الاجتهاد إنما يباح عند الضرورة ثم روي عن معاذ أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله. وأخرج أبو داود في المراسيل عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سدد ووفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل ها هنا وها هنا" ولأحمد عن ابن عمر لا تسألوا عما لم يكن فإن عمر نهى عنه وعن ابن عباس أنه قال عن الصحابة ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم وله أيضا ولأبي داود عن معاوية مرفوعا: نهى عن الغلوطات. قيل بفتح الغين المعجمة وأحدها غلوطة، وقيل بضمها وأصلها الأغلوطات قال الأوزاعي هي شداد المسائل وقال عيسى بن يونس هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف قال الحافظ ابن رجب: ويروى من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل بعض المسائل أولئك شرار أمتي". وقال الحسن شرار عباد الله الذين يتبعون شداد المسائل يغمون بها عباد الله وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علما وبالجملة فقد نهى السلف عنها قال بعض الحنابلة: ويعزر فاعله،(26/200)
والله سبحانه أعلم.(26/201)
ص -436-…"والمستفتى فيه" الأحكام "الفرعية الظنية" قال المصنف "والعقلية ولذا" أي كون المستفتى فيه قد يكون حكما عقليا "صححنا إيمان المقلد، وإن أثمناه" بترك الاجتهاد، وإلا لو كان العقلي غير جائز أن يكون مستفتى فيه لم يصحح إيمان المقلد؛ لأنه رأس العقائد وأمر القواعد المتظافر على ثبوته الدليل العقلي والنقلي القطعي نعم لا بد أن لا يكون ذلك منه مع تجويز شبهة فلا جرم إن قال صاحب الصحائف من اعتقد أركان الدين تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز شبهة فهو كافر ومن لم يعتقد ذلك فقيل مؤمن، وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين وهو مذهب الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين وقيل لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان الأدلة وهو مذهب الأشعري. ا هـ. وإذا عرف هذا "فما يحل الاستفتاء فيه" الأحكام "الظنية لا العقلية على الصحيح" فلا يجوز التقليد فيها بل يجب تحصيلها بالنظر الصحيح كما هو قول الأكثرين، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب بل حكاه الأستاذ الإسفراييني عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف ثم لا يخفى أن الأولى أن يذكر "لا قصر صحته" أي المستفتى فيه الذي يقع فيه التقليد "على" الأحكام "الظنية" بعد قوله إن أثمناه، وقوله "كوجوده تعالى" مثال لما هو من العقليات ومقابل الصحيح "وقيل يجب" التقليد في العقليات المتعلقة بالاعتقاد "ويحرم النظر" والبحث فيها وهو معزو إلى قوم من أهل الحديث والظاهر، ونقله صاحب الأحوذي عن الأئمة الأربعة ذكره الزركشي. قلت وفيه نظر فإنه لم يحفظ عنهم، وإنما توهم عنهم من نهيهم عن تعلم علم الكلام والاشتغال به ولكن من تتبع حالهم علم أن نهيهم محمول على من خيف أن يزل فيه حيث لا يكون له قدم صدق في مسالك التحقيق فيقع في شك أو ريبة لا على من له قوة تامة وقدم صدق "والعنبري" وبعض الشافعية على ما في أصول ابن مفلح وعزاه الآمدي إلى الحشوية(26/202)
والتعليمية قالوا "يجوز" التقليد فيها ولا يجب النظر "لنا الإجماع" منعقد "على وجوب العلم بالله تعالى" وصفاته على المكلف "ولا يحصل" العلم به "بالتقليد لإمكان كذبه" أي المفتي المخبر "إذ نفيه" أي الكذب عنه "بالضرورة منتف"؛ لأنه لا يجب أن يكون معصوما فيما أخبر به من الاجتهاد فلا يحصل العلم بقوله فيكون تاركا للواجب، وهو العلم اليقيني "وبالنظر لو تحقق يرفع التقليد ولأنه لو حصل" العلم بالتقليد "لزم النقيضان بتقليد اثنين" لاثنين "في حدوث العالم وقدمه" بأن يحصل لزيد العلم بحدوثه تقليدا منه للقائل به ولعمرو العلم بقدمه تقليدا للقائل به إذ العلم يستدعي المطابقة فيلزم حقيقة الحدوث والقدم.
"المجوز" للتقليد فيها النافي لوجوب النظر وموافقوه قالوا أولا "لو وجب النظر لفعله الصحابة وأمروا به"؛ لأنهم لا يتركون واجبا عليهم يتعلق بهم أو بغيرهم من غير عذر في تركه، والفرض انتفاؤه "وهو" أي المجموع من الفعل والأمر "منتف" ولا سيما بالنسبة إلى أكثر عوام العرب فإنهم لم يكونوا عالمين بالأدلة الكلامية "وإلا" لو وجد ذلك منهم "لنقل كما" نقل عنهم النظر "في الفروع" فلما لم ينقل علم أنه لم يقع "الجواب منع انتفاء التالي" أي عدم(26/203)
ص -437-…فعلهم، وإلا لزم نسبتهم إلى أنهم كانوا جاهلين بالله تعالى وبصفاته؛ لأن العلم به ليس ضروريا، وهو باطل وعدم أمرهم غيرهم به. "بل علمهم، و" علم "عامة العوام" بالله تعالى وبصفاته حاصل لهم "عن النظر إلا أنه لم يدر" النظر "بينهم" أي الصحابة "لظهوره" لهم بواسطة ما لهم من سلامة الفطرة ومشاهدة الآيات الباهرة "ونيله" لهم "بأدنى التفات إلى الحوادث" لصفاء قريحتهم ونقاء سريرتهم وكمال استعدادهم وكيف لا وهم معاينون بالليل والنهار أنوار منبع الأنوار، وهدي المرسل رحمة للعالمين في سائر الأعصار فإن ذلك مما يعد النفوس الزكية لدرك الأمور الإلهية والصفات القدسية لانهزام عساكر الأوهام الموجبة لاختلاف الآراء وضلالات الخيالات والأهواء، وكانوا يكتفون من النظر من غيرهم بما يظهر عليه من حصوله له من الانقياد والإذعان إلى الإيمان وآثار القطع به والإيقان بحيث لو سئل عن سببه لأتى به أكمل مما أجاب به الأعرابي للأصمعي عن سؤاله له بم عرفت ربك حيث قال البعرة تدل على البعير وآثار الأقدام على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير. غايته أنهم ما كانوا يؤدون ذلك بالعبارات والترتيب المتعارف للمتكلمين "وليس المراد" من النظر الواجب "تحريره على قواعد المنطق" بل ما يوصل إلى الإيمان بطريق الاستدلال على أي طريق كان "ومن أصغى إلى عوام الأسواق امتلأ سمعه من استدلالهم بالحوادث" على محدثها. "والمقلد المفروض" في الإيمان "لا يكاد يوجد فإنه قل أن يسمع من لم ينتقل ذهنه قط من الحوادث إلى موجدها، و" الحال أنه "لم يخطر له الموجد أو خطر فشك فيه من يقول لهذه الموجودات رب أوجدها متصف بالعلم بكل شيء والقدرة إلخ" أي على كل شيء إلى آخر صفاته الذاتية "فيعتقد ذلك بمجرد تصديقه من غير انتقال" للسامع من المصنوع إلى الصانع "يفيد اللزوم بين المحدث" بفتح الدال "والموجد" بكسر الجيم وليس معنى الاستدلال إلا هذا فمن(26/204)
لم ينتقل فاعل يسمع ومن يقول مفعوله لكن إلكيا بعد أن حكى إجماعهم على أنهم مؤمنون قال: وإنما الخلاف في أنهم عارفون بالأدلة وقصرت عباراتهم عن أدائها أو غير عارفين بها؛ لأن الله تعالى لم يوجب عليهم إلا هذا القدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع العلم بقصورهم عن معرفة النظر والاستدلال ففي مسلم عن معاوية بن الحكم في الأمة السوداء التي أراد عتقها وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ائتني بها فجاءت فقال "أين الله" فقالت في السماء فقال "من أنا" قالت أنت رسول الله قال "أعتقها فإنها مؤمنة" فهذا دليل على الاكتفاء بالشهادتين في صحة الإيمان، وإن لم يكن عن نظر واستدلال قال النووي: هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور ا هـ. فما ذكره المصنف ماش على الأول.(26/205)
ص -438-…"قالوا" أي مجوزو التقليد في العقليات الاعتقادية ونافو وجوب النظر فيها ثانيا: "وجوب النظر دور لتوقفه" أي وجوبه "على معرفة الله" الموجب له، وتوقف معرفة الله على النظر "أجيب بأنه" أي إيجاب النظر متوقف "على معرفته" أي الله سبحانه "بوجه، والموقوف على النظر ما" أي معرفة الله تعالى "بأتم" أي بوجه أتم "أي الاتصاف بما يجب له" من صفات الكمال "كالصفات الثمانية" الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين "وما يمتنع عليه" من النقيصة والزوال وقال "المانعون" من النظر: النظر "مظنة الوقوع في الشبه والضلال" لاختلاف الأذهان والأنظار بخلاف التقليد فإنه طريق آمن فوجب احتياطا ولوجوب الاحتراز عن مظنة الضلال إجماعا "قلنا" إنما يكون ممنوعا "إذا فعل" النظر "غير الصحيح المكلف به" ونحن نقول يلزمه النظر الصحيح المكلف به "وأيضا فيحرم" على هذا النظر "على المقلد" بفتح اللام "الناظر" أيضا؛ لأن نظره مظنة الوقوع فيهما أيضا. ثم تقليد المقلد إياه حينئذ أولى بالحرمة؛ لأن فيه ما فيه مع زيادة احتمال كذبه، وإضلاله "إذ لا بد من الانتهاء إليه" أي إلى المقلد الناظر. "وإلا" لو لم ينته إليه "لتسلسل" إلى غير النهاية ضرورة أن المقلد لا بد له من مقلد، والتسلل المذكور باطل فإن قيل ينتهي إلى المؤيد بالوحي من عند الله بحيث لا يقع فيه الخطأ فيندفع المحذور فالجواب ما أشار إليه بقوله "والانتهاء إلى المؤيد بالوحي، والأخذ عنه ليس تقليدا بل" المأخوذ عنه "علم نظري" لتوقفه على ثبوت النبوة له بالمعجزة الدالة عليه فلا يصلح أن التقليد واجب، وأن النظر حرام.
مسألة: غير المجتهد المطلق يلزمه التقليد في بعض مسائل الفقه(26/206)
"غير المجتهد المطلق يلزمه" عند الجمهور "التقليد، وإن كان مجتهدا في بعض مسائل الفقه أو بعض العلوم كالفرائض على القول بالتجزي" للاجتهاد "وهو الحق" لما تقدم أن عليه الأكثرين. ووجهه "فيما لا يقدر عليه" وهو متعلق بالتقليد "ومطلقا" أي ويلزمه التقليد فيما يقدر عليه وفيما لا يقدر عليه "على نفيه" أي نفي القول بالتجزي "وقيل" أي وقال بعض المعتزلة: إنما يلزم التقليد "في العالم بشرط تبيين صحة مستنده" أي المجتهد له "وإلا" لو لم يبينها له "لم يجز" له تقليده "لنا عموم" قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] "فيمن لا يعلم" عاميا صرفا كان أو عالما ببعض العلوم غير عالم بحكم مسألة لزمه معرفته "وفيما لا يعلم لتعلقه" أي الأمر بالسؤال "بعلة عدم العلم" فكلما تحقق عدم العلم تحقق وجوب السؤال فيلزمه العموم فيما لا يعلم، وهذا غير عالم بهذه المسألة فيجب عليه فيها السؤال والدليل على العلية أن الشرط اللغوي في السببية أغلب ويستعمل في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه "وأيضا لم يزل المستفتون يتبعون" المفتين "بلا إبداء مستند" لهم في ذلك، وشاع وذاع "ولا نكير" عليهم فكان إجماعا سكوتيا على جواز اتباع العالم المجتهد مطلقا. قال المصنف: "وهذا" الوجه "يتوقف" عمومه للعالم "على ثبوته في العلماء المتأهلين" للاجتهاد "كذلك" أي اتباع المفتين بلا إبداء مستند لهم.(26/207)
ص -439-…"قالوا" أي شارطو تبيين صحة المستند: القول بلزوم التقليد من غير تبيين صحة المستند "يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ" لجواز الخطأ عليه في الاجتهاد "قلنا وكذا لو أبدى" المفتي صحة المستند لجواز الخطأ عليه في ذلك؛ لأنه لا يوجب اليقين بل الظن "وكذا المفتي نفسه" يجب عليه اتباع اجتهاد مع جواز الخطأ عليه "فما هو جوابكم" عن هذين فهو "جوابنا" إذا لم يبد صحة المستند "والحل الوجوب لاتباع الظن أو الحكم" المظنون إنما هو "من حيث هو مظنون" ومن حيث هو اتباع الظن، وإن كان من حيث هو خطأ يحرم، ولا امتناع في ذلك "لا من حيث هو خطأ" وهذا هو الممتنع "نعم لو سأله" أي المستفتي "عن دليله" استرشادا لتذعن نفسه للقبول لا تعنتا "وجب إبداؤه في" القول "المختار إلا إن" كان دليله "غامضا" على المستفتي "مع قصوره" عنه فإن إبداءه له حينئذ تعب فيما لا يفيد فيعتذر بخفائه عليه. وفي بحر الزركشي ما ملخصه: العلم نوعان نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة ويعلم من الدين بالضرورة كالمتواتر فلا يجوز التقليد فيه لأحد كعدد الركعات وتعيين الصلاة وتحريم الأمهات والبنات والزنا واللواط فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته ولا يشغله عن أعماله، ومنه أهلية المفتي ونوع يختص بمعرفته الخاصة، والناس فيه ثلاثة أقسام: الأول العامي الصرف، والجمهور على أنه يجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ما عنده من علم لا يؤدي إلى اجتهاد وعن الأستاذ والجبائي يجوز في الاجتهادية دون ما طريقه القطع إلحاقا لقطعيات الفروع بالأصول. الثاني العالم الذي حصل بعض العلوم المعتبرة ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فاختار ابن الحاجب وغيره أنه كالعامي الصرف لعجزه عن الاجتهاد وقيل لا يجوز له ذلك ويجب عليه معرفة الحكم بطريقه؛ لأن له صلاحية معرفة الأحكام بخلاف غيره. قال الزركشي وما أطلقوه من إلحاقه هنا بالعامي فيه نظر لا سيما في أتباع المذاهب المتبحرين، فإنهم لم(26/208)
ينصبوا أنفسهم نصبة المقلدين وقد سبق قول الشيخ أبي علي وغيره لسنا مقلدين للشافعي وكذا لا إشكال في إلحاقهم بالمجتهدين إذ لا يقلد مجتهد مجتهدا ولا يمكن أن يكون واسطة بينهما؛ لأنه ليس لنا سوى حالتين. قال ابن المنير: والمختار أنهم مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهبا أما كونهم مجتهدين فلأن الأوصاف قائمة بهم وأما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين فمتعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب نعم لا يمتنع عليهم تقليد إمام في قاعدة فإذا ظهر له صحة مذهب غير إمامه في واقعة لم يجز له أن يقلد إمامه لكن وقوع ذلك مستبعد لكمال نظر من قبله. الثالث أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد وهي المسألة السابقة وتقدم الكلام فيها مستوفى.
"تتميم" ثم في أصول ابن مفلح وذكر بعض أصحابنا يعني الحنابلة والمالكية والشافعية هل يلزمه التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان: أشهرهما لا كجمهور العلماء فيتخير ونقل عن بعض الحنابلة أنه قال: وفي لزوم الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع وتوقف في(26/209)
ص -440-…جوازه، وقال أيضا: إن خالفه في زيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع بل يجب في هذه الحال، وإنه نص أحمد، وكذا قال القدوري الحنفي ما ظنه أقوى عليه تقليده فيه ا هـ. وقد سمعت موافقة ابن المنير لهذا آنفا غير أنه استبعد وقوعه وليس ببعيد والثاني يلزمه وستقف في هذا على مزيد فيه مقنع لمن ألقى السمع وهو شهيد.
مسألة: الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة
"الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة أو رآه منتصبا" للإفتاء "والناس يستفتونه معظمين" له "وعلى امتناعه" أي الاستفتاء "إن ظن عدم أحدهما" أي الاجتهاد أو العدالة فضلا عن ظن عدمهما جميعا "فإن جهل اجتهاده دون عدالته فالمختار منع استفتائه" بل نقل في المحصول الاتفاق عليه وقيل لا "لنا الاجتهاد شرط" لقبول فتواه "فلا بد من ثبوته" أي الاجتهاد "عند السائل ولو" كان ثبوته "ظنا لم يثبت" كما هو الفرض "وأيضا ثبت عدمه" أي الاجتهاد بالجهل "إلحاقا" لهذا "بالأصل" أي عدم الاجتهاد "كالراوي" المجهول العدالة لا تقبل روايته إلحاقا له بالأصل وهو عدم العدالة "أو بالغالب إذ أكثر العلماء ببعض العلوم التي لها دخل في الاجتهاد غير مجتهدين" فضلا عمن لا مشاركة له والمسألة مفروضة في الأعم فالظاهر أنه منهم، والأصل والظاهر إذا تضافرا يكاد تضافرهما يفيد العلم.(26/210)
"قالوا" أي القائلون بعدم الامتناع: "لو امتنع" فيمن جهل اجتهاده دون عدالته "امتنع فيمن علم اجتهاده دون عدالته" بدليلكم بعينه بأن يقال: العدالة شرط، والأصل عدمها والأكثر الفسق فالظاهر فسقه "أجيب بالتزامه" أي التزام الامتناع في هذا أيضا "لاحتمال الكذب، ولو سلم عدم امتناعه وهو" أي عدم امتناعه "الحق، فالفرق" بينهما "أن الغالب في المجتهدين العدالة فالإلحاق به" أي بالغالب "أرجح منه" أي من إلحاقه "بالأصل" الذي هو عدم العدالة "بخلاف الاجتهاد ليس غالبا في أهل العلم في الجملة" ولا سيما في هذه الأعصار إذ لم يقل بخلوها عنه بل قيل هو أعز من الإكسير الأعظم والكبريت الأحمر ثم إذا بحث عن حاله فاشترط الإسفراييني تواتر الخبر بكونه مجتهدا ورده الغزالي بأن التواتر يفيد في المحسوسات وهذا ليس منها وتكفي الاستفاضة بين الناس كما هو الراجح في الروضة، ونقله عن الشافعية، وقال القاضي: يكفيه أن يخبره عدلان بأنه مفت، وجزم أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر الواحد العدل عن فقهه وأمانته؛ لأن طريقه طريق الإخبار، وبه قال بعض الحنابلة قال النووي: وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره ولا يقبل في ذلك إخبار آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليه من التلبس في ذلك، وذكر معناه ابن عقيل. واكتفى في المنخول بقوله إني مفت والمختار في الغياثي اعتماده بشرط أن يظهر ورعه، وفي وجيز ابن برهان قيل يقول له لتجتهد أنت فأقلدك فإن أجابه قلده وهذا أصح المذاهب ا هـ. وقيل لا يعتمد وشرط غير واحد من المحققين كالقاضي امتحانه بأن يلفق مسائل متفرقة ويراجعه فيها فإن أصاب فيها غلب على ظنه كونه مجتهدا وقلده، وإلا تركه ولم يشرطه آخرون قلت وهو أشبه بعد فرض(26/211)
ص -441-…اعتبار قوله فإنه من أين للعامي معرفة كونه مصيبا في جوابها على أنه لو كان جوابه فيها خطأ عند مجتهد لا يلزم فيه نفي كونه مجتهدا إذ يجوز أن لا يتوارد المجتهدان على جواب واحد في المسألة الاجتهادية على أن المجتهد يخطئ ويصيب، ولعل الأقرب أنه إذا اعتبر قوله أنه مجتهد إنما يعتبر إذا علمت عدالته، ولم ينف معاصروه من العلماء الذين لا مانع من قبول شهادتهم عليه ذلك عنه، وإذا لم تعرف العدالة فيكتفي في الإخبار بها قيل بعدل وقيل بعدلين وبهذا جزم في المنخول وهو أوجه، والله سبحانه أعلم.
مسألة: إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد تخريجاً على أصوله الخ(26/212)
"إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد تخريجا" على أصوله "لا نقل عينه" أي عين مذهب المجتهد "فإنه" أي نقله "يقبل بشرائط" قبول رواية "الراوي" من العدالة وغيرها اتفاقا، وهذا اعتراض بين موضوع المسألة وجوابها، وهو "إن كان" غير المجتهد "مطلعا على مبانيه" أي مآخذ أحكام المجتهد "أهلا" للنظر فيها قادرا على التفريع على قواعده متمكنا من الفرق والجمع والمناظرة في ذلك، والحاصل أن يكون له ملكة الاقتدار على استنباط أحكام الفروع المتجددة التي لا نقل فيها عن صاحب المذهب من الأصول التي مهدها صاحب المذهب، وهو المسمى بالمجتهد في المذهب "جاز، وإلا" لو لم يكن كذلك "لا" يجوز وفي شرح البديع للهندي وهو المختار عند كثير من المحققين من أصحابنا وغيرهم فإنه نقل عن أبي يوسف وزفر وغيرهما من أئمتنا أنهم قالوا: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وعبارة بعضهم من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج فلا يحل له أن يفتي فيما اختلف فيه. "وقيل" جاز "بشرط عدم مجتهد واستغرب" نقله، والمستغرب له العلامة "وقيل يجوز" إفتاء غير المجتهد بمذهب المجتهد "مطلقا" أي سواء كان مطلعا على المأخذ أم لا عدم المجتهد أم لا، وهذا مختار صاحب البديع قال شارحه وهو مذهب كثير من العلماء، وقال المصنف "وهو" أي هذا القول "خليق بالنفي" أي بنفي الصحة "وسيظهر" نفيها، وقال "أبو الحسين: لا" يجوز إفتاء غير المجتهد بمذهب المجتهد "مطلقا" بالمعنى الذي قبله، وبه قال القاضي من الحنابلة في جماعة منهم ومن غيرهم كالروياني من الشافعية. قال القاضي: ومعناه عن أحمد "لنا وقوعه" أي إفتاء المتبحر غير المجتهد بمذهب المجتهد "بلا نكير" فإن المتبحرين من مقلدي أصحاب المذاهب ما زالوا على مر الأعصار يفتون بمذاهب أصحابها مع عدم بلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق ولم ينكر إفتاؤهم. "وينكر" الإفتاء "من غيره" أي غير المتبحر بمذهب المجتهد فكان إجماعا على جواز فتيا المتبحر وعدم جواز(26/213)
فتيا غيره "فإن قيل إذا فرض عدم المجتهدين" في حال الاتفاق وعدم الإنكار "فعدمه" أي الإنكار ووجود الاتفاق يكون من غير أهل الإجماع وكلاهما "من غير أهل الإجماع ليس حجة فالوجه كونه" أي جوازه "للضرورة إذن" أي لفقد المجتهدين "قلنا: إنما يلزم" كونه للضرورة "لو منع الاجتهاد في مسألة" أي تجزي الاجتهاد إذ المفروض أن المفتي لا بد أن يكون عالما قادرا على الاجتهاد في أصول ذلك المجتهد ومثله له قدرة الاجتهاد في مسألة "وهو" أي منع(26/214)
ص -442-…تجزي الاجتهاد "ممنوع" فالمتفقون حينئذ على جواز هذا الإفتاء مجتهدون في هذه المسألة، وإن لم يكونوا مجتهدين مطلقا "فكلاهما" أي الاستدلال بالاتفاق بلا نكير والاستدلال بالضرورة "حق". فأما إذا لم يفرض فقد المجتهد فمستند القول بجواز الإفتاء لغير المجتهد بمذهب المجتهد إنما ينهض بالإجماع على وقوعه من غير إنكار إذا تم لا بالضرورة لاندفاعها بالمجتهد الموجود "وبهذا" الجواب "بدفع دفعه" أي دفع الاعتراض المذكور "لدليل تقليد الميت، وهو" أي تقليده القول "المختار وهو" أي دليل تقليده "أنه" أي تقليده "إجماع" لوقوعه في مر الأعصار بلا إنكار "فلا يعارضه" أي هذا الدليل "قولهم" أي مانعي تقليده كالإمام الرازي "لا قول له" أي للميت "وإلا" لو كان له قول باق "لم ينعقد الإجماع على خلافه ك" ما ينعقد على خلاف قول "الحي" فإن هذا لا يعارض الإجماع المذكور على أن ما ذكروه معارض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين، والدفع أن يقال لا عبرة بالاتفاق وبعدم إنكار تقليد الميت؛ لأن المتفقين عليه ليسوا مجتهدين فالوجه كونه للضرورة. ودفعه أن يقال إنما يلزم لو منع تجزي الاجتهاد إلى آخر ما تقدم، والتقريب ظاهر للمتأمل.(26/215)
"المجوز" مطلقا قال المفتي "ناقل" فلا فرق بين العالم وغيره كما في الحديث فإنه لا يشترط في رواية العلم فرب حامل فقه ليس بفقيه "أجيب ليس الخلاف في النقل بل في التخريج، وإذن سقط هذا القول لظهور أن مراده" أي قائله، وهو النقل "اتفاق فهي" أي الأقوال في هذه المسألة "ثلاثة" جوازه للمتبحر جوازه له عند عدم المجتهد وقد عرف وجههما، لا يجوز مطلقا لأبي الحسين ووجهه أنه قال "أبو الحسين: لو جاز" الإفتاء للمتبحر "لجاز للعامي" بجامع عدم بلوغهما رتبة الاجتهاد. قال المصنف: "وما أبعده، والفرق" بينهما في الوضوح "كالشمس"؛ لأن الإجماع جوزه للعالم دون العامي وكيف لا والعارف بالمآخذ بعيد من الخطأ لاطلاعه على مآخذ أحكام إمامه بخلاف العامي فإنه لا يبعد منه الخطأ بل يكثر منه لعدم اطلاعه على المأخذ فأنى يستويان {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. قلت وأما الاستدلال له بأنهما في النقل سواء كما في الشرح العضدي فيفيد سقوطه أيضا؛ لأن الخلاف ليس في النقل فالأقوال فيها قولان حينئذ المختار والمستغرب. هذا وفي شرح الهداية للمصنف بعد أن حكى أنه ذكر أنه لا يفتي إلا المجتهد قال وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهدين فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي؛ ليأخذ به المستفتي، وطريق نقله كذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه إليه أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين؛ لأنه بمنزلة الخبر المتواتر عنهم والمشهور، هكذا ذكر الرازي. فعلى هذا لو وجد بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف؛(26/216)
لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ولم تتداول نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب(26/217)
ص -443-…مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتي به بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب ذكره في بعض الجوامع، وعندي أنه لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى، وإلا فالعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه ا هـ. فلا جرم إن قال ابن دقيق العيد: توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم واسترسال الخلق في أهويتهم1 فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد في قصة المذي، وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة. وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم ثم قال السبكي لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق مراتب. إحداها أن يصل إلى رتبة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقرير مذهب إمام معين ويتخذ نصوصه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله بنصوص الشارع وهذه صفة أصحاب الوجوه والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء وأنت ترى علماء المذاهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد الفتوى أو منعوا هم أنفسهم عنها. الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقرير(26/218)
غير أنه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك، وقد كانوا يفتون ويخرجون كأولئك ا هـ. وقال شافعي متأخر عنه: في إفتاء صاحب هذه الرتبة أقوال، أصحها يجوز، والثاني المنع، والثالث يجوز عند عدم المجتهد الثالثة من لم يبلغ هذا المقدار ولكنه حافظ لواضحات المسائل غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلتها فعلى هذا الإمساك فيما يغمض فهمه فيما لا نقل عنده فيه وليس هذا الذي حكينا فيه الخلاف فإنه لا اطلاع له على المأخذ، وكل هؤلاء غير عوام ا هـ. قلت: وهذا يشير إلى أن له الإفتاء فيما لا يغمض فهمه قال متأخر شافعي وينبغي أن يكون هذا راجحا لمحل الضرورة لا سيما في هذه الأزمان ا هـ. وهذا أحد الأقوال فيه. ثانيها المنع مطلقا، ثالثها الجواز عند عدم المجتهد، وعدم الجواز عند وجود المجتهد، وقيل: الصواب إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا، ولا يحل لهذا أن ينصب نفسه للفتوى مع وجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قوله أهويتهم هكذا في النسخ والصواب أهوائهم جمع هوى وأما أهوية فجمع هواء ممدوداً كتبه مصححه.(26/219)
ص -444-…هذا العالم، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها وهو حسن إن شاء الله تعالى. أما العامي إذا عرف حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده ؟ ففيه أوجه للشافعية وغيرهم، أحدها: لا مطلقا لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما يعارضه ولعله يظن ما ليس بدليل دليلا، وهذا في بحر الزركشي الأصح. ثانيها: نعم مطلقا؛ لأنه قد حصل له العلم به كما للعالم، وتميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له أمر زائد على معرفة الحق بدليله ثالثها إن كان الدليل كتابا أو سنة جاز، وإلا لم يجز؛ لأنهما خطاب لجميع المكلفين فيجب على المكلف العمل بما وصل إليه منهما، وإرشاد غيره إليه. رابعها: إن كان نقليا جاز، وإلا فلا. قال السبكي وأما العامي الذي عرف من المجتهد حكم مسألة ولم يدر دليلها ولا وجه تعليلها كمن حفظ مختصرا من مختصرات الفقه فليس له أن يفتي، ورجوع العامي إليه إذا لم يكن سواه أولى من الارتباك في الحيرة، وكل هذا فيمن لم ينقل عن غيره. أما الناقل فلا يمنع فإذا ذكر العامي أن فلانا المفتي أفتاني بكذا لم يمنع من نقل هذا القدر ا هـ. لكن ليس للمذكور له العمل به على ما في بحر الزركشي لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله، والله سبحانه أعلم.
مسألة: يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل(26/220)
"يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل" في أصول ابن مفلح عند أكثر أصحابنا كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة وقال الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية "وأحمد" في رواية "وطائفة كثيرة من الفقهاء" كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني "على المنع" وقيل يجوز لمن يعتقده فاضلا أو مساويا ثم الخلاف بالنسبة إلى القطر الواحد لا إلى أهل الدنيا إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، وإن كان نائيا عن إقليمه ذكره الزركشي في بحره "للأول" أي مجيزي تقليد المفضول مع وجود الأفضل "القطع" في عصر الصحابة "باستفتاء كل صحابي مفضول" مع وجود الأفضل "بلا نكير على المستفتي" فكان إجماعا، ومن ثمة قال الآمدي: لولا إجماع الصحابة على الجواز لكان الأولى مذهب الخصم، ولعل مستند الإجماع أن الكل طريق إلى الله تعالى. قال المصنف: "وهو" أي كون هذا دليلا على تمام المطلوب "متوقف على كونه" أي تقليد المفضول مع وجود الأفضل في زمان الصحابة "كان عند مخالفته للكل فإنه" أي هذا "من صورها" أي مسألة جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل، وثبوت هذا ليس بالسهل. "واستدل" للأول بأن العامي لو كلف هذا لكان تكليفا بالمحال "بتعذر الترجيح للعامي"؛ لأن الترجيح فرع المعرفة، ومبلغ علمه إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه "أجيب بأنه" أي الترجيح غير مستحيل من العامي؛ لأنه يظهر له "بالتسامع" من الناس وبرجوع العلماء إليه وعدم رجوعه إليهم وكثرة المستفتين وتقديم سائر العلماء له. وقال "المانعون" من جوازه:(26/221)
ص -445-…"أقوالهم" أي المجتهدين بالنسبة إلى المقلد "كالأدلة" المتعارضة "للمجتهد" فلا يصار إلى أحدها تحكما كما لا يصار إلى بعض الأدلة تحكما بل لا بد من الترجيح "فيجب الترجيح" وما الترجيح إلا بكون قائله أفضل اتفاقا "أجيب" بأن هذا قياس "لا يقاوم ما ذكرنا" من الإجماع لتقديم الإجماع على القياس بالإجماع. "وعلمت ما فيه" من أنه إنما يتم بالنسبة إلى تمام المطلوب إذا كان ذلك عند مخالفته للكل "وتعسره" أي الترجيح "على العامي" بخلافه لبعض الأدلة بالنسبة إلى المجتهد "ولا يخفى أنه" أي الترجيح "إذا كان بالتسامع لا عسر عليه" أي العامي فيه "وكون الاجتهاد المناط" لجواز التقليد "لا يفيد" وهو أن لا يوجد أفضل منه "لنا منعه عند مخالفة المفضول الكل" فيترجح المنع على الجواز. هذا وقد ظهر على القول بتعين تقليد الأفضل أنه الأفضل في نفس الأمر بما ظهر من أماراته لا الأفضل في مجرد ظنه من غير استناد إلى أمارة على ذلك، نعم نقل الرافعي عن الغزالي لو كان يعتقد أحدهم أعلم لا يجوز أن يقلد غيره، وإن قلنا لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم فهذا يفيد على القول بتعين تقليد الأفضل أنه الأفضل اعتقادا، وإن لم يثبت ذلك عنده في نفس الأمر بأمارة لكن لعل هذا منه إذا لم يوجد أمارة لأفضلية أحدهم على الباقين، وإلا فلو قامت أمارة على أفضليته وكان معتقدا في غيره الأفضلية من غير أمارة عليها فتقديم ذا على ذاك ليس بمتجه بل المتجه العكس فلا جرم أن ذكر ابن الصلاح فيما لو استفتى أحدهم واستبان أنه الأعلم والأوثق لزمه بناء على تقليد الأفضل، وإن لم يستبن لم يلزمه ا هـ. وقيل: الحق أن ترجح المفضول بديانة وورع وتحر للصواب وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إن لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، ولو استويا علما وتفاوتا ورعا فقيل وجب الأخذ بقول الأورع قلت والظاهر أنه أولى؛ لأن لزيادة الورع تأثيرا في(26/222)
الاحتياط، وإن ترجح أحدهما في العلم والآخر في الورع فالأرجح على ما ذكر الرازي ونص السبكي على أنه الأصح الأخذ بقول الأعلم؛ لأن لزيادة العلم تأثيرا في الاجتهاد فيكون الظن الحاصل بقوله أكثر بخلاف زيادة الورع، وقيل: يؤخذ بقول الأورع، وقيل: يحتمل التساوي؛ لأن الكل مرجحا فيتخير ولو تساويا علما وورعا ففي بحر الزركشي قدم الأسن؛ لأنه الأقرب إلى الإصابة بطول الممارسة ا هـ. قلت وإن لم يكن المراد التقديم بطريق الأولوية ففيه نظر ظاهر وأطلق جماعة من الحنابلة وغيرهم التخيير في استوائهم، وفي المحصول، وإن ظن استواءهما مطلقا فيمكن أن يقال لا يتصور وقوعه لتعارض أمارتي الحل والحرمة، ويمكن أن يقال بوقوعه، ويخير بينهما، والله سبحانه أعلم.
مسألة: لا يرجع المقلد فيما قلد
"لا يرجع المقلد فيما قلد" المجتهد "فيه أي عمل به اتفاقا" ذكره الآمدي وابن الحاجب لكن قال الزركشي: وليس كما قالا ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته. لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف به ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة،(26/223)
ص -446-…وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلد في الوتر أو من الحظر إلى الإباحة ليترك كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز، والفعل والترك لا ينافي الإباحة، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل، وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد، وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة يقلد في الوجوب أو التحريم، فالقول بالمنع أبعد وليس في العامي إلا هذه الأقسام نعم المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه؛ لأنه حينئذ محض تشهي كذا ا هـ. قلت: والتوجيه المذكور ساقط فإن المسألة موضوعة في العامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا كما يفصح به لفظ الآمدي ثم ذكرهما بعد ذلك ما لو التزم مذهبا معينا على أن الالتزام غير لازم على الصحيح كما ستعلم، وقد قال الإمام صلاح الدين العلائي: ثم لا بد وأن يكون ذلك مخصصا بحالة الورع والاحتياط إذ لا يمنع فقيه من الرجوع في مثل ذلك. قلت: وقد قدمنا في فصل التعارض أن مشايخنا قالوا في القياسين إذا تعارضا واحتيج إلى العمل: يجب التحري فيهما فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به، وإذا عمل به ليس له أن يعمل بعده بالآخر إلا أن يظهر خطأ الأول وصواب الآخر فحينئذ يعمل بالثاني أما إذا لم يظهر خطأ الأول فلا يجوز له العمل بالثاني؛ لأنه لما تحرى ووقع تحريه على أن الصواب أحدهما وعمل به وصح العمل حكم بصحة ذلك القياس وأن الحق معه ظاهر أو ببطلان الآخر، وأن الحق ليس معه ظاهرا مما لم يرتفع ذلك بدليل سوى ما كان موجودا عند العمل به لا يكون له أن يصير إلى العمل بالآخر فعلى قياس هذا إذا تعارض قولا مجتهدين يجب التحري فيهما فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به، وإذا عمل به ليس له أن يعمل بالآخر إلا إذا ظهر خطأ الأول؛ لأن تعارض أقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد(26/224)
كتعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد وستسمع عنهم أيضا ما يشده، والله سبحانه أعلم.
"وهل يقلد غيره" أي غير من قلده أولا في شيء "في غيره" أي غير ذلك الشيء ؟. كأن يعمل أولا في مسألة بقول أبي حنيفة وثانيا في أخرى بقول مجتهد آخر "المختار" كما ذكر الآمدي وابن الحاجب "نعم للقطع" بالاستقراء التام "بأنهم" أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وهلم جرا "كانوا يستفتون مرة واحدا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيا واحدا" وشاع وتكرر ولم ينكر، وهذا إذا لم يلتزم مذهبا معينا. "فلو التزم مذهبا معينا كأبي حنيفة أو الشافعي" فهل يلزمه الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل "فقيل يلزم"؛ لأنه بالتزامه يصير ملزما به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة؛ ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده. "وقيل لا" يلزم، وهو الأصح كما في الرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره على أن ابن حزم قال أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل(26/225)
ص -447-…فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله ا هـ. وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه بطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى كذا ذكره فاضل متأخر قلت ولو شاححه مشاحح في أن قائل أنا حنفي مثلا لم يرد به أنه متبع لأبي حنيفة في جميع هذا المذكور بل متبعه في الموافقة فيما أدى إليه اجتهاده عملا واعتقادا فسيظهر جوابه مما يذكره قريبا ثم قال الإمام صلاح الدين العلائي: والذي صرح به الفقهاء في مشهور كتبهم جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص وشبهوا ذلك بالأعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها إذا قلنا ليس له أن يجتهد فيها بل يقلد بصيرا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في الأواني واحدا وفي الثياب آخر ولا منع من ذلك "وقيل كمن لم يلتزم إن عمل بحكم تقليدا" لمجتهد "لا يرجع عنه" أي عن ذلك الحكم "وفي غيره" أي غير ما عمل به تقليد المجتهد "له تقليد غيره" من المجتهدين. قال السبكي: وهو الأعدل، وقال المصنف "وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه" أي اتباعه فيما لم يعمل به "شرعا" بل الدليل الشرعي اقتضى العمل بقول المجتهد وتقليده فيه فيما احتاج إليه، وهو قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] والسؤال إنما يتحقق عند طلب(26/226)
حكم الحادثة المعينة وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به والتزامه لم يثبت من السمع اعتباره ملزما كمن التزم كذا لفلان من غير أن يكون لفلان عليه ذلك لا يحكم عليه به إنما ذلك في النذر لله تعالى ولا فرق في ذلك بين أن يلتزم بلفظه كما في النذر أو بقلبه وعزمه على أن قول القائل مثلا قلدت فلانا فيما أفتى به من المسائل تعليق التقليد أو الوعد به ذكره المصنف وقال "ويتخرج منه" أي من كونه كمن لم يلتزم "جواز اتباعه رخص المذاهب" أي أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل "ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه". وقال أيضا: والغالب أن مثل هذه إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه "وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم" كما قدمنا في فصل الترجيح أن البخاري أخرجه عن عائشة بلفظ عنهم وفي لفظ ما يخفف عنهم أي أمته، وذكرنا ثمة عدة أحاديث صحيحة دالة على ذلك قلت لكن ما عن ابن عبد البر من أنه لا يجوز للعامي تتبع(26/227)
ص -448-…الرخص إجماعا إن صح احتاج إلى جواب ويمكن أن يقال لا نسلم صحة دعوى الإجماع إذ في تفسيق المتتبع للرخص عن أحمد روايتان وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد، وذكر بعض الحنابلة إن قوي دليل أو كان عاميا لا يفسق، وفي روضة النووي وأصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق به ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد كما أشار إليه بقوله "وقيده" أي جواز تقليد غيره "متأخر" وهو العلامة القرافي "بأن لا يترتب عليه" أي تقليد غيره "ما يمنعانه" أي يجتمع على بطلانه كلاهما "فمن قلد الشافعي في عدم" فرضية "الدلك" للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل "ومالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة" للوضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة "وصلى إن كان الوضوء بدلك صحت" صلاته عند مالك "وإلا" إن كان بلا دلك "بطلت عندهما" أي مالك والشافعي. وقال الروياني: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها بثلاثة شروط أن لا يجمع بينهما على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلد أميا في عماية وألا يتتبع رخص المذاهب، وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو أربعة ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن متعين فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفا لتقوى الله، وليس كذلك وتعقب الأول بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن مالكا مثلا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة، ولم يقل الشافعي إن من قلد مالكا في عدم الشهود أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون(26/228)
أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة. قلت: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السلام على اشتراط هذا وقال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز. والشرط الثاني انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه ودليل هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم "والإثم ما حاك في الصدر" فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم ا هـ. قلت: أما عدم اعتقاد كونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه فلا بد منه وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه كما أن الحديث كذلك أيضا وهو بلفظ "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" في صحيح مسلم وبلفظ "والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" في مسند أحمد فقد قال الحافظ المتقن ابن رجب في الكلام على هذا الحديث مشيرا إليه باللفظ الأول أنه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا وضيقا وقلقا واضطرابا فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه وهذا أعلى(26/229)
ص -449-…مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكره الناس فاعله وغير فاعله ومن هذا المعنى قول ابن مسعود ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح ومشيرا إليه باللفظ الثاني يعني ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضا إثما وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان وكان المفتي له يفتي بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي. فأما ما كان مع المفتى به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدر بعضهم فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك. كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم. وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضا والإيمان به والتسليم له كما قال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان(26/230)
المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء، وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا ا هـ.
بقي هل بمجرد وقوع صحة جواب المفتى وحقيته في نفس المستفتي يلزمه العمل به ؟. فذهب ابن السمعاني إلى أن أولى الأوجه أنه يلزمه وتعقبه ابن الصلاح بأنه لم يجده لغيره قلت وما ذكره ابن السمعاني موافق لما في شرح الزاهدي على مختصر القدوري وعن أحمد العياضي العبرة بما يعتقده المستفتي فكل ما اعتقده من مذهب حل له الأخذ به ديانة، ولم يحل له خلافه ا هـ. وما في رعاية الحنابلة ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه وفي أصول ابن مفلح الأشهر يلزمه بالتزامه وقيل وبظنه حقا وقيل ويعمل به، وقيل: يلزمه إن ظنه حقا، وإن لم يجد مفتيا آخر لزمه كما لو حكم به حاكم ا هـ. يعني ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته كما صرح به ابن الصلاح وذكر أنه الذي تقتضيه القواعد وشيخنا المصنف رحمه الله على أنه لا يشترط ذلك لا فيما إذا وجد غيره ولا فيما إذا لم يوجد كما أسلفنا ذلك عنه في ذيل مسألة إفتاء غير المجتهد حتى قال لو استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا(26/231)
ص -450-…يميل إليه جاز؛ لأن ميله وعدمه سواء، والواجب تقليد مجتهد وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ ا هـ. لكن عليه أن يقال ما قدمناه من أن القياس على تعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد يقتضي وجوب التحري على المستفتي والعمل بما يقع في قلبه أنه الصواب فيحتاج العدول عنه إلى الجواز بدونه إلى جواب ثم في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة أن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه، وإلا فلا حتى قالوا إذا لم يكن الرجل فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدا كان أو مقلدا؛ لأن المقلد متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه فكذا لا يجوز للمقلد؛ لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء واتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال الإمضاء هذا وذكر الإمام العلائي أنه قد يرجح القول بالانتقال في أحد صورتين إحداهما إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا عليه أو أخذا بالاحتياط كما إذا حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء ثم فعله ناسيا أو جاهلا أنه المحلوف عليه وكان مذهب إمامه الذي يقلده يقتضي عدم الحنث بذلك فأقام مع زوجته عاملا به ثم تخرج منه لقول من أوقع الطلاق في هذه الصورة فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث؛ ولذلك قال أصحابنا: إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام والإتمام فيما إذا كان أقل من ذلك فأفضل احتياطا للخلاف في ذلك. والثانية إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا من الحديث ولم يجد في مذهب إمامه جوابا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه إذ المكلف مأمور باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه فلا وجه لمنعه من تقليد من قال بذلك من المجتهدين محافظة على مذهب التزم تقليده ا هـ. قلت وهذا موافق(26/232)
لما أسلفناه عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء منهم ابن الصلاح وابن حمدان، والله سبحانه أعلم.
"تكملة نقل الإمام" في البرهان "إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة بل من بعدهم" أي بل قال: بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة "الذين سبروا ووضعوا ودونوا"؛ لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها بخلاف مجتهدي الصحابة فإنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها، وإلا فهم أعظم وأجل قدرا، وقد روى أبو نعيم في الحلية أن محمد بن سيرين سئل عن مسألة فأحسن فيها الجواب فقال له السائل ما معناه ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا فقال محمد لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا. "وعلى هذا" أي على أن عليهم أن يقلدوا الأئمة المذكورين لهذا الوجه "ما ذكر بعض المتأخرين" وهو ابن الصلاح "منع تقليد غير" الأئمة "الأربعة" أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله "لانضباط مذاهبهم وتقييد" مطلق "مسائلهم وتخصيص عمومها" وتحرير شروطها إلى غير ذلك "ولم يدر مثله" أي هذا الشيء "في غيرهم" من المجتهدين "الآن لانقراض أتباعهم". وحاصل هذا أنه امتنع(26/233)
ص -451-…تقليد غير هؤلاء الأئمة؛ لتعذر نقل حقيقة مذهبهم؛ وعدم ثبوته حق الثبوت لا؛ لأنه لا يقلد ومن ثمة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا، وإلا فلا وقال أيضا إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله هذا وقد تعقب بعضهم أصل الوجه لهذا بأنه لا يلزم من سبر هؤلاء كما ذكر وجوب تقليدهم؛ لأن من بعدهم جمع وسبر كذلك إن لم يكن أكثر ولا يلزم وجوب اتباعهم بل الظاهر في تعليله في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابي لكان فيه من المشقة عليهم من تعطيل معايشهم وغير ذلك ما لا يخفى، وأيضا كما قال ابن المنير يتطرق إلى مذاهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد ثم قد يكون الإسناد إلى الصحابي لا على شروط الصحة، وقد يكون الإجماع انعقد بعد ذلك القول على قول آخر. ويمكن أن تكون واقعة العامي ليست الواقعة التي أفتى فيها الصحابي وهو ظان أنها هي؛ لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها غلطا وبالجملة القول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع إما؛ لأن قوله حجة فهو ملحق بقول الشارع، وإما؛ لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله فلا جرم أن قال المصنف "وهو" أي هذا المذكور "صحيح" بهذا الاعتبار، وإلا فمعلوم أنه لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون وأنه لا يلزم أحدا أن يتمذهب بمذهب أحد الأئمة بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره كما قدمناه بأبلغ من هذا. ومن هنا قال القرافي انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم أن من استفتى أبا بكر أو عمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير فمن ادعى دفع هذين(26/234)
الإجماعين فعليه الدليل. هذا وقد تكلم أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم قال ابن المنير: وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى الزمان لناشرها دون استيعابها، وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين فإنه لغلبة ذلك على المفضل لم يبق فيه فضلة لتفضيل غيره عليه، وإلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين جاءت الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يريد - والله أعلم - أن كل آية إذا جرد النظر إليها قال الناظر هي أكبر الآيات، وإلا فما يتصور في آيتين أن يكون كل منهما أكبر من الأخرى بكل اعتبار، وإلا لتناقض الأفضلية والمفضولية. والحاصل أن هؤلاء الأربعة انخرقت بهم العادة على معنى الكرامة عناية من الله تعالى بهم إذا قيست أحوالهم بأحوال أقرانهم ثم اشتهار مذاهبهم في سائر الأقطار واجتماع القلوب على الأخذ بها دون ما سواها إلا قليلا على مر الأعصار مما يشهد بصلاح طويتهم وجميل سريرتهم ومضاعفة مثوبتهم ورفعة درجتهم - تغمدهم الله تعالى برحمته وأعلى مقامهم في بحبوحة جنته وحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد وعترته وصحابته وأدخلنا وصحبتهم دار كرامته.(26/235)
ص -452-…وقد ختم المصنف الكتاب بقوله صحيح تفاؤلا بصحته والحمد لله على ما أولى وله الحمد سبحانه في الآخرة والأولى والله المسئول في أن يؤتي نفوسنا تقواها ويزكيها إنه خير من زكاها إنه وليها ومولاها وأن يقيها شرورها وسيئات أعمالها ووخيم هواها وأن يحسن لنا في الدارين العواقب ويتفضل علينا فيهما بجميل المواهب.
وليكن هذا آخر الكلام في شرح هذا الكتاب، والملتمس من فضل ذوي الألباب الواقفين على ما عاناه العبد الضعيف من العجب العجاب في شرح مقاصده وتوضيح مصادره وموارده أن لا ينسوه من دعائهم المستجاب في وقتهم المستطاب بمضاعفة الثواب وحسن المآب، وأن يجعل ما عانيته فيه بمعونة العناية الإلهية ومساعدة التوفيق إلى سلوك سواء الطريق من التحقيق والتدقيق في غوامض يحار فيها كثير من الأفكار وخفايا يقصر عن كشف أسرارها ثواقب الأنظار مع إيضاح لمبهماته وتبيين لمشتبهاته وتنقيح لزبد معقولاته وتصحيح لأنواع منقولاته قربة لله تعالى مقبولة لدى شريف جنابه وجنة في الدارين من سخطه وعذابه وذريعة إلى رضاه والخلود في دار ثوابه إنه سبحانه ذو الفضل العظيم والكرم العميم لا إله غيره ولا يرجى إلا كرمه وخيره وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأولادنا ولأصحابنا ولجميع المسلمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على من لا نبي بعده وسلم آمين.(26/236)
"صورة خط المصنف في أصل أصل أصله المنقول منه ما مثاله" وقد نجز نقل هذا السفر المبارك من السواد إلى البياض على يدي مؤلفه العبد الفقير إلى الله سبحانه ذي الكرم الجزيل والوعد الوفي محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن سليمان بن عمر بن محمد المشتهر بابن أمير حاج الحلبي الحنفي عاملهم الله بلطفه الجلي والخفي وغفر لهم وللمسلمين آمين وكان انجازه في يوم الخميس خامس شهر جمادى الأولى من سنة سبع وسبعين وثمانمائة أحسن الله تقضيها في خير وعافية بالمدرسة الحلاوية النورية رحم الله واقفها بحلب المحروسة لا زالت رايات الأعادي لها منكوسة ولا برحت رباعها بالفضائل والبركات مأنوسة، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(26/237)
عنوان الكتاب:
الرسالة
تأليف:
محمد بن إدريس الشافعي
دراسة وتحقيق:
أحمد شاكر
الناشر:
مكتبه الحلبي، مصر
الأولى، 1358هـ/1940م(27/1)
ص -7-…الربيع بن سليمان قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
اخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي ،ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
2. والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه(27/2)
ص -8-…إلا بنعمة منه، توجب مؤدي ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها .
3. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه .
4. أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
5. وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به .
6. وأستهديه بهداه الذي لايضل من أنعم به عليه .
7. وأستغفره لما أزلفت وأخرت - : استغفار من يقر بعبوديته ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو .
8. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأن محمدا عبده ورسوله .
9. بعثه والناس صنفان :
10. أحدهما : أهل كتاب بدلوا من أحكامه، وكفروا بالله فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم .(27/3)
ص -9-…11. فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم فقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78 ]
12. ثم قال: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون} [البقرة: 79 ].
13. وقال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ،وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟!اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ. وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 30-31 ]
14. وقال تبارك وتعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا:(27/4)
ص -10-…هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً.أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [النساء: 52]
15. وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا، منها ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره: فعبدوه فأولئك العرب.
16. وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم ونار وغيره .
17. فذكر الله لنبيه جوابا من جواب بعض من عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم :{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }. [الزخرف: من الآية23]
18. وحكى تبارك وتعالى عنهم: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً }.[نوح: 23 -24](27/5)
ص -11-…19. وقال تبارك وتعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأَبِيهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟!}.مريم: 41: 42]
20. وقال:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا تَعْبُدُون؟قَالُوا: نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟!}. [الشعراء: 69: 73]
21. وقال في جماعتهم، يذكرهم من نعمه، ويخبرهم ضلالتهم عامة ،ومنه على من آمن منهم:{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً، وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]
22. قال: فكانوا قبل انقاذه إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم: أهل كفر في تفرقهم واجتماعهم يجمعهم أعظم: الأمور الكفر(27/6)
ص -12-…بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله، تعالى عما يقولون علوا كبيرا، لا إله غيره، وسبحانه وبحمده، رب كل شيء وخالقه
23. من حي منهم فكما وصف حاله حيا: عاملا قائلا بسخط ربه ،مزدادا من معصيته.
24. ومن مات فكما وصف قوله وعمله: صار إلى عذابه.
25. فلما بلغ الكتاب أجله، فحق قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى، بعد استعلاء معصيته التي لم يرض-: فتح أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري- في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية-: قضاؤه .
26. فإنه تبارك وتعالى يقول: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ }.[البقرة: من الآية213]
27. فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه، بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به مرسل قبله، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع(27/7)
ص -13-…المشفع في الأخرى، أفضل خلقه نفسا، وأجمعهم لكل خلق رضيه في دين ودنيا. وخيرهم نسبا ودارا-: محمدا عبده ورسوله.
28. وعرفنا وخلقه نعمه الخاصة، العامة النفع في الدين والدنيا.
29. فقال: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }. [التوبة: 128].
30. وقال:{ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }.[الشورى: من الآية7]وأم القرى: مكة وفيها قومه.
31. وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.[الشعراء: 214]
32. وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْأَلونَ}.[الزخرف: 44]
33. قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي(27/8)
ص -14-…نجيح عن مجاهد في قوله: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ }قال: يقال: ممن الرجل؟ فيقال: من العرب، فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش.
34. قال الشافعي: وما قال مجاهد من هذا بين في الآية مستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير.
35. فخص جل ثناؤه قومه وعشيرته الأقربين في النذارة، وعم الخلق بها بعدهم، ورفع بالقرآن ذكر رسول الله، ثم خص(27/9)
ص -15-…قومه بالنذارة إذ بعثه، فقال: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }
36. وزعم بعض أهل العلم بالقرآن أن رسول الله قال: "يا بني عبد مناف إن الله بعثني أن أنذر عشيرتك الأقربين،وأنتم عشيرتي الأقربون".(27/10)
ص -16-…37. قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }.[الشرح: 4]قال: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
38. يعني، والله أعلم: ذكره عند الإيمان بالله والآذان. ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
39. فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون،وغفل عن ذكره الغافلون.وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه.وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحد من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلا عن من أرسل إليه ،فإنه أنقذنا به من الهلكة ، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس ، دائنين بدينه الذي ارتضى ، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها(27/11)
ص -17-…حظا في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها،الذائد عن الهلكة وموارد السوء في خلاف الرشد، المنبه للأسباب التي تورد الهلكة ،القائم بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد، كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد.
40. وأنزل عليه كتابه فقال: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }.[فصلت: من الآية 41- 42].فنقلهم من الكفر والعمى،إلى الضياء والهدى. وبيَّن فيه ما أحل: منّا بالتوسعة على خلقه وما حرم: لما هو أعلم به من حظهم في الكف عنهم في الآخرة والأولى.وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم بقول وعمل،وإمساك عن محارم حماهموها، وأثابهم على طاعته من(27/12)
ص -18-…الخلود في جنته، والنجاة من نقمته: ما عظمت به نعته جل ثناؤه.
41. وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته من خلاف ما أوجب لأهل طاعته .
42. ووعظهم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثر منهم أموالا وأولادا،وأطول أعمارا،وأحمد آثارا.فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم،فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، نزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بجلية التبيان، ويتنبهوا قبل رين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة، حين لا يعتب مذنب، ولا تأخذ فدية ،و { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } .[آل عمران: 30](27/13)
ص -19-…43. فكل ما أنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة،علمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله ولا يجهل من علمه.
44. والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به.
45. فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه.
46. فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة .
47. فنسأل الله المبتدىء لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمها علينا ،مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهما في كتابه،(27/14)
ص -20-…ثم سنة نبيه، وقولا وعملا يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده.
48. قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها .
49. قال الله تبارك وتعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ابراهيم: من الآية1].
50. وقال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.[النحل: من الآية44]
51. وقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89]
52. وقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا،مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }. [الشورى: 52](27/15)
ص -21-…باب : كيف البيان ؟
53. قال الشافعي: والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع.
54. فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض. ومختلفة عند من يجهل لسان العرب.
55. قال الشافعي: فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبدهم به ،لما مضى من حكمه جل ثناؤه-: من وجوه.
56. فمنها: ما أبانه لخلقه نصا. مثل: جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، و بين لهم كيف فرض الوضوء ، مع غير ذلك مما بين نصا.(27/16)
ص -22-…57. ومنه: ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها ،وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
58. ومنه: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله في نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل.
59. ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.
60. فإنه يقول تبارك وتعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ(27/17)
ص -23-…الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } .[محمد: 31]
61. وقال: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ }.[آل عمران: من الآية154]
62. وقال: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.[لأعراف: من الآية129]
63. قال الشافعي: فوجههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.[البقرة: من الآية144]
64. وقال: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة }.[البقرة: من الآية150]
65. فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام(27/18)
ص -24-…على صواب الاجتهاد، مما فرض عليهم منه ،بالعقول التي ركب فيهم ، المميزة بين الأشياء وأضدادها، والعلامات التي نصب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
66. فقال: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }.[الأنعام: من الآية97]وقال:{ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.[النحل: 16].
67. فكانت العلامات جبالا وليلا ونهارا، فيها أرواح معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المهاب. وشمس وقمر ونجوم ، معروفة المطالع والمغارب والمواضع من الفلك.
68. ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصفت، فكانوا ما كانوا مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه. ولميجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يصلوا حيث شاؤا .(27/19)
ص -25-…69. وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً }.[القيامة: 36] والسدي الذي لا يؤمر ولا ينهى.
70. وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال، بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق.
71. فأمرهم أن يشهدوا ذوي عدل والعدل. أن يعمل بطاعة الله، فكان لهم السبيل إلى علم العدل والذي يخالفه.
72. وقد وضع هذا في موضعه، وقد وضعت جملا منه رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها .(27/20)
ص -26-…باب : البيان الأول
73. قال الله تبارك وتعالى في المتمتع: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ،ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }. [البقرة: 196]
74. فكان بينا عند خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع: عشرة أيام كاملة.
75. قال الله: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا جمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة.(27/21)
ص -27-…76. وقال الله: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .[الأعراف: من الآية142]
74. فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن ثلاثين وعشرا أربعون ليلة.
77. وقوله: { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }: يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون: إذا جمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين ، وأن تكون زيادة في التبيين.
78. وقال الله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }. [البقرة: من الآية183: 184]
79. وقال: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 185]
80. فافترض عليهم الصوم، ثم بين أنه شهر، والشهر(27/22)
ص -28-…عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين وتسعا وعشرين .
82. فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين،وكان في الآيتين قبله: زيادة تبين جماع العدد.
83. وأشبه الأمور بزيادة تبيين جملة العدد في السبع والثلاث وفي الثلاثين والعشر -: أن تكون زيادة في التبيين، لأنهم لم يزالوا يعرفون هذين العددين وجماعه، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان.
باب : البيان الثاني
84. قال الله تبارك وتعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ،وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا }. [المائدة: 6]
85. وقال: { وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ }.[النساء: من الآية43] .(27/23)
ص -29-…86. فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء دون الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة .
87. ثم كان أقل غسل الوجه والأعضاء مرة مرة، واحتمل ما هو أكثر منها، فبين رسول الله الوضوء مرة، وتوضأ ثلاثا، ودل على أن أقل غسل الأعضاء يجزئ، وأن أقل عدد الغسل واحدة. وإذا أجزأت واحدة فالثلاث اختيار.
88. ودلت السنة على أنه يجزئ في الاستنجاء ثلاثة أحجار،ودل النبي على ما يكون منه الوضوء ،وما يكون منه الغسل ،ودل على أن الكعبين والمرفقين مما يغسل، لأن الآية تحتمل أن يكونا حدَّيْن للغسل، وأن يكونا داخلين في الغسل، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"- دل على أنه غسل لا مسح .
89. قال الله: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ،(27/24)
ص -30-…فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } .[النساء: من الآية11]
90. وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ،مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ،وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } . [النساء: 12]
91. فاستغنى بالتنزيل في هذا عن خبر غيره، ثم كان لله فيه شرط: أن يكون بعد الوصية والدين، فدل الخبر على أن لا يجاوز بالوصية الثلث.(27/25)
ص -31-…باب : البيان الثالث
92. قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتا }.[النساء: من الآية103]
93. وقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }.[البقرة: من الآية43]
94. وقال: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }.[البقرة: من الآية196]
95. ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات ومواقيتها وسننها،وعدد الزكاة ومواقيتها،وكيف عمل الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبت،وتختلف سننه وتاتفق. ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة.(27/26)
ص -32-…باب : البيان الرابع
96. قال الشافعي: كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذكر ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة-: دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
97. مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبين من موضعه الذي وضعه الله به من دينه-: الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:
98. منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.
99. ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله : كيف فرضه، وعلى من فرضه، ومتى يزول بعضه ويثبت ويجب.(27/27)
ص -33-…100. ومنها: ما بينه عن سنة نبيه، بلا نص كتاب.
101. وكل شيء منها بيان في الكتاب الله.
102. فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه: قبل عن رسول الله سننه ، بفرض الله طاعة رسول له على خلقه،وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فمن الله قبل، لما افترض الله من طاعته
103. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
القبول لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي
قبل بها عنهما، كما أحلَّ وحرَّم، وفرض وحدَّ: بأسباب متفرقة، كما شاء، جل ثناؤه، { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }.[الأنبياء: 23](27/28)
ص -34-…باب : البيان الخامس
104. قال الله تبارك وتعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }.[البقرة: من الآية150].
105. ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يولوا وجوههم شطره.و{ شَطْرَهُ } جهته، في كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا: معروف أنك تقول: أقصد قصد عين كذا، يعني: قصد نفس كذا. وكذلك تلقاءه : جهته ،أي : أستقبل تلقاءه وجهته، وإن كلها معنى واحد، وإن كانتبألفاظ مختلفة.
106. وقال خفاف بن ندبة(27/29)
ص -35-…ألا من مبلغ عمرا رسولا…وما تغنى الرسالة شطر عمرو
107. وقال ساعدة بن جوية:
أقول لأم زنباع أقيمي…صدور العيس شطر بنى تميم
108. وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركمهول له ظلم تغشاكم قطعا
109. وقال الشاعر:(27/30)
ص -36-…إن العسير بها داء مخامرها…فشطرها بصر العينين مسحور(27/31)
ص -37-…110. قال الشافعي: يريد: تلقاء ها بصر العينين ونحوها: تلقاء جهتها.
111. هذا كله- مع غيره من أشعارهم: يبيِّنُ أن شطر الشيء(27/32)
ص -38-…قصد عين الشيء: إذا كان معاينا فبالصواب، وإذا كان مغيبا فبالاجتهاد بالتوجه إليه،وذلك أكثر ما يمكنه فيه .
112. وقال الله: { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }.[الأنعام: من الآية97]
113. وقال: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.[النحل: 16) ]
114. فخلق لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم،والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان ونعمة منه جل ثناؤه.
115. وقال:{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }.[الطلاق: من الآية2].وقال:{ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }.[البقرة: من الآية282]
116. وأبان أن العدل العامل بطاعته، فمن رأوه عاملا بها كان عدلا، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل.
117. وقال جل ثناؤه: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ،(27/33)
ص -39-…وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } .[المائدة: من الآية95].
118. فكان المثل- على الظاهر- أقرب الأشياء شبها في العظم من البدن. واتفقت مذاهب من تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبها من البدن. فنظرنا ما قتل من دواب الصيد: أي شيء كان من النعم أقرب منه شبها فديناه به .
119. ولم يحتمل المثل من النعم القيمة فيما له مثل في البدن من النعم-: إلا مستكرها باطنا. فكان الظاهر الأعم أولى المعينين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل.
120. وهذا الصنف من العلم دليل على ما وصفت قبل هذا: على أن ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء: حلَّ ولا حرم-: إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع أو القياس.
121. ومعنى هذا الباب معنى القياس، لأنه طلب فيه لدليل على صواب القبلة والعدل والمثل.(27/34)
ص -40-…122. والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم ، من الكتاب أو السنة، لأنهما علم الحق المفترض طلبه، كطلب ما وصفت قبله ،من القبلة والعدل والمثل .
123. وموافقته تكون من وجهين:
124. أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصا أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم ينص فيه بعينه كتاب ولا سنة-: أحللناه أو حرمناه ،لأنه في معنى الحلال أو الحرام .
125. أو نجد الشيء يشبه الشيء منه والشيء من غيره، ولا نجد شيئا أقرب به شبها من أحدهما : فنلحقه بأولى الأشياء شبها به، كما قلنا في الصيد.
126. قال الشافعي: وفي العلم وجهان: الإجماع والاختلاف. وهما موضوعان في غير هذا الموضع .
127. ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب.(27/35)
ص -41-…128. والمعرفة بناسخ كتاب الله ومنسوخه، والفرض في تنزيله، والأدب والإرشاد والإباحة
129. والمعرفة بالموضع الذي وضع الله به نبيه: من الإبانة عنه، فيما أحكم فرضه في كتابه، وبينه على لسان نبيه. وما أراد بجميع فرائضه؟ ومن أراد: أكل خلقه أم بعضهم دون بعض؟ وما افترض على الناس من طاعته والانتهاء إلى أمره.
130. ثم معرفة ما ضرب فيها من الأمثال الدوال على طاعته ، المبينة لاجتناب معصيته .وترك الغفلة عن الحظ، والازدياد من نوافل الفضل.
131. فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا.
132. وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به أقرب من السلامة له، إن شاء الله.
133. فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيا وأعجميا.(27/36)
ص -42-…134. والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب
135. ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه، تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه
136. وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم.
137. ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقُبِل ذلك منه: ذهب إلى أن من القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب
138. ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ،وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه
139. والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء(27/37)
ص -43-…140. فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها،ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره.
142. وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره ،وإن ذهب عليه بعضه. ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره.
143. وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها-: دليلا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم ،بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله، بأبي هو وأمي فيتفرد جملة العلماء بجمعها. وهم درجات فيما وَعَوْا منها.(27/38)
ص -44-…143. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها: لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قبله عنها، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها.
144. وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله.
145. وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء.
146. فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟
147. فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه.
148. ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلما أو نُطِقَ(27/39)
ص -45-…به موضوعا-: أو يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب، كما ياتفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها .
149. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟.
150. فالحجة فيه كتاب الله. قال الله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }.[إبراهيم: من الآية4]
151. فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمد بعث إلى الناس كافة-: فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قوموه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصةً دون ألسنة العجم؟(27/40)
ص -46-…152. فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض: فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع
153. وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه ،وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه.
154. وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه:
155. قال الله: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }.[الشعراء 192 : 195]
156. وقال: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } .[الرعد: من الآية37].
157. وقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } .[الشورى: من الآية7].(27/41)
ص -47-…158. وقال: { حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ .إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .[الزخرف: 1 : 3].
159. وقال: { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .[الزمر: 28].
160. قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي، في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه- جل ثناؤه -كل لسان غير لسان العرب، في آيتين من كتابه:
161. فقال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }.[النحل: 103]
162. وقال: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }. [فصلت: من الآية44]
163. قال الشافعي: وعرفنا نعمه بما خصنا به من مكانه فقال: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ،(27/42)
ص -48-…حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } .[التوبة: 128]
164. وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.[الجمعة: 2]
165. وكان ممن عرف الله نبيه من إنعامه أن قال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ }.[الزخرف: من الآية44] فخص قومه بالذكر معه بكتابه.
166. وقال: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }.[الشعراء: 214] } وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }.[الشورى: من الآية7] وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي: لسان قومه منهم خاصةً
167. فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، ويتلوا به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك.(27/43)
ص -49-…168. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعل الله لسان مَنْ ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه-: كان خيرا له. كما عليه يَتعلَّم الصلاة والذكر فيها،ويأتي البيت وما أمر بإتيانه،ويتوجه لما وُجِّهَ له.ويكون تبعا فيما افترض عليه وندب إليه، لا متبوعا.(27/44)
ص -50-…169. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ علم الكتاب أحدٌ جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها
170. فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة-: نصيحة للمسلمين. والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سَفِهَ نفسه، وترك موضع حظه. وكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حق. وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله. وطاعة الله جامعة للخير.
171. أخبرنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: "بايعت النبي على النصح لكل مسلم".(27/45)
ص -51-…172. لأأخبرنا ابن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن النبي قال: "إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولنبيه ،ولأئمة المسلمين وعامتهم".
173. قال الشافعي: فإنما خاطب الله بكتابه العرب(27/46)
ص -52-…بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما ظاهرا يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره.
174. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله.
175. وتكلم بالشيء تُعَرِّفُهُ بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تُعَرِّفُ الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفرادِ أهلِ علمها به، دون أهل جهالتها.
176. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثرة.
177. وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به- وإن اختلفت أسباب معرفتها-: معرفةً واضحةً(27/47)
ص -53-…عندها، ومستنكرًا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه
178. ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه -: غير محمودة، والله أعلم وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه.
باب: بيان ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص
179. وقال الله تبارك وتعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }.[الزمر: 62] وقال: تبارك وتعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ(27/48)
ص -54-…وَالأَرْضَ} .[إبراهيم: من الآية32] وقال: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }.[هود: من الآية6] فهذا عام لا خاص فيه.
180. قال الشافعي: فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خلقه، وكل دابة فعلى الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها.
181. وقال الله: { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ }.[التوبة: من الآية120]
182. وهذا في معنى الآية قبلها، وإنما أريد به من أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم : أطاق الجهاد أو لم يطقه. ففي هذه الآية الخصوص والعموم.
183. وقال: { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا }.[النساء: من الآية75].(27/49)
ص -55-…184. وهكذا قول الله: { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا }.[الكهف: من الآية77]
185. وفي هذه الآية دلالة على أن لم يستطعما كل أهل قرية فهي في معناهما.
186. وفيها وفي { الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا }: خصوص، لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما ،قد كان فيهم المسلم، ولكنهم كانوا فيها مكثورين وكانوا فيها أقلَّ.
187. وفي القرآن نظائر لهذا ،يكتفى بها إن شاء الله منها ،وفي السنة له نظائر موضوعة مواضعها.(27/50)
ص -56-…باب: بيان ما انزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص
188. قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.[الحجرات: من الآية13]
189. وقال تبارك وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.[البقرة: من الآية183: 184]
190. وقال: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }.[النساء: من الآية103]
191. قال: فبين في كتاب الله أن في هاتين الآيتين العموم والخصوص:(27/51)
ص -57-…192. فأما العموم منهما ففي قول الله: { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا }: فكل نفسٍ خوطبتْ بهذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى وكلها شعوب وقبائل
193. والخاص منها في قول الله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }: لأن التقوى إنما تكون على من عقلها وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدواب سواهم،ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفالِ الذين لم يبلغوا وعُقِلَ التقوى منهم.
194. فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها إلا من عَقَلَها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها ،
195. والكتاب يدل على ما وَصَفْتُ،وفي السنة دلالةٌ(27/52)
ص -58-…عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق".
196. وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة: على البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ ومن بلغ ممن غلب على عقله ،ودون الحيض في أيام حيضهنَّ.
باب : بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص
197. وقال الله تبارك وتعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً،وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }.[آل عمران: 173](27/53)
ص -59-…198. قال الشافعي: فإذ كان مَنْ مع رسول الله ناسً غير من جمع لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غير مَن جُمِعَ لهم وغير من معه، ممن جمع عليه معه وكان الجامعون لهم ناساً-: فالدلالة بينة مما وَصَفْتُ: من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناسِ دون بعضٍ .
199. والعلم يحيط أن من لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس كلهم،ولم يكونوا هم الناس كلهم.
200. ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفرٍ،(27/54)
ص -60-…وعلى جميع الناس، من بين جمعهم وثلاثة منهم-: كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ }وإنما الذين قال لهم ذلك أربعة نفر { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ }يعنون المنصرفين عن أحد.
201. وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غيرُ المجموعِ لهم والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين.
202. وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ،إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.[الحج: 73]
203. قال: فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم. وبَيَّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم أنه إنما يراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناسِ دونَ بعضٍ، لأنه لا يخاطب بهذا إلاَّ من يدعو من دون الله إلها، تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً، لأن فيهم من المؤمنين(27/55)
ص -61-…المغلوبين على عقولهم وغير المغلوبين ممن لا يدعو معه إلها
204. قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان ،والآية قبلها أوضح عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها .
205. قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة: من الآية199]فالعلم يحيط إن شاء الله أن الناسَ كلَّهم لم يحضروا عَرَفَةَ في زمان رسولِ الله ورسولُ الله المخاطبُ بهذا ومَنْ معه، ولكنَّ صحيحًا من كلام العرب أن يقال: { أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } يعني بعض الناس.
206. وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها ،وهي عند العرب سواء. والآيةُ الأولَى أوضحُ عند مَنْ يَجهل لسانَ العرب من الثانيةِ ،والثانيةُ أوضحُ عندهم من الثالثة، وليس يختلفُ عند العرب وضوحُ هذه الآيات معًا ،لأن أقلَّ البيانِ عندها كافٍ مِنْ أكثَرِهِ، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قولِ القائلِ، فأقلُّ ما يُفْهِمُهُ به كافٍ عندَه .(27/56)
ص -62-…207. وقال الله جل ثناؤه: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }.[البقرة: من الآية24] فَدَلَّ كتاب الله على أنه إنَّما وَقُودُهَا بعضُ الناسِ، لقول الله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }.[الأنبياء: 101]
باب : الصنف الذي يبين سياقه معناه
208. قال الله تبارك وتعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَاكَانُوا يَفْسُقُونَ }.[الأعراف: 163]
209. فابتدأَ جَلَّ ثناؤه ذكرَ الأمرِ بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: { إِذ ْيَعْدُونَ فِي السَّبْتِ }.الآية-:(27/57)
ص -63-…دَلَّ على أنه إنَّما أراد أهلَ القرية، لأن القرية لا تكونُ عاديةً ولا فاسقةً بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهلَ القرية الذين َبلاَهُم بما كانوا يفسقون .
210. وقال: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ }.[ الأنبياء: من الآية: 12: 11]
211. وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذكر قَصْمَ القرية، فلما ذكر أنها ظالمةٌ بان للسامع أن الظالم إنما هم أهلها ،دون منازلها التي لا تظلم ،ولما ذكر القوم المنشئين بعدها، وذكر إحساسهم البأس عند القصم-: أحاط العلم أنه إنما أحس البأس من يعرف البأس من الآدميين.(27/58)
ص -64-…الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره
212. قال الله تبارك وتعالى وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: { َمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ .وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } يوسف: من الآية 82: 81 ]
213. فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها، لا تختلف عند أهل العلم باللسان: أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم .
باب : ما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص
214. قال الله جل ثناؤه: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ }.[النساء: من الآية11].(27/59)
ص -65-…215. وقال: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ،مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }.[النساء: 12]
216. فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات،وكان عام المخرج، فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج دون بعض،وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحدا ،ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا .
217. وقال: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ }.[النساء: من الآية11]
218. فأبان النبي أن الوصايا مقتصر بها على الثلث ،لا يتعدى، ولأهل الميراث الثلثان، وأبان أن الدين قبل الوصايا(27/60)
ص -66-…والميراث، وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدين دينهم.
219. ولولا دلالة السنة ثم إجماع الناس: لم يكن ميراث إلا بعد وصية أو دين، ولم تعد الوصية أن تكون مبداة على الدين أو تكون والدين سواء .
220. وقال الله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }.[المائدة: من الآية6].
221. فقصد جل ثناؤه قصد القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين. فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل، أو الرأس من المسح. وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض.
222. فلما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين وهو كامل الطهارة: دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض.
223. وقال الله تبارك وتعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ }.[المائدة: من الآية38] .(27/61)
ص -67-…224. وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: "لا قطع في ثمر ولا كثر"وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعدا.
225. وقال الله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }.[النور: من الآية2]
226. وقال في الإماء: { ٍفَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }.[النساء: من الآية25].
227. فدل القرآن على أنه إنما أريد بجلد المائة الأحرار دون الإماء . فلما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم الثيب من الزناة ولم يجلده-: دلت سنة رسول الله على أن المراد بجلد المائة من الزناة: الحران البكران، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة من سرق من حرز، وبلغت سرقته ربع دينار، دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا.
228. وقال الله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ(27/62)
ص -68-…فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [الأنفال: من الآية41]
229. فلما أعطى رسول الله بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى -: دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذا القربى- الذين جعل الله لهم سهما من الخمس-: بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم .
230. وكل قريش ذو قرابة، وبنو عبد شمس مساوية بني المطلب في القرابة، هم معا بنو أب وأم، وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونهم .
231. فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة بني هاشم منهم-: دل ذلك على أنهم إنما أعطوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب، مع كينونتهم معا مجتمعين في نصر النبي بالشعب ،وقبله وبعده، وما أراد الله جل ثناؤه بهم خاصًا .(27/63)
ص -69-…232. ولقد ولدت بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم واحد بولادتهم من الخمس شيئا، وبنو نوفل مساويتهم في جذم النسب، وإن انفردوا بأنهم بنو أم دونهم .(27/64)
ص -70-…233. قال الله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }.[الأنفال: من الآية41]
234. فلما أعطى رسول الله السلب القاتل في(27/65)
ص -71-…الإقبال: دلت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن الغنيمة المخموسة في كتاب الله غير السلب،إذ كان السلب مغنوما في الإقبال، دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمة تخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة .(27/66)
ص -72-…235. ولولا الاستدلال بالسنة وحكمنا بالظاهر،(27/67)
ص -73-…قطعنا من لزمه اسم سرقة وضربنا مائة كل من زنى، حراً ثيبًا ،وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة، ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب، لأن له فيهم وشايج أرحام، وخمسنا السلب، لأنه من المغنم ،مع ما سواه من الغنيمة.
بيان : فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه
236. قال الشافعي: وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علما لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته ،وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.
237. فقال تبارك وتعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ،وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ }.[النساء: من الآية171].(27/68)
ص -75-…238. وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [النور: من الآية62]
239. فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله ثم برسوله .
240. فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدا، حتى يؤمن برسوله معه.
241. وهكذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل من امتحنه للإيمان.
242. أخبرنا مالك عن هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم قال: "أتيت رسول الله بجارية فقلت: يا رسول علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله: أين الله؟ فقالت: في السماء فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: فأعتقها".(27/69)
ص -76-…243. قال الشافعي: وهو معاوية بن الحكم ،وكذلك رواه غير مالك وأظن مالكً لم يحفظ اسمه.
244. قال الشافعي: ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله.
245. فقال في كتابه: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.[البقرة: 129].
246. وقال جل ثناؤه: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151] .(27/70)
ص -77-…247. وقال: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.[آل عمران: 164]
248. وقال جل ثناؤه: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ،وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الجمعة: 2]
249. وقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ }.[البقرة: من الآية231]
250. وقال: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }.[النساء: من الآية113]
251. وقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ(27/71)
ص -78-…اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [الأحزاب: 34]
252. فذكر الله الكتاب ،وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
253. وهذا يشبه ما قال والله أعلم .
254. لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة،وذكر الله منّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
255. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره فلا يجوز أن يقال لقوله: فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله.
256. لما وصفنا، من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به.(27/72)
ص -79-…257. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلا على خاصه وعامه. ثم قرن الحكمة بها بكتابه فاتبعها إياه،ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله صلى الله عليه وسلم .
باب : فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها.
258. قال الله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً }.[الأحزاب: 36]
259. وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.[النساء: 59]
260. فقال بعض أهل العلم: أولوا الأمر: أمراء سرايا رسول الله. والله أعلم. وهكذا أخبرنا.(27/73)
ص -80-…261. وهو يشبه ما قال، والله أعلم، لأن كل من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضا طاعة الإمارة.
262. فلما دانت لرسول الله بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله.
263. فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناة، فيما لهم وعليهم، فقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ }يعني: إن اختلفتم في شيء.
264. وهذا- إن شاء الله- كما قال في أولي الأمر، إلا أنه يقول: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ } يعني: والله أعلم هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }يعني: - والله اعلم - إلى ما قال الله(27/74)
ص -81-…والرسول صلى الله عليه وسلم إن عرفتموه فإن لم تعرفوه سألتم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه إذا وصلتم، أو من وصل منكم إليه.
265. لأن ذلك الفرض الذي لا منازعة لكم فيه. لقول الله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }.
266. ومن تنازع ممن بعد رسول الله رد الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصا فيهما ولا في واحد منهما-: ردوه قياسا على أحدهما، كما وصفت من ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير أية مثل هذا المعنى.
267. وقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً }.[النساء: 69] .(27/75)
ص -82-…268. وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [لأنفال: من الآية20]
باب : ما أمر الله من طاعة رسول الله .
269. قال الله جل ثناؤه: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ،وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }.[لفتح: 10]
270. وقال: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }.[لنساء: من الآية80]
271. فأعلمهم أن بيعتهم رسوله بيعته، وكذلك أعلمهم أن طاعتهم طاعته .
272. وقال: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [لنساء: 65](27/76)
ص -83-…273. نزلت هذه الآية فيما بلغنا-والله أعلم-في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضى النبي بها للزبير.
274. وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحكم منصوص في القرآن.
275. والقرآن يدل-والله أعلم-على ما وصفت، لأنه لو كان قضاء بالقرآن كان حكما منصوصا بكتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا لحكم كتاب الله نصا غير مشكل الأمر: أنهم ليسوا بمؤمنين، إذا ردوا حكم التنزيل، إذا لم يسلموا له.
276. وقال تبارك وتعالى: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً،(27/77)
ص -84-…فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [لنور: 63]
277. وقال: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا، أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُه؟! بل أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. َمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }.[النور: 52: 48 ]
278. فأعلم الله الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم: دعاء إلى حكم الله لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما سلموا لحكمه بفرض الله .
279. وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه، على معنى افتراضه حكمه، وما سبق في علمه جل ثناؤه من إسعاده بعصمته وتوفيقه، وما شهد له به من هدايته واتباعه أمره .(27/78)
ص -85-…280. فأحكم فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله وإعلامهم أنها طاعته.
281. فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ،وأن طاعة رسوله طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله اتباع أمره، جل ثناؤه.
باب : ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحي إليه ،وما شهد له به من اتباع ما أمر به ،ومن هداه وأنه هاد لمن اتبعه.
282. قال الشافعي: قال الله جل ثناؤه لنبيه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً.وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }. [الأحزاب: 1: 2]
283. وقال: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 106](27/79)
ص -86-…284. وقال: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 18]
285. فأعلم الله رسوله منه عليه بما سبق في علمه من عصمته إياه من خلقه فقال: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }.[المائدة: من الآية67]
286. وشهد له جل ثناؤه باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهداية من اتبعه، فقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]
287. وقال: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ،وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ،(27/80)
ص -87-…وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } .[النساء: 113]
288. فأبان الله أن قد فرض على نبيه اتباع أمره، وشهد له بالبلاغ عنه،وشهد به لنفسه ،ونحن نشهد له به، تقربا إلى الله بالإيمان به، وتوسلا إليه بتصديق كلماته .
289. أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب بن حنطب:" أن رسول الله قال : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه".
290. قال الشافعي: وما أعلمنا الله مما سبق في علمه وحتم قضائه الذي لا يرد، من فضله عليه ونعمته-: أنه منعه من أن يهموا به أن يضلوه، وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء.(27/81)
ص -88-…291. وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله، والشهادة بتأدية رسالته واتباع أمره، وفيما وصفت من فرضه طاعته وتأكيده إياها في الآي ذكرت-: ما أقام الله به الحجة على خلقه: بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره.
292. قال الشافعي: وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم-: فبحكم الله سنه. وكذلك أخبرنا الله في قوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.صِرَاطِ اللَّهِ } [الشورى: من الآية 52: 53].
293. وقد سن رسول الله مع كتاب الله وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب .
294. وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقا،(27/82)
ص -89-…ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجا لما وصفت وما قال رسول الله .
295. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدث عن أبيه أن رسول الله قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه-: فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ".(27/83)
ص -90-…296. قال سفيان: وحدثنيه محمد بن المنكدر عن النبي مرسلا.(27/84)
ص -91-…297. قال الشافعي: الأريكة: السرير.
298. وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله وجهان: أحدهما : نص كتاب فاتبَعَه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنزل الله. والآخر: جملة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عامًا أو خاصًا، وكيف أراد أن يأتي به العباد. وكلاهما اتبع فيه كتاب الله .
299. قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين.
300. والوجهان يجتمعان ويتفرعان: أحدهما: ما أنزل الله(27/85)
ص -92-…فيه نص كتاب، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب. والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب ،فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
301. والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.
302. فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه -:أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب
303. ومنهم من قال لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع لأن الله قال: { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }.[النساء: من الآية29] وقال: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }.[البقرة: من الآية275] فما أحل وحرم فإنما بين فيه عن الله كما بين الصلاة.
304. ومنهم من قال بل جاءته به رسالة الله فأثبتت سنته بفرض الله.(27/86)
ص -93-…305. ومنهم من قال: ألقي في روعه كل ما سن وسنته الحكمة: الذي ألقي في روعه عن الله فكان ما ألقي في روعه سنته.
306. أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الروح الأمين قد ألقي في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأجملوا في الطلب ".(27/87)
ص -103-…307. فكان مما ألقي في روعه سنته وهي الحكمة التي ذكر الله وما نزل به عليه كتاب فهو كتاب الله وكل جاءه من نعم الله كما أراد الله وكما جاءته النعم تجمعها النعمة وتتفرق بأنها في أمور بعضها غير بعض ونسأل الله العصمة والتوفيق.(27/88)
ص -104-…308. وأيُّ هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله وأن قد جعل الله بالناس الحاجة إليه في دينهم وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته صلى الله عليه إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى-: فهي كذلك أين كانت لا يختلف حكم الله ثم حكم(27/89)
ص -105-…رسوله بل هو لازم بكل حال.
309. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع الذي كتبنا قبل هذا.
310. وسأذكر مما وصفنا من السنة مع كتاب الله والسنة فيما ليس فيه نص كتاب بعض ما يدل على جملة ما وصفنا منه إن شاء الله
311. فأول ما نبدأ به من ذكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله ذكر الاستدلال بسنته على الناسخ والمنسوخ من كتاب الله ثم ذكر الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم معها ثم ذكر الفرائض الجمل التي أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله كيف هي ومواقيتها ثم ذكر العام من أمر الله الذي أراد به العام والعام الذي أراد به الخاص ثم ذكر سنته فيما ليس فيه نص كتاب.(27/90)
ص -106-…ابتداء الناسخ والمنسوخ
312. قال الشافعي: إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم لا معقب لحكمهوهو سريع الحساب
313. وأنزل عليهم الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وفرض فيهم فرائض أثبتها وأخرى نسخها: رحمة لخلقه بالتخفيف عنهم وبالتوسعة عليهم زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه. وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جنته والنجاة من عذابه. فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ. فله الحمد على نعمه.
314. وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب وأن السنة لا ناسخة للكتاب وإنما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصا ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملا.
315. قال الله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ(27/91)
ص -107-…أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.[يونس:15]
316. فأخبر الله أنه فرض على نبيه اتباع ما يوحى إليه ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه.
317. وفي قوله: { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي }:بيان ما وصفت من أنه لا ينسخ كتاب الله إلا بكتابه. كما كان المبتدئ لفرضه: فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.
318. وكذلك قال: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }.[الرعد:39]
319. وقد قال بعض أهل العلم: في هذه الآية- والله أعلم- دلالة على أن الله جعل لرسوله أن يقول من تلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم ينزل فيه كتابا. والله أعلم .
320. وقيل في قوله: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء. وهذا يشبه ما قيل. والله أعلم .(27/92)
ص -108-…321. وفي كتاب الله دلالة عليه: قال الله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:106].
322. فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله.
323. وقال: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ }.[النحل: من الآية101]
324. وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا ينسخها إلا سنة لرسول الله ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه: غير ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم.
325. فإن قال قائل: فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن ينسخ القرآن لأنه لا مثل للقرآن فأوجدنا ذلك في السنة ؟.
326. قال الشافعي: فيما وصفت من فرض الله على الناس(27/93)
ص -109-…اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : دليل على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا: إلا كتابه ثم سنة نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق من خلق الله-: لم يجز أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة رسول لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له بل فرض على خلقه اتباعه فألزمهم أمره فالخلق كلهم له تبع ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها ولم يقم مقام أن ينسخ شيئا منها.
327. فإن قال: أفيحتمل أن تكون له سنة مأثورة قد نسخت ولا تؤثر السنة التي نسختها؟.
328. فلا يحتمل هذا وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه ويترك ما يلزم فرضه؟! ولو جاز هذا خرج عامة السنن من أيدي الناس بأن يقولوا: لعلها منسوخة!! وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض. كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت(27/94)
ص -110-…مكانها الكعبة. وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا.
329. فإن قال قائل هل تنسخ السنة بالقرآن.
330. قيل:لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.(27/95)
ص -111-…331. فإن قال: ما الدليل على ما تقول؟
332. فما وصفت من موضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه خاصا وعاما مما وصفت في كتابي هذا وأنه لا يقول أبدا لشيء إلا بحكم الله.ولو نسخ الله مما قال حكما لسن رسول الله فيما نسخه سنة.
333. ولو جاز أن يقال: قد سن رسول الله ثم نسخ سنته بالقرآن ولا يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة الناسخة جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البيوع كلها : قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن ينزل عليه { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }،وفيمن رجم من الزناة: قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخا: لقول الله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }، وفي المسح على(27/96)
ص -112-…الخفين نسخت آية الوضوء المسح وجاز أن يقال: لا يدرأ عن سارق سرق من غير حرز وسرقته أقل من ربع دينار: لقول الله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } لأن اسم السرقة يلزم من سرق قليلا وكثيرا ومن حرز ومن غير حرز ولجاز رد كل حديث عن رسول الله بأن يقال: لم يقله إذا لم يجده مثل التنزيل وجاز رد السنن بهذين الوجهين فتركت كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه وهي لا تكون أبدا(27/97)
ص -113-…إلا موافقة له إذا احتمل اللفظ فيما روي عنه خلاف اللفظ في التنزيل بوجه أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثر مما في اللفظ في التنزيل وإن كان محتملا أن يخالفه من وجه.
334. وكتاب الله وسنة رسوله تدل على خلاف هذا القول وموافقة ما قلنا.
335. وكتاب الله البيان الذي يشفي به من العمى وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه واتباعه له وقيامه بتبيينه عن الله .
الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه .
336. قال الشافعي: مما نقل بعض من سمعت منه من أهل العلم: أن الله أنزل فرضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس،(27/98)
ص -114-…فقال: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 4:1 ] ثم نسخ هذه في السورة معه فقال: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }. [المزمل:20]
337. ولما ذكر الله بعد أمره بقيام الله نصفه إلا قليلا أو الزيادة عليه فقال: { أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ }فخفف فقال:{ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى }قرأ إلى { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }.
338. قال الشافعي: فكان بينا في كتاب الله نسخ(27/99)
ص -115-…قيام الليل ونصفه والنقصان من النصف والزيادة عليه بقول الله: { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }
339. فاحتمل قول الله: { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}: معنيين:
340. أحدهما: أن يكون فرضا ثابتا أنه أزيل به فرض غيره.
341. والآخر: أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره وذلك لقول الله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }. [الإسراء:79]
فاحتمل قوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ }.أن يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه .
342. قال: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألا واجب من الصلاة إلا الخمس فصرنا إلى أن الواجب الخمس وأن ما سواها واجب من(27/100)
ص -116-…صلاة قبلها: منسوخ بها استدلالاً بقول الله: { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ }، وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفه وثلثه وما تيسر.
343. ولسنا نحب لأحد ترك أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه مصليا به وكيف ما أكثر فهو أحب إلينا.
344. أخبرنا مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: "جاء أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله صيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أفلح إن صدق ".(27/101)
ص -117-…345. ورواه عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس صلوات كتبهن الله على خلقه فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافاً بحقهن: كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ".
باب : فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بالعذر، وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية.
346. قال الله تبارك وتعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }. [البقرة:222]
347. قال الشافعي: افترض الله الطهارة على المصلي في الوضوء والغسل من الجنابة فلم تكن لغير طاهر صلاة. ولما(27/102)
ص -118-…ذكر الله المحيض فأمر باعتزال النساء حتى يطهرن فإذا تطهرن أتين: استدللنا على أن تطهرهن بالماء: بعد زوال المحيض لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحضر فلا يكون للحائض طهارة بالماء لأن الله إنما ذكر التطهر بعد أن يطهرن وتطهرهن: زوال المحيض في كتاب الله ثم سنة رسوله.
348. أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: وذكرت إحرامها مع النبي وأنها حاضت فأمرها أن تقضي ما يقضي الحاجُّ " غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ".(27/103)
ص -119-…349. فاستدللنا على أن الله إنما أراد بفرض الصلاة من إذا توضأ واغتسل طهر فأما الحائض فلا تطهر بواحد منهما وكان الحيض شيئا خلق فيها لم تجتلبه على نفسها فتكون عاصية به فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها فلم يكن عليها قضاء ما تركت منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضها.
350. وقلنا في المُغْمَى عليه والمغلوب على عقله بالعارض من أمر الله الذي لا جناية له فيه قياسا على الحائض-: إن الصلاة عنه مرفوعة لأنه لا يعقلها ما دام في الحال التي لا يعقل فيها.
351. وكان عاما في أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحائض بقضاء الصلاة وعاما أنها أمرت بقضاء الصوم ففرقنا بين الفرضين: استدلالاً بما وصفت من نقل أهل العلم وإجماعهم.(27/104)
ص -120-…352. وكان الصوم مفارق الصلاة في أن للمسافر تأخيره عن شهر رمضان وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السفرو كان الصوم شهرا من اثني عشر شهرا وكان في أحد عشر شهرا خليا من فرض الصوم ولم يكن أحد من الرجال- مطيقا بالفعل للصلاة خليا من الصلاة.
353. قال الله: { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا }.[النساء: من الآية43]
354. فقال بعض أهل العلم: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر.
355. فدل القرآن- والله أعلم- على ألاَّ صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ ما يقول، إذ بدأ بنهيه عن الصلاة وذكر معه الجنب فلم يختلف أهل العلم ألاَّ صلاة لجنب حتى يتطهر.(27/105)
ص -121-…356. وإن كان نهي السكران عن الصلاة قبل تحريم الخمر: فهو حين حرم الخمر أولى أن يكون منهيا بأنه عاص من وجهين: أحدهما: أن يصلي في الحال التي هو فيها منهي والآخر: أن يشرب الخمر .
357. والصلاة قول وعمل وإمساك فإذا لم يعقل القول والعمل والإمساك: فلم يأت بالصلاة كما أمر فلا تجزىء عنه وعليه إذا أفاق القضاء.
358. ويفارق المغلوب على عقله بأمر الله الذي لا حيلة له فيه-: السكران لأنه أدخل نفسه في السكر فيكون على السكران القضاء دون المغلوب على عقله بالعارض الذي لم يجتلبه على نفسه فيكون عاصيا باجتلابه.
359. وَوَجَّه الله رسوله صلى الله عليه وسلم للقبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل- قبل نسخها- استقبال غيرها ثم نسخ(27/106)
ص -122-…الله قبلة بيت المقدس ووجهه إلى البيت فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبدا لمكتوبة ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام
360. قال: وكل كان حقا في وقته فكان التوجه إلى بيت المقدس- أيام وجه الله إليه نبيه-: حقا ثم نسخه فصار الحق في التوجه إلى البيت الحرام لا يحل استقبال غيره في مكتوبة إلا في بعض الخوف أو نافلة في سفر استدلالاً بالكتاب والسنة .
361. وهكذا كل ما نسخ الله ومعنى[ نسخ ]،ترك فرضه-: كان حقا في وقته وتركه حقا إذا نسخه الله فيكون مَن(27/107)
ص -123-…أدرك فرضه مطيعا به وبتركه ومن لم يدرك فرضه مطيعا باتباع الفرض الناسخ له.
362. قال الله لنبيه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.[البقرة: من الآية144]
363. فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حولوا إلى قبلة بعد قبلة؟.
364. ففي قول الله: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. [البقرة:142]
365. مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر(27/108)
ص -124-…قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآنٌ وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
366. مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب(27/109)
ص -125-…أنه كان يقول: " صلى رسول الله ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين ".
367. قال والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قول الله: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }.[البقرة: من الآية239] وليس لمصلي المكتوبة أن يصلي راكبا إلا في خوف ولم يذكر الله أن يتوجه القبلة.(27/110)
ص -126-…368. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقال في روايته:" فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ".
369. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النافلة في السفر على راحلته أين توجهت به .حفظ ذلك عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وغيرهما. وكان لا يصلي المكتوبة مسافرا إلا بالأرض متوجها للقبلة .
370. ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن جابر بن عبد الله : " أن النبي كان يصلي على راحلته موجهة به قبل المشرق في غزوة بني أنمار ".(27/111)
ص -127-…371. قال الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}. [الأنفال:65]
372. ثم أبان في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين فقال: { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. [الأنفال:66]
373. أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ(27/112)
ص -128-…يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ }. كتب عليهم ألاَّ يفرَّ العشرون من المائتين فأنزل الله: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} إلى { يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فكتب أن لا يفر المائة من المائتين
374. قال: وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله وقد بين الله هذا في الآية وليست تحتاج إلى تفسير.
375. قال { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً. وَالَّذَانِ(27/113)
ص -129-…يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} .[النساء:15 :16]
376. ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }[النور: من الآية2]
377. فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين.
378. أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ".
379. أخبرنا الثقة من أهل العلم عن يونس بن عبيد(27/114)
ص -130-…عن الحسن عن حطان الرقاشي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله.(27/115)
ص -131-…380. قال فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين ومنسوخ عن الثيبين وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين.
381. لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني قد جعل الله(27/116)
ص -132-…لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " -: أول نزل فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.
382. فلما رجم النبي ماعزا ولم يجلده وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلمي فإن اعترفت رجمها-: دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين وثبت الرجم عليهما لأن كل شيء أبدا بعد أول فهو آخر.(27/117)
ص -133-…383. فدل كتاب الله ثم سنة نبيه :على أن الزانيين المملوكين خارجان من هذا المعنى.
384. قال الله تبارك وتعالى في المملوكات: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.[النساء: من الآية25]
385. والنصف لا يكون إلا من الجلد الذي يتبعض فأما الرجم- الذي هو قتل-: فلا نصف له لأن المرجوم قد(27/118)
ص -134-… يموت في أول حجر يرمي به فلا يزاد عليه ويرمي بألف وأكثر فيزاد عليه حتى يموت فلا يكون لهذا نصف محدود أبدا. والحدود موقتة بإتلاف نفس والإتلاف موقت بعدد ضرب أو تحديد قطع. وكل هذا معروف ولا نصف للرجم معروف.(27/119)
ص -135-…386. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها " ولم يقل:" يرجمها "ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رجم على مملوك في الزنا .
387. وإحصان الأمة إسلامها.
388. وإنما قلنا هذا: استدلالاً بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
389. ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها "ولم يقل:" محصنة كانت أو غير محصنة "-:استدللنا(27/120)
ص -136-…على أن قول الله في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.[النساء: من الآية25]-: إذا أسلمن لا إذا نكحن فأصبن بالنكاح ولا إذا أعتقن وإن لم يصبن .
390. فإن قال قائل: أراك تُوقِعُ الإحصان على معاني مختلفة ؟.
391. قيل: نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم فالإسلام مانع وكذلك الحرية مانعة وكذلك الزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت مانع وكل ما منع أحصن قال الله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ }.[الأنبياء: من الآية80] وقال: { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ}.[الحشر: من الآية14] يعني ممنوعة.
392. قال: وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عاما في موضع دون غيره-: أن الإحصان(27/121)
ص -137-…ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان.
الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع.
393. قال الله تبارك وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]
394. قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ(27/122)
ص -138-… أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.[البقرة:240]
395. فأنزل الله ميراث الوالدين ومن ورث بعدهما ومعهما من الأقربين وميراث الزوج من زوجته والزوجة من زوجها.
396. فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين والوصية للزوج والميراث مع الوصايا فيأخذون بالميراث والوصايا ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
397. فلما احتملت الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله فما لم يجدوه نصا في كتاب الله طلبوه(27/123)
ص -139-…في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبلوه بما افترض من طاعته.
398. ووجدنا أهل الفُتْيَا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم-: لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر ". ويأثرونه عن من حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
399. فكان هذا نقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد .وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
400. قال: وروى بعض الشاميين حديثا ليس مما يثبته أهل الحديث فيه: أن بعض رجاله مجهولون فرويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعا.(27/124)
ص -140-…401. وإنما قبلناه بما وصفت من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه وإن كنا قد ذكرنا الحديث فيه واعتمدنا على حديث أهل المغازي عاما وإجماع الناس.
402. أخبرنا سفيان عن سليمان الأحول عن مجاهد أن رسول الله قال: " لا وصية لوارث ".(27/125)
ص -141-…403. فاستدللنا بما وصفت من نقل عامة أهل المغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنْ " لا وصية لوارث "-:على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة مع الخبر المنقطع عن النبي وإجماع العامة على القول به.
404. وكذلك قال أكثر العامة: إن الوصية للأقربين(27/126)
ص -143-…منسوخة زائل فرضها إذا كانوا وارثين فبالميراث وإن كانوا غير وارثين فليس بفرض أن يوصي لهم.
405. إلا أن طاوساً وقليلاً معه قالوا:" نسخت الوصية للوالدين وثبتت للقرابة غير الوارثين فمن أوصى لغير قرابة لم يجز ".
406. فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاوس من أن الوصية للقرابة ثابتة إذ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلاَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا وصية لوارث " وجب عندنا على أهل العلم طلب الدلالة على خلاف ما قال طاوس أو موافقته:
407. فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت-: فجزأهم النبي ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعةً.(27/127)
ص -144-…408. أخبرنا بذلك عبد الوهاب عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
409. قال: فكانت دلالة السنة في حديث عمران بن حصين بينة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عتقهم في المرض وصية.(27/128)
ص -145-…410. والذي أعتقهم رجل من العرب والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم فأجاز النبي لهم الوصية .
411. فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة: بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للمعتق.
412. ودل ذلك على أن لا وصية لميت إلا في ثلث ماله. ودل ذلك على أن يرد ما جاوز الثلث في الوصية وعلى إبطال الاستسعاء وإثبات القسم والقرعة.
413. وبطلت وصية الوالدين لأنهما وارثان وثبت ميراثهما.
414. ومن أوصى له الميت من قرابة وغيرهم جازت الوصية إذا لم يكن وارثا.
415. وأحب إلي لو أوصى لقرابة.
416. وفي القرآن ناسخ ومنسوخ غير هذا مفرق في مواضعه في كتاب:[ أحكام القرآن ]
417. وإنما وصفت منه جملا يستدل بها على ما كان في(27/129)
ص -146-…معناها ورأيت أنها كافية في الأصل مما سكنت عنه .وأسأل الله العصمة والتوفيق.
418. وأتبعت ما كتبت منها علم الفرائض التي أنزلها الله مفسرات وجملا وسنن رسول الله معها وفيها ليعلم من علم هذا من علم [ الكتاب ]-:الموضع الذي وضع الله به نبيه من كتابه ودينه وأهل دينه .
419. ويعلمون أن اتباع أمره طاعة الله وأن سنته تبع لكتاب الله فيما أنزل وأنها لا تخالف كتاب الله أبدا .
420. ويعلم من فهم[ هذا الكتاب ]أن البيان يكون من وجوه لا من وجه واحد يجمعها أنها عند أهل العلم بينة ومشتبهة البيان وعند من يقصر علمه مختلفة البيان.(27/130)
ص -147-…باب : الفرائض التي أنزل الله نصا.
421. قال الله جل ثناؤه: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.[النور:4]
422. قال الشافعي: فالمحصنات ها هنا البوالغ الحراير وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة.
423. وقال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ }. [النور: (النور:6: 9](27/131)
ص -148-…424. فلما فرق الله بين حكم الزوج والقاذف سواه فحد القاذف سواه إلا أن يأتي بأربعة شهداء على ما قال وأخرج الزوج باللعان من الحد-: دل ذلك على أن قذفه المحصنات الذين أريدوا بالجلد: قذفة الحرائر البوالغ غير الأزواج.
425. وفي هذا الدليل على ما وصفت من أن القرآن عربي يكون منه ظاهره عاما وهو يراد به الخاص لا أن واحدة من الآيتين نسخت الأخرى ولكن كل واحدة منهما على ما حكم الله به فيفرق بينهما حيث فرق الله ويجمعان حيث جمع الله.
426. فإذا التعن الزوج خرج من الحد كما يخرج الأجنبيون بالشهود وإذا لم يلتعن- وزوجته حرة بالغة-: حُدَّ.
427. قال: وفي العجلاني وزوجته أنزلت آية اللعان ولاَعَنَ النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. فحكى اللعان بينهما سهل بن سعد الساعدي،(27/132)
ص -149-…وحكاه ابن عباس وحكى ابن عمر حضور لعان عند النبي فما حكى منهم واحد كيف لفظ النبي في أمرهما باللعان .
428. وقد حكوا معا أحكاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست نصا في القرآن منها: تفريقه بين المتلاعنين ونفيه الولد وقوله:" إن جاءت به هكذا فهو للذي يتهمه "فجاءت به على الصفة وقال:" إن أمره لبين لولا ما حكى الله "وحكى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند الخامسة :قفوه فإنها موجبة ".
429. فاستدللنا على أنهم لا يحكون بعض ما يحتاج إليه من الحديث ويدعون بعض ما يحتاج إليه منه-: وأولاه أن يحكى من ذلك كيف لاعن النبي بينهما إلا علما بأن أحدا قرأ كتاب(27/133)
ص -150-…الله يعلم أن رسول الله إنما لاعن كما أنزل الله.
430. فاكتفوا بإبانة الله اللعان بالعدد والشهادة لكل واحد منهما دون حكاية لفظ رسول الله حين لاعن بينهما.
431. قال الشافعي: في كتاب الله غاية الكفاية عن اللعان وعدده.
432. ثم حكى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفرقة بينهما كما وصفت.
433. وقد وصفنا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله قبل هذا.(27/134)
ص -157-…434. قال الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ }. [البقرة:183 :184] { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً }.[البقرة: من الآية185]
435. ثم بين أي شهر هو فقال: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }. [البقرة:185]
436. قال الشافعي: فما علمت أحدا من أهل العلم بالحديث(27/135)
ص -158-…قَبْلَنا تكلف أن يروي عن النبي أن الشهر المفروض صومه شهر رمضان الذي بين شعبان وشوال لمعرفتهم بشهر رمضان من الشهور واكتفاء منهم بأن الله فرضه .
437. وقد تكلفوا حفظ صومه في السفر وفطره وتكلفوا كيف قضاؤه وما أشبه هذا مما ليس فيه نص كتاب .
438. ولا علمت أحدا من غير أهل العلم احتاج في المسألة عن شهر رمضان: أي شهر هو ؟ ولا هل هو واجب أم لا ؟
439. وهكذا ما أنزل الله من جمل فرائضه: في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا على من أطاقه وتحريم الزنا والقتل وما أشبه هذا.
440. قال: وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا سننا ليست(27/136)
ص -159-…نصا في القرآن أبان رسول الله عن الله معنى ما أراد بها وتكلم المسلمون في أشياء من فروعها لم يسن رسول الله فيها سنة منصوصة .
441. فمنها قول الله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا }.[البقرة: من الآية230]
442. فاحتمل قول الله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أن يتزوجها زوج غيره وكان هذا المعنى الذي يسبق إلى من خوطب به أنها إذا عقدت عليها عقدة النكاح فقد نكحت .
443. واحتمل:حتى يصيبها زوج غيره لأن اسم النكاح يقع بالإصابة ويقع بالعقد
444. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة طلقها زوجها ثلاثا ونكحها بعده رجل -: "لا تحلين حتى تذوقي عسيلته(27/137)
ص -160-…ويذوق عسيلتك" يعني يصيبك زوج غيره. والإصابة النكاح.
445. فإن قال قائل: فاذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرت.
446. قيل: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة : "أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة(27/138)
ص -161-…طلقني فبت طلاقي وأن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة الثوب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
447. قال الشافعي:فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إحلال الله إياها للزوج المطلق ثلاثا بعد زوج بالنكاح: إذا كان مع النكاح إصابة من الزوج.
الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها.
448. قال الله تبارك وتعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ(27/139)
ص -162-…وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } .[المائدة:6]
449. وقال: { وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا }.[النساء: من الآية43]
450. فأبان أن طهارة الجنب الغسل دون الوضوء.
451. وسن رسول الله الوضوء كما أنزل الله: فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين.
452. أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أنه توضأ مرة مرة".
453. أخبرنا مالك بن عمرو بن يحيى عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى :"هل تستطيع أن(27/140)
ص -163-…تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح برأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه.(27/141)
ص -164-…454. فكان ظاهر قول الله: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } أقل ما وقع عليه اسم الغسل وذلك مرة واحتمل أكثر.
455. فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة فوافق ذلك ظاهر القرآن، وذلك أقل ما يقع عليه اسم الغسل واحتمل أكثر ،وسنه مرتين وثلاثا.
456. فلما سنه مرة استدللنا على أنه لو كانت مرة لا تجزئ -:لم يتوضأ مرة ويصلي وأن ما جاوز مرة اختيار لا فرض في الوضوء لا يجزئ أقل منه.(27/142)
ص -165-…457. وهذا مثل ما ذكرت من الفرائض قبله : لو ترك الحديث فيه استغنى فيه بالكتاب وحين حكي الحديث فيه دل على اتباع الحديث كتاب الله.
458. ولعلهم إنما حكوا الحديث فيه لأن أكثر ما توضأ رسول الله ثلاثا فأرادوا أن الوضوء ثلاثا ا ختيار لا أنه واجب لا يجزئ أقل منه ولما ذكر منه في أن "من توضأ وضوءه هذا - وكان ثلاثا -:ثم صلى لا يحدث نفسه فيما غفر له " فأرادوا طلب الفضل في الزيادة في الوضوء وكانت الزيادة فيه نافلة.
459. وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء المرفقين والكعبين وكانت الآية محتملة أن يكونا مغسولين وأن يكون مغسولا إليهما ولا يكونان مغسولين ولعلهم حكوا الحديث إبانة لهذا أيضا.
460. وأشبه الأمرين بظاهر الآية أن يكونا مغسولين.(27/143)
ص -166-…461. وهذا بيان السنة مع بيان القرآن.
462. وسواء البيان في هذا وفيما قبله ومستغنى بفرضه بالقرآن عند أهل العلم ومختلفان عند غيرهم.
463. وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة غسل الفرج والوضوء كوضوء الصلاة ثم الغسل فكذلك أحببنا أن نفعل.
464. ولم أعلم مخالفا حفظت عنده من أهل العلم في أنه كيف ما جاء بغسل وأتى على الإسباغ: أجزأه وإن اختاروا غيره لأن الفرض الغسل فيه ولم يحدد تحديد الوضوء.
464. وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يجب منه الوضوء وما الجنابة التي يجب بها الغسل إذا لم يكن بعض ذلك منصوصا في الكتاب.(27/144)
ص -167-…الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد الخاص
466 قال الله تبارك وتعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ }.[النساء: من الآية176]
467 وقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً }.[النساء:7]
468 وقال: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً(27/145)
ص -168-…مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }. [النساء:11 : 12 ]
469 وقال: { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ }مع أي المواريث كلها
470 فدلت السنة على أن الله إنما أراد ممن سمى له المواريث من الإخوة والأخوات والولد والأقارب والوالدين والأزواج وجميع من سمى له فريضة في كتابه-: خاصا مما سمى.
471 وذلك أن يجتمع دين الوارث والموروث فلا يختلفان ويكونان من أهل دار المسلمين ومن له عقد من المسلمين يأمن به على ماله ودمه أو يكونان من المشركين فيتوارثان بالشرك
472 أخبرنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين(27/146)
ص -169-…عن عمرو بن عثمان بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"(27/147)
ص -170-…473 وأن يكون الوارث والموروث حرين في الإسلام
474 أخبرنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع".
475 قال: فلما كان بينا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يملك مالا وأن ما ملك العبد فإنما يملكه لسيده وأن اسم المال له إنما هو إضافة إليه لأنه في يديه لا أنه مالك له ولا يكون مالكا له وهو لا يملك نفسه وهو مملوك يباع ويوهب ويورث(27/148)
ص -171-…وكان الله إنما نقل ملك الموتى إلى الأحياء فملكوا منها ما كان الموتى مالكين وإن كان العبد أبا أو غيره ممن سميت له فريضة فكان لو أعطيها ملكها سيده عليه لم يكن السيد بأبي الميت ولا وارثا سميت له فريضة-: فكنا لو أعطينا العبد بأنه أب إنما أعطينا السيد الذي لا فريضة له فورثنا غير من ورثه الله فلم نورث عبدا لما وصفت ولا أحدا لم تجتمع فيه الحرية والإسلام والبراءة من القتل حتى لا يكون قاتلا.
476 وذلك أنه روى مالك عن يحيى بن سعيد بن عمرو بن شعيب أن رسول الله قال : "ليس لقاتل شيء".(27/149)
ص -172-…477 فلم نورث قاتلا ممن قتل وكان أخف حال القاتل عمدا أن يمنع الميراث عقوبة مع تعرض سخط الله أن يمنع ميراث من عصى الله بالقتل
478 وما وصفت- من ألا يرث المسلم إلا المسلم حر غير قاتل عمداً-: ما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم حفظت عنه ببلدنا ولا غيره
479 وفي اجتماعهم على ما وصفنا من هذا حجة تلزمهم(27/150)
ص -173-…ألا يتفرقوا في شيء من سنن رسول الله بأن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت هذا المقام فيما لله فيه فرض منصوص فدلت على أنه على بعض من لزمه اسم ذلك الفرض دون بعض-: كانت فيما كان مثله من القرآن هكذا وكانت فيما سن النبي فيما ليس فيه لله حكم منصوص: هكذا.
480 وأولى أن لا يشك عالم في لزومها وأن يعلم أن أحكام الله ثم أحكام رسوله لا تختلف وأنها تجري على مثال واحد.
481 قال الله تبارك وتعالى: { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }.[النساء: من الآية29]
482 وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }.[البقرة: من الآية275]
483 ونهى رسول الله عن بيوع تراضى بها المتبايعان(27/151)
ص -174-…فحرمت مثل الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ومثل الذهب بالورق وأحدهما نقد والآخر نسية، وما كان في معنى هذا، مما ليس بالتبايع به مخاطرة ولا أمر يجهله البائع ولا المشتري
484 فدلت السنة على أن الله جل ثناؤه أراد بإحلال البيع ما لم يحرم منه دون ما حرم على لسان نبيه
485 ثم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوع سوى هذا سننا منها:(27/152)
ص -175-…العبد يباع وقد دلس البائع المشتري بعيب فللمشتري رده وله الخراج بضمانه ومنها: أن من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ومنها: من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع لزم الناس الأخذ بها بما ألزمهم الله من الانتهاء إلى أمره(27/153)
ص -176-…جمل الفرائض
486 قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}.[النساء: من الآية103]
487 وقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }.[البقرة: من الآية43]
488 وقال لنبيه: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }.[التوبة: من الآية103]
489 وقال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا }.[آل عمران: من الآية97]
490 قال الشافعي: أحكم الله فرضه في كتابه(27/154)
ص -177-…في الصلاة والزكاة والحج وبين كيف فرضه على لسان نبيه.
491 فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدد الصلوات المفروضات خمس وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الحضر أربع أربع وعدد المغرب ثلاث وعدد الصبح ركعتان.
492 وسن فيها كلها قراءة وسن أن الجهر منها بالقراءة في المغرب والعشاء والصبح وأن المخافتة بالقراءة في الظهر والعصر.
493 وسن أن الفرض في الدخول في كل صلاة بتكبير والخروج منها بتسليم وأنه يؤتى فيها بتكبير ثم قراءة ثم ركوع ثم سجدتين بعد الركوع وما سوى هذا من حدودها .
494 وسن في صلاة السفر قصرا كلما كان أربعا من الصلوات إن شاء المسافر وإثبات المغرب والصبح على حالهما في الحضر.
495 وأنها كلها إلى القبلة مسافرا كان أو مقيما إلا في حال من الخوف واحدة.(27/155)
ص -178-…496 وسن أن النوافل في مثل حالها: لا تحل إلا بطهور ولا تجوز إلا بقراءة وما تجوز به المكتوبات من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحضر وفي الأرض وفي السفر وأن للراكب أن يصلي في النافلة حيث توجهت به دابته.
497 أخبرنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن جابر بن عبد الله : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار كان يصلي على راحلته متوجها قبل المشرق".
498 أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : مثل معناه لا أدري أسمى بني أنمار أو لا؟ أو قال "صلى في السفر".(27/156)
ص -179-…499 وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الأعياد والاستسقاء سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود وسن في صلاة الكسوف فزاد فيها ركعة على ركوع الصلوات فجعل في كل ركعة ركعتين
500 قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
501 وأخبرنا مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
502 قال: مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
503 قال: فحكي عن عائشة وابن عباس في هذه الأحاديث صلاة النبي بلفظ مختلف واجتمع في حديثهما معا على أنه صلى صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركعتين.(27/157)
ص -180-…504 وقال الله في الصلاة: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }.[النساء: من الآية103]
505 فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تلك المواقيت وصلى الصلوات لوقتها فحوصر يوم الأحزاب فلم يقدر على الصلاة في وقتها فأخرها للعذر حتى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء في مقام واحد.
506 أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن بن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: "حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل حتى كفينا وذلك قول الله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}.[الأحزاب: من الآية25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام الظهر فصلاها(27/158)
ص -181-…فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها هكذا ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا قال: وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }.[البقرة: من الآية239]
507 قال: فبين أبو سعيد أن ذلك قبل أن ينزل الله على النبي الآية التي ذكرت فيها صلاة الخوف.
508 والآية التي ذكر فيها صلاة الخوف قول الله: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا(27/159)
ص -182-…لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً } .[النساء:101] وقال: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ }.[النساء:102]
509 أخبرنا مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: " أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاء الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم(27/160)
ص -183-…510 أخبرني من سمع عبد الله بن عمر بن حفص يذكر عن أخيه عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه خوات بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثل حديث يزيد بن رومان.
511 وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل هذا في [هذا الكتاب]-: من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة فأحدث الله إليه(27/161)
ص -184-…في تلك السنة نسخها أو مخرجا إلى سعة منها: سن رسول الله سنة تقوم الحجة على الناس بها حتى يكونوا إنما صاروا من سنته إلى سنته التي بعدها
512 فنسخ الله تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها- كما أنزل الله وسن رسوله- في وقتها ونسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم بسنته صلاها رسول الله في وقتها كما وصفت
513 أخبرنا مالك عن نافع عن بن عمر أراه عن النبي(27/162)
ص -185-…فذكر صلاة الخوف فقال:" إن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا وركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ".
514 أخبرنا رجل عن بن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم :مثل معناه ولم يشك أه عن أبيه وأنه مرفوع إلى النبي.(27/163)
ص -186-…515 قال: فدلت سنة رسول الله على ما وصفت من أن القبلة في المكتوبة على فرضها أبدا إلا في الموضع الذي لا يمكن فيه الصلاة إليها وذلك عند المسايفة والهرب وما كان في المعنى الذي لا يمكن فيه الصلاة إليها
516 وثبتت السنة في هذا: ألا تترك الصلاة في وقتها كيف ما أمكنت المصلي.
في الزكاة
517 قال الله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة َ}.[البقرة: من الآية43](27/164)
ص -187-…وقال: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }.[النساء: من الآية162].وقال: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون:4 :7]
518 فقال بعض أهل العلم: هي الزكاة المفروضة .
519 قال الله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }. [التوبة:103]
520 فكان مخرج الآية عاما على الأموال وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض فدلت السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض.
521 فلما كان المال أصنافا: منه الماشية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم(27/165)
ص -188-…من الإبل والغنم وأمر- فيما بلغنا - بالأخذ من البقر خاصة دون الماشية سواها ثم أخذ منها بعدد مختلف كما قضى الله على لسان نبيه وكان للناس ماشية من خيل حمر وبغال وغيرها فلما لم يأخذ رسول الله منها شيئا وسن أن ليس في الخيل صدقة -: استدللنا على أن الصدقة فيما اخذ منها وأمر بالأخذ منه دون غيره.
522 وكان للناس زرع وغراس فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النخل والعنب الزكاة بخرص غير مختلف ما أخذ منهما(27/166)
ص -189-…وأخذ منهما معا العشر إذا سقيا بسماء أو عين ونصف العشر إذا سقيا بغرب.
523 وقد أخذ بعض أهل العلم من الزيتون قياسا على النخل والعنب .
524 ولم يزل للناس غراس غير النخل والعنب والزيتون كثير من الجوز واللوز والتين وغيره فلما لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيئا ولم يأمر بالأخذ منه-: استدللنا على أن فرض الله الصدقة فيما كان من غراس في بعض الغراس دون بعض .
525 وزرع الناس الحنطة والشعير والذرة وأصنافا سواها فحفظنا عن رسول الله الأخذ من الحنطة والشعير والذرة وأخذ من قبلنا من الدخن والسلت(27/167)
ص -190-…والعلس والأرز وكل ما نبته الناس وجعلوه قوتا خبزا وعصيدة وسويقا وأدما مثل الحمص والقطاني(27/168)
ص -191-…فهي تصلح خبزا وسويقا وأدما اتباعا لمن مضى وقياسا على ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منه الصدقة وكان في معنى ما أخذ النبي لأن الناس نبتوه ليقتاتوه.
526 وكان للناس نبات غيره فلم يأخذ منه رسول الله ولا من بعد رسول الله علمناه ولم يكن في معنى ما أخذ منه و ذلك مثل الثفاء(27/169)
ص -192-…والأسبيوش والكسبرة وحب العصفر وما أشبهه فلم تكن فيه زكاة-: فدل ذلك على أن الزكاة في بعض الزرع دون بعض .
527. وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة إما بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا(27/170)
ص -193-…وإما قياسا على أن الذهب والورق نقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه(27/171)
ص -194-…أثمانا على ما تبايعوا به في البلدان قبل الإسلام وبعده
528. وللناس تبر غيره من نحاس وحديد ورصاص فلما لم يأخذ منه رسول الله ولا أحد بعده زكاة: تركناه اتباعا بتركه وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والورق الذين هما الثمن عاما في البلدان على غيرهما لأنه في غير معناهما لا زكاة فيه ويصلح أن يشترى بالذهب والورق غيرهما من التبر إلى أجل معلوم وبوزن معلوم .
529. وكان الياقوت والزبرجد أكثر ثمنا من الذهب والورق فلما لم يأخذ منهما رسول الله ولم يأمر بالأخذ ولا من بعده علمناه وكان مال الخاصة وما لا يقوم به على أحد في شيء استهلكه الناس لأنه غير نقد-: لم يؤخذ منهما(27/172)
ص -195-…530.ثم كان ما نقلت العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زكاة الماشية والنقد: أنه أخذها في كل سنة مرة.
531 وقال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }.[الأنعام: من الآية141] فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ مما فيه زكاة من نبات الأرض الغراس وغيره على حكم الله جل ثناؤه-: يوم يحصد لا وقت له غيره
532 وسن في الركاز الخمس فدل على أنه يوم يوجد لا في وقت غيره(27/173)
ص -196-…533. أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " في الركاز الخمس ".
534. ولولا دلالة السنة كان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض.(27/174)
ص -197-…في الحج
535. وفرض الله الحج على من يجد السبيل فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن السبيل الزاد والمركب، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواقيت الحج وكيف التلبية فيه، وما سن وما يتقي المحرم من لبس الثياب والطيب وأعمال الحج سواها من عرفة والمزدلفة والرمي والحلاق والطواف وما سوى ذلك
536. فلو أن امرأ لم يعلم لرسول الله سنة مع كتاب الله إلا ما وصفنا مما سن رسول الله فيه معنى ما أنزله الله جملة وأنه إنما(27/175)
ص -198-…استدرك ما وصفت من فرض الله الأعمال وما يحرم وما يحل ويدخل به فيه ويخرج منه ومواقيته وما سكت عنه سوى ذلك من أعماله-: قامت الحجة عليه بأن سنة رسول الله إذا قامت هذا المقام مع فرض الله في كتابه مرة أو أكثر: قامت كذلك أبدا.
537. واستدل أنه لا تخالف له سنة أبدا كتاب الله وأن سنته وإن لم يكن فيها نص كتاب-: لازمة بما وصفت من هذا مع ما ذكرت سواه مما فرض الله من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
538. ووجب عليه أن يعلم أن الله لم يجعل هذا لخلق غير رسوله صلى الله عليه وسلم .
539. وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبدا: تبعا لكتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
540. وأن يعلم أن عالما إن روي عنه قول يخالف فيه شيئا(27/176)
ص -199-…سن فيه رسول الله سنة-: لو علم سنة رسول الله لم يخالفها وانتقل عن وقوله إلى سنة النبي إن شاء الله وإن لم يفعل كان غير موسع له.
541. فكيف والحجج في مثل هذا لله قائمة على خلقه بما افترض من طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأبان من موضعه الذي وضعه به من وحيه ودينه وأهل دينه
في العدد
542. قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }.[البقرة: من الآية234]وقال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }.[البقرة: من الآية228]
543. وقال: { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ(27/177)
ص -200-…إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }.[الطلاق: من الآية4]
544. فقال بعض أهل العلم: قد أوجب الله على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا وذكر أن أجل الحامل أن تضع فإذا جمعت أن تكون حاملا متوفى عنها: أتت بالعدتين معا كما أجدها في كل فرضين جعلا عليها أتت بهما معا
545. قال: فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبيعة بنت الحارث ووضعت بعد وفاة زوجها بأيام: " قد حللت فتزوجي "-: دل هذا على أن العدة في الوفاة والعدة في الطلاق بالإقراء والشهور إنما أريد به من لا حمل به من النساء وأن الحمل إذا كان فالعدة سواه ساقطة.(27/178)
ص -201-…في محرمات النساء
546. قال الله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }. [النساء:24]
547. فاحتملت الآية معنيين أحدهما: أن ما سمى الله من نساء محرما محرم وما سكت عنه حلال بالصمت عنه وبقول الله:(27/179)
ص -202-…{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وكان هذا المعنى هو الظاهر من الآية
548. وكان بينا في الآية تحريم الجمع بمعنى غير تحريم الأمهات فكان ما سمى حلالا حلال وما سمى حراما حرام وما نهى عن الجمع بينه من الأختين كما نهى عنه .
549. وكان في نهيه عن الجمع بينهما دليل على أنه إنما حرم الجمع وأن كل واحدة منهما على الانفراد حلال في الأصل،(27/180)
ص -203-…وما سواهن من الأمهات والبنات والعمات والخالات: محرمات في الأصل .
550 وكان معنى قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } من سمى تحريمه في الأصل ومن هو في مثل حاله بالرضاع-: أن ينكحوهن بالوجه الذي حل به النكاح .(27/181)
ص -205-…قال: أنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
551. فإن قال قائل: ما دل على هذا؟
552. فإن النساء المباحات لا يحل أن ينكح منهن أكثر من أربع ولو نكح خامسة فسخ النكاح فلا تحل منهن واحدة إلا بنكاح صحيح وقد كانت الخامسة من الحلال بوجه وكذلك الواحدة بمعنى قول الله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }-: بالوجه الذي أحل به النكاح وعلى الشرط الذي أحله به لا مطلقا.
553. فيكون نكاح الرجل المرأة لا يحرم عليه نكاح عمتها ولاخالتها بكل حال كما حرم الله أمهات النساء بكل حال فتكون العمة والخالة داخلتين في معنى من أحل بالوجه الذي أحلها به.(27/182)
ص -206-…554 كما يحل له نكاح امرأة إذا فارق رابعة: كانت العمة إذا فورقت ابنت أخيها حلت.
في محرمات الطعام
555. وقال الله لنبيه: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }.[الأنعام: من الآية145]
556. فاحتملت الآية معنيين أحدهما أن لا يحرم على طاعم أبدا إلا ما استثنى الله
557. وهذا المعنى الذي إذا وجه رجل مخاطبا به كان الذي(27/183)
ص -207-…يسبق إليه انه لا يحرم غير ما سمى الله محرما وما كان هكذا فهو الذي يقول له: أظهر المعاني وأعمها وأغلبها والذي لو احتملت الآية معنى سواه كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة النبي تدل على معنى غيره مما تحتمله الآية فيقول: هذا معنى ما أراد الله تبارك وتعالى.
558. ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما. ولا يقال بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أريد بها ذلك الخاص فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لم تحتمل الآية .
559. ويحتمل قول الله: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ }-: من شيء سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره.(27/184)
ص -208-…560. ويحتمل: مما كنتم تأكلون وهذا أولى معانيه استدلالا بالسنة عليه دون غيره.
561. أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع "
562. أخبرنا مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أكل كل ذي ناب من السباع حرام "(27/185)
ص -209-…فيما تمسك عنه المعتدة من الوفاة
563. قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }. [البقرة:234]
564. فذكر الله أن على المتوفى عنهن عدة وأنهن إذا بلغنها فلهن أن يفعلن في أنفسهن بالمعروف ولم يذكر شيئا تجتنبه في العدة.
565. قال: فكان ظاهر الآية أن تمسك المعتدة في العدة عن الأزواج فقط مع إقامتها في بيتها-: بالكتاب.
566. وكانت تحتمل ان تمسك عن الأزواج وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساك عن غيره مما كان مباحا لها قبل العدة من طيب وزينة.(27/186)
ص -210-…567. فلما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعتدة من الوفاة الإمساك عن الطيب وغيره-: كان عليها الإمساك عن الطيب وغيره بفرض السنة والإمساك عن الأزواج والسكنى في بيت زوجها بالكتاب ثم السنة .
568. واحتملت السنة في هذا الموضع ما احتملت في غيره: من أن تكون السنة بينت عن الله كيف إمساكها.كما بينت الصلاة والزكاة والحج واحتملت أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سن فيما ليس فيه نص حكم لله.
باب العلل في الأحاديث
569. قال الشافعي: قال لي قائل: فإنا نجد من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في القرآن مثلها نصا وأخرى في القرآن مثلها(27/187)
ص -211-…جملة وفي الأحاديث منها أكثر مما في القرآن وأخرى ليس منها شيء في القرآن وأخرى موتفقة وأخرى مختلفة: ناسخة ومنسوخة وأخرى مختلفة: ليس فيها دلالة على ناسخ ولا منسوخ وأخرى فيها نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتقولون: ما نهى عنه حرام وأخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها نهي فتقولون: نهيه وأمره على الاختيار لا على التحريم. ثم نجدكم تذهبون إلى بعض المختلفة من(27/188)
ص -212-…الأحاديث دون بعض ونجدكم تقيسون على بعض حديثه ثم يختلف قياسكم عليها وتتركون بعضا فلا تقيسون عليه. فما حجتكم في القياس وتركه؟ ثم تفترقون بعد: فمنكم من يترك من حديثه الشيء ويأخذ بمثل الذي ترك وأضعف إسنادا منه؟
570. قال الشافعي: فقلت له: كل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله من سنة فهي موافقة كتاب الله في النص بمثله وفي الجملة بالتبيين عن الله والتبيين يكون أكثر تفسيرا من الجملة .
571. وما سن مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه.
572. وأما الناسخة والمنسوخة من حديثه فهي كما نسخ الله الحكم في كتابه بالحكم غيره من كتابه عامة في أمره وكذلك سنة رسول الله تنسخ بسنته.(27/189)
ص -213-…573. وذكر له بعض ما كتبت في: كتابي ،قبل هذا من إيضاح ما وصفت.
574. فأما المختلفة التي لا دلالة على أيها ناسخ ولا أيها منسوخ-: فكل أمره موتفق صحيح لا اختلاف فيه
575. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي اللسان والدار فقد يقول القول عاما يريد به العام وعاما يريد به الخاص كما وصفت لك في كتاب الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذا.
576. ويُسأَل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة ويؤدي عنه المخبر عنه الخبر متقصى والخبر مختصرا والخبر فيأتي ببعض معناه دون بعض.
577. ويحدث عنه الرجل الحديث قد أدرك جوابه ولم يدرك المسألة فيدله على حقيقة الجواب بمعرفته السبب الذي يخرج عليه الجواب .(27/190)
ص -214-…578. ويسن في الشيء سنة وفيما يخالفه أخرى فلا يخلص بعض السامعين بين اختلاف الحالين اللتين سن فيهما .
579. ويسن سنة في نص معناه فيحفظها حافظ ويسن في معنى يخالفه في معنى ويجامعه في معنى-: سنة غيرها لاختلاف الحالين فيحفظ غيره تلك السنة فإذا أدى كل ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافا وليس منه شيء مختلف .
580. ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله ويسن في غيره خلاف الجملة فيستدل على أنه لم يرد بما حرم ما أحل ولا بما أحل ما حرم.
581. ولكل هذا نظير فيما كتبنا من جمل أحكام الله
582. ويسن السنة ثم ينسخها بسنته ولم يدع أن يبين(27/191)
ص -215-…كلما نسخ من سنته بسنته ولكن ربما ذهب على الذي سمع من رسول الله بعض علم الناسخ أو علم المنسوخ فحفظ أحدهما دون الذي سمع من رسول الله الآخر وليس يذهب ذلك على عامتهم حتى لا يكون فيهم موجودا إذا طُلِب.
583. وكل ما كان كما وصفت أمضي على ما سنه وفرق بين ما فرق بينه منه .
584. وكانت طاعته في تشعيبه على ما سنه واجبة ولم يقل ما فرق بين كذا كذا ؟
585. لأن قول : "ما فرق بين كذا كذا ؟"فيما فرق بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم -:لا يعدو أن يكون جهلا ممن قاله أو ارتيابا شرا من الجهل وليس فيه طاعة الله باتباعه.(27/192)
ص -216-…586. وما لم يوجد فيه إلا الاختلاف: فلا يعدو أن يكون لم يحفظ متقصًّى كما وصفت قبل هذا فيعد مختلفا ويغيب عنا من سبب تبيينه ما علمنا في غيره أو وهما من محدث.
587. ولم نجد عنه شيئا مختلفا فكشفناه-: إلا وجدنا له وجها يحتمل به ألا يكون مختلفا وأن يكون داخلا في الوجوه التي وصفت لك.
588. أو نجد الدلالة على الثابت منه دون غيره بثبوت الحديث فلا يكون الحديثان اللذان نسبا إلى الاختلاف متكافيين فنصير إلى الأثبت من الحديثين.
589. أو يكون على الأثبت منهما دلالة من كتاب الله أو سنة نبيه أو الشواهد التي وصفنا قبل هذا فنصير إلى الذي هو أقوى وأولى أن يثبت بالدلائل.
590. ولم نجد عنه حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج أو على أحدهما دلالة بأحد ما وصفت: إما بموافقة كتاب(27/193)
ص -217-… أو غيره من سنته أو بعض الدلايل
591. وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو التحريم حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد به غير التحريم .
592. قال: وأما القياس على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصله وجهان، ثم يتفرع في أحدهما وجوه.
593. قال: وما هما ؟
594. قلت: إن الله تعبد خلقه في كتابه وعلى لسان نبيه بما سبق في قضائه أن يتعبدهم به ولما شاء لا معقب لحكمه فيما تعبدهم به مما دلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي له تعبدهم به أو وجدوه في الخبر عنه لم يُنزَلْ في شيء في مثل المعنى الذي له تعبد خلقَه،(27/194)
ص -218-…ووجب على أهل العلم أن يسلكوه سبيل السنة إذا كان في معناها وهذا الذي يتفرع تفرعا كثيرا
595. والوجه الثاني: أن يكون أحل لهم شيئا جملة وحرم منه شيئا بعينه فيحلون الحلال بالجملة ويحرمون الشيء بعينه ولا يقيسون عليه: على الأقل الحرام لأن الأكثر منه حلال والقياس على الأكثر أولى أن يقاس عليه من الأقل.
596. وكذلك إن حرم جملة وأحل بعضها وكذلك إن فرض شيئا وخص رسول الله التخفيف في بعضه.
597. وأما القياس فإنما أخذناه استدلالاً بالكتاب والسنة والآثار.(27/195)
ص -219-…598. وأما أن نخالف حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا عنه-: فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله.
599. وليس ذلك لأحد ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قول يخالفها لا أنه عمد خلافها وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل.
600. قال: فقال لي قائل: فَمَثِلْ لي كل صنف مما وصفت مثالا تجمع لي فيه الإتيان على ما سألت عنه بأمر لا تكثر عليَّ فأنساه وابدأْْ بالناسخ والمنسوخ من سنن النبي واذكر منها(27/196)
ص -220-…شيئا مما معه القرآن وإن كررت بعض ما ذكرت؟
601. فقلت: له كان أول ما فرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في القبلة أن يستقبل بيت المقدس للصلاة فكان بيت المقدس القبلة التي لا يحل لأحد أن يصلي إلا إليها في الوقت الذي استقبلها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نسخ الله قبلة بيت المقدس ووجه رسوله صلى الله عليه وسلم والناس إلى الكعبة-: كانت الكعبة القبلة التي لا يحل لمسلم أن يستقبل المكتوبة في غير حال من الخوف: غيرها ولا يحل أن يستقبل بيت المقدس أبدا.
602. وكل كان حقا في وقته بيت المقدس من حين استقبله النبي إلى أن حول عنه-: الحق في القبلة ثم البيت الحرام الحق في القبلة إلى يوم القيامة.
603. وهكذا كل منسوخ في كتاب الله وسنة نبيه.
604. قال: وهذا- مع إبانته لك الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة-: دليل لك على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة حوله الله(27/197)
ص -221-…عنها إلى غيرها: سن أخرى يصير إليها الناس بعد التي حول عنها لئلا يذهب على عامتهم الناسخ فيثبتون على المنسوخ.
605. ولئلا يشبه على أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسن فيكون في الكتاب شيء يرى من جهل اللسان أو العلم بموقع السنة مع الكتاب أو إبانتها معانيه-: أن الكتاب ينسخ السنة.
606. فقال: أفيمكن أن تخالف السنة في هذا الكتاب؟
607. قلت: لا، وذلك: لأن الله جل ثناؤه أقام على خلقه الحجة من وجهين أصلهما في الكتاب: كتابه ثم سنة نبيه بفرضه في كتابه اتباعها.
608. فلا يجوز أن يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة لازمة فتنسخ فلا يسن ما نسخها وإنما يعرف الناسخ بالآخر من الأمرين،(27/198)
ص -222-…وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عرف بدلالة سنن رسول الله .
609. فإذا كانت السنة تدل على ناسخ القرآن وتفرق بينه وبين منسوخه-: لم يكن أن تُنْسَخَ السنة بقرآن إلا أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن سنة تَنْسَخُ سنته الأولى لتذهب الشبهة عن من أقام الله عليه الحجة من خلقه.
610. قال: أفرأيت لو قال قائل: حيث وجدت القرآن ظاهرا عاما ووجدت سنة تحتمل أن تبين عن القرآن وتحتمل أن تكون بخلاف ظاهره-: علمت أن السنة منسوخة بالقرآن؟
611. فقلت له: لا يقول هذا عالم!
612. قال: ولم ؟
613. قلت: إذا كان الله فرض على نبيه اتباع ما أنزل إليه وشهد له بالهدى وفرض على الناس طاعته وكان اللسان -كما وصفت قبل هذا- محتملا للمعاني وأن يكون كتاب الله ينزل عاما يراد به الخاص وخاصا يراد به العام وفرضا جملة بينه رسول الله،(27/199)
ص -223-…فقامت السنة مع كتاب الله هذا المقام-: لم تكن السنة لتخالف كتاب الله ولا تكون السنة إلا تبعا لكتاب الله بمثل تنزيله أو مبينة معنى ما أراد الله فهي بكل حال متبعة كتاب الله.
614. قال: أفتُوجِدُني الحجة بما قلت في القرآن ؟
615. فذكرت له بعض ما وصفت في كتاب:[ السنة مع القرآن ]من أن الله فرض الصلاة والزكاة والحج فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الصلاة وعددها ومواقيتها وسننها وفي كم الزكاة من المال وما يسقط عنه من المال ويثبت عليه ووقتها وكيف عمل الحج وما يجتنب فيه ويباح.
616. قال: وذكرت له قول الله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }.[المائدة: من الآية38] و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }.[النور: من الآية2] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سن القطع على من بلغت سرقته(27/200)
ص -224-…ربع دينار فصاعدا والجلد على الحرين البكرين دون الثيبين الحرين والمملوكين-: دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الله أراد بها الخاص من الزناة والسراق وإن كان مخرج الكلام عاما في الظاهر على السراق والزناة .
617. قال: فهذا عندي كما وصفت أفتجد حجة على من روى أن النبي قال: " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله "؟(27/201)
ص -225-…618. فقلت له: ما ورى هذا يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر فيقال لنا: قد ثبتم حديث من روى هذا في شيء .
619. وهذه أيضا رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء .
620. قال: فهل عن النبي رواية بما قلتم ؟
621. فقلت له: نعم:
622. أخبرنا سفيان قال: أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع(27/202)
ص -226-…عبيد الله بن أبي رافع يحدث عن أبيه أن النبي قال: " لاأُلْفِيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه-: فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "
623 قال الشافعي: فقد ضيَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس أن يردوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره.
624 قال: فأبن لي جملا اجمع لك أهل العلم- أو أكثرهم- عليه من سنة مع كتاب الله يحتمل أن تكون السنة مع الكتاب دليلا على أن الكتاب خاص وإن كان ظاهره عاما .
625 فقلت له: نعم، ما سمعتني حكيت في[ كتابي ]
626 قال: فأعد منه شيئا.
627 قلت: قال الله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ(27/203)
ص -227-…وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }.[ النساء:23: من الآية24]
628 قال: وذكر الله من حرم ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " فلم أعلم مخالفا في اتباعه.(27/204)
ص -228-…629 فكانت فيه دلالتان: دلالة على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون مخالفة لكتاب الله بحال ولكنها مبينة عامة وخاصة.
630 ودلالة على أنهم قبلوا فيه خبر الواحد فلا نعلم أحدا رواه من وجه يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا هريرة .
631 قال: أفيحتمل ا يكون هذا الحديث عندك خلافا لشيء من ظاهر الكتاب
632 فقلت: لا ولا غيره
633 قال:ٍ فما معنى قول الله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }فقد ذكر التحريم وقال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }؟(27/205)
ص -229-…634 قلت: ذكر تحريم من هو حرام بكل حال مثل الأم والبنت والأخت والعمة وبنات الأخ وبنات الأخت وذكر من حرم بكل حال من النسب والرضاع وذكر من حرم من الجمع بينه وكان أصل كل واحد منهما مباحا على الانفراد قال:{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }يعني بالحال التي أحلها به.
635 ألا ترى أن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }بمعنى ما أحل به لا أن واحدة من النساء حلال بغير نكاح يصح ولا أنه يجوز نكاح خامسة على أربع ولا جمع بين أختين ولا غير ذلك مما نهى عنه ؟!(27/206)
ص -230-…636 فذكرت له فرض الله في الوضوء ومسح النبي على الخفين وما صار إليه أكثر أهل العلم من قبول المسح.
637 فقال: أفيخالف المسح شيئا من القرآن ؟
638 قلت: لا تخالفه سنة بحال
639 قال: فما وجهه ؟
640 قلت: لما قال: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }.[المائدة: من الآية6]-: دلت السنة على أن من كان على طهارة ما لم يحدث فقام إلى الصلاة لم يكن عليه هذا الفرض فكذلك دلت على أن فرض غسل القدمين إنما هو على المتوضئ لا خفي عليه لبسهما كامل الطهارة.(27/207)
ص -231-…641 وذكرت له تحريم النبي كل ذي ناب من السباع وقد قال الله: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }. [الأنعام:145] ثم سمى ما حرم
642 فقال: فما معنى هذا ؟
643 قلنا معناه: قل لا أجد فيما يوحى إلي محرما مما كنتم تأكلون إلا أن يكون ميتة وما ذكر بعدها فأما ما تركتم أنكم لم تعدوه من الطيبات فلم يحرم عليكم مما كنتم تستحلون إلا ما سمى الله ودلت السنة على أنه حرم عليكم منه ما كنتم تحرمون لقول الله: { ِوَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }[لأعراف: من الآية157](27/208)
ص -232-…644 قال: وذكرت له قول الله: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }.[البقرة: من الآية275] وقوله: { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }[النساء: من الآية29] ثم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوعا منها الدنانير بالدراهم إلى أجل وغيرها فحرمها المسلمون بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس هذا ولا غيره خلافا لكتاب الله.
645 قال: فحد لي معنى هذا بأجمع منه وأخصر.
646 فقلت له: لما كان في كتاب الله دلالة على أن الله قد وضع رسوله موضع الإبانة عنه وفرض على خلقه اتباع أمره فقال: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }.[لبقرة: من الآية275] فإنما يعني: أحل الله البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه وكذلك قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }.[النساء: من الآية24]-: بما أحله الله به(27/209)
ص -233-…من النكاح وملك اليمين في كتابه لا أنه أباحه في كل وجه وهذا كلام عربي.
647 وقلت له: لو جاز أن تترك سنة مما ذهب إليه من جهل مكان السنن من الكتاب-: ترك ما وصفنا من المسح على الخفين وإباحة كل ما لزمه اسم بيع وإحلال أن يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وإباحة كل ذي ناب من السباع وغير ذلك .
648 ولجاز أن يقال: سن النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقطع من لم تبلغ سرقته ربع دينار قبل التنزيل ثم نزل عليه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }.[المائدة: من الآية38]فمن لزمه اسم سرقة قطع
649 ولجاز أن يقال: إنما سن النبي صلى الله عليه وسلم الرجم على الثيب حتى نزلت عليه: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ(27/210)
ص -234-…جَلْدَةٍ }.[النور: من الآية2]فيجلد البكر والثيب ولا نرجمه
650 وأن يقال في البيوع التي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حرمها قبل التنزيل فلما أنزلت { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }.[البقرة: من الآية275] كانت حلالاً
651 والربا: أن يكون للرجل على الرجل الدين فيحل فيقول: أتقضي أم تربي فيؤخر عنه ويزيده في ماله وأشباه لهذا كثيرة.
652 فمن قال هذا: كان معطلا لعامة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول جهل ممن قاله.
653 قال: أجل.
654 وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفت ومن خالف ما قلت فيها فقد جمع الجهل بالسنة والخطأ في الكلام فيما يجهل.
655 قال: فاذكر سنة نسخت بسنة سوى هذا.(27/211)
ص -235-…656 فقلت له: السنن الناسخة والمنسوخة مفرقة في مواضعها وإن رددت طالت.
657 قال: فيكفي منها بعضها فاذكره مختصرا بينا.
658 فقلت: أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن واقد عن عبد الله بن عمر قال: " نهى رسول الله عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث "قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعَمْرَةَ فقالت: صدق سمعت عائشة تقول: " دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادخروا لثلاث فتصدقوا بما بقي قالت: فلما كان بعد ذلك قيل: يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم يجملون(27/212)
ص -236-…منها الودك ويتخذون الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: و ما ذاك ؟ أو كما قال. قالوا: يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى فكلوا وتصدقوا وادخروا ".
659. وأخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن أبي عبيد مولى بن أزهر قال: " شهدت العيد مع علي بن أبي طالب فسمعته يقول: لا يأكلن أحدكم من لحم نسكه بعد ثلاث ".
660.أخبرنا الثقة عن معمر عن الزهري عن أبي عبيد(27/213)
ص -237-…عن علي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأكلن أحدكم من لحم نسكه بعد ثلاث "
661 أخبرنا بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: " إنا لنذبح ما شاء الله من ضحايانا ثم نتزود بقيتها إلى البصرة ".
662 قال الشافعي: فهذه الأحاديث تجمع معاني: منها:(27/214)
ص -238-…أن حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث وحديث عبد الله بن واقد-: موتفقان عن النبي صلى الله عليه وسلم .
663 وفيهما دلالة على أن عليا سمع النهي من النبي صلى الله عليه وسلم وأن النهي بلغ عبد الله بن واقد .
664 ودلالة على أن الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عليا ولا عبد الله بن واقد ولو بلغتهما الرخصة ما حدثا بالنهي والنهي منسوخ وتركا الرخصة، والرخصة ناسخة. والنهي منسوخ لا يستغني سامعه عن علم ما نسخه.
665 وقول أنس بن مالك: كنا نهبط بلحوم الضحايا البصرة-: يحتمل أن يكون أنس سمع الرخصة ولم يسمع النهي قبلها فتزود بالرخصة ولم يسمع نهيا أو سمع الرخصة والنهي فكان النهي منسوخا فلم يذكره.
666 فقال: كل واحد من المختلفين بما علم.
667 وهكذا يجب على من سمع شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ثبت له عنه-: أن يقول بما سمع حتى يعلم غيره.(27/215)
ص -239-…668 قال الشافعي: فلما حدثت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم بالرخصة فيها بعد النهي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما نهى عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث للدافة: كان الحديث التام المحفوظ أوله وآخره وسبب التحريم والإحلال فيه: حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان على مَنْ علمه أن يصير إليه.
669 وحديث عائشة مِنْ أبين ما يوجد في الناسخ والمنسوخ من السنن.
670 وهذا يدل على أن بعض الحديث يخص فيحفظ بعضه دون بعض فيحفظ منه شيء كان أولا ولا يحفظ آخرا ويحفظ أخرا ولا يحفظ أولا فيؤدي كل ما حفظ.
671 فالرخصة بعدها في الإمساك والأكل والصدقة من لحوم الضحايا إنما هي لواحد معيين لاختلاف الحالين:
672 فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث وإذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة.(27/216)
ص -240-…673.ويجتمل ان يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخا في كل حال فَيُُمْسِكُ الإنسان من ضحيته ما شاء ويتصدق بما شاء(27/217)
ص -242-…وجه آخر من الناسخ والمنسوخ
674 أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن بن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد(27/218)
ص -243-…الخدري قال: " حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل حتى كفينا وذلك قول الله: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: من الآية25] قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمر فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا قال: وذلك قبل أن أنزل الله في صلاة الخوف { فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: من الآية239] .
675. قال الشافعي: فلما حكى أبو سعيد أن صلاة النبي عام الخندق كانت قبل أن ينزل في صلاة الخوف{ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }-: استدللنا على أنه لم يصل صلاة الخوف إلا بعدها إذ حضرها أبو سعيد وحكى تأخير الصلوات حتى خرج من وقت عامتها وحكى أن ذلك قبل نزول صلاة الخوف .(27/219)
ص -244-…676. قال: فلا تؤخر صلاة الخوف بحال أبدا عن الوقت إن كانت في حضر أو عن وقت الجمع في السفر-: بخوف ولا غير ولكن تصلى كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
677. والذي أخذنا به في صلاة الخوف أن مالكا أخبرنا عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن من صلى مع رسول الله صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: " أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم ".
678. قال: أخبرنا من سمع عبد الله بن عمر بن حفص يخبر عن أخيه عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات بن جبير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله.(27/220)
ص -245-…679 قال: وقد روى أن النبي صلى صلاة الخوف على غير ما حكى مالك.
680. وإنما أخذنا بهذا دونه لأنه كان أشبه بالقرآن وأقوى في مكايدة العدو.
681. وقد كتبنا هذا بالاختلاف فيه وتبين الحجة في[ كتاب الصلاة ] وتركنا ذكر من خالفنا فيه وفي غيره من الأحاديث لأن ما خُولِفْنَا فيه منها مفترق في كتبه.
وجه آخر
682. قال الله تبارك وتعالى: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا(27/221)
ص -246-…فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } .[ النساء:15: من الآية16]
683. فكان حد الزانيين بهذه الآية الحبس والأذى حتى أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حد الزنا فقال: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }.[النور: من الآية2] وقال في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }.[النساء: من الآية25] فنسخ الحبس عن الزناة وثبت عليهم الحدود.
684. ودل قول الله في الإماء: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }-: على فرق الله بين حد المماليك والأحرار في الزنا وعلى أن النصف لا يكون إلا من جلد لأن الجلد بعدد ولا يكون من رجم لأن الرجم إتيان على النفس بلا عدد لأنه قد يؤتى عليها برجمة واحدة وبألف وأكثر فلا نصف(27/222)
ص -247-…لما لا يعلم بعدد ولا نصف للنفس فيؤتى بالرجم على نصف النفس
685 واحتمل قول الله في سورة النور: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }-: أن يكون على جميع الزناة الأحرار وعلى بعضهم دون بعض فاستدللنا بسنة رسول الله - بأبي هو وأمي - على من أريد بالمائة جلدة.
686 أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خذوا عني خذوا عني قد جعل لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم "
687 قال: فدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد جعل الله لهن سبيلا "على أن هذا أول ما حد به الزناة لأن الله يقول: { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }(27/223)
ص -248-…688 ثم رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا ولم يجلده وامرأة الأسلمي ولم يجلدها فدلت سنة رسول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين.
689 قال: ولم يكن بين الأحرار في الزنا فرق إلا بالإحصان بالنكاح وخلاف الإحصان به.
690 وإذ كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام "-:ففي هذا دلالة على أن أول ما نسخ الحبس عن الزانيين وحدا بعد الحبس وأن كل حد حده الزانيين فلا يكون إلا بعد هذا إذ كان هذا أول حد الزانيين .
691 أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله(27/224)
ص -249-…بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر- وهو أفقههما -: أجل يا رسول الله! فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم. قال: تكلم. قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين(27/225)
ص -250-…بكتاب الله: أما غنمك وجاريتك فرد إليك. وجلد ابنه مائة وغربه عام وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها "
692 أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ".
693 قال: فثبت جلد مائة والنفي على البكرين الزانيين والرجم على الثيبين الزانيين.
694 وإن كانا ممن أريدا بالجلد فقد نسخ عنهما الجلد مع الرجم وإن لم يكونا أريدا بالجلد وأريد به البكران-: فهما مخالفان للثيبين.(27/226)
ص -251-…695 ورجم الثيبين بعد آية الجلد: بما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله وهذا أشبه معانيه وأولاها عندنا. والله أعلم.
وجه آخر
696 أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد وصلينا وراءه قعودا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده -:(27/227)
ص -252-…فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ".
697 أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم: أن اجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ".
698 قال: وهذا مثل حديث أنس وإن كان حديث أنس مفسَّرا وأوضح من تفسير هذا.
699 أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كما أنت،(27/228)
ص -253-… فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر ".
700. وبه يأخذ الشافعي.
701. قال: وذكر إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر: مثل معنى حديث عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعدا وأبو بكر قائما يصلي بصلاة النبي وهو وراءه قياما ".(27/229)
ص -254-…702. قال: فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما-: استدللنا على أن أمره الناس بالجلوس في سقطته عن الفرس: قبل مرضه الذي مات فيه فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما-: ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام.
703 وكان في ذلك دليل بما جاءت به السنة وأجمع عليه(27/230)
ص -255-…الناس: من أن الصلاة قائما إذا أطاقها المصلي وقاعدا إذا لم يطق وأن ليس للمطيق القيام منفردا أن يصلي قاعدا.
704. فكانت سنة النبي أن صلى في مرضه قاعدا ومن خلفه قياما مع أنها ناسخة لسنته الأولى قبلها-: موافقة سنته في الصحيح والمريض وإجماع الناس: أن يصلي كل واحد منهما فرضه كما يصلي المريض خلف الإمام الصحيح قاعدا والإمام قائما.
705. وهكذا نقول: يصلي الإمام جالسا ومن خلفه من الأصحاء قياما فيصلي كل واحد فرضه ولو وكل غيره كان حسنا.
406. وقد أوهم بعض الناس فقال: لا يؤمن أحد بعد النبي جالسا واحتج بحديث رواه منقطع عن رجل مرغوب(27/231)
ص -256-… الرواية عنه لا يثبت بمثله حجة على أحد فيه:" لا يؤمن أحد بعدي جالسا "(27/232)
ص -258-…707. قال: ولهذا أشباه في السنة من الناسخ والمنسوخ
708. وفي هذا دلالة على ما كان في مثل معناها، إن شاء الله
709 وكذلك له أشباه في كتاب الله قد وصفنا بعضها(27/233)
ص -259-…في كتابنا هذا وما بقي مفرق في أحكام القرآن والسنة في مواضعه
710. قال: فقال: فاذكر من الأحاديث المختلفة التي لا دلالة فيها على ناسخ ولا منسوخ والحجة فيما ذهبت إليه منها دون ما تركت.
711. فقلت له: قد ذكرت قبل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف يوم ذات الرقاع فصف بطائفة وطائفة في غير صلاة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
712. قال: وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى(27/234)
ص -260-…صلاة الخوف خلاف هذه الصلاة في بعض أمرها فقال صلى ركعة بطائفة وطائفة بينه وبين العدو ثم انصرفت الطائفة التي وراءه فكانت بينه وبين العدو وجاءت الطائفة التي لم تصل معه فصلى بهم الركعة التي بقيت عليه من صلاته وسلم ثم انصرفوا فقضوا معا
713. قال وروى أبو عياش الزرقي أن النبي صلى يوم عسفان وخالد بن الوليد بينه وبين القبلة فصف بالناس معه معا ثم ركع وركعوا معا ثم سجد فسجدت معه طائفة(27/235)
ص -261-…وحرسته طائفة فلما قام من السجود سجد الذين حرسوه ثم قاموا في صلاته.
714. وقال: جابر قريبا من هذا المعنى.
715. قال: وقد روى ما لا يثبت مثله بخلافها كلها.(27/236)
ص -262-…716. فقال لي قائل: وكيف صرت إلى الأخذ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ذات الرقاع دون غيرها ؟
717. فقلت: أما حديث أبي عياش وجابر في صلاة الخوف فكذلك أقول وإذا كان مثل السبب الذي صلى له تلك الصلاة.
718. قال: وما هو ؟
719. قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة وكان خالد بن الوليد في مائتين وكان منه بعيدا في صحراء واسعة لا يطمع فيه لقلة من معه وكثرة من مع رسول الله وكان الأغلب منه أنه مأمون على أن يحمل عليه ولو حمل من بين يديه رآه وقد حرس منه في السجود إذ كان لا يغيب عن طرفه.
720. فإذا كانت الحال بقلة العدو وبعده وأن لا حائل دونه يستره كما وصفت-: أمرت بصلاة الخوف هكذا .(27/237)
ص -263-…721. قال: فقال: قد عرفت أن الرواية في صلاة ذات الرقاع لا تخالف هذا لاختلاف الحالين قال: فكيف خالفت حديث ابن عمر ؟
722. فقلت له: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خوات بن جبير وقال سهل بن أبي حثمة بقريب من معناه وحفظ عن علي بن أبي طالب أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير كما روى خوات بن جبير عن النبي وكان خوات متقدم الصحبة والسن.
723. فقال: فهل من حجة أكثر من تقدم صحبته ؟(27/238)
ص -264-…724 فقلت" نعم، ما وصفت فيه من الشبه بمعنى كتاب الله.
725 قال: فأين يوافق كتاب الله ؟
726 قلت: قال الله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } [النساء:102]
727 وقال: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}.[النساء: من الآية103] يعني- والله أعلم-: فأقيموا الصلاة كما كنتم تصلون في غير الخوف.
728 فلما فرق الله بين الصلاة في الخوف و في الأمن حياطة لأهل دينه أن ينال منهم عدوهم غرة-: فتعقبنا حديث خوات بن جبير والحديث الذي يخالفه فوجدنا حديث خوات بن جبير(27/239)
ص -265-…أولى بالحزم في الحذر منه وأحرى أن تتكافأ الطائفتان فيها.
729. وذلك أن الطائفة التي تصلي مع الإمام أولا محروسة بطائفة في غير صلاة والحارس إذا كان في غير صلاة كان متفرغا من فرض الصلاة قائما وقاعدا ومنحرفا يمينا وشمالا وحاملا إن حمل عليه ومتكلما إن خاف عجلة من عدوه ومقاتلا إن أمكنته فرصة غير محول بينه وبين هذا في الصلاة ويخفف الإيمان بمن معه الصلاة إذا خاف حملة العدو: بكلام الحارس
730. قال: وكان الحق للطائفتين معا سواءً فكانت الطائفتان في حديث خوات سواءً تحرس كل واحدةٍ من الطائفتين الأخرى والحارسة خارجة من الصلاة فتكون الطائفة الأولى قد أعطت الطائفة التي حرستها مثل الذي أخذت منها فحرستها خلية من الصلاة فكان هذا عدلاً بين الطائفتين .
731. قال: وكان الحديث الذي يخالف حديث خوات بن جبير على خلاف الحذر تحرس الطائفة الأولى في ركعة ثم تنصرف المحروسة قبل تكمل الصلاة فتحرس ثم تصلي(27/240)
ص -266-…الطائفة الثانية محروسة بطائفة في صلاة ثم يقضيان جميعا لا حارس لهما لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام وهو وحده ولا يعني شيئا فكان هذا خلاف الحذر والقوة في المكيدة.
732 وقد أخبرنا الله أنه فرق بين صلاة الخوف وغيرها نظرا لأهل دينه أن لا ينال منهم عدوهم غرة ولم تأخذ الطائفة الأولى من الآخرة مثل ما أخذت منها.
733. ووجدت الله ذكر صلاة الإمام والطائفتين معا ولم يذكر على الإمام ولا على واحدة من الطائفتين قضاء فدل ذلك على أن حال الإمام ومن خلفه في أنهم يخرجون من الصلاة لا قضاء عليهم-: سواء .(27/241)
ص -267-…734. وهكذا حديث خوات وخلاف الحديث الذي يخالفه.
735. قال الشافعي: فقال: فهل للحديث الذي تركت وجه غير ما وصفت ؟
736. قلت: نعم، يحتمل أن يكون لما جاز أن تصلي صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف: جاز لهم أن يصلوها كيف ما تيسر لهم وبقدر حالاتهم وحالات العدو إذا أكملوا العدد فاختلف صلاتهم وكلها مجزية عنهم.
وجه آخر من الاختلاف
737. قال الشافعي: قال لي قائل: قد اختلف في التشهد فروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم(27/242)
ص -268-…السورة من القرآن " فقال: في مبتداه ثلاث كلمات " التحيات لله "فبأي التشهد أخذت ؟.
738. فقلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب يقول على المنبر وهو يعلم الناس التشهد يقول: قولوا: " التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ".
739. قال الشافعي: فكان هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغارا ثم سمعناه بإسناد وسمعنا ما خالفه فلم نسمع إسنادا في التشهد- يخالفه ولا يوافقه - أثبت عندنا منه وإن كان غيره ثابتا.(27/243)
ص -269-…740. فكان الذي نذهب إليه أن عمر لا يعلم الناس على المنبر بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إلا على ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم .
741. فلما اتنهى إلينا من حديث أصحابنا حديث يثبته عن النبي صلى الله عليه وسلم صرنا إليه وكان أولى بنا.
742. قال: وما هو ؟
743. قلت: أخبرنا الثقة وهو حي بن حسان عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله،(27/244)
ص -270-…سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ".
744 قال الشافعي: فقال: فأنى ترى الرواية اختلفت فيه عن النبي؟ فروى ابن مسعود خلاف هذا وروى أبو موسى خلاف هذا وجابر خلاف هذا وكلها قد يخالف بعضها بعضا في شيء من لفظه ثم علم عمر خلاف هذا كله في بعض لفظه،(27/245)
ص -271-…وكذلك تشهد عائشة .وكذلك تشهد ابن عمر ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غير ما في لفظ صاحبه وقد يزيد بعضها الشيء على بعض ؟.
745. فقلت له: الأمر في هذا بين.
746. قال: فأبنه لي ؟
747. قلت: كل كلام أريد به تعظيم الله فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله جعل يعلمه الرجل فيحفظه والآخر فيحفظه،(27/246)
ص -272-…وما أخذ حفظا فأكثر ما يحترس فيه منه إحالة المعنى فلم تكن فيه زيادة ولا نقص ولا اختلاف شيء من كلامه يحيل المعنى فلا تسع إحالته.
748. فلعل النبي أجاز لكل امرئ منهم كما حفظ إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه ولعل من اختلفت روايته واختلف تشهده إنما توسعوا فيه فقالوا على ما حفظوا وعلى ما حضرهم وأجيز لهم.
749. قال: أفتجد شيئا يدل على إجازة ما وصفت ؟.
750. فقلت: نعم.
751. قال: وما هو ؟(27/247)
ص -273-…752. قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: " سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف ثم لببته بردائه فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال لي اقرأ: فقرأت فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر ".(27/248)
ص -274-…753. قال: فإذا كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزل: ليحل لهم قراءته وإن اختلف اللفظ فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى-: كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه.
754. وكل ما لم يكن فيه حكم اختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه .(27/249)
ص -275-…755. وقد قال بعض التابعين: لقيت أناسا من أصحاب رسول الله فاجتمعوا في المعنى واختلفوا علي في اللفظ فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحيل المعنى.
756. قال الشافعي: فقال: ما في التشهد إلا تعظيم الله وأني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعا وأن لا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ذكرت ومثل هذا - كما قلت - يمكن في صلاة(27/250)
ص -276-…الخوف فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روي عن النبي أجزأه إذ خالف الله بينها وبين ما سواها من الصلوات ولكن كيف صرت إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره ؟.
757. قلت: لما رأيته واسعا وسمعته عن أبن عباس صحيحا-: كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره فأخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله.
اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله
758. أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا(27/251)
ص -277-…بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز "
759. أخبرنا مالك عن موسى بن أبي تميم عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما "
760. أخبرنا مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن عمر أنه قال: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم "
761. قال: الشافعي وروى عثمان بن عفان وعبادة(27/252)
ص -278-…ابن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الزيادة في الذهب بالذهب يدا بيد.
762. قال الشافعي: وبهذه الأحاديث نأخذ وقال بمثل معناها الأكابر من أصحاب رسول الله وأكثر المفتين بالبلدان.
763. أخبرنا سفيان أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: أخبرني أسامة ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الربا في النسية ".(27/253)
ص -279-…764. قال: فأخذ بهذا ابن عباس ونفر من أصحابه المكيين وغيرهم.
765. قال: فقال لي قائل: هذا الحديث مخالف للأحاديث قبله ؟
766. قلت: قد يحتمل خلافها وموافقتها.
627 قال: وبأي شيء يحتمل موافقتها ؟
768. قلت: قد يكون أسامة سمع رسول الله يُسْئَل عن(27/254)
ص -280-…الصنفين المختلفين مثل الذهب بالورق والتمر بالحنطة أو ما اختلف جنسه متفاضلا يدا بيد -: فقال: " إنما الربا في النسية "أو تكون المَسْئَلَة سبقته بهذا وأدرك الجواب فروى الجواب ولم يحفظ المسئلة أو شك فيها لأنه ليس في حديثه ما ينفي هذا عن حديث أسامة فاحتمل موافقتها لهذا.
769. فقال: فلم قلت يحتمل خلافها:
770. قلت: لأن ابن عباس الذي رواه وكان يذهب فيه غير هذا المذهب، فيقول: لا ربا في بيع يدا بيد إنما الربا في النسية.
771. فقال: فما الحجة إن كانت الأحاديث قبله مخالفة في تركه إلى غيره ؟
772. فقلت له: كل واحد ممن روى خلاف أسامة وإن لم يكن أشهر بالحفظ للحديث من أسامة-: فليس به تقصير عن حفظه وعثمان بن عفان وعبادة بن الصامت أشد تقدما بالسن(27/255)
ص -281-…والصحبة من أسامة وأبو هريرة أسن وأحفظ من روى الحديث في دهره
773. ولما كان حديث اثنين أولى في الظاهر بالحفظ وبأن يُنْفَى عنه الغلط من حديث واحد-: كان حديث الأكثر الذي هو أشبه أن يكون أولى بالحفظ من حديث من هو أحدث منه وكان حديث خمسة أولى أن يصار إليه من حديث واحد.(27/256)
ص -282-…وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف
774. أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن العجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أسفروا بالفجر فإن ذلك أعظم للأجر أو أعظم لأجوركم "(27/257)
ص -283-…775. أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: " كن النساء من المؤمنات يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس "
776. قال: وذكر تغليس النبي بالفجر سهل بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهما من أصحاب رسول الله شبيه بمعنى عائشة.
777. قال الشافعي: قال لي قائل: نحن نرى أن نسفر(27/258)
ص -284-…بالفجر اعتمادا على حديث رافع بن خديج ونزعُمُ أن الفضل في ذلك وأنت ترى أن جائزا لنا إذا اختلف الحديثان أن نأخذ بأحدهما ونحن نعد هذا مخالفا لحديث عائشة.
778. قال: فقلت له: إن كان مخالفا لحديث عائشة فكان الذي يلزمنا وإياك أن نصير إلى حديث عائشة دونه لأن أصل ما نبني نحن وأنتم عليه: أن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن هذا الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا.
779. قال: وما ذلك السبب ؟
780. قلت: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة.
781. قال: هكذا نقول.
782. قلنا: فإن لم يكن فيه نص كتاب الله كان(27/259)
ص -285-…أولاهما بنا الأثبت منهما وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادا وأشهر بالعلم وأحفظ له أو يكون روى الحديث الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر والذي تركنا من وجه فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله أو أولى بما يعرف أهل العلم أو أصح في القياس والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
783. قال: وهكذا نقول ويقول أهل العلم.
784. قلت: فحديث عائشة أشبه بكتاب الله لأن الله يقول: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}.[البقرة: من الآية238] فإذا حل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم الصلاة(27/260)
ص -286-…785. وهو أيضا أشهر رجلا بالثقة وأحفظ ومع حديث عائشة ثلاثة كلهم يروون عن النبي مثل معنى حديث عائشة زيد بن ثابت وسهل بن سعد.
786. وهذا أشبه بسنن النبي من حديث رافع بن خديج.
787. قال: وأي سنن ؟
788. قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله "(27/261)
ص -287-…789. وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئا والعفو لا يحتمل إلا معنيين عفو عن تقصير أو توسع’ والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها. إذ لم يؤمر بترك ذلك الغير الذي وسع في خلافها.
790. قال: وما تريد بهذا ؟(27/262)
ص -288-…791. قلت: إذ لم نؤمر بترك الوقت الأول وكان جائزا أن نصلي فيه وفي غيره قبله-: فالفضل في التقديم والتأخير تقصير موسع.
792. وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قلنا وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " الصلاة في أول وقتها "
793. وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به،
794. وهو الذي لا يجهله عالم: أن تقديم الصلاة في أول وقتها أولى بالفضل لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل(27/263)
ص -289-…795. وهذا أشبه بمعنى كتاب الله
796. قال: وأين هو من الكتاب ؟
797. قلت: قال الله: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } [البقرة: من الآية238] ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول الوقت.
798. وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تطوعوا به يؤمرون بتعجيله إذا أمكن لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل الذي لا تجهله العقول.
799. وإن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم-: مثبت.
800.فقال: فإن أبا بكر وعمر وعثمان دخلوا في الصلاة مغلسين وخرجوا منها مسفرين بإطالة القراءة(27/264)
ص -290-…801. فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوجزوها والوقت في الدخول لا في الخروج من الصلاة وكلهم دخل مغلسا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مغلسا.
802. فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفتهم فقلت: يدخل الداخل فيها مسفرا ويخرج مسفرا ويوجز القراءة فخالفتهم في الدخول وما احتججت به من طول القراءة وفي الأحاديث عن بعضهم أنه خرج منها مغلسا.
803. قال: فقال: أفتعد خبر رافع يخالف خبر عائشة ؟
804. فقلت له: لا.
805. فقال: فبأي وجه يوافقه ؟
806. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حض الناس على تقديم الصلاة وأخبر بالفضل فيها-: احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر فقال: " أسفروا بالفجر " يعني: حتى يتبين الفجر الآخر معترضاً.(27/265)
ص -291-…807 . قال: أفيحتمل معنى غير ذلك ؟
808 . قلت: نعم، يحتمل ما قلتَ وما بين ما قلنا وقلتَ وكل معنى يقع عليه اسم الإسفار
809 . قال: فما جعل معناكم أولى من معنانا ؟
810 . فقلت: بما وصفت من التأويل وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئا ولا يحرمه وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام "يعني: على من أراد الصيام.(27/266)
ص -292-…وجه آخر مما يعد مختلفا
811 . أخبرنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لغايط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد صنعت فننحرف ونستغفر الله "
812 . أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: " إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس فقال عبد الله: لقد ارتقيت على(27/267)
ص -293-…ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته ".
813 . قال الشافعي: أدب رسول الله من كان بين ظهرانيه وهم عرب لا مغتسلات لهم أو لأكثرهم في منازلهم فاحتمل أدبه لهم معنيين:
814 . أحدهما: أنهم إنما كانوا يذهبون لحوائجهم في الصحراء فأمرهم ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها لسعة الصحراء ولخفة المؤنة عليهم لسعة مذاهبهم عن أن تستقبل القبلة أو تستدبر لحاجة الإنسان من غايط أو بول ولم يكرهم مرفق في استقبال القبلة ولا استدبارها أوسع عليهم من توقى ذلك.(27/268)
ص -294-…815 . وكثيرا ما يكون الذاهبون في تلك الحال في غير ستر عن مصلي يرى عوراتهم مقبلين ومدبرين إذا استقبل القبلة فأمروا أن يكرموا قبلة الله ويستروا العورات من مصلي إن صلى حيث يراهم وهذا المعنى أشبه معانيه والله أعلم.
816 . وقد يحتمل أن يكون نهاهم أن يستقبلوا ما جعل قبلة في الصحراء لغائط أو بول لئلا يتغوط أو يبال في القبلة فتكون قذرة بذلك أو من ورائها فيكون من ورائها أذى للمصلين إليها.
817 . قال: فسمع أبو أيوب ما حكي عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة، فقال(27/269)
ص -295-…به على المذهب في الصحراء والمنازل ولم يفرق في المذهب بين المنازل التي للناس مرافق أن يضعوها في بعض الحالات مستقبلة القبلة أو مستدبرتها والتي يكون فيها الذاهب لحاجته مستترا فقال بالحديث جملة كما سمعه جملة .
818 . وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عمومه وجملته حتى يجد دلالة يفرق بها فيه بينه.
819 . قال الشافعي: لما حكى ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلا بيت المقدس لحاجته وهو إحدى القبلتين وإذا استقبله استدبر الكعبة-: أنكر على من يقول لا تستقبل القبلة ولا(27/270)
ص -296-…تستدبرها ورأى أن لا ينبغي لأحد أن ينتهي عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
820 . ولم يسمع - فيما يرى - ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء فيفرق بين الصحراء والمنازل فيقول بالنهي في الصحراء وبالرخصة في المنازل فيكون قد قال بما سمع ورأى وفرق بالدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فرق بينه لافتراق حال الصحراء والمنازل
821 . وفي هذا بيان أن كل من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قبله عنه وقال به وإن لم يعرف حيث يتفرق لم يتفرق بين ما لم يعرف إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرق بينه(27/271)
ص -297-…822 . ولهذا أشباه في الحديث اكتفينا بما ذكرنا منها مما لم نذكر
وجه آخر من الاختلاف
823 . أخبرنا بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: أخبرني الصعب بن جثامة: " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يُسئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم منهم ".وزاد عمرو بن دينار عن الزهري: " هم من آبائهم ".(27/272)
ص -298-…824 . أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن عمه: " أن النبي لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان ".
825 . قال: فكان سفيان يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " هم منهم "إباحة لقتلهم وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له، وقال: كان الزهري إذا حدث حديث الصعب بن جثامة أتبعه حديث ابن كعب.(27/273)
ص -299-…826 . قال الشافعي: وحديث الصعب بن جثامة في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان في عمرته الأولى فقد قيل: أمر ابن أبي الحقيق قبلها وقيل: في سنتها وإن كان في عمرته الآخرة فهو بعد أمر ابن أبي الحقيق غير شك. والله اعلم.
827 . ولم نعلمه - صلى الله عليه - رخص في قتل النساء والولدان ثم نهى عنه.
828 . ومعنى نهيه عندنا - والله أعلم - عن قتل النساء والولدان أن يقصد قصدهم بقتل وهم يعرفون متميزين ممن أمر بقتله منهم.
829 . ومعنى قوله: " هم منهم " أنهم يجمعون خصلتين: أنْ(27/274)
ص -300-…ليس لهم حكم الإيمان الذي يمنع به الدم ولا حكم دار الإيمان الذي يمنع به الإغارة على الدار
830 . وإذا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم البيات والإغارة على الدار فأغار على بني المصطلق غارين-: فالعلم يحيط أن البيات والإغارة إذا حل بإحلال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أحد بيت أو أغار من أن يصيب النساء والولدان فيسقط المأثم فيهم والكفارة والعقل والقود عن من أصابهم إذ أبيح له أن يبيت ويغير وليست لهم حرمة الإسلام.
831 . ولا يكون له قتلهم عامدا لهم متميزين عارفا بهم.
832 . فإنما نهى عن قتل الولدان لأنهم لم يبلغوا كفرا فيعلموا به وعن قتل النساء: لأنه لا معنى فيهن لقتال وأنهن والولدان يتخولون فيكونون قوة لأهل دين الله.(27/275)
ص -301-…833 . فإن قال قائل: أبِنْ هذا بغيره.
834 . قيل: فيه ما اكتفى العالم به من غيره.
835 . فإن قال: أفتجد ما تشُدُّهُ به غيره وتُشَبِّهُه من كتاب الله ؟
836 . قلت: نعم، قال الله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }. [النساء:92]
837 . قال: فأوجب الله بقتل المؤمن خطأ الدية وتحرير رقبة وفي قتل ذي الميثاق الدية وتحرير رقبة إذا كانا معا ممنوعي الدم بالإيمان والعهد والدار معاً، فكان المؤمن في الدار غير(27/276)
ص -302-…الممنوعة وهو ممنوع بالإيمان فجعلت فيه الكفارة بإتلافه ولم يجعل فيه الدية وهو ممنوع الدم بالإيمان فلما كان الولدان والنساء من المشركين لا ممنوعين بإيمان ولا دار-: ولم يكن فيهم عقل ولا قَوَدٌ ولا دية ولا مأثم - إن شاء الله - ولا كفارة.
في غسل الجمعة
838 . فقال: فاذكر وجوها من الأحاديث المختلفة عند بعض الناس أيضا.
839 . فقلت: أخبرنا مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ".
840 . أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه(27/277)
ص -303-…أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ".
841 . قال الشافعي: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" في غسل يوم الجمعة واجب "وأمره بالغسل-: يحتمل معنيين: الظاهر منهما أنه واجب فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل ويحتمل واجب في الاختيار والأخلاق والنظافة.
842 . أخبرنا مالك عن الزهري عن سالم قال: " دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب فقال عمر: أَيَّتُ ساعة هذه ؟! فقال: يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر:(27/278)
ص -304-…الوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟! ".
843 . أخبرنا الثقة عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: مثل معنى حديث مالك وسمى الداخل يوم الجمعة بغير غسل-:" عثمان بن عفان ".
844 . قال: فلما حفظ عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل وعلم أن عثمان قد علم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل ثم ذكر عمر لعثمان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وعلم عثمان ذلك-: فلو ذهب(27/279)
ص -305-…على متوهم أن عثمان نسي فقد ذكره عمر قبل الصلاة بنسيانه فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ولما لم يأمره عمر بالخروج للغسل-: دل ذلك على أنهما قد علما أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل على الاختيار لا على أن لا يجزئ غيره لأن عمر لم يكن ليدع أمره بالغسل ولا عثمان إذ علمنا أنه ذاكر لترك الغسل وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -:بالغسل إلا والغسل- كما وصفنا - على الاختيار.
845 . قال: وروى البصريون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ يوم الجمعة فبها و نعمة ومن اغتسل فالغسل أفضل ".(27/280)
ص -306-…846. أخبرنا سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة قالت:" كان الناس عُمَّالُ أنفسهم وكانوا يروحون بهيآتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم !".(27/281)
ص -307-…النهي عن معنى دل عليه معنى في حديث غيره
847 . أخبرنا مالك عن أبي الزناد ومحمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه "
848 . أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي أنه قال: " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه "
849 . قال الشافعي: فلو لم تأت عن رسول الله دلالة على أن نهيه عن أن يخطب على خطبة أخيه على معنى دون معنى-:(27/282)
ص -308-…كان الظاهر أن حراما أن يخطب المرء على خطبة غيره من حين يبتدئ إلى أن يدعها.
850 . قال: وكان قول النبي: صلى الله عليه وسلم " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه "يحتمل أن يكون جوابا أراد به في معنى الحديث ولم يسمع من حدثه السبب الذي له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فأديا بعضه دون بعض أو شكا في بعضه وسكتا عما شكَّا فيه.
851 . فيكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل خطب امرأة فرضيته وأذنت في نكاحه فخطبها أرجح عندها منه فرجعت عن الأول الذي أذنت في نكاحه فنهى عن خطبة المرأة إذا كانت بهذه(27/283)
ص -309-…الحال وقد يكون أن ترجع عن من أذنت في نكاحه فلا ينكحها من رجعت له فيكون فسادا عليها وعلى خاطبها الذي أذنت في نكاحه.
852 . فإن قال قائل: لم صرت إلى أن تقول: إن نهي النبي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه-: على معنى دون معنى ؟
853 . فبالدلالة عنه.
854 . فإن قال: فأين هي ؟
855 . قيل له إن شاء الله: أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس: " أن زوجها طلقها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في(27/284)
ص -310-…بيت أم مكتوم وقال: إذا حللت فآذنيني قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :فأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصُعْلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد قالت: فكرهته فقال: انكحي أسامة فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغْتَبَطْتُ به ".
856 . قال الشافعي: فبهذا قلنا.
857 . ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته فاطمة على أسامة بعد إعلامها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معاوية وأبا جهم خطباها-: على أمرين:
858 . أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهما لا يخطبانها إلا وخطبة أحدهما بعد خطبة الآخر فلما لم ينهها ولم يقل لها ما كان لواحد(27/285)
ص -311-…أن يخطبك حتى يترك الآخر خطبتك وخطبها على أسامة بن زيد بعد خطبتهما-: فاستدللنا على أنها لم ترضى ولو رضيت واحدا منهما أمرها أن تتزوج من رضيت وأن إخبارها إياه بمن خطبها إنما كان إخبارا عما لم تأذن فيه ولعلها استشارة له ولا يكون أن تستشيره وقد أذنت بأحدهما.
859 . فلما خطبها على أسامة استدللنا على أن الحال التي خطبها فيه غير الحال التي نهى عن خطبتها فيها ولم تكن حال تفرق بين خطبتها حتى يحل بعضها ويحرم بعضها-: إلا إذا أذنت للولي أن يزوجها فكان لزوجها - إن زوجها الولي - أن يلزمها التزويج وكان عليه أن يلزمه وحلت له فأما قبل ذلك فحالها واحدة: ليس لوليها أن يزوجها حتى تأذن فَرُكُونُها وغير ركونها سواء.(27/286)
ص -312-…860 . فإن قال قائل: فإنها راكنة مخالفة لحالها غير راكنة ؟
861 . فكذلك هي لو خطبت فشتمت الخاطب وترغبت عنه ثم عاد عليها بالخطبة فلم تشتمه ولم تظهر ترغبا ولم تَرْكُنْ -: كانت حالها التي تركت فيها شتمه مخالفة لحالها التي شتمته فيها وكانت في هذه الحال أقرب إلى الرضا ثم تنتقل حالاتها لأنها قبل الركون إلى متأوَّلٍ بعضها أقرب إلى الركون من بعض.(27/287)
ص -313-…862 . ولا يصح فيه معنى بحال - والله أعلم - إلا ما وصفت: من أنه نهى عن الخطبة بعد إذنها للولي بالتزويج حتى يصير أمر الولي جائزا فأما ما لم يجز أمر الولي فأول حالها وآخرها سواء والله أعلم.
النهي عن معنى أوضح من معنى قبله
863 . أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار ".(27/288)
ص -314-…864 . أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع الرجل على بيع أخيه ".
865 . قال الشافعي: وهذا معنى يبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " وأن نهيه عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه: إنما هو إذا تبايعا قبل أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
866 . وذلك أنهما لا يكونان متبايعين حتى يعقدا البيع معا فلو كان البيع إذا عقداه لزم كل واحد منهما-: ما ضر البائع أن يبيعه رجل سلعة كسلعته أو غيرها وقد تم بيعه لسلعته ولكنه لما كان لهما الخيار كان الرجل لو اشترى من رجل ثوبا بعشرة دنانير فجاءه آخر فأعطاه مثله بتسعة دنانير-: أشبه أن يفسخ البيع إذا كان له الخيار قبل أن يفارقه ولعله يفسخه ثم لا يتم(27/289)
ص -315-…البيع بينه وبين بيعه الآخر فيكون الآخر قد أفسد على البائع وعلى المشتري أو على أحدهما.
867 . فهذا وجه النهي عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه لا وجه له غير ذلك.
868 . ألا ترى انه لو باعه ثوبا بعشرة دنانير فلزمه البيع قبل أن يتفرقا من مقامهما ذلك ثم باعه آخر خيرا منه بدينار-: لم يضر البائع الأول لأنه قد لزمه عشرة دنانير لا يستطيع فسخها؟!
869 . قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يسوم أحدكم على سوم أخيه " فإن كان ثابتا ولست أحفظه ثابتا -: فهو مثل: " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه "لا يسوم على سومه إذا رضي البيع وأذن بأن يباع قبل البيع حتى لو بيع لزمه.(27/290)
ص -316-…870 . فإن قال قائل: ما دل على ذلك ؟
871 . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد وبيع من يزيد سوم رجل على سوم أخيه ولكن البائع لم يرضى السوم الأول حتى طلب الزيادة.
النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره
872 . أخبرنا مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس "
873 . أخبرنا مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(27/291)
ص -317-…" لا يتحرى أحدكم بصلاته عند طلوع الشمس ولا عند غروبها "
874 . أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشمس تطلع(27/292)
ص -320-…ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها ثم إذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى رسول الله عن الصلاة في تلك الساعات ".
875 . فاحتمل النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذه الساعات معنيين.
876 . أحدهما- وهو أعمهما-: أن تكون الصلوات كلها واجبها الذي نسي ونيم عنه وما لزم بوجه من الوجوه منها-: محرما في هذه الساعات لا يكون لأحد أن يصلي فيها ولو صلى لم يؤدي ذلك عنه ما لزمه من الصلاة كما يكون من قدم صلاة قبل دخول وقتها لم تجزئ عنه.(27/293)
ص -321-…877 . واحتمل أن يكون أراد به بعض الصلاة دون بعض.
878 . فوجدنا الصلاة تتفرق بوجهين: أحدهما: ما وجب منها فلم يكن لمسلم تركه في وقته ولو تركه كان عليه قضاه. والآخر: ما تقرب إلى الله بالتنقل فيه وقد كان للمتنقل تركه بلا قضا له عليه.
879 . ووجدنا الواجب عليه منها يفارق التطوع في السفر إذا كان المرء راكبا فيصلي المكتوبة بالأرض لا يجزئه غيرها والنافلة راكبا متوجها حيث شاء .
880 . ومفرقان في الحضر والسفر ولا يكون لمن أطاق(27/294)
ص -322-…القيام أن يصلي واجبا الصلاة قاعدا ويكون ذلك له في النافلة.
881 . فلما احتمل المعنيين وجب على أهل العلم أن لا يحملوها على خاص دون عام إلا بدلالة: من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع علماء المسلمين الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة له.
882 . قال: وهكذا غير هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت أو بإجماع المسلمين-: أنه على باطن دون ظاهر وخاص دون عام فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه ويطيعونه في الأمرين جميعا.
883 . أخبرنا مالك عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(27/295)
ص -323-…قال: " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "
884 . قال الشافعي: فالعلم يحيط أن المصلي ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس والمصلي ركعة من العصر قبل غروب الشمس-: قد صليا معا في وقتين يجمعان تحريم وقتين وذلك أنهما صليا بعد الصبح والعصر ومع بزوغ الشمس ومغيبها وهذه أربعة أوقات منهي عن الصلاة فيها.
885 . لما جعل رسول الله المصلين في هذه الأوقات مدركين لصلاة الصبح والعصر-: استدللنا على أن نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات على النوافل التي لا تلزم وذلك انه لا يكون(27/296)
ص -324-…أن يجعل المرء مدركا لصلاة في وقت نهي فيه عن الصلاة.
886 . أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي }".[طه: من الآية14]
887 . وحدث أنس بن مالك وعمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثل معنى حديث بن المسيب وزاد أحدهما: " أو نام عنها "
888 . قال الشافعي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فليصلها إذا(27/297)
ص -325-…ذكرها " فجعل ذلك وقتا لها وأخبر به عن الله تبارك وتعالى ولم يستثني وقتا من الأوقات يدعها فيه بعد ذكرها.
889 . أخبرنا بن عيينة عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار ".
890 . أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن(27/298)
ص -326-…عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم :مثل معناه وزاد فيه: " يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف " ثم ساق الحديث.
891 . قال: فأخبر جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإباحة الطواف بالبيت والصلاة له في أي ساعة ما شاء الطائف والمصلي.
892 . وهذا يبين أنه أنما نهى عن المواقيت التي نهى عنها-: عن الصلاة التي لا تلزم بوجه من الوجوه فأما ما لزم فلم ينه عنه بل أباحه صلى الله عليه وسلم .
893 . وصلى المسلمون على جنائزهم عامة بعد العصر والصبح لأنها لازمة.
894 . وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن عمر بن الخطاب(27/299)
ص -327-…طاف بعد الصبح ثم نظر فلم يرى الشمس طلعت فركب حتى أتى ذا طوى وطلعت الشمس فأناخ فصلى-: فنهى عن الصلاة للطواف بعد العصر وبعد الصبح كما نهى عما لا يلزم من الصلاة .
895 . قال: فإذا كان لعمر أن يؤخر الصلاة للطواف فإنما تركها لأن ذلك له ولأنه لو أراد منزلا بذي طوى لحاجة كان واسعا له إن شاء الله ولكن سمع النهي جملة عن الصلاة وضرب المنكدر عليها بالمدينة بعد العصر ولم يسمع ما يدل على أنه(27/300)
ص -328-…إنما نهى عنها للمعنى الذي وصفنا فكان يجب عليه ما فعل
896 . ويجب على من علم المعنى الذي نهى عنه والمعنى الذي أبيحت فيه-: أن إباحتها بالمعنى الذي أباحها فيه خلاف المعنى الذي نهى فيه عنها كما وصفت مما روى علي عن النبي من النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث إذ سمع النهي ولم يسمع سبب النهي.
897 . قال: فإن قال قائل: فقد صنع أبو سعيد الخدري كما صنع عمر ؟
898 . قلنا: والجواب فيه كالجواب في غيره .(27/301)
ص -329-…899 . قال: فإن قال قائل: فهل من أحد صنع خلاف ما صنعا ؟
900 . قيل: نعم، ابن عمر وابن عباس وعائشة والحسن والحسين وغيرهم وقد سمع ابن عمر النهي من النبي صلى الله عليه وسلم .
901 . أخبرنا بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: رأيت أنا وعطاء بن أبي رباح بن عمر طاف بعد الصبح وصلى قبل أن تطلع الشمس
902 . سفيان عن عمار الدهني عن أبي شعبة: أن الحسن والحسين طافا بعد العصر وصليا.(27/302)
ص -330-…903 . أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: رأيت بن عباس طاف بعد العصر وصلى
904 . قال: وإنما ذكرنا تفرق أصحاب رسول الله في هذا ليستدل من علمه على أن تفرقهم فيما لرسول الله فيه سنة لا يكون إلا على هذا المعنى أو على أن لا تبلغ السنة من قال خلافها منهم أو تأويل تحتمله السنة أو ما أشبه ذلك مما قد يرى قائله له فيه عذر إن شاء الله .
905 . وإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء فهو لازم لجميع من عرفه لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه ولم يجعل لأحد معه أمرا يخالف أمره.(27/303)
ص -331-… باب آخر
906 . أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا ".
907 . أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود(27/304)
ص -332-…ابن سفيان أن زيدا أبا عياش أخيره عن سعد بن أبي وقاص: " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك ".(27/305)
ص -333-…908 . أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت: " أن رسول الله رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها ".
909. أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت: " أن النبي رخص في العرايا ".(27/306)
ص -334-…910 . قال الشافعي: فكان بيع الرطب بالتمر منهيا عنه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عنه لأنه ينقص إذا يبس وقد نهى عن التمر بالتمر إلا مثلا بمثل فلما نظر في المتعقب من نقصان الرطب إذا يبس-: كان لا يكون أبدا مثلا بمثل إذ كان النقصان مغيبا لا يعرف فكان يجمع معنيين: أحدهما التفاضل في المكيلة والآخر المزابنة وهي بيع ما يعرف كيله بما يجهل كيله من جنسه فكان منهيا لمعنين.
911 . فلما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا بالتمر كيلا لم تعدوا العرايا أن تكون رخصة من شيء نهى عنه: أو لم يكن النهي عنه عن المزابنة والرطب بالتمر-: إلا مقصودا بهما إلى غير(27/307)
ص -335-…العرايا فيكون هذا من الكلام العام الذي يراد به الخاص
وجه يشبه المعنى الذي قبله
912 . وأخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن موهب أنه أخبره عن عبد الله بن محمد بن صيفي عن حكيم بن حزام أنه قال:" قال لي(27/308)
ص -336-…رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أنبأ أو ألم يبلغني أو كما شاء الله من ذلك-: أنك تبيع الطعام ؟ قال حكيم: بلى، يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعن طعاما حتى تشتريه وتستوفيه ".
913 . أخبرنا سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء ذلك أيضا عن عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام أنه: سمعه منه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
914 . أخبرنا الثقة عن أيوب بن أبي تميمة عن يوسف(27/309)
ص -337-…بن ماهك عن حكيم بن حزام قال: " نهاني رسول الله عن بيع ما ليس عندي "
915 . يعني بيع ما ليس عندك وليس بمضمون عليك.
916 . أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال: " قدم رسول الله(27/310)
ص -338-…صلى الله عليه وسلم المدينة وهو يسلفون في التمر السنة والسنتين فقال رسول الله من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم ".
917 . قال الشافعي: حفظي " وأجل معلوم ".
918 . وقال غيري: قد قال ما قلت، وقال:" أو إلى أجل معلوم ".(27/311)
ص -339-…919 . قال: فكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم: " أن يبيع المرء ما ليس عنده " يحتمل أن يبيع ما ليس بحضرته يراه المشتري كما يراه البائع عند تبايعهما فيه ويحتمل أن يبيعه ما ليس عنده ما ليس يملك بعينه(27/312)
ص -340-…فلا يكون موصوفا مضمونا على البائع يؤخذ به ولا في ملكه فيلزم أن يسلمه إليه بعينه وغير هذين المعنيين.
920 . فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلف أن يسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم أو إلى أجل معلوم-: دخل هذا بيع ما ليس عند المرء حاضرا ولا مملوكا حين باعه.
921 . ولما كان هذا مضمونا على البائع بصفة يؤخذ بها عند محل الأجل-: دل على أنه إنما نهى عن بيع عين الشيء ليس في ملك البائع والله أعلم.
922 . وقد يحتمل أن يكون النهي عن بيع العين الغائبة(27/313)
ص -341-…كانت في ملك الرجل أو في غير ملكه لأنها قد تهلك وتنقص قبل أن يراها المشتري.
923 . قال: فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله" بأبي هو وأمي "يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض كما وصفت من هذا وما كان في مثل معناه.
924 . ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما ما وجدوا لإمضائهما وجها ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معا أو وجد السبيل إلى إمضائهما ولم يكن منهما واحد بأوجب من الآخر.(27/314)
ص -342-…925. ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجها يمضيان معا إنما المختلف ما لم يمضي إلا بسقوط غيره مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد هذا يحله وهذا يحرمه.(27/315)
ص -343-…صفة نهي الله ونهي رسوله
926 . فقال: فَصِفْ لي جماع نهي الله جل ثناؤه ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عاما لا تُبْقِ منه شيئا ؟
927. فقلت له: يجمع نهيه معنيين :
928. أحدهما: أن يكون الشيء الذي نهى عنه محرما لا يحل إلا بوجه دل الله عليه في كتابه أو على لسان نبيه.
929. فإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء من هذا فالنهي محرم لا وجه له غير التحريم إلا أن يكون على معنى كما وصفت.
930. قال: فَصِفْ لي هذا الوجه الذي بدأت بذكره من(27/316)
ص -344-…النهي بمثال يدل على ما كان في مثل معناه ؟
931 . قال: فقلت له: كل النساء محرمات الفروج إلا بواحد من المعنيين النكاح والوطئ بملك اليمين وهما المعنيان اللذان أذن الله فيهما. وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف النكاح الذي يحل به الفرج المحرم قبله فسن فيه وليا وشهودا ورضا من المنكوحة الثيب وسنته في رضاها دليل على أن ذلك يكون برضا المتزوج لا فرق بينهما.
932. فإذا جمع النكاح أربعا: رضا المزوجة الثيب والمزوج وأن يزوج المرأة وليها بشهود-: حل النكاح إلا في حالات سأذكرها، إن شاء الله.
933. وإذا نقص النكاح واحد من هذا كان(27/317)
ص -345-…النكاح فاسدا لأنه لم يؤت به كما سن رسول الله فيه الوجه الذي يحل به النكاح.
934. ولو سمي صداقا كان أحب إلي ولا يفسد النكاح بترك تسمية الصداق لأن الله أثبت النكاح في كتابه بغير مهر وهذا مكتوب في غير هذا الموضع.
935. قال: وسواء في هذه المرأة الشريفة والدنية لأن كل واحد منهما فيما يحل به ويحرم ويجب لها وعليها من الحلال والحرام والحدود-: سواء
936. والحالات التي لو أتي بالنكاح فيها على ما وصفت(27/318)
ص -346-…أنه يجوز النكاح-: فيما لم ينه فيها عنها من النكاح. فأما إذا عقد بهذه الأشياء كان النكاح مفسوخا بنهي الله في كتابه وعلى لسان نبيه عن النكاح بحالات نهى عنها فذلك مفسوخ.
937. وذلك: أن ينكح الرجل أخت امرأته وقد نهى الله عن الجمع بينهما وأن ينكح الخامسة وقد انتهى الله به إلى أربع فبين(27/319)
ص -347-…النبي صلى الله عليه وسلم أن انتهاء الله به إلى أربع حظر عليه أن يجمع بين أكثر منهن أو ينكح المرأة على عمتها أو خالتها وقد نهى النبي عن ذلك وان ينكح المرأة في عدتها.
938. فكل نكاح كان من هذا لم يصح وذلك أنه قد نهي عن عقده وهذا ما خلاف فيه بين أحد من أهل العلم.
939. ومثله - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار وأن النبي نهى عن نكاح المتعة وأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح.
940. فنحن نفسخ هذا كله من النكاح في هذه الحالات التي نهى عنها بمثل ما فسخنا به ما نهى عنه مما ذكر قبله.(27/320)
ص -348-…941. وقد يخالفنا في هذا غيرنا وهو مكتوب في غير هذا الموضع.
942. ومثله أن ينكح المرأة بغير إذنها فتجيز بعد فلا يجوز لأن العقد وقع منهيا عنه.
943. ومثل هذا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر وبيع الرطب بالتمر إلا في العرايا أو غير ذلك مما نهى عنه.
944. وذلك أن أصل مال كل امرئ محرم على غيره إلا بما أحل به وما أحل به من البيوع ما لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيوع محلا ما كان أصله محرما(27/321)
ص -349-…من مال الرجل لأخيه ولا تكون المعصية بالبيع المنهي عنه تحل محرما ولا تحل إلا بما لا يكون معصية وهذا يدخل في عامة العلم.
945. فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نهي المرء فيه عن شيء وهو يخالف النهي الذي ذكرت قبله ؟
946. فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصماء وأن يحتبي في ثوب واحد مفضيا بفرجه(27/322)
ص -350-…إلى السماء وأنه أمر غلاما أن يأكل مما بين يديه ونهاه أن يأكل من أعلى الصحفة ويروى عنه وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا-: أنه نهى عن أن يقرن الرجل إذا أكل بين التمرتين وأن يكشف التمرة عما في جوفها وأن يعرس على ظهر الطريق.(27/323)
ص -351-…947. فلما كان الثوب مباحا للابس والطعام مباحا لآكله حتى يأتي عليه كله إن شاء والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي وكان الناس فيها شرعا-: فهو نهي فيها عن شيء أن يفعله وأمر فيها بأن يفعل شيئا غير الذي نهي عنه.
948. والنهي يدل على أنه إنما نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء مفضيا بفرجه غير مستتر-: أن في ذلك كشف عورته قيل له يسترها بثوبه فلم يكن نهيه عن كشف عورته نهيه عن لبس ثوبه فيحرم عليه لبسه بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.(27/324)
ص -352-…949. ولم يكن أمره أن يأكل من بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام إذا كان مباحا له أن يأكل ما بين يديه وجميع الطعام-: إلا أدبا في الأكل من بين يديه لأنه أجمل به عند مواكله وأبعد له من قبح الطِّعْمَةِ والنهم. وأمره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له-: على النظر له في أن يبارك له بركة دائمة يدوم نزولها له وهو يبيح له إذا أكل ما حول رأس الطعام أن يأكل رأسه.
950. وإذا أباح له الممر على ظهر الطريق فالممر عليه ذا كان مباحا(27/325)
ص -353-… لأنه لا مالك له يمنع الممر عليه فيحرم بمنعه-: فإنما نهاه لمعنى يثبت نظرا له فإنه قال:" فإنها مأوى الهوام وطرق الحيات "-:على النظر له لا على أن التعريس محرم وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق متضايقا مسلوكا لأنه إذا عرس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.
951. فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأول؟.
952. قيل له: من قامت عليه الحجة يعلم أن النبي نهى عما وصفنا ومن فعل ما نهي عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاص بفعله ما نهي عنه وليستغفر الله ولا يعود.
953. فإن قال: فهذا عاص والذي ذكرت في الكتاب(27/326)
ص -354-…قبله في النكاح والبيوع عاص فكيف فرقت بين حالهما ؟
954. فقلت: أما في المعصية فلم أفرق بينهما لأني قد جعلتهما عاصيين وبعض المعاصي أعظم من بعض.
955. فإن قال: فكيف لم تحرم على هذا لبسه وأكله وممره على الأرض بمعصيته وحرمت على الآخر نكاحه وبيعه بمعصيته ؟
956. قيل: هذا أمر بأمر في مباح حلال له فأحللت له ما حل له وحرمت عليه ما حرم عليه وما حرم عليه غير ما أحل له ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال ولكن تحرم عليه أن يفعل فيه المعصية .
957. فإن قيل: فما مثل هذا ؟
958. قيل له: الرجل له الزوجة والجارية وقد نهي أن يطأهما حائضتين وصائمتين ولو فعل لم يحل ذلك الوطء له(27/327)
ص -355-…في حاله تلك ولم تحرم واحدة منهما عليه في حال غير تلك الحال إذا كان أصلهما مباحا حلالاً
959. وأصل مال الرجل محرم على غيره إلا بما أبيح به مما يحل وفروج النساء محرمات إلا بما أبيحت به من النكاح والملك فإذا عقد عقدة النكاح أو البيع منهيا عنها على محرم لا يحل إلا بما أحل به-: لم يحل المحرم بمحرم وكان على أصل تحريمه حتى يؤتى بالوجه الذي أحله الله به في كتابه أو على لسان رسوله أو إجماع المسلمين أو ما هو في مثل معناه.
960. قال: وقد مثلت قبل هذا النهي الذي أريد به غير التحريم بالدلائل فاكتفيت من ترديده وأسأل الله العصمة والتوفيق.(27/328)
ص -357-…باب العلم
961. قال الشافعي: فقال لي قائل: ما العلم ؟ وما يجب على الناس ؟ في العلم فقلت له: العلم علمان علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله.
962. قال: ومثل ماذا ؟
963. قلت: مثل الصلوات الخمس وأن لله على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى(27/329)
ص -358-…هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه: ما حرم عليه منه.
964. وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله وموجودا عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.(27/330)
ص -359-…965. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع.
966. قال: فما الوجه الثاني ؟
967. قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثر نص سنة وإن كانت في شيء سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا.
968. قال: فيعدو هذا أن يكون واجبا وجوب العلم قبله ؟ أو موضوعا عن الناس علمه حتى يكون من علمه منتفلاً(27/331)
ص -360-… ومن ترك علمه غير آثم بتركه أو من وجه ثالث فتوجدناه خبرا أو قياسا ؟
969. فقلت له: بل هو من وجه ثالث.
970. قال: فصفه واذكر الحجة فيه ما يلزم منه ومن يلزم وعن من يسقط ؟
971. فقلت له: هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ولم يكلفها كل الخاصة ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحرج غيره ممن تركها إن شاء الله والفضل فيها لمن قام بها على من عطلها.
972. فقال: فأوجدني هذا خبرا أو شيئا في معناه ليكون هذا قياسا عليه ؟(27/332)
ص -361-…973. فقلت له: فرض الله الجهاد في كتابه وعلى لسان نبيه ثم أكد النفير من الجهاد فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.[التوبة:111]
974. وقال: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }.[التوبة: من الآية36]
975. وقال: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }. [التوبة:5]
976. وقال: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ(27/333)
ص -362-…مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }. [التوبة:29]
977. أخبرنا عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".
978. وقال الله جل ثناؤه: { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ.إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. [التوبة :38 :39]
979. وقال: { انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ(27/334)
ص -363-…وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. [التوبة:41]
980. قال: فاحتملت الآيات أن يكون الجهاد كله والنفير خاصة منه-: على كل مطيق له لا يسع أحدا منهم التخلف عنه كما كانت الصلوات والحج والزكاة فلم يخرج أحد وجب عليه فرض منها من أن يؤدي غيره الفرض عن نفسه لأن عمل أحد في هذا لا يكتب لغيره .
981. واحتملت أن يكون معنى فرضها غير معنى فرض الصلوات وذلك أن يكون قصد بالفرض فيها قصد الكفاية فيكون من قام بالكفاية في جهاد من جوهد من المشركين مدركا تأدية الفرض ونافلة الفضل ومخرجا من تخلف من المأثم.
982. ولم يسوي الله بينهما فقال الله: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ(27/335)
ص -364-…بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }. [النساء:95] فأما الظاهر في الآيات فالفرض على العامة.
982. قال: فأبن الدلالة في أنه إذا قام بعض العامة بالكفاية أخرج المتخلفين من المأثم ؟
984. فقلت له: في هذه الآية .
985. قال: وأين هو منها ؟(27/336)
ص -365-…986. قلت: قال الله: { وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فوعد المتخلفين عن الجهاد الحسنى على الإيمان وأبان فضيلة المجاهدين على القاعدين ولو كانوا آثمين بالتخلف إذا غزا غيرهم: كانت العقوبة بالإثم - إن لم يعفو الله - أولى بهم من الحسنى.
987. قال: فهل تجد في هذا غير هذا
988. قلت: نعم، قال الله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }. [التوبة:122] وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا معه من أصحابه جماعة وخلف أخرى حتى تخلف(27/337)
ص -366-…علي بن أبي طالب في غزوة تبوك وأخبرنا الله أن المسلمين لم يكونوا لينفروا كافة { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } فأخبر أن النفير على بعضهم دون بعض وأن التفقه إنما هو على بعضهم دون بعض.
989. وكذلك ما عدا الفرض في عظم الفرائض التي لا يسع جهلها والله أعلم.
990. وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصودا به قصد الكفايه فيما ينوب فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلف عنه من المأثم.
991. ولو ضيعوه معا خفت أن لا يخرج واحد منهم مطيق فيه من المأثم بل لا أشك إن شاء الله لقوله: { إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.[التوبة: من الآية39](27/338)
ص -367-…992. قال: فما معناها
993. قلت: الدلالة عليها أن تخلفهم عن النفير كافة لا يسعهم ونفير بعضهم إذا كانت في نفير كفاية-: يخرج من تخلف من المأثم إن شاء الله لأنه إذا نفر بعضهم وقع عليهم اسم النفير.
994. قلت: ومثل ماذا سوى الجهاد ؟
995. قلت: الصلاة على الجنازة ودفنها لا يحل تركها ولا يجب على كل من بحضرتها كلهم حضورها ويخرج من تخلف من المأثم من قام بكفايتها.(27/339)
ص -368-…996. وهكذا رد السلام قال الله: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }.[النساء:86] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يسلم القائم على القاعد "و: "إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم " وإنما أريد بهذا الرد فرد قليل جامع لاسم الرد والكفاية فيه مانع لأن يكون الرد معطلا.
780997. ولم يزل المسلمون على ما وصفت منذ بعث الله نبيه - فيما بلغنا - إلى اليوم: يتفقه أقلهم ويشهد الجنائز بعضهم ويجاهد ويرد السلام بعضهم ويتخلف عن ذلك غيرهم فيعرفون(27/340)
ص -369-…الفضل لمن قام بالفقه والجهاد وحضور الجنائز ورد السلام ولا يأثمون من قصر عن ذلك إذا كان بهذا قائمون بكفايته.
باب خبر الواحد
998. فقال لي قائل: احدد لي أقل ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة.
999. فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى يُنْتَهَى به إلى(27/341)
ص -370-…النبي أو من انتهى به إليه دونه
1000. ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا
1001. منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفا بالصدق في حديثه عاقلا لما يحدث به علما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير(27/342)
ص -371-…عالم بما يحيل معناه -: لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام. وإذا أداه بحروفه فلم يبقى وجه يخاف فيه إحالته الحديث حافظا إذا حدث به من حفظه حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم بريا من أن يكون مدلسا: يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه ويحدث عن النبي ما لم يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
1002. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي أو إلى من انتهى به إليه دونه لأن كل(27/343)
ص -372-… واحد منهم مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت.
1003. فقال: فأوضح لي من هذا بشيء لعلي أكون به أعرف مني بهذا لخبرتي به وقلة خبرتي بما وصفت في الحديث ؟
1004. فقلت له: أتريد أن أخبرك بشيء يكون هذا قياسا عليه ؟
1005. قلت: نعم !
1006. قلت: هذا أصل في نفسه فلا يكون قياسا على غيره لأن القياس أضعف من الأصل.
1007. قال: فلست أريد أن تجعله قياسا ولكن مثله لي على شيء من الشهادات التي العلم بها عام ؟
1008. قلت: قد يخالف الشهادات في أشياء ويجامعها في غيرها.(27/344)
ص -373-…1009. قال: وأين يخالفها ؟
1010. قلت: أقبل في الحديث الواحد والمرأة ولا أقبل واحدا منهما وحده في الشهادة .
1011. وأقبل في الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا ولا أقبل في الشهادة إلا سمعت أو رأيت أو أشهدني.
1012. وتختلف الأحاديث فآخذ ببعضها استدلالاً بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس وهذا لا يؤخذ به في الشهادات هكذا ولا يوجد فيها بحال .
1013. ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته ولا أقبل حديثه من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض ألفاظ المعاني.
1014. ثم هو يجامع الشهادات في أشياء غير ما وصفت .(27/345)
ص -374-…1015. فقال: أما ما قلت من ألا تقبل الحديث إلا عن ثقة حافظ عالم بما يحيل معنى الحديث-: فكما قلت: فلم لم تقل هكذا في الشهادات ؟
1016. فقلت: إن إحالة معنى الحديث أخفى من إحالة معنى الشهادة وبهذا احتطت في الحديث بأكثر مما احتطت به في الشهادة.
1017. قال وهكذا كما وصفت ولكني أنكرت- إذا كان من يحدث عنه ثقة فحدث عن رجل لم تعرف أنت ثقته-:(27/346)
ص -375-…امتناعك من أن تقلد الثقة فتحسن الظن به فلا تركه يروي إلا عن ثقة وإن لم تعرفه أنت ؟!
1018. فقلت له: أرأيت أربعة نفر عدول فقهاء شهدوا على شهادة شاهدين بحق رجل على رجل: أكنت قاضيا به ولم يقل لك الأربعة إن الشاهدين عدلان ؟
1019. قال: لا، ولا أقطع بشهادتهما شيئا حتى أعرف عدلهما إما تبديل الأربعة لهما وإما بتعديل غيرهم أو معرفة مني بعدلهما .
1020. فقلت له: ولم لم تقبلهما على المعنى الذي أمرتني أن اقبل عليه الحديث فتقول: لم يكونوا ليشهدوا إلا على من هو أعدل منهم ؟
1021. فقال: قد يشهدون على من هو عدل عندهم ومن(27/347)
ص -376-…عرفوه و لم يعرفوا عدله فلما كان هذا موجودا في شهادتهم لم يكن لي قبول شهادة من شهدوا عليه حتى يعدلوه أو أعرف عدله و عدل من شهد عندي على عدل غيره ولا أقبل تعديل شاهد على شاهد عدَّلَ الشاهد غيره ولم اعرف عَدْلَه.
1022. فقلت: فالحجة في هذا لك الحجة عليك: في ألا تقبل خبر الصادق عن من جهلنا صدقه.
1023. والناس من أن يشهدوا على شهادة من عرفوا عدله-: أشد تحََفُّظاً منهم من أن يقبلوا إلا حديث من عرفوا صحة حديثه.
1024. وذلك: أن الرجل يلقى الرجل يُرَى عليه سيما الخير فيحسن الظن به فيقبل حديثه ويقبله وهو لا يعرف(27/348)
ص -377-…حاله فيذكر أن رجلا يقال له فلان حدثني، كذا إما على وجه يرجو أن يجد علم ذلك الحديث عند ثقة فيقبله عن الثقة وإما أن يحدث به على إنكاره والتعجب منه وإما بغفلة في الحديث عنه.
1025. ولا أعلمني لقيت أحدا قط بريا من أن يحدث عن ثقة حافظ وآخر يخالفه.
1026. ففعلت في هذا ما يجب علي.
1027. ولم يكن طلبي الدلائل على معرفة صدق من حدثني بأوجب علي من طلبي ذلك على معرفة صدق من فوقه لأني أحتاج في كلهم إلى ما أحتاج إليه فيمن لقيت منهم لأن كلهم مثبت خبرا عن من فوقه ولمن دونه.(27/349)
ص -378-…1028. فقال: فما بالك قبلت ممن لم تعرفه بالتدليس أن يقول عن وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه ؟
1029. فقلت له: المسلمون العدول عدولٌ أصحاء الأمر في أنفسهم وحالهم في أنفسهم غير حالهم في غيرهم ألا ترى أني إذا عرفتهم بالعدل في أنفسهم قبلت شهادتهم وإذا شهدوا على شهادة غيرهم لم أقبل شهادة غيرهم حتى أعرف حاله ؟!ولم تكن معرفتي عدلهم معرفتي عدل من شهدوا على شهادته.
1030. وقولهم عن خبر أنفسهم وتسميتهم-: على الصحة حتى نستدل من فعلهم بما يخالف ذلك فنحترس منهم في الموضع الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم.
1031. ولم نعرف بالتدليس ببلدنا فيمن مضى ولا من(27/350)
ص -379-…أدركنا من أصحابنا-: إلا حديثا فإن منهم من قبله عن من لو تركه عليه كان خيرا له.
1032. وكان قول الرجل: سمعت فلانا يقول سمعت فلانا وقوله حدثني فلان عن فلان-: سواء عندهم لا يحدث واحد منهم عن من لقي إلا ما سمع منه ممن عناه بهذه الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان.
1033. ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته.
1034. وليس تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق.(27/351)
ص -380-…1035. فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت.
1036. فقال: قد أراك تقبل شهادة من لا يقبل حديثه ؟
1037. قال: فقلت: لكبر أمر الحديث وموقعه من المسلمين ولمعنى بين.
1038. قال: وما هو ؟
1039. قلت: تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل معناه أو ينطق بها بغير لفظة المحدث والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث-: فيحيل معناه.
1040. فإذا كان الذي يحمل الحديث ويجهل هذا المعنى كان غير عاقل للحديث فلم نقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل، إن(27/352)
ص -381-…كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه وكان يلتمس تأديته على معانيه وهو لا يعقل المعنى.
1041. قال: أفيكون عدلا غير مقبول الحديث ؟
1042. قلت: نعم، إذا كان كما وصفت كان هذا موضع ظنة بينة يرد بها حديثه وقد يكون الرجل عدلا على غيره ظنينا في نفسه وبعض أقربيه ولعله أن يخر من بعد أهون عليه من أن يشهد بباطل ولكن الظنة لما دخلت عليه تركت بها شهادته فالظنة ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه-: أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته فيما هو ظنين فيه بحال.
1043. وقد يعتبر على الشهود فيما شهدوا فيه فإن استدللنا على ميل نستبينه أو حياطة بمجاوزة قصد للمشهود له-:(27/353)
ص -382-…لم نقبل شهادتهم وإن شهدوا في شيء مما يدق ويذهب فهمه عليهم في مثل ما شهدوا عليه-: لم نقبل شهادتهم لأنهم لا يعقلون معنى ما شهدوا عليه.
1044. ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح-: لم نقبل حديثه كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته.
1045. وأهل الحديث متباينون:
1046. فمنهم المعروف بعلم الحديث بطلبه وسماعه من الأب والعم وذوي الرحم والصديق وطول مجالسة أهل التنازع فيه ومن كان هكذا كان مقدما بالحفظ إن خالفه من يُقَصِّرُ(27/354)
ص -383-…عنه كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه.
1047. ويعتبر على أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ وعلى خلاف حفظه بخلاف حفظ أهل الحفظ له.
1048. وإذا اختلفت الرواية استدللنا على المحفوظ منها والغلط بهذا ووجوه سواه تدل على الصدق والحفظ والغلط قد بيناها في غير هذا الموضع، وأسأل الله التوفيق.
1049. فقال: فما الحجة لك في قبول خبر الواحد وأنت لا تجيز شهادة واحد وحده ؟ وما حجتك في أنْ قِسْتَه بالشهادة في أكثر أمره وفرَّقْتَ بينه وبين الشهادة في بعض أمره ؟(27/355)
ص -384-…1050. قال: فقلت له: أنت تُعِيدُ ما قد ظننتك فرغت منه!! ولم أقسه بالشهادة إنما سألت أن أمثله لك بشيء تعرفه أنت به أخبر منك بالحديث فمثلته لك بذلك الشيءلا أني احتجت لأن يكون قياسا عليه.
1051. وتثبيت خبر الواحد أقوى من أن أحتاج إلى أن أمثله بغيره بل هو أصل في نفسه.
1052. قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارق بعض معانيها في غيره ؟
1053. فقلت له: هو مخالف للشهادة - كما وصفت لك - في بعض أمره ولو جعلته كالشهادة في بعض أمره دون بعض كانت الحجة لي فيه بينة إن شاء الله.(27/356)
ص -385-…1054. قال: وكيف ذلك وسبيل الشهادات سبيل واحدة ؟
1055. قال: فقلت: أتعني في بعض أمرها دون بعض ؟ أم في كل أمرها ؟
1056. قال: بل في كل أمرها.
1057. قلت: فكم أقل ما تقبل على الزنا ؟
1058. قال: أربعةً.
1059. قلت: فإن نقصوا واحدا جلدتهم ؟
1060. قال: نعم.
1061. قلت: فكم تقبل على القتل والكفر وقطع الطريق الذي تقتل به كله ؟
1062. قال: شاهدين.
1063. قلت له: كم تقبل على المال ؟(27/357)
ص -386-…1064. قال: شاهدا وامرأتين.
1065. قلت: فكم تقبل في عيوب النساء ؟
1066. قال: امرأة.
1067. قلت: ولو لم يتموا شاهدين وشاهدا وامرأتين لم تجلدهم كما جلدت شهود الزنا ؟
1068. قال: نعم.
1069. قلت: أفتراها مجتمعةً ؟
1070. قال: نعم، في أن أقبلها متفرقة في عددها وفي أن لا يجلد إلا شاهد الزنا.
1071. قلت له: فلو قلت لك هذا في خبر الواحد وهو مجامع للشهادة في أن أقبله ومفارق لها في عدده-: هل كانت لك حجة إلا كهي عليك ؟!(27/358)
ص -387-…1072. قال: فإنما قلت بالخلاف بين عدد الشهادات خبراً واستدلالاً
1073. قلت: وكذلك قلت في قبول خبر الواحد خبراً واستدلالاً
1074. وقلت أرأيت شهادة النساء في الولادة لم أجزتها ولا تجيزها في درهم ؟!
1075. قال: اتباعا.
1076. قلت: فإن قيل لك لم يذكر في القرآن أقل من شاهد وامرأتين ؟(27/359)
ص -390-…قال أبو القاسم عبد الرحمن بن نصر: قال: نا أبو علي الحسن بن حبيب قال: نا الربيع بن سليمان قال: أنا الشافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
1077. قال: ولم يُحظَرْ أن يجوز أقل من ذلك فأجزنا ما أجاز المسلمون ولم يكن هذا خلافا للقرآن.
1078. قلنا: فهكذا قلنا في تثبيت خبر الواحد استدلالاً بأشياء كلها أقوى من إجازة شهادة النساء.
1079. فقال: فهل من حجة تفرق بين الخبر والشهادة سوى الاتباع ؟
1080. قلت: نعم ما لا أعلم من أهل العلم فيه مخالفا.(27/360)
ص -391-…1081. قال: وما هو ؟
1082. قلت: العدل يكون جائز الشهادة في أمور مردودها في أمورٍ.
1083. قال: فأين هو مردودها ؟
1084. قلت: إذا شهد في موضع يجر به إلى نفسه زيادة من أي وجه ما كان الجر أو يدفع بها عن نفسه غرما أو إلى ولده أو والده أو يدفع بها عنهما ومواضع الظِّنَنِ سواها.
1085. وفيه في الشهادة أن الشاهد إنما يشهد بها على واحد ليلزمه غرما أو عقوبة وللرجل ليؤخذ له غُرْمٌ أو عقوبة(27/361)
ص -392-…وهو خلي مما لزم غيره من غرم غير داخل في غرمه ولا عقوبته ولا العار الذي لزمه ولعله يجر ذلك إلى من لعله أن يكون أشد تحاملا له منه لولده أو والده فيقبل شهادته لأنه لا ظنة ظاهرة كظنته في نفسه وولده ووالده وغير ذلك مما يبين فيه من مواضع الظنن.
1086. والمحدث بما يحل ويحرم لا يجر إلى نفسه ولا إلى غيره ولا يدفع عنها ولا عن غيره شيئا مما يتمول الناس ولا مما فيه عقوبة عليهم ولا لهم وهو ومن حدثه ذلك الحديث من المسلمين-: سواء إن كان بأمر يحل أو يحرم فهو شريك العامة فيه لا تختلف حالاته فيه فيكون ظنينا مرة مردود الخبر وغير ظنين أخرى مقبول الخبر كما تختلف حال الشاهد لعوام المسلمين وخواصِّهِم.(27/362)
ص -393-…1087. وللناس حالات تكون أخبارهم فيها أصح وأحرى أن يحضرها التقوى منها في أخرى ونيات ذوي النيات فيها أصح وفكرهم فيها أدوم وغفلتهم أقل وتلك عند خوف الموت بالمرض والسفر وعند ذكره وغير تلك الحالات من الحالات المنبهة عن الغفلة.
1088. فقلت له: قد يكون غير ذي الصدق من المسلمين صادقا في هذه الحالات وفي أن يؤتمن على خبر فيرى أنه يعتمد على خبره فيه فيصدق غاية الصدق وإن لم يكن تقوى فحياء من أن ينصب لأمانة في خبر لا يدفع به عن نفسه ولا يجر إليها-: ثم يكذب بعده أو يدع التحفظ في بعض الصدق فيه.(27/363)
ص -394-…1089. فإذا كان موجودا في العامة وفي أهل الكذب الحالات يصدقون فيها الصدق الذي تطيب به نفس المحدثين -: كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولى الأمور بهم أن يتحفظوا عندها في أنهم وضعوا موضع الأمانة ونصبوا أعلاما للدين وكانوا عالمين بما ألزمهم الله من الصدق في كل أمر وأن الحديث في الحلال والحرام أعلى الأمور وأبعدها من أن يكون فيه موضع ظنة وقد قدم إليهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يقدم إليهم في غيره فوعد على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم النار.
1090. عبد العزيز عن محمد بن عجلان عن عبد الوهاب بن(27/364)
ص -395-…بخت عن عبد الواحد النصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أفرى الفرى من قولني ما لم أقل ومن أرى عينيه ما لم ترى ومن ادعى إلى غير أبيه "(27/365)
ص -396-…1091. عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ".
1092. يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن أبي بكر بن سالم عن سالم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الذي يكذب علي يُبْنَى له بيتُ في النار ".(27/366)
ص -397-…1093. حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عبد العزيز بن محمد عن أسيد بن أبي أسيد عن أمه قالت: قلت لأبي قتادة: ما لك لا تحدث عن رسول الله كما يحدث الناس عنه ؟ قالت: فقال أبو قتادة: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كذب علي فليلتمس لجنبه مضجعا من النار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويمسح الأرض بيده ".
1094. سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،(27/367)
ص -398-…وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ".
1095. وهذا أشد حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا وعليه اعتمدنا مع غيره في أن لا نقبل حديثا إلا من ثقة ونعرف صدق من حمل الحديث من حين ابتدئ إلى أن يبلغ به منتهاه.
1096. فإن قال قائل: وما في هذا الحديث من الدلالة على ما وصفت ؟
1097. قيل: قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحدا بحال أبدا أن يكذب على بني إسرائيل ولا على غيرهم فإذا أباح الحديث(27/368)
ص -399-…عن بني إسرائيل فليس أن يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح وإنما أباح قبول ذلك عن من حدث به ممن يجهل صدقه وكذبه.
1098. ولم يبحه أيضا عن من يعرف كذبه لأنه يروي عنه أنه: " من حدث بحديث وهو يراه كذبا فهو أحد الكاذبين " ومن حدث عن كذاب لم يبرأ من الكذب لأنه يرى الكذاب في حديثه كاذبا.
1099. ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه إلا في الخاص القليل من الحديث وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالاتٍ بالصدق منه.(27/369)
ص -400-…1100. وإذا فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحديث عنه والحديث عن بني إسرائيل فقال: " حدثوا عني ولا تكذبوا علي "-: فالعلم إن شاء الله يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي. وذلك الحديث عمن لا يُعرفُ صدقُه لأن الكذب إذا كان منهيا عنه على كل حال-: فلا كذب أعظم من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(27/370)
ص -401-…الحجة في تثبيت خبر الواحد
1101. قال الشافعي: فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماعٍ.
1102. فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: " نَضَّرَ الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقهٍ غير فقيهٍ ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يُغِلُّ(27/371)
ص -402-…عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط مِنْ روائهم ".
1103. فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرء واحد-: دل على أنه لا يأمر(27/372)
ص -403-…أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه لأنه إنما يؤدي عنه حلال وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا.
1104. ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظا ولا يكون فيه فقيها.
1105. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله – لازم.
1106. أخبرنا سفيان قال: أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه(27/373)
ص -404-…أو أمرت به فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ".
1107. قال ابن عيينة: وأخبرني محمد بن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم: بمثله مرسلا .
1108. وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامهم أنه لازم لهم وإن لم يجدوا له نص حكم في كتاب الله وهو موضوع في غير هذا الموضع.
1109. أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: " أن رجلا قَبَّلَ امرأته وهو صائم فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل امرأته تسأل عن ذلك فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها ؟ فقالت أم سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شراً! وقال: لسنا مثل رسول الله يحل الله لرسوله ما شاء. فرجعت المرأة إلى(27/374)
ص -405-…أم سلمة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه المرأة ؟ فأخبرته أم سلمة فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك ؟! فقالت أم سلمة: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاد ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل الله لرسوله ما شاء فغضب رسول الله ثم قال والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده ".
1110. وقد سمعت من يصل هذا الحديث ولا يحضرني ذكر من وصله.(27/375)
ص -406-…1111. قال الشافعي: في ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك " -:دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرته.
1112. وهكذا خبر امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده.
1113. أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
1114. وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها.(27/376)
ص -407-…1115. ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة ولم يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بخبر عامة وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق-: عن فرض كان عليهم فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة .
1116. ولم يكونوا ليفعلوه - إن شاء الله - بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق.(27/377)
ص -408-…1117. ولا ليحدثوا أيضا مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثه.
1118. ولا يدعون أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنعوا منه.
1119. ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة وهو فرض مما يجوز لهم لقال لهم إن شاء الله رسول الله قد كنتم على قبلة ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني أو خبر عامة أو أكثر من خبر واحد عني.
1120. أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة(27/378)
ص -409-…عن أنس بن مالك قال:" كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت ".
1121. وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم.
1122. وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر فأمر أبو طلحة وهو مالك(27/379)
ص -410-…الجرار-: بكسر الجرار ولم يقل هو ولاهم ولا واحد منهم نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة.
1123. وذلك أنهم لا يهريقون حلالاً إهراقه سرف وليسوا من أهله.
780. والحال في أنهم لا يدعون إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوا ولا يدع لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم-: أن ينهاهم عن قبوله.
1125. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيسا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت " فإن اعترفت فارجمها " فاعترفت فرجمها.
1126. وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري(27/380)
ص -411-…عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وساقا عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد-: شبلا
1127. أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: " بينما(27/381)
ص -412-…نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد. فاتبع الناس وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك ".
1128. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبعث بنهيه واحدا صادقا إلا لزم خبره عن النبي بصدقه عن المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه.
1129. ومع رسول الله الحاج وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عددا فبعث واحدا يعرفونه بالصدق.
1130. وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(27/382)
ص -413-…1131. فإذا كان هكذا مع ما وصفت من مقدرة النبي على بعثه جماعة إليهم-: كان ذلك - إن شاء الله - فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم -: أولى أن يثبت به خبر الصادق.
1132. أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خال له - إن شاء الله - يقال له يزيد بن شيبان قال: " كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو من موقف الإمام جدا فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال لنا: أنا(27/383)
ص -414-…رسولُ رسولِ اللهِ إليكم: يأمركم أن تقفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ".
1133. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر واليا على الحج في سنة تسع وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة وشعوب متفرقة فأقام لهم مناسكهم وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم.
1134. وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من [ سورة براءة ]ونبذ إلى قوم على سواء وجعل لهم مددا ونهاهم عن أمور.(27/384)
ص -415-…1135. فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق وكان من جهلهما - أو أحدهما - من الحاج وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما.
1136. ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحدا الحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه إن شاء الله .
1137. وقد فرق النبي عمالا على نواحي عرفنا أسماءهم والمواضع التي فرقهم عليها :
1138. فبعث قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وابن نويرة -: إلى عشائرهم بعلمهم بصدقهم عندهم.(27/385)
ص -416-…1139. وقدم عليهم وفد البحرين فعرفوا من معه فبعث معهم ابن سعيد بن العاص.
1140. وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن وأمره أن يقاتل من أطاعه من عصاه ويعلمهم ما فرض الله عليهم ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ ومكانه منهم وصدقه.
1141. وكل من ولى فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولاه عليه.
1142. ولم يكن لأحد عندنا في أحد ممن قدم عليه من أهل(27/386)
ص -417-…الصدق -: أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا.
1143. ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم إليها بالصدق -: إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه.
1144. وفي شبيه بهذا المعنى أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد بَعَثَ بَعْثَ مؤتة فولاه زيد بن حارثة وقال: " فإن أصيب فجعفر فإن أصيب فابن رواحة " وبعث ابنَ أنيسٍ سريةً وحدَه
1145. وبعث أمراء سراياه وكلهم حاكم فيما بعثه فيه لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة ويقاتلوا من حل قتاله.
1146. وكذلك كل والي بعثه أو صاحب سرية.(27/387)
ص -418-…1147. ولم يزل يمكنه أن يبعث وَالِيَيْنِ وثلاثةً وأربعةً وأكثرَ.
1148. وبعث في دهر واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكًا يدعوهم إلى الإسلام ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها وألا يكتب فيها دلالات لمن بعثهم إليه على أنها كتبه.
1149. وقد تحرى فيهم ما تحرى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين فبعث دحية إلى الناحية التي هو فيها معروف.
1150. ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلب علم أن النبي بعثه ليستبرئ شكه في خبر الرسول وكان على الرسول الوقوف حتى يستبرئه المبعوث إليه.(27/388)
ص -419-…1151. ولم تزل كُتُبُ رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقًا عند من بعثه إليه.
1152. وإذا طلب المبعوث إليه علم صدقه وجده حيث هو.
1153. ولو شك في كتابه بتغيير في الكتاب أو حال تدل على تهمة من غفلة رسول الله حمل الكتاب-: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى ينفذ ما يثبت عنده من أمر رسول الله.
1154. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحدا والقاضي واحد والأمير واحد والإمام.
1155. فاستخلفوا أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر،(27/389)
ص -420-…ثم عمر أهل الشورى ليختاروا واحدا فاختار عبد الرحمنُ عثمانَ بن عفان.
1156. قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون فتنفذ أحكامهم ويقيمون الحدود وينفذ من بعدهم أحكامهم وأحكامهم أخبار عنهم.
1157. ففيما وصفت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ما أجمع المسلمون عليه منه -: دلالة على فرق بين الشهادة والخبر والحكم.
1158. ألا ترى أن قضاء القاضي على الرجل للرجل إنما هو خبر يخبر به عن بينة تثبت عنده أو إقرار من خصم به أقر عنده(27/390)
ص -421-…وأنفذ الحكم فيه فلما كان يلزمه بخبره أن ينفذه بعلمه كان في معنى المخبر بحلال وحرام قد لزمه أن يحله ويحرمه بما شهد منه.
1159. ولو كان القاضي المخبر عن شهود شهدوا عنده على رجل لم يحاكم إليه أو إقرار من خصم لا يلزمه أن يحكم به لمعنى أن لم يخاصم إليه أو أنه ممن يخاصم إلى غيره فحكم بينه وبين خصمه ما يلزم شاهدا يشهد على رجل أن يأخذ منه ما شهد به عليه لمن شُهِدَ له به-: كان في معنى شاهد عند غيره فلم يقبل- قاضيا كان أو غيره- إلا بشاهد معه كما لو شهد عند غيره لم يقبله إلا بشاهد وطلب معه غيره ولم يكن لغيره إذا كان شاهدا أن ينفذ شهادته وحده.(27/391)
ص -422-…1160. أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وفي التي تليها بعشر وفي الوسطى بعشر وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست.
1161. قال الشافعي: لما كان معروفا- والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع-: نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف فهذا قياس على الخبر.
1162. فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه.
1163. ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم -(27/392)
ص -423-…حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
1164. وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر. والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمضي عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.(27/393)
ص -424-…1165. ودلالة على انه لو مضى أيضا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبرا عن النبي يخالف عمله -: لترك عمله لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
1166. ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت نفسه لا بعمل غيره بعده.
1167. ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفه.
1168. ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله بتقواه لله وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وبأَنْ ليس لأحد مع رسول الله(27/394)
ص -425-…أمر وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
1169. فإن قال قائل: فادللني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1170. قلت: فإن أوجدتكه ؟
1171. قال: ففي إيجادك إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي إذا لم توجد سنة والآخر: أن السنة إذا وجدت وجب عليه ترك عمل نفسه ووجب على الناس ترك كل عمل وجدت السنة بخلافه وإبطال أن السنة لا تثبت إلا بخبر بعدها(27/395)
ص -426-…وعلم أنه لا يوهنها شيء غن خالفها
1172. قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب:" أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول اللهئ كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه عمر "
1173. وقد فسرت هذا الحديث قبل هذا الموضع.
1174. سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن(27/396)
ص -427-…طاوسٍ:" أن عمر قال: أُذَكِّرُ الله امرأ سمع من النبي في الجنين شيئا ؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة. فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره "
1175. وقال غيره:" إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا ".(27/397)
ص -428-…1176. فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى فيه بغيره وقال: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.
1177. قال الشافعي: يخبر- والله أعلم- أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حيا فيكون فيه مائة من الإبل أو ميتا فلا شيء فيه.
1178. فلما أخبر بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سلم له ولم يجعل لنفسه إلا اتباعه فيما مضى بخلافه وفيما كان رأيا منه لم يبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء فلما بلغه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،(27/398)
ص -429-…وترك حكم نفسه وكذلك كان في كل أمره.
1179. وكذلك يلزم الناس أن يكونوا.
1180. أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف.
1181. قال الشافعي: يعني حين خرج إلى الشام فبلغه وقوع الطاعون بها.(27/399)
ص -430-…1182. مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: " أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".
1183. سفيان عن عمرو انه سمع بجالة يقول: " ولم(27/400)
ص -431-…يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هجر ".
1184. قال الشافعي: وكل حديث كتبته منقطعا فقد سمعته متصلا أو مشهورا عن من روي عنه بنقل عامة من أهل العلم يعرفونه عن عامة ولكني كرهت وضع حديث لا أتقنه حفظا وغاب عني بعض كتبي وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت فاختصرت خوف طول الكتاب فأتيت ببعض ما فيه الكفاية دون تقصي العلم في كل أمره.
1185. فقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس فأخذ منهم وهو يتلو القرآن: { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.[التوبة: من الآية29]، ويقرأ القرآن بقتال الكافرين حتى يسلموا وهو لا يعرف فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا وهم عنده من الكافرين غير أهل الكتاب. فقبل خبر عبد الرحمن في المجوس عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه.(27/401)
ص -432-…1186. وحديث بجالة موصول قد أدرك عمر بن الخطاب رجلا وكان كاتبا لبعض ولاته.
1187. فإن قال قائل: قد طلب عمر مع رجل أخبره خبرا آخر ؟
1188. قيل له: لا يطلب عمر مع رجل أخبره آخر إلا على أحد ثلاث معاني:(27/402)
ص -433-…1189. إما أن يحتاط فيكون وإن كانت الحجة تثبت يخبر الواحد فخبر اثنين أكثر وهو لا يزيدها إلا ثبوتا.
1190. وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد من يطلب معه خبرا ثانيا ويكون في يده السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس وجوه فيحدث بسادس فيكتبه لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبت للحجة وأطيب لنفس السامع.
1191. وقد رأيت من الحكام من يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة فيقول للمشهود له: زدني شهودا وإنما يريد بذلك أن يكون أطيب لنفسه ولو لم يزده المشهود لهعلى شاهدين لحكم له بهما.
1192. ويحتمل أن يكون لم يعرف المخبر فيقف عن خبره حتى يأتي مخبر يعرفه.(27/403)
ص -434-…1193. وهكذا ممن أخبر ممن لا يعرف لم يقبل خبره. ولا يقبل الخبر إلا عن معروف بالاستئهال له لأن يُقبَلَ خبرُه.
1194. ويحتمل أن يكون المخبر له غير مقبول القول عنده فيرد خبره حتى يجد غيره ممن يقبل قوله.
1195. فإن قال قائل: فإلى أي المعاني ذهب عندكم عمر ؟
1196. قلنا: أما في خبر أبي موسى فإلى الاحتياط، لأن أبا موسى ثقة أمين عنده إن شاء الله.
1197. فإن قال قائل: ما دل على ذلك ؟
1198. قلنا: قد رواه مالك بن أنس عن ربيعة عن غير(27/404)
ص -435-…واحد من علمائهم حديث أبي موسى وأن عمر قال لأبي موسى:" أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله ".
1199. فإن قال: هذا منقطع.
1200. فالحجة فيه ثابتة لأنه لا يجوز على إمام في الدين عمر ولا غيره-: أن يقبل خبر الواحد مرة وقبوله له لا يكون إلا بما تقوم به الحجة عنده ثم يرد مثله أخرى. ولا يجوز هذا على عالم عاقل أبدا ولا يجوز على حاكم أن يقضي بشاهدين مرة ويمنع بهما أخرى إلا من جهة جرحهما أو الجهالة بعدلهما. وعمر غاية في العلم والعقل والأمانة والفضل.
1201. وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفت:(27/405)
ص -436-…1202. قال الله: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه }.[نوح: من الآية1]
1203. وقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ }.[هود: من الآية25]
1204. وقال: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }.[النساء: من الآية163]
1205. وقال: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }.[الأعراف: من الآية65]
1206. وقال: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً }.[الأعراف: من الآية73]
1207. وقال: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً }.[الأعراف: من الآية85]
1208. وقال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. [ الشعراء:160 :63]
1209. وقال لنبيه محمد صلى الله عليه: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ }.[النساء: من الآية163]
1210. وقال: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }.[آل عمران: من الآية144](27/406)
ص -437-…1211. فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم ومن بعدهم وكان الواحد في ذلك وأكثر منه سواء تقوم الحجة بالواحد منهم قيامها بالأكثر.
1212. قال: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ }.[يّس:13 :15]
1213. قال الشافعي: فظاهر الحجج عليهم باثنين ثم ثالث وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد وليس الزيادة في(27/407)
ص -438-…التأكيد مانعة أن تقوم الحجة بالواحد إذ أعطاه الله ما يباين به الخلق غير النبيين.
1214. أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان أخبرتها:" أنها جاءت إلى النبي تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسالت رسول الله أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال: كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي(27/408)
ص -439-…ذكرت له من شأن زوجي فقال لي: أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك ؟ فأخبرته فاتبعه وقضى به ".
1215. وعثمان في إمامته وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.
1216. أخبرنا مسلم عن ابن جريج قال: أخبرني الحسن(27/409)
ص -440-…مسلم عن طاوس قال: " كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أتفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ؟ فقال له ابن عباس: إما لي فسئل فلانة الأنصارية:(27/410)
ص -441-…هل أمرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت ".
1217. قال الشافعي: سمع زيد النهي أن يصدر أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت وكانت الحائض عنده من الحاج الداخلين في ذلك النهي فلما أفتاها بن عباس بالصدر إذا كانت قد زارت بعد النحر-: أنكر عليه زيد فلما أخبره عن المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك فسألها فأخبرته،(27/411)
ص -442-…فصدق المرأة-: ورأى عليه حقا أن يرجع عن خلاف ابن عباس وما لابن عباس حجة غير خبر المرأة.
1218. سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير قال:" قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل ؟ فقال ابن عباس: كذب عدو الله! أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ".ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر.
1219. فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبي(27/412)
ص -443-…ابن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكذب به امرأ من المسلمين إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر.
1220. أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاوسا أخبره:" أنه سأل ابن عباس عن الركعتين بعد العصر ؟ فنهاه عنهما، قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما! فقال بن عباس: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } ".[الأحزاب:36](27/413)
ص -444-…1221. فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي ودله بتلاوة كتاب الله على أن فرضا عليه أن لا تكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمرا.
1222. وطاوس حينئذ إنما يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ابن عباس وحده ولم يدفعه طاوس بأن يقول-: هذا خبرك وحدك فلا أثبته عن النبي لأنه يمكن أن تنسى.
1223. فإن قال قائل: كره أن يقول هذا لابن عباس ؟!
1224. فابن عباس أفضل من أن يتوقى أحد أن يقول له حقا رآه وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر فأخبره أنه لا يدعهما،(27/414)
ص -445-…قبل أن يعلمه أن النبي نهى عنهما.
1225. سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: " كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها فتركناها من أجل ذلك ".
1226. فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابرة ويراها حلالا ولم يتوسع إذ أخبره واحد لا يتهمه عن رسول الله أنه نهى عنها-: أن يخابر بعد خبره ولا يستعمل رأيه مع ما جاء عن رسول الله ولا يقول: ما عاب هذا علينا أحد ونحن نعمل به إلى اليوم .(27/415)
ص -446-…1227. وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يوهن الخبر عن النبي عليه السلام.
1228. أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: " أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض ".(27/416)
ص -447-…1229. فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره ولما لم ير ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاما لأن ترك خبر ثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
1230. وأُخبِرْنا: أن أبا سعيد الخدري لقي رجلا فأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فذكر الرجل خبرا يخالفه فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبدا.
1231. قال الشافعي: يرى أن ضيقا على المخبر أن لا يقبل خبره وقد ذكر خبرا يخالف خبر أبا سعيد عن النبي ولكن في خبره وجهان: أحدهما: يحتمل به خلاف خبر أبي سعيد والآخر: لا يحتمله .(27/417)
ص -448-…1232. أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف قال:" ابتعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة فأخبرته فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان. فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: فما أيسر علي من قضاء قضيته الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء عمر(27/418)
ص -449-…وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له ".(27/419)
ص -450-…1233. أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به ؟ فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك فقال سعد: واعجبا! أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فدعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه.
1234. قال الشافعي: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن ابن شريح(27/420)
ص -452-…الكعبي أن النبي قال عام الفتح: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود" قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول تأخذ به!! نعم، آخذ به. وذلك الفرض علي وعلى من سمعه إن الله اختار محمدا من الناس فهداهم به وعلى يديه واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.(27/421)
ص -453-…1235. قال وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها.
1236. ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا-: هذه السبيل.
1237. وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان.
1238. قال الشافعي: وجدنا سعيد بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بالصرف فيثبت حديثه سنة. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيثبت حديثه سنة. ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنة.
1239. ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان "،فيثبته سنة. ويروي عنها عن النبي شيئا كثيرا فيثبتها سننا يحل بها ويحرم.(27/422)
ص -454-…1240. وكذلك وجدناه يقول: حدثني أسامة بن زيد عن النبي ويقول: حدثني عبد الله بن عمر عن النبي وغيرهما. فيثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة.
1241. ثم وجدناه أيضا يصير إلى أن يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر ويقول: حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر. ويثبت كل واحد من هذا خبر عن عمر.
1242. ووجدنا القاسم بن محمد يقول: حدثتني عائشة عن النبي ويقول: في حديث غيره: حدثني ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويثبت خبر كحل واحد منهما على الانفراد سنة.
1243. ويقول: حدثني عبد الرحمن ومجمع ابنا يزيد بن جارية عن خنساء بنت خدام عن النبي فيثبت خبرها سنة وهو خبر امرأة واحدة.(27/423)
ص -455-…1244. ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يرث المسلم الكافر " فيثبتها سنة ويثبتها الناس بخبره سنة.
1245. ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسين يخبر عن جابر عن النبي وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي فيثبت كل ذلك سنة.
1246. ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم ونافع بن جبير بن مطعم ويزيد بن طلحة بن ركانة ومحمد بن طلحة بن ركانة ونافع بن عجير بن عبد يزيد وأبا أسامة بن عبد الرحمن وحميد(27/424)
ص -456-…عبد الرحمن وطلحة بن عبد الله بن عوف ومصعب بن سعد بن أبي وقاص وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وخارجة بن زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن كعب بن مالك وعبد الله بن أبي قتادة وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وغيرهم من محدثي أهل المدينة-: كلهم يقول: حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي عن النبيفنثبت ذلك سنة.
1247. ووجدنا عطاء وطاوسً ومجاهدً وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد وعبيد الله بن أبي يزيد وعبد الله بن باباه وابن أبي عمار ومحدثي المكيين ووجدنا(27/425)
ص -457-…وهب بن منبه باليمن هكذا ومكحولا بالشام وعبد الرحمن بن غنم والحسن وابن سيرين بالبصرة والأسود وعلقمة والشعبي بالكوفة ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار-: كلهم بحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إليه والإفتاء به ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ويقبله عنه من تحته.
1248. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أحمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته-: جاز لي.
1249. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين(27/426)
ص -458-…أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودا على كلهم.
1250. قال: فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا وحديث كذا وكان فلان يقول قولا يخالف ذلك الحديث.
1251. فلا يجوز عندي عن عالم أن يثبت خبر واحد كثيرا ويحل به ويحرم ويرد مثله-: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه أو يكون ما سمع و من سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه أو يكون من حدثه ليس بحافظ أو يكون متهما عنده أو يتهم من فوقه ممن حدثه أو يكون الحديث محتملا(27/427)
ص -459-…معنيين فيتأول فيذهب إلى أحدهما دون الآخر.
1252. فأما أن يتوهم متوهم أن فقيها عاقلا يثبت سنة بخبر واحد مرة ومرارا ثم يدعها بخبر مثله وأوثق بلا واحد من هذه الوجوه التي تشبه بالتأويل كما شبه على المتأولين في القرآن وتهمة المخبر أو علم يخبر خلافه-: فلا يجوز، إن شاء الله.
1253. فإن قال قائل: قلَّ فقيهٌ في بلدٍ إلا وقد روى كثيرا يأخذ به وقليلا يتركه ؟
1254. فلا يجوز عليه إلا من الوجه الذي وصفت،(27/428)
ص -460-…ومن أن يروي عن رجل من التابعين أو من دونهم قولا لا يلزمه الأخذ به فيكون إنما رواه لمعرفة قوله لا لأنه حجة عليه وافقه أو خالفه.
1255. فإن لم يسلك واحدا من هذه السبل فيعذر ببعضها فقد أخطأ خطأ لا عذر فيه عندنا، والله أعلم.
1256. فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك حجة.؟
1257. قيل له: إن شاء الله نعم.
1258. فإن قال: فأبن ذلك ؟
1259. قلنا: أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مجتمع عليها فيها فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما ومن امتنع من قبوله استتيب.(27/429)
ص -461-…1260. فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد-: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حي لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1261. ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب وقلنا: ليس لك إن كنت عالمنا أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول وإن أمكن فيهم الغلط ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم والله ولي ما غاب عنك منهم.
1262. فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه ؟ وهل يختلف المنقطع ؟أو هو وغيره سواء ؟
1263. قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف:
1264. فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم -:اعتبر عليه بأمور:(27/430)
ص -462-…1265. منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى-: كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه.
1266. وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك.
1267. ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟
1268. فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوي له مرسله وهي أضعف من الأولى.
1269. وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روى عن(27/431)
ص -463-…رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح ،إن شاء الله .
1270. وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتنون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
1271. قال الشافعي: ثم يعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمي مجهولا ولا مرغوبا عن الروايةعنه فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه.
1272. ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه.(27/432)
ص -464-…1273. ومتى ما خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله.
1274. قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديث بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله.
1275. ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتصل.
1276. وذلك: أن معنى المنقطع مغيب محتمل أن يكون حمل عن من يرغب عن الرواية عنه إذا سمى وإن بعض المنقطعات - وان وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا من حيث لو سمى لم يقبل وأن قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال برأيه لو وافقه -: يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها،(27/433)
ص -465-…ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي يوافقه ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
1277. فأما مَن بَعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: فلا أعلم منهم واحدا يقبل مرسله. لأمور: أحدها: أنهم أشد تجاوزا فيمن يروون عنه. والآخر: أنهم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرة الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه.(27/434)
ص -466-…1278. وقد خبرت بعض من خبرت من أهل العلم فرأيتهم أتوا من خصلة وضدها:
1279. رأيت الرجل يقنع بيسير العلم ويريد إلا أن يكون مستفيدا إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجح فيكون من أهل التقصير في العلم.
1280. ورأيت من عاب هذه السبيل ورغب في التوسع في العلم من دعاه ذلك إلى القبول عن من لو أمسك عن القبول عنه كان خيرا له.
1281. ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم فيقبل عن من يرد مثله وخيراً منه
1282. ويدخل عليه فيقبل عن من يعرف ضعفه إذا وافق قولا يقوله! ويرد حديث الثقة إذا خالف قولا يقوله!!.
1283. ويدخل على بعضهم من جهات.(27/435)
ص -467-…1284. ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها.
1285. قال فلم فرقت بين التابعين المتقديمن الذين شاهدوا أصحاب رسول الله وبين من شاهد بعضهم دون بعض ؟
1286. فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم.
1287. قال: فلم لا تقبل المرسل منهم ومن كل فقيه دونهم؟
1288. قلت: لما وصفت
1289. قال: وهل تجد حديثا تبلغ به رسول الله مرسلا عن ثقة لم يقل أحد من أهل الفقه به؟
1290. قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وعيالاً وإن لأبي مالاً وعيالاً وإنه يريد أن يأخذ مالي فيطعمه عياله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك ".(27/436)
ص -468-…1291. فقال: أما نحن فلا نأخذ بهذا. ولكن من أصحابك من يأخذ به ؟
1292. فقلت: لا لأن من أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ مال ابنه.
1293. قال: أجل وما يقول بهذا أحدٌ. فلم خالف الناس ؟
1294. قال: لأنه لا يثبت عن النبي وأن والله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره فقد يكون أقل حظا من كثير من الورثة-: دل ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه.
1295. قال فمحمد بن المنكدر: عندكم غاية في الثقة ؟
1296. قلت: أجل، والفضل في الدين والورع ولكنا لا ندري عن من قبل هذا الحديث.
1297. وقد وصفت لك الشاهدين العدلين يشهدان على(27/437)
ص -469-…الرجل فلا تقبل شهادتهما حتى يعدلاهما أو يعدلهما غيرهما.
1298. قال: فتذكر من حديثكم مثل هذا ؟
1299. قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن مثل أبي ذئب عن ابن شهاب: " أن رسول الله أمر رجلا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة ".
1300. فلم نقبل هذا لأنه مرسل.
1301. ثم أخبرنا الثقة عن معمر عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : بهذا الحديث.
1302. وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثقة الرجال إنما يسمي بعض أصحاب النبي ثم خيار التابعين ولا نعلم محدثا يسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه بن شهاب.
1303. قال: فأني تراه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم ؟(27/438)
ص -470-…1304. رآه رجلا من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه وإما لغير ذلك وسأله معمر عن حديثه عنه فأسنده له.
1305. فلما أمكن في أن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب-: لم يؤمن مثل هذا على غيره.
1306. قال: فهل تجد لرسول الله سنة ثابته من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم ؟
1307. قلت: لا، ولكن قد أجد الناس مختلفين فيها: منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها فأما سنة يكونون مجتمعين على القول بخلافها فلم أجدها قط كما وجدت المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1308. قال الشافعي: وقلت له: أنت تسأل عن الحجة(27/439)
ص -471-…في رد المرسل وترده ثم تجاوز فترد المسند الذي يلزمك عندنا الأخذ به !!.
باب الإجماع
1309. قال الشافعي: فقال لي قائل: قد فهمت مذهبك في أحكام الله ثم أحكام رسوله وأن من قبل عن رسول الله فعن الله قبل بأن الله افترض طاعة رسوله وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابا ولا سنة أن يقول بخلاف واحد منهما وعلمت أن هذا فرض الله. فما حجتك في أن تتبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله ولم يحكوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟أتزعم ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبدا إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوها ؟!(27/440)
ص -472-…1310. قال: فقلت له: أما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله فكما قالوا، إن شاء الله.
1311. وأما ما لم يحكوه فاحتمل أن يكون قالوا حكاية عن رسول الله واحتمل غيره ولا يجوز أن نعده له حكاية لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعا ولا يجوز أن يحكي شيئا يتوهم يمكن فيه غير ما قال.
1312. فكنا نقول بما قالوا به اتباعا لهم. ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم وقد تعزب عن بعضهم. ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله ولا على خطأ، إن شاء الله.(27/441)
ص -473-…1313. فإن قال فهل من شيء يدل على ذلك وتشده به ؟
1314. قيل أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" نضر الله عبدا ".
1315. أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب خطب الناس(27/442)
ص -474-…بالجابية فقال: إن رسول الله قام الله فينا كمقامي فيكم فقال: أكرم أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد ألا فمن سره بحبحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهم ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ".(27/443)
ص -475-…1316. قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم ؟
1317. قلت: لا معنى له إلا واحد.
1318. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا ؟
1319. قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة و أبدان قوم متفرقين وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنه لا يمكن ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
1320. ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر(27/444)
ص -476-…بلزومها وإنما تكون الغفلة في الفرقة فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله.
القياس
1321. قال: فمن أين قلت يقال بالقياس فيما لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع ؟ أفالقياس نص خبر لازم ؟
1322. قلت: لو كان القياس نص كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نص كتاب هذا حكم الله ،وفي كل ما كان(27/445)
ص -477-…نص السنة هذا حكم رسول الله ولم نقل له قياس.
1323. قال: فما القياس أهو الاجتهاد أم هما متفرقان ؟
1324. قلت: هما اسمان لمعنى واحد.
1325. قال: فما جماعهما ؟
1326. قلت: كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة وعليه إذا كان فيه بعينه حكم-: اتباعه وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد القياس.
1327. قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا على إحاطة هم من أنهم أصابوا الحق عند الله ؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس ؟ وهل(27/446)
ص -478-…كلفوا كل أمر من سبيل واحد أو سبل متفرقة ؟ وما الحجة في أن لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن ؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا ؟ وهل يختلف ما كلفوا في أنفسهم وما كلفوا في غيرهم ؟ ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره ؟ والذي له أن يقيس في نفسه وغيره ؟
1328. فقلت له: العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن. ومنه حق في الظاهر.
1329. فالإحاطة منه ما كان نص حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يشهد بهما فيما أحل أنه حلال وفيما حرم أنه حرام. وهذا الذي لا يسع أحدا عندنا جهله ولا شك فيه.
1330. وعلم الخاصة سنة من خبر الخاصة يعرفها العلماء،(27/447)
ص -479-…ولم يكلفها غيرهم وهي موجودة فيهم أو في بعضهم بصدق الخاص المخبر عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه وهو الحق في الظاهر كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في الظاهر وقد يمكن في الشاهدين الغلط.
1331. وعلم إجماع.
1332. وعلم اجتهاد بقياس على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايسه لا عند العامة من العلماء ولا يعلم الغيب فيه إلا الله.
1333. وإذا طلب العلم فيه بالقياس فقيس بصحة: أيتفق المقايسون في أكثره وقد نجدهم يختلفون.
1334. والقياس من وجهين: أحدهما أن يكون الشيء في معنى الأصل فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون: الشيء له في الأصول أشباه فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبها فيه وقد يختلف القايسون في هذا.(27/448)
ص -480-…1335. قال: فأوجدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما إحاطة بالحق في الظاهر والباطن والآخر إحاطة بحق في الظاهر دون الباطل مما أعرف ؟
1336. فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة -: أكلفنا أن نستقبلها بإحاطة ؟
1337. قال: نعم.
1338. قلت: وفرضت علينا الصلوات والزكاة والحج وغير ذلك -: أكلفنا الإحاطة في أن نأتي بما علينا بإحاطة ؟
1339. قال: نعم.
1340. قلت: وحين فرض علينا أن نجلد الزاني مائة ونجلد القاذف ثمانين ونقتل من كفر بعد إسلامه ونقطع من سرق -: أكلفنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطة نعلم أنا قد أخذناه منه ؟
1341. قال: نعم.(27/449)
ص -481-…1342. قلت: وسواء ما كلفنا في أنفسنا وغيرنا إذا كنا ندري من أنفسنا بأنا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا ومن غيرنا ما لا يدركه علمنا عيانا كإدراكنا العلم في أنفسنا ؟
1343. قال: نعم
1344. قلت: وكلفنا في أنفسنا أين ما كنا أن نتوجه إلى البيت بالقبلة ؟
1345. قال: نعم.
1346. قلت: أفتجدنا على إحاطة من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا ؟
1347. قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا وأما أنتم فقد أديتم ما كلفتم.
1348. قلت: والذي كلفنا في طلب العين المغيب غير الذي كلفنا في طلب العين الشاهد ؟(27/450)
ص -482-…1349. قال: نعم.
1350. قلت: وكذلك كلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه ونناكحه ونوارثه على ما يظهر لنا من إسلامه ؟
1351. قال: نعم.
1352. قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن ؟
1353. قال: قد يمكن هذا فيه ولكن لم تكلفوا فيه إلا الظاهر.
1354. قلت: وحلال لنا أن نناكحه ونوارثه ونجيز شهادته ومحرم علينا دمه بالظاهر ؟ وحرام على غيرنا إن علم منه أنه كافر إلا قتله ومنعه المناكحه والموارثة وما أعطيناه ؟
1355. قال: نعم.
1356. قلت: وجد الفرض علينا في رجل واحد مختلفا على مبلغ علمنا وعلم غيرنا ؟(27/451)
ص -483-…1357. قال: نعم وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه.
1358. قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازم وإنما نطلب باجتهاد القياس وإنما كلفنا فيه الحق عندنا.
1359. قال: فتجدك تحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة ؟
1360. قلت: نعم إذا اختلفت أسبابه.
1361. قال: فاذكر منه شيئا.
1362. قلت قد يقر الرجل عندي على نفسه بالحق لله أو لبعض الآدميين فآخذه بإقراره ولا يقر فآخذ ببينة تقوم عليه ولا تقوم عليه بينة فيدعى عليه فآمره بأن يحلف ويبرأ فيمتنع فآمر خصمه بأن يحلف ونأخذه بما حلف عليه خصمه إذا أبى اليمين التي تبرئه ونحن نعلم أن إقراره على نفسه - بشحه على(27/452)
ص -484-…ماله وأنه يخاف ظلمه بالشح عليه-: أصدق عليه من شهادة غيره لأن غيره قد يغلط ويكذب عليه وشهادة العدول عليه أقرب من الصدق من امتناعه من اليمين ويمين خصمه وهو غير عدل وأعطي منه بأسباب بعضها أقوى من بعض.
1363. قال: هذا كله هكذا غير أنا إذا نكل عن اليمين أعطينا منه بالنكول .
1364. قلت: فقد أعطيت منه بأضعف مما أعطينا منه ؟
1365. قال: أجل، ولكني أخالفك في الأصل.
1366. قلت: وأقوى ما أعطيت به منه إقراره وقد يمكن أن يقر بحق مسلم ناسيا أو غلطا فآخذه به ؟
1367. قال: أجل ولكنك لم تكلف إلا بهذا.(27/453)
ص -485-…1368. قلنا: فلست تراني كلفت الحق من وجهين: أحدهما: حق بإحاطة في الظاهر والباطن، والآخر: حق بالظاهر دون الباطن
1369. قال: بلى ولكن هل تجد في هذا قوة بكتاب أو سنة
1370. قلت: نعم ما وصفت لك مما كلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري
1371. قال الله: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }.[البقرة: من الآية255] فآتاهم من علمه ما شاء وكما شاء لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
1372. وقال لنبيه { يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا . فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا . إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [النازعات:42 :44]
1373. سفيان عن الزهري عن عروة قال: " لم يزل رسول الله يسئل عن الساعة حتى أنزل الله عليه { فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا } فانتهى ".(27/454)
ص -486-…1374. وقال الله: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ }.[النمل: من الآية65]
1375. وقال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.[لقمان:34]
1376. فالناس متعبدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أمروا به وينتهوا إليه لا يجاوزونه لأنهم لم يعطوا أنفسهم شيئا إنما هو عطاء الله فنسأَل الله عطاءً مؤديا لحقه موجبا لمزيده.(27/455)
ص -487-…باب الاجتهاد
1377. قال: أفتجد تجويز ما قلت من الإجتهاد مع ما وصفت فتذكره ؟
1378. قلت: نعم، استدلالاً بقوله: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ُ}.[البقرة: من الآية150]
1379. قال: فما شطره ؟
1380. قلت: تلقاءه، قال الشاعر:
إن العسيب بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسجور(27/456)
ص -488-…1381. فالعلم يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه-: على صواب بالاجتهاد للتوجه إلى البيت بالدلائل عليه لأن الذي كلف التوجه إليه وهو لا يدري أصاب بتوجه قصد المسجد الحرام أم أخطأه وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر ما يعرف [ ويعرف غيره دلائل غيرها فيتوجه بقدر ما يعرف ] وإن اختلف توجههما.
1382. قال: فإن أجزت لك هذا أجزت لك في بعض الحالات الاختلاف
1383. قلت: فقل فيه ما شئت.
1384. قال: أقول: لا يجوز هذا.
1385. قلت: فهو أنا وأنت ونحن بالطريق عالمان(27/457)
ص -489-…قلت: وهذه القبلة وزعمت خلافي على أينا يتبع صاحبه ؟
1386. قال: ما على واحد منكما أن يتبع صاحبه .
1387. قلت: فما يجب عليهما ؟
1388. قال: إن قلت لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة-: فهما لا يعلمان أبدا المغيب بإحاطة وهما إذ يدعان الصلاة أو يرتفع عنهما فرض القبلة فيصليان حيث شاءا ولا أقول واحدا من هذين وما أجد بدا من أن أقول يصلي كل واحد منهما كما يرى ولم يكلفا غير هذا أو أقول كلف الصواب في الظاهر والباطن ووضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر.
1389. قلت: فأيهما قلت فهو حجة عليك لأنك فرقت بين حكم الباطن والظاهر وذلك الذي أنكرت علينا وأنت تقول: إذا اختلفتم قلت ولا بد أن يكون أحدهما مخطئ ؟
1390. قال: أجل.
1390. قلت: فقد أجزت الصلاة وأنت تعلم أحدهما(27/458)
ص -490-…مخطئ وقد يمكن أن يكونا معا مخطئين.
1392. وقلت له: وهذا يلزمك في الشهادات وفي القياس.
1393. قال: ما أجد من هذا بدا ولكن أقول: هو خطأ موضوع.
1394. فقلت له: قال الله: { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ }.[المائدة: من الآية95]
1395. فأمرهم بالمثل وجعل المثل إلى عدلين يحكمان فيه فلما حرم مأكول الصيد عاما كانت لدواب الصيد أمثال على الأبدان.
1396. فحكم من حكم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك(27/459)
ص -491-…فقضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة.
1397. والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثل بالبدن لا بالقيم ولو حكموا على القيم اختلف أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.
1398. والعلم يحيط أن يربوع ليس مثل الجفرة في البدن ولكنها كانت أقرب الأشياء منه شبها فجعلت مثله وهذا من القياس يتقارب تقارب العنز والظبي ويَبْعُدُ قليلا بُعدَ الجفرة من اليربوع.
1399. ولما كان المثل في الأبدان في الدواب من الصيد دون الطائر لم يجز فيه إلا ما قال عمر:- والله أعلم - من أن ينظر إلى المقتول من الصيد فَيُجْزَى بأقرب الأشياء به شبها منه في البدن(27/460)
ص -492-…فإذا فات منها شيئا رفع إلى أقرب الأشياء به شبها كما فاتت الضبع العنز فرفعت إلى الكبش وصغر اليربوع عن العناق فخفض إلى الجفرة.
1400. وكان طائر الصيد لا مثل له في النعم لاختلاف خلقته وخلقته فجزي خيرا وقياسا على ما كان ممنوعا لإنسان فأتلفه إنسان فعليه قيمته لمالكه.
1401. قال الشافعي: فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يقوِّم قيمة يومه وبلده ويختلف في الأزمان والبلدان حتى يكون الطائر ببلد ثمن درهم وفي البلد الآخر ثمن بعض ردهم.(27/461)
ص -493-…1402. وأمرنا بإجازة شهادة العدل وإذا شرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نرد ما خالفه.
1403. وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه.
1404. فإذا كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قبل وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره لأنه لا يعرى أحد رأينا من الذنوب.
1405. وإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره بالتمييز بين حسنه وقبيحه وإذا كان هذا هكذا فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه.
1406. وإذا ظهر حسنه فقبلنا شهادته فجاء حاكم غيرنا فعلم منه ظهور السيئ كان عليه رده.(27/462)
ص -494-…1407. وقد حكم الحاكمان في أمر واحد بردٍ وقبولٍ وهذا اختلاف ولكن كل قد فعل ما عليه.
1408. قال: فتذكر حديثا في تجويز الاجتهاد ؟
1409. قلت نعم، أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ".(27/463)
ص -495-…1410. أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة .
1411. فقال: هذه رواية منفردة يردها علي وعليك غيري وغيرك ولغيري عليك فيها موضع مطالبةٍ.
1412. قلت: نحن وأنت ممن يثبتها ؟
1413. قال: نعم.
1414. قلت: فالذين يردونها يعلمون ما وصفنا من تثبيتها وغيره.(27/464)
ص -496-…1415. قلت: فأين موضع المطالبة فيها ؟
1416. فقال: قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رويت من الاجتهاد خطأً وصوابًا ؟
1417. فقلت: فذلك الحجة عليك.
1418. قال: وكيف ؟
1419. قلت: إذ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يثاب على أحدهما أكثر مما يثاب على الآخر ولا يكون الثواب فيما لا يسع ولا الثواب في الخطأ الموضوع.
1420. لأنه لو كان إذا قيل له اجتهد على الخطأ فاجتهد على(27/465)
ص -497-…الظاهر كما أمر كان مخطئا خطأ مرفوعا كما قلت -: كانت العقوبة في الخطأ - فيما نرى والله أعلم - أولى به وكان أكثر أمره أن يغفر له ولم يشبه أن يكون له ثواب على خطإٍ لا يسعه.
1421. وفي هذا دليل على ما قلنا: أنه إنما كلف في الحكم الاجتهاد على الظاهر دون المغيب، والله أعلم.
1422. قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلت ولكن ما معنى صوابٍ و خطإٍ.ٍ
1423. قلت له: مثل معنى استقبال الكعبة يصيبها من رآها بإحاطة ويتحراها من غابت عنه بعد أو قرب منها فيصيبها بعض ويخطئها بعض فنفس التوجه يحتمل صوابا وخطأ إذا قصدت بالإخبار عن الصواب والخطأ قصد أن يقول: فلان أصاب(27/466)
ص -498-…قصد ما طلب فلم يخطئه وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهد في طلبه
1424. فقال: هذا هكذا أفرأيت الاجتهاد أيقال له صواب على غير هذا المعنى ؟
1425. قلت: نعم، على أنه إنما كلف فيما غاب عنه الاجتهاد فإذا فعل فقد أصاب بالإتيان بما كلف وهو صواب عنده على الظاهر ولا يعلم الباطن إلا الله.
1426. ونحن نعلم أن المختلفين في القبلة وإن أصابا بالاجتهاد إذا اختلفنا يريدان عينا-: لم يكونا مصيبين للعين أبدا ومصيبان في الاجتهاد. وهكذا ما وصفنا في الشهود وغيرهم.
1427. قال: أفتوجدني مثل هذا ؟
1428. قلت: ما أحسب هذا يوضح بأقوى من هذا !(27/467)
ص -499-…1429. قال: فاذكر غيره ؟
1430. قلت: أحل الله لنا أن ننكح من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا وحرم الأمهات والبنات والأخوات.
1431. قال: نعم.
1432. قلت: فلو أن رجلا اشترى جارية فاستبرأها أيحل له إصابتها ؟
1433. قال: نعم.
1434. قلت: فأصابها فولدت له دهرا ثم علم أنها أخته كيف القول فيه ؟
1435. قال: كان ذلك حلالاً حتى علم بها فلم يحل له أن يعود إليها.
1436. قلت: فيقال لك في امرأة واحدة حلالا له حرام(27/468)
ص -500-…عليه بغير إحداث شيء أحدثه هو ولا أحدثته ؟
1437. قال: أما في المغيب فلم تزل أخته أولاً وآخرًا، وأما في الظاهر فكانت له حلالاً ما لم يعلم وعليه حرام حين علم.
1438. وقال: إن غيرنا ليقول: لم يزل آثِمًا بإصابتها ولكنه مأثم مرفوع عنه.
1439. فقلت: الله اعلم وأيهما كان فقد فرقوا فيه بين حكم الظاهر والباطن وألغوا المأثم عن المجتهد على الظاهر وإن أخطأ عندهم ولم يلغوه عن العامد.
1440. قال: أجل.
1441. وقلت له: مثل هذا الرجل ينكح ذات محرمٍ منه ولا يعلم وخامسةً وقد بلغته وفاة رابعةٍ كانت زوجة له وأشباه لهذا.(27/469)
ص -501-…1442. قال: نعم أشباه هذا كثير.
1443. فقال: إنه لبين عند من يثبت الرواية منكم أنه لا يكون الاجتهاد أبدا إلا على طلب عين قائمة مغيبة بدلالة وأنه قد يسع الاختلاف من له الاجتهاد.
1444. فقال: فكيف الاجتهاد ؟
1445. فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقولٍ، فدلهم بها على الفرق بين المختلف وهداهم السبيل إلى الحق نصًّا ودلالةً
1446. قال: فمثل من ذلك شيئا.
1447. قلت: نصب لهم البيت الحرام وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه وتأخيه إذا غابوا عنه وخلق لهم سماء وأرضا وشمسا وقمرا ونجوما وبحارا وجبالا ورياحا.(27/470)
ص -502-…1448. فقال: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }.[الأنعام: من الآية97]
1449. وقال: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.[النحل:16]
1450. فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات.
1451. فكانوا يعرفون بمنه جهة البيت بمعونته لهم وتوفيقه إياهم بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه وأخبر من رآه منهم من لم يره وأبصر ما يهتدى به إليه من جبل يقصد قصده أو نجم يؤتم به وشمال وجنوب وشمس يعرف مطلعها ومغربها وأين تكون من المصلى بالعشيِّ وبُحُورٍ كذلك.
1452. وكان عليهم تكلف الدِّلالات بما خلق لهم من العقول التي ركبها فيهم ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها.(27/471)
ص -503-…1453. فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل بعد استعانة الله والرغبة إليه في توفيقه -: فقد أدوا ما عليهم.
1454. وأبان لهم أن فرضه عليهم التوجه شطر المجد الحرام والتوجه شطره لإصابة البيت بكل حال.
1455. ولم يكن لهم إذا كان لا تمكنهم الإحاطة في الصواب إمكان من عاين البيت أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دِلالة.
باب الاستحسان
1456. قال هذا كما قلتَ والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب والمطلوب لا يكون أبدا إلا على عين قائمة تطلب بدلالة(27/472)
ص -504-…يقصد بها إليها أو تشبيه على عين قائمة وهذا يبين أن حراما على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، والخبر - من الكتاب والسنة - عين يتأخى معناها المجتهد ليصيبه كما البيت يتأخاه من غاب عنه ليصيبه أو قصده بالقياس وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد والاجتهاد ما وصفت من طلب الحق فهل تجيز أنت أن يقول الرجل: أستحسن بغر قياس؟
1457. فقلت: لا يجوز هذا عندي - والله أعلم - لأحد وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبر بالقياس على الخبر.(27/473)
ص -505-…1458. ولو جاز تعطيل القياس جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان.
1459. وإن القول بغير خبر ولا قياس لغير جائز بما ذكرت من كتاب الله وسنة رسوله ولا في القياس .
1460. فقال: أما الكتاب والسنة فيدلان على ذلك لأنه إذا أمر النبي بالاجتهاد فالاجتهاد أبدا لا يكون إلا على طلب شيء وطلب الشيء لا يكون إلا بدلائل والدلائل هي القياس، قال: فأين القياس مع الدلائل على ما وصفت ؟
1461. قلت: ألا ترى أن أهل العلم إذا أصاب رجل(27/474)
ص -506-…لرجل عبدا لم يقولوا لرجل: أقم عبدا ولا أمة إلا وهو خابر بالسوق ليقيم بمعنيين: بما يخبركم ثمن مثله في يومه ولا يكون ذلك إلا بأن يعتبر عليه بغيره فيقيسه عليه ولا يقال لصاحب سلعة: أقم إلا وهو خابر.(27/475)
ص -507-…1462. ولا يجوز أن يقال لفقيه عدل غير عالم بقيم الرقيق: أقم هذا العبد ولا هذه الأمة ولا إجازة هذا العامل لأنه إذا أقامه على غير مثال بدلالة على قيمته كان متعسفا.
1463. فإذا كان هذا هكذا فيما تقل قيمته من المال وييسر الخطأ فيه على المُقَام له والمقام عليه -: كان حلال الله وحرامه أولى أن لا يقال فيهما بالتعسف والاستحسان:
1464. وإنما الاستحسان تلذذ .
1465. ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار عاقل للتشبيه عليها.
1466. وإذا كان هذا هكذا كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم، - وجهة العلم الخبر اللازم - بالقياس بالدلائل(27/476)
ص -508-…على الصواب حتى يكون صاحب العلم أبدا متبعا خبرا وطالب الخبر بالقياس كما يكون متبع البيت بالعيان وطالبا قصده بالاستدلال بالأعلام مجتهداً.
1467. ولو قال بلا خبر لازم و قياس كان أقرب من الإثم من الذي قال وهو غير عالم وكان القول لغير أهل العلم جائزا.
1468. ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها.(27/477)
ص -509-…1469. ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها،(27/478)
ص -510-…وهي العلم بأحكام كتاب الله: وفرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وإرشاده.
1470. ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين فإن لم يكن إجماع فبالقياس.
1471. ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب.
1472. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول به دون التثبيت.
1473. ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبيتا فيما اعتقد من الصواب.(27/479)
ص -511-…1474. وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك.
1475. ولا يكون بما قال أعنى منه بما خالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله.
1476. فأما من تم عقله ولم يكن عالما بما وصفنا فلا يحل له أن يقول بقياس وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه.
1477. ومن كان عالما بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة-: فليس له أن يقول أيضا بقياس لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني.
1478. وكذلك لو كان حافظا مقصرا العقل أو مقصرا عن علم لسان العرب -: لم يكن له أن يقيس من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس.
1479. ولا نقول يسع هذا - والله أعلم - أن يقول أبدا إلا اتباعا لا قياسا.(27/480)
ص -512-…1480. فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي تقيس عليها وكيف تقيس ؟
1481. قيل له إن شاء الله: كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حكم به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نص حكمٍ -: حكم فيها حكم النازلة المحكوم فيها إذا كانت في معناها.
1482. والقياس وجوه يجمعها القياس ويتفرق(27/481)
ص -513-…بها ابتداء قياس كل واحد منهما أو مصدره أو هما وبعضهما أوضح من بعض.
1483. فأقوى القياس أن يحرم الله في كتابه أو يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم القليل من الشيء فيعلم أن قليله إذا حرم كان كثيرُهُ مثل قليله في التحريم أو أكثر بفضل الكثرة على القلة.
1484. وكذلك إذا حمد على يسير من الطاعة كان ما هو أكثر منها أولى أن يحمد عليه.
1485. وكذلك إذا أباح كثير شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحا.
1486. فإن قال: فاذكر من كل واحد من هذا شيئا يبين لنا ما في معناه ؟(27/482)
ص -514-…1487. قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم من المؤمن دمه وماله وأن يظن به إلا خيرا ".
1488. فإذا حرم أن يظن به ظنا مخالفا للخير يظهره -: كان ما هو أكثر من الظن المظهر ظنا من التصريح له(27/483)
ص -515-…بقول غير الحق أولى أن يحرم ثم كيف ما زيد في ذلك كان أحرم .
1489. قال الله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }. [الزلزلة: 7 :8]
1490. فكان ما هو أكثر من مثقال ذرة من الخير أحمد وما هو أكثر من مثقال ذرة من الشر أعظم في المأثم.
1491. وأباح لنا دماء أهل الكفر المقاتلين غير المعاهدين وأموالهم ولم يحظر علينا منها شيئا أذكره فكان ما نلنا من أبدانهم دون الدماء ومن أموالهم دون كلها -: أولى أن يكون مباحا.
1492. وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمى(27/484)
ص -516-…هذا قياسا ويقول: هذا معنى ما أحل الله وحرم وحمد وذم لأنه داخل في جملته فهو بعينه ولا قياس على غيره.
1493. ويقول مثل هذا القول في غير هذا مما كان في معنى الحلال فأحل والحرام فحرم.
1494. ويمتنع أن يسمى القياس إلا ما كان يحتمل أن يشبه بما احتمل أن يكون فيه شبها من معنيين مختلفين فصرفه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر.
1495. ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النص من الكتاب أو السنة فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم.(27/485)
ص -517-…1496. فإن قال قائل: فاذكر من وجوه القياس ما يدل على اختلافه في البيان والأسباب والحجة فيه سوى هذا الأول الذي تدرك العامة علمه ؟
1497. قيل له إن شاء الله: قال الله { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }.[البقرة: من الآية233]
1498. وقال{ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ }.[البقرة: من الآية233]
1499. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها - وهم ولده - بالمعروف بغير أمره.
1500. قال: فدل كتاب الله وسنة نبيه أن على الوالد رضاع ولده ونفقتهم صغارا.(27/486)
ص -518-…1501. فكان الولد من الوالد فجبر على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسب ولا مال فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته قياسا على الولد.
1502. وذلك أن الولد من الوالد فلا يضيع شيئا هو منه كما لم يكن للولد أن يضيع شيئا من ولده إذ كان الولد منه وكذلك الوالدون وإن بعدوا والولد وإن سفلوا في هذا المعنى والله أعلم، فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف وله النفقة على الغني المحترف.
1503. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد دلس للمبتاع فيه بعيبٍ(27/487)
ص -519-…فظهر عليه بعد ما استغله أن للمبتاع رده بالعيب وله حبس الغلة بضمانه العبد.
1504. فاستدللنا إذا كانت الغلة لم يقع عليها صفقة البيع فيكون لها حصة من الثمن وكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من مال المشتري -: انه إنما جعلها له لأنها حادثة في ملكه وضمانه فقلنا كذلك في ثمر النخل ولبن الماشية وصوفها وأولادها وولد الجارية وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها.
1505. قال: فتفرق علينا بعض أصحابنا وغيرهم في هذا .
1506. فقال: بعض الناس: الخراج والخدمة والمتاع غير الوطء من المملوك والمملوكة لمالكها الذي اشتراها وله ردها بالعيب وقال: لا يكون له أن يرد الأمة بعد أن يطأها وإن كانت ثَيبًا ولا يكون له ثمر النخل ولا لبن الماشية ولا صوفها، ولا(27/488)
ص -520-…ولد الجارية لأن كل هذا من الماشية والجارية والنخل والخراج ليس بشيء من العبد.
1507. فقلت لبعض من يقول هذا القول: أرأيت قولك: الخراج ليس من العبد والثمر من الشجر والولد من الجارية -: أليسا يجتمعان في أن كل واحد منهما كان حادثا في ملك المشتري لم تقع عليه صفقة البيع ؟
1508. قال: بلى، ولكن يتفرقان في أن ما وصل إلى السيد منهما مفترق وتمر النخل منها وولد الجارية والماشية منها وكسب الغلام ليس منه إنما هو شيء تحرف فيه فاكتسبه.(27/489)
ص -521-…1509. فقلت له: أرأيت إن عارضك معارض بمثل حجتك فقال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الخراج بالضمان والخراج لا يكون إلا بما وصفت من التحرف وذلك يشغله عن خدمة مولاه فيأخذ له بالخراج العوض من الخدمة ومن نفقته على مملوكه فإن وهبت له هبة فالهبة لا تشغله عن شيء -: لم تكن لمالكه الآخر وردت إلى الأول ؟
1510. قال: لا، بل تكون للآخر الذي وهبت له وهو في ملكه.
1511. قلت: هذا ليس بخراج هذا من وجه غير الخراج.
1512. قال: وإن فليس من العبد.
1513. قلت: ولكنه يفارق معنى الخراج لأنه من غير وجه الخراج؟(27/490)
ص -522-…1514. قال: وإن كان من غير وجه الخراج فهو حادث في ملك المشتري.
1515. قلت: وكذلك الثمرة والنتاج حادث في ملك المشتري والثمرة إذا باينت النخلة فليست من النخلة قد تباع الثمرة ولا تتبعها النخلة والنخلة ولا تتبعها الثمرة وكذلك نتاج الماشية. والخراج أولى أن يرد مع العبد لأنه قد يتكلف فيه ما تبعه من ثمر النخلة لو جاز أن يرد واحد منهما.
1516. وقال: بعض أصحابنا بقولنا في الخراج ووطء الثيب وثمر النخل وخالفنا في ولد الجارية.
1517. وسواء ذلك كله لأنه حادث في ملك المشتري لا يستقم فيه إلا هذا أو لا يكون لمالك العبد المشتري شيء(27/491)
ص -523-…إلا الخراج والخدمة ولا يكون له ما وهب للعبد ولا ما التقط ولا غير ذلك من شيء أفاده من كنز ولا غيره إلا الخراج والخدمة ولا ثمر النخل ولا لبن الماشية ولا غير ذلك لأن هذا ليس بخراج.
1518. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير -: إلا مثلا بمثل يدا بيد.
1519. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأصناف المأكولة التي شح الناس عليها حتى باعوها كيلاً -: بمعنيين: أحدهما أن يباع(27/492)
ص -524-…منها شيء بمثله أحدهما نقدٌ والآخر دين، والثاني: أن يزاد في واحد منهما شيء على مثله يدا بيد -: كان ما كان في معناها محرما قياسا عليها.
1520. وذلك كل ما أكل مما بيع موزونا لأني وجدتها مجتمعة المعاني في أنها مأكولة ومشروبة والمشروب في معنى المأكول لأنه كله للناس إما قوت وإما غذاء وإما هما ووجدت الناس شحوا عليها حتى باعوها وزنا والوزن أقرب من الإحاطة من الكيل وفي معنى الكيل وذلك مثل العسل والسمن والزيت والسكر وغيره مما يؤكل ويشرب ويباع موزونا.
1521. فإن قال قائل: أفيحتمل ما بيع موزونا أن يقاس(27/493)
ص -525-…على الوزن من الذهب والورق فيكون الوزن بالوزن أولى بأن يقاس من الوزن بالكيل ؟
1522. قيل إن شاء الله له: إن الذي منعنا مما وصفت - من قياس الوزن بالوزن - أن صحيح القياس إذا قست الشيء بالشيء أن تحكم له بحكمه فلو قست العسل والسمن بالدنانير والدراهم -: وكنت إنما حرمت الفضل في بعضها على بعض إذا كانت جنسا واحدا قياسا على الدنانير والدراهم أكان يجوز أن يشتري بالدنانير والدراهم نقدا عسلا وسمنا إلى أجل ؟
1523. فإن قال: يجيزه بما أجازه به المسلمون.(27/494)
ص -526-…1524. قيل إن شاء الله: فإجازة المسلمين له دلتني على أنه غير قياس عليه لو كان قياسا عليه كان حكمه حكمه فلم يحل أن يباع إلا يدا بيد كما لا تحل الدنانير بالدراهم إلا يدا بيد.
1525. فإن قال: أفتجدك حين قسته على الكيل حكمت له حكمه ؟
1526. قلت: نعم، لا أفرق بينه في شيء بحال.
1527. قال: أفلا يجوز أن تشتري مد حنطة نقدا بثلاثة أرطال زيت إلى أجل .(27/495)
ص -527-…1528. قلت: لا يجوز أن يشتري ولا شيء من المأكول والمشروب بشيء من غير صنفه إلى أجل.
1529. حكم المأكول المكيل حكم المأكول الموزون.
1530. قال: فما تقول في الدنانير والدراهم ؟
1531. قلت: محرمات في أنفسها لا يقاس شيء من المأكول عليها لأنه ليس في معناها والمأكول المكيل محرم في نفسه ويقاس به في معناه من المكيل والموزون عليه لأنه في معناه.
1532. فإن قال: فافرق بين الدنانير والدراهم ؟
1533. قلت: لم أعلم مخالفا من أهل العلم في إجازة أن يشتري بالدنانير والدراهم الطعام المكيل والموزون إلى أجل وذلك لا يحل في الدنانير والدراهم وإني لم أعلم منهم مخالفا في أني لو علمت معدنا فأديت الحق فيما خرج منه ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهري -: كان علي في كل سنة أداء زكاتها ولو حصدت(27/496)
ص -528-…طعام أرضي فأخرجت عشره ثم أقام عندي دهره -: لم يكن علي فيه زكاة وفي أني لو استهلكت لرجل شيئا قوم علي دنانير أو دراهم لأنها الأثمان في كل مال لمسلم إلا الديات.
1534. فإن قال: هكذا .
1535. قلت: فالأشياء تتفرق بأقل مما وصفت لك.
1536. ووجدنا عاما في أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جناية الحر المسلم على الحر المسلم خطأ بمائة من الإبل على عاقلة الجاني وعاما فيهم أنها في مضي ثلاث سنين في كل سنة ثلثها وبأسنان معلومة .
1537. فدل على معاني من القياس سأذكر منها إن شاء الله بعض ما يحضرني:(27/497)
ص -529-…1538. إنا وجدنا عاما في أهل العلم أن ما جنى الحر المسلم من جناية عمد أو فساد مال لأحد على نفس أو غيره -: ففي ماله دون عاقلته وما كان من جناية في نفس خطأ فعلى عاقلته .
1539. ثم وجدناهم مجمعين على أن تعقل العاقلة ما بلغ ثلث الدية من جناية في الجراح فصاعدا.
1540. ثم افترقوا فيما دون الثلث: فقال بعض أصحابنا: تعقل العاقلة الموضحة وهي نصف العشر فصاعدا ولا تعقل ما دونها.
1541. فقلت لبعض من قال تعقل نصف العشر ولا تعقل ما دونه: هل يستقيم القياس على السنة إلا بأحد وجهين ؟(27/498)
ص -530-…1542. قال: وما هما ؟
1543. قلت: أن تقول: لما وجدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة قلت به اتباعا فما كان دون الدية ففي مال الجاني ولا تقيس على الدية غيرها لأن الأصل الجاني أولى أن يغرم جنايته من غيره كما يغرمها في غير الخطأ في الجراح وقد أوجب الله على القاتل خطأ دية ورقبة فزعمت أن الرقبة في ماله لأنها من جنايته وأخرجت الدية من هذا المعنى اتباعا وكذلك اتبع في الدية وأصرف بما دونها إلى أن يكون في ماله لأنه أولى أن يغرم ما جنى من غيره وكما أقول في المسح عل الخفين: رخصة -: بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا أقيس عليه غيره.
1544. أو يكون القياس من وجه ثاني ؟
1545. قال: وما هو ؟(27/499)
ص -531-…1546. قلت: إذ أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الجناية خطأ على النفس مما جنى الجاني على غير النفس وما جنى على نفس عمدا فجعل على عاقلته يضمنونها وهي الأكثر -: جعلت على عاقلته يضمنون الأقل من جناية الخطأ لأن الأقل أولى أن يضمنوه عنده من الأكثر أو في مثل معناه.
1547. قال: هذا أولى المعنيين أن يقاس عليه ولا يشبه هذا المسح على الخفين .
1548. فقلت له: هذا كما قلت إن شاء الله وأهل العلم مجمعون على أن تغرم العاقلة الثلث وأكثر وإجماعهم دليل على أنهم قد قاسوا بعض ما هو أقل من الدية بالدية !
1549. قال: أجل .(27/500)
ص -532-…1550. فقلت له: فقد قال صاحبنا: أحسن ما سمعت أن تغرم العاقلة ثلث الدية فصاعدا وحكى أنه الأمر عندهم أفرأيت إن احتج له محتج بحجتين ؟
1551. قال: وما هما ؟
1552. قلت: أنا وأنت مجمعان على أن تغرم العاقلة الثلث فأكثر ومختلفان فيما هو أقل منه وإنما قامت الحجة بإجماعي وإجماعك على الثلث ولا خبر عندك في أقل منه -: ما تقول له؟
1553. قال: أقول: إن إجماعي من غير الوجه الذي ذهبت إليه إجماعي إنما هو قياس على أن العاقلة إذا غرمت الأكثر ضمنت ما هو أقل منه فمن حد لك الثلث أرأيت إن قال لك غيرك: بل تغرم تسعة أعشار ولا تغرم ما دونه ؟
1554. قلت: فإن قال لك: فالثلث يفدح من غرمه،(28/1)
ص -533-…فإنما قلت معه أو عنه لأنه فادح ولا يغرم ما دونه لأنه غير فادح.
1555. قال: أفرأيت من لا مال له إلا درهمين أما يفدحه أن يغرم الثلث والدرهم فيبقى لا مال له ؟أرأيت من له دنيا عظيمة هل يفدحه الثلث ؟
1556. فقلت له: أفرأيت لو قال لك: هو لا يقول لك الأمر عندنا، إلا والأمر مجتمع عليه بالمدينة.(28/2)
ص -534-…1557. قال: والأمر المجتمع عليه بالمدينة أقوى من الأخبار المنفردة ؟! قال فكيف تكلف أن حكي لنا الأضعف من الأخبار المنفردة وامتنع أن يحكي لنا الأقوى اللازم من الأمر المجتمع عليه ؟!
1558. قلنا: فإن قال لك قائل: لقلة الخبر وكثرة الإجماع عن أن يحكى وأنت قد تصنع مثل هذا فتقول: هذا أمر مجتمع عليه !
1559. قال: لست أقول ولا أحد من أهل العلم هذا مجتمع عليه -: إلا لما تلقى عالما أبدا إلا قاله لك وحكاه عن من قبله كالظهر أربع وكتحريم الخمر وما أشبه هذا وقد أجده(28/3)
ص -535-…يقول المجمع عليه وأجد من المدينة من أهل العلم كثيرا يقولون بخلافه وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول المجتمع عليه.
1560. قال: فقلت له: فقد يلزمك في قولك لا تعقل ما دون الموضحة مثل ما لزمه في الثلث.
1561. فقال لي: إن فيه علة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء.
1562. فقلت له: أفرأيت إن عارضك معارض فقال: لا اقضي فيما دون الموضحة بشيء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض فيه بشيء ؟
1563. قال: ليس ذلك له وهو إذا لم يقض فيما دونها بشيء فلم يهدر ما دونها من الجراح .(28/4)
ص -536-…1564. قال: وكذلك يقول لك: وهو إذا لم يقل لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة فلم يحرم أن تعقل العاقلة ما دونها ولو قضى في الموضحة ولم يقض فيما دونها على العاقلة ما منع ذلك العاقلة أن تغرم ما دونها إذا غرمت الأكثر غرمت الأقل كما قلنا نحن وأنت و احتججت على صاحبنا ولو جاز هذا لك جاز عليك.
1565. ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف العشر على العاقلة -: أن يقول قائل: تغرم نصف العشر والدية ولا تغرم ما بينهما ويكون ذلك في مال الجاني ؟! ولكن هذا غير جائز لأحد والقول فيه: أن جميع ما كان خطأ فعلى العاقلة وإن كان درهما.
1566. وقلت له: قد قال بعض أصحابنا: إذا جنى الحر على العبد جناية فأتى على نفسه أو ما دونها خطأ فهي في ماله دون(28/5)
ص -537-…عاقلته ولا تعقل العاقلة عبدا فقلنا هي جناية حر وإذا قضى رسول الله أن عاقلة الحر تحمل جنايته في حر إذا كانت غرما لا حقا بجناية خطإ وكذلك جنايته في العبد إذا كانت غرما من خطإ والله أعلم وقلت بقولنا فيه، وقلت: من قال لا تعقل العاقلة عبدا احتمل قوله لا تعقل جناية عبد لأنها في عنقه دون مال سيده غيره فقلت بقولنا ورأيت ما احتججت به من هذا حجة صحيحة داخلة في معنى السنة ؟
1567. قال: أجل
1568. قال: وقلت له: وقال صاحبك وغيره من(28/6)
ص -538-…أصحابنا: جراح العبد في ثمنه كجراح الحر في ديته ففي عينه نصف ثمنه وفي موضحته نصف عشر ثمنه وخالفتنا فيه فقلت: في جراح العبد ما نقص من ثمنه.
1569. قال: فأنا أبدأ فأسألك عن حجتك في قول جراح العبد في ديته -: أخبرا قلته أم قياسا ؟
1570. قلت: أما الخبر فيه فعن سعيد بن المسيب.
1571. قال: فاذكره ؟
1572. قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال: عقل العبد في ثمنه فسمعته منه كثيرا هكذا،(28/7)
ص -539-…وربما قال: كجراح الحر في ديته قال ابن شهاب: فإن ناسا يقولون: يُقوِّم سلعة.
1573. فقال: إنما سألتك خبرا تقوم به حجتك.
1574. فقلت: قد أخبرتك أني لا أعرف فيه خبرا عن أحد أعلى من سعيد بن المسيب.
1575. قال: فليس في قوله حجة.
1576. قال: وما ادعيت ذلك فترده علي!
1577. قال: فاذكر الحجة فيه ؟
1578. قلت: قياسا على الجناية على الحر.
1579. قال: قد يفارق الحر في أن دية الحر مؤقتة،(28/8)
ص -540-…وديته ثمنه فيكون بالسلع من الإبل والدواب وغير ذلك أشبه لأن في كل واحد منهما ثمنه ؟
1580. فقلت: فهذا حجة لمن قال لا تعقل العاقلة ثمن العبد -:عليك .
1581. قال: ومن أين ؟
1582. قال: يقول لك: لم قلت تعقل العاقلة ثمن العبد إذا جنى عليه الحر قيمته وهو عندك بمنزلة الثمن ؟ ولو جنى على بعير جناية ضمنها في ماله ؟
1583. قال: فهو نفس محرمة.
1584. قلت: والبعير نفس محرمة على قاتله ؟
1585. قال ليست كحرمة المؤمن.
1586. قلت: ويقول لك: ولا العبد كحرمة الحر في كل أمره.(28/9)
ص -541-…1587. فقلت: فهو عندك مجامع الحر في هذا المعنى أفتعقله العاقلة ؟
1588. قال: ونعم.
1589. قلت: وحكم الله في المؤمن يقتل خطأ بدية وتحرير رقبة ؟
1590. قال: نعم.
1591. قلت: وزعمت أن في العبد تحرير رقبة كهي في الحر وثمنا وأن الثمن كالدية ؟
1592. قال: نعم.
1593. قلت: وزعمت أنك تقتل الحر بالعبد ؟
1594. قال: نعم.(28/10)
ص -542-…1595. قلت: وزعمنا أنا نقتل العبد بالعبد ؟
1596. قال: وأنا أقوله
1597. قلت: فقد جامع الحر في هذه المعاني عندنا وعندك في أن بينه وبين المملوك مثله قصاصا في كل جرح وجامع البعير في معنى أن ديته ثمنه فكيف اخترت في جراحته أن تجعلها كجراحة بعير فتجعل فيه ما نقصه ولم تجعل جراحته في ثمنه كجراح الحر في ديته ؟ وهو يجامع الحر في خمسة معاني ويفارقه في معنى واحد ؟ أليس أن تقيسه على ما يجامعه في خمسة معاني أولى بك من أن تقيسه على جامعه على معنى واحد ؟! مع أنه يجامع الحر في أكثر من هذا : أن ما حرم على الحر حرم عليه وأن عليه الحدود والصلاة والصوم وغيرها من الفرائض وليس من البهائم بسبيل!!
1598. قال: رأيت ديته ثمنه ؟(28/11)
ص -543-…1599. قلت: وقد رأيت دية المرأة نصف دية الرجل فما منع ذلك جراحها أن تكون في ديتها كما كانت جراح الرجل في ديته ؟!
1600. وقلت له: إذا كانت الدية في ثلاث سنين إبلا أفليس قد زعمت أن الإبل لا تكون بصفة دينا ؟ فكيف أنكرت أن تشتري الإبل بصفة إلى أجل ؟ ولم تقسه على الدية ولا على الكتابة ولا على المهر وأنت تجيز في هذا كله أن تكون الإبل بصفة دينا ؟ فخالفت فيه القياس وخالفت الحديث نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه استسلف بعيرا ثم أمر بقضائه بعد ؟!(28/12)
ص -544-…1601. قال: كرهه ابن مسعود.
1602. فقلنا: وفي أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة ؟
1603. قال: لا، إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
1604. قلت: هو ثابت باستسلافه بعيرا وقضاه خيرا منه وثابت في الديات عندنا وعندك هذا في معنى السنة.
1605. قال: فما الخبر الذي يقاس عليه ؟
1606. قلت: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع:" أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بعيرا فجاءته إبل فأمرني أن أقضيه إياه فقلت: لا أجد في الإبل إلا جملا خيارا، فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء ".(28/13)
ص -545-…1607. قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟
1608. قلت: ما كان لله في حكم منصوص ثم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بتخفيف في بعض الفرض دون بعض -: عمل بالرخصة فيما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما سواها ولم يقس ما سواها عليها وهكذا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حكم عام بشيء ثم سن فيه سنة تفارق حكم العام.
1609. قال: وفي مثل ماذا ؟
1610. قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه فقال: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }.[المائدة: من الآية6]
1611. فقصد الرجلين بالفرض كما قصد قصد ما سواهما في أعضاء الوضوء .(28/14)
ص -546-…1612. فلما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين لم يكن لنا - والله أعلم - أن نمسح على عمامة ولا برفع ولا قفازين -: قياسا عليهما وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها وأرخصنا بمسح النبي في المسح على الخفين دون ما سواهما.
1613. قال: فتعد هذا خلافا للقرآن ؟
1614. قلت: لا تخالف سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله بحال.
1615. قال: فما معنى هذا عندك ؟
1616. قلت: معناه أن يكون قصد بفرض إمساس القدمين من لا خفي عليه لبسهما كامل الطهارة.
1617. قال: أو يجوز هذا في اللسان ؟
1618. قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من هو(28/15)
ص -547-…على وضوء فلا يكون المراد بالوضوء استدلالا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين وصلوات بوضوء واحد.
1619. وقال الله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.[المائدة:38]
1620. فدلت السنة على أن الله لم يرد بالقطع كل السارقين.
1621. فكذلك دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح أنه قصد بالفرض في غسل القدمين من لا خفي عليه لبسهما كامل الطهارة.
1622. قال: فما مثل هذا في السنة ؟
1623. قلت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا مثلا بمثل. و" سئل عن الرطب بالتمر ؟ فقال: أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقيل: نعم، فنهى عنه ".و" نهى عن المزابنة " وهي كل ما عرف كيله مما فيه ربا من الجنس الواحد بجزاف لا يعرف كيله منه وهذا كله مجتمع المعاني." ورخص أن تباع العرايا بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا "(28/16)
ص -548-…1624. فرخصنا في العرايا بإرخاصه وهي بيع الرطب بالتمر وداخلة في المزابنة بإرخاصه فأثبتنا التحريم محرما عاما في كل شيء من صنف واحد مأكول بعضه جزاف بعضه بكيل -: للمزابنة وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حرم ولم نبطل أحد الخبرين بالآخر ولم نجعله قياسا عليه.
1625. قال: فما وجه هذا ؟
1626. قلت: يحتمل وجهين أولاهما به عندي - والله أعلم - أن يكون ما نهى عنه جملة أراد به ما سوى العرايا ويحتمل أن يكون أرخص فيها بعد وجوبها في جملة النهي وأيهما كان فعلينا طاعته بإحلال ما أحل وتحريم ما حرم.(28/17)
ص -549-…1627. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في الحر المسلم يقتل خطأ مائة من الإبل وقضى بها على العاقلة.
1628. وكان العمد يخالف الخطأ في القود والمأثم ويوافقه في أنه قد تكون فيه دية.
1629. فلما كان قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل امرئ فيما لزمه إنما هو في ماله دون مال غيره إلا في الحر يقتل خطأ قضينا على العاقلة في الحر يقتل خطأ -: ما قضى به رسول الله وجعلنا الحر يقتل عمدا إذا كانت فيه دية -: في مال الجاني كما كان كل ما جنى في ماله غير الخطأ ولم نقس ما لزمه من غرم بغير جراح خطإ على ما لزمه بقتل الخطأ.
1630. فإن قال قائل: وما الذي يغرم الرجل من جنايته وما لزمه غير الخطأ ؟(28/18)
ص -550-…1631. قلت: قال الله: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }.[النساء: من الآية4]
1632. وقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }.[البقرة: من الآية43]
1633. وقال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }.[البقرة: من الآية196]
1634. وقال: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }.[القصص: من الآية3]
1635. وقال: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [المائدة:95](28/19)
ص -551-…1636. وقال: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ }.[المائدة: من الآية89]
1637. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على: " أن على أهلها الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها ".
1638. فدل الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه -: أن هذا كله في مال الرجل بحق وجب عليه لله أو أوجبه الله عليه للآدميين بوجوه لزمته وأنه لا يكلف أحد غرمه عنه .
1639. ولا يجوز أن يجني رجل ويغرم غير الجاني إلا في الموضع الذي سنه رسول الله فيه خاصة من قتل الخطأ وجنايته على الآدميين خطأ.(28/20)
ص -552-…1640. والقياس فيما جنى على بهيمة أو متاع أو غيره - على ما وصفت -: أن ذلك في ماله لأن الأكثر المعروف أن ما جنى في ماله فلا يقاس على الأقل ويترك الأكثر المعقول ويخص الرجل الحر يقتل الحر الخطأ فتعقله العاقلة وما كان من جناية خطأ على نفس وجرح -: خبرا وقياسا
1641. وقضى رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة وقوم أهل العلم الغرة خمسا من الإبل.
1642. قال: فلما لم يحكا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الجنين: أذكر هو أم أنثى ؟ إذ قضى فيه -: سَوَّى بين الذكر والأنثى(28/21)
ص -553-…إذا سقط ميتا ولو سقط حيا فمات جعلوا في الرجل مائة من الإبل وفي المرأة خمسين .
1643. فلم يجز أن يقاس على الجنين شيء من قبل أن الجنايات على من عرفت جنايته موقتات معروفات مفروق فيها بين الذكر والأنثى. وأن لا يختلف الناس في أن لو سقط الجنين حيا ثم مات كانت فيه دية كاملة إذا كان ذكرا فمائة من الإبل وإن كانت أنثى فخمسون من الإبل وأن المسلمين - فيما علمت - لا يختلفون أن رجلا لو قطع الموتى لم يكن في واحد منهم دية ولا أرش والجنين لا يعدو أن يكون حيا أو ميتا.
1644. فلما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم فارق حكم النفوس الأحياء والأموات وكان مغيب الأمر -:كان الحكم بما حكم به على الناس اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .(28/22)
ص -554-…1645. قال: فهل تعرف له وجها ؟
1646. قلت: وجها واحدا، والله أعلم.
1647. قال: وما هو ؟
1648. قلت: يقال: إذا لم تعرف له حياة وكان لا يصلي عليه ولا يرث -: فالحكم فيه أنها جناية على أمه وقَّتَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قومه المسلمون كما وقَّت في الموضحة.
1649. قال: فهذا وجه .
1650. قلت: وجه لا يبين الحديث أنه حكم به له فلا يصح أن يقال إنه حكم به له ومن قال إنه حكم به لهذا المعنى قال: هو للمرأة دون الرجل هو للأم دون أبيه لأنه عليها جني ولا حكم للجنين يكون به موروثا ولا يورث من لا يرث.
1651. قال: فهذا قول صحيح ؟(28/23)
ص -555-…1652. قلت: الله أعلم.
1653. قال: فإن لم يكن هذا وجه فما يقال لهذا الحكم ؟
1654. قلنا: يقال له: سنة تعبد العباد بأن يحكموا بها.
1655. وما يقال لغيره مما يدل الخبر على المعنى الذي له حكم به ؟
1656. قيل: حكم سنة تعبدوا بها لأمر عرفوه بمعنى الذي تعبدوا له في السنة فقاسوا عليه ما كان في مثل معناه.
1657. قال: فاذكر منه وجها غير هذا إن حضرك تجمع فيه ما يقاس عليه ولا يقاس ؟(28/24)
ص -556-…1658. فقلت له: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصراة من الإبل والغنم إذا حلبها مشتريها: " إن أحب أمسكها وإن أحب ردها وصاعا من تمر ". وقضى" أن الخراج بالضمان ".
1659. فكان معقولا في الخراج بالضمان أني إذا ابتعت عبدا فأخذت له خراجا ثم ظهرت منه على عيب يكون لي رده -: فما أخذت من الخراج والعبد في ملكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى:(28/25)
ص -557-…أنها في ملكي وفي الوقت الذي خرج فيه العبد من ضمان بائعه إلى ضماني فكان العبد لو مات مات من مالي وفي ملكي ولو شئت حبسته بعيبه فكذلك الخراج.
1660. فقلنا: بالقياس على حديث " الخراج بالضمان "، فقلنا: كل ما خرج من ثمر حائط اشتريته أو ولد ماشية أو جارية اشتريتها -: فهو مثل الخراج لأنه حدث في ملك مشتريه لا في ملك بائعه.
1661. وقلنا: في المصراة اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نقس عليه وذلك أن الصفقة وقعت على شاة بعينها فيها لبن محبوس مغيب المعنى والقيمة ونحن نحيط أن لبن الإبل والغنم يختلف وألبان كل واحد منهما يختلف فلما قضى فيه رسول الله بشيء مؤقت وهو صاع من تمر -: قلنا به اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم(28/26)
ص -558-…1662. قال: فلو اشترى رجل شاة مصراة فحلبها ثم رضيها بعد العلم بعيب التصرية فأمسكها شهرا حلبها ثم ظهر منها على عيب دلَّسه له البائع غير التصرية -: كان له ردها وكان له اللبن بغير شيء بمنزلة الخراج لأنه لم يقع عليه صفقة البيع وإنما هو حادث في ملك المشتري وكان عليه أن يرد فيما أخذ من لبن التصرية صاعا من تمر كما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
1663. فنكون قد قلنا في لبن التصرية خبرا وفي اللبن بعد التصرية قياسا على " الخراج بالضمان ".
1664. ولبن التصرية مفارق للبن الحادث بعده لأنه وقعت عليه صفقة البيع واللبن بعده حادث في ملك المشتري لم تقع عليه صفقة البيع.
1665. فإن قال قائل: ويكون أمر واحد يؤخذ من وجهين ؟
1666. قيل له: نعم إذا جمع أمرين مختلفين أو أمورا مختلفة.(28/27)
ص -559-…1667. فإن قال: فمثل من ذلك شيئا غير هذا ؟
1668. قلت: المرأة تبلغها وفاة زوجها فتعتد ثم تتزوج ويدخل بها الزوج لها الصداق وعليها العدة والولد لاحق ولا حد على واحد منهما ويفرق بينهما ولا يتوارثان وتكون الفرقة فسخا بلا طلاق.
1669. يحكم له إذا كان ظاهره حلالاً حكم الحلال في ثبوت الصداق والعدة ولحوق الولد ودرء الحد وحكم عليه إذ كان حراما في الباطن حكم الحرام في أن لا يقرا عليه ولا تحل له إصابتها بذلك النكاح إذا علما به ولا يتوارثان ولا يكون الفسخ طلاقا لأنها ليست بزوجة.
1670. ولهذا أشباه مثل المرأة تنكح في عدتها.(28/28)
ص -560-…باب الاختلاف
1671. قال: فإني أجد أهل العلم قديما وحديثا مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك ؟
1672. قال: فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم ولا أقول ذلك في الآخر.
1673. قال: فما الاختلاف المحرم ؟
1674. قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم منصوصا بينا -: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
1675. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره -: لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص.(28/29)
ص -561-…1676. قال: فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين ؟
1677. قلت: قال الله في ذم التفرق: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ }.[البينة:4]
1678. وقال جل ثناؤه: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ }.[آل عمران: من الآية105]
1679. فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات.
1680. فأما ما كلفوا فيه الاجتهاد فقد مثلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها.
1681. قال: فمثل لي بعض ما افترق عليه من روي قوله من السلف مما لله فيه نص حكم يحتمل التأويل فهل يوجد على الصواب فيه دلالة ؟(28/30)
ص -562-…1682. قلت: قلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله أو قياسا عليهما أو على واحد منهما.
1683. قال: فاذكر منه شيئا ؟
1684. فقلت له: قال الله: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}.[البقرة: من الآية228]
1685. فقالت عائشة:" الأقراء الأطهار "، وقال بمثل معنى قولها زيد بن ثابت وابن عمر وغيرهما.
1686. وقال نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :" الأقراء الحِيَضُ " فلا يحلوا المطلقة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.(28/31)
ص -563-…1687. قال: فإلى أي شيء ترى ذهب هؤلاء وهؤلاء ؟
1688. قلت: يتجمع الأقراء أنها أوقات والأوقات في هذا علامات تمر على المطلقات تحبس بها عن النكاح حتى تستكملها.
1689. وذهب من قال" الأقراء الحيض " - فيما نرى والله أعلم - إلى أن قال: إن المواقيت أقل الأسماء لأنها أوقات والأوقات أقل مما بينها كما حدود الشيء أقل مما بينها، والحيض(28/32)
ص -564-…أقل من الطهر فهو في اللغة أولى للعدة أن يكون وقتا كما يكون الهلال وقتا فاصلا بين الشهرين.
1690. ولعله ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في سبي أوطاس أن يستبرين قبل أن يوطين بحيضة فذهب إلى أن العدة استبراء وأن الاستبراء حيض وأنه فرق بين استبراء الأمة والحرة، وأن الحرة تستبرأ بثلاث حيض كوامل تخرج منها إلى الطهر كما تستبرأ الأمة بحيضة كاملة تخرج منها إلى الطهر.
1691. فقال: هذا مذهب فكيف اخترت غيره والآية محتملة للمعنيين عندك ؟(28/33)
ص -565-…1692. قال: فقلت له: إن الوقت برؤية الأهلة إنما هو علامة جعلها الله للشهور والهلال غير الليل والنهار وإنما هو جماع لثلاثين وتسع وعشرين كما يكون الهلال الثلاثون والعشرون جماعا يستأنف بعده العدد وليس له معنى هنا وأن القرء وإن كان وقتا فهو من عدد الليل والنهار والحيض والطهر(28/34)
ص -566-…في الليل والنهار من العدة وكذلك شبه الوقت بالحدود وقد تكون داخلة فيما حدت به وخارجة منه غير بائن منها فهو وقت معنى.
1693. قال: وما المعني ؟
1694. قلت: الحيض هو أن يرخى الرحم الدم حتى يظهر والطهر أن يقري الرحم الدم فلا يظهر ويكون الطهر والقري(28/35)
ص -567-…الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتا - أولى في اللسان بمعنى القرء لأنه حبس الدم.
1695. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر حين طلَّق عبد الله بن عمر امرأته حائضا أن يأمره برجعتها وحبسها حتى تطهر ثم يطلقها طاهرا من غير جماع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ".
1696. يعني قول الله - والله أعلم –: { ذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.[الطلاق: من الآية1] فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العدة الطهر دون الحيض.(28/36)
ص -568-…1697. وقال الله: { ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }وكان على المطلقة أن تأتي بثلاثة قروء فكان الثالث لو أبطأ عن وقته زمانا لم تحل حتى يكون أو تويس من المحيض أو يخاف ذلك عليها فتعتد بالشهور لم يكن للغسل معنى لأن الغسل رابع غير ثلاثة ويلزم من قال " الغسل عليها " أن يقول: لو أقامت سنة وأكثر لا تغتسل لم تحل!!(28/37)
ص -569-…1698. فكان قول من قال:" الأقراء الأطهار " أشبه بمعنى كتاب الله واللسان واضح على هذه المعاني، والله اعلم.(28/38)
ص -571-…1699. فأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبرأ السَبيُ بحيضة فبالظاهر لأن الطهر إذا كان متقدما للحيضة ثم حاضت الأمة حيضة كاملة صحيحة برئت من الحبل في الطهر وقد ترى الدم فلا يكون صحيحا إنما يصح حيضة بأن تكمل الحيضة فباي شيء من الطهر كان قبل حيضة كاملة فهو براءة من الحبل في الظاهر.
1700. والمعتدة تعتد بمعنيين: استبراء، ومعنى غير(28/39)
ص -572-…استبراء مع استبراء فقد جاءت بحيضتين وطهرين وطهر ثالث فلو أريد بها الاستبراء كانت قد جاءت بالاستبراء مرتين ولكنه أريد بها مع الاستبراء التعبد.
1701. قال: أفتوجدوني في غير هذا ما اختلفوا فيه مثل هذا ؟
1702. قلت: نعم، وربما وجدناه أوضح وقد بينا بعض هذا فيما اختلفت الرواية فيه من السنة وفيه دلالة لك على ما سألت عنه وما كان في معناه، إن شاء الله.
1703. وقال الله: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }.[البقرة: من الآية228]
1704. وقال: { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }.[الطلاق: من الآية4](28/40)
ص -573-…1705. وقال: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }.[البقرة: من الآية234]
1706. فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذكر الله المطلقات أن عدة الحوامل أن يضعن حملهن وذكر في المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا فعلى الحامل المتوفى عنها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا وان تضع حملها حتى تأتي بالعدتين معا إذا لم يكن وضع الحمل انقضاء العدة نصا إلا في الطلاق.
1707. كأنه يذهب إلى أن وضع الحمل براءة وأن الأربعة الأشهر وعشرا تعبد وأن المتوفى عنها تكون غير مدخول بها فتاتي بأربعة أشهر وانه وجب عليها شيء من وجهين،(28/41)
ص -574-…فلا تسقط أحدهما كما لو وجب عليها حقان لرجلين لم يسقط أحدهما حق الآخر وكما إذا نكحت في عدتها وأصيبت اعتدت من الأول واعتدت من الآخر.
1708. قال: وقال غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا وضعت ذا بطنها فقد حلت ولو كان زوجها على السرير.
1709. قال الشافعي: فكانت الآية محتملة المعنيين معا، وكان أشبههما بالمعقول الظاهر أن يكون الحمل انقضاء العدة.
1710. قال: فدلت سنة رسول الله على أن وضع الحمل آخر العدة في الموت مثل معناه الطلاق.
1711. أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن(28/42)
ص -575-…عبد الله عن أبيه: " أن سُبَيْعَة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فمر بها أبو السنابل بن بعكك، فقال: قد تصنعت للأزواج! إنها أربعة أشهر وعشرا ! فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كذب أبو السنابل أو ليس كما قال أبو السنابل قد حللت فتزوجي ".(28/43)
ص -576-…1712. فقال: أما ما دلت عليه السنة فلا حجة في أحد خالف قوله السنة ولكن اذكر من خلافهم ما ليس فيه نص سنة مما دل عليه القرآن نصا واستنباطا أو دل عليه القياس ؟
1713. فقلت له: قال الله: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ(28/44)
ص -577-…تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:226 :227]
1714. فقال الأكثر ممن روي عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وقف المولى فإنا أن يفىء وإما أن يطلق.
1715. وروي عن غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.(28/45)
ص -578-…1716. ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا - بأبي هو وأمي – شيئا.
1717. قال: فأي القولين ذهبت ؟
1718. قلت: ذهبت إلى أن المولى لا يلزمه طلاق وأن امرأته إذا طلبت حقها منه لم أعرض له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر قلت له: فئ أو طلق والفيئة الجماع.
1719. قال: فكيف اخترته على القول الذي يخالفه ؟
1720. قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول.
1721. قال: وما دل عليه من كتاب الله ؟(28/46)
ص -579-…1722. قلت: لما قال الله: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ }.[البقرة: من الآية226] -: كان الظاهر في الآية أن من أنظره الله أربعة أشهر في شيء لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر.
1723. قال: فقد يحتمل أن يكون الله عز وجل جعل له أربعة أشهر يفىء فيها كما تقول: قد أجلتك في بناء هذه الدار أربعة أشهر تفرغ فيها منها ؟
1724. قال: فقلت له: هذا لا يتوهمه من خوطب به حتى يشترط في سياق الكلام ولو قال: قد أجلتك فيها أربعة أشهر - كان إنما أجله أربعة أشهر لا يجد عليه سبيلا حتى تنقضي ولم يفرغ منها فلا ينسب إليه أن لم يفرغ من الدار وأنه أخلف في الفراغ منها ما بقي من الأربعة أشهر شيء فإذا لم يبقى منها شيء لزمه اسم الخلف وقد يكون في بناء الدار دلالة على أن يقارب(28/47)
ص -580-…الأربعة وقد بقى منها ما يحيط العلم أنه لا يبنيه فيما بقى من الأربعة
1725. وليس في الفيئة دلالة على أن لا يفئ الأربعة إلا مضيها لان الجماع يكون في طرفة عين فلو كان على ما وصفت تزايل حاله حتى تمضي أربعة أشهر ثم تزايل حالة الأولى فإذا زايلها صار إلى أن الله عليه حقا فإما أن يفئ وإما أن يطلق.
1726. فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غير ما ذهبت إليه كان قوله أولاهما بها لما وصفنا لأنه ظاهرها.
1727. والقرآن على ظاهره حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر.(28/48)
ص -581-…1728. قال: فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفت ؟
1729. قلت: لما ذكر الله عز وجل أن للمولى أربعة أشهر ثم قال: { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }. [البقرة: من الآية226 :227] فذكر الحكمين معا بلا فصل بينهما -: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة أشهر لأنه إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد فلا يتقدم واحد منهما صاحبه وقد ذكر في وقت واحد كما يقال له في الرهن أفده أو نبيعه عليك بلا فصل وفي كل ما خير فيه: افعل كذا أو كذا بلا فصل.
1730. ولا يجوز أن يكونا ذكرا بلا فصل فيقال الفيئة فيما بين أن يولي أربعة أشهر وعزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر فيكونان حكمين ذكرا معا يفسح في أحدهما ويضيق في الآخر.(28/49)
ص -582-…1731. قال: فأنت تقول: إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة ؟
1732. قلت: نعم، كما أقول: إن قضيت حقا عليك إلى أجل قبل محله فقد برئت منه وأنت محسن متسرع بتقديمه قبل يحل عليك
1733. فقلت له: أرأيت من الإثم كان مُزْمِعًا على الفيئة في كل يوم إلا أنه لم يجامع حتى تنقضي أربعة أشهر ؟
1734. قال: فلا يكون الإجماع على الفيئة شيء حتى يفىء والفيئة الجماع إذا كان قادرا عليه.
1735. قلت: ولو جامع لا ينوي فيئة خرج من طلاق الإيلى ! لأن المعنى في الجماع ؟(28/50)
ص -583-…1736. قال: نعم .
1737. قلت: وكذلك لو كان عازما على أن لا يفىء يحلف في كل يوم ألا يفىء ثم جامع قبل مضي الأربعة الأشهر بطرفة عين -: خرج من طلاق الإيلى ؟ وإن كان جماعه لغير الفيئة خرج به من طلاق الإيلى ؟
1738. قال: نعم.
1739. قلت: ولا يصنع عزمه على ألا يفئ ؟ولا يمنعه جماعه بلذة لغير الفيئة إذا جاء بالجماع -: من أن يخرج به من طلاق الإيلى عندنا وعندك ؟
1740. قال: هذا كما قلت، وخروجه بالجماع على أي معنى كان الجماع.(28/51)
ص -584-…1741. قلت: فكيف يكون عازما على أن لا يفئ في كل يوم فإذا مضت أربعة أشهر لزمه الطلاق وهو لم يعزم عليه ولم يتكلم به؟ أترى هذا قولا يصح في العقول لأحد ؟!
1742. قال: فما يفسده من قبل العقول ؟
1743. قلت: أرأيت إذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربك أبدا -: أهو كقوله: أنت طالق إلى أربعة أشهر ؟
1744. قال: إن قلت نعم ؟
1745. قلت: فإن جامع قبل الأربعة ؟
1746. قال: فلا، ليس مثل قوله أنت طالق إلى أربعة أشهر.
1747. قال: فتكلم المولى بالإيلى ليس هو طلاق،(28/52)
ص -585-…إنما هي يمين ثم جاءت عليها مدة جعلتها طلاقا أيجوز لأحد يعقل من حيث يقول أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم ؟!
1748. قال: فهو يدخل عليك مثل هذا.
1749. قلت: وأين ؟
1750. قال: أنت تقول: إذا مضت أربعة أشهر وقف فإن فاء وإلا جُبِر على أن يطلق.
1751. قلت: ليس من قبل أن الإيلى طلاق ولكنها يمين جعل الله لها وقتا منع بها الزوج من الضرار وحكم عليه إذا كانت أن جعل عليه إما أن يفىء وإما أن يطلق وهذا حكم حادث بمضي أربعة الأشهر غير الإيلى ولكنه مؤتنف يجبر صاحبه على أن يأتي بأيهما شاء: فيئة أو طلاق، فإن امتنع(28/53)
ص -586-…منهما أخذ منه الذي يقدر على أخذه منه وذلك أن يطلق عليه لأنه لا يحل أن يجامع عنه !!
1752. واختلفوا في المواريث: فقال زيد بن ثابت ومن ذهب مذهبه: يعطى كل وارث ما سمي له فإن فضل فضل ولا عصبة للميت ولا ولاء -: كان ما بقي لجماعة المسلمين .
1753. وعن غيره منهم: أنه كان يرد فضل المواريث على ذوي الأرحام فلو أن رجلا ترك أخته ورثته النصف ورد عليها النصف.(28/54)
ص -587-…1754. فقال: بعض الناس: لِمَ لَمْ ترد فضل المواريث ؟
1755. قلت: استدلالاً بكتاب الله.
1756. قال: وأين يدل كتاب الله على ما قلت ؟
1757. قلت: قال الله: { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } .[النساء: من الآية176]
1758. وقال: { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ }.[النساء: من الآية176]
1759. فذكر الأخت منفردة فانتهى بها - جل ثناؤه - إلى النصف والأخ منفردا فانتهى به إلى الكل وذكر الأخوة والأخوات فجعل للأخت نصف ما للأخ.
1760. وكان حكمه - جل ثناؤه - في الأخت منفردة ومع الأخ سواء بأنها لا تساوي الأخ وأنها تأخذ النصف مما يكون له من الميراث.
1761. فلو قلت في رجل مات وترك أخته: لها النصف(28/55)
ص -588-…بالميراث وأردد عليها النصف -: كنت قد أعطيتها الكل منفردة وإنما جعل الله لها النصف في الانفراد والاجتماع.
1762. فقال: فإني لست أعطيها النصف الباقي ميراثا إنما أعطيها إياه ردا.
1763. قلت: وما معنى رد ؟! أشيء استحسنته، وكان إليك أن تضعه حيث شئت ؟ فإن شئت أن تعطيه جيرانه أو بعيد النسب منه أيكون ذلك لك ؟!
1764. قال: ليس ذلك للحاكم ولكن جعلته ردا عليها بالرحم.
1765. ميراثا ؟
1766. قال: فإن قلته ؟
1767. قلت: إذن تكون ورثتها غير ما ورثها الله.(28/56)
ص -589-…1768. قال: فأقول: لك ذلك لقول الله: { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }.[الأنفال: من الآية75]
1769. فقلت له: { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } نزلت بأن الناس توارثوا بالحلف ثم توارثوا بالإسلام والهجرة فكان المهاجر يرث المهاجر ولا يرثه من ورثته من لم يكن مهاجرا وهو أقرب إليه ممن ورثه فنزلت { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ }الآية على ما فرض لهم.
1770. قال: فاذكر الدليل على ذلك ؟
1771. قلت: { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى(28/57)
ص -590-…بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } -:على ما فرض لهم ألا ترى أن من ذوي الأرحام من يرث ومنهم من لا يرث ؟ وأن الزوج يكون أكثر ميراثا من أكثر ذوي الأرحام ميراثا ؟وأنك لو كنت إنما تورث بالرحم كانت رحم البنت من الأب كرحم الابن ؟وكان ذوو الأرحام يرثون معا ويكونون أحق من الزوج الذي لا رحم له ؟!
1772. ولو كانت الآية كما وصفت كنت قد خالفتها فيما ذكرنا في أن يترك أخته ومواليه فتعطى أخته النصف ومواليه النصف وليسوا بذوي أرحام ولا مفروض لهم في كتاب الله فرض منصوص.(28/58)
ص -591-…1773. واختلفوا في الجد: فقال: زيد بن ثابت وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود: يورث معه الإخوة.
1774. وقال أبو بكر الصديق وابن عباس وروي عن عائشة وابن الزبير وعبد الله بن عتبة: أنهم جعلوه أبا وأسقطوا الإخوة معه.
1775. فقال: فكيف صرتم إلى أن ثبتم ميراث الإخوة مع الجد ؟ أبِدِلالة من كتاب الله أو سنة ؟
1776. قلت: أما شيء مبين في كتاب الله أو سنة فلا أعلمه.
1777. قال: فالأخبار متكافئة والدلائل بالقياس مع من جعله أبا وحجب به الأخوة.(28/59)
ص -592-…1778. قلت: وأين الدلائل ؟
1779. قال: وجدت اسم الأبوة تلزمه ووجدتكم مجتمعين على أن تحجبوا به بني الأم ووجدتكم لا تنقصونه من السدس وذلك كله حكم الأب.
1780. فقلت له: ليس باسم الأبوة فقط نورثه.
1781. قال: وكيف ذلك ؟
1782. قلت: أجد اسم الأبوة يلزمه وهو لا يرث.
1783. قال: وأين ؟
1784. قلت: قد يكون دونه أب واسم الأبوة تلزمه وتلزم آدم وإذا كان دون الجد أب لم يرث ويكون مملوكا وكافرا وقاتلا فلا يرث واسم الأبوة في هذا كله لازم له فلو كان باسم الأبوة فقط يرث ورث في هذه الحالات.(28/60)
ص -593-…1785. وأما حجبنا به بني الأم فإنما حجبناهم به خبرا لا باسم الأبوة وذلك: أنا نحجب بني الأم ببنت بن بن متسفلة.
1786. وأما أنا لم ننقصه من السدس فلسنا ننقص الجدة من السدس.
1787. وإنما فعلنا هذا كله اتباعا لا أن حكم الجد إذ وافق حكم الأب في معنى كان مثله في كل معنى ولو كان حكم الجد إذا وافق حكم الأب في بعض المعاني كان مثله في كل المعاني -: كانت بنت الابن المتسفلة موافقة له فإنا نحجب بها بني(28/61)
ص -594-…الأم وحكم الجدة موافق له فإنا لا ننقصها من السدس.
1788. قال: فما حجتكم في ترك قولنا نحجب بالجد الإخوة
1789. قلت: بعد قولكم من القياس.
1790. قال: فما كنا نراه إلا بالقياس نفسه ؟
1791. قلت: أرأيت الجد والأخ: أيدل واحد منهما بقرابة نفسه أو بقرابة غيره ؟
1792. قال: وما تعني ؟
1793. قلت: أليس إنما يقول الجد: أنا أبو أبي الميت ؟!ويقول الأخ: أنا ابن أبي الميت ؟!
1794. قال: بلى.
1795. قلت: وكلاهما يدلي بقرابة الأب بقدر موقعه منها ؟
1796. قال: نعم.(28/62)
ص -595-…1797. قلت: فاجعل الأب الميت وترك ابنه وأباه كيف ميراثهما منه ؟
1798. قال: لابنه خمسة أسداس ولأبيه السدس.
1799. قلت: فإذا كان الابن أولى بكثرة الميراث من الأب وكان الأخ من الأب الذي يدلي الأخ بقرابته والجد أبو الأب من الأب الذي يدلي بقرابته كما وصفت -: كيف حجبت الأخ بالجد ؟!ولو كان أحدهما يكون محجوبا بالآخر انبغى أن يحجب الجد بالأخ لأنه أولاهما بكثرة ميراث الذي يدليان معا بقرابته أو تجعل للأخ أبدا خمسة أسداس وللجد سدس.
1800. قال: فما منعك من هذا القول؟
1801. قلت: كل المختلفين مجتمعون على أن الجد مع(28/63)
ص -596-…الأخ مثله أو أكثر حظا منه فلم يكن لي عندي خلافهم ولا الذهاب إلى القياس و القياس مخرج من جميع أقاويلهم.
1802. وذهبت إلى إثبات الإخوة مع الجد أولى الأمرين لما وصفت من الدلائل التي أوجدنيها القياس.
1803. مع أن ما ذهبت إليه قول الأكثر من أهل الفقه بالبلدان قديما وحديثا.
1804. مع أن ميراث الإخوة ثابت في الكتاب ولا ميراث للجد في الكتاب وميراث الإخوة أثبت في السنة من ميراث الجد.
أقاويل الصحابة
1805. فقال: قد سمعت قولك في الإجماع والقياس بعد قولك في حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أرأيت أقاويل أصحاب رسول الله إذا تفرقوا فيها ؟(28/64)
ص -597-…1806. فقلت: نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس.
1807. قال: أفرأيت إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلافا -: أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أجمع الناس عليه فيكون من الأسباب التي قلت بها خبرا ؟
1808. قلت له: ما وجدنا في هذا كتابا ولا سنة ثابتة ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة ويتركونه أخرى ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم.
1809. قال: فإلى أي شيء صرت من هذا ؟(28/65)
ص -598-…1810. قلت: إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس.
1811. وقلَّ ما يوجد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا.
منزلة الإجماع والقياس
1812. قال: فقد حكمت بالكتاب والسنة فكيف حكمت بالإجماع ثم حكمت بالقياس فأقمتهما مع كتاب أو سنة ؟
1813. فقلت: إني وإن حكمت بها كما أحكم بالكتاب والسنة -: فأصل ما أحكم به منها مفترق.
1814. قال: أفيجوز أن تكون أصول مفرقة الأسباب(28/66)
ص -599-…يحكم فيها حكما واحدا ؟
1815. قلت: نعم، يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها الذي لا اختلاف فيها فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن.
1816. ويحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث.
1817. ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا ولكنها منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما(28/67)
ص -600-…يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء ولا يكون طهارة إذا وجد الماء إنما يكون طهارة في الإعواز،
1818. وكذلك يكون ما بعد السنة حجة إذا أعوز من السنة.
1819. وقد وصفت الحجة في القياس وغيره قبل هذا.
1820. قال: أفتجد شيئا شبهه
1821. قلت: نعم أقضي على الرجل بعلمي أن ما ادعى عليه كما ادعي أو إقراره فإن لم أعلم ولم يقر قضيت عليه بشاهدين وقد يغلطان ويهمان وعلمي وإقراره أقوى عليه من شاهدين وأقضي عليه بشاهد ويمين وهو أضعف من شاهدين ثم أقضي عليه بنكوله عن اليمين ويمين صاحبه وهو أضعف من شاهد ويمين لأنه قد ينكل خوف الشهرة واستصغار ما يحلف عليه ويكون الحالف لنفسه غير ثقة وحريصا فاجرا.(28/68)
عنوان الكتاب:
القواعد النورانية الفقهية
تأليف:
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
728هـ
دراسة وتحقيق:
محمد حامد الفقي
الناشر:
مكتبة السنة المحمدية، مصر، القاهرة
الأولى، 1370هـ/1951م(29/1)
ص -1-…القواعد النورانية الفقهية
ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وهو حسبي ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام العالم العامل القدوة رباني الأمة ومحيي السنة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو لعباس أحمد عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وإمام المهتدين وعلى آله أجمعين
الأصل الأول: الصلاة:
[ الطهارة والنجاسة ]
فصل
أما العبادات فأعظمها الصلاة والناس آما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور لقوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور" كما رتبه أكثرهم وأما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة كما فعله مالك وغيره
فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام في اللباس ونحوه تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين فإن أهل المدينة مالكا وغيره يحرمون من الأشربة كل مسكر كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وليسوا في الأطعمة كذلك بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم(29/2)
ص -2-…فيبيحون الطيور مطلقا وان كانت من ذات المخالب ويكرهون كل ذي ناب من السباع وفي تحريمها عن مالك روايتان وكذلك في الحشرات عنه هل هي محرمة أو مكروهة روايتان وكذلك البغال والحمير وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع وروى عنه أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير والخيل أيضا يكرهها لكن دون كراهة السباع
وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ليست الخمر عندهم إلا من العنب ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب وقيل إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم وزادوا عليهم في متابعة السنة وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة ما علمت أحدا صنف أكبر منه وكتابا أصغر منه وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال هل فيها من يحرم النبيذ فقالوا لا إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة وأخذ فيها بعامة السنة حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث وان لم يظهر فيه شدة متابعة للسنة المأثورة في ذلك لان الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا والحكمة هنا مما تخفى فأقيمت المظنة مقام الحكمة حتى إنه كره الخليطين إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية هل هو مباح أو محرم أو مكروه لان أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة فاختلف اجتهاده هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئا(29/3)
ص -3-…وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم لحوم الحمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى" وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه
و علموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن لأن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير(29/4)
ص -4-…وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلوا لحمه وأحلوا الضب لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال: "لا أحرمه" وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة(29/5)
ص -5-…فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة
ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة ولهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري بل قد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة وإن كان الجمهور على أنه منسوخ ونهى النبي(29/6)
ص -6-…صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه عن تخليل الخمر وأمر بشق ظروفها وكسر دنانها وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد هل هذا باق أو منسوخ
ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة ممن النقص بقدر ما فيها من المفسدة ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة
ثم إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنها جن خلقت من جن" وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: "الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار(29/7)
ص -7-…وإنما تطفئ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب وأسيد بن الحضير وذي الغرة وغيرهم فقال مرة توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد وقسوة القلب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل وإن السكينة في أهل الغنم
واختلف عن أحمد هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة على روايتين بناء(29/8)
ص -8-…على أن الحكم مختص بها أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة
و سائر المصنفين من أصحاب الشافعي وغيره وافقوا أحمد على هذا الأصل وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع
وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث من أنه يتوضأ منه نيئا ومطبوخا ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ ولهذا قال في لحم الغنم وإن شئت فلا تتوضأ ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم فلا عموم له وهذا معنى قول جابر كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية
هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة بل قد قيل إنها متأخرة ولكن أحد الوجهين في مذهب أحمد أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب والوجه الآخر لا يستحب
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه" وقال: "إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" فعلل الأمر بالغسل(29/9)
ص -9-…بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل
وكذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل وقال إنها جن خلقت من جن كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وقد روي عنه: "أن الحمام بيت الشيطان" وثبت عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال: "إنه مكان حضرنا فيه الشيطان"
فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ومذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين كالمعاطن والحمامات حرمت الصلاة فيه وما عرض الشيطان فيه كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة كرهت فيه الصلاة
والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم أو سمعوها ولم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه
وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل وأنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضئون مما مست النار وإنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي
ومن تمام هذا أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره(29/10)
ص -10-…من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما وجاء من حديث غيرهما أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن الأسود شيطان وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية ن سواري المسجد" الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة فلذلك اخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وهي في قبلته وحديث ابن عباس رضى الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه بمنى مع أن المتوجه أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلى ولم يكن متحدثا وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث
واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجنى إذا علم بمروره هل يقطع الصلاة والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظاهر قوله يقطع صلاتي لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك قوية في الدليل نصا وقياسا ولذلك اخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك(29/11)
ص -11-…علمها آثرا هو لأهل الحديث ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا
ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث الوضوء من لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان البخاري ومسلم وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر
وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا
وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقطع الصلاة شيء"(29/12)
ص -12-…أو بما روى في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية
وأصل آخر وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلى ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس
والشافعي بإزائهم في ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله في النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره
وأحمد كذلك فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسة التي يشق الإحتراز عنا حتى إنه في إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش وغير ذلك مما يشق الإحتراز عنه بل يعفو في إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف أصحاب مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم يجب عليه الإعادة في أصح الروايتين كقول مالك كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذى الذي فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما صلى الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة(29/13)
ص -13-…والرواية الأخرى تجب الإعادة كقول أبي حنيفة والشافعي
وأصل آخر في إزالتها فمذهب أبي حنيفة تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات والشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء وحتى نجاسة الأرض
ومذهب أحمد فيه متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به يحوز في الصحيح عنه مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه كما جاءت به السنة كما يجوز مسحها من السبيلين فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها
واختلف أصحابه في أسفل الذيل هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة واستوائها للأثر في ذلك والقياس إزالتها عن الأرض بالشمس والريح يجب التوسط فيه
فإن التشديد في النجاسات جنسا وقدرا هو دين اليهود والتساهل هو دين النصارى ودين الإسلام هو الوسط فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام
وأصل آخر وهو اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول الكوفيين فيه من الشدة مالا خفاء به
وسر قولهم إلحاق الماء بسائر المائعات وأن النجاسة إذا وقعت في مائع لم(29/14)
ص -14-…يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة
وبإزائهم مالك وغيره من أهل المدينة فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات
ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي
واختلف قوله في المائعات غير الماء هل يلحق بالماء أولا يلحق به كقول مالك والشافعي أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب على ثلاث روايات
وفي هذه الأفوال من التوسط أثرا ونظرا ما لا خفاء به مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل
وأصل آخر وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها كالشعر والظفر والريش مذاهب هل هو طاهر أو نجس ثلاثة أقوال
أحدها نجاستها مطلقا كقول الشافعي ورواية عن أحمد بناء على أنها جزء من الميتة
والثاني طهارتها مطلقا كقول أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد بناء على أن الموجب للنجاسة هن الرطوبات وهي إنما تكون فيما يجري فيه الدم ولهذا حكم بطهارة مالا نفس له سائلة فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة مالا نفس له سائلة
والثالث نجاسة ما كان فيه حس كالعظم إلحاقا له باللحم اليابس وعدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر إلحاقا له بالنبات
وأصل آخر وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل فإن مذهب فقهاء الحديث استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم ويكفي المسح على(29/15)
ص -15-…الخفين وغيرها من اللباس والحوائل فقد صنف الإمام أحمد كتاب المسح على الخفين وذكر فيه من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسح على الخفين والجوربين وعلى العمامة بل على خمر النساء كما كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها تفعله وعلى القلانس كما كان أبو موسى وأنس يفعلانه ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاءا ظاهرا وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر وجبنوا عن القياس ورعا
ولم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كأحاديث المسح على العمائم والجوربين والتوقيت في المسح وإنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة كخمر النساء وكالقلانس الدنيات
ومعلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة وتوافق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
واعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلا مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ ونحو ذلك لم يقف على مجموع الأخبار وإلا فمن وقف على مجموعها أفادته علما يقينا بخلاف ذلك
وأصل آخر في التيمم فإن أصح حديث فيه حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه وقد أخذ به فقهاء الحديث أحمد وغيره وهذا أصح من قول(29/16)
ص -16-…من قال يجب ضربتان والى المرفقين كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد أو ضربتان إلى الكوعين
وأصل آخر في الحيض والاستحاضة فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة وفي الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن سنة في المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وسنة في المميزة أنها تعمل بالتمييز وسنة في المتحيرة التي ليست لها عادة ولا تتميز بأنها تتحيض غالب عادات النساء ستا أو سبعا وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت
فأما السنتان الأولتان ففي الصحيح وأما الثالثة فحديث حمنة بنت جحش رواه أهل السنن وصححه الترمذي وكذلك قد روى أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه
وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتاد المميزة والمتحيرة فإن اجتمعت العادة والتمييز قدم العادة في أصح الروايتين كما جاء في أكثر الأحاديث
فأما أبو حنيفة فيعتبر العادة إن كانت ولا يعتبر التمييز ولا الغالب بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر وإلا حيضة الأقل
ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحيضها بل تصلى أبدا إلا في الشهر الأول فهل تحيض أكثر الحيض أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام على روايتين
والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب فإن اجتمع قدم التمييز وإن عدم صلت أبدا واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علما وعملا
فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالات الفقهية استعملها فقهاء الحديث ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء(29/17)
ص -17-…[ المواقيت ]
فصل
وأما إذا ابتدؤا الصلاة بالمواقيت ففقهاء الحديث قد استعلموا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الجواز وأوقات الاختيار
فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال ووقت العصر إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب إلى مغيب الشفق ووقت العشاء إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد وهذا بعينه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من حديث أبي موسى وبريدة رضى الله عنهما وجاء مفرقا في عدة أحاديث وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك
فأهل العراق المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شئ مثليه وأهل الحجاز مالك وغيره ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد
فصل
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض كما في حديث المستحاضة وغير ذلك من الأعذار
ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان وقت اختيار وهو خمس مواقيت ووقت اضطرار وهو ثلاث مواقيت ولهذا أمرت الصحابة(29/18)
ص -18-…كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله وزائد عليه بما جاءت به الآثار والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف وكذلك أوقات الاستحباب فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقا سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق
وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب
فأبو حنيفة يستحب التأخير إلا في المغرب والشافعي يستحب التقديم مطلقا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر إذا كانوا مجتمعين وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإبراد وكانوا مجتمعين
[ الأذان ]
فصل
وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد(29/19)
ص -19-…فيه جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبي محذورة وإقامته وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفي صحيح مسلم الإقامة مشفوعة وثبت في الصحيحين أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وفي السنن أنه لم يكن يرجع
فرجح أحمد أذان بلال لأنه الذي كان يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم دائما قبل أذان أبي محذورة وبعده إلى أن مات واستحسن أذان أبي محذورة ولم يكرهه وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشئ منه مع علمه بذلك واختياره للبعض أو تسويته بين الجميع كما جوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس وغيرهم وأحبها إليه تشهد ابن مسعود لأسباب متعددة
منها كونه أصحها وأشهرها
ومنها كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه
ومنها كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضي أنه هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به غالبا
وكذلك أنواع الاستفتاح والإستعاذة المأثورة وإن اختار بعضها
وكذلك مواضع رفع اليدين في الصلاة ومحل وضعهما بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع
ومنها صفات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختار بعضها
ومنها أنواع صلاة الخوف يجوز كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة(29/20)
ص -20-…ومنها أنواع تكبيرات العيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه
ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع
وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه فمنهم من يكره الترجيع في الأذان كأبي حنيفة ومنهم من يكره تركه كالشافعي ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي ومنهم من يكره إفرادها حتى صار الأمر بأتباعهم إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها وإنما الضلالة حق الضلالة أن ينهي أحد عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم
[ صفة الصلاة ]
فصل
فأما صفة الصلاة فمن شعائرها مسألة البسملة
فإن الناس اضطربوا فيها نفيا وإثباتا في كونها آية من القرآن وفي قراءتها وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع من جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن عائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة
فأما كونها آية من القرآن فقالت طائفة كمالك ليست من القرآن إلا في سورة النمل والتزموا أن الصحابة أودعت المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك
وحكى طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه(29/21)
ص -21-…وقالت طائفة منهم الشافعي ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة مع أدلة أخرى
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون أية مفردة أنزلت في أول كل سورة كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا كما قال ابن عباس كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم
فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها وليست من السورة وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره وهو أوسط الأقوال وأعدلها
وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة طائفة لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا كمالك والأوزاعي وطائفة تقرؤها جهرا كأصحاب ابن جريج والشافعي والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث مع فقهاء أهل الرأي يقرءونها سرا كما نقل عن جماهير الصحابة مع أن أحمد يستعمل ما روى عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها قال بعض أصحابه لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر
وهذا وإن كان وجها حسنا فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على(29/22)
ص -22-…الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وكما جهر عمر بالاستفتاح غير مرة وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر ولهذا نقل عن أكثر من روى عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة فكأنهم جهروا لإظهار أنهم يقرءونها كما جهر بعضهم بالإستعاذة أيضا
والإعتدال في كل شئ استعمال الآثار على وجهها فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها دائما وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك ولم يفعلوه ممتنع قطعا وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه وإقراره مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض كما تقدم وكراهة قراءتهم مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها الى النبي صلى الله عليه وسلم وكون الصحابة كتبوها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة فيه ما فيه مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة
فمتابعة الآثار فيها الإعتدال والائتلاف والتوسط الذي هو أفضل الأمور
ثم مقدار الصلاة يختار فيه فقهاء الحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يفعلها غالبا وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة التي يخفف فيها القيام والقعود ويطيل فيها الركوع والسجود ويسوي بين الركوع والسجود وبين الإعتدال منهما كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كون قراءته في الفجر بما بين الستين إلى المائة آية وفي الظهر بنحو الثلاثين آية وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك مع أنه قد كان يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل في الصلاة وإني أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي(29/23)
ص -23-…فأخفف لما أعلم من وجد أمه به" كما أنه قد يطيلها عن ذلك لعارض كما قرأ صلى الله عليه وسلم في المغرب بطولى الطوليين وهى الأعراف
ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وعامة فقهاء الحديث على هذا
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يطيل الاعتدال من الركوع والسجود ومنهم من يراه ركنا خفيفا بناء على أنه يشرع تابعا لأجل الفصل لا أنه مقصود
ومنهم من يسوى بين الركعتين الأوليين
ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات إلى أقوال أخر قالوها
[ النصوص المبينة لواجبات الصلاة ]
فصل
في بيان ما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها
قال الله تعالى في غير موضع من كتابه {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ(29/24)
ص -24-…أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وسيأتي ببيان الدلالة في هذه الآيات(29/25)
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأصحاب المسانيد كمسند احمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وفي رواية للبخاري إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"(29/26)
ص -25-…وفي رواية له "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما" وباقيه مثله وفي رواية "وإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك"
وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث وقال فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثني عليه ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعد ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته" وفي رواية "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له وتيسر وذكر نحو اللفظ الأول وقال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك" رواه أهل السنن أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن والروايتان لفظ أبي داود
وفي رواية ثالثة له قال: "إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك وقال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى وفي رواية أخرى قال إذا أنت قمت في صلاتك فكبر الله عز وجل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن وقال فيه فإذا جلست في وسط(29/27)
ص -26-…الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك وفي رواية أخرى قال فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله عز وجل وكبره وهلله وقال فيه وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك"
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك المسيء في صلاته بأن يعيد الصلاة وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب وأمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود وأمره المطلق على الإيجاب
وأيضا قال له فإنك لم تصل فنفى أن يكون عمله الأول صلاة والعمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة
وأما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفي للكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فيقال له نعم هو لنفي الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات
فأما الأول فحق وأما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسوله قط وليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه
وأيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين والآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور
وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء(29/28)
ص -27-…بعض واجباته كقوله تعالى [ 4: 65 ]: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقوله تعالى [ 24: 47 ]: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى [ 59: 15 ]: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآية وقوله [ 24: 62 ]: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} الآية ونظائر ذلك كثيرة
و من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له" و: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" و: "لا صلاة إلا بوضوء"
و أما قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات وبكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه ولكن نظيره في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له"
و لا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي والصلاة في جماعة من الواجبات كما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله إني رجل شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي(29/29)
ص -28-…قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة
لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها
هذا فيه نزاع بين العلماء
و على هذا قوله صلى الله عليه وسلم إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك
فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها وكذلك قوله في الحديث الآخر فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته
ويؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة ولهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع والثاني أظهر لما روى أبو داود وابن ماجة عن أنس بن حكيم الضبي قال خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم وفي لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله(29/30)
ص -29-…صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا" رواه الترمذي وقال حديث حسن
و روى أيضا أبو داود وابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
و أيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن صحيح
فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع والسجود
وهذه المسألة وإن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها وتلازمها
وذلك أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود فالطمأنينة فيهما أوجب
وذلك أن قوله يقيم ظهره في الركوع والسجود أي عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما فلهذا قال يقيم صلبه في الركوع والسجود
ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود وهذا كقوله في الحديث المتقدم ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن(29/31)
ص -30-…مفاصله وتسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض
والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال في الركوع والسجود والقعود حتى تطمئن راكعا وحتى تطمئن ساجدا وحتى تطمئن جالسا وقال في الرفع من الركوع حتى تعتدل قائما وحتى تستوي قائما لأن القائم يعتدل ويستوي وذلك مستلزم الطمأنينة
وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك وإما إلى أمامه لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة مع أنه قد روى ابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرفع من الركوع حتى تطمئن قائما
وعن علي بن شيبان الحنفي قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع والسجود فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رواه الإمام أحمد وابن ماجة وفي رواية للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده
وهذا يبين أن إقامة الصلب هي الاعتدال في الركوع كما بيناه وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الاعتدالين وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما
وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا:(29/32)
ص -31-…يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها" أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع والسجود" وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد وإنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك
وأيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة
وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب وعما يشبه فعل السبع وعما يشبه فعل البعير وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في الركوع والسجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" لا سيما وقد بين في حديث آخر أنه من صلاة المنافقين والله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين
فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة ويضيع فعلها وينقرها فدل ذلك على ذم هذا وهذا وإن كان كلاهما تاركا للواجب
وذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز وأنه من فعل من فيه نفاق والنفاق كله حرام وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} وهذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة(29/33)
ص -32-…والمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب
وأما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر فهذا لا أصل له ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني لا في الصحيح ولا في الضعيف والكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار
وأيضا فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار وأتموا الركوع والسجود قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله وروى ابن ماجة بعضه
وأيضا ففي صحيح البخاري عن أبي وائل عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه وقال له حذيفة ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله(29/34)
ص -33-…عليها محمدا صلى الله عليه وسلم ولفظ أبي وائل ما صليت وأحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم
و هذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الاعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإيتان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود وهذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه ومع هذا قال له حذيفة ما صليت فنفى عنه الصلاة ثم قال لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى غير السنة وكلاهما المراد به هنا الدين والشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات ولأن لفظ الفطرة والسنة في كلامهم هو الدين والشريعة وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه" فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأينا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" ولأن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه(29/35)
ص -34-…بإقامة الصلاة وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى في غير موضع {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وإقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم من بعد ظهري وفي رواية أتموا الركوع والسجود وسيأتي تقرير دلالة ذلك
و الدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه وتعالى قال {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فأباح الله القصر من عددها والقصر من صفتها ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين ولم يصلها في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في الحج ولا في العمرة ولا في الجهاد والخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} فذكر صلاة الخوف وهي صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو في جهة القبلة وكان فيها أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم كما قال {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فعلم أنهم يفعلونه(29/36)
وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ويتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى [ 4: 103 ]: {فَإِذَا(29/37)
ص -35-…قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذي أباحه الخوف والسفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان
و أما قوله في صلاة الخوف {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} فتلك إقامة وإتمام في حال الخوف كما أن الركعتين في السفر إقامة وإتمام كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله عز وجل {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط
و ثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة في الأجر والثواب وإن كانت مقصورة في الصفة والعمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة ويؤمر بالاقتصار تارة
و أيضا فإن الله تعالى قال [ 4: 103 ]: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} والموقوت قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت والمفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة وذلك في زمانها وأفعالها وكما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا وجعل(29/38)
ص -36-…بعضها أربعا في الحضر واثنتين في السفر وبعضها ثلاثا وبعضها اثنتين في الحضر والسفر وتقدير عملها أيضا ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير في الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة وذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار وصلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب العشاء وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها وهو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره لم يكن قد أتى بحد القيام
ومن المعلوم أن ذكر القيام الذي هو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام ولهذا كان عبادة بنفسه ولم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه وغير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا العذر وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا يبكون سجوده من انحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين
وأيضا ففي ذلك إتمام الركوع والسجود
وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر(29/39)
ص -37-…فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد
وأيضا فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشيء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون افعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع
يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري" وفي لفظ أقيموا الصفوف وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه"
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون الإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده فأمر النبى صلى الله علية وسلم أن يعيد الصلاة فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وفي رواية من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم" وفي رواية للبخاري عن همام عن قتادة عن أنس(29/40)
ص -38-…رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم" ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم وذكره"
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر وأيضا فأمر لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الإعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله
وأيضا فقوله تعالى [ 2: 238 ]: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أمر بالقنوت للقيام لله والقنوت دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى [ 9: 39 ]: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وقال تعالى [ 4: 34 ]: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} وقال [ 31: 33 ]: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [ 2: 116 ] وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}(29/41)
فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله [ 4: 135 ]: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به قيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه(29/42)
ص -39-…وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى
ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر للقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل لمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد: "إن في الصلاة لشغلا" فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس وهذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافي القنوت فيها
وأيضا فإنه سبحانه قال [ 15: 32 ]: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه
ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات ولذلك وجب السجود مع ذلك وقد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة ولهذا(29/43)
ص -40-…قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم
والثاني أن الخرور هو السقوط والوقوع وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض ولهذا قال الله [ 22: 36 ]: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} والوجوب في الأصل هو الثبوت والاستقرار
وأيضا فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لما نزلت [ 56: 96 ]: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت [ 1: 87 ]: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" رواه أبو داود وابن ماجة
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود وأمره على الوجوب وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعا لهذا التسبيح وذلك هو الطمأنينة
ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل
وأما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى [ 39: 50 ]: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وهذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب(29/44)
ص -41-…التسبيح كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى [ 2: 72 ]: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} دل على وجوب القيام وكذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى [ 17: 78 ]: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} دل على وجوب القرآن فيها ولما سماها ركوعا وسجودا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها
وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له فيسمونه رقبة ورأسا ووجها ونحو ذلك كما في قوله تعالى [ 3: 58 ]: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولأعلى ما يستلزم معناه
وأيضا فإن الله عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى [ 23-19: 70 ]: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} والسلف من الصحابة ومن بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها وبالدائم على أفعالها بالإقبال عليها والآية تعم هذا وهذا فإنه قال {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} والدائم على الفعل هو المديم له الذي يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة هو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة ويتركه أخرى وسمي ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما وأن تتناول الآية ذلك وذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع والشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم(29/45)
وأيضا فإنه سبحانه وتعالى قال {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائما على صلاته وقد لا يكون دائما عليها(29/46)
ص -42-…وأن المصلي الذي ليس بدائم مذموم وهذا يوجب ذم من لا يديم أفعاله المتصلة والمنفصلة وإذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع والسجود وغيرهما ولو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما ولم يجب الدوام على الركوع والسجود وهما أصل أفعال الصلاة
فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها المتضمن للطمأنينة والسكينة في أفعالها
وأيضا فقد قال الله تعالى [ 2: 45 ]: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين كقوله تعالى [ 20: 143 ]: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وقوله تعالى [ 13: 42 ]: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}
فقد دل كتاب الله عز وجل على من كبر عليه ما يحبه الله وأنه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه ذلك والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع
فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها وقد انتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة
و يدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى [ 11-1: 23 ]: {قَدْ أَفْلَحَ(29/47)
ص -43-…الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعا
و منه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلا يعبث في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه أي لسكنت وخضعت وقال تعالى [ 39: 49 ]: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز والاهتزاز حركة وتربو والربو الارتفاع(29/48)
فعلم أن الخشوع فيه سكون وانخفاض ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعقلي وعصبي" رواه مسلم في صحيحه فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع وبذلك فسرت الآية ففي التفسير المشهور الذي يقال له تفسير الوالبي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواه المصنفون في التفسير كأبي بكر بن المنذر ومحمد بن جرير الطبري وغيرهما من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} يقول خائفون ساكنون ورووا في التفاسير المسندة(29/49)
ص -44-…كتفسير ابن المنذر وغيره من حديث سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد خاشعون قال السكون فيها قال وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال الخشوع في القلب وقال ساكنون قال الضحاك الخشوع الرهبة لله وروى عن الحسن خائفون وروى ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان أنه قال في هذه الآية {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال الخشوع في القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلفت في صلاتك وفي تفسير ابن المنذر أيضا ما في تفسير إسحاق بن راهويه عن روح حدثنا سعيد عن قتادة {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال الخشوع في القلب والخوف وغض البصر في الصلاة وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مختار القرآن {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} أي لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون وقد روى الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ من حديث ابن سيرين ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير وابن المنذر أيضا في التفسير الذي له رواه من حديث الثوري حدثني خالد عن ابن سيرين قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده أي محل سجوده قال سفيان وحدثني غيره عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في ذلك {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال هو سكون المرء في صلاته قال معمر وقال الحسن خائفون وقال قتادة الخشوع في القلب ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه عند تقليبه في الجهات كقوله تعالى [ 8-6: 54 ]: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقوله [ 44-43: 70 ]: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى(29/50)
نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي(29/51)
ص -45-…كَانُوا يُوعَدُونَ} وفي القراءة الأخرى {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصاره بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وقوله نعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
وقال تعالى [ 43-42: 68 ]: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}
ومن ذلك خشوع الأصوات كقوله تعالى [ 20: 108 ]: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} وهو انخفاضها وسكونها وقال تعالى [ 42: 45-44 ]: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وقال تعالى [ 5-2: 88 ]: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} وهذا يكون يوم القيامة وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب كما قال في القسم الآخر [ 10-8: 88 ]: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} وقال تعالى [ 21: 73-72 ]: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}
وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون والخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن(29/52)
ص -46-…ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذي بيناه
ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" وعن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء فقال: "لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم" الأول في البخاري والثاني في مسلم وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة
وقال محمد ابن سيرين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع بصره في الصلاة فلما نزلت هذه الآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده رواه الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ
فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه
وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص عن أبى ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه" وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح(29/53)
ص -47-…فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس وهذا كحمله أمامة بنت أبى العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره في صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة وأمره برد المار بين يدي المصلى ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة
ويدل على ذلك أيضا حارواه تميم الطائي عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة رواه مسلم وأبو داود والنسائي ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم أن يقول هكذا وأشار بإصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله وفي رواية قال أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على ففخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ولفظ مسلم صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمى بيده
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة وهذا يقتضي(29/54)
ص -48-…السكون فيها كلها والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهى عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال
ويبين ذلك قوله مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس والشمس جمع شموس وهو الذي تقول له العامة الشموص وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال وهى حركة لا سكون فيها
وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عن الاستفتاح فذلك مشروع باتفاق المسلمين فكيف يكون الحديث نهيا عنه
وقوله اسكنوا في الصلاة يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له أتريد أن تطير فقال إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية وإلا فلا وهذا نقض لما ذكره من المعنى
وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معرضا بل لو قد تعارضنا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون فقوله اسكنوا في الصلاة لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله اسكنوا يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين(29/55)
ص -49-…فيبن هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشى إليها وهى حركة إليها فكيف بالحركة فيها فقال: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"
وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب ابن أبي حمزة عن الزهري وما فاتكم فأتموا وقال ابن عينية عن الزهري فاقضوا قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضى الله عنه وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم فأتموا وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم" قال أبو داود وكذا قال ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه وليقض وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة وأبو ذر رضى الله عنه روى عنه فأتموا واقضوا اختلف عنه
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال
فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأخرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات(29/56)
ص -50-…بعض الصلاة فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها فكيف فيها
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة" فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردا فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة في المشي مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها
و يدل على ذلك أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقا فقال [ 9: 31 ]: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} وقال تعالى [ 25: 63 ]: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال الحسن وغيره بسكينة ووقار فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه
وأيضا فإن الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة وهو(29/57)
ص -51-…واجب بالإجماع لقوله تعالى [ 22: 77 ]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقوله تعالى [ 42: 68 ]: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} وقوله تعالى [ 21 , 20: 84 ]: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} وقوله تعالى [ 15: 32 ]: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} وقوله تعالى [ 19: 96 ]: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقوله تعالى [ 18: 22 ]: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}
فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب وقوله [ 26: 76 ]: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} وقوله تعالى [ 15: 98 ]: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وقوله تعالى [ 48: 77 ]: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} وقوله تعالى [ 5: 55 ]: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(29/58)
و إذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع والسجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم وسنته تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله وفسره وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا وكان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود وتفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها قد نقل ذلك كل من نقل صلاة(29/59)
ص -52-…الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع
وأيضا فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله فلما لم يبين لا بقوله ولا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه كان ذلك دليلا على وجوبه
وأيضا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما رأيتموني أصلي فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي
وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم ولا معارض لذلك ولا مخصص فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه(29/60)
ص -53-…ثم كبر وسجد ووضع كفه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ثم قال هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولا وفعلا ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب
وأيضا فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا ومن سماه ركوعا وسجودا فقد غلط على اللغة فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر وحتى يقال إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا وسجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب وإذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد لم يكن ممتثلا بالاتفاق لأن الوجوب معلوم وفعل الواجب ليس بمعلوم كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك في فعلها
وهذا أصل ينبغي معرفته فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول إن هذا يسمى ساجدا وراكعا في اللغة فإنه قال بلا علم ولا حجة وإذا طولب بالدليل انقطع وكانت الحجة لمن يقول ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين(29/61)
ص -54-…ثم يقال لو وجد استعمال لفظ الركوع والسجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا ولكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب ساجدا لا سيما عند المنازع الذي يقول يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودا ولو كان كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك ساجدا(29/62)
وأيضا فإن الله أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة وذم إضاعتها والسهو عنها فقال في أول سورة المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة وكذلك في سورة سأل سائل قال {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فذم الإنسان كله إلا ما استثناه فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما كما في قوله تعالى(29/63)
ص -55-…[ 3-1: 103 ]: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقال تعالى [ 19: 69 ]: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقال تعالى: [ 5 , 4: 107 ] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وقال تعالى [ 2: 238 ]: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(29/64)
و هذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة وإن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة وبذلك فسرها السلف ففي تفسير عبد بن حميد وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} على وضوئها ومواقيتها وركوعها وروى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال قيل لعبد الله إن الله أكثر ذكر الصلاة في القرآن {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}و{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}و{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق في قول الله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى من حديث سعيد بن أبي مريم {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} بتضييع ميقاتها وروى عن أبي ثور عن ابن جريج في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المكتوبة والتي في سأل سائل التطوع وهذا قول ضعيف(29/65)
ص -56-…[ القدر المشروع في الصلاة ]
فصل
و أما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي
وأما القيام ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بق والقرآن المجيد ونحوها وكانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية قال الراوي ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة وحزرنا قيامه في الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف الأخريين ولا آلو(29/66)
ص -57-…ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز وأبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصدا أي وسطا
وفعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة وذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو الزبير {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي وذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة(29/67)
ص -58-…وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف والكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه
وأما مقدار بقية الأركان مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
وأخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها وفي لفظ يوجز الصلاة ويتم
وأخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة
وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت صلاته متقاربة(29/68)
ص -59-…وصلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الصبح وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام
فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه صلى الله عليه وسلم كان أخف الأئمة صلاة وأتم الأئمة صلاة وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها كما في اللفظ الآخر وكانت صلاته معتدلة وفي اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف قيامها وقعودها وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك ولهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة وبين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح وإنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس وسورة هود وسورة يوسف
والذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ويسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وللبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي
فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي(29/69)
ص -60-…كان يوجزها ويكملها والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي وإذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين والسنة المتواترة أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع والسجود بل ينقصان عن الركوع والسجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث وسماه غندر في رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام وقدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا ولفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء
ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع(29/70)
ص -61-…سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
و قوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو خبر مبتدأ محذوف وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله حق ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة ليس له أصل في الأثر ومعناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق والباطل وأما الرب سبحانه وتعالى فهو يقول الحق ويهدي السبيل كما قال تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}
وأيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل
وروى مسلم وغيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وروى مسلم وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد
وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها عنه وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها والصلاة عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من(29/71)