ص -207-…قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وممن ذكر هذا التأويل ابن الحاجب قال السبكي ولو قال النشوان بدل الثمل لكان أولى فإن الثمل والطافح سواء وهو من أخذ منه الشراب وفي الحديث الصحيح لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وجعل حمزة يصعد نظره ثم قال وهل أنتم إلا عبيد أبي فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل. أي سكران شديد السكر قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي الدليل الدال على امتناع تكليف من لا يفهم "إنما يكون قاطعا بلزوم" اجتماع "النقيضين" على تقدير تكليفه "كما ذكرنا في الجمع" بين قولي المانع له والمجيز له "وإلا" لو لم يكن قطعيته بذلك "فممنوع" كونه قاطعا "عندهم" أي المجيزين "كيف وقد ادعوا الوقوع".(23/432)
ثم لقائل أن يقول إن كان النهي خطابا له حال سكره فنص وإن كان قبل سكره كما هو التأويل الأول استلزم أن يكون مخاطبا في حال سكره أيضا إذ لا يقال للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا؛ لأنه إضافة الخطاب إلى وقت بطلان أهليته وإيضاحه كما أفاد المصنف أنه لو لم ينسحب هذا الخطاب بالترك عليه حال سكره لم يفد؛ لأنه وإن كان توجيه الخطاب ابتداء في حال صحوه لكن المطلوب الترك في حال سكره فكان في حال سكره مطلوبا منه الترك وهذا هو معنى كونه مخاطبا حال سكره وقال السبكي تعقبا للتأويل الأول ولقائل أن يقول هذا صريح في تحريم الصلاة على المنتشي مع حضور عقله بمجرد عدم التثبت ولا نعلم من قال به ثم قال والحق الذي نرتضيه مذهبا ونرى ارتداد الخلاف إليه أن من لا يفهم إن كان لا قابلية له كالبهائم فامتناع تكليفه مجمع عليه سواء خطاب التكليف وخطاب الوضع نعم قد يكلف صاحبها في أبواب خطاب الوضع بما تفعله على ما يفصله الفقيه وإن كان له قابلية فإما أن يكون معذورا في امتناع فهمه كالطفل والنائم ومن أكره على شرب ما أسكره فلا تكليف إلا بالوضع وإما أن يكون غير معذور كالعاصي بسكره فيكلف تغليظا عليه وقد نص الشافعي على هذا ثم قال ويشهد لتفرقتنا بين من له قابلية ومن لا قابلية له إيجاب الضمان على الأطفال دون الميت فإن أصحابنا قالوا لو انتفخ ميت وتكسرت قارورة بسبب انتفاخه لم يجب ضمانها ا هـ وجميع هذا حسن وقد صرح مشايخنا ببعضه وقواعدهم لا تنبو عنه والله تعالى أعلم.(23/433)
"هذا واستلزم" القول بأن الفهم شرط التكليف "اشتراط العقل الذي به الأهلية" للتكليف "فالحنفية" قالوا العقل "نور يبتدأ به من منتهى درك الحواس فيبدو به المدرك للقلب، أي الروح والنفس الناطقة فيدركه" أي القلب المدرك "بخلقه تعالى فالنور آلة إدراكها" أي النفس المدرك "وشرطه" أي إدراكها "كالضوء للبصر" أي كما أن الضوء شرط عادي "في إيصاله" أي البصر المبصرات إلى النفس بخلقه تعالى "ومقتضى ما ذكر" من التعريف "أن لدرك الحواس" الظاهرة "مبدأ" وهي جمع حاسة بمعنى القوة الحساسة، وهي خمس اللمس وهي قوة تأتي في الأعصاب إلى جميع الجلد وأكثر اللحم والغشاء من شأنها إدراك الحرارة والبرودة(23/434)
ص -208-…والرطوبة واليبوسة والخشونة والملامسة ونحو ذلك ثم كون اللامسة قوة بها يدرك جميع الملموسات قول الجمهور وفي القانون أكثر المحصين على أن اللمس قوى كثيرة بل قوى أربع وقال اللمس أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا. والذوق وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم. والسمع، وهي قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ يدرك بها الأصوات والبصر، وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين يتيامن النابت منهما يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا ثم يلتقيان على تقاطع صليبين ثم ينفذ النابت منهما يمينا إلى الحدقة اليمنى والنابت يسارا إلى الحدقة اليسرى يدرك بها الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحسن والقبح وغير ذلك. والشم، وهي قوة مودعة في الزائدتين النابتتين في مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي يدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم.(23/435)
"قيل" أي قال صدر الشريعة وغيره "هو" أي المبدأ "ارتسام المحسوسات أي" انطباع "صورها" أي المحسوسات "فيها" أي الحواس المذكورة لا نفسها فإن المحسوس هو هذا اللون الموجود في الخارج مثلا وهو ليس بمرتسم في الباصرة بل صورته كما أن المعلوم هو ذلك الموجود والحاصل في النفس صورته ومعنى معلوميته حصول صورته لا حصول نفسه "ونهايته" أي دركها "في الحواس الباطنة" الخمس على ما هو المشهور "وهي الحس المشترك في مقدم الدماغ"، وهي قوة مرتبة في مقدم البطن الأول من الدماغ ومبادئ عصب الحس يجتمع فيها صور جميع المحسوسات فيدركها "فيودعها" أي الحس المشترك صورها "خزانته" أي الحس المشترك يعني "الخيال" ليحفظها إذ هي قوة مرتبة في مؤخر البطن الأول من الدماغ يجتمع فيها مثل المحسوسات وتبقى فيها بعد الغيبة عن الحس المشترك "ثم المفكرة"، وهي قوة مرتبة في الجزء الأول من البطن الأوسط من الدماغ بها يقع التركيب والتفصيل بين الصور المحسوسة المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني المدركة بالوهم كإنسان له رأسان أو عديم الرأس والمراد بالصور ما يمكن إدراكه بإحدى الحواس الظاهرة وبالمعاني ما لا يمكن فلا جرم أن قال "تأخذها" أي المفكرة صور المحسوسات "للتركيب كما تأخذ" المفكرة "من خزانة الوهم" أي القوة "الحافظة في المؤخر" أي مؤخر الدماغ "مستودعاته من المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوس". فالوهم قوة مرتبة في آخر البطن الأوسط من الدماغ بها تدرك المعاني الجزئية الغير المحسوسة أي التي لم تتأد إليها من طرق الحواس وإن كانت موجودة في المحسوسات "كصداقة زيد" وعداوة عمرو والحافظة قوة مرتبة في البطن الأخير من الدماغ بها المعاني الجزئية التي أدركها الوهم ثم الحاصل أن في المقدم الحس المشترك والخيال خزانته وفي المؤخر الوهم والحافظة خزانته وفي الوسط المفكرة ثم كان الحس المشترك في المقدم ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليه سهلا ثم وليه(23/436)
الخيال؛ لأن خزانة الشيء خلفه ثم الوهم في مقدم المؤخر لتكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية والحافظة في مؤخره؛ لأنها خزانته والمفكرة في البطن الأوسط لتكون قريبة(23/437)
ص -209-…من الصور والمعاني فيمكنها الأخذ منها بسهولة "وهذا الأخذ ابتداء عمل العقل" ثم كون هذه المحال محال للقوى المذكورة هو المذكور في المواقف والمقاصد وقال الشريف والمشهور في الكتب المعول عليها أن المتخيلة في مقدم الوسط والوهمية في مؤخره والحافظة في مقدم البطن الأخير وليس في مؤخره شيء من هذه القوى إذ لا حارس هنا من الحواس فتكثر مصادمته المؤدية إلى الاختلال.
"ولما احتاج هذه" الحواس الباطنة "إلى سمع" يثبتها "عند كثير من أهل الشرع، ولم يكتف" في الاستدلال على وجودها "بكون فساد هذه البطون" التي هي محالها "يوجب فساد ذلك الأثر" ولولا اختصاص كل من هذه القوى بمحله لما كان الأمر كذلك إذ هو مبني على أن النفس الناطقة ليست مدركة للجزئيات المادية بالذات وأن الواحد لا يكون مبدأ لأثرين وكلاهما باطل على أصول الإسلام ثم لم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات والشرائط متعددة فتصدر تلك الأعمال عنها بحسب تعددها كما جوزوه في مواضع أخرى ثم قد يفسد الشيء بفساد غير محله لارتباط بينهما كما في امتناع نبات اللحية بقطع الأنثيين "وكان المحقق هو الإدراك وهو بخلقه تعالى" بمعنى أنه تعالى يخلق الإدراك للمدرك كائنا ما كان في النفس عند وجود السبب العادي له وبدونه كما هو الحق. "لم يزد القاضي الباقلاني على أن العقل بعض العلوم الضرورية" والمسطور في المواقف والمقاصد معنى هذا للأشعري بلفظ العلم ببعض الضروريات أي الكليات البديهية بحيث يتمكن من اكتساب النظريات إذ لو كان غير العلم لصح انفكاكهما بأن يوجد عالم لا يعقل وعاقل لا يعلم وهو باطل ولو كان العلم بجميع الضروريات لما صدق على من يفقد بعضها لفقد شرطها من التفات أو تجربة أو تواتر أو نحو ذلك مع أنه عاقل اتفاقا ولو كان العلم بالنظريات لكان متأخرا عن نفسه؛ لأنه مشروط بكمال العقل فيكون متأخرا عن العقل بمرتبتين فلا يكون نفس العقل واعترض بأنا لا نسلم أنه لو كان غيره(23/438)
لجاز انفكاكهما لجواز تلازم المتغايرين بحيث يمتنع الانفكاك بينهما كالجوهر والحصول في الحيز وقد يوجد العاقل بدون العلم كما في النوم نعم في شرح المواقف للسيد الشريف وقال القاضي هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات في مجاري العادات ا هـ ومشى على هذا إمام الحرمين في أوائل كتاب الإرشاد قال الشريف ولا يبعد أن يكون هذا تفسيرا لكلام الأشعري وزادت المعتزلة في العلوم التي يعتبر بها العقل العلم بحسن الحسن وقبح القبيح؛ لأنهم يعدونه في البديهيات بناء على أصلهم.
قال المصنف "والأكثر" على أن العقل "قوة بها إدراك الكليات للنفس" وكأنه مأخوذ مما في شرح المقاصد والأقرب أن العقل قوة حاصلة عند العلم بالضروريات بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات وهذا معنى ما قال الإمام إنها غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات وما قال بعضهم إنها قوة بها يميز بين الأمور الحسنة والقبيحة وما قال بعض(23/439)
ص -210-…علماء الأصول إنه نور يضيء به، طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس أي قوة حاصلة للنفس عند إدراك الجزئيات بها يتمكن من سلوك طريق اكتساب النظريات وهو الذي تسميه الحكماء العقل بالملكة ا هـ. إلا أن هذا الاختصار لا يعرى عن تأمل.
"ومحلها" أي القوة التي هي العقل "الدماغ للفلاسفة" وخصوصا الأطباء وأحمد في رواية وأبي المعين النسفي وعزاه صدر الإسلام إلى عامة أهل السنة والجماعة فقال وهو جسم لطيف مضيء محله الرأس عند عامة أهل السنة والجماعة وأثره يقع على القلب فيصير القلب مدركا بنور العقل الأشياء كالعين تصير مدركة بنور الشمس وبنور السراج الأشياء فإذا قل النور وضعف قل الإدراك وضعف وإذا انعدم النور انعدم الإدراك ا هـ واحتجوا بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أنه فيه لما زال بذلك كما لا يزول بضرب يده أو رجله ومن هنا نسب هذا إلى أبي حنيفة تارة وإلى محمد أخرى لقوله في كتاب الديات فيمن ضرب رأسه فذهب عقله فيه الدية "والقلب اللحم" الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر "للأصوليين" كالقاضي أبي زيد وشمس الأئمة السرخسي وأحمد في رواية لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] فجعل العقل بالقلب كما جعل السمع بالأذن وقال بعض السلف في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] عقل من إطلاق المحل وإرادة الحال. وأجيب عن حجة الأولين بأنه لا يمتنع زوال العقل وهو في القلب بفساد الدماغ لما بينهما من الارتباط كما لا يمتنع عدم نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين لما بينهما من الارتباط ومن هذا يخرج الجواب عن الاستدلال بالفرع المذكور وقيل التحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ "وهي" أي القوة المفسر بها العقل "المراد بذلك النور" وقال اللامشي جوهر يدرك به(23/440)
الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة "وقولهم" أي الحنفية "من منتهى درك الحواس إشارة إلى أن عمل العقل ليس فيها" أي مدركات الحواس "فإنها مدركات الصبيان والبهائم" والمجانين فلا تحتاج إلى العقل الذي نحن بصدده "بل" عمل العقل "فيما ينزعه منها" أي المدركات الحسية "وهو" أي عمله "عند انتهاء درك الحواس وعمله الترتيب السالف" أي النظر المذكور في أول الكتاب "فيخلق الله عقيبه" أي الترتيب الذي هو النظر "علم المطلوب بالعادة" أي بإجرائها على سبيل التكرار دائما من غير وجوب كما هو القول الصحيح ووجهه معروف في فنه هذا وقد أورد على هذا التعريف أنه غير جامع؛ لأنه قد يكون المطلوب بعد بداية المعقولات كما إذا استدللنا من وجود العالم على أن له صانعا عالما ثم طلبنا بعد ذلك هل علمه عين ذاته أو غيره أو لا هو ولا ذاك وأجيب بأن الطلب بعد بداية المعقولات بمرتبة أو بمراتب لا يمنع كون البداية من انتهاء الحس وإن كان في أثنائه مستغنيا عن الحس ونظر فيه بأنه حينئذ لا يصدق قوله من حيث ينتهي إليه درك الحواس؛ لأن على هذا التقدير يكون من حيث ينتهي إليه ابتداء المعقولات بل الجواب أن هذا إنما يتأتى فيما له صورة محسوسة. وأما ما ليس بمحسوس فإنما يبتدأ بطريق العلم به من حيث يوجد "وأما(23/441)
ص -211-…جعل النور العقل الأول عند الفلاسفة" أي جعل هذا التعريف للعقل هنا تعريفا للعقل الأول عند هؤلاء الضالين حيث أرادوا به "الجوهر المجرد عن المادة في نفسه وفعله" وزعموا أنه أول المخلوقات فيكون المراد بالنور المنور كما قيل في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] كما ذكره صدر الشريعة احتمالا ممكنا "فبعيد عن الصواب" فإن الأصوليين جعلوا العقل من صفات المكلف ثم فسروه هذا التفسير "وكذا" بعيد عن الصواب "جعله" أي النور الذي هو تفسير العقل هنا "إشراقه" أي الأثر الفائض من هذا الجوهر على نفس الإنسان فيكون المراد بالعقل هنا النور المعنوي الخالص بإشراق ذلك الجوهر كما ذكره صدر الشريعة احتمالا آخر ممكنا أيضا؛ لأنه ليس من صفات المكلف أيضا بل هو من توابع الجوهر الأول ولازمه. "مع أن ما يحصل بإشراقه" وإفاضة نوره "على النفس والمدرك" وهو عطف تفسيري لها "الإدراك" وهو فاعل يحصل إنما هو "عندهم" أي الفلاسفة "العقل العاشر المتعلق بفلك القمر وإليه ينسبون الحوادث اليومية على ما هو كفرهم لا" العقل "الأول وكذا" بعيد عن الصواب "جعله" أي النور الذي هو تفسير العقل هنا "المرتبة الثانية من مراتب النفس" الناطقة بحسب ما لها من التعقل، وهي أربع على المشهور:
المرتبة الأولى: استعداد بعيد نحو الكمال وهو محض قابلية النفس لإدراك المعقولات مع خلوها عن إدراكها بالفعل كما للأطفال فإن لهم في حال الطفولية وابتداء الخلقة استعدادا محضا ليس معه إدراك وليس هذا الاستعداد حاصلا لسائر الحيوانات ويسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها فهي كقوة الطفل للكتابة.(23/442)
المرتبة الثانية: استعداد متوسط وهو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات ويسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الأمي المستعد لتعلم الكتابة وتختلف مراتب الناس في هذا اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعداد.
المرتبة الثالثة: استعداد قريب جدا وهو الاقتدار على استحصال النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد التفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء ويسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل.
المرتبة الرابعة: الكمال وهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب. ويسمى عقلا مستفادا أي من خارج هو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات ونسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا فلا جرم أن قال "أعني العقل بالملكة" وإنما كان هذا بعيدا أيضا "لأنه" أي النور المذكور "آلة لها" أي لهذه المرتبة أي لحصولها للنفس لا أنه عينها "والمسمى" بالعقل بالملكة "هي" أي النفس "في هذه المرتبة أو المرتبة" التي فيها النفس لكن في شرح المقاصد وتختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات والكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها(23/443)
ص -212-…مثلا يقال تارة إن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية وتارة أنه قوى استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض وتارة أنه النفس في مبدأ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم وكذا البواقي ا هـ. وحينئذ فلا بعد في أن يكون النور الذي هو تفسير العقل هنا هو العقل بالملكة مرادا به القوة المذكورة كما تقدم وكيف لا والمراد بالقوة المعنى الذي يصير به الشيء فاعلا أو منفعلا كما في التلويح وغيره نعم عليه وعلى ما تقدم أن يقال "وكل هذه" الاحتمالات على هذه الوجوه "فضلات الفلاسفة لا يليق بالشرعي" أي بالحكم الشرعي "البناء عليها إذ لم يصح اعتبارها شرعا ثم يتفاوت" العقل بحسب الفطرة بالإجماع وشهادة من الآثار فرب صبي أعقل من بالغ ومن الأخبار ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء". "ولا يناط" التكليف "بكل قدر فأنيط بالبلوغ" أي بلوغ الآدمي حال كونه "عاقلا ويعرف" كونه عاقلا "بالصادر عنه" من الأقوال والأفعال فإن كانت على سنن واحد كان معتدل العقل وإن كانت متفاوتة كان قاصر العقل إلا أن الشرع أقام اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل بلا عته مقام كمال العقل في توجه الخطاب تيسيرا على العباد ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم وجوده قبل هذا الحد ساقط الاعتبار كما سقط توهم بقاء النقصان بعد هذا الحد لما عرف من أن السبب الظاهر إذا أقيم مقام الباطن يدور الحكم معه وجودا وعدما "وأما قبله" أي البلوغ هل يوجد التكليف "في صبي عاقل فعن أبي منصور الماتريدي وكثير من مشايخ العراق" كما أسلفناه في الفصل الثاني في الحاكم "والمعتزلة إناطة وجوب الإيمان به" أي بعقله "وعقابه" أي الصبي العاقل "بتركه" أي الإيمان لمساواته البالغ في كمال العقل وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف عمل القلب غير أن عند هؤلاء المشايخ كمال العقل معرف للوجوب(23/444)
كالخطاب والموجب هو الله تعالى بخلاف المعتزلة فإن العقل عندهم موجب بذاته كما أن العبد موجد لأفعاله "ونفاه" أي وجوب الإيمان على الصبي العاقل "باقي الحنفية دراية" لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل" رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه إذ معناه كما قال النووي امتناع التكليف لا أنه رفع بعد وضعه ا هـ، لكن في السنن الصغرى للبيهقي الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ بعد الهجرة وقبلها إلى عام الخندق كانت تتعلق بالتمييز ا هـ ونحوه في المعرفة له أيضا فإن ثبت هذا صح أن يكون الرفع بالنسبة إلى المميز بعد الوضع والله تعالى أعلم وحمله على الشرائع بدون الإيمان كما قال العراقيون لا موجب له "ورواية لعدم انفساخ نكاح المراهقة بعدم وصفه" أي الإيمان كما سلف في الفصل الثاني في الحاكم بيان هذا واضحا. "واتفق غير الطائفة من البخاريين" الحنفية "على وجوبه" أي الإيمان "على بالغ" عاقل "لم يبلغه دعوة على التفصيل" السابق في الفصل المذكور "وهذا فصل اختص الحنفية بعقده في الأهلية" أهلية الإنسان للشيء صلاحيته لصدوره وطلبه منه وقبوله إياه "وهي ضربان أهلية الوجوب" للحقوق المشروعة له وعليه "وأهلية الأداء كونه معتبرا فعله شرعا والأول بالذمة وصف شرعي به(23/445)
ص -213-…الأهلية لوجوب ما له وعليه" من الحقوق المشروعة إذ الوجوب شغل الذمة وأورد بأن هذا صادق على العقل بالمعنى السابق وأن الأدلة لا تدل على ثبوت مغاير للعقل وأجيب بمنع أن العقل بهذه الحيثية بل هو مجرد فهم الخطاب والوجوب مبني على الوصف المسمى بالذمة حتى لو فرض ثبوت العقل بدون هذا الوصف بأن ركب في حيوان غير آدمي لم يثبت الوجوب له وعليه والحاصل أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلا للوجوب له وعليه والعقل بمنزلة الشرط وتعقب بأن المعترض مانع كون الوصف الذي يبتنى عليه الوجوب أمرا آخر غير العقل فلا وجه لمنع أن العقل بهذه الحيثية ثم القول بأن الوجوب مبني على هذا الوصف ليس أمرا زائدا على مجرد الدعوى ثم ظاهر التقويم يشير إلى أن المراد بالذمة العقل "وفخر الإسلام" ومتابعوه الذمة "نفس ورقبة لها" ذمة و "عهد" فالرقبة تفسير للنفس والعهد تفسير للذمة "والمراد أنها" أي الذمة "العهد" المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] الآية وقد جاءت السنة موضحة ذلك. ففي صحيح الحاكم عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين قال فإني أشهد عليكم السموات والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ورفع لهم أبوهم آدم فرأى(23/446)
فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال يا رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7] وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وهو قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. ولا يخفى أن لهذا الموقوف حكم الرفع.
فإن قيل ما السبب في أن الناس لا يذكرون ذلك أجيب بأنهم كانوا أرواحا مجردة والذكر إنما هو بحاسة بدنية أو متعلقة بالبدن والبدن وقواه ومتعلقاته إنما حدث بعد ذلك وهذا السؤال كمن يقول لو كان زيد حضر عند السلطان لكان ثوبه عليه وهو غير لازم لجواز حضوره مجردا عن لباس ويحتمل أن يكون تجرد النفس شرطا في ذلك أو تعلقها بالبدن مانعا منه فإذا تجردت بالموت كشف عنها غطاؤها فأبصرت ما بين يديها ووراءها فإن قيل كيف قامت عليهم الحجة الآن بذلك الإقرار وهم لا يذكرونه فالجواب أن ليس المراد إقامة(23/447)
ص -214-…الحجة عليهم الآن بل يوم القيامة بأن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وهم يومئذ يذكرون ذلك المقام إما بخلق الذكر فيهم أو بإزالة الموجب للنسيان ثم لا يمتنع قيام الحجة عليهم بما لم يذكروا كما لزمهم الإيمان بما لم يدركوا ولأن الصادق أخبرهم بوقوع ذلك المقام فلزمهم تصديقه ثم تقوم الحجة عليهم بذلك والله تعالى أعلم.
فقول القائل "ففي ذمته" كذا مراد به "في نفسه باعتبار عهدها من" إطلاق "الحال" وهو الذمة "في المحل" وهو النفس أي من تسمية المحل باسم الحال "جعلت" النفس "كظرف" يستقر فيه الوجوب "لقوة التعلق فقبل الولادة" الجنين جزء من أمه من وجه حسا لقراره وانتقاله بقرارها وانتقالها كيدها ورجلها وحكما لعتقه ورقه ودخوله في البيع بعتقها ورقها وبيعها "ثم نفس منفصل من وجه" أي إنسان مستقل بنفسه من جهة التفرد بالحياة "فهي" أي الذمة ثابتة "من وجه من الوجوب له من وصية وميراث ونسب وعتق على الانفراد" أي دون الأم إذا كان محقق الوجود وقت تعلق وجوبها له على ما هو معروف في كتب الفروع "لا عليه" أي غير ثابتة فيما يجب عليه "فلا يجب في ماله ثمن ما اشترى الولي له وبعد الولادة تمت له" الذمة من كل وجه "فاستعقبت" الذمة الوجوب "له وعليه إلا ما يعجز عن أدائه لانتفاء فائدته" أي ذلك الواجب العاجز عنه "مما ليس المقصود منه مجرد المال" فإنه لا يجب عليه؛ لأن أهلية الوجوب كما تعتمد قيام الذمة ووجودها؛ لأنه لا بد له من محل يتعلق به، وهي محله تعتمد صلاحية الوجوب للحكم المطلوب بالوجوب وما ليس المطلوب منه مجرد المال منتف عنه لعجزه عن أدائه كالعبادات المحضة فإن فائدة وجوبها الأداء على سبيل التعظيم عن اختيار وقصد صحيح وهو لا يتصور من الصبي الذي لا يعقل ولا ينوب وليه عنه في ذلك؛ لأن ثبوت الولاية عليه جبري لا اختياري فلا يصلح طاعة "وذلك" أي ما يجب عليه مما المقصود منه المال فلا تنتفي فائدته "كمال الغرم" أي(23/448)
الغرامات المالية التي هي من حقوق العباد حتى لو انقلب على مال إنسان فأتلفه يجب عليه الضمان "والعوض" في المعاوضات المالية من البيع والشراء ونحوهما؛ لأن المقصود منهما المال لا الأداء إذا الغرض في الأول جبر الفائت وفي الثاني حصول أحد العوضين وذلك يحصل بعين المال وأداء وليه في حصول هذا المقصود كأدائه. "والمؤنة كالعشر والخراج"؛ لأنهما في الأصل من المؤن ومعنى العبادة والعقوبة فيهما ليس بمقصود كما تقدم بل المقصود فيهما المال وأداء الولي فيه كأدائه "وصلة كالمؤنة" أي ومثل صلة تشبه المؤنة "كنفقة القريب" فإنها صلة تشبه المؤنة من جهة أنها تجب على الغني كفاية لما يحتاج إليه أقاربه ولهذا لا تجب على من لا يسار له والمقصود منها سد خلة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك بالمال فأداء الولي فيه كأدائه "وكالعوض" أي ومثل صلة تشبه العوض "كنفقة الزوجة" فإنها تشبه العوض من جهة وجوبها جزاء للاحتباس الواجب عليها عند الرجل وجعلت صلة لا عوضا محضا؛ لأنها لم تجب بعقد المعاوضة بطريق التسمية على ما هو المعتبر في الأعواض ولأنها لو كانت عوضا عن الاحتباس للرجل لسقطت بفوته كيفما فات كما في الإجارة متى لم يسلم المؤاجر ما آجر بأي منع كان سقط(23/449)
ص -215-…الأجر وليس كذلك فإنها لو حبست نفسها لاستيفاء المهر الحال استحقت النفقة فلكونها صلة تسقط بمضي المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة القريب ولشبهها بالأعواض تصير دينا بالالتزام "لا" ما يكون من الصلة "كالأجزية" فإنه لا يجب في ماله "كالعقل" أي كتحمل شيء من الدية مع العاقلة فيما يجب عليها من ذلك فإنه صلة لكن فيه معنى الجزاء على ترك حفظ السفيه والأخذ على يد الظالم ولذا اختص به رجال العشيرة دون الصبيان والنساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الحفظ مع أنه عقوبة والصبي ليس من أهلها لتوقفه على أهلية الخطاب والقصد، وهي منعدمة فيه وهذا "بخلاف العبادات كالصلاة" فإنها إنما لم تجب عليه "للحرج" وهذا قد يوهم أنه ماش على ما ذهب إليه بعض مشايخنا كالقاضي أبي زيد من وجوب حقوق الله جميعا على الصبي؛ لأن الوجوب مبني على صحة الأسباب وقيام الذمة وقد تحققا في حقه. كما في حق البالغ لا على القدرة إذ هي والتمييز إنما يعتبران في وجوب الأداء وذلك حكم وراء أصل الوجوب إلا أنها بعد الوجوب تسقط بعذر الصبا دفعا للحرج ورده المحققون منهم بأنه إخلاء لإيجاب الشرع عن الفائدة في الدنيا، وهي تحقيق معنى الابتلاء وفي الآخرة، وهي الجزاء وبأنه لو كان ثابتا عليه ثم سقط لدفع الحرج لكان ينبغي إذا أدى أن يكون مؤديا للواجب كالمسافر إذا صام رمضان في السفر وحيث لم يقع المؤدى عن الواجب بالاتفاق دل على انتفاء الوجوب أصلا ولكن ليس المراد أنها ماش على ذلك بل المراد أن الوجوب منتف أصلا؛ لأن الوجوب يستتبع فائدته، وهي منتفية في الأداء إذ لا يتوجه عليه الخطاب بالأداء في حال الصبا والقضاء مستلزم للحرج البين كما صرح به في فتح القدير وأشار إليه هنا بقوله "ولذا" أي وللزوم الحرج المنفي شرعا للوجوب لو قلنا به قلنا "لا يقضي" أي لا يجب عليه قضاء "ما مضى من الشهر" أي شهر رمضان "إذا بلغ في أثنائه بخلاف المجنون والمغمى عليه إذا لم يستوعباه" أي الجنون(23/450)
والإغماء الشهر فإنه يجب عليهما قضاء ما فاتهما منه لثبوت أصل الوجوب في حقهما ليظهر في القضاء؛ لأن صوم ما دون شهر من سنة لا يوقع في الحرج "بخلاف المستوعب من الجنون" للشهر فإنه لا يثبت معه وجوب القضاء عليه؛ لأن امتداد الجنون كثير غير نادر فلو ثبت الوجوب معه ليظهر في القضاء لزم الحرج بخلاف الإغماء فإنه يثبت الوجوب معه إذا امتد تمام الشهر ليظهر حكمه في القضاء لعدم الحرج؛ لأنه نادر ولا حرج في النادر. "والممتد منهما" أي وبخلاف الممتد من الجنون والإغماء "يوما وليلة في حق الصلاة" وهذا سهو والصواب كما سيذكره في بحث الجنون أكثر من يوم وليلة فإن الممتد منهما يوما وليلة في حق الصلاة لا يمنع ثبوت الوجوب معه ليظهر في حق القضاء لعدم الحرج بانتفاء ثبوت الكثرة لعدم الدخول في حد التكرار بخلاف الممتد أكثر منهما على اختلاف في المراد به كما سيأتي فإنه يمنع ثبوت الوجوب ليظهر في القضاء لثبوت الحرج بثبوت الكثرة بالدخول في حد التكرار فلا يقضي شيئا "بخلاف النوم فيهما" أي اليوم والليلة استيعابا لهما فإنه لا يمنع ثبوت الوجوب معه ليظهر حكمه في حق الحلف الذي هو القضاء "إذ لا حرج لعدم الاعتداد عادة" بل هو نادر.(23/451)
ص -216-…فإن قيل النيابة تجري في العبادات المالية كتوكيل المكلف غيره بأداء زكاة ماله فينبغي أن يجب على الصبي ويؤدي عنه وليه كما قال الشافعي فالجواب أن الجاري فيها النيابة شرطها أن تكون اختيارية؛ لأن فعل النائب فيها ينتقل إلى المنوب عنه فيصح عبادة.
وهذا لا يتم في الجبرية كنيابة الولي كما أشار إليه بقوله "والزكاة وإن تأدت بالنائب لكن إيجابها للابتلاء بالأداء بالاختيار وليس" الصبي "من أهلهما" أي الأداء والاختيار كما تقدم فلم تجب عليه "ولذا" أي ولأن إيجاب العبادة للابتلاء بالأداء بالاختيار "أسقط محمد الفطرة" أي وجوبها عليه "ترجيحا لمعنى العبادة" فيها وانتفائها فيه. "واكتفيا" أي أبو حنيفة وأبو يوسف "بالقاصرة" أي بالأهلية القاصرة فيها فأوجباها عليه "ترجيحا للمؤنة" فيها وقد سبق أن قول محمد أوضح "وبخلاف العقوبات كالقصاص والأجزية كحرمان الإرث بقتله" لمورثه فإنها لا تجب عليه لعدم صلاحيته للأداء؛ لأنه ليس من أهل العقوبة والجزاء؛ لأنهما جزاء التقصير وهو لا يتصور ممن لا قصد له فلا جرم أن قال "لأنه لا يوصف بالتقصير واستثنى فخر الإسلام" والقاضي أبو زيد والحلواني وموافقوهم "من العبادات" أي من عدم وجوبها على الصبي العاقل "الإيمان فأثبت" فخر الإسلام وكذا موافقوه "وجوبه" أي الإيمان "في الصبي العاقل لسببية حدوث العالم" بما فيه من الآيات الدالة على ربوبية الباري تعالى لنفس وجوب الإيمان؛ لأن الوجوب يثبت جبرا وقيام الذمة له "لا الأداء" أي، ولم يثبت وجوب الأداء؛ لأنه بالخطاب وهو ليس بأهل له؛ لأن أهليته له منوطة بكمال العقل واعتداله وهو لا يثبت إلا بالبلوغ. "فإذا أسلم عاقلا وقع" إسلامه "فرضا"؛ لأن صحته لا تتوقف على وجوب الأداء بل على مشروعيته كصوم المسافر ثم هو في نفسه غير متنوع إلى فرض ونفل بل لا يحتمل النفل أصلا فوقع فرضا "فلا يجب تجديده" أي إسلامه حال كونه "بالغا كتعجيل الزكاة بعد السبب" لوجوبها(23/452)
فصار أداء الإيمان في حقه كتعجيل الزكاة من المكلف بعد سبب وجوبها قبل وجوب أدائها عليه "فإن قيل مثله" أي جواز تعجيل الحكم بعد تحقق سبب وجوبه قبل وجوب أدائه "يتوقف على السمع"؛ لأن سقوط ما سيجب إذا وجب بفعل قبل الوجوب على خلاف القياس "قلنا" نعم وقد وجد وهو "إسلام علي رضي الله عنه" إذ أخرج البخاري في تاريخه عن عروة قال أسلم علي وهو ابن ثمان سنين والحاكم من طريق ابن إسحاق أنه أسلم وهو ابن عشر سنين وعن ابن عباس دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي يوم بدر وهو ابن عشرين سنة. وقال صحيح على شرط الشيخين قال الذهبي هذا نص على أنه أسلم وله أقل من عشر سنين بل نص على أنه أسلم ابن سبع أو ثمان سنين وقال شيخنا الحافظ فعلى هذا يكون عمره حين أسلم خمس سنين؛ لأن إسلامه كان في أول المبعث ومن المبعث إلى بدر خمس عشرة فلعل فيه تجوزا بإلغاء الكسر الذي فوق العشرين حتى يوافق قول عروة قالوا وصحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وكأنه مأخوذ من إقراره له على ذلك وقد أخرج الحاكم عن عفيف بن عمرو أن العباس قال له في أول المبعث لم يوافق محمدا على دينه إلا امرأته خديجة وهذا الغلام علي بن أبي طالب قال عفيف فرأيتهم يصلون فوددت أني أسلمت حينئذ فأكون ربع(23/453)
ص -217-…الإسلام. قال شيخنا المصنف وقد يقال تصحيحه عليه الصلاة والسلام إسلامه إن أريد في أحكام الآخرة فمسلم وكلامنا في تصحيحه في أحكام الدنيا والآخرة حتى لا يرث أقاربه الكفار ونحو ذلك، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صححه في حق هذه الأحكام بل في العبادات فإنه كان يصلي معه على ما هو ثابت ونحو ذلك نعم لو نقل من قوله صلى الله عليه وسلم صححت إسلامه أمكن أن يصرف إليه باعتبار الجهتين لكن لم ينقل ذلك وقد أورد هذا السؤال على خلاف هذا الوجه وعلى ما ذكرنا هو الوجه ا هـ قلت ولقائل أن يقول تصحيح إسلامه في حق الصلاة تصحيح ظاهر له دلالة في سائر الأحكام المختصة بالإسلام دنيا وأخرى ومن ثمة يحكم بإسلام كافر صلى إلى قبلتنا في جماعتنا حتى يجري عليه سائر الأحكام المتعلقة بالإسلام فلا يحتاج في ثبوت تصحيحه في سائر الأحكام الإسلامية نقل تصحيحه في كل حكم منها فانتفى القول بأنه يصح إسلامه في أحكام الآخرة لا الدنيا كما ذهب إليه الشافعي وزفر ثم قال صاحب الكشف وكلامنا في صبي عاقل يناظر في وحدانية الله تعالى وصحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ويلزم الخصم على وجه لا يبقى في معرفته شبهة والله سبحانه أعلم.(23/454)
"وعلى ما قدمنا" من البحث الذي ينتفي به تحقق أصل الوجوب في مسألة تثبت السببية لوجوب الأداء بأول الوقت موسعا في الفصل الثالث "يكفي السمع عن أصل الوجوب ونفاه" أي أصل الوجوب للإيمان عن الصبي العاقل "شمس الأئمة" السرخسي "لعدم حكمه" أي الوجوب وهو وجوب الأداء وهو لا يثبت بدونه وإن كان السبب والمحل قائما "ولو أدى وقع فرضا؛ لأن عدم الوجوب كان لعدم حكمه فإذا وجد" الحكم الذي هو الأداء "وجد" الوجوب بمقتضى الأداء كما قدمناه من صوم المسافر وكأداء صلاة الجمعة في حق من لا تجب عليه فإنه يصير به مؤديا للفرض وإن لم يكن وجوبها ثابتا في حقه قبل الأداء. "والأول" أي قول فخر الإسلام وموافقيه "أوجه"؛ لأن ما ذكره إنما يأتي في وجوب الأداء لا أصل الوجوب الذي طلب منه قاله المصنف فلا جرم أن قال الفاضل القاآني وفيه نظر لأنا لا نسلم أن حكم الوجوب هو وجوب الأداء إنما ذلك حكم الخطاب بل حكمه صحة الأداء، وهي متحققة هنا فثبت الوجوب لوجود المقتضي وعدم المانع قلت ولكن هذا على تحقق أصل الوجوب لا على بحث المصنف المقتضي لانتفائه ثم إنما لم يجب عليه بعد البلوغ القصد إلى تصديق وإقرار يسقط به الفرض وقد كان الظاهر أنه يجب عليه ذلك ولا يكفيه استصحاب ما كان عليه من التصديق والإقرار غير المنوي به إسقاط الفرض كما أنه لو كان يواظب على الصلاة قبل بلوغه لا يكون كما كان يفعل بل لا يكفيه بعد بلوغه منها إلا ما قرنه بنية أداء الواجب امتثالا لدلالة الإجماع على عدم وجوب نية فرض الإيمان للبالغ المحكوم بصحة إسلامه صبيا تبعا لأبويه المسلمين إذا لو كان ذلك فرضا لم يفعله أهل الإجماع عن آخرهم.
"ولعدم حكم الوجوب من الأداء لم تجب الصلاة على الحائض لانتفاء الأداء شرعا" في(23/455)
ص -218-…حالة الحيض "والقضاء" بعد الطهارة منه "للحرج والتكليف للرحمة" أي والحال أن تكليف الله تعالى لعباده ما هو في قدرتهم من الأوامر والنواهي ولا سيما ما كان من العبادات إنما هو لرحمته تعالى لهم؛ لأنه على تقدير الامتثال كما هو مقتضى الحال طريق الثواب في السنة الإلهية "والحرج طريق الترك" الذي هو طريق العقاب "فلم يتعلق" التكليف "ابتداء بما فيه" الحرج "فضلا" من الله سبحانه "بخلاف الصوم" فإنه لا حرج في قضائها إياه "فثبت" أصل الوجوب عليها "لفائدة القضاء وعدم الحرج" وسنوضح وجهه في الكلام في الحيض والنفاس إن شاء الله تعالى.
"وأهلية الأداء نوعان قاصرة لقصور العقل والبدن كالصبي العاقل" أو العقل لا غير كما أشار إليه بقوله "والمعتوه البالغ" وإن كان قوي البدن "والثابت معها" أي القاصرة "صحة الأداء"؛ لأن في صحته نفعه بلا شائبة ضرر "وكاملة بكمالهما" أي العقل والبدن "ويلزمها" أي الكاملة "وجوبه" أي الأداء لتحقق شرطه وقد يكون كامل العقل ضعيف البدن كالمفلوج فيسقط عنه أداء ما يتعلق بقوة البدن وسلامته "فما" يكون "مع القاصرة" ستة؛ لأنه "إما حق لله لا يحتمل حسنه القبح أو قبيح لا يحتمل الحسن أو متردد" بين الحسن والقبح "أو غيره" أي غير حق لله تعالى وهو حق العبد "فإما فيه نفع أو ضرر محضان أو متردد" بين النفع والضرر.(23/456)
"فالأول" أي ما هو حق لله تعالى لا يحتمل حسنه القبح "الإيمان لا يسقط حسنه وفيه نفع محض" فيصح منه لذلك ولأهليته للثواب وكيف لا والفرض أنه وجد منه حقيقة فكذا حكما "وتخلف الوجود الحكمي عن" الوجود "الحقيقي" إنما يكون "لحجر الشرع" عنه "ولم يوجد" حجر الشرع عنه وكيف يوجد "ولا يليق" الحجر عنه بالشارع لحسنه حسنا لا يحتمل أن يكون قبيحا بحال ولو صار محجورا عنه لكان قبيحا من ذلك الوجه ولنفعه الذي لا يشوبه ضرر فإن قيل بل قد يكون فيه ضرر في أحكام الدنيا كحرمان الميراث عن مورثه الكافر والفرقة بينه وبين زوجته المجوسية أجيب بالمنع "وضرر حرمان الميراث وفرقة النكاح مضافان إلى كفر القريب والزوجة"؛ لأن الإسلام شرع عاصما للحقوق لا قاطعا "ولو سلم" لزوم ذلك له "فحكم الشيء الموجب" بالجر صفة الشيء وفاعله "ثبوت" أي ذلك الشيء "صحته" أي صحة حكم الشيء وهو مفعوله ثم حكم الشيء مبتدأ خبره "ما" أي الحكم الذي "وضع" الشيء "له" أي لذلك الحكم. "ووضعه" أي الإيمان "ليس لذلك" أي لحرمان الإرث والفرقة بين الزوجة وبينه "وإن لزم" ذلك "عنده" أي الإيمان ثمرة من ثمراته ولازما من لوازمه التابعة لوجوده ومن ثمة ثبتا في ثبوت إسلامه تبعا لإسلام أبويه أو أحدهما، ولم يعدا ضررا يمنع صحة ثبوته "بل" وضعه "لسعادة الدارين مع أنه" أي الإسلام "موجب إرثه من المسلم فلم يكن" لازمه "محصورا في الأول" أي حرمان الإرث ويعود ملك نكاحه إذا كانت زوجته أسلمت قبله فيتعارض النفع والضرر ويتساقطان فيبقى الإسلام في نفسه نفعا محضا لا يشوبه معنى الضرر وصار هذا(23/457)
ص -219-…"كقبول هبة القريب من الصبي يصح مع ترتب عتقه" على القبول "وهو" أي عتقه "ضرر" محض "لأن الحكم الأصلي" للهبة إنما هو "الملك بلا عوض" لا العتق المرتب عليها في هذه الصورة "وعرض الإسلام عليه لإسلام زوجته لصحته" أي الإسلام "منه" ونفعه بأدائه "لا وجوبه" عليه "وضربه لعشر على الصلاة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم على شرط مسلم "تأديبا" ليتخلق بأخلاق المسلمين ويعتاد الصلاة في المستقبل فهو من أنفع المنافع. "كالبهيمة" أي كضربها على بعض الأفعال فعنه صلى الله عليه وسلم: "تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار" رواه ابن عدي في الكامل إلا أنه ذكر أنه من مناكير عباد بن كثير "لا للتكليف"(23/458)
"والثاني" أي ما هو حق لله تعالى قبيح لا يحتمل قبحه الحسن "الكفر" فإنه قبيح من كل شخص في كل حال وهو "يصح منه أيضا في أحكام الآخرة اتفاقا" وإلا صار الجهل به تعالى علما به؛ لأن الكفر جهل بالله تعالى وصفاته وأحكامه على ما هي عليه وهو لا يجعل علما في حق العباد فكيف في حق رب الأرباب والعفو ودخول الجنة مع الكفر ممن يعتبر أداؤه لعقله وصحة دركه لم يرد به شرع ولا يحكم به عقل "وكذا" يصح "في" أحكام "الدنيا خلافا لأبي يوسف" آخرا والشافعي وفي المبسوط وهو رواية عن أبي حنيفة وهو القياس؛ لأنه ضرر محض كإعتاق عبده وإذا لم يصح منه ما هو متردد بين الضر والنفع فما يكون ضررا محضا أولى وجه الاستحسان أن الكفر محظور مطلقا فلا يسقط بعذر فيستوي فيه البالغ وغيره "فتبين امرأته المسلمة ويحرم الميراث" من مورثه المسلم بالردة تبعا للحكم بصحتها؛ لأن هذه الأحكام من توابعها لا قصدا للضرر في حقه إذ هو غير جائز فلم يصح العفو عن مثل هذا الأمر العظيم الذي لا يحتمل العفو بوجه بواسطة لزوم هذه الأحكام كما إذا ثبت الارتداد تبعا لأبويه بأن ارتدا ولحقا بدار الحرب ولزمه هذه الأحكام حيث لا يمتنع ثبوته بواسطة لزومه "وإنما لم يقتل" وقتئذ "لأنه" أي القتل ليس لمجرد الارتداد "بل" قتل الكافر إنما هو "بالحرابة" لأهل الإسلام. "وليس" الصبي "من أهلها ولا بعد البلوغ؛ لأن في صحة إسلامه صبيا خلافا" بين العلماء "أورث شبهة فيه" أي القتل.(23/459)
"والثالث" أي ما هو حق لله تعالى متردد بين الحسن والقبح "كالصلاة وأخواتها" من العبادات البدنية كالصوم والحج فإن مشروعيتها وحسنها قد يكون في وقت دون وقت كوقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها في حق الصلاة ويومي العيد وأيام التشريق في حق الصوم وحكم هذه أنها "تصح" منه "لمصلحة ثوابها" في الآخرة واعتياد أدائها بعد البلوغ بحيث لا تشق عليه "بلا عهدة فلا يلزم بالشروع" المضي فيها "ولا بالإفساد" قضاؤها؛ لأنها قد شرعت في حق البالغ كذلك في الجملة فإنه لو شرع في عبادة من هذه على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الإتمام مع فوات صفة اللزوم حتى لو أفسدها لا يجب عليه(23/460)
ص -220-…شيء فكذا الصبي في هذا المعنى فكانت نفعا محضا في حقه بخلاف ما كان ماليا منها كالزكاة لا يصح منه؛ لأن فيه ضررا به في العاجل بنقصان ماله.
"والرابع" أي ما هو حق للعبد وهو نفع محض "كقبول الهبة والصدقة تصح مباشرته منه بلا إذن وليه؛ لأنه نفع محض ولذا" أي ولصحة مباشرته ما فيه نفع محض "وجبت أجرته" أي الصبي المحجور بغير إذن وليه "إذا آجر نفسه وعمل مع بطلان العقد؛ لأنه" أي بطلان عقده بغير إذن وليه "ولحقه" أي الصبي وهو "أن يلحقه ضرر"؛ لأنه عقد معاوضة متردد بين الضر والنفع فلا يملكه بدون إذن الولي. "فإذا عمل بقي الأجر نفعا محضا" وهو غير محجور فيه "فيجب بلا اشتراط سلامته" من العمل حتى لو هلك في العمل له الأجر بقدر ما أقام من العمل؛ لأن الحر لا يملك بالضمان "بخلاف العبد" المحجور "آجر نفسه" بغير إذن مولاه "تجب" الأجرة "بشرطها" أي السلامة من العمل "فلو هلك ضمن" المستأجر "قيمته من يوم الغصب فيملكه فلا تجب أجرته"؛ لأنهما لا يجتمعان "وصحت وكالتهما" أي قبول الصبي والعبد توكيل غيرهما لهما بغير إذن وليهما "بلا عهدة" ترجع إليهما من لزوم الأحكام المتعلقة بالعقد الذي باشره كتسليم المبيع والثمن والخصومة في العيب "لأنه" أي قبولهما الوكالة بلا عهدة "نفع" محض لهما "إذ يكتسب بذلك إحسان التصرف، وجهة الضرر وهي لزوم العهدة منتفية فتمحض نفعا وإليه الإشارة بقوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]" أي اختبروا عقولهم وتعرفوا أحوالهم بالتصرف قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم هداية دفعتم إليهم أموالهم بلا تأخير عن حد البلوغ "ولذا" أي ولصحة مباشرتهما ما فيه نفع محض "استحقا الرضخ" أي ما دون السهم من الغنيمة "إذا قاتلا بلا إذن" من الولي والمولى والقياس لا شيء لهما؛ لأنهما ليسا من أهل القتال وإنما يصيران من أهله بالإذن كالحربي المستأمن، وجه الاستحسان أنهما غير محجورين عن محض المنفعة واستحقاق الرضخ بعد(23/461)
القتال كذلك فيكونان كالمأذونين من الولي والمولى. "وقيل هو" أي استحقاق الرضخ "قول محمد"؛ لأن عنده أمانهما صحيح وهو لا يصح إلا ممن له ولاية القتال وإذا كان لهما ولاية القتال كان لهما الرضخ عند الفراغ منه والدليل عليه أن محمدا لم يذكر هذه المسألة لا في السير الكبير وأكثر تفريعاته مبني على أصله كتفريعات الزيادات فأما عندهما فلا يصح أمانهما فلم يكن لهما ولاية القتال فلا يرضخ لهما ولهذا لا يحل لهما شهود القتال بدون الإذن بالإجماع والأصح أن هذا جواب الكل؛ لأن الحجر عن القتال لدفع الضرر وقد انقلب نفعا بعد الفراغ منه فلا معنى للحجر عن الاستحقاق "وإنما لا تصح وصيته" بثلث ماله فما دونه "مع حصول نفع الثواب وعدم الضرر إذ لا يخرج عن ملكه حيا"؛ لأن الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت "لإبطالها" أي الوصية "نفع الإرث عنه" لأقاربه الورثة "وهو" أي نفع إرثهم له "أنفع" له من نفع الوصية للأجانب "لأن نقل الملك إلى الأقارب أفضل شرعا للصدقة والصلة" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وقال صلى الله عليه وسلم لسعد: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه لكن يشكل(23/462)
ص -221-…هذا بما روى مالك عن عمرو بن سليم الزرقي أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له ها هنا إلا ابنة عم له فقال عمر مروه فليوص لها فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم قال عمرو بن سليم فبعت ذلك المال بثلاثين ألفا وقد أجاب المشايخ عنه بما لا يعرى عن نظر والله سبحانه أعلم.
"والخامس" أي ما هو حق للعبد وهو ضرر محض "كالطلاق والعتاق والصدقة" والهبة وحكم هذا أنه "لا يملكه ولو بإذن وليه"؛ لأن فيه إزالة الملك عنه من غير نفع يعود إليه والصبا مظنة الرحمة والإشفاق لا مظنة الإضرار والله أرحم الراحمين فلم يشرع في حقه المضار "كما لا يملكه عليه غيره" من ولي ووصي وقاض؛ لأن ولاية الغير عليه نظرية وليس من النظر إثباتها فيما هو ضرر محض في حقه وحينئذ فكما قال صاحب الكشف وغيره فكان المراد من عدم شرعية الطلاق أو العتاق في حقه عدمها عند عدم الحاجة فأما عند تحققها فمشروع قال شمس الأئمة السرخسي زعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم غير مشروع أصلا في حق الصبي حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق وهذا وهم عندي فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الإيقاع حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا وبهذا تبين فساد قول من يقول لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمه وهو ولاية الإيقاع والسبب الخالي عن حكمه غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة؛ لأنا لا نسلم خلوه عن حكمه إذا الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الإسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد وإذا ارتد والعياذ بالله وقعت البينونة بينه وبينها وكان طلاقا في قول محمد وإذا وجدته مجبوبا فخاصمته في ذلك فرق بينهما وكان طلاقا عند بعض المشايخ "إلا إقراض القاضي فقط من الملي" ماله فإنه يملكه. "لأنه" أي(23/463)
إقراضه "حفظ" له "مع قدرة الاقتضاء بعلمه" من غير حاجة إلى دعوى وبينة فكان بهذا الشرط نظرا من القاضي له ونفعا "بخلاف الأب"؛ لأنه لا يتمكن من تحصيله من المستقرض بنفسه فكان بمنزلة الوصي فلا يملكه "إلا في رواية"؛ لأنه يملك التصرف في المال والنفس فكان بمنزلة القاضي فيملكه "كاقتراضه"؛ لأنه لا يهلك عليه ولا يجوز للوصي عند أبي حنيفة وقال محمد لا بأس إذا كان مليا قادرا على الوفاء وليس للقاضي ذلك ذكره في المنتقى.
"والسادس" أي ما هو حق للعبد متردد بين النفع والضرر "كالبيع والإجارة والنكاح فيه احتمال الربح والخسران" فإن كان البيع رابحا والإجارة والنكاح بأقل من أجرة المثل ومهر المثل فهي نفع وإن كان البيع خاسرا وهما بأكثر من أجر المثل ومهر المثل فهي ضرر "وتعليل النفع بدخول البدل في ملكه والضرر بخروج الآخر" كما ذكر صدر الشريعة "يوجب أنه لو باع بأضعاف قيمته" كان ضررا ونفعا ويلزمه أنه "لا يندفع الضرر قط وذكر" المعلل المذكور "أنه يندفع احتمال الضرر بانضمام رأي الولي" كما ذكره في التلويح وأجيب بأن(23/464)
ص -222-…المقصود من التعليل المذكور بيان تردد هذه التصرفات بين النفع والضرر من حيث اشتمالها على دخول شيء في الملك وخروج البدل عن الملك فبانضمام رأي الولي اندفع توهم الضرر؛ لأنه لا يرى المصلحة إلا فيما له فيه نفع غالبا فالتحق بما يتمحض نفعا ولا يخفى أن هذا في نفسه حسن وإنما الكلام في استفادته من التعليل ولا ريب في أنه إنما ينسب إليه بنوع عناية على ما فيها "فيملكه" أي الصبي هذا القسم "معه" أي مع رأي الولي لاندفاع الاحتمال المذكور "لأنه" أي الصبي "أهل لحكمه" أي هذا التصرف "إذ يملك البدل إذا باشره الولي" أي يملك الثمن والأجرة إذا باع الولي عينا من ماله أو آجرها والعين إذا اشتراها له. "وأهل له" أي لهذا التصرف "إذ صحت وكالته به" أي أن يكون وكيلا لغيره فيه "وفيه" أي في جواز هذا التصرف له "نفع توسعة طريق تحصيل المقصود" له لحصوله حينئذ تارة بالولي وتارة بنفسه مع تصحيح عبارته وزيادة دربته وهو أولى من حصول الربح بطريق واحد وهو مباشرة الولي "ثم عنده" أي أبي حنيفة "لما انجبر القصور بالإذن كان كالبالغ فيملكه" أي هذا التصرف "بغبن فاحش" وهو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين "مع الأجانب والولي في رواية" كما يملكه البالغ وإن كان لا يملكه الولي "وفي أخرى لا" يملكه مع الولي "لأنه إن كان أصيلا في الملك"؛ لأنه مالك حقيقة فيشبه تصرفه تصرف الملاك من هذا الوجه "ففي الرأي" أصيل "من وجه" لا مطلقا؛ لأن أصل الفعل والرأي ثابت له إلا أن في رأيه خللا حتى احتاج إلى أن ينجبر برأي الولي فيشبه تصرفه تصرف الوكلاء من هذا الوجه "ففيه" أي هذا التصرف "شبهة النيابة عن الولي" نظرا إلى وصف الرأي بالخلل "فكأن الولي باعه من نفسه فلا يجوز" بيعه منه "بغبن" فاحش كما لا يبيع الولي ماله من نفسه بغبن فاحش "وأيضا إذا كان" في الرأي أصيلا "من وجه صح لا في محل التهمة" وهو ما إذا باع من الأجنبي ومع الولي بمثل القيمة أو بما يتغابن(23/465)
الناس بمثله ولا يصح في محلها وهو بيعه من الولي بغبن فاحش إذ يتمكن فيه تهمة أن الولي إنما أذن له ليحصل مقصوده لا للنظر للصبي "وعندهما لا يجوز" بالغبن الفاحش "مطلقا" أي لا من الولي ولا غيره "لأنه لما شرط الإذن" من الولي لنفوذ تصرفه "كان" الصبي "آلة تصرف الولي بنفسه" وهو لا يجوز منه بالغبن الفاحش، قال القاآني: وقول أبي حنيفة أصح؛ لأن إقرار الصبي بغير إذن الولي صحيح وإن لم يملك ذلك بنفسه ا هـ وفيه نظر بل الذي يظهر أن قولهما أظهر فليتأمل.
[فصل]
"وهذا فصل آخر اختصوا" أي الحنفية "به في بيان أحكام عوارض الأهلية أي أمور ليست ذاتية لها طرأت أولا" أي خصال أو آفات لها تأثير في الأحكام بالتغيير أو الإعدام سميت بها لمنعها الأحكام المتعلقة بأهلية الوجوب أو الأداء عن الثبوت إما؛ لأنها مزيلة لأهلية الوجوب كالموت أو لأهلية الأداء كالنوم والإغماء أو مغيرة لبعض الأحكام مع بقاء أصل الأهلية للوجوب والأداء كالسفر ولذا لم يذكر الكهولة والشيخوخة ونحوهما في جملتها؛ لأنها ليست بإحدى هذه الأقسام "فدخل الصغر" لعدم اشتراط الطروء والحدوث بعد العدم فيها أو كونه ليس من الأمور الذاتية للإنسان ومن ثمة كان الكبير إنسانا كالصغير وإن(23/466)
ص -223-…كان ثابتا في أصل الخلقة لا يخلو عنه إلا نادرا كآدم وحواء عليهما السلام وملخصها أحوال منافية لأهليته غير لازمة له "وهي" أي العوارض "نوعان: سماوية أي ليس للعبد فيها اختيار" فنسبت إلى السماء بمعنى أنها نازلة منها بغير اختياره وإرادته، وهي أحد عشر "الصغر والجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء والرق والمرض والحيض والنفاس والموت" قالوا وإنما لم يذكر الحمل والإرضاع والشيخوخة القريبة إلى الفناء وإن تغير بها بعض الأحكام لدخولها في المرض وأورد الإغماء والجنون من المرض وقد أفردا بالذكر وأجيب لاختصاصهما بأحكام كثيرة يحتاج إلى بيانها بخلاف تلك "ومكتسبة أي كسبها العبد أو ترك إزالتها"، وهي سبعة ستة منه، وهي الجهل والسفه والسكر والهزل والخطأ والسفر وواحد من غيره وهو الإكراه.(23/467)
"النوع الأول السماوية عوارض الأهلية" قدمها؛ لأنها أظهر في العارضية لخروجها عن اختيار العبد وأشد تأثيرا في الأحكام من المكتسبة "أما الصغر" وقدمه لكونه في أول أحوال الآدمي "فقبل أن يعقل" الصغير هو "كالمجنون الممتد" لانتفاء العقل والتمييز بل ربما كان الصغير في أول أحواله أدنى حالا من المجنون؛ لأنه قد يكون للمجنون تمييز لا عقل وهو عديمهما فلا يكون مكلفا بشيء "فإذا عقل تأهل للأداء" أهلية قاصرة "دون الوجوب إلا الإيمان على ما تقدم" قريبا من الخلاف فيه ويسقط عنه بعذر الصبا ما يحتمل السقوط عن البالغ من عبادة أو كفارة أو حد "وتقدم وضع الأجزية عنه" سالفا قريبا "وبينونة زوجته" المسلمة "بكفره" أي ردته أو إبائه عن الإسلام إذا عرض عليه بعد إسلامها "ليس جزاء بل لانتفاء أهليته لاستفراش المسلمة" لقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] "كحرمانه الإرث به" أي بكفره "لذلك" أي لانتفاء أهليته للإرث منه "لعدم الولاية"؛ لأنها شرط لسببية الإرث كما يشير إليه قوله تعالى إخبارا عن زكرياء عليه السلام {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِي} [مريم: 5- 6] والكافر ليس له أهليتها على المسلم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] "كالرقيق" أي كما يحرم المرقوق وافرا كان الرق فيه أو ناقصا بالغا كان أو غير بالغ الإرث لعدم الولاية التي هي شرط سببيته فلا يكون انتفاء الإرث فيهما جزاء على فعلهما بل لانتفاء شرط سببيته التي هي اتصال الشخص بالميت بقرابة أو زوجية أو ولاء ومثله لا يعد جزاء ألا يرى أن الأجنبي إذا لم يكن له سبب إرث من غيره لا يرثه ولا يقال حرمانه جزاء بل لم يشرع الإرث في حقه لعدم سببه.(23/468)
"وأما الجنون" وهو اختلال للعقل مانع من جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادرا إما لنقصان جبل عليه دماغه خلقة فلم يصلح لقبول ما أعد لقبوله من الفعل كعين الأكمه ولسان الأخرس وهذا مما لا يرجى زواله ولا فائدة في الاشتغال بعلاجه وإما لخروج مزاج الدماغ من الاعتدال بسبب خلط وآفة من رطوبة مفرطة أو يبوسة متناهية وهذا(23/469)
ص -224-…مما يعالج بما خلق الله تعالى له من الأدوية وإما باستيلاء الشيطان عليه وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه وهذا مما قد ينجع فيه الأدوية الإلهية "فينافي شرط العبادات النية" بالنصب بدل من شرط العبادات لسلبه الاختيار "فلا تجب" العبادات مطلقا "مع الممتد منه مطلقا" أي الأصلي وهو المتصل بزمن الصبا بأن جن قبل البلوغ فبلغ مجنونا والعارضي وهو أن يبلغ عاقلا ثم جن أما وجوب الأداء فلعدم القدرة عليها؛ لأنها لا تكون بلا عقل ولا قصد صحيح وهو مناف لهما وأما أصل الوجوب فلعدم حكمه وهو الأداء والقضاء على تقدير إمكانه دفعا للحرج "وما لا يمتد" منه حال كونه "طارئا" عليه "جعل كالنوم من حيث إنه" أي كلا منهما "عارض يمنع فهم الخطاب زال قبل الامتداد" مع عدم الحرج في إيجاب القضاء فلا ينافي كل عبادة لا يؤدي إيجابها إلى الحرج على المكلف بعد زواله كالنوم "ولأنه" أي الجنون "لا ينفي أصل الوجوب إذ هو" أي أصل الوجوب متعلق "بالذمة، وهي" أي الذمة موجودة "له" أي للمجنون "حتى ورث" من بينه وبينه سبب من أسباب الإرث "وملك" ما تحقق له فيه سبب الملك من مال أو حق مالي والإرث والملك من باب الولاية ولا ولاية بدون الذمة إلا أنه إذا انتفى الأداء تحقيقا وتقديرا بلزوم الحرج ينعدم الوجوب. "وكان أهلا للثواب"؛ لأنه يبقى مسلما بعد الجنون والمسلم يثاب والثواب من أحكام الوجوب أيضا "كأن نوى صوم الغد فجن فيه" أو قبل الفجر وهو على نيته حال كونه "ممسكا كله صح فلا يقضي" ذلك اليوم "لو أفاق بعده" أي بعد الغد لو كان ذلك من رمضان فيكون أهلا للوجوب في الجملة ولا حرج في إيجاب القضاء فيكون الأداء ثابتا تقديرا بتوهمه في الوقت وقضائه بعده كما في النوم والإغماء ثم الحاصل أن الشارع ألحق العارض من النوم والإغماء بالعدم في حق الأداء بعد تقريره حيث حكم بصحة الفعل الموجود فيهما وعلماؤنا الثلاثة ألحقوا العارض من الجنون بالعدم بعد زواله في حق الوجوب(23/470)
وجعلوا السبب الموجود فيه معتبرا في حق إيجاب القضاء عند زوال العارض فكان هذا الاستحسان أولى بالصحة من القياس وهو كونه مانعا لوجوب العبادات كلها أصليا كان أو عارضيا قليلا كان أو كثيرا لزوال أهلية الأداء بفوات العقل وعدم ثبوت الوجوب بدونها بخلاف الإغماء والنوم؛ لأنهما لا ينافيان العقل ولا يزيلانه وإنما يحصل بهما العجز عن استعمال آلة القدرة فكان العقل ثابتا كما كان وهو قول زفر والشافعي والله تعالى أعلم. "وصح إسلامه تبعا" لأبويه أو أحدهما كالصبي "وإنما يعرض الإسلام لإسلام زوجته على أبيه أو أمه لصيرورته مسلما بإسلامه" أي إسلام أحدهما فإن أسلم أقرا على النكاح وإن أبى فرق بينهما دفعا للضرر عن المسلمة بالقدر الممكن "بخلافه" أي الإسلام "أصالة" فإنه لا يصح منه "لعدم ركنية الاعتقاد" أي عقد القلب على التصديق؛ لأنه إنما يكون بالعقل وهو عديمه "لا حجرا"؛ لأن الحجر عن الإيمان غير صحيح؛ لأنه نفع محض "بخلاف" الإسلام "التبع" أي التابع لإسلامهما أو إسلام أحدهما "ليس" الاعتقاد فيه "ركنا ولا شرطا له وإنما عرض" على وليه إذا أسلمت زوجته "دفعا للضرر عنها إذ ليس له" أي للجنون "نهاية معلومة" ففي التأخير ضرر بها مع ما فيه من الفساد لقدرة المجنون على الوطء ثم قال شمس(23/471)
ص -225-…الأئمة ليس المراد من عرض الإسلام على والده أن يعرض عليه بطريق الإلزام بل على سبيل الشفقة المعلومة من الآباء على الأولاد عادة فلعل ذلك يحمله على أن يسلم ألا ترى أنه إذا لم يكن له والدان جعل القاضي له خصما وفرق بينهما فهذا دليل على أن الآباء يسقط اعتباره هنا للتعذر "بخلاف الصبي غير العاقل أسلمت زوجته لا يعرض على وليه؛ لأن لعقله حدا معلوما" وهو البلوغ فينتظر فإذا بلغ عرض عليه الإسلام. "ولا ينتظر بلوغه" أي الصبي المجنون لما ذكر "ويصير مرتدا تبعا بارتداد أبويه ولحاقهما به" أي بالمجنون بدار الحرب "إذا بلغ مجنونا وهما مسلمان"؛ لأن الكفر بالله قبيح لا يحتمل العفو بعد تحققه بواسطة تبعية الأبوين وقد ثبت الإسلام في حقه تبعا لهما فيزول بزوال ما يتبعه ثم كون أبويه مسلمين ليس بقيد؛ لأن إسلام أحدهما وارتداده ولحوقه معه بدار الحرب كاف في ارتداده "بخلاف ما إذا تركاه في دار الإسلام" فإنه يكون مسلما لظهور تبعية الدار بزوال تبعية الأبوين؛ لأنها كالخلف عنهما "أو بلغ مسلما ثم جن أو أسلم عاقلا فجن" قبل البلوغ "فارتدا أو لحقا به" بدار الحرب؛ لأنه صار أصلا في الإيمان بتقرر ركنه فلا ينعدم بالتبعية أو عروض الجنون ثم قال متصلا بقوله ولأنه لا ينفي أصل الوجوب "إلا أنه إذا انتفى الأداء" وبين أن مراده به الفعل لا مقابل القضاء بقوله "أي الفعل تحقيقا وتقديرا بلزوم الحرج في القضاء وتقدم وجهه" حيث قال: والتكليف رحمة والحرج طريق الترك فلم يتعلق ابتداء بما فيه فضلا "انتفى" أصل الوجوب "لانتفاء فائدته" من الأداء والقضاء وقوله "وكذا الأصلي عند محمد" عطف في المعنى على قوله وما لا يمتد طارئا أي وكذا الجنون الأصلي حكمه حكم الممتد من الجنون الطارئ عند محمد فلم يفرق في الأصلي بين الممتد وغيره في السقاط كما فرق في العارضي بينهما بالإسقاط وعدمه "إناطة للإسقاط بكل من الامتداد والأصالة" وعزاه في شرح الطحاوي إلى(23/472)
أصحابنا وفي الهداية وهذا مختار بعض المتأخرين وفي الفوائد الظهيرية منهم الشيخ أبو عبد الله الجرجاني والإمام الرستغفني والزاهد الصفار. "وخصه" أي الإسقاط "أبو يوسف بالامتداد" لا غير فيهما فأسقط عنده الممتد منهما دون غيره ونص في طريقة أبي المعين على أنه ظاهر الرواية وأشار إليه في الهداية بلفظ قيل ثم الخلاف بينهما هكذا هو المذكور في المبسوط والخانية وغيرهما "وقيل الخلاف على القلب" وهو أن محمدا أناط الإسقاط بالامتداد وعدم الإسقاط بعدم الامتداد في كل من الأصلي والعارضي وأن أبا يوسف فرق في العارضي بين الممتد وغيره في الإسقاط وعدمه وسوى في الأصلي في الإسقاط بين أن يكون ممتدا أو لا وهو المذكور في أصول فخر الإسلام وكشف المنار ومشى عليه المصنف في فتح القدير.
ثم هذه الجملة من التقرير هي المناسبة لشرح هذا الموضع وللمصنف هنا حاشية لها محمل صحيح في ذاتها ولكنها لا توافق شرح هذا الموضع فليتنبه لذلك، وجه التسوية بين الأصلي والعارضي أمران أحدهما أن الأصل في الجنون الحدوث إذ السلامة عن الآفات هي الأصل في الجبلة فتكون أصالة الجنون أمرا عارضا فيلحق بالأصل وهو الجنون الطارئ ثانيهما أن زوال الجنون بعد البلوغ دل على أن حصوله كان لأمر عارض على أصل الخلقة لا(23/473)
ص -226-…لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل الطارئ، ووجه التفرقة أمران أيضا: أحدهما الطريان بعد البلوغ رجح العروض فجعل عفوا عند عدم الامتداد إلحاقا بسائر العوارض بخلاف ما إذا بلغ مجنونا فزال فإن حكمه حكم الصغر فلا يوجب قضاء ما مضى ثانيهما أن الأصلي يكون لآفة في الدماغ مانعة عن قبول الكمال فيكون أمرا أصليا لا يقبل اللحاق بالعدم والطارئ قد اعترض على محل كامل للحوق آفة فيلحق بالعدم. وفي المبسوط وليس فيما إذا كان جنونه أصليا رواية عن أبي حنيفة واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى.
"وإذا كان المسقط" لوجوب العبادات في التحقيق هو "الحرج لزم اختلاف الامتداد المسقط" بالنسبة إلى أصناف العبادات "فقدر" الامتداد المسقط "في الصلاة بزيادته على يوم وليلة عندهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف بزمان يسير "وعند محمد بصيرورة الصلوات" الفوائت "ستا" بخروج وقت السادسة "وهو أقيس"؛ لأن الحرج إنما ينشأ من الوجوب عند كثرتها وكثرتها بدخولها في حد التكرار وهو إنما يكون بخروج وقت السادسة فلا جرم أن نص السرخسي وصاحب الذخيرة على أنه الأصح ومشى عليه المصنف في فتح القدير "لكنهما" أي أبا حنيفة وأبا يوسف وإن اشترطا تكرارها "أقاما الوقت" إذ هو السبب الظاهر لها "مقام الواجب" أي الصلاة "كما في المستحاضة" وسائر أصحاب الأعذار تيسيرا على العباد ثم كون هذا قولهما هو المذكور في أصول فخر الإسلام والهداية ومبسوط خواهر زاده وغيرها وجعله الفقيه أبو جعفر والسرخسي رواية عن أبي حنيفة وذكره في شرح الطحاوي والمنظومة والمختلف عن أبي حنيفة، ولم يذكر قول أبي يوسف.(23/474)
"وفي الصوم" أي وقدر امتداد الجنون المسقط لوجوب الصوم "باستغراق الشهر ليله ونهاره" حتى لو أفاق في جزء منه ليلا أو نهارا يجب عليه القضاء قال صاحب الكشف وهو ظاهر الرواية وفي الكامل نقلا عن الحلواني لو كان مفيقا في أول ليلة من رمضان فأصبح مجنونا واستوعب الجنون باقي الشهر لا يجب عليه القضاء وهو الصحيح. لأن الليل لا يصام فيه فكان الجنون والإفاقة فيه سواء، وكذا لو أفاق في ليلة من الشهر ثم أصبح مجنونا ولو أفاق في يوم من رمضان في وقت النية لزمه القضاء ولو أفاق بعده اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يلزمه القضاء؛ لأن الصوم لا يفتتح فيه ا هـ وهذا في الذخيرة والفتاوى الظهيرية ومشى عليه الإسبيجابي وحميد الضرير من غير حكاية خلاف لكن إذا كان سقوط الواجب للحرج وامتداد الجنون شهرا كثير غير نادر فيلزم الحرج بثبوته مع استيعاب الجنون الشهر بخلاف ما إذا لم يستوعبه؛ لأن صوم ما دون الشهر في سنة لا يوقع في الحرج يجب أن لا فرق في وجوب قضاء الشهر بين أن يفيق في الليلة الأولى منه أو غيرها أو في نهار منه قبل الزوال أو بعده أوله أو آخره ويؤيده ما في المجرد عن أبي حنيفة فيما إذا أفاق في الليلة الأولى ثم أصبح مجنونا جميع الشهر أنه يلزمه القضاء نعم هذا إذا لم ينو الصوم فيها أو نواه ثم أفطر(23/475)
ص -227-…في نهاره أما إذا نواه، ولم يفطر قضى الشهر إلا ذلك اليوم وهو محمل ما ذكره جماعة منهم أبو جعفر في كشف الغوامض أنه يلزمه قضاء جميع الشهر إلا اليوم الأول. وكذا يجب أن لا يفرق فيه بين الأصلي والعارضي كما ذكره في الإيضاح عن أبي يوسف وهو أولى إن شاء الله تعالى مما في شرح الطحاوي من أن في الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر يلزمه قضاء ما أدرك لا قضاء ما مضى ثم قالوا إنما لم يشترط التكرار في الصوم؛ لأنه لو شرط لازدادت الزيادة المؤكدة على الأصل المؤكد إذ لا يدخل وقت الصيام ما لم يمض أحد عشر شهرا والتحقيق ما سبق.
"وفي الزكاة" قدر امتداد الجنون المسقط لوجوبها "باستغراق الحول" به كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة والأمالي عن أبي يوسف وابن رستم عن محمد قال صدر الإسلام وهو الأصح؛ لأن الزكاة تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية قال المصنف وفيه نظر فإن التكرار بخروجها لا بدخولها؛ لأن شرط الوجوب أن يتم الحول فالأولى اعتبار الحول؛ لأنه كثير في نفسه كما مشى عليه في التلويح "وأبو يوسف" في رواية هشام عنه قال "أكثره" أي الحول إذا استوعبه الجنون "ككله" إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرا وتخفيفا في سقوط الواجب والنصف ملحق بالأقل "فلو بلغ مجنونا مالكا" للنصاب ثم أفاق "فابتداء الحول من الإفاقة" عند أبي يوسف بناء على أن الأصلي ملحق بالصبا عنده "خلافا لمحمد" في أن ابتداء الحول من البلوغ عنده بناء على أن الأصلي والعارضي سواء عنده في أن المسقط فيهما الامتداد، ولم يوجد "ولو أفاق بعد ستة أشهر مثلا وتم الحول وجبت عند محمد لا أبي يوسف ما لم يتم" الحول من الإفاقة وكان الأولى فلو أفاق بالفاء ولو كان هذا في العارضي وجبت اتفاقا من غير توقف على تمام الحول من وقت الإفاقة.(23/476)
"وأما العته اختلاط الكلام مرة ومرة" وهذا اختصار مجحف لتعريفه باختلال العقل بحيث يختلط كلامه فيشبه مرة كلام العقلاء، ومرة كلام المجانين وكذا سائر أموره وأحسن منه ما قيل آفة ناشئة عن الذات توجب خللا في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين فخرج بناشئة عن الذات ما يكون بالمخدرات "فكالصبي العاقل" أي فالمعتوه كهذا "في صحة فعله وتوكيله" أي وقبول الوكالة من غيره في بيع مال الغير والشراء له وطلاق امرأته وإعتاق عبده "بلا عهدة" حتى لا يطالب في الوكالة بالبيع والشراء بنقد الثمن وتسليم المبيع ولا يرد عليه بالعيب ولا يؤمر بالخصومة فيه "وقوله" أي وفي صحة قوله الذي هو نفع محض وهو أهل لاعتباره منه "كإسلامه" أما أنه نفع محض فظاهر وأما أنه أهل لاعتباره منه فلوجود أصل العقل فيه بخلاف ما هو ضرر محض كالطلاق والعتاق فإنه لا يصح منه لا بإذن وليه ولا بدون إذنه كما لا يصح من الصبي العاقل وبخلاف ما هو متردد بين الضرر والنفع كالشراء لنفسه فإنه يصح منه بإذن الولي بدون إذنه كما في الصبي العاقل أيضا "ولا تجب العبادات عليه" كما لا يجب على الصبي(23/477)
ص -228-…العاقل أيضا كما هو اختيار عامة المتأخرين "والعقوبات" كما لا تجب على الصبي العاقل أيضا بجامع وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه فيهما دفعا للحرج "وضمان متلفاته ليس عهدة"؛ لأنها تلزم مع التصرف الشرعي كالبيع والشراء والوكالة وليس الإتلاف تصرفا شرعيا ولأن المنفي عهدة تحتمل العفو في الشرع وضمان المتلف لا يحتمله. لأنه حق العبد شرع جبرا لما استهلك من المحل المعصوم ولهذا قدر بالمثل لا جزاء للفعل، وكون المستهلك صبيا أو بالغا معتوها لا ينافي عصمة المحل؛ لأنها ثابتة لحق العباد وحاجتهم وذلك لا يزول بالصبا والعته، والحاصل أن العذر الثابت للمتلف لا يوجب بطلان الحق الثابت للمتلف عليه؛ لأنه محتاج كما هو محتاج نعم جاز أن يبطل به ما ثبت لحق الشرع لغناه تعالى عن العالمين ألا يرى أن المضطر لو تناول مال الغير لا يأثم؛ لأنه حق الشرع ووجب الضمان؛ لأنه حق العبد "وتوقف نحو بيعه" وشرائه وإجارته على إذن وليه كما قدمناه وتثبت الولاية عليه لغيره كما تثبت على الصبي؛ لأن ثبوتها من باب النظر ونقصان العقل مظنة النظر والرحمة؛ لأنه سبب العجز "ولا يلي على غيره" لعجزه عن التصرف بنفسه فلا يثبت له قدرة التصرف على غيره "ولا يؤخر العرض" للإسلام "عليه عند إسلام امرأته" إذا لم يكن مسلما "لما قلنا" في الصبي العاقل وهو صحته منه فإن إسلام كل منهما صحيح لوجود أصل العقل بخلاف المجنون "وفي التقويم تجب عليه العبادات احتياطا" في وقت الخطاب وهو البلوغ بخلاف الصبا؛ لأنه وقت سقوط الخطاب ورده صدر الإسلام بأن العته نوع جنون فيمنع وجوب أداء الحقوق جميعا إذ المعتوه لا يقف على عواقب الأمور كصبي ظهر فيه قليل عقل وتحقيقه أن نقصان العقل لما أثر في سقوط الخطاب عن الصبي كما أثر عدمه في حقه أثر في سقوط الخطاب بعد البلوغ أيضا كما أثر عدمه في السقوط بأن صار مجنونا؛ لأنه لا أثر للبلوغ لا في كمال العقل فإذا لم يحصل بحدوث هذه الآفة كان(23/478)
البلوغ وعدمه سواء فالخطاب يسقط عن المجنون كما يسقط عن الصبي في أول أحواله تحقيقا للعدل وهو أن لا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع ويسقط عن المعتوه كما يسقط عن الصبي في آخر أحواله تحقيقا للفضل وهو نفي الحرج عنه نظرا له ومرحمة عليه ذكره في الكشف وغيره.
"وأما النسيان عدم الاستحضار" للشيء "في وقت حاجته" أي حاجة استحضاره "فشمل" هذا "النسيان عند الحكماء والسهو؛ لأن اللغة لا تفرق" بينهما وإن فرقوا بينهما بأن السهو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة والنسيان زوالها عنهما معا فيحتاج حينئذ في حصولها إلى سبب جديد. وقال الشيخ سراج الدين الهندي والحق أن النسيان من الوجدانيات التي لا تفتقر إلى تعريف بحسب المعنى فإن كل عاقل يعلم النسيان كما يعلم الجوع والعطش "فلا ينافي الوجوب" ولا وجوب الأداء "لكمال العقل وليس عذرا في حقوق العباد" حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان جبرا لحق العبد؛ لأنها محترمة لحاجتهم لا للابتلاء وبالنسيان لا يفوت هذا الاحترام "وفي حقوقه تعالى" هو "عذر سقوط الإثم" كما هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن حبان(23/479)
ص -229-…والحاكم وقال صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. "أما الحكم" الدنيوي "فإن كان" النسيان لما هو فيه حتى فعل ما ينافيه "مع مذكر" له بما هو بصدده "ولا داع" والأحسن ولا داعي "إليه" أي إلى ذلك الفعل "كأكل المصلي" في الصلاة ناسيا فإن هيئة المصلي مذكرة له مانعة من النسيان إذا لاحظها ودعاء الطبع إليه في الصلاة منتف عادة لقصر مدتها فحينئذ "لم يسقط حكمه" فيفسد الصلاة "لتقصيره بخلاف سلامه في القعدة" الأولى نسيانا على ظن أنها الأخيرة فإنه يسقط حكمه فلا يفسدها لانتفاء المذكر؛ لأنه ليس للمصلي هيئة مذكرة أنها الأولى وكثرة تسليمه في القعدة داعية إليه "أو" كان "لا معه" أي لا مع مذكر ولكن "مع داع" إلى ذلك الفعل "كأكل الصائم" في حال صومه ناسيا فإنه ليس في الصوم هيئة مذكرة به والطبع داع إليه لطول مدته "أو" كان "لا" مع مذكر "ولا" مع داع إليه "فأولى" أن يسقط حكمه "كترك الذابح التسمية" فإنه لا داعي إلى تركها وليس ثمة ما يذكر إخطارها بالبال أو إجراءها على اللسان كذا في التلويح قلت ويشكل الأول بتعليلهم حلها بقولهم؛ لأن قتل الحيوان يوجب خوفا وهيبة ويتغير حال البشرية غالبا لنفور الطبع عنه ولهذا لا يحسن الذبح كثير خصوصا من كان طبعه رقيقا يتألم بإيذاء الحيوان فيشتغل القلب به فيتمكن النسيان من التسمية في تلك الحالة ويناقش الثاني بأن هيئة إضجاعها وبيده المدية لقصد إزهاق روحها مذكرة له بالتسمية فالأولى التوجيه بما قالوه وهو في المعنى إبداء حكمة وإلا فالمفزع في ذلك إنما هو السمعي كما عرف في الفروع.(23/480)
"وأما النوم ففترة تعرض مع" قيام "العقل توجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختيارية واستعمال العقل فالفترة هي معنى قولهم انحباس الروح من الظاهر إلى الباطن وهذه الروح بواسطة العروق الضوارب تنتشر إلى ظاهر البدن وقد تنحجر" أي تنحبس "في الباطن بأسباب مثل طلب الاستراحة من كثرة الحركة والاشتغال بتأثير في الباطن كنضج الغذاء" ولذا يغلب النوم عند امتلاء المعدة "ونحوه" كأن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفي بالظاهر والباطن جميعا ولنقصانه وزيادته أسباب طبيعية والإعياء معناه نقصان الروح بالتحلل بسبب الحركة ومثل الرطوبة والثقل الذي يظهر فيه فيمنعه عن سرعة الحركة كما يغلب في الحمام بعد الخروج منه وتناول الشيء المرطب للدماغ فإذا ركدت الحواس بسبب من هذه الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس؛ لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورده الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ ارتفع عنها المانع فتتصل بالجواهر الروحانية المنتقش فيها الموجودات كلها المعبر عنها باللوح المحفوظ فانطبع فيها ما فيها وهو الرؤيا فإن لم تتصرف القوة المخيلة الحاكية للأشياء بتمثيلها صدقت هذه الرؤيا بعينها ولا تعبير لها وإن كانت المخيلة غالبة أو إدراك النفس للصور ضعيفا بدلت المخيلة ما رأته بمثال كالرجل بشجرة ونحوه، وهي التي تحتاج إلى التعبير والمراد بالروح جسم لطيف مركب من بخار وأخلاط مفضية للقلب وهو مركب القوى النفسانية والحيوانية وبها تصل القوى الحاسة إلى آلاتها ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وكان الأولى تقييد الفترة بالطبيعية ليخرج الإغماء وقيد الأفعال(23/481)
ص -230-…بالاختيارية أي الصادرة عن قصد واختيار لبقاء الحركات الطبيعية كالتنفس ونحوه وقيل النوم ريح تأتي الحيوان إذا شمها ذهبت حواسه كما تذهب الخمر بعقل شاربها وقيل انعكاس الحواس الظاهرة إلى الباطنة حتى يصح أن يرى الرؤيا قيل وله أربع علامات: فقد الشعور حتى لو مسه إنسان لم يحس به، واسترخاء الأعضاء فلو قبض دراهم ثم نعس فسقطت من غير شعور بها دل على نومه، وأن يخفى عليه كلام الحاضرين فلا يدري ما قالوا، وأن يرى في نومه رؤيا، وغير خاف أن في هذا قصورا "فأوجب تأخير خطاب الأداء" إلى زواله لامتناع الفهم وإيجاد الفعل حالة النوم "لا" تأخير "أصل الوجوب" ولا إسقاطه حالتئذ لعدم إخلاله بالذمة والإسلام ولإمكان الأداء حقيقة بالانتباه أو خلفا بالقضاء عند عدمه والعجز عن الأداء إنما يسقط الوجوب حيث يتحقق الحرج بتكثير الواجب وامتداد الزمان والنوم ليس كذلك عادة "ولذا" أي ولوجود أصل الوجوب حالة النوم "وجب القضاء" للصلاة التي دخل وقتها وهو نائم "إذا زال" النوم "بعد الوقت"؛ لأنه فرع وجود الوجوب في حالة النوم وقدمنا في مسألة تثبت السببية لوجوب الأداء بأول الوقت موسعا في الفصل الثالث أن أبا المعين ذهب إلى أن وجوب القضاء عليه ابتداء عبادة تلزمه بعد حدوث أهلية الخطاب وما له في هذا وما عليه فليراجع "و" أوجب "إبطال عباراته من الإسلام والردة والطلاق" والعتاق والبيع والشراء وغيرها "ولم توصف" عباراته "بخبر وإنشاء وصدق، وكذب كالألحان" أي كما لا يوصف بها أصوات الطيور لانتفاء الإرادة والاختيار "فلذا" أي إبطال النوم عبارات النائم "اختار فخر الإسلام" وصاحب الهداية في جماعة "أن قراءته لا تسقط الفرض" ونص في المحيط على أنه الأصح. لأن الاختيار شرط أداء العبادة، ولم يوجد "وفي النوادر تنوب" واختاره الفقيه أبو الليث؛ لأن الشرع جعل النائم كالمستيقظ في حق الصلاة تعظيما لأمر المصلي والقراءة ركن زائد يسقط في بعض الأحوال فجاز(23/482)
أن يعتد بها مع النوم وقال شيخنا المصنف إنه الأوجه والاختيار المشروط قد وجد في ابتداء الصلاة وهو كاف ألا يرى أنه لو ركع وسجد ذاهلا عن فعله كل الذهول أنه يجزئه ا هـ قلت وهو يفيد أنه لو ركع وسجد حالة النوم يجزئه وقد نصوا على أنه لا يجزئه وفي المبتغى ركع وهو نائم لا يجوز إجماعا فإن فرق بينها وبينهما بأنهما ركنان أصليان لا يسقطان بحال بخلافها فلا نسلم أن هذا مؤثر في الاعتداد بها دونهما في هذه الحالة وفي هذا مزيد بحث وفوائد أوردته في كتابي حلبة المجلي في شرح منية المصلي ثم عطف على أن قراءته "وأن لا تفسد قهقهته الوضوء ولا الصلاة وإن قيل إن أكثر المتأخرين" وفي المغني عامتهم على أن قهقهته "تفسدهما" أي الوضوء والصلاة أما الوضوء فلثبوت كونها حدثا في صلاة ذات ركوع وسجود بالنص وقد وجدت ولا فرق في الإحداث بين النوم واليقظة قلت وفيه نظر فإن ذلك في الحدث الحقيقي، وهي حدث حكمي ثابت على خلاف القياس في حق المستيقظ لمعنى معقول وهو الجناية على العبادة الخاصة بخصوص هذا الفعل وهو مفقود فيها نائما فلا يكون حدثا وأما الصلاة فلأن في القهقهة معنى الكلام والنوم كاليقظة فيه عند الأكثر، ووجه مختار فخر الإسلام وموافقيه وقد نص شيخنا المصنف في فتح(23/483)
ص -231-…القدير على أنه الأصح زوال معنى الجناية بالنوم ثم النوم يبطل حكم الكلام وهو مخدوش بما تراه "وتفريع النوازل الفساد بكلام النائم عليه" أي قول أكثر المتأخرين. "لعدم فرق النص" وهو ما في صحيح مسلم "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" "بين المستيقظ والنائم وإنزال النائم كالمستيقظ" شرعا لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته فيقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده بين يدي" رواه البيهقي وقال ليس بالقوي الدارقطني في علله عن الحسن عن أبي هريرة وقال لا يثبت سماع الحسن من أبي هريرة فلا جرم أن مشى عليه في الخانية والخلاصة وغيرهما ونص في الولوالجية على أنه المختار "وعن أبي حنيفة تفسد الوضوء لا الصلاة" وتقدم وجه كل بما عليه "فيتوضأ ويبني" على صلاته كمن سبقه الحدث "وقيل عكسه" أي تفسد صلاته لا وضوءه وهو المذكور في عامة النسخ للفتاوى وفي الخلاصة وهو المختار وقال المصنف هنا "وهو أقرب عندي؛ لأن جعلها حدثا للجناية ولا جناية من النائم" لعدم القصد "فبقي" القهقهة بمعنى الضحك أو الفعل "كلاما بلا قصد فتفسد" الصلاة به "كالساهي به" أي بالكلام.(23/484)
"وأما الإغماء فآفة في القلب أو الدماغ تعطل القوى المدركة والمحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوبا" وإيضاحه مع أنه تقدم بعضه ملخصا قريبا أنه ينبعث عن القلب بخار لطيف يتكون من ألطف أجزاء الأغذية يسمى روحا حيوانيا وقد أفيضت عليه قوة تسري بسريانه في الأعصاب السارية في أعضاء الإنسان فتثير في كل عضو قوة تليق به ويتم بها منافعه، وهي تنقسم إلى مدركة وهي الحواس الظاهرة والباطنة، ومحركة وهي التي تحرك الأعضاء بتمديد الأعصاب وإرخائها لتنبسط إلى المطلوب أو تنقبض عن المنافي فمنها ما هي مبدأ الحركة إلى جلب المنافع وتسمى قوة شهوانية ومنها ما هي مبدأ الحركة إلى دفع المضار وتسمى قوة غضبية وأكثر تعلق المدركة بالدماغ والمحركة بالقلب فإذا وقعت في القلب أو الدماغ آفة بحيث تتعطل تلك القوى عن أفعالها وإظهار آثارها كان ذلك إغماء فهو مرض لا زوال للعقل كالجنون "وإلا" لو كان العقل غير باق "عصم منه الأنبياء" كما عصموا من الجنون واللازم منتف بالإجماع "وهو" أي الإغماء "فوق النوم" في العارضية؛ لأن النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع حتى عده الأطباء من ضروريات الحيوان استراحة لقواه، والإغماء ليس كذلك فيكون أشد في العارضية وفي سلب الاختيار وتعطل القوى فإنهما في الإغماء أشد فإن مواده غليظة بطيئة التحلل ولهذا يمتنع فيه التنبه ويبطؤ الانتباه بخلاف النوم فإن سببه تصاعد أبخرة لطيفة سريعة التحلل إلى الدماغ فلذا يتنبه بنفسه أو بأدنى تنبيه "فلزمه" أي الإغماء من إيجاب تأخير الخطاب وإبطال العبادات "ما لزمه" أي النوم من ذلك بطريق أولى "وزيادة كونه" أي الإغماء "حدثا ولو في جميع حالات الصلاة" من قيام وركوع وسجود وقعود واضطجاع لزوال المسكة على وجه الكمال على كل حال "ومنع البناء" إذا وقع في الصلاة "بخلاف النوم في الصلاة مضطجعا" بأن غلبته عيناه فاضطجع في حالة نومه "له البناء" إذا توضأ بمنزلة ما لو سبقه الحدث كما في الخانية.(23/485)
والفرق أن الإغماء نادر ولا سيما في الصلاة بخلاف النوم والنص(23/486)
ص -232-…بجواز البناء إنما ورد في الحدث الغالب الوقوع ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعا انتقض وضوءه وبطلت صلاته بلا خلاف وقيد بالاضطجاع؛ لأن نوم المصلي غير مضطجع لا ينقض الوضوء هذا والإغماء إذا زاد على يوم وليلة باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلوات عند محمد تسقط به الصلاة استحسانا كما تقدم في الجنون وقال مالك والشافعي إذا استوعب وقت صلاة سقطت به بخلاف النوم ثم في المحيط لو شرب الخمر حتى ذهب عقله أكثر من يوم وليلة لا يسقط عنه القضاء؛ لأن الإغماء حصل بما هو معصية فلا يوجب التخفيف والترفيه ا هـ وفي تسمية هذا إغماء مساهلة بل هذا سكر وسيأتي الكلام فيه وفيه أيضا. ولو شرب البنج أو الدواء حتى أغمي عليه قال محمد يسقط عنه القضاء متى كثر؛ لأنه حصل بما هو مباح فصار كما لو أغمي عليه بمرض وقال أبو حنيفة يلزمه القضاء؛ لأن النص ورد في إغماء حصل بآفة سماوية فلا يكون واردا في إغماء حصل بصنع العباد؛ لأن العذر متى جاء من قبل غير من له الحق لا يسقط الحق ولو أغمي عليه لفزع من سبع أو آدمي أكثر من يوم وليلة لا يلزمه القضاء بالإجماع؛ لأنه حصل بآفة سماوية؛ لأن الخوف والفزع إنما يجيء لضعف قلبه فيكون بمعنى المرض ثم هذا إذا لم يفق المغمى عليه أصلا هذه المدة فإن كان يفيق ساعة ثم يعاوده لم يذكره محمد وهو على وجهين أحدهما إن كان لإفاقته وقت معلوم فهي إفاقة معتبرة يبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان من المدة المذكورة ثانيهما أن لا يكون لها وقت معلوم بل يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه إفاقة معتبرة ذكره في الذخيرة، والله تعالى أعلم.(23/487)
"وأما الرق" فهو لغة الضعف ومنه صوت رقيق وأما في الشرع "فعجز حكمي عن الولاية والشهادة والقضاء ومالكية المال" والتزوج وغيرها "كائن عن جعله" أي المرقوق "شرعا عرضة" أي محلا منصوبا متهيئا "للتملك والابتذال" أي الامتهان وقيد بالحكمي؛ لأن بعض الأرقاء قد يكون أقوى من الحرفي القوي الحسية؛ لأن الرق لا يوجب خللا في البدن ظاهرا ولا باطنا ثم هو حق الله ابتداء بمعنى أنه يثبت جزاء للكفر فإن الكفار لما استنكفوا عن عبادة الله وألحقوا أنفسهم بالبهائم في عدم النظر والتأمل في آيات التوحيد جازاهم الله تعالى بجعلهم عبيد عبيده متملكين مبتذلين بمنزلة البهائم ولهذا لا يثبت على المسلم ابتداء ثم صار حقا للعبد بقاء بمعنى أن الشارع جعل الرقيق ملكا من غير نظر إلى معنى الجزاء وجهة العقوبة حتى إنه يبقى رقيقا وإن أسلم واتقى "فلا يتجزأ الرق" قال غير واحد من المتأخرين باتفاق أصحابنا ولعل المراد المتقدمون وإلا فمشكل بقول محمد بن سلمة يحتمل التجزؤ ثبوتا حتى لو فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في استرقاق أنصافهم بعد ذلك نفذ ذلك منه والأصح الأول "لاستحالة قوة البعض الشائع" من المحل "باتصافه بالولاية والمالكية" دون البعض الآخر "فكذا ضده" أي الرق "وهو العتق" لا يتجزأ أيضا اتفاقا على ما ذكره غير واحد أيضا "وإلا" لو تجزأ العتق "تجزأ" الرق؛ لأنه إذا ثبت العتق في بعض المحل شائعا فالبعض الآخر إن عتق فلا تجزئ مع فرض أنه متجزئ هذا خلف وإن لم يعتق لزم المحال المذكور "وكذا(23/488)
ص -233-…الإعتاق عندهما" لا يتجزأ فإذا أعتق نصف عبده عتق كله. "وإلا" لو تجزأ "ثبت المطاوع" بفتح الواو وهو الإعتاق "بلا مطاوع" بكسر الواو وهو العتق "إن لم ينزل" أي لم يعتق منه "شيء"؛ لأن العتق مطاوع الإعتاق ولازمه يقال أعتقته فعتق ككسرته فانكسر والمطاوعة حصول الأثر عن تعلق الفعل المتعدي بمفعوله وأثر الشيء لازم له "وقلبه" أي وثبت المطاوع بكسر الواو بلا مطاوع بفتحها "إن نزل" أي عتق "كله"، وكلاهما منتف ولا ينزل بعضه بإعتاق بعضه للاتفاق على عدم تجزؤ العتق "وتجزأ" الإعتاق "عنده" أي أبي حنيفة "لأنه" أي الإعتاق "إزالة الملك المتجزئ" اتفاقا "حتى صح شراء بعضه وبيعه" أي بيع بعضه "وإن تعلق بتمامه" أي الإعتاق "ما لا يتجزأ" وهو العتق فإن وصلية؛ لأنه حينئذ "كالوضوء تعلق بتمامه إباحة الصلاة وهو" أي الوضوء "منجز دونها" أي إباحة الصلاة "والمطاوعة في أعتقه فعتق" إنما هي "عند إضافته" أي الإعتاق "إلى كله كما هو اللفظ" أي أعتقه "فلا يثبت بإعتاق البعض شيء من العتق" إذ لو ثبت العتق ثبت في الكل لعدم تجزؤ العتق وثبوته في الكل حينئذ بلا سبب مع تضرر المولى بذلك "ولا" يثبت أيضا بإعتاق البعض "زوال شيء من الرق عنده" لكن من الملك "بل هو" أي معتق البعض "كالمكاتب" في أنه لا يصح منه سائر أحكام الحرية "إلا أنه" أي معتق البعض "لا يرد" إلى الرق؛ لأن سببه إزالة الملك لا إلى أحد، وهي لا تحتمل الفسخ بخلاف المكاتب فإنه يرد إليه إذا عجز عن المال؛ لأن السبب فيه عقد يحتمل الفسخ "فأثره" أي إعتاق البعض "حينئذ" أي حين كان إزالة بعض الملك "في فساد الملك" في الباقي حتى لا يملك المولى بيع معتق البعض ولا إبقاءه في ملكه ويصير هو أحق بمكاسبه ويخرج إلى الحرية بالسعاية. "وهذا" إنما كان "لوجوب قصر ملاقاة التصرف حق المتصرف" لا حق غيره "إلا ضمنا كما في إعتاق الكل" فإن فيه إزالة حق العبد قصدا وأصلا ولزم منه زوال حق الله تعالى ضمنا(23/489)
وتبعا وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا ومن هذا يعرف أن ما في البدائع من التعقب لمن قال من مشايخنا لا خلاف بين أصحابنا في أن العتق لا يتجزأ وإنما اختلفوا في الإعتاق بأنه غير سديد بما ذكره ثمة ليس بتعقب سديد ويزداد لدى الناظر وضوحا بمراجعة أوائل باب العبد يعتق بعضه من شرح الهداية للمصنف رحمه الله تعالى.
"والرق حق الله تعالى" ابتداء "والملك حقه" أي العبد بقاء كما تقدم "وأنه" أي الرق "ينافي ملك المال؛ لأنه" أي الرقيق "مملوك مالا فاستلزم" كونه مملوكا مالا "العجز والابتذال"؛ لأن المملوكية المالية تنبئ عنهما "والمالكية تستلزم ضدهما" أي العجز والابتذال وضداهما القدرة والكرامة لإنبائها عنهما "وتنافي اللوازم يوجب تنافي الملزومات فلا يجتمع إلى مملوكيته مالا مالكيته للمال فلا يتسرى" الرقيق الأمة "ولو ملكها" حال كونه "مكاتبا بخلاف غيره" أي المال "من النكاح" فإنه فيه بمنزلة المبقى على أصل الحرية "لأنه من خواص الآدمية حتى انعقد" إنكاحه نفسه موقوفا على إجازة المولى إذا كان "بلا إذن" من المولى. "وشرط الشهادة عنده" أي العقد "لا عند الإجازة وإنما وقف إلى إذنه؛ لأنه" أي عقد النكاح "لم يشرع إلا بالمال" لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] إلى غير ذلك "فيضر" العقد "به" أي(23/490)
ص -234-…بالمولى لما فيه من نقصان مالية العبد التي هي حق المولى؛ لأن المهر يتعلق برقبته إذا لم يوجد له مال آخر يتعلق به "فيتوقف" نفاذ العقد "على التزامه" أي المولى بالإذن السابق أو الإمضاء اللاحق "و" من "الدم لملكه الحياة"؛ لأنه محتاج إلى البقاء ولا بقاء له إلا ببقائها "فلا يملك المولى إتلافه" أي دمه إذ لا ملك له فيه "وقتل الحر به" أي بالعبد قصاصا في العمد "وودي" أي وفدي بالدية على تفصيل فيها في الخطأ "وصح إقراره" أي العبد على نفسه مأذونا كان أو محجورا "بالحدود والقصاص" أي بالأسباب الموجبة لهما لملاقاة حق نفسه قصدا فيصح منه كما يصح من الحر ولا يمنع صحته لزوم إتلاف ماليته التي هي حق المولى لكونه ضمنيا فانتفى نفي زفر صحة إقراره بالحدود والقصاص بكونه واردا على نفسه وطرفه وكلاهما مال المولى والإقرار على الغير غير مقبول بخلاف إقراره بضمان المال فإنه مؤاخذ به في الحال إن كان مأذونا وبعد العتق إن كان محجورا.(23/491)
"والسرقة المستهلكة" أي وبسرقة مال غير قائم بيده "والقائمة" أي وبسرقة مال قائم بيده "في المأذون اتفاقا وفي المحجور والمال قائم" بيده "كذلك" أي صح إقراره بها "وإن صدقه المولى" في ذلك "فيقطع" في هذه الأحوال عند علمائنا الثلاثة؛ لأن وجوب الحد عليه باعتبار أنه آدمي مكلف لا باعتبار أنه مال مملوك وهو في هذا المعنى كالحر مأذونا كان أو محجورا. "ويرد" المال إذا كان قائما أما إذا كان مأذونا فلأنه لاقى حق نفسه وهو الكسب؛ لأنه منفك الحجر فيه فيصح وأما إذا كان محجورا فلسقوط حق المولى فيه بتصديقه "ولا ضمان في الهالكة" صدقه المولى أو كذبه لما عرف من أن القطع والضمان لا يجتمعان عند أصحابنا "وإن قال" المولى "المال لي" فيما إذا كان العبد محجورا والمال قائم "فلأبي يوسف يقطع"؛ لأن إقراره حجة في القطع؛ لأنه مالك دم نفسه "والمال للمولى؛ لأنه" أي كون المال للمولى هو "الظاهر" تبعا لرقبته "وقد" ينفصل أحد الحكمين عن الآخر إذ قد "يقطع بلا وجوب مال كما لو استهلكه" أي المال المسروق "وعكسه" أي ويجب المال ولا يقطع كما "إذا شهد بالسرقة رجل وامرأتان" لما عرف من أن شهادة النساء مع الرجل تقبل في المال لا في الحدود "ولمحمد لا" يقطع "ولا يرد" المال "لما ذكر أبو يوسف" من أن إقراره بالمال باطل لكونه على المولى فيبقى المال للمولى "ولا قطع" على العبد "بمال السيد" أي بسرقته "ولأبي حنيفة يقطع ويرد" المال إلى المسروق منه "القطع لصحة إقراره بالحدود" لما ذكرنا "ويستحيل" القطع "بمملوك للسيد فقد كذبه" أي المولى "الشرع والمقطوع" من الشرع "انحطاطه" أي الرقيق "بالحجر" من الشرع "في أمور إجماعية مما ذكرنا" من الولاية والقضاء "فما استلزم منها" أي من الأمور الإجماعية "غيره" أي غير نفسه "كعدم مالكية المال أو قام به سمع حكم به فمن المعلوم انحطاط ذمته" عن تحمل الدين لضعفها.؛ لأنه من حيث هو مال بالرق كأنه لا ذمة له ومن حيث إنه(23/492)
إنسان مكلف لا بد أن يكون له ذمة إذ التكليف لا يكون بدونها فثبتت له مع الضعف فحينئذ لا بد من تقويتها لتحمل الدين بانضمام مالية الرقبة أو الكسب إليها فلا يطالب بدون انضمام أحدهما إليها إذ لا معنى لاحتمالها الدين إلا صحة المطالبة فظهر أنها لم(23/493)
ص -235-…تقو على ذلك "حتى ضم إليها" أي ذمته "مالية رقبته أو كسبه فيبيع فيما يلزم في حق المولى إن لم يفده ولا كسب أو لم يف" كسبه بذلك إن كان له كسب إلا أن لا يمكن بيعه كالمدبر والمكاتب ومعتق البعض عند أبي حنيفة فحينئذ يستسعى والدين الذي يظهر في حق المولى "كمهر ودين تجارة عن إذن" لرضا المولى بذلك "أو تبين استهلاك" لانتفاء التهمة "لا إقراره" أي لا بإقراره بالاستهلاك حال كونه "محجورا" لوجود التهمة وعدم رضا المولى بذلك فلا يظهر في حقه فلا يباع ولا يؤخذ من كسبه لكن يؤخر إلى عتقه "وحله" أي وانحطاط الحل الثابت له بالنكاح عن الحل الثابت للحرية "فاقتصر" حله "على ثنتين نساء" له حرتين كانتا أو أمتين كما هو قول أصحابنا والشافعي وأحمد. وقال مالك يتزوج أربعا؛ لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح؛ لأنه من خصائص الآدمية وأجيب بأن له أثرا في تنصيف المتعدد كأقراء العدة وعدد الطلاق وجلدات الحدود؛ لأن استحقاق النعم بآثار الإنسانية وقد أثر الرق في نقصانها حتى ألحق بالبهائم يباع بالأسواق؛ لأنه أثر الكفر الذي هو موت حكمي فكذا أثر في نقصان الحل إلى النصف؛ لأنه نعمة كما أثر في العقوبة بدليل قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وفي مغني ابن قدامة وقد روى ليث بن أبي سليم عن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ويقويه ما روى أحمد عن ابن سيرين أن عمر سأل الناس كم يتزوج العبد قال عبد الرحمن بن عوف ثنتين وطلاقه ثنتان وأخرجه الشافعي عن عمر "واقتصر" الحل "فيها" أي الأمة "على تقدمها على الحرة لا مقارنة" لها في العقد "ومتأخرة" عنها أما نفي حل تأخرها عنها فلقوله صلى الله عليه وسلم: "وتتزوج الحرة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرة" رواه الدارقطني وفيه مظاهر بن أسلم ضعيف لكن أخرجه الطبري وعبد الرزاق وابن أبي شيبة(23/494)
عن الحسن مرسلا وعبد الرزاق بإسناد صحيح عن جابر موقوفا عليه إلى غير ذلك فإن لم تقم الحجة بالبعض قامت بالجميع وأما نفي حل مقارنتها لها فلأن هذه الحالة لا تحتمل التجزؤ فتغلب الحرمة على الحل "وطلقتين" أي واقتصر ما به يفوت حلها وهو بينونتها البينونة الغليظة على تطليقها ثنتين حرا كان زوجها أو عبدا خلافا للأئمة الثلاثة فيما إذا كان حرا "وحيضتين عدة" أي واقتصر ما هو مرتب على وجود سبب انقطاع حلها بملك النكاح ناجزا أو مؤجلا بغير الموت من التربص المشروع لتعظيم ملك النكاح والعلم ببراءة الرحم وهو العدة على وجود حيضتين من وقت وجوب السبب والحجة فيهما قوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم. وإنما كان طلاقها ثنتين وعدتها حيضتين "تنصيفا" للثابت منهما للحرة وهو ثلاث تطليقات وثلاث حيض إذ كل من الطلقة والحيضة لا تتنصف فتكامل لرجحان جانب الوجود على العدم ومن ثمة قال عمر رضي الله عنه لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا فعلت رواه عبد الرزاق وغيره "وكذا في القسم" نقص حلها حتى اقتصر على النصف مما للحرة كما هو قول أصحابنا والشافعي ومالك في رواية وذهب في أخرى وأحمد إلى التسوية بينهما، والحجة للأول ما عن علي رضي الله عنه(23/495)
ص -236-…قال: "إذا نكحت الحرة على الأمة فلهذه الثلثان ولهذه الثلث" وعن سليمان بن يسار قال: من السنة أن الحرة إذا أقامت على ضرائر فللحرة ليلتان وللأمة ليلة، أخرجه البيهقي.
"وعن تنصف النعمة" التي للحر في حق الرقيق "تنصف حده" كما نص عليه النص القرآني السابق وهذا فيما يمكن تنصيفه، وأما ما لا يمكن تنصيفه فيتكامل كالقطع في السرقة فإن الحر والعبد فيه سواء "وإنما نقصت ديته إذا ساوت قيمته دية الحر" كما هو قول أبي حنيفة ومحمد "لأنه" أي المؤدى "ضمان النفس وهو" أي ضمان النفس واجب "بخطرها" أي بسبب شرفها "وهو" أي خطرها "بالمالكية للمال ولملك النكاح وهذا" أي ملك النكاح "منتف في المرأة" الحرة إذ هي مملوكة فيه لا مالكة "فتنصفت ديتها" عن دية الحر الذكر "وثابت للعبد مع نقص في" مالكية "المال لتحققه" أي ملكه المال "يدا" أي تصرفا "فقط" أي لا رقبة فلزم بواسطة نقصان ملك اليد نقصان شيء من قيمته. "ولكون مالكية اليد فوق مالكية الرقبة؛ لأنه" أي ملك الرقبة هو "المقصود منه" أي من ملك الرقبة وملك الرقبة شرع وسيلة إليه؛ لأن المقصود من الملك مكنة الصرف إلى قضاء الحوائج واليد هو الممكن والموصل إليه فإن ملك الرقبة وإن كان تاما فربما لا يمكنه الصرف معه إلى قضاء حوائجه لبعده أو لمانع آخر "لم يتقدر نقص ديته بالربع" لانتفاء التوزيع الموجب له "بل لزم أن ينقص بماله خطر في الشرع وهو العشرة" إذ بها يملك البضع المحترم وتقطع اليد المحترمة "واعترض" والمعترض صدر الشريعة "لو صح" كون العلة لنقصان دية العبد عن دية الحر هذا "لم تتنصف أحكامه" أي العبد "إذ لم يتمكن في كماله إلا نقصان أقل من الربع" فيجب أن يكون نقصانه في النكاح والطلاق وغيرهما بأقل من النصف واللازم باطل إجماعا "وأيضا لو كانت مالكية النكاح" ثابتة "له كملا" أي كاملة "لم تنتقص فيما يتعلق بالازدواج كعدد الزوجات والعدة والقسم والطلاق؛ لأنها" أي هذه الأمور "مبنية(23/496)
عليها" أي على مالكية النكاح "وهي" أي مالكية النكاح "كاملة" واللازم باطل "بل" إنما نقصت ديته عن دية الحر "لأن المعتبر فيه" أي العبد "المالية" فلا يتنصف كسائر الأموال "غير أن في الإكمال" لقيمة العبد إذا بلغت دية الحر "شبهة المساواة بالحر" وشبهة الشيء معتبرة بحقيقته وكما أن حقيقة المساواة منتفية فكذا شبهها "فنقص بماله خطر وأجيب" كما في التلويح "بأن نقصان الزوجات ليس لنقصان خطر النفس الذي هو المالكية ليلزم" النقصان "بأقل من النصف" كما في الدية. "بل لنقصان الحل المبني على الكرامة وتقدير النقص به" أي في الحل المبني عليها مفوض "إلى الشرع فقدره بالنصف إجماعا" وهو مشكل بخلاف مالك إذا لم يثبت إجماع الصحابة كما تقدم "بخلاف الدية فإنها باعتبار خطر النفس الذي هو" ثابت "بالمالكية ونقصان الرقيق فيه أقل من الربع" والحاصل أن النقصان في الشيء يوجب النقصان في الحكم المترتب عليه لا في حكم لا يلائمه فالنقصان في المالكية يوجب النقصان في الدية لا في عدد المنكوحات والنقصان في الحل بالعكس فانتفى الوجه الأول من الاعتراض "وكمال مالكية النكاح إن لم يوجب نقصان عددهن" أي الزوجات "لا ينفي أن يوجبه" أمر "آخر هو نقصان الحل ولا تستقيم الملازمة بين كمال ملك النكاح" في الرقيق "وعدم تنصيف ما يتعلق بالازدواج فإن أكثره" أي ما يتعلق(23/497)
ص -237-…بالازدواج "كالطلاق والعدة والقسم إنما يتعلق بالزوجة ولا تملك" الأمة "النكاح أصلا" فضلا عن كمال المالكية فانتفى الوجه الثاني من الاعتراض أيضا "وإنما قال شبهة المساواة؛ لأن قيمة العبد لو وجبت وكانت ضعف دية الحر لا مساوية؛ لأنها" أي القيمة "تجب في العبد باعتبار المملوكية" والابتذال "وفي الحر باعتبار المالكية والكرامة" والأول دون الثاني حقيقة وإن زاد عليه صورة فلا مساواة حقيقة "وكون مستحقه" أي ضمان نفس العبد "السيد لا يستلزم أنه" أي ضمان نفسه "باعتبار المالية" كما ذهب إليه أبو يوسف والشافعي. "ألا ترى أنه" أي السيد "المستحق للقصاص بقتل عبد إياه" أي عبده "وهو" أي القصاص "بدل الدم إجماعا فالحق أن مستحقه" أي الضمان "العبد ولهذا يقضي منه" أي من الضمان "دينه" أي دين العبد "غير أنه" أي العبد "لما لم يصلح شرعا لملك المال خلفه المولى" فيه "لأنه أحق الناس به كالوارث واختلف في أهليته" أي العبد "للتصرف وملك اليد فقلنا نعم" أهل لهما "خلافا للشافعي؛ لأنهما" أي أهليتي التصرف وملك اليد "بأهلية التكلم والذمة مخلصة عن المملوكية والأولى" أي أهلية التكلم "بالعقل" وهو لا يختل بالرق "ولذا" أي عدم اختلالها بالرق "كانت رواياته ملزمة العمل للخلق وقبلت في الهدايا وغيرها" من الدنايات "والثانية" أي أهليته للذمة "بأهلية الإيجاب" عليه "والاستيجاب" له "ولذا" أي لتأهله للإيجاب والاستيجاب "خوطب بحقوقه تعالى" ويصح إقراره بالحدود والقصاص "ولم يصح شراء المولى على أن الثمن في ذمته" أي العبد كما لو شرطه على أجنبي؛ لأنها غير مملوكة له ولو كانت مملوكة له لجاز كما لو التزم المولى ذلك في ذمة نفسه "ولا يملك" المولى "أن يسترد ما أودع عند العبد" والمناسب كما في غير موضع أن يسترد ما أودعه العبد غيره "وصحة إقراره" أي المولى "عليه" أي العبد بدين "لملك ماليته" أي العبد "كإقرار الوارث" على مورثه بالدين "فهو" أي فإقرار(23/498)
المولى على عبده "إقرار على نفسه بالحقيقة وإنما حجر" العبد "عنه" أي عن التصرف مع قيام الأهلية "لحق المولى"؛ لأن الدين إذا وجب في الذمة يتعلق بمالية الرقبة والكسب استيفاء وهما ملك المولى فلا يتحقق بدون رضاه فإذا أذن فقد رضي بسقوط حقه. "فإذنه فك الحجر" الثابت بالرق "ورفع المانع" من التصرف حكما وإثبات اليد له في كسبه لا إثبات أهلية التصرف له "كالنكاح" أي كملكه نكاح نفسه وإنما امتنع نفاذه لحق المولى فإذا أذن له فيه ارتفع المانع "فيتصرف" بعد الإذن "بأهليته" كالكتابة "لا إنابة" عن المولى حتى تكون يده في إكسابه يد نيابة عنه كالمودع "كالشافعي" أي كما قال الشافعي؛ لأنه لو كان أهلا للتصرف لكان أهلا للملك؛ لأن التصرف وسيلة إليه وسبب له والسبب لم يشرع إلا لحكمة واللازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وإذا لم يكن أهلا للتصرف لم يكن أهلا لاستحقاق اليد؛ لأن اليد إنما تستفاد بملك الرقبة أو التصرف وتظهر ثمرة الاختلاف فيما أشار إليه بقوله "فلو أذن" المولى له "في نوع" من التجارة "كان له التصرف مطلقا" أي في كل أنواعها "وتثبت يده" أي العبد "على كسبه كالمكاتب وإنما ملك" المولى "حجره" أي المأذون لا المكاتب "لأنه" أي فك الحجر في المأذون "بلا عوض" فلا يكون لازما كالهبة "بخلاف الكتابة" فإنها بعوض فتكون لازمة كالبيع.(23/499)
ص -238-…ثم هذا عند علمائنا الثلاثة لوجود فك الحجر المانع من التصرف بأهليته فلغا التقييد وقال زفر والشافعي يختص بما أذن فيه؛ لأن تصرفه لما كان بطريق النيابة عنه كالوكيل صار مقتصرا على ما أذن فيه؛ لأن النيابة لا تتحقق بدون إذن الأصيل ثم للمشايخ في ثبوت ملك الرقبة في إكسابه للمولى طريقان أحدهما أن تصرفه يفيد ثبوت ملك اليد له وثبوت ملك الرقبة لمولاه ابتداء ثانيهما أن تصرفه يفيد ثبوت كليهما له ثم يستحق المولى ملك الرقبة خلافة عن العبد لعدم أهليته لها وكون المولى أقرب الناس إليه لقيام ملكه فيه. وعلى هذا مشى المصنف فقال "وثبوت الملك للمولى فيما يشتريه" العبد "ويصطاده ويتهبه لخلافته" أي المولى "عنه" أي العبد "لعدم أهليته" لملك رقبة ما اشتراه أو اصطاده أو اتهبه "كالوارث" مع الموروث "وكون ملك التصرف لا يستفاد إلا من ملك الرقبة ممنوع نعم هو" أي ملك الرقبة "وسيلة إليه" أي إلى ملك التصرف كما تقدم "ولا يلزم من عدم ملكها" أي الرقبة "عدم المقصود لجواز تعدد الأسباب" لملك التصرف "وإذ كانت له" أي للعبد "ذمة وعبارة صح التزامه" أي العبد "فيها" أي في الذمة "ووجب له" أي للعبد "طريق قضاء" لما التزمه "دفعا للحرج اللازم من أهلية الإيجاب في الذمة بلا أهلية القضاء وأدناه" أي طريق القضاء "ملك اليد" فيلزم ثبوته للعبد وهو المطلوب "ولذا" أي ثبوت ملك اليد للعبد وكون ملك الرقبة متلقى منه "قال أبو حنيفة دينه" أي العبد المستغرق لماله "بمنع ملك المولى كسبه" لشغله بحاجته المتقدمة عليه "واختلف في قتل الحر به" أي العبد "فعنده" أي الشافعي "لا" يقتل به قصاصا "لابتنائه" أي القتل قصاصا "على المساواة في الكرامات"، وهي منتفية بينهما إذ الحر نفس من كل وجه والعبد نفس ومال "قلنا" لا نسلم ابتناء القصاص عليها "بل" المناط فيه المساواة "في عصمة الدم فقط للاتفاق على إهداره" أي التساوي في القصاص "في العلم والجمال ومكارم(23/500)
الأخلاق" والشرف "وهما" أي الحر والعبد "مستويان فيها" أي عصمة الدم "وينافي" الرق "مالكية منافع البدن" إجماعا. "إلا ما استثني من الصوم والصلاة إلا نحو الجمعة بخلاف الحج" فإنه لم يستثنه نظرا للمولى فبقيت منافعه على ملكه "بالنص للمال" فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى". قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة". قال الحاكم أيضا صحيح على شرط الشيخين والعبد لا مال له ثم على اشتراط الحرية للوجوب الإجماع "والجهاد" أي وبخلاف الجهاد أيضا "فليس له القتال إلا بإذن مولاه أو" إذن "الشرع في عموم النفير ولا يستحق" العبد إذا قاتل "سهما؛ لأنه" أي استحقاق سهم من الغنيمة "للكرامة" وهو ناقص فيها "بل" يستحق "رضخا لا يبلغه" أي السهم فعن عمير مولى آبي اللحم شهدت خيبر مع سادتي فأمر لي النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من خرثي المتاع. رواه أبو داود والترمذي وصححه "بخلاف" استحقاق "السلب بالقتل بقول الإمام" من قتل قتيلا فله سلبه فإنه لا تفاوت فيه بين الحر والعبد؛ لأنه بالقتل أو بإيجاب الإمام "فساوى" العبد "فيه الحر والولايات" أي وينافي الرق الولايات(24/1)
ص -239-…المتعدية كولاية القضاء والشهادة والتزويج وغيرها؛ لأنها تنبئ عن القدرة الحكمية إذ الولاية تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى والرق عجز حكمي ثم الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم التعدي منه إلى غيره عند وجود شرط التعدي ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف يتعدى إلى غيره "وصحة أمان" العبد "المأذون في القتال" الكافر الحربي "لاستحقاق الرضخ" في الغنيمة بإذن مولاه إلا أن مولاه يخلفه في ملكه كما في سائر أكسابه "فأمانه إبطال حقه أولا" في الرضخ. "ثم يتعدى إلى الكل" أي كل الغازين فيلزم سقوط حقهم؛ لأن الغنيمة لا تتجزأ في حق الثبوت والسقوط "كشهادته برؤية الهلال" توجب على الناس الصوم بقوله لإيجابه ذلك على نفسه أولا ثم لا يتعدى إلى سائرهم، وكذا روايته لأحاديث الشارع فصار هذان أصل أمانه "لا" أن أمانه "ولاية عليهم" لما عرف من أن حكم الشيء ما وضع الشيء له، وحكم أمانه أولا وبالذات إنما هو ما ذكرنا "بخلاف" العبد "المحجور" عن القتال لا أمان له عند أبي حنيفة وأبي يوسف في إحدى الروايتين عنه ومالك في رواية سحنون؛ لأنه "لا استحقاق له" وقت الأمان؛ لأنه ليس من أهل الشركة في الغنيمة "فلو صح" أمانه "كان إسقاطا لحقهم" أي الغازين في أموال الكفار وأنفسهم اغتناما واسترقاقا "ابتداء" قال قيل ينبغي أن يصح أمانه كما هو قول أبي يوسف في رواية ومحمد والأئمة الثلاثة لاستحقاقه الرضخ إذا قاتل أجيب بالمنع "واستحقاقه" الرضخ "إذا افتات بالقتال" أي قاتل بغير إذن سيده "وسلم لتمحضه" أي القتال "مصلحة للمولى بعده" أي القتال؛ لأنه غير محجور عما يتمحض منفعة فيكون كالمأذون فيه من المولى دلالة؛ لأنه إنما حجر عنه لدفع الضرر عن المولى لانتفاء اشتغاله بخدمته وقت القتال وربما يقتل فإذا فرغ سالما وأصيبت الغنيمة زال الضرر فيثبت الإذن منه دلالة "فلا شركة له" في الغنيمة "حال الأمان" فلا يكون فيه كالمأذون في القتال.(24/2)
نعم ما في مصنف عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه العبد المسلم من المسلمين وأمانه أمانهم يفيد إطلاقه صحة أمان العبد مطلقا كما هو قول الجمهور.
"فلا يضمن" الرقيق "بدل ما ليس بمال؛ لأنه" أي بدله "صلة" وهو لا يملك الصلات "فلا يجب عليه دية في جنايته" على غيره بالقتل "خطأ"؛ لأن الدم ليس بمال ومما يدل على أن الواجب في الجناية الخطأ ضمان هو صلة في حق الجاني حتى كأنه يهبه ابتداء أنه لا يملك إلا بالقبض ولا تجب فيه الزكاة إلا بحول بعده ولا تصح الكفالة به بخلاف بدل المال الثابت في هذه الأمور ولا عاقلة له بالإجماع ليجب عليهم. "لكن لما لم يهدر الدم صارت رقبته جزاء" أي قائمة مقام الأرش حتى لا يكون الاستحقاق على العبد ولا يصير الدم هدرا "إلا أن يختار المولى فداءه فيلزمه" أي الفداء المولى "دينا" في ذمته "فلا يبطل" اختياره الفداء "بالإفلاس" حتى إنه لا يعود تعلق حق ولي الجناية في رقبة العبد إذا لم يكن للمولى ما يؤديه "عنده" أي أبي حنيفة "فلا يجب" به على المولى "الدفع" للعبد إلى ولي الجناية بل هو عبده لا سبيل لغيره عليه "وعندهما اختياره" أي المولى الفداء "كالحوالة كأنه" أي العبد "أحال على(24/3)
ص -240-…مولاه" بالأرش؛ لأن الأصل أن يكون الجاني هو المصروف إلى جنايته كما في العمد وصير إلى الأرش في الخطأ إذا كان الجاني حرا لتعذر الدفع فكان اختيار الفداء نقلا من الأصل إلى العارض كما في الحوالة "فإذا لم يسلم" الأرش لولي الجناية "عاد حقه في الدفع" الذي هو الأصل كما في الحوالة الحقيقية وأجيب بمنع أن الأصل في الجناية الخطأ ذلك بل الأرش هو الأصل الثابت فيها بالنص وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] وصير إلى الدفع ضرورة أن العبد ليس بأهل للصلة وقد ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء فعاد الأمر إلى الأصل، ولم يبطل بالإفلاس وقيل هذه فرع اختلافهم في التفليس فعنده لما لم يكن معتبرا كان هذا التصرف من المولى تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما لما كان معتبرا وكان المال في ذمته تأويلا كان هذا الاختيار من المولى إبطالا ولا يقال قد يجب على العبد ضمان مال بما ليس بمال فإن المهر يجب في ذمته بمقابلة ملك النكاح أو منفعة البضع؛ لأنا نقول ليس كذلك.(24/4)
"ووجوب المهر ليس ضمانا" إذ لا تلف ولا صلة "بل" يجب "عوضا عما استوفاه من الملك أو المنفعة وأما المرض" وعنه عبارات منها ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص ومنها هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان تكون بسببها الأفعال الطبيعية والنفسانية والحيوانية غير سليمة، وبسط الكلام فيه يعرف في فنه "فلا ينافي أهلية الحكم" أي ثبوته ووجوبه له وعليه سواء كان من حقوق الله أو العباد "والعبارة إذ لا خلل في الذمة والعقل والنطق" فصح منه سائر ما يتعلق بالعبارة من نكاح وطلاق وبيع وشراء وغيرها "لكنه" أي المرض "لما فيه من العجز شرعت العبادات فيه على" قدر "المكنة" حتى شرع له الصلاة "قاعدا" إذا عجز عن القيام "ومضطجعا" إذا عجز عنهما "ولما كان الموت علة الخلافة" للوارث والغريم في مال الميت؛ لأن أهلية الملك تبطل بالموت فيخلفه أقرب الناس إليه فيه والذمة تخرب به فيصير المال الذي هو محل قضاء الدين مشغولا بالدين فيخلفه الغريم في المال "وهو" أي المرض "سببه" أي الموت لما فيه من ترادف الآلام وضعف القوى المفضي إلى مفارقة الروح الجسد "كان" المرض "سبب تعلق حق الوارث والغريم بماله" في الحال "فكان" المرض "سببا للحجر في الكل" أي كل المال "للغريم" إن كان الدين مستغرقا "و" في "الثلثين في الورثة إذا اتصل به" أي المرض "الموت" حال كون الحجر "مستندا إلى أوله" أي المرض، إذ الحكم يستند إلى أول السبب. "بخلاف ما لم يتعلقا" أي حق الغريم وحق الوارث "به كالنكاح بمهر المثل فتحاصص" الزوجة "المستغرقين" أي الذي استغرقت ديونهم التركة بقدر مهرها وكالنفقة وأجرة الطبيب ونحوها مما تتعلق حاجة الميت به وما زاد على الدين في حق الغريم وعلى ثلثي ما بقي بعد وفاء الدين إن كان وعلى ثلثي الجميع إن لم يكن ثم لما لم يعلم كونه سببا للحجر قبل اتصال الموت به وكان الأصل هو الإطلاق لم يثبت الحجر به بالشك "فكل تصرف" واقع من المريض "يحتمل الفسخ" كالهبة(24/5)
والبيع بالمحاباة "يصح في الحال" لصدوره من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية وانتفاء العلم بالمانع(24/6)
ص -241-…في الحال لعدم العلم في الحال باتصال الموت به "ثم يفسخ" ذلك التصرف "إن احتيج إلى ذلك" أي فسخه بأن مات لما قدمنا من أن الحجر يستند إلى أول المرض إذا اتصل به الموت فيظهر أن تصرفه تصرف محجور عليه "وما لا يحتمله" أي وكل تصرف واقع من المريض لا يحتمل الفسخ "كالإعتاق الواقع على حق غريم بأن يعتق المريض المستغرق" دينه تركته عبدا منها "أو" الواقع "على حق وارث كإعتاق عبد تزيد قيمته على الثلث يصير" العتق "كالمعلق بالموت" أي كالتدبير حتى كان عبدا في شهادته وسائر أحكامه ما دام مولاه مريضا وإذا مات "فلا ينقض ويسعى" العبد للغريم "في كله" أي مقدار قيمته إن كان على الميت دين مستغرق "أو" يسعى "في ثلثيه" للوارث إن لم يكن عليه دين ولا مال له سواه، ولم يجزه الوارث "أو أقل كالسدس إذا ساوى" العبد "النصف" أي نصف التركة، ولم يجزه الوارث وإن كان في المال وفاء بالدين إن كان يخرج من الثلث نفذ في الحال لعدم تعلق حق الغير به. "بخلاف إعتاق الراهن" العبد الرهن "ينفذ" عتقه للحال مع تعلق حق المرتهن به "لأن حق المرتهن في اليد لا الرقبة فلا يلاقيه" أي العتق حقه "قصدا" وحق الغريم والوارث في ملك الرقبة وصحة الإعتاق يبتنى عليها لا على ملك اليد ولذا صح إعتاق الآبق مع زوال اليد عنه لبقاء الملك "فإن كان" الراهن "غنيا فلا سعاية" على العبد لعدم تعذر أخذ الحق من الراهن وهو الأداء إن كان حالا أو قيمة الرهن إن كان مؤجلا "وإن" كان الراهن "فقيرا سعى" العبد للمرتهن "في الأقل من قيمته ومن الدين" لتعذر أخذ الحق من الراهن فيؤخذ ممن حصلت له فائدة العتق؛ لأن الخراج بالضمان ثم إنما سعى في الأقل منهما؛ لأن الدين إن كان أقل فالحاجة تندفع به وإن كانت القيمة أقل فإنما حصل له هذا القدر "ويرجع" العبد "على مولاه عند غناه" بما أداه؛ لأنه اضطر إلى قضاء دينه بحكم الشرع "فمعتق الراهن حر مديون فتقبل شهادته قبل السعاية ومعتق المريض(24/7)
المستغرق كالمكاتب" والأول كالمدبر كما ذكرنا "فلا تقبل" شهادته قبل السعاية "وقد أدمجوا" أي أدرج الحنفية في الكلام في أحكام هذه الآفة العارضة "فرعا محضا" وهو "لما بطلت الوصية للوارث" بالسنة كما سيأتي في النسخ "بطلت" من جهة كونها وصية "صورة عند أبي حنيفة" وإن لم تكن وصية معنى "حتى لو باع المريض عينا بمثل قيمته" فصاعدا "منه" أي الوارث "لا يجوز لتعلق حق كلهم" أي الورثة "بالصورة كما بالمعنى" حتى لا يجوز لبعضهم أن يجعل شيئا من التركة لنفسه بنصيبه من الميراث ولا أن يأخذ التركة ويعطي الباقين القيمة وللناس منافسات في صور الأشياء مع قطع النظر عن معانيها فكان إيثاره البعض بعين منها بيعا منه إيصاء له به صورة لا معنى لكونه مقابلا بالعوض. "خلافا لهما بخلاف بيعه من أجنبي" حيث يجوز اتفاقا إذ لا حجر على المريض في التصرف مع الأجنبي فيما لا يخل بالثلثين فلم يتم تعليلهما بأنه ليس فيه إبطال شيء مما تعلق به حقهم وهو المالية كما لو باع من الأجنبي "ومعنى" أي وبطلت من جهة كونها وصية معنى وإن لم تكن وصية صورة "بأن يقر لأحدهم بمال" لسلامة المال له بلا عوض وانتفاء الصورة ظاهر "وشبهة" أي وبطلت من جهة كونها وصية من حيث الشبهة "بأن باع" الوارث "الجيد من الأموال الربوية برديء منها" مجانس(24/8)
ص -242-…للمبيع كالفضة الجيدة بالفضة الرديئة "لتقوم الجودة في التهمة كما في بيع الولي مال الصبي كذلك" أي الجيد منها بالرديء المجانس للجيد "من نفسه" فكان فيه شبهة الوصية بالجودة؛ لأن عدوله عن خلاف الجنس إلى الجنس يدل على أن غرضه إيصال منفعة الجودة إليه فإنها غير متقومة عند المقابلة بالجنس فتقومت في حقه دفعا للضرر عن الباقين في البيع من الوارث وعن الصغار في بيع الولي من نفسه، ألا ترى أن المريض لو باع الجيد بالرديء من الأجنبي يعتبر خروجه من الثلث ولو لم تكن الجودة معتبرة لجاز مطلقا كما لو باع شيئا منه بمثل القيمة. "ولذا" أي ولبطلان الوصية شبهة "لم يصح إقراره" أي المريض "باستيفاء دينه من الوارث وإن لزمه" أي الدين الوارث "في صحته" أي المريض "وهي" أي صحته "حال عدم التهمة فكيف به" أي بالإقرار باستيفائه "إذا ثبت" لزومه للوارث "في المرض" وهو حالة التهمة والحاصل أن الإقرار بالاستيفاء في المرض كالإقرار بالدين؛ لأنه يصادف محلا مشغولا بحق الورثة فلا يجوز مطلقا وعن أبي يوسف إذا أقر باستيفاء دين كان له على الوارث حال الصحة يجوز؛ لأن الوارث لما عامله في الصحة استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفائه منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه ألا يرى أنه لو كان على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة وأجيب بما تقدم بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي؛ لأن المنع لحق غرماء الصحة وهو عند المرض لا يتعلق بالدين بل بما يمكن استيفاء دينهم منه فلم يصادف إقراره محلا تعلق حقهم به.(24/9)
"وأما الحيض" وهو على أن مسماه خبث دم من الرحم لا لولادة وحدث مانعية شرعية بسبب الدم المذكور عما اشترط فيه الطهارة وعن الصوم ودخول المسجد والقربان ذكره المصنف. "والنفاس" وهو الدم من الرحم عقب الولادة ولقائل أن يقول على وزان ما تقدم في الحيض هذا على أن مسماه خبث وأما على أن مسماه حدث فمانعية شرعية بسبب الدم المذكور أو الولادة عما اشترط فيه الطهارة إلخ "فلا يسقطان أهلية الوجوب ولا الأداء"؛ لأنهما لا يخلان بالذمة والعقل وقدرة البدن "إلا أنه ثبت أن الطهارة عنهما شرط" أداء "الصلاة" بالسنة كما في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم" قلن بلى قال: "فذلك من نقصان دينها" وبالإجماع "على وفق القياس" لكونهما من الأنجاس أو الأحداث والطهارة منهما شرط لها "و" شرط أداء "الصوم على خلافه" أي القياس لتأديه مع النجاسة والحدث الأصغر والأكبر بلا خلاف بين الأئمة الأربعة "ثم انتفى وجوب قضاء الصلاة" عليهما "للحرج" لدخولها في حد الكثرة؛ لأن أقل مدة الحيض عند أصحابنا ثلاثة أيام بلياليها أو يومان وأكثر الثالث كما عن أبي يوسف ومدة النفاس في العادة أكثر من مدة الحيض والحرج مدفوع شرعا "دون الصوم" فإنه لم ينتف وجوب قضائه عليهما لعدم الحرج؛ لأن الحيض لا يستوعب الشهر والنفاس يندر فيه "كما مر" في الفصل الذي قبل هذا من قوله ولعدم حكم الوجوب من الأداء لم تجب الصلاة على الحائض لانتفاء الأداء شرعا،(24/10)
ص -243-…والقضاء للحرج والتكليف للرحمة والحرج طريق الترك فلم يتعلق ابتداؤهما فيه فضلا بخلاف الصوم فيثبت لفائدة القضاء وعدم الحرج ويشهد لهما ما في الصحيحين عن عائشة قالت: كان يصيبنا ذلك يعني الحيض فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. وعليهما إجماع الأمة ثم بقي أن يقال "فانتفى" وجوب أداء الصوم عليهما في حالتي الحيض والنفاس. "أولا" فيه "خلاف" بين الشافعية فقيل يجب ونقله السبكي عن أكثر الفقهاء لتحقق الأهلية والسبب وهو شهود الشهر ولأنه يجب عليهما القضاء بقدر ما فاتهما فكان المأتي به بدلا عن الفائت وقيل لا يجب وذكر متأخر أنه الأصح عند الجمهور لانتفاء شرطه وهو الطهارة وشهود الشهر موجب عند انتفاء العذر لا مطلقا ووجوب القضاء يتوقف على سبب الوجوب وهو هنا شهود الشهر وقد تحقق لا على وجوب الأداء وإلا لما وجب قضاء الظهر مثلا على من نام جميع وقتها لعدم تحقق وجوب الأداء في حقه هذا على أن وجوب القضاء بما به وجوب الأداء وأما على أنه بسبب جديد فأظهر إذ لا يستدعي وجوبا سابقا فلا يتوقف وجوبه على وجوب الأداء وأورد يلزم على هذا أن لا يسمى قضاء لعدم استدراك ما فات من الوجوب وأجيب إنما يلزم لو انحصر موجب التسمية فيما ذكرتم وهو ممنوع فإنه إنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه، ولم يجب لمانع فلا جرم أن قال المصنف "والانتفاء أقيس" بل هو الوجه الذي لا معدل عنه؛ لأن الأداء حالة الحيض حرام منهي عنه فلا يكون واجبا مأمورا به للتنافي بينهما ومن هنا، والله أعلم. قال السبكي الخلف لفظي؛ لأن ترك الصوم حالة العذر جائز اتفاقا والقضاء بعد زواله واجب اتفاقا لكن ليس كذلك بل فائدة الخلاف بينهما كما في الذخائر فيما إذا قلنا يجب التعرض للأداء والقضاء في النية، فإن قلنا بوجوبه عليها نوت القضاء وإلا نوت الأداء فإنه وقت توجه الخطاب، والله سبحانه أعلم.(24/11)
"وأما الموت" وعزى إلى أهل السنة أنه صفة وجودية مضادة للحياة كما هو ظاهر قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] وإلى المعتزلة أنه عدم الحياة عما من شأنه وأن الخلق في الآية بمعنى التقدير ثم هو ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار "فيسقط به" عن الميت "الأحكام الأخروية" وهذا سهو والصواب كما في عامة الكتب الدنيوية "التكليفية كالزكاة" والصوم والحج "وغيرها"؛ لأن التكليف يعتمد القدرة ولا عجز فوق العجز بالموت "إلا الإثم" بسبب تقصيره في فعله حال حياته فإنه من أحكام الآخرة والميت ملحق بالأحياء فيها "وما شرع عليه" أي الميت "لحاجة غيره، فإن" كان ذلك المشروع "حقا متعلقا بعين بقي" ذلك الحق في تلك العين "ببقائها" أي تلك العين "كالأمانات والودائع والغصوب؛ لأن المقصود حصوله" أي ذلك الشيء المعين "لصاحبه لا الفعل ولذا" أي كون المقصود في حق العبد حصول الشيء المعين الذي هو متعلق حقه "لو ظفر به" أي بذلك الشيء صاحبه كان "له أخذه بخلاف العبادات" فإن المقصود من التكليف بها فعلها عن اختيار وقد فات الاختيار بالموت فلا يبقى(24/12)
ص -244-…التكليف بها بعد الموت "ولذا" أي كون المقصود من العبادات هذا "لو ظفر الفقير بمال الزكاة ليس له أخذه ولا تسقط" الزكاة عن مالكه "به" أي بأخذه المذكور لانتفاء المقصود "وإن" كان ذلك المشروع "دينا لم يبق بمجرد الذمة لضعفها بالموت فوقه" أي فوق ضعفها "بالرق" فإنه يرجى زواله بالإعتاق غالبا؛ لأنه مندوب إليه والموت لا يرجى زواله عادة "بل" إنما يبقى "إذا قويت" ذمته "بمال" تركه "أو كفيل" به "قبل الموت؛ لأن المال محل الاستيفاء" الذي هو المقصود من الوجوب "وذمة الكفيل تقوي ذمة الميت".؛ لأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة "فإن لم يكن مال" بأن مات مفلسا ولا كفيل به قبل الموت "لم تصح الكفالة به" أي بما على الميت "لانتقاله" أي ما على الميت وغير خاف أن الأولى لسقوطه عن ذمته "به" أي بالموت لخروجها به عن أن تكون محلا له في أحكام الدنيا "عنده" أي أبي حنيفة "لأنها" أي الكفالة "التزام المطالبة" بما يطالب به الأصيل "لا تحويل الدين" عن الأصيل إلى الكفيل "ولا مطالبة" للأصيل "فلا التزام" أي فلا يصح التزامها "بخلاف العبد المحجور بالدين تصح" الكفالة "به" أي بذلك الدين "لأن ذمته قائمة" لكونه حيا مكلفا والمطالبة ثابتة، إذ يتصور أن يصدقه المولى فيطالب في الحال أو يعتقه فيطالب بعده فصح التزامها بالكفالة وإذا صحت فيؤخذ الكفيل في الحال وإن كان الأصيل غير مطالب به في الحال؛ لأن تأخيرها عن الأصيل لعذر عدم في حق الكفيل كمن كفل دينا على مفلس حي يؤخذ به في الحال، فإن قيل ضم مالية رقبته إلى ذمته لاحتمال الدين يقتضي كونها غير كاملة وإلا لما احتاج إليه كما في الحر أجيب بالمنع.(24/13)
"وإنما انضم إليها" أي إلى ذمته "مالية الرقبة فيما ظهر" والأولى إذا ظهر الدين "في حق المولى ليباع نظرا للغرماء" أي ليمكن استيفاء الدين من ماليتها التي هي حق المولى لا؛ لأن ذمته غير كاملة. "وتصح" الكفالة المذكورة "عندهما" وبه قالت الأئمة الثلاثة بل عزاه ابن قدامة إلى أكثر أهل العلم "لأن بالموت لا يبرأ"؛ لأنه لم يشرع مبرئا للحقوق الواجبة ومبطلا لها "ولذا" أي كونه غير مبرئ منها "يطالب بها في الآخرة إجماعا وفي الدنيا إذا ظهر مال ولو تبرع أحد عن الميت" بأداء الدين "حل أخذه ولو برئت" ذمته منه بالموت "لم يحل" أخذه "والعجز عن المطالبة" للميت "لعدم قدرة الميت لا يمنع صحتها" أي الكفالة عنه به "ككونه" أي الأصيل "مفلسا ويدل عليه حديث" جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت فقال: "أعليه دين" قالوا نعم ديناران قال: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي "والجواب عنه" أي عن الحديث "باحتماله" أي قوله هما علي "العدة" بوفائهما "وهو" أي كونه للعدة "الظاهر إذ لا تصح الكفالة للمجهول" بلا خلاف والظاهر أن صاحب الدين كان مجهولا وإلا لذكر قلت وهو مشكل بما في لفظ عن جابر للحاكم وقال صحيح الإسناد. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي عليك وفي مالك والميت منها بريء" فقال: نعم فصلى عليه. وعلى هذا فيحمل على أن أبا قتادة علم صاحب الدنانير حين كفلها.(24/14)
ص -245-…وأجاب في المبسوط وغيره بأن هما علي يحتمل كلا من الإنشاء للكفالة والإقرار بكفالة سابقة على حد سواء، وهي واقعة حال لا عموم لها فلا يستدل به في خصوص محل النزاع.
قلت ويعكره ما في لفظ عن جابر لأحمد بإسناد حسن فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أوفى الله الغريم وبريء منهما الميت" قال نعم فصلى عليه. وما في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع من حديث قال فيه ثم أتي بثالثة أي بجنازة ثالثة فقالوا صل عليها قال "هل ترك شيئا" قالوا لا قال "هل عليه دين" قالوا ثلاثة دنانير قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه. ثم هذا الحديث يقوي قول أبي يوسف لا يشترط قبول المكفول له في المجلس ومن ثمة أفتى به بعض المشايخ.(24/15)
"والمطالبة في الآخرة راجعة إلى الإثم ولا يفتقر إلى بقاء الذمة فضلا عن قوتها وبظهور المال تقوت بل" كانت قوية حين عقدت الكفالة قبل أن يظهر المال ولكن كانت قوتها خفية فلما ظهر المال "ظهر قوتها وهو" أي تقويها "الشرط" لصحة الكفالة عنها "حتى لو تقوت بلحوق دين بعد الموت صحت الكفالة به" أي بالدين اللاحق "بأن حفر بئرا على الطريق فتلف به" والوجه الظاهر بها أي بالبئر؛ لأنها مؤنثة سماعية "حيوان بعد موته" أي الحافر "فإنه يثبت الدين مستندا إلى وقت السبب الحفر الثابت حال قيام الذمة" الصالحة للوجوب في ذلك الوقت يعني الحياة "والمستند يثبت أولا في الحال" ثم يستند "ويلزمه" أي ثبوته في الحال "اعتبار قوتها حينئذ" أي حين ثبوتها "به" أي بالدين اللاحق "وصحة التبرع لبقاء الدين من جهة من له" الدين. "وإن كان ساقطا في حق من عليه والسقوط بالموت لضرورة فوت المحل فيتقدر" السقوط "بقدره" أي فوت المحل "فيظهر" السقوط "في حق من عليه لا" في حق "من له وإن كان" المشروع عليه مشروعا "بطريق الصلة للغير كنفقة المحارم والزكاة وصدقة الفطر سقطت" هذه الصلات بالموت "لأن الموت فوق الرق" في تأثير ضعف الذمة "ولا صلة واجبة معه" أي الرق فكذا بعد الموت "إلا أن يوصى به" أي بالمشروع صلة "فيعتبر كغيره" أي غير هذا المشروع من المشروعات "من الثلث" لتصحيح الشارع ذلك منه نظرا له "وأما ما شرع له" أي للميت "فيبقى مما له" أي للميت "إليه حاجة قدر ما تندفع" الحاجة "به على ملكه" أي الميت وهو متعلق بيبقى وقوله "من التركة" بيان لقوله مما له إليه حاجة من جهة كونها "دينا" أي إيفاء له "ووصية" أي تنفيذا لها من الثلث "وجهازا" أي وتجهيزا له بما يليق به بالمعروف "ويقدم" التجهيز عليهما؛ لأنه آكد منهما بالإجماع "إلا في دين عليه تعلق بعين كالمرهون والمشتري قبل القبض والعبد الجاني ففي هذه" الصور وأمثالها "صاحب الحق أحق بالعين" من تجهيزه لتأكيد تعلق حقه(24/16)
بالعين وتقدم الدين على الوصية بالإجماع "ولذا" أي ولبقاء ماله إليه حاجة كما فيما تقدم "بقيت الكتابة بعد موت المولى لحاجته" أي المولى "إلى ثواب العتق" ففي الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار" "وحصول الولاء" المرتب عليه ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" واقتصر على هذا؛ لأن الحاجة التي هي(24/17)
ص -246-…باعتبار المالية حاصلة في عود المكاتب إلى الرق. "وبعد موت المكاتب عن وفاء" للكتابة "لحاجته" أي المكاتب "إلى المالكية" للأموال "التي عقد لها" عقد الكتابة "وحرية أولاده الموجودين في حالها" أي الكتابة ولدوا فيها أو اشتراهم فيها بل حاجته إلى بقائها لما فيه من نيل شرف الحرية بدفع الرق الذي هو من آثار الكفر عنه وعن أولاده أولى من حاجة المولى "فيعتق" المكاتب "في آخر جزء من حياته"؛ لأن الإرث يثبت من وقت الموت فلا بد من استناد المالكية والعتق المقرر لها إلى وقت الموت "دون المملوكية إذ لا حاجة" له إليها "إلا ضرورة بقاء ملك اليد" ومحلية التصرف إلى وقت الأداء "ليمكن الأداء فبقاؤها" أي الكتابة "كون سلامة الأكساب قائمة وثبوت حرية الأولاد عند دفع ورثته" أي المكاتب مال الكتابة إلى المولى "وثبوت عتقه" أي نفوذ العتق في المكاتب "شرط ذلك" والوجه لذلك أي لعتقه "ضمني فلا يشترط له الأهلية لملك المغصوب" لما ثبت شرطا لملك البدل يثبت "عند" أداء "البدل" مستندا إلى وقت الغصب وإن كان المغصوب حال أداء البدل هالكا "ومع بقائها" أي حاجة الميت إلى المالكية فيما ينقضي به حاجة "يثبت الإرث" لوارثه منه "نظرا له" أي للميت "إذ هو" أي الإرث "خلافه لقرابته وزوجته وأهل دينه" فيما يتركه إقامة من الشارع لهم في ذلك مقامه ليكون انتفاعهم بملكه كانتفاعه بنفسه به. "ولكونه" أي الموت "سبب الخلافة خالف التعليق" للعتق "به" أي بالموت "على" المعنى "الأعم" للتعليق "من الإضافة" والتعليق بالمعنى الأخص وهو تعليق الحكم على ما هو على خطر الوقوع والمعنى الأعم له هو تأخير الحكم عن زمان الإيجاب لمانع منه وقتئذ مقترن به لفظا ومعنى "غيره" أي غير التعليق بالموت وهو التعليق بغير الموت "فصح تعليق التمليك به" أي بالموت "وهو" أي تعليقه به "معنى الوصية"؛ لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت "ولزم تعليق العتق به" أي بالموت "وهو" أي لزومه(24/18)
"معنى التدبير المطلق" وهو تعليق المولى عتق مملوكه بمطلق موته قال المصنف إنما قال فصح تعليق التمليك ولزم تعليق العتق للفرق بين الوصية بالمال وبالعتق؛ لأن العتق لا يحتمل الفسخ فلا يصح رجوعه عن تعليق العتق بالموت للزومه وصح في الوصية بالمال؛ لأن التمليك يحتمل الفسخ "فلم يجز بيعه" أي المدبر المطلق عند الحنفية والمالكية بل قال القاضي عياض هو قول كافة العلماء والسلف من الحجازيين والكوفيين والشاميين "خلافا للشافعي" وأحمد "لأنه" أي التدبير المطلق "وصية والبيع رجوع" عنها والرجوع عنها جائز "والحنفية فرقوا بينه" أي التدبير المطلق "وبين سائر التعليقات بالموت بأنه" أي التدبير "للتمليك" أي تمليكه رقبته بعد الموت "والإضافة" للتمليك "إلى زمان زوال مالكيته لا تصح وصحت" سائر التعليقات بالموت ومنها التدبير. "فعلم اعتباره" أي المعلق بالموت المدلول عليه بالعتق "سببا للحال شرعا وإذا كان أنت حر سببا للعتق للحال وهو" أي العتق "تصرف لا يقبل الفسخ ثبت به" أي بأنت حر "حق العتق" للسببية القائمة للحال "وهو" أي حق العتق "كحقيقته" أي العتق "كأم الولد" فإنها استحقت لسبب الاستيلاد حق العتق للحال بالاتفاق "إلا في سقوط التقوم فإنها" أي أم الولد غير متقومة عند أبي حنيفة "لا تضمن بالغصب ولا بإعتاق أحد الشريكين(24/19)
ص -247-…نصيبه منها" بخلاف المدبر "لما عرف" في موضعه من الفروع وهو أن التقوم بإحراز المالية وهو أصل في الأمة والتمتع بها تبع، ولم يوجد في المدبر ما يوجب بطلان هذا الأصل بخلاف أم الولد فإنها لما استفرشت واستولدت صارت محرزة للمالية وصارت المالية تبعا فسقط تقومها وعندهما متقومة كالمدبر إلا أن المدبر يسعى للغرماء والورثة وأم الولد لا تسعى؛ لأنها مصروفة إلى الحاجة الأصلية، وهي مقدمة عليهم والتدبير ليس من أصول حوائجه فيعتبر من الثلث والجواب عنه ما تقدم آنفا "ولذا" أي بقاء المالكية بعد الموت بقدر ما ينقضي به حاجة الميت "قلنا المرأة تغسل زوجها لملكه إياها في العدة"؛ لأن النكاح في حكم القائم ما لم ينتقض؛ لأنه لا يحتمل الانتقال إلى الورثة فيتوقف زواله على انقضائها "وحاجته" إليها في ذلك فإن الغسل من الخدمة، وهي في الجملة من لوازمها وكيف لا وقد قالت عائشة رضي الله عنها لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه رواه أبو داود والحاكم وقال على شرط مسلم. "وأما ما لا يصلح لحاجته" أي الميت "فالقصاص" فإنه شرع "لدرك الثأر" والتشفي "والمحتاج إليه الورثة لا الميت ثم الجناية" بقتله "وقعت على حقهم لانتفاعهم بحياته" بالاستئناس به والانتصار به على الأعداء وغير ذلك "وحقه" أي الميت "أيضا بل أولى" لانتفاعه بحياته أكثر من انتفاعهم إلا أنه خرج عند ثبوت الحق من أهلية الوجوب فيثبت ابتداء للورثة القائمين مقامه خلافة عنه كما يثبت للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل فالسبب انعقد في حق المورث والحق وجب للورثة "فصح عفوه" رعاية لجانب السبب "وعفوهم قبل الموت" رعاية لجانب الواجب مع أن العفو مندوب إليه فيجب تصحيحه بحسب الإمكان وهذا استحسان والقياس لا يصح لما فيه من إسقاط الحق قبل ثبوته لا سيما إسقاط المورث فإنه إسقاط الحق قبل أن يجب "فكان" القصاص "ثابتا ابتداء(24/20)
للكل وعنه" أي كون القصاص يثبت للورثة ابتداء "قال أبو حنيفة لا يورث القصاص"؛ لأن الإرث موقوف على الثبوت للمورث ثم النقل عنه إلى الورثة وهو ليس كذلك "فلا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية" في طلب القصاص "حتى تعاد بينة الحاضر" على القصاص "عند حضور الغائب"؛ لأن كلا منهم في حق القصاص كالمنفرد وليس الثبوت في حق أحدهم ثبوتا في حق الباقين. "وعندهما يورث" القصاص "لأن خلفه" أي القصاص من المال "موروث إجماعا ولا يخالف" الخلف "الأصل والجواب أن ثبوته" أي القصاص "حقا لهم لعدم صلاحيته" أي القصاص "لحاجته" أي الميت "فإذا صار" القصاص "مالا" بالصلح أو عفو البعض "وهو" أي المال "يصلح لحوائجه" أي الميت من التجهيز وقضاء الدين وتنفيذ الوصية زال المانع وارتفعت الضرورة فقلنا "رجع" الخلف "إليه وصار كأنه الأصل" بهذا القتل كالدية في الخطأ؛ لأن الخلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل "فيثبت لورثته الفاضل عنها" أي حوائجه خلافة لا أصالة والخلف قد يفارق الأصل عند اختلاف الحال كالتيمم والوضوء في اشتراط النية؛ لأن الماء مطهر بنفسه والتراب لا فهذه تفاصيل أحكام الدنيا، وهي ستة "وأحكام الآخرة كلها"، وهي أربعة ما يجب له على الغير من حق راجع إلى النفس أو العرض(24/21)
ص -248-…أو المال وما يجب للغير عليه من حق كذلك وما يلقاه من عقاب وما يلقاه من ثواب "ثابتة في حقه" والقبر له فيما يرجع إلى الإحياء من أحكام الآخرة كالبطن للجنين فيما يرجع إلى الأحياء من أحكام الدنيا وقد أخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وذكر الأئمة من المتقدمين والمتأخرين في أحوال الفريقين من الأخيار والأشرار ما فيه عبرة لأولي البصائر والأبصار وكيف لا والكتاب والسنة وإجماع من يعتد بإجماعه من الأمة على ثبوت ذلك عافانا الله تعالى في الدارين من أسباب المهالك وأخذ بنواصينا إلى سلوك أسلم الطرق والمسالك الموصلة إلى رضاه في الدنيا والآخرة إنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.(24/22)
"النوع الثاني المكتسبة من نفسه وغيره فمن الأولى" أي المكتسبة من نفسه "السكر" ويأتي الكلام في حده "وهو محرم إجماعا، فإن كان طريقه مباحا كسكر المضطر إلى شرب الخمر"، وهي التي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد عند أبي حنيفة، ولم يشرطا قذفه بالزبد لإساغة لقمة ودفع عطش والمكره على شربها بقتله أو قطع عضوه "والحاصل من الأدوية" كالبنج والدواء ما يكون فيه كيفية خارجة عن الاعتدال بها تنفعل الطبيعة عنه وتعجز عن التصرف فيه "والأغذية المتخذة من غير العنب" والغذاء ما ينفعل عن الطبيعة فتتصرف فيه وتحيله إلى مشابهة المتغذى فيصير جزءا منه بدلا عما يتحلل "والمثلث" وهو النيء من ماء العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم رقق بالماء وترك حتى اشتد إذا شرب منه ما دون السكر "لا بقصد السكر" ولا للهو والطرب "بل الاستمراء والتقوي" على قيام الليل وصيام النهار أو التداوي كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيه "فكالإغماء"؛ لأنه ليس من جنس اللهو فصار من أقسام المرض "لا يصح معه تصرف ولا طلاق ولا عتاق وإن روي عنه" أي وإن روى عبد العزيز الترمذي عن أبي حنيفة "أنه إن علم البنج وعمله" أي وتأثيره في العقل ثم أقدم على أكله "صح" كل من طلاقه وعتاقه ولدفع خصوص هذه الرواية عنه صرح بهما. "وإن" كان طريقه "محرما كمن محرم" أي تناول محرم ومنه شرب المثلث على قصد السكر أو اللهو والطرب "فلا يبطل التكليف" كما تقدم في مسألة مانعو تكليف المحال "فيلزمه الأحكام وتصح عباراته من الطلاق والعتاق والبيع والإقرار وتزويج الصغار والتزوج والإقراض والاستقراض؛ لأن العقل قائم وإنما عرض فوات فهم الخطاب بمعصية فبقي" التكليف متوجها "في حق الإثم و" وجوب "القضاء" للعبادات المشروع لها القضاء إذا فاتته في حالة السكر وإن كان لا يصح أداؤها منه حالتئذ وجعل الفهم في حكم الموجود زجرا له "إلا أنه يجب الكفاءة مطلقا" أي أبا كان المزوج أو غيره "في تزويج الصغائر"(24/23)
في هذه الحالة ومهر المثل على هذا أيضا "لأن إضراره بنفسه لا يوجب إضرارها ويصح إسلامه" ترجيحا لجانب الإسلام بوجود أحد ركنيه وكون الأصل المطابقة للاعتقاد "كالمكره" أي كما صح إسلام المكره؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى ولأن دليل الرجوع وهو السكر وإن كان يقارن الإسلام فالإسلام لا يقبل الرجوع لكونه ردة، وهي لا تصح منه كما قال "لا ردته لعدم القصد" لذكر كلمة الكفر بدليل أنه لا يذكر(24/24)
ص -249-…ذلك بعد الصحو فلم يوجد ركنها وهو تبدل الاعتقاد وصار كما لو جرت على لسان الصاحي خطأ.
"وبالهزل" أي ويكفر إذا تكلم بالكفر هزلا مع عدم اعتقاده لما يقول "للاستخفاف" أي لأنه صدر عن قصد صحيح استخفافا بالدين ولا استخفاف من السكران كما أنه لا اعتقاد له. لأنهما فرع اعتبار الإدراك قائما به لكن الشارع أسقط اعتبار كونه قائما به بالنسبة إلى خصوص هذا وإن كان غير مفقود رحمة له بدليل ما عن علي رضي الله عنه قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. قال الترمذي حسن صحيح غريب والحاكم صحيح الإسناد وفي روايته فحضرت صلاة المغرب ثم هذا استحسان مقدم على القياس وهو صحة ردته؛ لأنه مخاطب كالصاحي كما ذهب إليه أبو يوسف ثم هذا كما قال المصنف في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا.(24/25)
"ولو أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا" وشرب الخمر والسرقة الصغرى والكبرى التي هي حدود خالصة لله تعالى "لا يحد؛ لأن يوجب رجوعه"؛ لأنه لا يثبت على شيء فهو محكوم بأنه لا يثبت عليه ويلزمه الحكم بعد ساعة بأنه رجع عنه مع زيادة شبهة أنه يكذب على نفسه مجونا وتهتكا كما هو مقتضى حاله فيندرئ عنه؛ لأن مبنى حق الله تعالى على المسامحة نعم يضمن المسروق؛ لأنه حق العبد وهو لا يبطل بالرجوع فكيف بدليله "وبما لا يحتمله" أي الرجوع "كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد" من زنا أو سرقة أو قذف "معاينة حد إذا صحا" ليحصل الانزجار لا في الحال؛ لأنه لا يفيد ثم لقائل أن يقول الوجه إسقاط القصاص وغيرهما؛ لأن الجزاء عن ذلك ليس بحد أو إبدال حد بقوله أخذ بموجبه ولعل المراد حد إذا صحا وأخذ بموجب الباقي وحذفه للعلم به دلالة من قوله حد إذا صحا؛ لأنه إذا لم يقبل الإقرار بالقذف الرجوع؛ لأن فيه حق العبد فالقصاص وغيره من حقوق العباد أولى بذلك ووجب الحد بمعاينة مباشرة سببه؛ لأنه لا مرد له لوجوده مشاهدة. "وحده" أي السكر "اختلاط الكلام والهذيان" كما هو مطلقا قولهما وبه قال الأئمة الثلاثة قال المصنف والمراد أن يكون غالب كلامه هذيانا فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران فيكون حكمه حكم الصحاة في إقراره بالحدود وغير ذلك؛ لأن السكران في العرف من اختلط جده بهزله فلا يستقر على شيء وإليه مال أكثر المشايخ واختاروه للفتوى؛ لأن المتعارف إذا كان يهذي سمي سكرانا وتأيد بقول علي رضي الله عنه وإذا سكر هذى رواه مالك والشافعي "وزاد أبو حنيفة في السكر الموجب للحد أن لا يميز بين الأشياء ولا يعرف الأرض من السماء إذ لو ميز" بينها "ففيه" أي سكره "نقصان وهو" أي نقصانه "شبهة العدم" أي عدم السكر وهو الصحو(24/26)
ص -250-…"فيندرئ" الحد "به" أي بهذا النقصان "وأما" حد السكر عنده "في غير وجوب الحد من الأحكام فالمعتبر عنده أيضا اختلاط الكلام حتى لا يرتد بكلمة الكفر معه" أي مع اختلاط الكلام "ولا يلزمه الحد بالإقرار بما يوجب" الحد عنده قال المصنف وإنما اختاروا للفتوى قولهما لضعف وجه قوله وذلك أنه حيث قال يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها فقد سلم أن السكر يتحقق قبل الحالة التي عينها وأنه يتفاوت مراتبه وكل مرتبة هي سكر. والحد إنما أنيط في الدليل الذي أثبت حد السكر بما يسمى سكرا لا بالمرتبة الأخيرة منه على أن الحالة التي ذكر قلما يصل إليها سكران فيؤدي إلى عدم الحد بالسكر هذا ولا يخفى أن اختلاط الكلام أو عدم التمييز بين الأشياء ليس نفس السكر وإنما هو علامة وقد اختلف فيه فقيل معنى يزيل العقل عند مباشرة سبب مزيل له ويلزمه أن يكون السكر جنونا وقيل غفلة تعرض لغلبة السرور على العقل بمباشرة ما يوجبها قال الفاضل القاآني فتخرج الغفلة التي لا توجب السرور كالتي من شرب الأفيون والبنج؛ لأنها من قبيل الجنون لا من السكر لكن لما كان حكمهما واحدا في الشرع ألحقت به ولا يعرى عن نظر وفي التلويح، وهي حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة ا هـ ومعلوم أنه لا حاجة إلى قوله المميز إلخ، والله تعالى أعلم.(24/27)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "الهزل" وهو لغة اللعب واصطلاحا "أن لا يراد باللفظ ودلالته المعنى الحقيقي ولا المجازي" للفظ بل أريد به غيرهما وهو ما لا يصح إرادته منه "ضده الجد أن يراد باللفظ أحدهما" أي المعنى الحقيقي أو المجازي له "وما يقع" الهزل "فيه" من الأقسام "إنشاءات فرضاه" أي الهازل "بالمباشرة" أي بالتكلم بصيغها "لا بحكمها" أي لا بثبوت الأثر المترتب عليها الموضوعة له "أو إخبارات أو اعتقادات"؛ لأن ما يقع الهزل فيه إن كان إحداث حكم شرعي فإنشاء وإلا فإن كان القصد منه إلى بيان الواقع فإخبار وإلا فاعتقاد "والأول" أي الإنشاء "إحداث الحكم الشرعي أي" إحداث "تعلقه" وإلا فنفس الحكم الشرعي قديم كما تقدم والهزل فيه إما فيما يحتمل النقض وإما فيما لا يحتمله "فإما فيما يحتمل النقض" أي الفسخ والإقالة "كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصله" أي تجري المواضعة بين العاقدين قبل العقد "على التكلم به" أي بلفظ العقد "غير مريدين حكمه" أي العقد "أو" يتواضعا "على قدر العوض أو" يتواضعا على "جنسه" أي العوض "ففي الأول" أي تواضعهما في أصله "إن اتفقا بعده" أي العقد "على الإعراض عنده" أي العقد "إلى الجد" بأن قالا بعد البيع قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل وبعنا بطريق الجد "لزم البيع" وبطل الهزل بقصدهما الجد؛ لأنه قابل للرفع وإذا كان العقد الصحيح يقبل الرفع بالإقالة فهذا أولى فهذه أولى صور الاتفاق "أو" اتفقا "على البناء" للعقد "عليه" أي التواضع "فكشرط الخيار" أي صار العقد كالعقد المشتمل على شرط الخيار "لهما" أي للعاقدين "مؤبدا إذا رضيا" فيه "بالمباشرة فقط" أي لا بالحكم الذي هو الملك أيضا كما في الخيار المؤبد "فيفسد" العقد فيه كما في الخيار المؤبد "ولا يملك" المبيع فيه "بالقبض لعدم الرضا بالحكم" كذا قال صدر الشريعة وغيره(24/28)
ص -251-…وفي التلويح لو قال لعدم اختيار الحكم لكان أولى؛ لأنه المانع عن الملك لا عدم الرضا. كالمشتري من المكره فإنه يملك بالقبض لوجود الاختيار وإن لم يوجد الرضا إذ الاختيار القصد إلى الشيء وإرادته والرضا إيثاره واستحسانه فالمكره على الشيء يختاره ولا يرضاه ومن هنا قالوا المعاصي والقبائح بإرادة الله تعالى لا برضاه؛ لأن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر بخلاف ما لو كان البيع فاسدا من وجه غير هذا حيث يثبت الملك به بالقبض لوجود الرضا بالحكم "فإن نقضه" أي العقد الذي اتفقا على أنه مبني على المواضعة "أحدهما" أي العاقدين "انتقض"؛ لأن لكل منهما النقض فينفرد به "لا إن أجازه" أي أحدهما العقد دون الآخر فإنه لا يجوز بل يتوقف على إجارتهما جميعا؛ لأنه كخيار الشرط لهما فإجازة أحدهما لا تبطل اختيار الآخر لعدم ولايته عليه "وإن أجازاه" أي العاقدان العقد "جاز بقيد الثلاثة" أي بشرط أن تكون إجازتهما في ثلاثة أيام "عنده" أي أبي حنيفة كما في الخيار المؤبد عنده لارتفاع المفسد لا فيما بعدها لتقرر الفساد بمضيها "ومطلقا" أي وجاز إذا أجازاه أي وقت أراد ما لم يتحقق النقض عند أبي يوسف ومحمد كما في الخيار المؤبد عندهما فهذه ثانية صور الاتفاق "أو" اتفقا على "إن لم يحضرهما" أي لم يقع بخاطرهما وقت العقد "شيء" أي لا البناء على المواضعة ولا الإعراض عنها وهذه ثالثة صور الاتفاق "أو اختلفا في الإعراض" عن المواضعة "والبناء" عليها فقال أحدهما بنينا العقد على المواضعة. وقال الآخر بل أعرضنا عنها بالجد وهذه رابعة والحكم فيها وفيما قبلها أنه "صح العقد عنده" أي عند أبي حنيفة فيهما "عملا بما هو الأصل في العقد" الشرعي وهو الصحة واللزوم حتى يقوم المعارض؛ لأنه إنما شرع للملك والجد هو الظاهر فيه "وهو" أي العمل بالأصل فيه "أولى من اعتبار المواضعة"؛ لأنها عارض لم تنور دعوى مدعيها بالبيان فلا يكون القول قوله كما في خيار الشرط "ولم(24/29)
يصح" العقد فيهما "عندهما لعادة البناء" أي لاعتياد بنائهما على المواضعة السابقة "وكي لا تلغو المواضعة السابقة" أي يكون الاشتغال بها عبثا "والمقصود" منها "وهو صون المال عن المتغلب فهو" أي البناء على المواضعة "الظاهر ودفع بأن" العقد "الآخر" وهو العقد من غير أن يحضرهما شيء "ناسخ" للمواضعة السابقة لخلوه عنها مع أن عقل العاقدين ودينهما يدلان على ذلك أيضا، ولم يعارضه ما يفسده من التنصيص على الفساد كما في صور الاتفاق على البناء على الهزل وقال المصنف ترجيحا لقولهما في هاتين الصورتين "وقد يقال هو" أي كون الآخر ناسخا للمواضعة "فرع الرضا" به "إذ مجرد صورة العقل لا يستلزمه" أي رفع ما سبق "إلا باعتباره" أي الرضا به "وفرض عدم إرادة شيء" في الصورة الثالثة "فيصرف" العقد "إلى موافقة" التواضع "الأول وكون أحدهما" في الصورة الرابعة "أعرض لا يوجب صحته" أي العقد. "إذ لا يقوم العقد إلا برضاهما ولو قال أحدهما أعرضت" عند العقد عن المواضعة السابقة "والآخر لم يحضرني شيء" وهذه صورة خامسة "أو بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني" شيء وهذه صورة سادسة "فعلى أصله" أي أبي حنيفة يجب أن يكون "عدم الحضور كالإعراض" عملا بالعقد فيصح في الصورتين "وهما" يجب على أصلهما أن(24/30)
ص -252-…يكونا قائلين بأنه "كالبناء" ترجيحا للمواضعة بالعادة والسبق فلا يصح العقد في شيء منهما وفي التلويح وهذا مأخوذ من صورة اتفاقهما على أنه لم يحضرهما شيء فإنه عند أبي حنيفة بمنزلة الإعراض وعندهما بمنزلة البناء ا هـ وتعقب بأنه لم يظهر جهة الصحة على أصل أبي حنيفة فيما إذا بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني شيء فإنه ينبغي أن لا يصح على أصله لاجتماع المصحح والمفسد والترجيح للمفسد.
"ولا يخفى أن تمسكه" أي أبي حنيفة "بأن الأصل في العقد الصحة وهما" أي تمسكهما "بأن العادة تحقيق المواضعة السابقة وهو فيما إذا اختلفا في دعوى الإعراض أو البناء وأما إذا اتفقا على الاختلاف بأن يقرا بإعراض أحدهما وبناء الآخر فلا قائل بالصحة" بل الاتفاق حينئذ على بطلان العقد كما لا يخفى فليتنبه لذلك.(24/31)
"ومجموع صور الاتفاق والاختلاف" في ادعاء المتعاقدين على ما يشعر به كلام فخر الإسلام "ثمانية وسبعون فالاتفاق على إعراضهما أو بنائهما أو ذهولهما أو بناء أحدهما وإعراض الآخر أو" بناء أحدهما "وذهوله" أي الآخر "أو إعراض أحدهما وذهول الآخر ستة والاختلاف دعوى أحدهما إعراضهما وبناءهما وذهولهما وبناءه مع إعراض الآخر أو" بناءه مع "ذهوله" أي الآخر "وإعراضه مع بناء الآخر أو" إعراضه "مع ذهوله" أي الآخر "وذهوله مع بناء الآخر أو" ذهوله مع "إعراضه" أي الآخر "تسعة وكل" من هذه التقادير التسعة تكون "مع دعوى الآخر إحدى الثمانية الباقية" منها. وإذا كان كذلك "تمت" صور الاختلاف "ثنتين وسبعين" حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية "وستة الاتفاق" أي وستة أقسام الاتفاق تضم إليها فتبلغ ثمانية وسبعين قيل والحق أن تجعل صور الاتفاق والاختلاف ستا وثلاثون إن أراد بأحدهما غير معين وإحدى وثمانين إن أراد به معينا فحينئذ صور الاتفاق تسع وصور الاختلاف اثنان وسبعون، وهي حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية فليتأمل وليستخرج لكل من الأقسام ما يناسبه من الأحكام "وإما" أن يتواضعا "في قدر العوض بأن تواضعا" على البيع "بألفين والثمن ألف فهما" أي أبو يوسف ومحمد "يعملان" في التقادير الأربعة من الاتفاق على البناء وعلى الإعراض وعلى أنه لم يحضرهما شيء منهما والاختلاف في الإعراض والبناء "بالمواضعة إلا في إعراضهما" عنهما فإنهما يعملان بالإعراض فيصح العقد ويكون الثمن ألفين وهذا أيضا رواية محمد في الإملاء عن أبي حنيفة "وهو" أي أبو حنيفة في الأصح عنه يعمل "بالعقد" فيقول بصحته بألفين "في الكل والفرق له" أي لأبي حنيفة "بين البناء هنا وثمة" أي فيما إذا كان المواضعة في أصل العقد حيث قال بفساده في بنائهما كما قالا "أن العمل بالمواضعة" هنا "تجعل قبول أحد الألفين شرطا لقبول البيع بالألف" الآخر؛ لأن أحد الألفين غير داخل في العقد حينئذ فيصير كأنه(24/32)
قال بعتك بألفين على أن لا يجب أحد الألفين؛ لأن عمل الهزل في منع الوجوب لا في الإخراج بعد الوجوب بمنزلة شرط الخيار وهذا شرط فاسد لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما "فيفسد" البيع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. رواه أبو(24/33)
ص -253-…حنيفة "فالحاصل التنافي بين تصحيحه" أي العقد كما هو مقتضى الجد فيه "واعتبار المواضعة" في الثمن كما هو مقتضى الهزل فيه "ترجيحا للأصل" وهو المبيع؛ لأنه الأصل في البيع وهو جاد فيه على الوصف وهو الثمن إذ هو وسيلة إلى المبيع لا مقصود وإلا لزم إهدار الأصل لاعتبار الوصف وهو باطل. "فينتفي الثاني" أي اعتبار المواضعة في أصل العقد إذا اتفقا على البناء عليها فإنه لم يوجد فيها ثمة معارض يمنع من العمل بها فوجب العمل بها اتفاقا "وإما" أن يتواضعا "في جنسه" أي الثمن بأن يتفقا في إظهار العقد بمائة دينار مثلا يكون الثمن في الواقع ألف درهم "فالعمل بالعقد اتفاقا في الكل" من الاتفاق على الإعراض وعلى البناء وعلى أنه لم يحضرهما شيء منهما ومن الاختلاف في البناء والإعراض "والفرق لهما" بين الهزل في القدر والجنس حيث قالا في القدر يعمل بالمواضعة في البناء وفي الجنس يعمل بالعقد فيه "أن العمل بالمواضعة مع الصحة غير ممكن هنا؛ لأن البيع يعدم لعدم تسمية بدل" فيه إذ هي ركن فيه "وباعتبار المواضعة يكون" البدل "ألفا وليس" الألف "مذكورا في العقد بل" المذكور فيه "مائة دينار، وهي غير الثمن" فلا يتصور اجتماع الصحة مع العمل بها.
فإن قيل دعه لا تجتمع مع الصحة فلا يصح كما أوجبا المواضعة وإن لم تصح في الأصل فالجواب أن العمل بالمواضعة ليس إلا لتحقيق غرضهما منها وغرضهما منها في الأصل أن لا يصح كي لا يخرج المبيع من ملكه وغرضهما منها في البدل ليس إلا صحة العقد مع البدل المتواضع عليه فالعمل بالمواضعة هو التصحيح وهو غير ممكن في الجنس على ما في الكتاب ذكره المصنف رحمه الله تعالى.(24/34)
"بخلافها" أي المواضعة "في القدر يمكن التصحيح مع اعتبارها" أي المواضعة. "فإنه ينعقد بالألف الكائنة في ضمن الألفين" إذ الألف موجودة في الألفين فتكون مذكورة في العقد فيكون ثمنا ولما كان من وجه قول أبي حنيفة بالعمل بالعقد مطلقا فيما إذا تواضعا في القدر أن في العمل بالمواضعة لزوم شرط فاسد فيها وهو مفسد كما تقدم وهما محتاجان إلى الجواب عنه قيل فيه "والهزل بالألف الأخرى" وإن كان شرطا مخالفا لمقتضى العقد لكنه "شرط لا طالب من العباد لاتفاقهما على عدم ثمنيته" فلا يطلبه واحد منهما وإن ذكراه ولا غيرهما؛ لأنه أجنبي "ولا يفسد" العقد به إذ كل شرط لا طالب له من العباد غير مفسد لعدم إفضائه إلى المنازعة "كشرط أن لا يعلف الدابة" قال صدر الشريعة لكن الجواب لأبي حنيفة أن الشرط في مسألتنا وقع لأحد المتعاقدين وهو الطالب لكن لا يطالب به للمواضعة وعدم الطلب بواسطة الرضا لا يفيد الصحة كالرضا بالربا ا هـ وأيضا العمل بالمواضعة فيها لا يوجب جعل قبول ما ليس بثمن شرطا لقبول ما هو ثمن كما تقدم فيوجب الفساد كاشتراط قبول ما ليس بمبيع لقبول ما هو مبيع ومثل هذا الشرط معتبر وإن لم يكن له طالب من العباد كمن جمع بين حر وعبد في صفقة واحدة.
ثم أخذ في قسيم قوله فأما فيما يحتمل النقض فقال "وأما فيما لا يحتمله" أي(24/35)
ص -254-…النقض بمعنى أنه لا يجري فيه الفسخ والإقالة "مما لا مال فيه كالطلاق والعتق" مجانا فيهما "والعفو" عن القصاص "واليمين والنذر فيصح" كل من هذا النوع. "ويبطل الهزل للرضا بالسبب الذي هو ملزوم للحكم شرعا" فينعقد ولا يمنع الهزل من انعقاده وحكم هذه الأسباب لا يحتمل التراخي والرد بالإقالة ثم بين المراد بالسبب بقوله "أي العلة" وسنذكر قريبا من السنة ما يؤيده "ولذا" أي كونه ملزوما للحكم "لا يحتمل شرط الخيار"؛ لأنه يفيد التراخي في الحكم "بخلاف قولنا الطلاق المضاف" كأنت طالق غدا "سبب للحال فإنه" أي السبب "يعني به المفضي" للوقوع لا العلة ولذا لا يستند إلى وقت الإيجاب وجاز تأخر الحكم عنه ولو كان علة لاستند كما في البيع بخيار الشرط والحاصل كما قال المصنف أن الطلاق المنجز علة ملزومة لحكمه فإذا أضيف صار سببا فقط وحقيقة السبب ما يفضي إلى الحكم إفضاء لا ما يستلزمه في الحال "وما فيه" المال تبعا "كالنكاح" فإن المقصود الأصلي فيه من الجانبين الحل للتوالد، والمال شرع فيه لإظهار خطر المحل ولهذا يصح بدون ذكر المهر ويتحمل في المهر من الجهالة ما لا يتحمل في غيره، لكن قال المصنف ولا يخفى أن كون النكاح لا يحتمل الفسخ محل نظر فإن التفريق بين الزوجين لعدم الكفاءة ونقصان المهر وخيار البلوغ وبردتها فسخ ا هـ. قلت وبكون ردتها فسخا يظهر أيضا عدم تمام ما قيل المراد بكون النكاح لا يحتمل الفسخ النكاح الصحيح النافذ اللازم للاتفاق على أن ردتها فيما هذا شأنه فسخ. "فإن" تواضعا "في أصله" بأن قال أريد أن أتزوجك بألف هازلا عند الناس ولا يكون بيننا في الواقع نكاح ووافقته على ذلك وحضر الشهود عند العقد "لزم" النكاح وانعقد صحيحا قضاء وديانة اتفقا على الإعراض أو البناء أو أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض والبناء لعدم تأثير الهزل فيه لكونه غير محتمل للفسخ بعد تمامه وقد عرفت ما فيه فالأولى الاستدلال بقوله صلى الله(24/36)
عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أحمد. وقال الترمذي حسن غريب وصححه الحاكم "أو" تواضعا "في قدر المهر" أي على ألفين ويكون الواقع ألفا "فإن اتفقا على الإعراض فألفان" المهر بالاتفاق لبطلان المواضعة بإعراضهما عنها "أو" اتفقا على "البناء فألف" المهر بالاتفاق؛ لأن الألف الآخر ذكر هزلا ولا مانع من اعتبار الهزل فيه إذ المال لا يجب مع الهزل "والفرق له" أي لأبي حنيفة "بينه" أي الهزل بقدر المهر "وبين" الهزل بقدر الثمن في "المبيع" حيث اعتبر التسمية بالاتفاق على البناء في المواضعة على قدر البدل في البيع واعتبر المواضعة في اتفاقهما على البناء هنا "أنه" أي البيع "يفسد بالشرط" الفاسد وهذا شرط فاسد كما تقدم بيانه فوجب عدم اعتبار المواضعة فيه واعتبار التسمية كي لا يفسد البيع فيفوت مقصودهما وهو الصحة "لا النكاح" أي بخلاف النكاح فإنه لا يفسد بالشرط الفاسد فأمكن اعتبار المواضعة فيه من غير لزوم فساد فاعتبر. "وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا جاز بألف في رواية محمد عنه" أي أبي حنيفة "بخلاف البيع؛ لأن المهر تابع حتى صح العقد بدونه فيعمل بالهزل بخلاف البيع" فإن الثمن فيه وإن كان وصفا تابعا بالنسبة إلى المبيع إلا أنه مقصود بالإيجاب لكونه أحد ركني البيع "حتى فسد لمعنى في(24/37)
ص -255-…الثمن" كجهالته "فضلا عن عدمه" أي ذكر الثمن "فهو" أي الثمن "كالمبيع والعمل بالهزل يجعله شرطا فاسدا" كما تقدم "فيلزم ما تقدم وفي رواية أبي يوسف" عن أبي حنيفة "وهي أصح" كما ذكر فخر الإسلام وغيره يلزمه "ألفان كالبيع؛ لأن كلا" من المهر والثمن "لا يثبت إلا قصدا ونصا والعقل يمنع من الثبات على الهزل فيجعل" عندهما بألفين عقدا "مبتدأ عند اختلافهما" لا بناء على المواضعة ذكره في كشف المنار وهو قاصر على ما إذا اختلفا فالأولى كما في الكشف الكبير وغيره؛ لأن نفي الفساد إهدار لجانب الفساد واعتبار للجد الذي هو الأصل في الكلام فيشمل ما إذا لم يحضرهما شيء كما يشمل ما إذا اختلفا "أو" تواضعا "في الجنس" أي جنس المهر بأن يذكرا في العلانية مائة دينار ويكون المهر في الواقع ألف درهم "فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى" وهو مائة دينار لبطلان المواضعة بالإعراض "أو" توافقا على "البناء فمهر المثل إجماعا؛ لأنه تزوج بلا مهر إذ المسمى هزل ولا يثبت المال به" أي بالهزل "والمتواضع عليه لم يذكر في العقد" والتزوج بلا مهر يوجب مهر المثل "بخلافها" أي المواضعة "في القدر؛ لأنه" أي القدر المتواضع عليه كالألف "مذكور ضمن المذكور" في العقد كالألفين كما تقدم "أو" توافقا "على أن لم يحضرهما" شيء "أو اختلفا في الإعراض والبناء ففي رواية محمد" عن أبي حنيفة الواجب "مهر المثل؛ لأن الأصل بطلان المسمى".؛ لأن المهر تابع فيجب العمل بالمواضعة على الهزل "كي لا يصير المهر مقصودا بالصحة كالبيع" أي كالثمن في البيع والواقع أن لا حاجة في صحة النكاح إلى صحة المهر وإذا وجب العمل بالهزل بطلت التسمية "فيلزم مهر المثل وفي رواية أبي يوسف" عن أبي حنيفة الواجب "المسمى" والمواضعة باطلة؛ لأن التسمية بالمهر في حكم الصحة "كالبيع" أي مثل الثمن في ابتداء البيع كما تقدم بيانه فكما جعل أبو حنيفة العمل بصحة الإيجاب أولى من المواضعة في صورتي السكوت(24/38)
والاختلاف في المواضعة في مقدار الثمن ترجيحا لجانب الصحة على الفساد فكذا في تسمية المهر؛ لأن الهزل يؤثر في تسميته بالإفساد كما يؤثر في أصل البيع "وعندهما" أي أبي يوسف ومحمد الواجب "مهر المثل لترجيحهما المواضعة بالعادة فلا مهر" مسمى "لعدم الذكر في العقد و" عدم "ثبوت المال بالهزل وما فيه" المال "مقصودا بأن لا يثبت" المال "بلا ذكره" أي المال "كالخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد فهزلها" أي هذه الأشياء "في الأصل" بأن تواضعا على أن يطلقها بمال أو يعتقها على مال أو يصالحه على مال عن دم العمد على وجه الهزل في الطلاق والعتق والصلح "أو القدر" بأن طلقها على ألفين أو أعتقها على ألفين أو صالحه عن دم العمد على ألفين مع المواضعة بأن المال ألف "أو الجنس" بأن يطلقها على مائة دينار أو يعتقها على مائة دينار أو يصالحه عن دم العمد على مائة دينار مع المواضعة على أن الواجب ألف درهم "يلزم الطلاق والمال في الإعراض وعدم الحضور" للإعراض والبناء "والاختلاف في الإعراض والبناء اتفاقا" مع اختلاف في التخريج "ففي الأخيرين" أي عدم الحضور والاختلاف في الإعراض والبناء "عنده" أي أبي حنيفة "لترجيح العقد على المواضعة وذلك" أي ترجيحه عليها "في الاختلاف يجعل القول(24/39)
ص -256-…لمدعي الإعراض". لأن الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم ما لم يوجد معارض، ولم يوجد فمدعي الإعراض متمسك بالأصل فالقول له وفي الأول أعني الإعراض ظاهر بطريق أولى لبطلانها بالإعراض وإنما لم يذكره للاتفاق عليه حكما ودليلا "ولعدم تأثير الهزل عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "في صورها" أي المواضعة الثلاث "حتى لزما" أي الطلاق والمال "في البناء" على المواضعة "أيضا عندهما؛ لأن المال وإن لم يثبت بالهزل لكنه تبع للطلاق لاستغنائه" أي الطلاق "عنه" أي المال "لولا القصد إلى ذكره فإذا ثبت المتضمن" على صيغة اسم الفاعل وهو الطلاق "ثبت" المتضمن على صيغة اسم المفعول وهو المال وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا، فإن قيل لا يستقيم جعل المال في هذا تبعا؛ لأنه سلف أنه فيه مقصود على أنه لو سلم أنه فيه تبع لا نسلم أن الهزل لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في أصله فإن المال تابع في النكاح وقد أثر في المال حتى كان المهر ألفا فيما إذا هزلا بألفين أجيب بمنع عدم الاستقامة وكيف لا "والتبعية" أي تبعية المال للطلاق "بهذا المعنى" وهو كونه في الثبوت تابعا له إذ هو بمنزلة الشرط فيه والشروط أتباع على ما عرف "لا تنافي المقصودية بالنظر إلى العاقد" بمعنى أنه لا يثبت إلا بالذكر لاختلاف الجهتين "بخلاف تبعيته" أي المال "في النكاح فبمعنى أنه" أي المال "غير المقصود" للعاقدين؛ لأن قصدهما الحل لا المال. "وهذا" المعنى المراد من تبعية المال فيه "لا ينافي الأصالة" للمال "من حيث ثبوته" أي المال "عند ثبوته" أي النكاح بلا ذكره بل ومع نفيه إظهارا لخطر البضع والحاصل أنه ليس بمقصود منه بل مقصود فيه لإظهار شرف المعقود عليه فهو من جهة المقصود من العقد بيع، وكذا من جهة ثبوته فإنه بيع لثبوت العقد لكن ثبوته عقب ثبوته مقصود لما ذكرنا فيؤثر فيه الهزل كما في سائر الأموال وإن لم يؤثر في النكاح وفي شرح أصول فخر الإسلام للشيخ قوام الدين الكاكي(24/40)
على أن الإمام شمس الأئمة ذكر في كتاب الإكراه في التلجئة أنهما لو تواضعا في النكاح على ألف سرا ثم عقدا علانية بألفين كان النكاح جائزا بألف ثم قال، وكذا الطلاق على مال والعتاق وعليه، ولم يذكر خلافا فعلى هذا كان الطلاق على مال مثل النكاح إذا كان الهزل في قدر البدل "وعنده" أي أبي حنيفة في البناء في الأوجه الثلاثة الهزل بأصل التصرف أو بقدر البدل فيه أو بجنسه "يتوقف الطلاق على مشيئتها" أي اختيار المرأة الطلاق بالمسمى على طريق الجد وإسقاط الهزل كما يتوقف وقوعه في خيار الشرط في الخلع من جانبها على اختيارها؛ لأن الهزل بمنزلة خيار الشرط عنده لكنه في الخلع غير مقدر بالثلاث بخلاف البيع؛ لأن الشرط في الخلع على وفاق القياس؛ لأنه من قبيل الإسقاط فإنه طلاق فيجوز تعليقه بالشرط مطلقا من غير تقييده بمدة فلها النقض والإجازة مؤبدا وأما في البيع فعلى خلاف القياس؛ لأنه من قبيل الإثبات وتعليقه غير جائز لكن الجواز ثبت بالنص مقدرا بالثلاث فيقتصر عليه قيل ينبغي أن يكون الخيار في الخلع أيضا مقدرا بالثلاث؛ لأن ثبوته من جانبها باعتبار معنى المعاوضة أجيب بأنه إنما يلزم أن لو كان المال فيه مقصودا لا تابعا وهو هنا تابع في الثبوت للطلاق والاعتبار للمتبوع دون التابع فلا يتقدر بالثلاث كذا في شرح البديع(24/41)
ص -257-…للشيخ سراج الدين الهندي وغيره. وقال المصنف موافقة للتلويح "لإمكان العمل بالمواضعة بناء على أن الخلع لا يفسد بالشروط الفاسدة وهو" أي الشرط الفاسد "أن يتعلق" الطلاق "بجميع البدل ولا يقع في الحال بل يتوقف على اختيارها" قال المصنف وهذا الفرض أنهما هزلا بالعقد إذ بنينا على المواضعة ومعنى الهزل بالخلع ليس إلا أن يجعل الطلاق متعلقا بجميع البدل مع قبولها ولا يقع في الحال لما عرف أن الهازل مطلقا غير راض بالحكم ولا شك أن هذا شرط فاسد؛ لأنه خلاف مقتضى العقد فهزلهما شرط فاسد فيما هزلا به لكن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة وإذا لم يبطل الخلع يبقى موقوفا على إجازتها بقي أن يقال ينبغي أنه إذا بقي موقوفا أن يتوقف على إجازتهما لا على مشيئة أحدهما لما أجمعوا عليه من أن الهزل كشرط الخيار لهما ولا وجه لكونه لأحدهما؛ لأنهما معا هازلان، وكذا إذا بنى أحدهما في البيع وأعرض الآخر لا يصح العقد بالاتفاق على ما حرره المصنف أول البحث من أن محل الخلاف أن يختلفا في دعوى البناء والإعراض لا إذا اختلفا في نفس البناء والإعراض فإنه لا يصح بالاتفاق. والجواب أنه يجب كون ذلك في غير الخلع وما معه وذلك؛ لأن الخلع من جانب الزوج يمين وهو لا يحتمل شرط الخيار فإذا هزل هو به فإنما يكون هزله كشرطه الخيار لها كأنه قال أنت طالق على ألف على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت فإنه لا يقع عنده حتى تشاء بعد هذا القبول أو بمضي المدة وإذن ظهر أن وقوع الطلاق ولزوم المال إذا هزلا إنما يتوقف على مشيئتها، ولم أر من ذكر قيد الثلاث في مشيئتها هنا عنده وصرحوا بتقييده عنده في إجازتهما في الهزل بأصل البيع ا هـ بل صرح كثير منهم فخر الإسلام بنفي التقييد لمشيئتها بالثلاث عنده في الخلع بخلاف البيع، ووجه الفرق قدمناه آنفا.(24/42)
"وكل من العتق والصلح" عن دم العمد "فيه" أي في كل منهما "مثل ما في الطلاق" من الحكم والتفريع فليتأمل. "وأما تسليم الشفعة هزلا فقيل طلب المواثبة" وهو طلبها كما علم بالبيع هو "كالسكوت" مختارا "يبطلها" إذ اشتغاله بالتسليم هازلا سكوت عن طلبها على الفور، وهي تبطل بحقيقة السكوت مختارا بعد العلم بالبيع؛ لأنه دليل الإعراض فكذا بالسكوت حكما "وبعده" أي طلب المواثبة سواء كان بعد طلب التقرير والإشهاد وهو أن ينهض بعد طلب المواثبة فيشهد على البائع إن كان المبيع بيده أو على المشتري أو عند العقار على طلبها كما عرف في موضعه أو كان بعد طلب الخصومة والتملك "يبطل التسليم فتبقى الشفعة؛ لأنه" أي تسليمها "من جنس ما يبطل بالخيار؛ لأنه في معنى التجارة لكونه استيفاء أحد العوضين على ملكه" ومن ثمة يملك الأب والوصي تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة كما يملكان البيع والشراء له "فيتوقف على الرضا بالحكم والهزل بنفيه" أي الرضا بالحكم "وكذا يبطل به" أي بالهزل "إبراء المديون والكفيل؛ لأن فيه" أي إبراء كل منهما "معنى التمليك ويرتد بالرد فيؤثر فيه الهزل" كخيار الشرط "وكذا الإخبارات وهو الثاني" من الأقسام الثلاثة التي يقع فيها الإنشاء يبطل بالهزل "سواء كانت" الإخبارات إخبارات "عما يحتمل الفسخ كالبيع والنكاح" كما هو الأصح وإن صرحوا بأنه لا يحتمله "أو" كانت إخبارات عما "لا" يحتمل(24/43)
ص -258-…الفسخ "كالطلاق والعتاق شرعا ولغة كما إذا تواضعا على أن يقرا بأن بينهما نكاحا أو بيعا في هذا بكذا أو لغة فقط مقررة شرعا كالإقرار بأن لزيد عليه كذا لا يثبت" شيء منها هزلا "لأنه" أي الخبر "يعتمد صحة المخبر به" أي تحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه وإعلاما بثبوته أو نفيه، والهزل ينافي ذلك ويدل على عدمه. "ألا يرى أن الإقرار بالطلاق والعتق مكرها باطل فكذا هازلا"؛ لأن الهزل دليل الكذب كالإقرار حتى لو أجاز ذلك لم يجز؛ لأن الإجازة إنما تلحق منعقدا يحتمل الصحة والبطلان، والفرض أن لا وجود هنا لطلاق ولا عتاق بخلاف ما لو طلق إنسان زوجة غيره أو أعتق عبد غيره
فإنه أمر محقق فإذا أجاز الزوج والسيد طلقت وعتق "وكذا في الاعتقادات وهو الثالث" وكان الأولى حذف كذا والاقتصار على الثالث الاعتقاد وهو لا يؤثر فيه. "وأما ثبوت الردة بالهزل" أي بتكلم المسلم بالكفر هزلا "فيه" أي فثبوتها بالهزل نفسه "للاستخفاف"؛ لأن الهازل راض بإجراء كلمة الكفر(24/44)
على لسانه والرضا بذلك استخفاف بالدين وهو كفر بالنص قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] وبالإجماع "لا بما هزل به" وهو اعتقاد معنى كلمة الكفر التي تكلم بها هازلا "إذ لم يتبدل اعتقاده ويلزم الإسلام" أي نحكم بإسلام الكافر في أحكام الدنيا "بالهزل به" أي إذا تكلم بكلمة الإسلام وتبرأ من دينه هازلا "ترجيحا" لجانب الإيمان إذ الأصل في الإنسان التصديق والاعتقاد "كالإكراه عليه" أي الإسلام فإن المكره مطلقا عليه إذا أسلم يحكم بإسلامه "عندنا" لوجود ركنه منه بل الهازل أولى بذلك؛ لأن الهازل راض بالتكلم بها والمكره غير راض بالتكلم بها ووافقنا الشافعي على ذلك في الحربي لا الذمي كما سيعرف في الإكراه ومن هذا يعرف وجه التقييد بقوله عندنا.(24/45)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "السفه" وهو في اللغة الخفة وفي اصطلاح الفقه "خفة تبعث" الإنسان "على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل"، ولم يقل والشرع كما قال بعضهم؛ لأن مقتضى العقل أن لا يخالف الشرع للأدلة القائمة على وجوب اتباعه "مع عدم اختلاله" أي العقل فخرج الجنون والعته "ولا ينافي" السفه أهلية الخطاب ولا أهلية الوجوب؛ لأنه لا يخل بمناطهما وهو العقل وسائر القوى الظاهرة والباطنة إلا أن السفيه يكابر عقله بعمله على خلاف مقتضاه فهو مخاطب بالأوامر والنواهي مطالب بالعمل بموجبها مثاب عليه معاقب على مخالفته فلا ينافي "شيئا من الأحكام" الشرعية؛ لأنه إذا كان أهلا لوجوب حقوق الله تعالى كان أهلا لحقوق العباد، وهي التصرفات بالطريق الأولى فإن حقوقه أعظم؛ لأنها لا تحمل إلا من هو كامل الحال والأهلية بخلاف حقوقهم ومن ثمة وجب على الصبي نفقة الزوجات والأقارب والعشر والخراج، ولم تجب عليه الصلاة والصيام ونحوهما "وأجمعوا على منع ماله" أي السفيه منه "أول بلوغه" سفيها لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] أي لا تعطوا المبذرين أموالهم ينفقونها فيما لا ينبغي وأضاف الأموال إلى(24/46)
ص -259-…الأولياء على معنى أنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أو لأنهم المتصرفون فيها القوامون عليها. "وعلقه" أي إيتاء الأموال إياهم "بإيناس الرشد" على وجه التنكير المفيد للتقليل حيث قال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي إن عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في الفعل وحفظا للمال فادفعوا إليهم أموالهم "فاعتبر أبو حنيفة مظنته" أي الرشد "بلوغ سن الجدية" أي كونه جدا لغيره أعني "خمسا وعشرين سنة" إذ أدنى مدة البلوغ اثنتا عشرة سنة ثم يولد له ولد في ستة أشهر فإنها أدنى مدة الحمل ثم يبلغ اثنتي عشرة سنة ويولد له ولد في ستة أشهر فيصير هو جدا في خمس وعشرين سنة وإنما كانت هذه المدة مظنة بلوغ الرشد "لأنه لا بد من حصول رشد ما نظرا إلى دليله" أي حصول الرشد له شرطا لوجوب الدفع له "من مضي زمان التجربة" إذ التجارب لقاح العقول "وهو" أي حصول رشد ما "الشرط لتنكيره" أي رشد في الإثبات في الآية فيتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في الشروط المنكرة والظاهر أن من بلغ هذا السن لا ينفك عن الرشد إلا نادرا فأقيم مقام الرشد على ما هو المتعارف في الشرع من تعلق الأحكام بالغالب فقال يدفع إليه المال بعد خمس وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لا "ووقفاه" أي إيتاء ماله "على حقيقته" أي الرشد "وفهم تخلقه" أي السفيه بالرشد "واختلفوا في حجره" أي السفيه "بأن يمنع نفاذ تصرفاته القولية المحتملة للهزل" أي التي يبطلها الهزل، وهي ما لا يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة أما الفعلية كالإتلافات والقولية التي لا يبطلها الهزل، وهي ما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق فالسفه لا يمنع نفاذها بالاتفاق "فأثبتاه" أي أبو يوسف ومحمد حجر السفيه عنها "نظرا له" لما فيه من صيانة ماله "لوجوبه" أي النظر "للمسلم" من حيث إنه مسلم لإسلامه وإن كان فاسقا بعصيانه ونظرا للمسلمين أيضا فإنه(24/47)
بإسرافه وإتلافه يصير مظنة للديون ووجوب النفقة عليه من بيت المال فيصير على نفسه وعلى المسلمين وبالا وعلى بيت مالهم عيالا. "ونفاه" أي أبو حنيفة حجر السفيه عنها "لأنه" أي السفه "لما كان مكابرة" للعقل في التبذير بغلبة الهوى مع العلم بقبحه "وتركا للواجب" وهو مقتضى العقل "لم يستوجب النظر" صاحبه؛ لأنه معصية ولما كان على هذا أن يقال من قبلهما فينبغي أن يجيز أبو حنيفة الحجر عليه كما قلنا صاحب الكبيرة يستوجب العقوبة والعفو عنه جائز دفعه بقوله "ثم إنما يحسن" الحجر عليه "إذا لم يستلزم" الحجر عليه "ضررا فوقه" أي هذا الضرر لكنه يستلزم ذلك لما فيه "من إهدار أهليته وإلحاقه بالجمادات" فإن الأهلية نعمة أصلية بها يتصف بالآدمية ويتميز عن سائر الحيوانات وما يحصل له بالحجر من نعمة اليد، وهي ملك المال نعمة زائدة لا يزول عنه بفواتها صفات الإنسانية بل غايته أن يفتقر ولا يجوز إبطال الأعلى لصون الأدنى "ولدلالة الإجماع على اعتبار إقراره بأسباب الحد فلو لزم شرعا الحجر عليه في أقواله المتلفة للمال للزم بطريق أولى في المتلفة لنفسه" فإن النفس أولى بالنظر من المال؛ لأن المال تابع لها وخلق لمصلحتها ووقاية لها وخصوصا الأسباب الموجبة للعقوبات من الحدود والقصاص تندرئ بالشبهات فحيث لم ينظر له في دفع ضرر النفس فأولى أن لا ينظر له في دفع ضرر المال "ومع هذا الأحب" إلى(24/48)
ص -260-…المصنف رحمه الله تعالى "قولهما" وبه قالت الأئمة الثلاثة "لأن النص" السابق ناص "على منع المال منه كي لا يتلفه قطعا وإذا لم يحجر" عليه "أتلفه بقوله فلا يفيد" منع المال منه وأيضا "دفعا" وكان الأولى ودفعا "للضرر العام؛ لأنه قد يلبس" على المسلمين أنه غني بالتزيي بزي الأغنياء "فيقرضه المسلمون أموالهم فيتلفها وغير ذلك" من الضرر العام بهم كما سلف. "وهو" أي دفع الضرر العام "واجب بإثبات" الضرر "الخاص فصار كالحجر على المكاري المفلس" وهو الذي يتقبل الكراء ويؤجر الدواب وليس له ظهر يحمل عليه ولا مال يشتري به الدواب "والطبيب الجاهل والمفتي الماجن" وهو الذي يعلم الناس الحيل كذا في طريقة علاء الدين العالم ولفظ خواهر زاده والمفتي الجاهل لعموم الضرر من الأول في الأموال ومن الثاني في الأبدان ومن الثالث في الأديان إلا أن في البدائع ليس المراد من الحجر على هؤلاء حقيقة الحجر الذي هو المعنى الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف ألا ترى أن المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب في الفتوى جاز ولو أجاب قبله وأخطأ لا يجوز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية بعد الحجز نفذ بيعه بل المراد به المنع الحسي بأن يمنعوا من عملهم حسا؛ لأن المنع من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "وإذا كان الحجر" على السفيه "للنظر له لزم أن يلحق في كل صورة بالأنظر ففي الاستيلاد يجعل كالمريض فيثبت نسب ولد أمته إذا ادعاه" حتى كان حرا وكانت أم ولده وإذا مات كانت حرة "ولا يسعى"؛ لأن توفير النظر بإلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد لحاجته إلى بقاء نسله وصيانة مائه فيلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته فإنه يكون فيه كالصحيح حتى تعتق من جميع ماله ولا تسعى ولا ولدها؛ لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه "وفي شراء ابنه" وهو معروف "كالمكره" أي بمنزلة شراء المكره فيفسد "فيثبت له" أي للسفيه الملك "بالقبض" ويعتق عليه حين قبضه "ولا يلزم"(24/49)
السفيه "الثمن أو القيمة في ماله جعلا له" أي للسفيه في هذا الحكم "كالصبي"؛ لأن توفير النظر في إلحاقه به لما فيه من دفع الضرر عنه. "وإذ لم يلزمه" أي السفيه الثمن أن القيمة وإن ملكه بالقبض؛ لأن التزامه أحدهما بالعقد غير صحيح لما ذكرنا بل يسعى الابن في قيمته "لم يسلم له" أي للسفيه أيضا "شيء من السعاية بل تكون" السعاية "كلها للبائع؛ لأن الغنم بالغرم كعكسه" أي كما أن الغرم بالغنم "والحجر للنظر عندهما أنواع" يكون "للسفيه بنفسه" أي بسبب نفس السفه سواء كان أصليا بأن بلغ سفيها أو عارضيا بأن حدث بعد البلوغ "بلا" توقف على "قضاء" عليه بالحجر "كالصبا والجنون عند محمد وبه" أي وبقضاء القاضي بحجره "عند أبي يوسف لتردده" أي السفه "بين النظر بإبقاء ملكه" أي السفيه "والضرر بإهدار عبارته" فلا يترجح أحدهما إلا بالقضاء على أن الغبن في التصرفات الذي هو علامة السفه قد لا يكون للسفه بل حيلة لاستجلاب قلوب المعاملين له فكان محتملا فلا يثبت إلا بالقضاء بخلاف الصبا والجنون والعته "و" يكون "للدين" على المحجور عليه "خوف التلجئة" أي المواضعة لماله "بيعا وإقرارا" في أصل التصرف أو في قدر البدل أو في جنسه على ما سبق في باب الهزل إلا أنها لا تكون إلا سابقة والهزل قد يكون مقارنا فهي أخص "فبالقضاء" أي(24/50)
ص -261-…يتوقف الحجر عليه على قضاء القاضي به "اتفاقا بينهما" أي أبي يوسف ومحمد "لأنه" أي الحجر عليه "نظر للغرماء فتوقف على طلبهم" ويتم بالقضاء بخلاف الحجر على السفيه عند محمد فإنه للنظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بلا طلب "فلا يتصرف" المديون "في ماله إلا معهم" أي الغرماء "فيما في يده وقت الحجر" من المال؛ لأن الحجر عليه فيه رعاية لحقهم "أما فيما كسبه بعده" أي الحجر من المال "فعموم" أي فينفذ فيه تصرفه مع كل أحد لعدم لحوق الحجر له فيه لعدم تعلق حق الغرماء به "و" يكون "لامتناع المديون عن صرف ماله إلى دينه" المستغرق له "فيبيعه القاضي ولو" كان ماله "عقارا كبيعه" أي القاضي "عبد الذمي إذا أبى" الذمي "بيعه" أي عبده "بعد إسلامه" أي عبده بناء على أن الأصل أن من امتنع من إيفاء حق مستحق عليه وهو مما يجري فيه النيابة ناب القاضي منابه فيه خلافا لأبي حنيفة والفتوى على قولهما في هذا كما في الاختيار "ومنها" أي المكتسبة من نفسه "السفر" وهو لغة قطع المسافة وشرعا في الروايات الظاهرة عن أصحابنا خروج عن محل الإقامة بقصد مسيرة ثلاثة أيام بسير وسط من ذلك المحل وهو "لا ينافي أهلية الأحكام" وجوبا وأداء من العبادات وغيرها لبقاء القدرة الباطنة والظاهرة "بل جعل سببا للتخفيف"؛ لأنه مظنة المشقة "فشرعت رباعيته" من المكتوبات "ركعتين ابتداء" كما تقدم وجهه في الرخصة "ولما كان" السفر "اختياريا دون المرض" وهو من أسباب التخفيف "فارقه" أي السفر المرض في بعض الأحكام "فالمرخص إذا كان" أي وجد "أول اليوم" من أيام رمضان "فترك" من وجد في حقه المرخص "الصوم" ذلك اليوم "فله" الترك "أو صام" صح صيامه، فإن أراد الفطر بعد الشروع فيه "فإن كان" المرخص "المرض حل الفطر أو" كان المرخص "السفر فلا" يحل له الفطر؛ لأن الضرر في المرض مما لا مدفع له فربما يتوهم قبل الشروع أنه لا يلحقه الضرر وبعد الشروع علم لحوق الضرر من حيث(24/51)
لا مدفع له بخلاف المسافر فإنه يتمكن من دفع الضرر الداعي إلى الإفطار بأن لا يسافر "إلا أنه لا كفارة" عليه "لو أفطر" لتمكن الشبهة في وجوبها باقتران صورة السفر بالفطر "وإن وجد" المرخص "في أثنائه" أي اليوم "وقد شرع" في صومه إذ لا بد له منه لعدم المرخص له حينئذ "فإن طرأ العذر ثم الفطر ففي المرض حل الفطر لا" في "السفر"؛ لأن بعروض المرض تبين أن الصوم لم يكن واجبا عليه في هذا اليوم بخلاف عروض السفر فإنه أمر اختياري والمرض ضروري ولكن لا تجب الكفارة لما ذكرنا "وفي قلبه" أي فطره قبل العذر ثم عروض العذر "لا يحل" الإفطار لعدم العذر عنده "لكن لا كفارة إذا كان الطارئ المرض؛ لأنه سماوي تبين به عدم الوجوب. وتجب" الكفارة "في السفر؛ لأنه باختياره وتقررت" الكفارة "قبله" أي قبل السفر بإفطار صوم واجب من غير اقتران شبهة حتى لو كان السفر خارجا عن اختياره بأن أكرهه السلطان على السفر فيه سقطت عنه أيضا في رواية الحسن عن أبي حنيفة كذا في الخانية.
"ويختص ثبوت رخصه" أي السفر من قصر الرباعية وفطر رمضان وغيرهما "بالشروع فيه" أي في السفر "قبل تحققه" أي السفر "لأنه" أي تحققه "بامتداده" أي السفر "ثلاثة" من(24/52)
ص -262-…الأيام بلياليها وإن كان القياس أن لا يثبت إلا بعد مضيها؛ لأن حكم العلة لا يثبت قبلها ففي الصحيحين عن أنس صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين. إلى غير ذلك "غير أنه" أي المسافر "لو أقام" أي نوى الإقامة "قبلها" أي قبل ثلاثة أيام "صح" مقامه "ولزمت أحكام الإقامة ولو" كان "في المفازة؛ لأنه" أي مقامه "دفع له" أي للسفر قبل تحققه فتعود الإقامة الأولى "وبعدها" أي بعد ثلاثة أيام "لا" يصح مقامه "إلا فيما يصح فيه" المقام من مصر أو قرية "لأنه" أي المقام حينئذ "رفع بعد تحققه" أي السفر فكانت نية الإقامة ابتداء إيجاب فلا تصح في غير محله لاستحالة إيجاب الشيء في غير محله والمفازة ليست بمحل لإثبات الإقامة ابتداء فلا يصح منه الإقامة فيها ومن هذا يظهر أن الدفع أسهل من الرفع.(24/53)
"ولا يمنع سفر المعصية" من قطع طريق أو غيره "الرخصة" عند أصحابنا. وقال الأئمة الثلاثة يمنع لوجهين أحدهما أن الرخصة نعمة فلا تنال بالمعصية فيجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل لكونه معصية ثانيهما قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي خارج على الإمام ولا عاد أي ظالم للمسلمين بقطع الطريق فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل ولأصحابنا إطلاق نصوص الرخص كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وما في صحيح مسلم عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. وما أخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت في المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر وللمقيم يوما وليلة. ولا نسلم أن فيه جعل المعصية سببا للرخصة "لأنها" أي المعصية "ليست إياه" أي السفر بل هو منفصل عنها من كل وجه توجد بدونه ويوجد بدونها والسبب هو السفر نعم هي مجاورة له وذلك غير مانع من اعتباره شرعا كالصلاة في الأرض المغصوبة به والمسح على خف مغصوب "بخلاف السبب المعصية كالسكر بشرب المسكر" حيث لا مبيح له شرعا فإنه حدث عن معصية فلا تناط به الرخصة؛ لأن سببها لا بد أن يكون مباحا والفرض انتفاء الإباحة الشرعية فيه فانتفى الوجه الأول "وقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] أي في الأكل"؛ لأن الإثم وعدمه لا يتعلق بنفس الاضطرار بل بالأكل فحينئذ لا بد في الآية من تقدير فعله عاملا في الحال أي فمن اضطر فأكل حال كونه غير باغ ولا عاد فيكون البغي والعداء(24/54)
في الأكل الذي سيقت الآية لبيان حرمته وحله أي غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة على أن عاد مكرر للتأكيد أو غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا مجاوز قدر ما يسد الرمق ويدفع الهلاك أو غير متلذذ ولا متردد أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ولا مجاوز سد الجوعة.(24/55)
ص -263-…"وقياس السفر" في كونه مرخصا "عليه" أي أكل الميتة المنوط بالاضطرار في اشتراط نفي عصيان المسافر كما في الأكل على سبيل التنزل "يعارض إطلاق نص إناطته" أي ثبوت الرخص "به" أي بالسفر من غير تقييد بذلك كما أسلفنا بعضه "ويمنع تخصيصه" أي نصه "ابتداء به" أي بالقياس كما تقدم في أواخر الكلام في التخصيص "ولأنه" أي الترخص للمضطر "لم ينط بالسفر" إجماعا بل يباح للمقيم المضطر العاصي "فيأكل مقيما عاصيا" فانتفى الوجه الثاني، والله سبحانه أعلم.(24/56)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "الخطأ أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية كالمضمضة تسري إلى الحلق والرمي إلى صيد فأصاب آدميا" فإن القصد بإدخال الماء الفم ليس إلى ولوجه الحلق وبالرمي ليس إلى الآدمي "والمؤاخذة به" أي بالخطأ "جائزة" عقلا عند أهل السنة "خلافا للمعتزلة؛ لأنها" أي المؤاخذة "بالجناية"، وهي لا تتحقق بدون القصد "قلنا هي" أي الجناية "عدم التثبت" والاحتياط والذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ فتعاطي الذنوب يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عزيمة "ولذا" أي جوازها به عقلا "سئل" الباري تعالى "عدم المؤاخذة به" ففي الكتاب العزيز {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وإلا لم يكن للدعاء فائدة بل كانت المؤاخذة جورا وصار الدعاء في التقدير ربنا لا تجر علينا بالمؤاخذة وهو باطل. لكنها سقطت ببركة النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا" قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال قد فعلت. رواه مسلم ووهم الحاكم فقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "وعنه" أي كون الخطأ جناية "كان من" العوارض "المكتسبة" من نفسه "غير أنه تعالى جعله" أي الخطأ "عذرا في إسقاط حقه" تعالى "إذا اجتهد" المجتهد المخطئ في ذلك ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد" "و" جعله "شبهة" دارئة "في العقوبات فلا يؤاخذ بحد" فيما(24/57)
لو زفت إليه غير امرأته فوطئها على ظن أنها امرأته "ولا قصاص" فيما لو رمى إلى إنسان على ظن أنه صيد فقتله "دون حقوق العباد فوجب ضمان المتلفات خطأ" كما لو رمى إلى شاة إنسان على ظن أنها صيد أو أكل ماله على ظن أنه ملك نفسه؛ لأنه ضمان مال لا جزاء فعل فيعتمد عصمة المحل وكونه خاطئا لا ينافيها "وصلح سببا للتخفيف في القتل فوجبت الدية" على العاقلة في ثلاث سنين "ولكونه" أي الخطأ لا ينفك "عن تقصير" في التثبيت "وجب به ما تردد بين العبادة والعقوبة من الكفارة" في القتل الخطأ؛ لأنها جزاء قاصر وهو صالح لتردده بين الحظر والإباحة إذ أصل الفعل وهو الرمي إلى الصيد مباح وترك التثبيت فيه محظور فكان قاصرا في معنى الجناية كما كانت قاصرة في معنى الجزاء "ويقع طلاقه" بأن أراد أن يقول مثلا اسقيني فجرى على لسانه أنت(24/58)
ص -264-…طالق "خلافا للشافعي" فإنه قال لا يقع؛ لأن الاعتبار بالكلام إنما هو بالقصد الصحيح وهو لا يوجد في المخطئ كالنائم. وإنما قال أصحابنا يقع "لأن الغفلة عن معنى اللفظ خفي" وفي الوقوف على قصده حرج؛ لأنه أمر باطن وله سبب ظاهر وهو العقل والبلوغ "فأقيم تمييز البلوغ" عن عقل "مقامه" أي مقام قصده نفيا للحرج كما في السفر مع المشقة "بخلاف النوم؛ لأنه" أي عدم القصد فيه "ظاهر" للعلم يقينا بأن النوم ينافي أصل العمل بالعقل؛ لأنه مانع عن استعمال نوره فكانت أهلية القصد معدومة بيقين من غير حرج في دركه "فأقيم" تمييز البلوغ عن عقل "مقامه" أي القصد لانتفاء الشرط "ففارق عبارة النائم عبارة المخطئ وذكرنا في فتح القدير أن الوقوع" لطلاق المخطئ إنما هو "في الحكم وقد يكون" التعليل المذكور لهم في وقوع الطلاق مطلقا هو "مقتضى هذا الوجه" وهو وقوع الطلاق في الحكم "أما فيما بينه وبين الله تعالى فهي امرأته" ولا بأس بذكر ما في فتح القدير إسعافا ففيه بعد ذكر ما في الخلاصة وطلاق الرجل الذي أراد أن يتكلم فسبق لسانه بالطلاق واقع وفي النسفي قال أبو حنيفة لا يجوز الغلط في الطلاق وهو ما إذا أراد أن يقول اسق فسبق لسانه بالطلاق ولو كان بالعتاق يدين وقال أبو يوسف لا يجوز الغلط فيهما والذي يظهر من الشرع أن لا يقع بلا قصد لفظ الطلاق عند الله وقوله فيمن سبق لسانه واقع أي في القضاء وقد يشير إليه قوله ولو كان بالعتاق يدين بخلاف الهازل؛ لأنه مكابر باللفظ فيستحق التغليظ. ثم قال والحاصل أنه إذا قصد السبب عالما بأنه سبب رتب الشرع حكمه عليه أراده أو لم يرده إلا إن أراد ما يحتمله وأما أنه لم يقصده أو لم يدر ما هو فيثبت الحكم عليه شرعا وهو غير راض بحكم اللفظ ولا باللفظ فمما ينبو عنه قواعد الشرع وقد قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وفسر بأمرين أن يحلف على أمر يظنه كما قال مع أنه(24/59)
قاصد للسبب عالم بحكمه فألغاه لغلطه في ظن المحلوف عليه والآخر أن يجري على لسانه بلا قصد إلى اليمين كلا والله بلى والله، فرفع حكمه الدنيوي من الكفارة لعدم قصده إليه فهذا تشريع لعباده أن لا يرتبوا الأحكام على الأشياء التي لم تقصد وكيف ولا فرق بينه وبين النائم عند العليم الخبير من حيث لا قصد له إلى اللفظ ولا حكمه وإنما لا يصدقه غير العليم الخبير وهو القاضي وفي الحاوي معزوا للجامع الأصغر أن أسدا سئل عمن أراد أن يقول زينب طالق فجرى على لسانه عمرة على أيهما يقع الطلاق. فقال في القضاء تطلق التي سمى وفيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق واحدة منهما أما التي سمى فلأنه لم يردها وأما غيرها فلأنها لو طلقت طلقت بالنية، والله سبحانه أعلم.
"وكذا قالوا ينعقد بيعه" أي المخطئ بأن أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا منك بألف وقبل الآخر وصدقه في أن البيع خطأ منه إذ لا يمكن إثباته إلا بهذا الطريق بيعا "فاسدا ولا رواية فيه" عن أصحابنا ولكن يجب هذا "للاختيار في أصله" أي؛ لأن هذا الكلام صدر عنه باختياره أو لإقامة البلوغ عن عقل مقام القصد "وعدم الرضا" فينعقد للاختيار في أصله فيفسد لعدم الرضا حقيقة كبيع المكره فيملك البدل بالقبض واعترضه(24/60)
ص -265-…المصنف بأنه ينبغي أن لا يكون كالمكره بل كالهازل بل فوقه فقال "والوجه أنه" أي المخطئ "فوق الهازل إذ لا قصد" للمخطئ "في خصوص اللفظ ولا حكمه" فإنه غير مختار ولا راض بالتكلم بخصوص اللفظ ولا بحكمه بخلاف الهازل فإنه مختار راض بخصوص اللفظ غير راض بحكمه فأقل الأمر أن يجعل كالهازل فلا يملك المبيع بالقبض كالهازل، والله تعالى أعلم. "وأما ما" هو مكتسب "من غيره فالإكراه حمل الغير على ما لا يرضاه" من قول أو فعل ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه "وهو ملجئ"1 بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة المكره عليه "بما يفوت النفس أو العضو" ولو أنملة؛ لأن حرمته كحرمة النفس "بغلبة ظنه وإلا" إذا لم يغلب على ظنه تفويت أحدهما بل إن ذلك تهديد وتخويف لا تحقيق "لا" يكون إكراها أصلا "فيفسد الاختيار" بأن يجعله مستندا إلى اختيار آخر لا أنه يعدمه أصلا إذ حقيقته القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر، فإن استقل الفاعل في قصده فصحيح وإلا ففاسد "ويعدم الرضا وغيره" أي وغير ملجئ لكون الحمل على المكره عليه "بضرب لا يفضي إلى تلف عضو وحبس فإنما يعدم الرضا" خاصة "لتمكنه" أي المكره "من الصبر" على المكره به "فلا يفسده" أي هذا الاختيار الإكراه "وأما" تهديده "بحبس نحو ابنه" وأبيه وأمه وزوجته وكل ذي رحم محرم منه كأخته وأخيه؛ لأن القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد "فقياس واستحسان في أنه إكراه" القياس أنه ليس بإكراه؛ لأنه لا يلحقه ضرر بذلك والاستحسان أنه إكراه؛ لأن بحبسهم يلحق به من الحزن والهم ما يلحق بحبس نفسه أو أكثر فكما أن التهديد في حقه بذلك يعدم تمام الرضا فكذا التهديد بحبس أحدهم. قال المصنف والتعليل يقتضي أن في قطع يد نحو ابنه أو قتله في كونه إكراها قياس واستحسان "وهو" أي الإكراه "مطلقا" أي ملجئا كان أو غير ملجئ "لا ينافي أهلية الوجوب" على المكره "للذمة" أي لقيام الذمة "والعقل" والبلوغ(24/61)
"ولأن ما أكره عليه قد يفترض" فعله "كالإكراه بالقتل على الشرب" للمسكر ولو خمرا "فيأثم بتركه" أي ترك شربه عالما بسقوط حرمته كما سيأتي لإباحته في حقه بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] والإقدام على المباح عند الإكراه فرض "ويحرم كعلى قتل مسلم ظلما فيؤجر على الترك كعلى إجراء كلمة الكفر" على لسانه لما ستعلم "بخلاف المباح كالإفطار للمسافر" في رمضان فإنه لا يؤجر على الترك بل يأثم لصيرورته فرضا بالإكراه كما تقدم ولو قال سالفا كالإكراه بالقتل على الشرب والإفطار لكان أولى واستغنى عن هذا.
والحاصل أن ما أكره عليه فرض ومباح ورخصة وحرام ويؤجر على الترك في الحرام والرخصة ويأثم في الفرض والمباح وكل من الأجر والإثم إنما يكون بعد تعلق الخطاب والمراد بالإباحة جواز الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لم يأثم، ولم يؤجر وبالرخصة جواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله وهو أي المكره بكسر الراء ملجئ للمكره بفتحها. أفاده صاحب التيسير. كتبه مصححه.(24/62)
ص -266-…الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل يؤجر عملا بالعزيمة وبهذا سقط الاعتراض بأنه إن أريد بالإباحة أنه يجوز له الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لا يأثم فهي معنى الرخصة وإن أريد أنه لو تركه يأثم فهو معنى الفرض.
"ولا ينافي الاختيار"؛ لأنه حمل للفاعل على أن يختار ما لا يرضاه كما تقدم "بل الفعل عنه" أي الإكراه "اختيار أخف المكروهين" عند الفاعل من المكره به والمكره عليه "ثم أصل الشافعي" أي الأمر الكلي الذي بنى الشافعي عليه الأحكام في باب الإكراه "أنه" أي الإكراه ما كان منه "بغير حق إن كان عذرا شرعا بأن يجعل الشارع" والأحسن بأن يحل "للفاعل الإقدام" على الفعل كما قال في قسيمه الآتي بأن لا يحل "قطع" الإكراه "الحكم" أي حكم المكره عليه "عن فعل الفاعل" سواء أكره على "قول أو عمل؛ لأن صحة القول" يكون "بقصد المعنى و" صحة "العمل باختياره" ليكون ترجمة عما في الضمير ودليلا عليه "وهو" أي الإكراه "يفسدهما" أي القصد والاختيار؛ لأنه يدل على أن المكره إنما تكلم لدفع الضرر عن نفسه لا لنيل ما هو المقصود في قلبه فلا يكون معتبرا "وأيضا نسبة الفعل إليه" أي الفاعل "بلا رضاه إلحاق الضرر به" وهو غير جائز؛ لأنه معصوم محترم الحقوق "وعصمته" أي الفاعل "تدفعه" أي الضرر عنه بدون رضاه لئلا يفوت حقه بلا اختياره ثم إذا قطع الحكم عن الفاعل بقول "إن أمكن نسبته" أي الفعل "إلى الحامل" وهو المكره بإمكان أن يباشره الحامل بنفسه وذلك في الأفعال. "كعلى إتلاف المال نسب" الفعل "إليه" أي الحامل ويكون هو المؤاخذ به ويجعل الفاعل آلة للحامل "وإلا" لو لم يمكن نسبته إلى الحامل "بطل" بالكلية، ولم يؤاخذ به أحد "كعلى الأقوال إقرار وبيع وغيرهما" كما سيتضح قريبا إن شاء الله تعالى "وإن لم يكن" الإكراه "عذرا بأن لا يحل" للفاعل الإقدام على الفعل "كعلى القتل والزنا لا يقطعه" أي الحكم "عنه" أي الفاعل "فيقتص منه المكره" الذي هو القاتل بالقتل(24/63)
"ويحد" المكره الذي هو الزاني بالزنا، فإن قيل يشكل هذا بالاقتصاص من الحامل أيضا أجيب لا "وإنما يقتص من الحامل أيضا عنده بالتسبيب" في قتله بإكراهه أو هو كالمباشرة في إيجاب القصاص إذا تعين للقتل؛ لأن المقصود من شرعه الإحياء بسد باب القتل عدوانا والقتل بالإكراه شائع من أهل الجور فلو لم يجب القصاص على الملجئ لانفتح باب القتل "وما" كان من الإكراه "بحق لا يقطع" نفس الفعل عن الفاعل "فصح إسلام الحربي وبيع المديون القادر" على وفاء دينه "ماله للإيفاء وطلاق المولي" على صيغة اسم الفاعل من زوجته من الإيلاء "بعد المدة مكرهين" أي حال كون هؤلاء الذين هم الحربي والمديون والمولي مكرهين على الإسلام والبيع والطلاق وبعد مضي مدة الإيلاء؛ لأن إكراه الحربي على الإسلام جائز فعد اختياره قائما في حقه إعلاء للإسلام كما عد قائما في حق السكران زجرا له. "بخلاف إسلام الذمي" بالإكراه فإنه لا يصح عنده؛ لأن إكراهه عليه غير جائز؛ لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون فلا يمكن جعل اختياره قائما فلا يعتد به ولصحة إكراه كل من المديون والمولى على الإيفاء والطلاق بعد المدة لكونه ظالما بالامتناع عن القيام بما هو حق عليه وقيد بقوله بعد المدة؛ لأن إكراهه(24/64)
ص -267-…على الطلاق قبل مضيها باطل فلا يقع الطلاق "والإكراه بحبس مخلد وضرب مبرح" أي شديد "وقتل سواء عنده" أي الشافعي؛ لأن في الحبس ضررا كالقتل والعصمة تقتضي دفع الضرر "بخلاف نحو إتلاف المال وإذهاب الجاه" فإنه لا يكون إكراها "وأصل الحنفية" أي الأمر الكلي الذي يتفرع عليه الأحكام في باب الإكراه عند أبي حنيفة وأصحابه "أن المكره عليه إما قول لا ينفسخ" كالطلاق والعتاق "فينفذ كما" ينفذ "في الهزل" بل أولى؛ لأنه مناف للاختيار والإكراه مفسد له لا مناف "مع الاقتصار على المكره" أي الفاعل؛ لأنه لا يمكن أن يجعل آلة للحامل فيه "إلا ما أتلف" من المال على نفسه بإكراهه "كالعتق فيجعل" الفاعل "آلة" للحامل في إتلاف مالية العتيق؛ لأن الإتلاف يحتمل ذلك "فيضمن" الحامل للفاعل قيمة العبد موسرا كان أو معسرا؛ لأن هذا ضمان إتلاف فلا يختلف باليسار والإعسار ويثبت الولاء للفاعل؛ لأنه بالإعتاق وهو مقتصر على الفاعل. ولا يمتنع ثبوت الولاء لغير من وجب عليه الضمان كما في الرجوع عن الشهادة على العتق فإنه يجب الضمان على الشهود والولاء للمشهود عليه؛ لأن الولاء كالنسب ولا سعاية على العبد لأحد؛ لأن العتق نفذ فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله "بخلاف ما لم يتلف كعلى قبولها المال في الخلع" أي كإكراه الزوجة المدخول بها على أن تقبل من زوجها الخلع على مال "إذ يقع" الطلاق إذا قبلت "ولا يلزمها" المال؛ لأن الإكراه قاصرا كان أو كاملا يعدم الرضا بالسبب والحكم جميعا والطلاق غير مفتقر إلى الرضا والتزام المال مفتقر إليه وقد انعدم "بخلافه" أي الإكراه "في الزوج" على أن يخلعها على مال فقبلت غير مكرهة فإنه "يقع الخلع"؛ لأنه من جانبه طلاق والإكراه لا يمنع وقوعه "ويلزمها" المال؛ لأنها التزمته طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة "وإلا" أي وإن لم يكن قولا لا ينفسخ بل كان قولا ينفسخ "فسد كالبيع" والإجارة؛ لأنه لا يمنع انعقاده لصدوره من(24/65)
أهله في محله ويمنع نفاذه؛ لأن الرضا شرط النفاذ وقد فات به فانعقد فاسدا حتى لو أجازه بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح لزوال المفسد وهو عدم الرضا كما في البيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد فإنه إذا أسقط من له الخيار أو الأجل ما شرط له قبل تقرره جاز لزوال المفسد فكذا هذا. "والأقارير" بما يحتمل الفسخ وما لا يحتمله من الماليات وغيرها؛ لأن صحتها تعتمد على قيام المخبر به ويتوقف على ثبوته سابقا على الإقرار والإقرار في ذاته خبر محتمل للصدق والكذب فإذا لم يكن فيه تهمة ولا دليل على كذبه ترجح صدقه بوجود المخبر به فيحكم به وإذا كان بخلافه لم يترجح فلم يعتبر وفي الإقرار مكرها قامت قرينة عدم صدقه وعدم وجود المخبر به؛ لأن قيام السيف على رأسه وخوفه على تلف نفسه دليل على أنه إنما تكلم لدفع الضرر عن نفسه لا لوجود المخبر به، فإن قيل الإكراه يعارضه أن الصدق هو الأصل في المؤمن ووجود المخبر به هو المفهوم من الكلام فلا يقوم دليلا على عدم المخبر به أجيب بأن المعارضة إنما تنفي المدلول لا الدليل وغاية ما في الباب أنه لا يبقى رجحان لجانب الصدق أو الكذب فلا تثبت الحقوق بالشك "مع اقتصارها" أي الأقارير "عليه" أي المقر لعدم صلاحيته لكونه آلة للمكره "أو فعل لا يحتمل كون الفاعل آلة" للحامل عليه(24/66)
ص -268-…"كالزنا وأكل رمضان وشرب الخمر" إذ لا يتصور كون الشخص واطئا بآلة غيره أو آكلا أو شاربا بفم غيره وما كان كذلك "اقتصر" حكمه "عليه" أي الفاعل "ولزمه حكمه" حتى لو أكره صائم صائما على الأكل فسد صوم الآكل لا غير "إلا الحد" فإنه لا يجب على الفاعل أيضا حتى لو أكرهه على الزنا لا يجب به الحد على واحد منهما ثم هذا من حيث امتناع نسبة نفس الأكل والشرب إلى الحامل متفق عليه في الروايات عن أصحابنا "وأما من حيث هما" أي الأكل والشرب "إتلاف فاختلفت الروايات في لزومه الفاعل أو الحامل" ففي شرح الطحاوي والخلاصة وغيرهما أكره على مال الغير فالضمان على المحمول لا الحامل وإن صلح آلة له من حيث الإتلاف كما في الإكراه على الإعتاق؛ لأن منفعة الأكل حصلت للمحمول فكان كالإكراه على الزنا يجب العقر عليه؛ لأن منفعة الوطء حصلت له بخلاف الإكراه على الإعتاق حيث وجب الضمان على الحامل؛ لأن المالية تلفت بلا منفعة للمحمول. وفي المحيط أكره على أكل طعام غيره يجب الضمان على الحامل وإن كان المحمول جائعا وحصلت له منفعته لأن المحمول أكل طعام الحامل بإذنه؛ لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض إذ لا يمكنه الأكل بدونه غالبا فصار قبضه منقولا إلى الحامل فكأنه قبضه بنفسه فصار غاصبا ثم مالكا للطعام بالضمان ثم آذنا له بالأكل "إلا مال الفاعل" أي إلا إذا أكره الفاعل على أكل مال نفسه فأكله حال كونه "جائعا فلا رجوع" له على الحامل؛ لأن المنفعة حصلت له، ولم يصر آكلا طعام الحامل بإذنه إذ لا يمكن جعله غاصبا قبل الأكل لعدم إزالة يد المالك ما دام الطعام في يده أو في فيه فصار آكلا طعام نفسه "أو شبعان فعلى الحامل قيمته لعدم انتفاعه" أي الفاعل "به" ذكره في المحيط أيضا "والعقر على الفاعل بلا رجوع" على الحامل كما ذكرنا "أما لو أتلفها" أي الموطوءة بالوطء "ينبغي الضمان على الحامل، وكذا" اقتصر حكم الفعل المكره عليه على الفاعل "إن احتمل"(24/67)
كون الفاعل آلة للحامل فيه "ولزم آليته" أي الفاعل للحامل لازم هو "تبدل محل الجناية المستلزمة لمخالفة المكره المستلزمة بطلان الإكراه"؛ لأنه عبارة عن حمل الغير على ما يريده الحامل ويرضاه على خلاف رضا الفاعل وهو فعل معين فإذا فعل غيره كان طائعا بالضرورة لا مكرها "كإكراه المحرم" محرما آخر "على قتل الصيد؛ لأنه" أي الحامل إنما أكرهه "على الجناية على إحرام نفسه فلو جعل" الفاعل "آلة" للحامل "صار" قتل الصيد جناية "على إحرام الحامل" فلم يكن آتيا بما أكرهه عليه فلا يتحقق الإكراه، فإن قيل الاقتصار على الفاعل ينبغي أن يكون في حق الإثم فقط إذ الجزاء يجب في هذه الصورة على كل من الفاعل والحامل أجيب بأن الفعل هنا قتل الصيد باليد والجزاء المترتب على ذلك مقتصر على الفاعل "ولزوم الجزاء عليه" أي الحامل "معه" أي الفاعل. "لأنه" أي إكراه الحامل للفاعل على قتل الصيد "يفوق الدلالة" أي دلالته على من يقتل الصيد1 وفيها يجب الجزاء ففيه أولى فالجزاء وجب على كل منهما؛ لأنه جان على إحرام نفسه والقتل باليد لم يتجاوز الفاعل في حق ما وجب به الجزاء "و" كالإكراه
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله أي دلالته على من يقتل الصيد كذا في النسخ وفي التركيب ركاكة. فليتأمل كتبه مصححه.(24/68)
ص -269-…للغير "على البيع والتسليم" لملكه "اقتصر التسليم على الفاعل وإلا" لو لم يقتصر عليه ونسب إلى الحامل وجعل الفاعل آلة "تبدل محل التسليم عن البيعية إلى المغصوبية"؛ لأن التسليم من جهة الحامل يكون تصرفا في ملك الغير على سبيل الاستيلاء فيصير البيع والتسليم غصبا "بخلاف نسبته" أي التسليم "إلى البائع فإنه متمم للعقد فيملكه" أي المشتري المبيع "ملكا فاسدا" لانعقاد البيع وعدم نفاذه فلا يلزم ذلك فلم يستلزم تبديل محل الجناية تبديل ذات الفعل في الأول واستلزم تبديله تبديل ذات الفعل في الثاني "وإن" احتمل كون الفاعل آلة للحامل في الفعل المكره عليه "لم تلزم" آليته تبدل محل الجناية "كعلى إتلاف المال والنفس ففي الملجئ نسب" الفعل "إلى الحامل ابتداء" لا نقلا من الفاعل إليه كما ذهب إليه بعض المشايخ. "فلزمه" أي الحامل "ضمان المال" في إكراهه الغير على إتلاف المال والقصاص في إكراهه الغير على القتل العمد العدوان كما هو قول أبي حنيفة ومحمد وقال زفر القصاص على الفاعل؛ لأنه قتله لإحياء نفسه عمدا وقال أبو يوسف لا قصاص على أحد بل الواجب الدية على الحامل في ماله في ثلاث سنين؛ لأن القصاص إنما هو بمباشرة جناية تامة وعدمت في حق كل من الفاعل والحامل لبقاء الإثم في الآخرة ولهما أن الإنسان مجبول على حب الحياة فيقدم على ما يتوصل به إلى إبقاء الحياة بقضية الطبع بمنزلة آلة لا اختيار لها كالسيف في يد القاتل فيضاف الفعل إلى الحامل "و" يلزمه "الكفارة والدية في إكراهه" غيره "على رمي صيد فأصاب إنسانا على عاقلة الحامل" وإنما كان الفاعل آلة للحامل في هذه "لأنه عارض اختياره" أي الفاعل "اختيار صحيح" وهو اختيار الحامل فوجب ترجيحه بإضافة الحكم إليه فصار المرجوح في مقابلته كالعدم والتحق بالآلة التي لا اختيار لها فلم يلزمه شيء؛ لأن الحكم يلزم الفاعل لا الآلة "وكذا حرمان الإرث" ينسب إلى الحامل؛ لأن الفاعل مما يصلح كونه آلة(24/69)
فيه للحامل باعتبار تفويت المحل "أما الإثم" فالفاعل لا يصلح آلته؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يجني على دين غيره ويكتسب الإثم لغيره؛ لأنه قصد القلب ولا يتصور القصد بقلب الغير كما لا يتصور التكلم بلسان الغير ولو فرضناه آلة يلزم تبدل محل الجناية إذ الجناية حينئذ تكون على دين الحامل وهو لم يأمر الفاعل بذلك فينتفي الإكراه وإذا لم يمكن جعله آلة "فعليها" أي الجاعل والفاعل الإثم الحامل "لحمله" الفاعل على القتل فقد قصد به قتل نفس محرمة "وإيثار الآخر" وهو الفاعل "حياته" على من هو مثله في الحرية وتحقيقه موته بما في وسعه من الجرح الصالح لزهوق الروح طاعة للمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه تعالى نهاه عن الإقدام عليه هذا "في العمد وفي الخطأ لعدم تثبتهما" أي الحامل والفاعل. "وفي غيره" أي غير الإكراه الملجئ "اقتصر" حكم الفعل "على الفاعل"؛ لأن إسناد الفعل إلى الحامل إنما كان لفساد اختيار الفاعل وذلك لا يتحقق إلا بالملجئ "فيضمن" ما أتلفه من مال غيره "ويقتص" منه بقتل غيره عمدا عدوانا "وكل الأقوال لا تحتمل آلية قائلها" للحامل عليها "لعدم قدرة الحامل على تطليق زوجة غيره وإعتاق عبده" أي غيره قالوا لامتناع التكلم بلسان غيره وأما ما يقال من أن كلام الرسول كلام المرسل فمجاز إذ العبرة بالتبليغ وهو قد يكون مشافهة وقد يكون بواسطة وفي الطريقة البرغوية لا نظر إلى التكلم بلسان الغير؛(24/70)
ص -270-…لأنه ممتنع غير متصور وإنما النظر إلى المقصود من الكلام وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل غيره آلة له ومتى لم يكن في وسعه ذلك لم يجعل غيره آلته فالرجل قادر على تطليق امرأته وإعتاق عبده فإذا وكل غيره يجعل فاعلا تقديرا واعتبارا بخلاف الحامل فإنه لا يقدر بنفسه على تطليق امرأة الغير وإعتاق عبد الغير فلا يصلح أن يجعل الفاعل آلته "بخلاف الأفعال" فإن منها ما لا يحتمل ومنها ما يحتمل كما سلف.(24/71)
"هذا تقسيم المكره عليه باعتبار نسبته". أي المكره عليه "إلى الحامل والمحمول وأما" تقسيمه "باعتبار حل إقدام المكره" أي الفاعل "وعدمه" أي حل إقدامه "فالحرمات إما بحيث لا تسقط ولا يرخص فيها كالقتل وجرح الغير"؛ لأن ثبوت دليل الرخصة خوف تلف النفس أو العضو أو المكره والمكره عليه في استحقاق الصيانة عنهما سواء فلا يجوز للمكره أن يتلف نفس غيره وإن كان عبده لصيانة نفسه فصار الإكراه في حكم العدم في حق إباحة قتل المكره عليه لتعارض الحرمتين إذ الترخص لو ثبت بالإكراه لصيانة حرمة نفس المكره منع ثبوته وجوب صيانة حرمة نفس المكره عليه فلا يثبت للتعارض وحرمة طرف غيره مثل حرمة نفس ذلك الغير فلا يرخص بالجرح وإتلاف طرف غيره لحماية نفسه عند الإكراه. ألا ترى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله ما إذا أكره على قطع طرف نفسه بالقتل بأن قيل له لنقتلنك أو تقطع أنت يدك حل له قطع يده؛ لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده عند التعارض؛ لأن أطرافه وقاية نفسه كأمواله فجاز أن يختار أدنى الضررين لدفع الأعلى كما له أن يبذل ماله لصيانة نفسه ولأن في بذل طرفه صيانة نفسه إذ في فوات النفس فوات اليد ولا عكس، فإن قيل ينبغي أن يجوز له قطع طرف الغير إذا أكره عليه بالقتل صيانة لنفسه لإلحاق الطرف بالمال أجيب بأن إلحاقه في حق صاحبه فإن الناس يبذلون المال صيانة لنفس الغير لا الطرف ويبذل الإنسان كلا منهما لصيانة نفسه "وزنا الرجل؛ لأنه" أي زناه "قتل معنى" لولده إما لانقطاع نسبه عنه إذ من لا نسب له كالميت وإما؛ لأنه لا يجب نفقته عليه لعدم النسب ولا على المرأة لعجزها فيهلك فإن قيل يتم هذا في غير المزوجة أما فيها فلا لنسبته إلى صاحب الفراش ووجوب نفقته عليه أجيب بأن حكمة الحكم تراعى في الجنس لا في كل فرد على أن صاحب الفراش قد ينفيه عن نفسه لتهمة الزنا ويلاعن امرأته وينقطع نسبه منه فيكون هالكا وعلى هذا فيتلخص(24/72)
أن الزنا إهلاك في صورة مطلقا وفي أخرى قد وقد فكان معنى الإهلاك غالبا فاعتبر إهلاكا مطلقا اعتبارا للغالب ودفعا للمفسدة وأورد حصول الولد غير معلوم وعلى تقديره فالهلاك موهوم لقدرة الأم على كسب يناسبها وهلاك المكره متيقن فلا يعارضه. ودفع بأن الاعتبار في مثل هذه المواضع للأسباب الظاهرة لا المتحققة وكون كل من الوطء سببا للعلوق ومن كونها عاجزة عن الإنفاق ومن كونه هالكا عند عدم الإنفاق ظاهرة وبعضها أظهر من بعض فبني الحكم على هذه الظواهر على أن هلاك المكره غير متيقن لاحتمال أن يمتنع منه المكره إذ ليس كل ما يخوف به واقعا خصوصا لقتل الذي ينفر الطبع منه "فلا يحلها" أي الحرمات التي بحيث لا تسقط كقتل الغير وجرحه(24/73)
ص -271-…وزنا الرجل "الإكراه الملجئ أو" بحيث "تسقط كحرمة الميتة والخمر والخنزير فيبيحها" أي الإكراه الملجئ هذه الأشياء "للاستثناء" أي؛ لأنه تعالى استثنى عن تحريم الميتة ونحوها حالة الاضطرار بمعنى أن الحرمة لا تثبت فيها حالتئذ فتبقى الإباحة الأصلية ضرورة "والملجئ نوع من الاضطرار أو تثبت" الإباحة في الإكراه الملجئ "بدلالته" أي الاضطرار لما فيه من خوف فوات النفس أو العضو "إن اختص" الاضطرار "بالمخمصة فيأثم" المكره "لو أوقع" القتل أو قطع العضو "به لامتناعه" من تناول ذلك "إن" كان "عالما بسقوطها" أي الحرمة كما لو امتنع عن أكل لحم الشاة وشرب الماء في هذه الحالة وإن لم يعلم فيرجى أن لا يكون آثما؛ لأنه قصد إقامة الشرع في التحرز عن ارتكاب المحرم في زعمه؛ لأن دليل زوال الحرمة عند الضرورة خفي فعذر بالجهل كما في الخطاب قبل الشهرة كالصلاة في حق من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم بوجوبها ذكره في المبسوط. "ولا يبيحها" أي الحرمات التي بحيث تسقط كالميتة والخمر والخنزير الإكراه "غير الملجئ بل يورث" غير الملجئ "شبهة فلا حد بالشرب معه" استحسانا والقياس الحد؛ لأنه لا تأثير بالإكراه بالحبس ونحوه في الأفعال فوجوده كعدمه، ووجه الاستحسان أن الإكراه لو كان ملجئا أوجب الحل فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الجزء من الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عن الشريك بوطئها "أو" بحيث "لا تسقط" أي لا يحل متعلقها قط "لكن رخصت" مع بقاء الحرمة وحينئذ "فإما متعلقة بحقه تعالى الذي لا يحتمل السقوط" بحال "كحرمة التكلم بكفر"؛ لأن الكفر حرام صورة ومعنى حرمة مؤبدة وإجراء كلمة الكفر صورة كفر إذ الأحكام متعلقة بالظاهر فيكون حراما إلا أن الشارع رخص فيه بشرط اطمئنان القلب بالإيمان بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} [النحل: 106] "أو الذي يحتمله" أي السقوط "كترك الصلاة وأخواتها" من(24/74)
الصيام والزكاة والحج فإن حرمة تركها ممن هو أهل للوجوب مؤبدة لا تسقط بحال لكن هذه العبادات حق من حقوق الله تعالى محتمل للسقوط في الجملة بالأعذار "فيرخص" تركها "بالملجئ"؛ لأن حقه في نفسه يفوت أصلا وحق صاحب الشرع يفوت إلى خلف. "فلو صبر"، ولم يفعل ما أكره عليه حتى قتل "فهو شهيد"؛ لأن حقه تعالى لم يسقط بالإكراه وفيما فعل إظهار الصلابة في الدين وبذل نفسه في طاعة رب العالمين "ومنه" أي هذا القسم "زناها" أي إذا أكرهت على الزنا فتمكينها من الزنا حرام "لا تسقط حرمته التي هي حقه تعالى المحتمل للرخصة" لها مع بقاء الحرمة في الإكراه الملجئ. "لعدم القطع" لنسب ولدها من الزنا عنها بحال فلم يكن فيه معنى القتل الذي هو المانع من الترخص في جانب الرجل وأورد المرأة إن لم يكن لها زوج لم يتمكن من تربية الولد وإن كان فقد ينفيه فيفضي إلى الهلاك أيضا وأجيب بأن الهلاك يضاف إلى الرجل بإلقاء بذرة في غير ملكه لا إلى فعلها؛ لأنها محل والفعل يضاف إلى الفاعل دون المحل "بخلاف" الإكراه "غير الملجئ فيه" أي في زناها فإنه غير مرخص لها في ذلك "لكن لا تحد المرأة" بالتمكين فيه "ويحد هو" أي الرجل "معه" أي الإكراه غير الملجئ؛ لأن الملجئ ليس رخصة في حقه كما في حق المرأة حتى يكون غير(24/75)
ص -272-…الملجئ شبهة رخصة "لا مع الملجئ" استحسانا كما رجع إليه أبو حنيفة وقالا به. وإلا فالقياس أنه يحد مع الملجئ أيضا كما قال به أبو حنيفة أولا وزفر؛ لأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بانتشار آلته وهو دليل الطواعية؛ لأنه لا يحصل مع الخوف بخلاف المرأة فإن تمكينها يتحقق مع خوفها والصحيح الأول "لأنه" أي زناه مع الملجئ "مع قطع العضو" أو تلف العضو "لا للشهوة" ليزجر بالحد؛ لأنه كان منزجرا إلى أن تحقق الإكراه فكان شبهة في إسقاطه وانتشار الآلة لا يدل على الطواعية؛ لأنه قد يكون طبعا بالفحولية المركبة في الرجال ألا ترى أن النائم قد تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له ولا قصد فلا يدل على عدم الخوف "وإما" متعلقة "بحقوق العباد كحرمة إتلاف مال المسلم" فإتلاف مال المسلم حرام حرمة هي في حقوق العباد؛ لأن عصمة المال ووجوب عدم إتلافه حق للعبد والحرمة متعلقة بترك العصمة ثم حرمة مال المسلم "لا تسقط" بحال "لأنها" أي حرمة ماله "حقه" أي العبد وإتلاف ماله ظلم وحرمة الظلم مؤبدة لكنها حقه "المحتمل للرخصة بالملجئ" حتى لو أكرهه على إتلافه إكراها ملجئا رخص له فيه "لأن حرمة النفس فوق حرمة المال"؛ لأنه مهان مبتذل ربما يجعله صاحبه صيانة لنفس الغير أو طرفه "ولا تزول العصمة" للمال في حق صاحبه بالإكراه "لأنها" أي عصمته "لحاجة مالكه" إليه "ولا تزول" الحاجة "بإكراه الآخر" فيكون إتلافه وإن رخص فيه باقيا على الحرمة. "ولو صبر على القتل كان شهيدا"؛ لأنه بذل نفسه لدفع الظلم كما إذا امتنع عن ترك الفرائض حتى قتل إلا أنه لما لم يكن في معنى العبادات من كل وجه بناء على أن الامتناع عن الترك فيها من باب إعزاز الدين قيدوا الحكم بالاستثناء فقالوا كان شهيدا "إن شاء الله وبقي من المكتسبة الجهل نذكره في الاجتهاد إن شاء الله رب العالمين".(24/76)
ص -273-…الباب الثاني من المقالة الثانية في أحوال الموضوع في أدلة الأحكام الشرعية
"أدلة الأحكام" الشرعية "الكتاب والسنة والإجماع والقياس" بحكم الاستقراء وقد يوجه بأن الدليل الشرعي إما وحي أو غيره والوحي إما متلو فهو الكتاب أو غير متلو فهو السنة، وغير الوحي إما قول كل الأمة من عصر فهو الإجماع وإلا فالقياس أو أن الدليل إما واصل إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره والأول إما متلو وهو الكتاب أو غير متلو وهو السنة ويندرج فيها قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره والثاني إما واصل عن معصوم عن خطأ وهو الإجماع أو عن غير معصوم وهو القياس.
"ومنع الحصر بقول الصحابي على قول الحنفية وشرع من قبلنا والاحتياط والاستصحاب والتعامل مردود بردها" أي هذه الأربعة الأخيرة "إلى أحدها" أي الأربعة الأولى "معينا" كقول الصحابي فإنه مردود إلى السنة وشرع من قبلنا فإنه مردود إلى الكتاب إذا قصه الله تعالى من غير إنكار وإلى السنة إذا قصه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك والتعامل فإنه مردود إلى الإجماع "ومختلفا في الاحتياط والاستصحاب" كما سيأتي في خاتمة هذه المقالة إن شاء الله تعالى.(24/77)
"ومعنى الإضافة" في أدلة الأحكام "أن الأحكام النسب الخاصة النفسية" بالطلب والتخيير "والأربعة" أي الكتاب والسنة والإجماع والقياس "أدلتها" أي النسب المذكورة "وبذلك" أي وبسبب كونها أدلة "سميت أصولا" لأن الأصل ما ينبني عليه غيره والأحكام الشرعية مبنية على هذه الأربعة "وجعل بعضهم" أي الحنفية "القياس أصلا من وجه" لإسناد الحكم إليه ظاهرا "فرعا من وجه لثبوت حجيته بالكتاب والسنة" وإجماع الصحابة كما يصرح به في موضعه "يوجب مثله" أي الأصالة من وجه والفرعية من وجه "في السنة" لإسناد الحكم إليها ظاهرا وثبوت حجيتها بالكتاب "والإجماع" لإسناد الحكم إليه ظاهرا وثبوت حجيته بالكتاب والسنة فلا موجب للاقتصار في ذلك على القياس حتى أنه أوجب إفراده بالذكر عن الثلاثة فقالوا أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع، والأصل الرابع القياس المستنبط منها. وقيل أفرد بالذكر لأنه أصل للفقه فقط وهي أصل له ولعلم الكلام وقيل لأن الأصل فيه عدم القطع وفيها القطع "والأقرب" أن اختصاصه بالذكر بالنسبة إليها "لاحتياجه في كل حادثة إلى أحدها" لابتنائه على علة مستنبطة من أحدها وعدم احتياجها إليه "ولا يرد الإجماع على عدم لزوم المستند" له بأن يخلق الله فيهم علما ضروريا ويوفقهم لاختيار الصواب كما هو قول شرذمة على هذا وهو ظاهر لعدم افتقار الإجماع إلى الكتاب والسنة حينئذ ولزوم افتقار القياس إلى أحدهما "ولا" يرد "على لزومه" أي المستند له كما هو قول الجمهور عليه أيضا "لأن المحتاج إليه" أي إلى المستند "قول كل" إلا فرادى "وليس" قول كل إلا فرادى "إجماعا بل هو" أي الإجماع "كلها" أي الأقوال "المتوقف على" قول "كل واحد ولا يحتاج" المجموع إلى مستند "وإلا" لو احتاج المجموع إلى مستند "كان الثابت به" أي بالإجماع(24/78)
ص -274-…"بمرتبة المستند" أي في رتبته وليس كذلك فإن الإجماع قد يثبت أمرا زائدا لا يثبته المستند وهو قطعية الحكم ولا يخفى على المتأمل أن هذا أولى من الجواب بأن الإجماع إنما يحتاج إلى المستند في تحققه لا في نفس الدلالة على الحكم فإن المستدل به لا يفتقر إلى ملاحظة المستند والالتفات إليه بخلاف القياس فإن الاستدلال به لا يمكن بدون اعتبار أحد هذه الثلاثة والعلة المستنبطة منه.
ثم الكلام فيها على الوجه الواقع عليه ترتيبها الذكري تقديما للأقدم بالذات والشرف فالأقدم فنقول "الكتاب" هو "القرآن" تعريفا "لفظيا" فإنهما مترادفان بناء على أن كلا منهما غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله تعالى المقروء على ألسنة العباد ثم استعمال القرآن في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر "وهو" أي القرآن "اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر المتواتر" فاللفظ: شامل للقرآن وغيره من الكتب السماوية وغيرها، مخرج للكلام النفسي القائم بذاته تعالى. والعربي: مخرج لما سواه من الكتب السماوية والمنزل: أي على لسان جبريل عليه السلام على رسول الله. صلى الله عليه وسلم للتدبر والتذكر: أي للتفكر فيه فيعرف ما يدبر أي ما يتبع ظاهره من التلاوات الصحيحة والمعاني المستنبطة، ويتعظ به ذوو العقول السليمة أو يستحضرون به ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية لما لا يعرف إلا من الشرع والإرشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر لما لا يعلم إلا من الشرع والتذكر لما يستقل به العقل كما ذكره القاضي البيضاوي في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ:29] وهذا اقتباس منه مخرج لما سواه من الألفاظ العربية وبعض الأحاديث الإلهية المنسوبة إلى الله تعالى التي لم يسندها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله(24/79)
تعالى على لسان جبريل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا عند ظن عبدي بي" الحديث. وما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". والمتواتر وستعرف معناه في موضعه مخرج لما كان هكذا غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فاقطعوا أيمانهما وأبي فعدة من أيام أخر متتابعات وبعض الأحاديث الإلهية التي أسندها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على لسان جبريل كالحديث الحسن الذي أخرجه أحمد وغيره أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر؟ قال "لا أدري حتى أسأل فسأل جبريل عن ذلك فقال لا أدري حتى أسأل ربي فانطلق فلبث ما شاء الله ثم جاء فقال إني سألت ربي عن ذلك فقال شر البلاد الأسواق" فلا جرم إن قال "فخرجت الأحاديث القدسية" أي الإلهية ولم يبين مخرجها لاختلافه باختلاف نوعيها المذكورين. بقي أن يقال يبقى اللفظ العربي الذي أسنده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على لسان جبريل المقصود للتدبر والتذكر وليس بقرآن داخلا في هذا التعريف فيحتاج إلى مخرج والجواب أن دخول هذا وخروجه فرع وجوده ولا وجود له فلا إشكال.(24/80)
ص -275-…"والإعجاز" أي وثبوته له وهو أن يرتقي في بلاغته إلى حد يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته "تابع لازم" غير بين "لأبعاض خاصة منه لا بقيد سورة" كما هو ظاهر قول ابن الحاجب وغيره "ولا كل بعض نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}" الآية فإنها جمل لا إعجاز فيها.
"وهو" أي القرآن "مع جزئية اللام" فيه أي كونه مقترنا بها لإفادة التعريف العهدي "للمجموع" من الفاتحة إلى آخر سورة الناس فلا يصدق على ما دونه من آية وسورة "ولا معها" أي جزئية اللام له بأن لا يكون مقترنا بها تعريفه "لفظ إلخ" أي عربي منزل للتدبر والتذكر متواتر "فيصدق على الآية" كما هو ظاهر وهذا أنسب بغرض الأصولي لأنه يبحث عن الكتاب من حيث إنه دليل الحكم وذلك آية لا مجموع القرآن "وهذا" التعريف للقرآن "للحجة القائمة" أي باعتبار كونه حجة قائمة على العباد في الأحكام التكليفية. "و" تعريفه "بلا هذا الاعتبار" أي كونه حجة عليهم فيها "كلامه تعالى العربي الكائن للإنزال وللعربي" أي كونه عربيا "رجع أبو حنيفة عن الصحة" أي صحة الصلاة "للقادر" على العربي "بالفارسية لأن المأمور قراءة مسمى القرآن" لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وما في الخارج المنحصر فيه القرآن عربي رواه نوح ابن مريم وعلي بن الجعد عنه وعليه الفتوى حتى قال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل لو تعمد ذلك فهو مجنون فيداوى أو زنديق فيقتل "وقولهم" أي بعض الحنفية في جواب من قال أبو حنيفة ذهب أولا إلى أن القرآن اسم للمعنى وحده استدلالا بجواز القراءة بالفارسية بغير عذر في الصلاة عنده أنه لم يقل بالجواز بناء على أن النظم العربي ليس ركنا للقرآن عنده بل قال ذلك بناء على أنه "ركن زائد" في حق جواز الصلاة خاصة لأن النظم العربي مقصود للإعجاز والمقصود من القرآن في حال الصلاة المناجاة لا الإعجاز فلا يكون النظم لازما فيها يتسلط عليه أنه معارضة النص(24/81)
بالمعنى فإن النص طلب بالعربي. وهذا التعليل يجيزه بغيرها، ولا بعد في أن يتعلق جواز الصلاة في شريعة النبي الآتي بالنظم المعجز بقراءة ذلك المعجز بعينه بين يدي رب العالمين ثم "لا يفيد" دفع الاستدلال المذكور "بعد دخوله" أي الركن للشيء في ماهيته لأن كونه زائدا على الماهية مع الدخول فيها غير معقول كما أشار إليه في البديع "ودفعه" أي هذا التعقب كما في شرحه للشيخ سراج الدين الهندي "بإرادتهم الزيادة على ما يتعلق به الجواز" للصلاة أي وجواز الصلاة يتعلق بالمعنى فقط إذ ليس الإعجاز المتعلق باللفظ مقصودا في الصلاة "مع دخوله" أي النظم العربي "في الماهية" أي القرآنية لأنه لا منافاة بين كونه ركنا لماهية القرآن وزائدا على ما يتعلق به جواز الصلاة "دفع بعين الإشكال لأن دخوله" أي النظم العربي في ماهية القرآن هو "الموجب لتعلق الجواز به" أي بالنظم العربي لكونه مأمورا بقراءة مسمى القرآن "على أن معنى الركن الزائد عندهم ما قد يسقط شرعا" كما قال كثير من مشايخنا في الإقرار بالنسبة إلى الإيمان لأنه يحتمل السقوط بعذر الإكراه الملجئ وفي حق من لم يجد وقتا يتمكن فيه من الأداء بعد أن لا يكون إيمانه إيمان يأس "وادعاؤه" أي السقوط شرعا "في النظم" العربي "عين النزاع، والوجه(24/82)
ص -276-…في العاجز" عن النظم العربي "أنه" أي العاجز عنه "كالأمي" لأن قدرته على غير العربية كلا قدرة، فكان أميا حكما فلا يقرأ كما هو أحد القولين فيه إذ في المجتبى واختلف فيمن لا يحسن القراءة بالعربية ويحسن بغيرها، الأولى أن يصلي بلا قراءة أو بغيرها ا هـ وعلى أنه يصلي بلا قراءة الأئمة الثلاثة بل يسبح ويهلل "فلو أدى" العاجز "به" أي بالفارسي في الصلاة "قصة" أو أمرا أو نهيا "فسدت" الصلاة بمجرد قراءته لأنه حينئذ متكلم بكلام غير قرآن "لا ذكرا" أو تنزيها إلا إذا اقتصر على ذلك فإنها تفسد حينئذ بسبب إخلاء الصلاة عن القراءة وهذا اختيار المصنف وإلا فلفظ الجامع الصغير محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يفتتح الصلاة بالفارسية أو يقرأ بالفارسية أو يذبح ويسمي بالفارسية وهو يحسن العربية قال يجزئه في ذلك كله وقال أبو يوسف ومحمد لا يجزئه في ذلك كله إلا في الذبيحة وإن كان لا يحسن العربية أجزأه. قال الصدر الشهيد في شرحه وهذا تنصيص على أن من يقرأ القرآن بالفارسية لا تفسد الصلاة بالإجماع، ومشى عليه صاحب الهداية وأطلق نجم الدين النسفي وقاضي خان نقلا عن شمس الأئمة الحلواني الفساد بها عندهما "وعنه" أي التعريف المذكور للقرآن حيث أخذ فيه التواتر "يبطل إطلاق عدم الفساد" للصلاة "بالقراءة الشاذة" فيها كما في الكافي لانتفاء التواتر فيها إذ هي ما نقل آحادا والمشهور أنها ما عدا القراءات السبع لأبي عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر وقال السبكي الصحيح أنها ما وراء القراءات العشر للمذكورين ويعقوب وأبي جعفر وخلف فلا جرم أن قال شمس الأئمة السرخسي في أصوله قالت الأمة لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته لأنه لم يوجد فيه النقل المتواتر وباب القرآن باب يقين وإحاطة فلا يثبت بدون النقل المتواتر كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر فيكون مفسدا للصلاة وكذا في التقويم(24/83)
لكن في الدراية ولو قرأ بقراءة ليست في مصحف العامة كقراءة ابن مسعود وأبي تفسد صلاته عند أبي يوسف والأصح أنها لا تفسد ولكن لا يعتد به من القراءة وفي المحيط وتأويل ما روي عن علمائنا أنه تفسد صلاته إذا قرأ هذا ولم يقرأ شيئا آخر لأن القراءة الشاذة لا تفسد الصلاة ا هـ. وفي الخانية ولو قرأ في الصلاة ما ليس في مصحف الإمام نحو مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب إن لم يكن معناه في مصحف الإمام ولم يكن ذلك ذكرا ولا تهليلا تفسد صلاته لأنه من كلام الناس وإن كان معناه ما كان في مصحف الإمام تجوز صلاته في قياس قول أبي حنيفة ومحمد ولا يجوز في قياس قول أبي يوسف أما عند أبي حنيفة فلأنه يجوز قراءة القرآن بأي لفظ كان ومحمد يجوز بلفظ العربية ولا يجوز بغيرها ولا يقال كيف لا تجوز الصلاة بقراءة ابن مسعود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رغبنا في قراءة القرآن بقراءته لأنا نقول إنما لا تجوز الصلاة بما كان في مصحفه الأول لأن ذاك قد انتسخ وابن مسعود أخذ بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره وأهل الكوفة أخذوا بقراءته الثانية وهي قراءة عاصم فإنما رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك القراءة كذا ذكره الطحاوي وقالت الشافعية تجوز القراءة بالشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا(24/84)
ص -277-…زيادة حرف ولا نقصانه ولا تبطل بها الصلاة وتمتنع إن كان فيها زيادة حرف أو تغيير معنى وتبطل الصلاة إذا تعمد وإن كان ساهيا سجد للسهو ومن هذه الجملة يظهر عدم تسليم نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه لا تجوز القراءة بالشاذة ولا الصلاة خلف من يقرأ بها.
"ولزم فيما لم يتواتر نفي القرآنية" عنه "قطعا غير أن إنكار القطعي إنما يكفر" منكره "إذا كان" ذلك القطعي "ضروريا" من ضروريات الدين كما هو قول غير واحد "ومن لم يشرطه" أي الضروري في القطعي المكفر بإنكاره كالحنفية إنما يكفر منكره "إذا لم يثبت فيه شبهة قوية فلذا" أي اشتراط انتفاء الشبهة في القطعي المنكر ثبوتا وانتفاء "لم يتكافروا" أي لم يكفر أحد من المخالفين الآخر "في التسمية" لوجود الشبهة لتقويه في كل طرف لقوة دليله فإنه عذر واضح في عدم التكفير لأنه يدل على أنه غير مكابر للحق ولا قاصد إنكار ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك أخرجه من حد الوضوح إلى حد الإشكال وأورد الدليل عند كل على ما ذهب إليه من نفي أو إثبات قطعي وإلا لما جاز نفيها وإثباتها من القرآن فكيف تطلق قوة الشبهة على دليل كل وهي إنما تطلق على الظني. وأجيب بأنه وإن كان دليل كل قطعيا عنده فهو ظني عند مخالفه فأطلق عليه قوة الشبهة باعتبار زعمه قيل فمن يعتقد قطعية دليله ويجزم بخطأ مخالفه كيف يسلم قوة الشبهة في دليله فإن إفادة الظن بقوة الشبهة تقدح في كون دليله قطعيا عنده على أنه لا اعتبار للظن وقوة الشبهة مع القطعي لأن الظن يضمحل بمقابلة القاطع أجيب بأنه ليس المراد بتحقق قوة الشبهة في دليل المخالف حصول الظن به بل المراد أن دليله قوي الشبهة بالحق بالنظر إليه فيحتاج إلى الفكر التام في دليل نفسه ليظهر بطلان دليل مخالفه فجعلت تلك الشبهة القوية عذرا في منع التكفير فإن قيل لو كان دليل كل قطعيا لزم تعارض القطعيين قلنا لا يلزم من اعتقاد كل قطعية دليله تعارض القطعيين في نفس(24/85)
الأمر وعند كل منه ومن مخالفه وإلا لم توجد الشبهة القوية في كل منهما ولكفر أحدهما الآخر لأنه إن تواتر كونها من القرآن فإنكار كونها منه كفر للإجماع على تكفير من ينكر شيئا من القرآن وإن لم يتواتر كونها من القرآن فإثباتها منه كفر للإجماع على تكفير من يلحق بالقرآن ما ليس منه ولكنه لم يكفر لأنه لو وقع لنقل والإجماع على عدم التكفير من الجانبين.
ثم إنما ذهب إلى نفي قرآنيتها في غير سجدة النمل من ذهب كمالك "لعدم تواتر كونها في الأوائل" أي أوائل السور "قرآنا وكتابتها" بخط المصحف في أوائل السور "لشهرة الاستنان بالافتتاح بها في الشرع" لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" رواه ابن حبان وحسنه ابن الصلاح "والآخر" أي المثبت لقرآنيتها في الأوائل يقول "إجماعهم" أي الصحابة "على كتابتها" بخط المصحف في الأوائل "مع أمرهم بتجريد المصاحف" عما سواه حتى لم يثبتوا آمين فقد قال ابن مسعود جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء يعني في كتابته قال شيخنا الحافظ حديث حسن موقوف أخرجه ابن أبي داود ا هـ وابن أبي شيبة عنه بلفظ "جردوا القرآن لا تلحقوا به ما ليس منه" دليل على كونها من القرآن(24/86)
ص -278-…في هذه المحال "والاستنان" لها في أوائل السور "لا يسوغه" أي الإجماع على كتابتها بخط المصحف فيها "لتحققه" أي الاستنان "في الاستعاذة ولم تكتب" في المصحف. "والأحق أنها" أي التسمية في محالها "منه" أي القرآن "لتواترها فيه" أي في المصحف "وهو" أي تواترها فيه "دليل كونها قرآنا على أنا نمنع لزوم تواتر كونها قرآنا في" ثبوت "القرآنية" لها في محالها "بل" الشرط فيما هو قرآن "التواتر في محله" من القرآن "فقط وإن لم يتواتر كونه" أي ما هو قرآن "فيه" أي في محله "منه" أي من القرآن وهذا موجود في التسمية "وعنه" أي: الاشتراط فيما هو قرآن تواتره في محله وإن لم يتواتر كونه فيه من القرآن "لزم قرآنية المكررات" كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] "وتعددها" أي المكررات في محالها "قرآنا" لتواترها في محالها بحيث لا يمكن إسقاطها "وعدمه" أي عدم تعدد ما هو قرآن "فيما تواتر في محل واحد فامتنع جعله" أي ذلك المتواتر في محل واحد "منه" أي القرآن "في غيره" أي غير محله مثلا لو كتب {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بين آيتين في موضع آخر لا يكون ذلك قرآنا.(24/87)
"ثم الحنفية" المتأخرون على أن التسمية "آية واحدة منزلة يفتتح بها السور" لما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أبو داود والحاكم إلا أنه قال لا يعرف انقضاء السورة وقال صحيح على شرط الشيخين مع ما في صحيح مسلم وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي" الحديث وما في الصحيحين في مبدأ الوحي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} إلى غير ذلك فلا جرم إن قال شمس الأئمة السرخسي الصحيح أنها أنزلت للفصل لا في أول السورة ولا في آخرها فيكون القرآن مائة وأربع عشرة سورة وآية واحدة لا محل لها بخصوصها "والشافعية" على أنها "آيات في السور" أي آية كاملة من أول كل سورة على الأصح عندهم فيما عدا الفاتحة وبراءة فإنها آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف وليست بآية من براءة بلا خلاف. "وترك نصف القراء" أي ابن عامر ونافع وأبي عمر ولها في أوائل السور مطلقا وحمزة في غير الفاتحة "تواتر أنه صلى الله عليه وسلم تركها" في أوائل السور لأن كلا من القراءات السبع متواتر "ولا معنى عند قصد قراءة سورة أن يترك أولها لو لم يحث على أن يقرأ السورة على نحوها" فكيف وقد حث عليه "وتواتر قراءتها" أي التسمية في أوائل السور "عنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "بقراءة الآخرين" من القراء لها في أوائل السور "لا يستلزمها" أي التسمية "منها" أي السور "لتجويزه" أي كون قراءتها فيها "للافتتاح" بها تبركا هذا وفي المجتبى قال الإسبيجابي أكثر مشايخنا على أنها آية من الفاتحة وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أنها من الفاتحة وأكثرهم أنها(24/88)
آية منها وبها تصير سبع آيات وقال أبو بكر الرازي ليس عن أصحابنا رواية منصوصة على أنها من الفاتحة أو ليست منها إلا أن شيخنا أبا الحسن الكرخي حكى مذهبهم(24/89)
ص -279-…في ترك الجهر بها فدل على أنها ليست آية منها عندهم وإلا لجهر بها كما جهر بسائر آي السور والله سبحانه أعلم. "وما عن ابن مسعود من إنكار" كون "المعوذتين" من القرآن "لم يصح" عنه كما ذكره الطرطوسي وغيره "وإن ثبت خلو مصحفه" منهما "لم يلزم" أن يكون خلوه منهما "لإنكاره" أي ابن مسعود قرآنيتهما "لجوازه" أي خلوه منهما "لغاية ظهورهما" لحصول العلم الضروري بكونهما من القرآن لتواترهما وإعجازهما ثم حفظ عموم المسلمين لهما "أو لأن السنة عنده" أي ابن مسعود "أن لا يكتب منه" أي القرآن "إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتبه ولم يسمعه" أي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك.
مسألة(24/90)
"القراءة الشاذة حجة ظنية خلافا للشافعي لنا منقول عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا متيقن الخطأ قلنا في قرآنيته لا خبريته مطلقا وانتفاء الأخص" أي القرآنية "لا ينفي الأعم" أي الخبرية مطلقا "فكما لأخبار الآحاد" في الحكم لأنها منها "ومنعهم" أي مانعي حجيتها "الحصر" في كونه قرآنا أو خبرا ورد بيانا فظن قرآنا فألحق به فإن غير الخبر الوارد لا يحتمل هذا وعلى التقديرين يجب العمل به "بتجويز ذكره" أي الصحابي ذلك "مع التلاوة مذهبا" للقارئ بناء على دليل اعتقده كاعتقاد حمل المطلق على المقيد بالتتابع في كفارة الظهار فذكره في معرض البيان "بعيد جدا لأن نظم مذهبه معه" أي القرآن "إيهام أن منه" أي القرآن "ما ليس منه" أي القرآن "لا جرم أن المحرر عنه" أي الشافعي "كقولنا بصريح لفظه" في موضعين من البويطي أحدهما في باب تحريم الجمع وثانيهما قوله ذكر الله الأخوات من الرضاع بلا توقيت ثم وقتت عائشة الخمس وأخبرت أنه مما نزل من القرآن فهو وإن لم يكن قرآنا يقرأ فأقل حالاته أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن لا يأتي به غيره فهذا عين قولنا فلا جرم أن كان عليه جمهور أصحابه كما نقله الإسنوي وغيره حتى احتجوا بقراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما على قطع اليمنى "ومنشأ الغلط" في أن مذهبه عدم حجيته كما نسبه إليه إمام الحرمين وتبعه النووي "عدم إيجابه" أي الشافعي "التتابع" في صوم الكفارة "مع قراءة ابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام متتابعات ذكره الإسنوي قال المصنف وهذا عجيب لجواز كون ذلك لعدم ثبوت ذلك عنده أو لقيام معارض ا هـ وعلى هذا مشى السبكي فقال لعله لمعارضة ذلك ما قالته عائشة نزلت فصيام ثلاثة أيام متتابعات فسقطت متتابعات أخرجه الدارقطني وقال إسناده صحيح.
مسألة(24/91)
"لا يشتمل" القرآن "على ما لا معنى له خلافا لمن لا يعتد به من الحشوية" بإسكان الشين لأن منهم المجسمة والجسم محشو والمشهور فتحها لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد كلامهم رديئا فقال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها "تمسكوا بالحروف المقطعة" في أوائل السور "ونحو {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}" إنما هو إله واحد و"{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}.(24/92)
ص -280-…قلنا التأكيد كثير وابداء فائدته قريب" واثنين وواحد وواحدة وصف للتأكيد كما نص عليه في البديع وصرح به الزمخشري في المفصل في نفخة واحدة وأراده في الآية الأولى حيث قال في الكشاف الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذي ساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا يرى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية انتهى فقوله يؤكده أي يقرره ويحققه ولم يقصد أنه توكيد صناعي لأنه إنما يكون بتكرير لفظ المتبوع أو بألفاظ مخصوصة وقد وهم عليه من زعم أن مذهبه أن اثنين وواحدة من التأكيد الصناعي وذهب صاحب التلخيص إلى أن قوله {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} من باب الوصف للبيان والتفسير وقال التفتازاني إنه الحق وقيل غير ذلك واستيفاء الكلام فيه له موضع غير هذا وقد عرف مما ذكرنا من الكشاف فائدة هذا الوصف التأكيد في الآيتين وأما فائدة التأكيد من حيث هو فقد يكون لتحقيق مفهوم المتبوع، أي جعله مستقرا محققا بحيث لا يظن به غيره، أو دفع توهم التجوز أو السهو أو عدم الشمول كما هو معروف في علم المعاني.(24/93)
"وأما الحروف" المقطعة في أوائل السور "فمن المتشابه وأسلفنا فيه خلافا أن معناه يعلم أولا" وظهر ثمة أنه عند الجمهور لا يعلم في الدنيا وأنه الأوجه "فاللازم" للمتشابه عندهم "عدم العلم به" أي بالمتشابه وهو حق كما سلف "لا عدمه" أي المعنى. "وقيل مرادهم" أي الحشوية بقولهم يشتمل على ما لا معنى له "لا يوقف على معناه" كما هو ظاهر صنيع عبد الجبار وأبي الحسين البصري حيث وضعا المسألة في أن القرآن يجوز اشتماله على ما لا يفهم المكلفون معناه "فكقول النافي" أي فهو حينئذ كقول نافي عدم إدراك المعنى "في المتشابه" بل هو هو "فلا خلاف" بين الجمهور وبينهم على هذا بل هم طائفة من القائلين بعدم درك معنى المتشابه في الدنيا وقال بعضهم كابن برهان يجوز أن يشتمل كلام الله على ما لا يفهم معناه إلا أن يتعلق به تكليف فلا يجوز وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وهو غير جائز وفي شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي والمختار عند أكثر العلماء أنها أسماء للسور فلها معان.
مسألة
"قراءة السبعة ما" كان منها "من قبيل الأداء" بأن كان هيئة للفظ يتحقق بدونها ولا يختلف خطوط المصاحف به "كالحركات والإدغام" في المثلين أو المتقاربين وهو إدراج الأول منهما ساكنا في الثاني "والإشمام" وهو الإشارة بالشفتين إلى الحركة بعيد الإسكان من غير تصويت فيدركه البصير لا غير "والروم" وهو إخفاء الصوت بالحركة "والتفخيم والإمالة" وهي الذهاب بالفتحة إلى جهة الكسرة "والقصر وتحقيق الهمزة وأضدادها" أي المذكورات من الفك وعدم الإشمام والروم والترقيق وعدم الإمالة والمد وتخفيف الهمزة "لا يجب تواترها(24/94)
ص -281-…وخلافه" أي خلاف ما كان من قبيل الأداء "مما اختلف بالحروف ك: ملك" المنسوب قراءته إلى من عدا الكسائي وعاصما "ومالك" المنسوب قراءته إليهما ويسمى بقبيل جوهر اللفظ "متواتر وقيل مشهور" أي آحاد الأصل متواتر الفروع "والتقييد" لما هو خلاف ما كان من قبيل الأداء منها "باستقامة وجهها في العربية" كما في شرح البديع "غير مفيد لأنه إن أريد" باستقامة وجهها في العربية "الجادة" الظاهرة في التركيب "لزم عدم القرآنية في {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}" برفع قتل ونصب أولادهم وجر شركائهم على أن "قتل" مضاف إلى شركائهم وفصل بينهما بالمفعول الذي هو أولادهم "لابن عامر" لأن الجادة في سعة الكلام أن لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور "أو" أريد بها الاستقامة ولو "بتكلف شذوذ وخروج عن الأصول فممكن في كل شيء" فلا فائدة في التقييد "وقد نظر في التفصيل" أي نظر العلامة الشيرازي في كون ما من قبيل الأداء كالحركات لا يجب تواتره بخلاف ما كان منه "لأن الحركات وما معها أيضا قرآن" قال المصنف "ولا يخفى أن القصر والمد من قبيل الثاني" أي خلاف ما كان من قبيل الأداء "ففي عدهما من قبيل الثاني" أي مما كان من قبيل الأداء "نظر" والألزم مثله في "مالك" و "ملك" إذ "مالك" لا يزيد على ملك إلا بالمدة التي هي الألف "لنا" في أن ما من قبيل الأداء أنه "قرآن فوجب تواتره" ضرورة أن جميع القرآن متواتر إجماعا لكون العادة قاضية به "قالوا" أي القائلون بالاشتهار "المنسوب إليهم" هذه القراءات "آحاد" لأنهم سبعة نفر والتواتر لا يحصل بهذا العدد فيما اتفقوا عليه فضلا عما اختلفوا فيه. "أجيب: بأن نسبتها" أي القراءات السبع إليهم "لاختصاصهم بالتصدي" للاشتغال والإشغال بها واشتهارهم بذلك "لا لأنهم النقلة" خاصة بمعنى أن روايتهم مقصورة عليهم "بل عدد التواتر" موجود "معهم" في كل طبقة إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم(24/95)
"ولأن المدار" لحصول التواتر "العلم" أي حصول العلم عند العدد "لا العدد" الخاص "وهو" أي العلم "ثابت" بقراءاتهم.
مسألة
"بعد اشتراط الحنفية المقارنة في المخصص" الأول للعام المخصص "لا يجوز" عندهم "تخصيص الكتاب بخبر الواحد لو فرض نقل الراوي قرآن الشارع المخرج" لبعض أفراد العام المتلو "بالتلاوة" فهو متعلق بقرآن حال كونه "تقييدا" لإطلاق عموم المتلو وحال كون المخرج "مفادا لغيرية" أي ما هو غير قرآن هذا وتقدم في بحث التخصيص أن اشتراط المقارنة في المخصص الأول قول أكثر الحنفية وبعضهم كالشافعية على عدم اشتراطها في التخصيص مطلقا لكن لا خلاف بينهم يعلم في أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالتمهيد المذكور لبيان منعه على قول الأكثرين مع إمكان تصور شرطه فيه لا غير، دفعا لتوهم أن امتناعه عندهم إنما هو لانتفاء تصور شرطه لا للإشارة إلى جوازه عند غير شارطيها منهم "وكذا" لا يجوز "تقييد مطلقه" أي الكتاب "وهو" أي تقييد مطلقه هو "المسمى بالزيادة على النص" بخبر الواحد "عندهم" أي الحنفية "وحمله" أي ولا يجوز أيضا حمل الكتاب "على المجاز لمعارضته" أي خبر الواحد له لأجل الجمع بينهما وهذا عند القائلين من الحنفية بأن العام(24/96)
ص -282-…قطعي كالعراقيين ظاهر "وكذا القائل بظنية العام منهم" أي الحنفية كأبي منصور لا يجوز ذلك عنده أيضا "على الأصح" كما ذكره صاحب الكشف وغيره "لأن الاحتمال" لعدم ثبوت الخبر ثابت "في ثبوت الخبر والدلالة" أي ودلالة الخبر على المراد منه "فرعه" أي ثبوت الخبر "فاحتماله" أي ثبوت الخبر عدم ثبوته "عدمها" أي دلالة الخبر على المراد منه "فزاد" خبر الواحد احتمالا على احتمال الكتاب "به" أي بعدم ثبوته المستلزم عدم الدلالة أصلا وهذا ظاهر على ما قدمه المصنف في التخصيص أنه لم يعرف تخصيص عام إلا بعام كالنساء في لا تقتلوا النساء ففيه من الاحتمال مثل ما في الأول حتى احتمل دليل التخصيص التخصيص ووقع فإنه خص من تخصيص من قاتل منهن أو كانت ملكة فساوى في احتمال عدم إرادة البعض القطعي العام وزاد هو عليه باحتمال عدم ثبوته رأسا ولو انفرد القطعي باحتمال متنه دون الخبر كان هذا الاحتمال الثابت فيه أقوى من احتماله لأن تلك بالنسبة إلى المراد أيها هو وهذه بالنسبة إلى الوجود فهو في أصلها وذاك في وصفها بعد القطع بثبوتها كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى.(24/97)
"لنا" في أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد أن خبر الواحد "لم يثبت ثبوته" أي الكتاب لأن ثبوته قطعي وثبوت خبر الواحد ظني "فلا يسقط" خبر الواحد "حكمه" أي الكتاب "عن تلك الأفراد" التي بحيث يخرجها خبر الواحد من عام الكتاب "وإلا" لو أسقط حكمه عنها "قدم الظني على القاطع" وهو باطل لأن الظن مضمحل بالقطع "بخلاف ما لو ثبت" الخبر "تواترا أو شهرة" فإنه يجوز تخصيص الكتاب به "للمقاومة" بين الكتاب وبينهما أما بينه وبين المتواتر فظاهر وأما بينه وبين المشهور على رأي الجصاص وموافقيه في أنه يفيد علم اليقين فظاهر وأما على رأي ابن أبان وموافقيه من أنه يفيد علم طمأنينة فلأنه قريب باليقين والعام ليس بحيث يكفر جاحده فهو قريب من الظن وقد انعقد الإجماع على تخصيص عمومات الكتاب بالخبر المشهور كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل شيئا" رواه الدارقطني وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالاتها" رواه مسلم وغير ذلك "فثبت" كل من الخبر المتواتر والمشهور "تخصيصا" لعموم الكتاب "وزيادة" على مطلقه حال كونه "مقارنا" له إذا كان هو المخصص الأول "ونسخا" أي وناسخا له حال كونه "متراخيا" وهو لف ونشر مرتب لأن المقارنة على تقدير التخصيص، والنسخ على تقدير الزيادة "وعنه" أي اشتراط المقارنة في المخصص الأول "حكموا بأن تقييد البقرة" في قوله تعالى اذبحوا بقرة بالمقيدات في بقية الآية "نسخ" لإطلاقها لكون المقيدات متأخرة عن طلب ذبح مطلقها "كالآيات المتقدمة في بحث التخصيص" كـ {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] بالنسبة إلى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] بالنسبة إلى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] إلى غير ذلك. "وعن(24/98)
لزوم الزيادة بالآحاد منعوا إلحاق الفاتحة والتعديل" للأركان "والطهارة" من الحدث والخبث "بنصوص القراءة" أي قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20](24/99)
ص -283-…"والأركان" أي اركعوا واسجدوا "والطواف" أي {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} "فرائض" بما في الصحيحين: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فساقه إلى أن قال فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وبما روى ابن حبان والحاكم عنه صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" "بل" ألحقوها "واجبات" للمذكورات "إذ لم يرد بما تيسر العموم الاستغراقي" وهو جميع ما تيسر وهو ظاهر "بل" أراد به ما تيسر "من أي مكان فاتحة أو غيرها" فلو قالوا لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة والتعديل والطواف بلا طهارة بهذه الأخبار الآحاد لكان نسخا لهذه الإطلاقات بها وهو لا يجوز فرتبوا عليها موجبها من وجوبها فيأثم بالترك ويلزم الجابر فيما شرع فيه ولا تفسد ثم كون التعديل واجبا قول الكرخي. وقال الجرجاني سنة "وتركه عليه السلام المسيء" صلاته بعد أول ركعة حتى أتم "يرجح ترجيح الجرجاني الاستنان" لأن من البعيد تقريره على مكروه تحريما إلا أنه كما قال في شرح الهداية الأول أولى لأن المجاز حينئذ يكون أقرب إلى الحقيقة أي لأن نفي الصلاة شرعا لعدم الصحة حقيقة، ولعدم كل من الواجب والسنة مجاز، ولا خفاء في أن نفيها لعدم الواجب أقرب إلى عدم الصحة من نفيها لعدم السنة وللمواظبة وقد سئل محمد عن تركها فقال إني أخاف أن لا يجوز وفي البدائع عن أبي حنيفة مثله "كقولهم في ترتيب الوضوء وولائه ونيته" إنها سنة "لضعف دلالة مقيدها" كما عرف في موضعه "بخلاف وجوب الفاتحة نفي(24/100)
الكمال في خبرها بعيد عن معنى اللفظ" لأن متعلق الجار والمجرور الواقع خبرا إنما هو الاستقرار العام كما هو الأصل فالتقدير لا صلاة كائنة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة "وبظني الثبوت والدلالة" كأخبار الآحاد التي مفهوماتها ظنية يثبت "الندب والإباحة والوجوب" يثبت "بقطعيها" أي الدلالة "مع ظنية الثبوت" كأخبار الآحاد التي مفهوماتها قطعية "وقلبه" أي وبظنيها مع قطعية الثبوت كالآيات المؤولة "والفرض" يثبت "بقطعيهما" أي الثبوت والدلالة كالنصوص المفسرة والمحكمة والسنة المتواترة التي مفهوماتها قطعية ليكون ثبوت الحكم بقدر دليله "ويشكل" على أن بظنيهما يثبت الندب والسنة "استدلالهم" لوجوب الطهارة في الطواف كما هو الأصح عندهم "بالطواف بالبيت صلاة لصدق التشبيه" أي تشبيه الطواف بالصلاة "بالثواب وقوله إلا أن الله أباح فيه المنطق ليس على ظاهره موجبا ما سواه" أي المنطق "من أحكام الصلاة في الطواف" حتى يدخل فيه وجوب الطهارة "لجواز نحو الشرب" فلا جرم أن قال ابن شجاع هي سنة. "فالوجه" الاستدلال له "بحديث عائشة حين حاضت محرمة" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" متفق عليه. فرتب منع الطواف على انتفاء الطهارة فإن هذا حكم وسبب وظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب(24/101)
ص -284-…فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول الحائض المسجد "وادعوا" أي الحنفية "للعمل بالخاص لفظ جزاء" في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] "انتفاء عصمة المسروق حقا للعبد لاستخلاصها" أي عصمة المسروق حقا لله تعالى "عند القطع" لما يأتي قريبا. "فإن قطع" السارق "تقرر" خلوصه لله تعالى قبيل فعل السرقة القبلية التي علم الله تعالى أنها يتصل بها السرقة وكان القطع مبينا لنا ذلك فهو من الاستدلال بمعاينة المشروط على سبق الشرط "فلا يضمن" المسروق "باستهلاكه" كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة "لأنه" أي الجزاء المطلق "في العقوبات" يكون "على حقه تعالى خالصا بالاستقراء" لأنه المجازي على الإطلاق ومن ثمة سميت الدار الآخرة دار الجزاء لأنه المجازي وحده فدل على أن القطع خالص حق الله ولذا لم تراع فيه المماثلة كما روعيت في حق العبد مالا كان أو عقوبة ولا يستوفيه إلا حاكم الشرع ولا يسقط بعفو المالك وإذا كان حق الله كانت الجناية واقعة على حقه فيستحق العبد جزاء من الله بمقابلتها، ومن ضرورة ذلك تحول العصمة التي هي محل الجناية من العبد إلى الله عند فعل السرقة حتى تقع جناية العبد على حق الله ليستحق الجزاء منه تعالى ومتى تحولت إليه لم يبق حق للعبد بل صار المال في حق العبد ملحقا بما لا قيمة له كعصير المسلم إذا تخمر لم يبق للعبد بسرقة عصيره حق فيه فلم يجب الضمان رعاية لحقه لانتقاله إليه تعالى وقد استوفى بالقطع ما وجب بالهتك فلم يجب عليه شيء آخر وروى الحسن عنه أنه يجب الضمان لأن الاستهلاك فعل آخر غير السرقة وأجيب بأنه وإن كان فعلا آخر فهو إتمام المقصود بها وهو الانتفاع بالمسروق فكان معدودا منها ولا مماثلة بين المسروق والضمان لأن المسروق ساقط العصمة حرام لعينه حقا للشرع وما يؤخذ من السارق غير ساقط العصمة ولا حرام لعينه والضمان يعتمد المماثلة(24/102)
بالنص ثم هذا كله في القضاء وأما ديانة ففي الإيضاح قال أبو حنيفة لا يحل للسارق الانتفاع به بوجه من الوجوه وفي المبسوط عن محمد يفتى بالضمان للحوق الخسران والنقصان للمالك من جهة السارق. قال أبو الليث وهذا القول أحسن.
"ولا يخفى أنه" أي لفظ جزاء إنما يكون في العقوبات خاصا بالعقوبة على الجناية على حقه تعالى "حينئذ" أي حين يكون بالاستقراء إنما هو "بعادة الاستعمال والخاص" إنما يكون "بالوضع" لا بعادة الاستعمال "أو لأنه" أي الجزاء "الكافي فلو وجب" الضمان مع القطع "لم يكف" القطع والفرض أنه كاف "وفيه نظر إذ ليس الكافي جزاء المصدر الممدود بل" الكافي "المجزئ من الأجزاء أو الجازئ من الجزء وهو الكفاية" كما هو المذكور في كتب اللغة المشهورة "فهو" أي سقوط الضمان عن السارق بعد قطعه "بالمروي" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ما ذكره المشايخ "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه على ما فيه" من أنه لا يعرف بهذا اللفظ وأقرب لفظ إليه لفظ الدارقطني "لا غرم على السارق بعد قطع يمينه" ثم إن راويه المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده وهو لم يلقه وفيه سعد بن إبراهيم مجهول لكن لا يخفى أن الأول سهل جدا والثاني غير ضائر لأن المسور مقبول(24/103)
ص -285-…فإرساله غير قادح. وأما الثالث فقيل إنه الزهري قاضي المدينة وهو أحد الثقات الأثبات فبطل القدح به أيضا "والحق أنه" أي وجوب الضمان مع القطع "ليس من الزيادة" بخبر الواحد على النص المطلق الذي هو القطع "لأن القطع لا يصدق على نفي الضمان وإثباته فيكونا" أي نفي الضمان وإثباته "من ما صدقات المطلق بل هو" أي نفي الضمان "حكم آخر أثبت بتلك الدلالة" الاستقرائية لجزاء "أو بالحديث" المذكور "بخلاف قولهم" أي الحنفية "وجب له" أي للعمل بالخاص "مهر المثل بالعقد في المفوضة" بكسر الواو المشددة من زوجت نفسها أو زوجها غيرها بإذنها بلا تسمية مهر أو على أن لا مهر لها ويروى بفتحها وهي من زوجها وليها بلا مهر بلا إذنها "فيؤخذ" مهر المثل "بعد الموت بلا دخول عملا بالباء" الذي هو لفظ خاص في الإلصاق حقيقة في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] "لإلصاقها الابتغاء وهو العقد" الصحيح "بالمال" فإنه من العمل بالخاص ولا نظر فيه للمصنف "وحديث بروع" وهو ما عن ابن مسعود في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق فقال لها الصداق كاملا وعليها العدة ولها الميراث فقال معقل بن سنان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. أخرجه أصحاب السنن واللفظ لأبي داود والمراد صداق مثلها كما صرح به في رواية له ولغيره ستأتي في الكلام في جهالة الراوي إن شاء الله تعالى. ثم في التلويح بروع بفتح الباء وأصحاب الحديث يكسرونها وفي الغاية بكسر الباء وفتحها والكسر أشهر وفي المغرب بفتح الباء والكسر خطأ عن الثوري وفي الجمهرة وهو خطأ ليس في كلامهم فعول إلا حرفان خروع وهو كل نبت لان وعتود واد أو موضع "مؤيد فإنه مقرر بخلاف ادعاء تقدير أقله" أي المهر "شرعا عملا بقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50]" لأن الفرض لفظ خاص وضع لمعنى خاص وهو(24/104)
التقدير والضمير المتصل به لفظ خاص يراد به ذات المتكلم فدل على أن الشارع قدره إلا أنه في تعيين المقدار مجمل. "فالتحق" قوله صلى الله عليه وسلم "لا مهر أقل من عشرة" رواه الدارقطني والبيهقي وابن أبي حاتم وسند ابن أبي حاتم حسن "بيانا به" فصارت عشرة الدراهم من الفضة تقديرا لازما لأنها المتبادر من إطلاقها عادة فمن لم يجعله مقدرا شرعا كان مبطلا للخاص لا عاملا به فإن هذا من العمل بالخاص على ما فيه من نظر "إذ يدفع" كون المراد من الآية هذا "بجواز كونه" أي ما فرضنا "النفقة والكسوة والمهر بلا كمية خاصة فيه" أي في المهر "لا ينقص شرعا كما فيهما" أي النفقة والكسوة "وتعلق العلم" بالمفروض في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} "لا يستلزمه" أي التعيين في المفروض "لتعلقه" أي العلم "بضده" وهو غير المعين أيضا "وأما قصر المراد عليهما" أي النفقة والكسوة "لعطف ما ملكت أيمانهم" على قوله أزواجهم "ولا مهر لهن" أي لما ملكت أيمانهم على ساداتهن "فغير لازم" لجواز أن يكون المراد بالمفروض بالنسبة إلى الأزواج الأمور الثلاثة وبالنسبة إلى الإماء النفقة والكسوة إذ لا مانع من ذلك "فإنما هو" أي تقدير المهر شرعا "بالخبر" المذكور "مقيدا لإطلاق المال في أن تبتغوا" بأموالكم إلا أن عليه أن يقال لكن العمل بهذا الخبر يوجب الزيادة على النص بخبر(24/105)
ص -286-…الواحد وهو غير جائز عندكم كما أشار إليه المصنف في شرح الهداية "وكذا ادعاء وقوع الطلاق في عدة البائن للعمل به" أي بالخاص "وهو الفاء لإفادتها تعقيب فإن طلقها الافتداء" المشار إليه بقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ليس من العمل بالخاص "بل" هي "لتعقيب الطلاق مرتان لأنها" أي فإن طلقها بتأويل الآية "بيان الثالثة أي الطلاق مرتان فإن طلقها ثالثة فلا تحل حتى تنكح واعترض" بينهما "جوازه" أي الطلاق "بمال أولى كانت" الطلقة "أو ثانية أو ثالثة" دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى "ولذا" أي كون جوازه بمال اعتراضا بينهما لا أن قوله فإن طلقها مرتب على قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] "لم يلزم في شرعية الثالثة تقدم خلع وأما إيراد أثبتم التحليل" للزوج الثاني "بلعن المحلل" في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه ابن ماجه. قال عبد الحق إسناده حسن لأن المحلل من يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة وبقوله صلى الله عليه وسلم لزوجة رفاعة القرظي لما أتته فقالت كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"رواه الجماعة إلا أبا داود "زيادة على الخاص لفظ حتى في {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} لأنه وضع لمعنى خاص وهو الغاية وغاية الشيء ما ينتهي به الشيء فيكون نكاح الزوج الثاني غاية للمحرمة الثابتة بالطلقات الثلاث لا غير وليس له أثر في إثبات الحكم فلا يثبت الحل الجديد به فإثباته بأحد الخبرين زيادة له على الخاص مبطلة له بخبر الواحد وهو غير جائز وهذا مما أورده غير واحد كفخر الإسلام من قبل(24/106)
محمد وزفر والأئمة الثلاثة في مسألة الهدم وهي المطلقة واحدة أو اثنتين إذا انقضت عدتها وتزوجت بآخر ودخل بها ثم طلقها أو مات عنها ثم رجعت إلى الأول حيث قالوا ترجع إليه بما بقي من طلاقها على أبي حنيفة وأبي يوسف حيث قالا ترجع إليه بثلاث قياسا على المطلقة الثلاث عملا بكل من الخبرين المذكورين "فلا وجه له إذ ليس عدم تحليله" أي الزوج الثاني الزوجة للأول "و" عدم "العود" أي عودها "إلى الحالة الأولى" وهي ملك الأول عليها الثلاث "مما صدقات مدلولها" أي حتى في الآية "ليلزم إبطاله" أي مدلولها "بالخبر فهو" أي إثبات التحليل بالثاني "إثبات مسكوت الكتاب بالخبر أو بمفهوم حتى على أنه" أي مفهومها أي العمل به "اتفاق" أي متفق عليه أما عند غير الحنفية فظاهر وأما عندهم فلأنه من قبيل الإشارة كما ذكرنا عن صاحب البديع وغيره "أو بالأصل" الكائن فيها قبل ذلك "وعلى تقديره" أي كونه إثبات مسكوت الكتاب بأحد هذه المذكورات "يرد العود والتحليل إنما جعل" كل منهما "في حرمتها بالثلاث ولا حرمة قبلها" أي الثلاث حرمة الثلاث "فلا يتصور" أي العود إلى الحالة الأولى وهي حالة ملك الزوج الأول عليها ثلاث تطليقات لأن ذلك إذا حرمت بالثلاث وبما دون الثلاث لا تحرم إذ يحل له تزوجها في الحال وكذا إثبات الزوج الحل الجديد إنما هو إذا حرمت بالثلاث وبما دونها لا تحرم بل الحل ثابت فلو أثبت حلا كان تحصيل الحاصل. وما قيل(24/107)
ص -287-…الحل الثابت قبل الثلاث حل يزول بطلقة أو ثنتين والذي يثبته الزوج بعد الطلقة أو الطلقتين حل لا يزول إلا بالثلاث فهو غيره فليس تحصيل الحاصل جوابه أن إثباته في غير ذلك المحل أعني الحرمة الغليظة هو عين محل النزاع الموقوف على الدليل المثبت له فأجيب بأنه بطريق أولى فإنه لما أثبت حلا جديدا في الغليظة كان أولى أن يثبته في الأخف منها أو بالقياس عليها بجامع أنه نكاح زوج بإلغاء كونه في حرمة غليظة لأن الحرمة الغليظة محل والمحل لا يدخل في التعليل وإلا انسد باب القياس فيصير كونه نكاح زوج تمام العلة وهي موجودة في نكاح زوج بعد طلقة ويدفع بأنه موقوف على ثبوت اعتبار الزوج كذلك مطلقا وليس لازما بل يجوز ذلك ويجوز أن اعتباره كذلك إنما هو عند ثبوت حرمة تزوجها الكائنة بعد استيفاء الطلقات وحينئذ يكون كون الحل جديدا ضروريا فالزوج إنما أثبت الحل فقط ثم لزم كونه جديدا بسبب أنه ورد بعد استيفاء جميع الطلقات فهو باتفاق الحال لا بوضع الشرع الزوج لذلك وهذا هو الوجه فإن تسمية الشارع إياه محللا لا يقتضي سوى هذا القدر دون كون الحل يملك فيه الثلاث وإذا كان كذلك ففي عدم الحرمة لا يثبت الزوج حل تزوجها لثبوته ويعود لزوم تحصيل الحاصل كذا ذكره المصنف وقد تضمنت هذه الجملة شرح قوله "فلا يحصل مقصودهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف وهو "هدم الزوج" الثاني "ما دون الثلاث خلافا لمحمد ولا يخفى تضاؤل أنه" أي ما دون الثلاث "أولى به" أي بالحل الجديد من الثلاث "أو" أنه ثابت "بالقياس" عليها "فالحق هدم الهدم".(24/108)
ص -288-…الباب الثالث: السنة
"السنة" وهي لغة "الطريقة المعتادة" محمودة كانت أو لا ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم. "وفي الأصول قوله عليه السلام وفعله وتقريره" مما ليس من الأمور الطبيعية وكأنه لم يذكره للعلم به ثم منهم كالبيضاوي من لم يذكر التقرير لدخوله في الفعل لأنه كف عن الإنكار والكف فعل وقيل القول فعل أيضا فلو تركه جاز اللهم إلا أن يقال اشتهر إطلاق الفعل مقابلا له فيجب ذكره دفعا لتوهم الاقتصار عليه "وفي فقه الحنفية ما واظب على فعله مع ترك ما بلا عذر" فقالوا مع ترك ما بلا عذر "ليلزم كونه" أي المفعول المواظب عليه "بلا وجوب" له إذ الواجب لا رخصة في تركه بلا عذر ولا يخفى عدم شموله لجميع المسنونات "وما لم يواظبه" أي فعله "مندوب ومستحب وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه وعادة غيرهم" أي الحنفية "ذكر مسألة العصمة مقدمة كلامية لتوقف حجية ما قام به صلى الله عليه وسلم عليها" أي العصمة إذ بثبوتها يثبت حقية ما صدر عنه من قول أو فعل "وهي" أي العصمة "عدم قدرة المعصية أو خلق مانع" من المعصية "غير ملجئ" إلى تركها "ومدركها" أي العصمة ومستندها عند المحققين من الحنفية والشافعية والقاضي أبي بكر "السمع وعند المعتزلة" السمع و "العقل أيضا" ثم اختلف في عصمتهم من الذنوب فقال المصنف "الحق أن لا يمتنع قبل البعثة كبيرة ولو" كانت "كفرا عقلا" كما هو قول القاضي وأكثر المحققين "خلافا لهم" أي للمعتزلة "ومنعت الشيعة الصغيرة أيضا وأما الواقع فالمتوارث أنه لم يبعث نبي قط أشرك بالله طرفة عين ولا من نشأ فحاشا، سفيها لنا لا مانع في العقل من الكمال بعد النقص ورفع المانع قولهم" أي المعتزلة والشيعة "بل فيه" أي العقل مانع من ذلك "وهو" أي المانع(24/109)
"إفضاؤه" أي صدور المعصية "إلى التنفير عنهم واحتقارهم" بعد البعثة "فنافى" صدورها عنهم "حكمة الإرسال" وهي اهتداء الخلق بهم "مبني على التحسين والتقبيح العقليين فإن بطل" القول بهما "كدعوى الأشعرية بطل" قولهم "وإلا" لو لم يبطل القول به مطلقا "منعت الملازمة" وهو صدور المعصية منهم مفض إلى التنفير عنهم بعد البعثة واحتقارهم "كالحنفية بل بعد صفاء السريرة وحسن السيرة ينعكس حالهم في القلوب" من تلك الحال إلى التعظيم والإجلال. "ويؤكده" أي انعكاس حالهم حينئذ "دلالة المعجزة" على صدقه وحقية ما أتى به "والمشاهدة واقعة به" أي بانعكاس الحال في القلوب حينئذ "في آحاد انقاد الخلق إلى إجلالهم بعد العلم بما كانوا عليه" من أحوال تنافي ذلك "فلا معنى لإنكاره وبعد البعثة الاتفاق" من أهل الشرائع كافة "على عصمته" أي النبي "عن تعمد ما يخل بما يرجع إلى التبليغ" من الله إلى الخلائق كالكذب في الأحكام إذ لو جاز عليه التقول والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال "وكذا" الاتفاق على عصمته من الكذب "غلطا" ونسيانا فيما يرجع إلى(24/110)
ص -289-…التبليغ "عند الجمهور" لما ذكرنا "خلافا للقاضي أبي بكر لأن دلالة المعجزة" على عدم كذبه فيما يصدر منه إنما هي "على عدم الكذب" في ذلك "قصدا" أي إنما دلت على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان فلا دلالة لها على الصدق فيه فلا يلزم من الكذب فيه نقص لدلالتها "و" على "عدم تقريره على السهو" إذ لا بد من بيانه والتنبيه عليه فإذا لم يرد البيان منه أو من الله دل على أنه صادر قصدا "فلم يرتفع الأمان عما يخبر به عنه تعالى" فانتفى ما قيل يلزم منه عدم الوثوق بتبليغه لاحتمال السهو والغلط وانتفاء دليل للسامع يفرق به بين ما يصدر منه سهوا وغلطا وبين ما يصدر منه قصدا فيختل المقصود بالمعجزة وهو الدلالة على صدقه. "وأما غيره" أي غير ما يخل بما يرجع إلى التبليغ "من الكبائر والصغائر الخسيسة" وهي ما يلحق فاعلها بالأرذال والسفل ويحكم عليه بدناءة الهمة وسقوط المروءة كسرقة كسرة والتطفيف بحبة "فالإجماع على عصمتهم عن تعمدها سوى الحشوية وبعض الخوارج" وهم الأزارقة حتى جوزوا عليهم الكفر فقالوا يجوز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته والفضيلية منهم أيضا فجوزوا صدور الذنب منهم مع اعتقادهم أن الذنب كفر ثم الأكثر على أن امتناعه مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين فيه إذ العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا والمعتزلة على أنه مستفاد من العقل بناء على أصولهم الفاسدة. "و" على "تجويزها" أي الكبائر والصغائر الخسيسة "غلطا وبتأويل خطأ إلا الشيعة فيهما" أي في فعلهما غلطا وفعلهما بتأويل خطأ هذا على ما في البديع وغيره وعبارة المواقف وأما سهوا فجوزوه الأكثرون. قال الشريف والمختار خلافه "وجاز تعمد غيرها" أي الكبائر والصغائر الخسيسة كنظرة وكلمة سفه نادرة في غضب "بلا إصرار عند الشافعية والمعتزلة ومنعه" أي تعمد غيرها "الحنفية وجوزوا الزلة فيهما" أي الكبيرة والصغيرة "بأن(24/111)
يكون القصد إلى مباح فيلزم معصية" لذلك لا أنه قصد عينها "كوكز موسى عليه السلام" أي كدفعه بأطراف أصابعه وقيل بجمع الكف القبطي واسمه فانون فإنه لم يقصد قتله بذلك بل أفضى به ذلك إليه "ويقترن بالتنبيه" على أنها زلة إما من الفاعل كقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي هيج غضبي حتى ضربته فوقع قتيلا فأضافه إليه تسببا أو من الله تعالى كما قال تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أي أخطأ بأكل الشجرة التي نهي عن أكلها، وطلب الملك والخلد بذلك "وكأنه" أي هذا النوع خطأ من حيث إن الأمر الذي أفضى فعله إليه لم يكن مقصودا له "شبه عمد" من حيث الصورة لقصده إلى أصل الفعل "فلم يسموه خطأ" ملاحظة للقصد إلى أصل الفعل "ولو أطلقوه" أي الخطأ عليه كما أطلقه غيرهم "لم يمتنع وكان أنسب من الاسم المستكره" أي الزلة وكيف يمتنع وقد قالوا لو رمى غرضا فأصاب آدميا كان خطأ مع قصده الرمي إلى الآدمي وأما أنه أنسب مطلقا ففيه تأمل بل ربما منع الأنسبية في قصة آدم وما شابهها قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] كما أن الأظهر أن شبه العمد إنما يتحقق في نحو وكز موسى لا مطلقا والله سبحانه أعلم.(24/112)
ص -290-…[فصل في حجية السنة وضرورتها]
"فصل حجية السنة" أعم من كونها مفيدة الفرض أو الوجوب أو الاستنان "ضرورية دينية ويتوقف العلم بتحققها" أي حجيتها "وهي" أي السنة "المتن على طريقه" أي المتن وقوله "السند" بدل من طريقه وقوله "الإخبار عنه" أي عن المتن "بأنه حدث به" أي بالمتن "فلان أو خلق" بدل من السند لأن به يعرف ثبوتها وعدمه، ثم منازل الثبوت ثم تعريف السند بهذا. ذكره ابن الحاجب وغيره وقال السبكي وعندي لو قال: طريق المتن. كان أولى وهو مأخوذ إما من السند ما ارتفع وعلا من سفح الجبل أي أسفله لأن المسند يرفعه إلى قائله أو من قولهم فلان سند أي معتمد لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه "وهو" أي المتن "خبر وإنشاء" وتقدم وجه حصره فيهما في أوائل المقالة الأولى "فالخبر قيل لا يحد لعسره" أي تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي لأن إدراك ذاتيات الحقيقة في غاية العسر كما قيل مثله في العلم "وقيل لأن علمه" أي الخبر "ضروري" وهو اختيار الإمام الرازي والسكاكي "لعلم كل بخبر خاص ضرورة وهو" أي الخبر الخاص "أنه موجود وتمييزه" أي ولتمييز كل الخبر "عن قسيمه" الذي هو الإنشاء "ضرورة" ولذا يورد كل منهما في موضعه ويجاب عن كل بما يستحقه وإذا كان الخبر المقيد الذي هو الخاص ضروريا "فالمطلق" أي الخبر المطلق الذي هو جزؤه "كذلك" أي ضروري بل أولى لاستحالة كون تصور الكل ضروريا مع كون تصور الجزء مكتسبا لتوقف تصور الكل على تصور الجزء وعلى ما يتوقف عليه تصور الجزء. "وأورد" على أصحاب هذا القول "الضرورة تنافي الاستدلال" على كونه ضروريا لأن الضروري لا يقبل الاستدلال "وأجيب بأنه" أي كون الضروري ينافي الاستدلال إنما هو "عند اتحاد المحل" للضرورة والاستدلال "وليس" محلهما هنا متحدا "فالضروري حصول العلم بلا نظر وكونه" أي العلم "حاصلا كذلك" أي على وجه الضرورة "غيره" أي غير حصوله بلا نظر وهو(24/113)
النظري "ولو أورد كذا الحاصل ضرورة يلزمه ضرورية العلم بكونه ضروريا إذ بعد حصوله" أي ذلك العلم الحاصل ضرورة "لا يتوقف العلم الثاني" وهو العلم بكون العلم الحاصل ضروريا "بعد تجريد مفهوم الضروري سوى على الالتفات" أي استحضار مفهوم الضروري وهو ما يحصل بلا نظر "وتطبيق" هذا "المفهوم" على العلم الحاصل فيجده حصل بلا نظر فيعلم كونه ضروريا وهو العلم الثاني "وليس" هذا "النظر" فإن تجريد الطرفين وتوجه النفس مما يلزم في كل ضروري "كان" هذا الإيراد "لازما فالحق أنه" أي الدليل المذكور. "تنبيه" على خفائه ثم كما قال المصنف لما كان منهم من جعل الجواب هنا كالجواب عن قول من قال العلم لا يحد لأنه ضروري لأن كلا يعلم بالضرورة أنه موجود والمطلق جزء إلخ وهو أن العلم حاصل هنا متعلقا بغيره والحصول لا يستلزم تصور الحاصل فيعرف ليصير بنفسه متصورا فأجاب هنا كذلك وهو أن ماهية الخبر حاصل فيما ذكرت من المثال غير متصور فيحد ليصير متصورا ورأى المصنف أنه لا يصح هنا لأن الكلام هنا في الخبر الذي هو متعلق العلم لا في نفس العلم فقولنا يعلم كل أنه موجود يبين(24/114)
ص -291-…أن مضمون أنا موجود وهو الخبر تعلق به العلم فلا يمكن أن يقال فيه إنه غير متصور أصلا بعد فرض أنه معلوم فلم يبق إلا أن يقال تعلق به بوجه والحد لإرادة العلم بحقيقته كما أشار إليه بقوله "والجواب أن تعلق العلم به" أي بالخبر "بوجه لا يستلزم تصور حقيقته" أي الخبر "ضرورة" وتصور حقيقته هو المراد بالتعريف.
ثم إن المصنف اختار أن الخبر ضروري فقال "والظاهر أن إعطاء اللوازم" أي إعطاء كل أحد لازم الخبر للخبر ولازم الإنشاء للإنشاء "من وضع كل" منهما "موضعه" فلا يضع أحد قمت مكان قم ولا عكسه ومن احتمال الصدق والكذب وعدمه "ونفي" كل أحد "ما يمتنع" على كل منهما "عنه" أي كل منهما فلا يقول إن قم يحتمل الصدق والكذب إلى غير ذلك "فرع تصور الحقيقة" وهي المعنى الذي سمينا الدال عليه خبرا وإنشاء "إذ هي" أي حقيقة معنى الخبر والإنشاء هي "المستلزمة" لذلك لأن الحكم على الشيء فرع تصوره. "نعم لا يتصورهما" أي الحقيقتين "من حيث هما مسميا الخبر والإنشاء" أو غيرهما وذلك لا ينفي ضرورية نفسهما كما لو لم تسم الحقائق بأسماء أصلا فإن ذلك لا ينفي كون بعضهما ضروريا فحينئذ إذا عرف الخبر والإنشاء "فيعرفان اسما" أي تعريفا اسميا لإفادة أن مسمى لفظ الخبر كذا ومسمى لفظ الإنشاء كذا "وإن كان" التعريف المذكور "قد يقع حقيقيا" بأن كانت ذاتيات الحقيقة في نفس الأمر هي المسماة بالاسم فإن ذلك لا يضر "فالخبر مركب يحتمل الصدق والكذب بلا نظر إلى خصوص متكلم ونحوه" فمركب جنس لسائر المركبات ويحتمل الصدق والكذب إلخ مخرج لما عدا الخبر منها من مركب إضافي ومزجي وتقييدي وإنشائي وغيرها فإنها ليست كذلك وقال بلا نظر إلى خصوص متكلم ونحوه أي وخصوص الكلام لئلا يظن خروج الخبر المقطوع بصدقه كخبر الله تعالى وخبر رسوله والمقطوع بكذبه كالمعلوم خلافه ضرورة كالنقيضان يجتمعان أو يرتفعان وليس كذلك لأن المراد أنه إذا نظر إلى محصل مفهومه وهو أن المحكوم(24/115)
عليه هو المحكوم فيه أو ليس إياه كان صالحا للاتصاف بكل من الصدق والكذب بدلا عن الآخر فيندرج الخبران المذكوران فيه "وأورد" على هذا التعريف "الدور" أي أنه دوري "لتوقف" كل من "الصدق" والكذب "عليه" أي الخبر "لأنه" أي الصدق "مطابقة الخبر" والكذب عدم مطابقة الخبر وقد فرض توقف الخبر على كل منهما "وبمرتبة" أي وأورد لزوم الدور بمرتبة أيضا "لو قيل التصديق والتكذيب" مكان الصدق والكذب لكن بشرط أن يفسر التصديق بالخبر بصدق المتكلم والتكذيب بالخبر بكذب المتكلم أما لو فسر التصديق بنسبة المتكلم إلى الصدق وهو الخبر عن الشيء على ما هو به والتكذيب بنسبة المتكلم إلى الكذب وهو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو عليه فيلزمه الدور بمرتبتين لتوقف معرفة الخبر على التصديق وهو على الصدق وهو على الخبر. وكذا في التكذيب ولو فسر التصديق بالإخبار عن كون المتكلم صادقا والتكذيب بالإخبار عن كونه كاذبا لزمه الدور بمراتب لتوقف معرفة الخبر على التصديق ومعرفة التصديق على معرفة الصادق ومعرفة الصادق على معرفة الصدق ومعرفة الصدق على معرفة الخبر وكذا في التكذيب وقد أجيب بأن المأخوذ في(24/116)
ص -292-…حد الخبر هو الصدق والكذب اللذان هما صفة الخبر أعني مطابقته للواقع وعدم مطابقته له وما أخذ في حد الخبر صفة للمتكلم وأيضا اللازم فساد تعريف الخبر أو الصدق والكذب للزوم الدور لا تعريف الخبر على التعيين وأيضا كما قال المصنف "إنما يلزم" الدور "لو لزم" ذكر الخبر "في تعريفه" الصدق وكذا في تعريف الكذب "وليس" ذكره لازما فيهما بل يعرفان بحيث لا يتوقف تعريفهما على معرفة الخبر "إذ يقال فيهما" أي الصدق والكذب "ما طابق نفسيه لما في نفس الأمر" تعريفا للصدق أي ما يكون نسبته النفسية مطابقة للنسبة التي في الواقع بأن يكونا ثبوتيتين أو سلبيتين "أو لا" أي وما لا يطابق نفسيه لما في نفس الأمر تعريفا للكذب أي ما يكون إحدى نسبتيه المذكورتين ثبوتية والأخرى سلبية أو يقال هما ضروريان والله سبحانه أعلم.(24/117)
"وقول أبي الحسين" في تعريف الخبر على ما ذكر ابن الحاجب "كلام يفيد بنفسه نسبة" يرد "عليه أن نحو قائم" من المشتقات "عنده" أي أبي الحسين "كلام" لأنه قال في المعتمد الحق أن يقال الكلام هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع على استعمالها في المعاني "ويفيدها" أي قائم النسبة "بنفسه" بناء على أن المراد بنفسه أن يكون النسبة مدلوله الذي وضع له لا أن يكون لازما عقلا وبالنسبة نسبة معنى إلى الذات "وليس" نحو قائم "خبرا" بالاتفاق ولما جعل ابن الحاجب قوله بنفسه لإخراج قائم ونحوه من المشتقات لإفادتها نسبة لا بنفسها بل مع الموضوع الذي هو زيد مثلا وكان ممنوعا عند التحقيق أشار إليه المصنف فقال "وما قيل مع الموضوع ممنوع" بل قائم بنفسه يفيدها لا بقيد المجموع منه ومن الموضوع. "إذ المشتق دال على ذات موصوفة" أي لأن كل مشتق من الصفات وضع لذات باعتبار اتصافها فيفيد النسبة بنفسه إذ قد وضع لذلك فلزمت النسبة حينئذ مدلولة لنفس المشتق وأما مع الموضوع فيفيد النسبة إلى معين فإن الذات التي ينسب إليها الوصف في المشتق مبهمة وبذكر موضوع تتعين ضربا من التعيين "فالموضوع لمجرد تعيين المنسوب إليه" ولا دخل للموضوع في إفادتها هذا على هذا النقل عن أبي الحسين وأما المشهور عنه في تعريفه للخبر فما نقله الآمدي عنه وهو كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر إثباتا أو نفيا والكلام فيه في غير هذا الموضع ذكره المصنف وهو المذكور لأبي الحسين في المعتمد على ما ذكر الأبهري وتراجع حاشيته وحاشية التفتازاني في الكلام عليه "وأما إيراد نحو قم عليه" أي على قول أبي الحسين المذكور بأنه صادق عليه "لإفادته" أي نحو قم "نسبة القيام" إلى المخاطب لأن المطلوب هو القيام المنسوب إليه لا مطلق الطلب وهو ليس بخبر قطعا "فليس" بوارد عليه "إذ لم يوضع" نحو قم "سوى لطلب القيام" أي طلب المتكلم القيام من المخاطب "وفهم النسبة" أي نسبة طلب القيام من(24/118)
المخاطب إلى الطالب ونسبة وقوع القيام من المخاطب إليه أي الحكم بوقوعه منه عند الامتثال "بالعقل والمشاهدة" لفا ونشرا مرتبا "لا يستلزم الوضع" أي وضع نحو قم "لها" أي للنسبة المذكورة بنوعيها "فليس" فهم النسبة "بنفسه" أي لفظ الطلب بل دلالة الطلب على الأول عقلية ولا دلالة له على الثاني أصلا(24/119)
ص -293-…وإنما يعلم بالحس. "وما قيل" أي وما قال ابن الحاجب ووافقه صاحب البديع عليه من أن "الأولى" في تعريفه "كلام محكوم فيه بنسبة لها خارج فطلبت القيام منه" أي الخبر لأنه كلام محكوم فيه بنسبة طلب القيام إلى المتكلم في الزمان الماضي ولها خارج قد يطابقه فيكون صدقا وقد لا يطابقه فيكون كذبا "لا قم" فإنه وإن كان كلاما محكوما فيه بنسبة إلى القيام إلى المأمور ونسبة الطلب إلى الآمر لكن هذه النسبة ليس لها خارج تطابقه أو لا تطابقه لأنها ليست إلا مجرد الطلب القائم بالنفس "فعلى إرادة ما يحسن عليه السكوت بالكلام فلا يرد الغلام الذي لزيد" لأنه لا يحسن عليه السكوت "ولا حاجة إلى محكوم" حينئذ لأنه لا يحسن عليه السكوت حتى يحكم فيه بنسبة وإنما يكفي كلام فيه نسبة لها خارج "بل قد يوهم" التعريف المذكور "أن مدلول الخبر الحكم" للمخبر بوقوع النسبة. "وحاصله" أي الحكم "علم" لأنه إدراك "ونقطع بأنه" أي الخبر "لم يوضع لعلم المتكلم بل" إنما وضع "لما عنده" أي المتكلم من وقوع النسبة واللا وقوعها "فالأحسن" في تعريف الخبر "كلام لنسبته خارج" لاشتماله على الجنس القريب وهو كلام والفصل القريب وهو لنسبته خارج مع الاطراد والانعكاس وعدم إيهام خلاف المراد.(24/120)
"واعلم أنه" أي الخبر "يدل على مطابقته" للواقع وهو الصدق "فإنه يدل على نسبة" تامة ذهنية "واقعة" كما في الإثبات "أو غير واقعة" كما في السلب مشعرة بحصول نسبة أخرى في الواقع موافقة لها في الكيفية وهذه الأخرى مدلولة للخبر بتوسط الأولى وهي المقصودة بالإفادة فإن كانت هذه الأخرى المشعر بها موافقة للأولى كان الخبر صادقا وإلا كان كاذبا ومن ثمة قيل صدق الخبر ثبوت مدلوله معه وكذبه تخلف مدلوله معه ولا استحالة في ذلك لأن دلالة الجملة الخبرية على النسبة الذهنية وضعية لا عقلية ودلالة الذهنية على حصول النسبة الأخرى بطريق الإشعار لا باستلزام عقلي وجاز أن يتخلف عن الجملة الخبرية مدلولها بلا واسطة فضلا عن مدلولها بواسطة وهذا معنى ما قيل مدلول الخبر هو الصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي كما أشار إليه بقوله "ومدلول اللفظ لا يلزم كونه ثابتا في الواقع" بل جاز أن يكون ثابتا وأن لا يكون ثابتا "فجاء احتمال الكذب بالنظر إلى أن المدلول" المذكور هو "كذلك في نفس الأمر أولا" وقد سبق معنى هذا في أقسام المركب وأوضحناه بعبارة أخرى أيضا ثمة.
"وما ليس بخبر إنشاء ومنه" أي الإنشاء "الأمر والنهي والاستفهام والتمني والترجي والقسم والنداء ويسمى الأخيران" أي القسم والنداء "تنبيها أيضا" بل المنطقيون يسمون الأربعة الأخيرة تنبيها وزاد بعضهم كصاحب الشمسية الاستفهام وابن الحاجب وصاحب البديع على أن ما ليس بخبر يسمى إنشاء فإن كان مجرد اصطلاح فسهل وإلا فللبحث فيه مجال "واختلف في صيغ العقود والإسقاطات كبعت وأعتقت إذا أريد حدوث المعنى بها فقيل إخبارات عما في النفس من ذلك" وهو قول الجمهور "فيندفع الاستدلال على إنشائيته" أي هذا(24/121)
ص -294-…النوع "بصدق تعريفه" أي الإنشاء وهو كلام ليس لنسبته خارج عليه "وانتفاء لازم الإخبار من احتمال الصدق والكذب" عليه لأن بعت لا يدل على بيع آخر غير البيع الذي يقع به "لأن ذلك" الاستدلال المذكور إنما يفيد نفي قول القائل بأنه إخبار "لو لم يكن" مراده كونه "إخبارا عما في النفس" بأن أراد الإخبار عن خارج أما إذا أريد أنه إخبار عما في النفس من المعنى فلا وهو ظاهر "وغاية ما يلزم" من هذه بالنسبة إلى عدم احتماله الكذب "أنه إخبار يعلم صدقه بخارج" هو نفس اللفظ بقوله بعت مثلا فإنه يفيد أن معناه قائم بنفسه فيعلم صدقه "كإخباره بأن في ذهنه كذا" أي كما لو قال في ذهنه معنى بعت بعد ما قال بعت "وما استدل" به الإنشائيون من أنه "لو كان خبرا لكان ماضيا" لوضع لفظه لذلك وعدم ورود مغير. "وامتنع التعليق" أي تعليقه بالشرط لأن التعليق توقيف دخول أمر في الوجود على دخول غيره والماضي دخل فيه فلا يتأتى فيه توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره وكلا اللازمين منتف أما الأول فظاهر وأما الثاني فللإجماع على تعلق الطلاق بدخول الدار فيما لو قال لزوجته إن دخلت الدار فقد طلقتك "مدفوع بأنه ماض إذ ثبت في ذهن القائل البيع والتعليق" للطلاق "واللفظ إخبار عنهما" أي البيع والتعليق الكائنين في الذهن فالقابل للتعليق بالتحقيق هو ما في الذهن واللفظ إخبار عنه وإعلام به "وألزم امتناع الصدق لأنه" أي الصدق "بالمطابقة وهي" أي المطابقة "بالتعدد" أي تعدد ما في الواقع والنفسي الذي هو مدلول الكلام "وليس" هنا شيء "إلا ما في النفس وهو" أي ما في النفس "المدلول" أيضا "فلا خارج" فلا مطابقة فلا صدق "وأجيب بثبوته" أي تعدد ما في الواقع والنفسي اعتبارا "فما في النفس من حيث هو مدلول اللفظ غيره" أي غير ما في النفس "من حيث هو فيها" أي في النفس "فتطابق المتعدد" أي فيكون النسبة القائمة بالنفس من حيث إنها مدلول اللفظ مطابقة لها لا من هذه الحيثية(24/122)
بل من حيث هي ثابتة في النفس قال المصنف. "ومبنى هذا التكلف على أنه" أي هذا النوع "إخبار عما في النفس" كما نقله القاضي عضد الدين وغيره "لكن الوجدان شاهد بأن الكائن فيها" أي في النفس "ما لم ينطق ليس" شيئا "غير إرادة البيع لا يعلم قولها" أي النفس "بعتك قبله" أي النطق به "إنما ينطق معه" أي مع بعتك "فهي إنشاءات" لفظها علة لإيجاد معناها.
"ثم ينحصر" الخبر "في صدق إن طابق" حكمه "الواقع" أي الخارج الكائن لنسبة الكلام الخبري بأن كانت نسبته الذهنية موافقة لنسبته الخارجية في الكيف بأن كانتا ثبوتيتين أو سلبيتين "وكذب إن لا" تطابق نسبته الذهنية النسبة الخارجية في الكيف بأن كانت إحداهما ثبوتية والأخرى سلبية سواء اعتقد المطابقة أو عدمها فلا واسطة بينهما وحصره عمرو بن بحر "الجاحظ في ثلاثة" الصادق والكاذب "الثالث ما لا" أي ما ليس بصادق "ولا" كاذب "لأنه" أي الخبر "إما مطابق" للواقع "مع الاعتقاد" للمطابقة "أو" مطابق للواقع مع "عدمه" أي عدم اعتقادها "أو غير مطابق" للواقع. "كذلك" أي مع اعتقاد المطابقة ومع عدم اعتقادها "الثاني منهما" أي من القسمين وهو من الأول المطابق مع عدم اعتقاد المطابقة ويصدق بصورتين اعتقاد عدم المطابقة وعدم اعتقاد شيء أصلا والثاني من الثاني غير المطابق مع عدم اعتقاد(24/123)
ص -295-…عدم المطابقة ويصدق بصورتين أيضا اعتقاد المطابقة وعدم اعتقاد شيء "ليس كذبا ولا صدقا" وهو أربعة أقسام والأول من الأول صدق ومن الثاني كذب فيكون المجموع على قوله ستة واحد صدق وواحد كذب وأربعة واسطة "لقوله تعالى حكاية {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]" أي جنون "حصروا" أي الكفار "قوله" أي النبي صلى الله عليه وسلم {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] "في الكذب والجنة فلا كذب معها" أي الجنة لأنه قسيم الكذب على زعمهم وقسيم الشيء يجب أن يكون غيره "ولم يعتقدوا صدقه" بل هم جازمون بكذبه فهذا حينئذ ليس بكذب ولا صدق ثم هم عقلاء عارفون باللغة فيجب أن يكون من الخبر ما ليس صادقا ولا كاذبا ليكون هذا منهم بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر "والجواب حصروه" أي خبره "في الافتراء تعمد الكذب والجنة التي لا عمد فيها فهو" أي حصرهم خبره إنما هو "في كذب عمد وغير عمد" أي في نوعيه المتباينين ومما يدل على أنه يتنوع إليهما قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وما في الصحيحين وغيرهما "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" "أو" حصروه "في تعمده" أي الكذب "وعدم الخبر" لخلوه عن القصد والشعور المعتد به على ما هو حال المجنون وهو شرط في تحقق حقيقة الكلام فضلا عن الخبر فهو حصر في فرد للشيء ونقيض ذلك الشيء "وقول عائشة في ابن عمر من رواية البخاري ما كذب ولكنه وهم" وعزاه السبكي إلى الصحيحين. "تريد" ما كذب "عمدا" وليس لفظ ما كذب في الصحيحين ولا في أحدهما وإنما في الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فقالت عائشة رحمه الله لم يكذب ولكنه وهم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل مات يهوديا: "أن الميت ليعذب وإن أهله ليبكون عليه" ثم قال حسن صحيح وفي(24/124)
الموطأ وصحيح مسلم أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ "وقيل" أي وقال النظام وموافقوه "الصدق مطابقة الاعتقاد" وإن كان الاعتقاد غير مطابق للواقع "والكذب عدمها" أي مطابقة الاعتقاد وإن كان الاعتقاد مطابقا للواقع فهو كما قال "فالمطابق" للواقع "كذب إذا اعتقد عدمها" أي المطابقة للواقع والمخالف للواقع صدق إذا اعتقد مطابقته له ولا واسطة بين الصادق والكاذب عنده أيضا لأن ما لا يطابق الاعتقاد كاذب كان هناك اعتقاد أو لا "لقوله تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في قولهم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]" المطابق للواقع دون اعتقادهم "أجيب" بأن التكذيب إنما هو "في الشهادة لعدم المواطأة" أي موافقة اللسان القلب فهو راجع إلى خبر ضمني يشعر به تأكيدهم كلامهم بأن واللام وكون الجملة اسمية وهو أن إخبارنا هذا صادر عن صميم قلوبنا وخلوص اعتقادنا ووفور رغبتنا ونشاطنا لا إلى خبرهم المذكور صريحا ومن ثمة قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] "أو فيما تضمنته" الشهادة "من العلم" لأن من قال أشهد بكذا تضمن إني أقوله عن علم وإن كانت الشهادة بمجردها تحتمل العلم والزور وتقيدهما لغة أو في دعواهم الاستمرار على الشهادة في الغيبة والحضور بشهادة الفعل المضارع المنبئ(24/125)
ص -296-…عن الاستمرار أو في المشهود به لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل حيث اعتقدوا أن هذا الخبر غير مطابق للواقع أو أن المراد أنهم قوم شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذه القضية. "والموجب لهذا" التأويل "وما قبله" من تأويل قول عائشة "القطع من اللغة بالحكم بصدق قول الكافر كلمة الحق" كالإسلام حق لكونه مطابقا للواقع مع عدم مطابقة اعتقاده فدل على أن الاعتبار في ذلك لمطابقة الواقع دون الاعتقاد وما ذكره الفريقان ظنون والقطعي لا يترك بالظني بل بالعكس إذا لم يمكن تأويله وإلا كان يدفع بأن التأويل خلاف الأصل. وقال الراغب الأصفهاني الصدق المطابقة الخارجية مع اعتقادها فإن فقد كل منهما سواء صدق فقد اعتقاد المطابقة باعتقاد عدمها أم بعدم اعتقاد شيء فكذب وإن فقد أحدهما يوصف بالصدق من حيث مطابقته للاعتقاد أو للخارج وبالكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو اعتقادها فيه وفي الأسرار الإلهية وقيل إن طابق فصدق وإن لم يطابق فإن علم المتكلم بعدم المطابقة فكذب وإن لم يعلم فخطأ لا كذب وهذا الاصطلاح وعليه قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] لأنهم نسبوه إلى أنه أخطأ في إخباره عن البعث عن غير عمد الكذب فصار في خطابه كذي الجنة لا يدري ما يقول انتهى قلت ويوافقه ظاهرا ما تقدم من قول عائشة أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.(24/126)
"وينقسم" الخبر "باعتبار آخر" أي الحكم بالقطع بصدقه وعدمه "إلى ما يعلم صدقه ضرورة" إما بنفسه أي من غير انضمام غيره إليه وهو المتواتر فإنه بنفسه يفيد العلم الضروري بمضمونه وإما بغيره أي استفيد العلم الضروري بمضمونه بغيره وهو الموافق للعلم الضروري بأن يكون متعلقه معلوما لكل واحد من غير نظر نحو الواحد نصف الاثنين "أو نظرا كخبر الله ورسوله" وأهل الإجماع وخبر من ثبت بأحدها صدقه بأن أخبر الله أو رسوله أو أهل الإجماع بصدقه وخبر من وافق خبره دليل العقل في القطعيات فإن هذا كله علم وقوع مضمونه بالنظر والاستدلال وهو الأدلة القاطعة على صدق الله وصدق رسوله وعصمة الأمة عن الكذب وعلى أن الموافق للصادق صادق "أو" ما يعلم "كذبه بمخالفة ذلك" أي ما يعلم صدقه ضرورة كالإخبار بأن الواحد ضعف الاثنين أو نظرا كالإخبار بأن العالم قديم "وما يظن أحدهما" أي صدقه أو كذبه "كخبر العدل" لرجحان صدقه على كذبه "والكذوب" لرجحان كذبه على صدقه "أو يتساويان" أي الاحتمالان "كالمجهول" أي كخبر مجهول الحال بأن لم يعلم في العدالة وعدمها ولم يشتهر أمره في الصدق والكذب فإن الجهل بحاله يوجب تساوي الاحتمالين. "وما قيل ما لم يعلم صدقه يعلم كذبه" وإلا لنصب على صدقه دليل "كخبر مدعي الرسالة" فإنه إذا كان صدقا دل عليه بالمعجزة كما ذهب إلى هذا بعض الظاهرية "باطل للزوم ارتفاع النقيضين في إخبار مستورين بنقيضين" من غير دليل يدل على صدق أحدهما للزوم كذبهما قطعا ويستلزم اجتماعهما لأن كذب كل من النقيضين يستلزم صدق الآخر "ولزوم الحكم بكفر كثير من المسلمين" فإنهم يقولون كلمة الحق ولا يعلم صدقهم بقاطع وهو باطل بالإجماع والضرورة "بخلاف أهل ظهور العدالة" منهم فإنهم لا يلزم الحكم بكفرهم(24/127)
ص -297-…إذا أتوا بكلمة الحق وقوله "لأنها" أي العدالة "دليل على أن يراد بالعلم الأول" أي الذي في قوله وما قيل ما لم يعلم صدقه يعلم كذبه "الظن" غير واقع موقعه فيما يظهر بل الوجه الظاهر أن يقول بدله ثم هذا دليل على أن يراد بالعلم الأول الظن "وإلا" لو أراد به القطع "بطل خبر الواحد" لأنه يفيد الظن لا القطع إلا من خارج "ولا يقوله" أي بطلان العمل بخبر الواحد "ظاهري فلا يتم إلزام كفر كل مسلم" كما ذكره ابن الحاجب لترجح صدق خبره من حيث هو مسلم على كذبه فلا يصدق عليه أنه لم يعلم صدقه فيعلم كذبه فيلزم اللازم المذكور لفرض أنه علم صدقه أي ظن، والعلم يستعمل بمعنى الظن كما بالعكس وإنما يتم لزوم ارتفاع النقيضين ظنا. وأما تمسكهم بالقياس على الحكم بكذب مدعي الرسالة بلا دليل عليها فجوابه "والحكم بكذب المدعي" الرسالة بلا معجزة "بدليله" أي التكذيب لأن الرسالة عن الله على خلاف العادة وهي تقضي بكذب من يدعي ما يخالفها بلا دليل يدل على صدقه بخلاف الإخبار عن الأمور المعتادة فإن العادة لا تقضي بكذبه من غير مقتض فالقياس فاسد.
تنبيه: ثم الظاهر أن الحكم بكذب مدعي الرسالة بلا دليل على صدقه قطعي قال السبكي على الصحيح وقيل لا يقطع بكذبه لتجويز العقل صدقه هذا ومدعي النبوة أي الإيحاء إليه فقط لا يقطع بكذبه قاله إمام الحرمين وغير خاف أن المراد مدعيها قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(24/128)
"و" ينقسم الخبر "باعتبار آخر" أي السند "إلى متواتر وآحاد فالمتواتر" لغة المتتابع على التراخي واصطلاحا "خبر جماعة يفيد العلم لا بالقرائن المنفصلة" عنه بل بنفسه فخبر جنس شامل له ولخبر الواحد وجماعة تخرج بعض أفراد خبر الواحد وهو خبر الفرد، و "يفيد العلم" يخرج ما كان من خبر الآحاد خبر جماعة غير مفيد للعلم ولا بالقرائن المنفصلة عما يفيده من إخبار جماعة بها سواء كانت عقلية كخبر جماعة بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وخبر جماعة موافق كخبر الله وخبر رسوله أو حسية كخبر جماعة عن عطشهم وجوعهم بشهادة آثار ذلك عليهم أو عادية كخبر جماعة عن موت والدهم مع شق الجيوب وضرب الخدود والتفجع عليه فإن هذه لا تكون متواترة "بخلاف ما يلزم" من القرائن "نفسه" أي الخبر مثل الهيئات المقارنة له الموجبة لتحقيق مضمونه "أو المخبر" أي المتكلم مثل كونه موسوما بالصدق مباشرا للأمر الذي أخبر به "أو المخبر عنه" أي الواقعة التي أخبروا عن وقوعها ككونها أمرا قريب الوقوع أو بعيده فإن حصول العلم بمعونة مثل هذه القرائن لا تقدح في التواتر "وعنه" أي هذا اللازم "يتفاوت عدده" أي المتواتر حتى إن المخبر عنه إذا كان قريب الوقوع يحصل بإخبار عدد أقل من عدد بعيده. "ومنعت السمنية" بضم السين المهملة وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام ذكره الجوهري وفي شرح البديع وهم طائفة منسوبة إلى سومنات بلد مشهور بالهند والبراهمة وهم طائفة لا يجوزون على الله بعثة الرسل "إفادته العلم وهو" أي منعهم "مكابرة لأنا نقطع بوجود نحو مكة والأنبياء والخلفاء" بمجرد الإخبار(24/129)
ص -298-…عن ذلك كما نقطع بالمحسوسات عند الإحساس بها بلا تفرقة بينهما فيما يعود إلى الجزم فكان هذا دليلا قطعيا على إفادة هذا الخبر العلم "وتشكيكهم" أي السمنية في أنه لا يفيده "بأنه كأكل الكل طعاما" أي اجتماعهم على أكل طعام واحد وهو ممتنع عادة "وأن الجميع" مركب "من الآحاد" بل هو نفس الآحاد "وكل" منهم "لا يعلم خبره" أي لا يفيد العلم "فكذا الكل" وإلا انقلب الممكن ممتنعا وهو محال "وبلزوم تناقض المعلومين إذا أخبر جمعان كذلك" أي يفيد خبر كل منهما العلم بنفسه "بهما" أي بذينك المعلومين المتناقضين كما إذا أخبر أحد الجمعين بموت زيد في وقت كذا والجمع الآخر بحياته في ذلك الوقت وهو باطل "و" بلزوم "صدق اليهود في" نقلهم عن موسى عليه السلام "لا نبي بعدي" لأنهم خلق كثير يفيد العلم خبرهم وهو باطل لمنافاته ثبوت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأدلة القاطعة. "و" بلزوم "عدم الخلاف" فيه نفسه حيث قلتم يفيد العلم الضروري "وبأنا نفرق بينه" أي بين العلم الذي يفيده المتواتر "وغيره من الضروريات ضرورة" حتى لو عرضنا على أنفسنا وجود جالينوس وكون الواحد نصف الاثنين وجدنا الثاني أقرب من الأول بالضرورة ولو حصل العلم الضروري بالمتواتر لما فرقنا بينه وبين غيره من البديهيات والمحسوسات لأن الضروريات لا تختلف في الجزم لأن الاختلاف فيه لتطرق احتمال النقيض وهو غير ممكن فيها "تشكيك في ضرورة" فلا يستحق الجواب "وأبعدها" أي هذه التشكيكات "الأول" وهو كونه كاجتماع الجم الغفير على أكل طعام واحد فإنه علم وقوع العلم بالمتواتر من العلم بوجود البلاد النائية والأمم الماضية والوقوع دليل الإمكان فدل على إمكان اجتماع الجم الغفير على خبر واحد والفرق وجود الداعي عادة وعدمه عادة ثمة لأن اختلاف الأمزجة والشهوات مؤثر في اختلاف الداعي إلى المأكول وغير مؤثر في اختلافه إلى الإخبار إذ لا تعلق للمزاج فيه وإنما تعلقه بوقوع(24/130)
المخبر عنه فلا بعد في وقوعه واطلاع الخلق الكثير عليه فيدعوهم إلى نقله "وإنما خيل" أي ظن هذا "في الإجماع عن" دليل "ظني" كما سيأتي مع جوابه في باب الإجماع.
"واختلاف حال الجزء والكل ضروري" ألا يرى أن الواحد جزء من العشرة وليست العشرة جزءا من نفسها ولمجموع طاقات الحبل من القوة ما ليس لطاقة أو طاقتين منها ولشهادة أربعة في الزنا ما ليس لما دونها إلى غير ذلك فلا يلزم من ثبوت أمر لكل من الآحاد على انفراد ثبوته لجملتها ولا يلزم الانقلاب لأن المتواتر قابل للكذب باعتبار ذاته، غير قابل له باعتبار اجتماع النقلة إلى حد يمنع العقل توافقهم على الكذب والممكن لذاته قد يصير ممتنعا. "والثالث" أي لزوم تناقض معلومين بخبرين متواترين بهما "فرض ممتنع" عادة فلا يلتفت إليه "وأخبار اليهود آحاد الأصل" لأن اليهود قلوا في زمان بخت نصر لقتله إياهم ففات شرط التواتر فيه وهو استواء الطرفين والواسطة ولأن القاطع دل على كذبهم فيما نقلوا والخبر إنما يكون متواترا إذا لم يكذبه قاطع "وقد يخالف في الضروري مكابرة كالسوفسطائية" فإن منهم من ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها خيالات باطلة وهم العنانية ومنهم من ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقادات حتى لو اعتقد المعتقد العرض جوهرا والجوهر عرضا فالأمر على ما اعتقده وهم(24/131)
ص -299-…العندية، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولا ثبوته ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهلم جرا وهم اللا أدرية ولا شك أن هذا مكابرة منهم غير مسموعة ومن ثمة كان الحق أن لا طريق إلى مناظرتهم خصوصا اللا أدرية لأنهم لا يعترفون بمعلوم ليثبت به مجهول بل الطريق تعذيبهم بالنار ليعترفوا أو يحترقوا وسوفسطا اسم للحكمة المموهة والعلم المزخرف، ويقال سفط في الكلام إذا النطروني وسفسط الرجل إذا تجاهل فسموا بهذا الاسم لهذيانهم أو تجاهلهم فانتفى التشكيك الخامس.
"والفرق" بين العلم الحاصل بالتواتر وبين غيره من الضروريات إنما هو "في السرعة للاختلاف في الجلاء والخفاء" بواسطة التفاوت في الإلف والعادة والممارسة والإخطار بالبال وتصورات أطراف الأحكام "لا" للاختلاف "في القطع" بواسطة احتمال النقيض والأول غير قادح في الضرورة والثاني منتف فانتفى التشكيك السادس.(24/132)
"ثم الجمهور" من الفقهاء والمتكلمين "على أن ذلك العلم ضروري" لحصوله بلا نظر ولا كسب "والكعبي وأبو الحسين" قالا هو "نظري وتوقف الآمدي قالوا" أي النظريون العلم الحاصل بالتواتر "يحتاج إلى المقدمتين" ليركبا على وجه منتج هكذا "المخبر عنه محسوس فلا يشتبه" وإنما ذكر هذا إشارة إلى وجه اشتراط الإسناد إلى الحس لأن العقلي قد يشتبه على الجمع الكثير كحدوث العالم على الفلاسفة "ولا داعي لهم" أي للجماعة المخبرين "إلى الكذب" لجلب منفعة أو دفع مضرة "وكل ما هو كذلك" أي محسوس غير مشتبه ولا داعي لمخبر به إلى الكذب "صدق" فهذا الخبر صدق ولو كان ضروريا لما احتاج إليهما "قلنا احتياجه" أي العلم بخبر المتواتر "إلى سبق العلم بذلك" أي المقدمتين وترتيبهما على وجه منتج "ممنوع فإنا نعلم علمنا بوجود بغداد من غير خطور شيء من ذلك" بالبال حتى إن ذلك يعلمه من ليس يعلم ترتيب المقدمتين على وجه صحيح من الصبيان وغيرهم "فكان" العلم الحاصل بالخبر المتواتر "مخلوقا عنده" أي الخبر المتواتر لسامعه "بالعادة وإمكان صورة الترتيب" للمقدمتين فيه "لا يوجب النظرية" للعلم الحاصل منه "لإمكانه" أي ترتيبهما "في أجلى البديهيات كالكل أعظم من جزئه" بأن يقال الكل فيه جزء آخر غير جزئه المفضل عليه وكل ما هو كذلك فهو أعظم. "ومرجع الغزالي" حيث قال في المستصفى العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا الموجود لا يكون معدوما فإنه لا بد من حصول مقدمتين إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع والثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه "إلى أنه" أي المتواتر "من قبيل القضايا التي قياساتها معها" كالعشرة نصف العشرين(24/133)
"وظهر" من قولنا نعلم علمنا بوجود بغداد إلى آخره "عدمه" أي عدم قوله أي بطلان قوله "قالوا" أي المنكرون لضرورته "لو كان ضروريا علم ضروريته بالضرورة" لأن حصول العلم للإنسان ولا يشعر بالعلم ولا بكيفية حصوله محال(24/134)
ص -300-…وحينئذ "فلم يختلف فيه" لكن اختلف فيه فليس ضروريا "قلنا" أولا معارض بأنه "لو كان نظريا علم نظريته بالضرورة" لما ذكرتم "لا" التي هي الضرورة لإمكان كون الشيء معلوما ولا تكون صفته معلومة قال المصنف "ولا يخفى أنهم" أي المنكرين للضرورة "لم يلزموا" أهل الضرورة "من الشعور به" أي العلم "الشعور بصفته" أي العلم "بل ألزموا كون العلم بها" أي بصفته "ضروريا ولا يلزم من كونه" أي العلم بها "ضروريا الشعور به" أي بكونه ضروريا "بل الضرورة لا تستلزم الحصول بوجه إذ يتوقف" الشعور بكونه ضروريا "على توجه النفس وتطبيق مفهوم الضروري المشهور" وهو كونه لا يتوقف على نظر وكسب "وليس المتوقف على ذلك" أي توجه النفس وتطبيق مفهوم الضروري "نظريا بل الجواب منع انتفاء التالي" وهو علم ضروريته بالضرورة "وقد مر مثله" آنفا حيث قال قلنا احتياجه إلى سبق العلم بذلك ممنوع "والحق أن الضرورة لا توجب عدم الاختلاف" كما سلف قريبا "فقد ينشأ" الاختلاف "لا من جهة المفهوم بل من الغلط بظن كل متوقف" على غيره نظريا وليس كذلك "وقد انتظم الجواب" القائل احتياجه إلى سبق العلم ممنوع إلخ "دليل المختار" وهو أنه ضروري. "وشروط المتواتر" الصحيحة في المخبرين ثلاثة "تعدد النقلة بحيث يمنع التواطؤ عادة" على الكذب فهذا أحدها "والاستناد" في إخبارهم "إلى الحس" أي إحدى الحواس الخمس لا إلى العقل وتقدم وجهه وهذا ثانيها "ولا يشترط" الاستناد إلى الحس "في كل واحد" منهم كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب حيث قال في اشتراط القاضي والآمدي وغيرهما أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين فيه، غير محتاج إليه لأنه إن أريد الجميع فباطل قال القاضي عضد الدين وغيره لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلدا فيه أو ظانا أو مجازفا قال السبكي وعندي هنا وقفة فقد يقال العلم لا يحصل إلا إذا علم الكل "واستواء الطرفين والوسط في ذلك" أي التعدد والاستناد لأن أهل كل طبقة لهم(24/135)
حكم أنفسهم فيشترط كل منهما فيهم "والعلم بها" أي بهذه الشروط أولا "شرط العلم به" أي بكون الخبر المتواتر مفيدا للعلم "عند من جعله" أي علم المتواتر "نظريا" لأنه الطريق إليه "وعندنا" العلم بالشروط "بعده" أي العلم بالتواتر بخلق الله إياه عند سماعه "عادة" فإن خلق الله تعالى له علما منه علم وجود الشرائط وإلا فلا، فهي شروط له لا يتحقق هو في نفسه إلا بعدها لا شرط العلم به وكيف لا "وقد" يحصل له العلم منه وحاله أنه "لا يلتفت إليها" أي الشروط بل هو ذاهل عن ملاحظتها وأيضا لو كان سبق العلم بالشروط ضابطا لحصول العلم لما اختلف حصوله عند وجودها واللازم باطل لأنه قد يختلف إذ يجوز أن يكون سبق العلم يوجب حصوله لقوم بواقعة لا لغيرهم فيها ولا لهم في غيرها.
"ولا يتعين عدد" مخصوص يتوقف حصول التواتر عليه "وقيل" يتعين فقيل "أقلهم خمسة" لأن الأربعة بينة شرعية في الزنى تجب تزكيتهم لإفادة خبرهم الظن بالإجماع فكيف يفيد اليقين ثم بالأولى ما دونها والإصطخري عشرة لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبارها والعشرين فما زاد جمع الكثرة "واثنا عشر" كعدد نقباء بني إسرائيل المبعوثين طليعة(24/136)
ص -301-…لهم إلى الجبابرة والكنعانيين بالشام فإن كونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك. "وعشرون" لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فيتوقف بعث عشرين لمائتين على إخبارهم بصبرهم وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وأربعون" لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] وكانوا أربعين رجلا كملهم عمر رضي الله عنه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإخبار الله عنهم أنهم كافو النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي إخبارهم عن أنفسهم بذلك ليطمئن قلبه وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وسبعون" لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] أي للاعتذار إلى الله من عبادة العجل وسماعهم كلامه من أمر ونهي ليخبروا قومهم بما يسمعونه، وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وثلثمائة وبضعة عشر عدد أهل غزوة بدر وهي البطشة الكبرى التي أعز الله بها الإسلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمر: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" متفق عليه، وهذا لاقتضائه زيادة احترامهم يستدعي التنقيب عنهم ليعرفوا وإنما يعرفون بإخبارهم فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وعدد أهل بيعة الرضوان وفي عددهم روايات ثلاث في الصحيحين ألف وثلثمائة، ألف وأربعمائة، ألف وخمسمائة. وقال البيهقي رواية ألف وأربعمائة أصح وابن حبان والصحيح ألف وخمسمائة فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وما لا يحصى وما لا يحصرهم بلد" ليمتنع التواطؤ والكل ليس بصحيح بل كما قال(24/137)
"والحق عدمه" أي الحصر بعدد مخصوص "لقطعنا بقطعنا بمضمونه" أي الخبر المتواتر "بلا علم متقدم بعدد" مخصوص "على النظرية" أي الطائفة القائلين بأنه يفيد علما نظريا "ولا" علم "متأخر" بعدد مخصوص "على الضرورية" أي القائلين بأنه يفيد علما ضروريا "وللعلم باختلافه" أي العدد "بحصول العلم مع عدد" خاص "في مادة وعدمه" أي عدم حصوله "في" مادة "أخرى مع مثله" أي العدد الخاص المذكور "فبطل" بهذا أيضا "قول أبي الحسين والقاضي كل خبر عدد أفاد علما" بشيء لشخص "فمثله" أي خبر ذلك العدد "يفيده" أي علما بشيء "في غيره" أي ذلك الشخص، ثم قال تعليلا لاختلاف العدد في إفادته العلم الذي هو مضمون دليل إبطال كون عدد ما إذا أفاد العلم أفاده في كل مادة "للاختلاف في لوازم مضمون الخبر من قربه وبعده ومن ممارسة المخبرين لمضمونه والعلم بأمانتهم وضبطهم وحسن إدراك المستمعين" فإن هذه داخلة في المفيد بنفسه فاختلاف حصول العلم بالأعداد المذكورة واقع بهذه الأسباب ليس غير، وتفاوتها في إيجاب العلم بها مما لا يمكن ضبطه بسيطة فكيف إذا تركب بعضها مع بعض مثنى وثلاث ورباع ثم أمر قول القاضي وأبي الحسين على ما ذكرنا "إلا أن يراد" به "مع التساوي" للخبرين في ذاتيهما ومخبريهما ومخبريهما من كل وجه "فصحيح" حينئذ قولهما لكن التساوي من كل الوجوه(24/138)
ص -302-…"بعيد" جدا لتفاوتهما عادة...1. ثم تلخص من هذه الجملة أنه لا سبيل إلى إناطة حصول العلم بعدد مخصوص في كل فرد من أفراد الأخبار المتواترة لكل سامع به. وكيف والاعتقاد يتزايد بتدريج خفي كما يحصل كمال العقل كذلك للإنسان والقوة البشرية قاصرة عن ضبطه بل الضابط للخبر المتواتر حصول العلم فمتى أفاد الخبر بمجرده العلم تحققنا أنه متواتر وأن جميع شرائطه موجودة وإن لم يفده ظهر عدم تواتره لفقد شرط من شروطه.
"وأما شرط العدالة والإسلام كي لا يلزم تواتر" خبر "النصارى بقتل المسيح" وهو باطل لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء: 157] وإجماع المسلمين "فساقط كشروط اليهود أهل الذلة" والمسكنة أن يكونوا في المخبرين "لخوفهم" أي اليهود "المواطأة" على الكذب من المخبرين إذا لم يكن فيهم هؤلاء بل كان الكل من الأكابر والعظماء لعدم خوفهم من المؤاخذة على الكذب لعزتهم وجاههم بخلاف ما لو كان هؤلاء فيهم فإن خوفهم من المؤاخذة على الكذب لهوانهم يمنعهم منه أما سقوط الأول فلأنه إنما يلزم لو تحقق الشرط المتفق عليه وهو ممنوع لأنه لم يوجد استواء الطرفين والواسطة في العدد المانع من تواطئهم على الكذب فإنه كما قال "وخبرهم آحاد الأصل" فإنهم كانوا في ابتداء أمرهم قليلين جدا بحيث لا يمتنع تواطؤهم على الكذب أو لأن المسيح شبه لهم فقتلوه بناء على اعتقادهم أنه هو كما قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وأما سقوط الثاني فلحصول العلم بإخبار العظماء عن محسوس كغيرهم بل قد يكون العلم من خبرهم أسرع لترفعهم عن رذيلة الكذب لشرفهم وحفظ جاههم بخلاف أهل الذلة والمسكنة فإنهم قد يقدمون على الكذب لقلة مبالاتهم به لدناءة نفوسهم وخستهم وعدم خوفهم من سقوط جاههم والله سبحانه أعلم.(24/139)
"تتميم" وأما شروط المتواتر في المستمعين فثلاثة أحدها كون المستمع أهلا لقبول العلم بالمتواتر ثانيها عدم علمه بمدلول الخبر قبل سماعه وإلا كان تحصيلا للحاصل وهو ممتنع ثالثها أن لا يكون معتقدا بخلاف مدلوله إما لشبهة دليل إن كان من العلماء أو لتقليد إن كان من العوام فإن ارتسام ذلك في ذهنه واعتقاده له مانع من قبول غيره والإصغاء إليه وهذا ذكره البيضاوي من غير حكاية خلاف ولا تعقب ونقله في المحصول عن الشريف المرتضى ثم قال وإنما اعتبره لأنه يرى أن الخبر المتواتر دال على إمامة علي رضي الله عنه وأن المانع من إفادته العلم عند الخصم اعتقاد خلافه وهذا تعقب له بأنه إنما ذهب إليه لهذه الدسيسة لا غير، فإذا هو ساقط الاعتبار عند من سلم منها.
"وينقسم المتواتر إلى ما يفيد العلم بموضوع في أخبار الآحاد" كالأمكنة النائية والأمم
ـــــــــــــــــــ
1 في متن شرح التيسير هنا زيادة وفي الوقوع شرحها بقوله وفي الوقوع معطوف على قوله في لوازم يعني أن الاختلاف الخ كتبه مصححه.(24/140)
ص -303-…الخالية "وغير موضوع في شيء منها" أي أخبار الآحاد "بل يعلم" ذلك الذي هو غير موضوع في شيء منها للسامع "عندها" أي أخبار الآحاد "بالعادة كأخبار علي" رضي الله عنه في الحروب "وعبد الله بن جعفر" في العطاء "يحصل عندها" أي إخبارهما للسامع عادة "علم الشجاعة، والسخاء، ولا شيء منها" أي أخبارهما "يدل على السجية ضمنا، إذ ليس الجود جزء مفهوم إعطاء آلاف" لأن الجود ملكة نفسانية هي مبدأ لإفادة ما ينبغي لمن ينبغي لا لعوض "ولا الشجاعة جزء مفهوم قتل آحاد مخصوصين" لأن الشجاعة ملكة نفسانية تقتضي اعتدال القوة الغضبية "ولا" يدل على السجية "التزاما إلا بالمعنى الأعم" للالتزام "لجواز تعقل قاتل ألفا بلا خطور معنى الشجاعة فما قيل" أي فقول ابن الحاجب إذا اختلف المتواتر في الوقائع "المعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام تساهل" كما هو واضح مما حققناه.(24/141)
"وأما الآحاد فخبر لا يفيد بنفسه العلم" سواء لم يفده أصلا أو أفاده بالقرائن الزائدة فلا واسطة بين الخبر المتواتر وخبر الواحد غير أن هذا التعريف لا يتم على قول أحمد خبر الواحد يفيد العلم بنفسه مطردا وعلى قول بعضهم يفيد بنفسه غير مطرد كما سيأتي "وقيل ما" أي خبر "يفيد الظن واعترض بما" أي بخبر "لم يفده" أي الظن فيبطل عكسه به لصدق المحدود وهو كونه خبر واحد دون الحد "ودفع بأنه" أي الخبر الذي لم يفد الظن "لا يراد" للمعرف أي غير داخل في المحدود "إذ لا يثبت به" أي بالخبر "حكم" والمقصود تعريف الخبر الذي يعتد به في الأحكام ولا يكون متواترا وعلى هذا تثبت الواسطة "وليس" بشيء "إذ يثبت بالضعيف" أي بالحديث الذي ضعفه "بغير وضع" أي كذب "الفضائل وهو الندب" وهو حكم شرعي "ومنه" أي خبر الآحاد "قسم يسمى المستفيض" وهو عند بعضهم "ما رواه ثلاثة فصاعدا أو ما زاد عليها" أي الثلاثة وهو المذكور لابن الحاجب ولا بد من قيد ما لم ينته إلى التواتر وكأنه حذف للعلم به فإن الكلام في غير المتواتر وقال أبو إسحاق الشيرازي أقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان وقال السبكي والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعا وقد صدر عن أصل ليخرج ما شاع لا عن أصل وربما حصلت الاستفاضة باثنين وجعله الأستاذ الإسفراييني وابن فورك واسطة بين المتواتر والآحاد وزعما أنه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة ومثل الإسفراييني بما يتفق عليه أئمة الحديث ورده إمام الحرمين بأن العرف لا يقتضي القطع بالصدق فيه وإنما قصاراه ظن غالب.(24/142)
"والحنفية" قالوا "الخبر متواتر وآحاد ومشهور وهو" أي المشهور "ما كان آحاد الأصل متواترا في القرن الثاني والثالث فبينه" أي المشهور "وبين المستفيض" بأحد التفسيرين الأولين "عموم من وجه" لصدقهما فيما رواه في الأصل ثلاثة أو ما زاد عليها ولم ينته إلى التواتر ثم تواتر في القرن الثاني أو الثالث، وانفراد المستفيض عن المشهور فيما رواه في الأصل ثلاثة أو ما زاد عليها ولم ينته إلى التواتر في القرن الثاني والثالث. وانفراد المشهور عن المستفيض فيما رواه واحد أو اثنان في الأصل ثم تواتر في القرن الثاني أو الثالث "وهو" أي المشهور(24/143)
ص -304-…"قسم من المتواتر عند الجصاص" في جماعة من الحنفية "وعامتهم" أي الحنفية على أن المشهور "قسيم" للمتواتر "فالآحاد ما ليس أحدهما" أي المتواتر والمشهور اتفاقا "والمتواتر عنده" أي الجصاص "ما أفاد العلم بمضمون الخبر ضرورة أو" ما أفاد العلم بمضمون الخبر "نظرا وهو" أي مفيد العلم بمضمون الخبر نظرا "المشهور وعلى هذا" أي أن المشهور يفيد العلم نظرا. "قيل" الجصاص "يكفر" جاحده "بجحده" وعامتهم لا يكفرونه فتظهر ثمرة الاختلاف في الإكفار وعدمه والقائل صدر الإسلام "والحق الاتفاق على عدمه" أي الإكفار كما نص عليه شمس الأئمة السرخسي "لآحادية أصله فلم يكن" جحده "تكذيبا له عليه السلام بل ضلالة لتخطئة المجتهدين" في القبول واتهامهم بعدم التأمل في كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم غاية التأمل "ولأن الإفادة" للعلم "إذا كانت نظرية توقفت عليه" أي النظر "وقد يعجز السامع للمشهور عنه" أي النظر "أو يذهل عنه وحاصل ذلك النظر" الذي هو وصف العلم المفاد بالمشهور على قول الجصاص "الإجماع المتأخر" على "أنه" أي المشهور "صح عنه عليه السلام فيلزم القطع به" أي بالمشهور "قلنا اللازم" من إجماعهم "القطع بصحة الرواية" له "بمعنى اجتماع شرائط القبول لا القطع بأنه" أي المشهور "قاله" النبي صلى الله عليه وسلم "ولو كان" الإجماع المتأخر "على العمل به" أي بالمشهور "فكذلك" أي لا يكفر "لما ذكرنا من معنى الخفاء" فيه وهو العجز والذهول بخلاف إنكار المتواتر فإنه يؤدي إلى تكذيبه صلى الله عليه وسلم لأنه كالمسموع منه وتكذيبه كفر وعلى هذا فلا تظهر ثمرة الخلاف في الأحكام.(24/144)
"ثم يوجب" المشهور عند عامة الحنفية "ظنا فوق" ظن خبر "الآحاد قريبا من اليقين" وهو ما سماه القوم علم طمأنينة إذ هي زيادة توطين وتسكين يحصل للنفس على ما أدركته فإن كان المدرك يقينا فاطمئنانها زيادة اليقين وكماله كما يحصل للمتيقن بوجود مكة بعدما يشاهدها وإليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وإن كان ظنيا فاطمئنانها رجحان جانب الظن بحيث يكاد يدخل في حد اليقين وهو المراد هنا وحاصله سكون النفس عن الاضطراب بشبهة إلا عند ملاحظة كونه آحاد الأصل "لمقولية الظن" على أفراده "بالتشكيك" فبعضها أقوى من بعض في معناه "فوجب تقييد مطلق الكتاب به" أي بالمشهور "كتقييد" مطلق "آية جلد الزاني" الشامل للمحصن وغير المحصن "بكونه غير محصن برجم ماعز" من غير جلد الثابت جملة هذا في الصحيحين وغيرهما. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" رواه مسلم وغيره بل تقييده به من قبيل التقييد بما هو متواتر المعنى "و" تقييد مطلق "صوم كفارة اليمين" الشامل للمتتابع وغيره "بالتتابع بقراءة ابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام متتابعات كما تقدم "لشهرتها" أي قراءة ابن مسعود "في الصدر الأول وهو" أي الشهرة في الصدر الأول "الشرط" في وجوب تقييد مطلق الكتاب به "و" تقييد "آية غسل الرجل" في الوضوء "بعدم التخفف" أي لبس الخف عليها "بحديث المسح" على الخف المخرج في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها "إن لم يكن" حديثه "متواترا" وعليه ما في الاختيار وغيره قال أبو حنيفة من أنكر المسح على(24/145)
ص -305-…الخفين يخاف عليه الكفر فإنه ورد فيه من الأخبار ما يشبه المتواتر وما في النهاية وقال أبو يوسف خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وما في المبسوط جواز المسح بآثار مشهورة قريبة من التواتر وإلا فقد نص ابن عبد البر على أنه متواتر والظاهر أن عليه ما في شرح الطحاوي قال الكرخي أثبتنا الكفر على من لا يرى المسح على الخفين والله تعالى أعلم.
فصل في شرائط الراوي
"منها كونه بالغا حين الأداء" وإن كان غير بالغ وقت التحمل "لاتفاقهم" أي الصحابة وغيرهم "على" قبول رواية "ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وأنس بلا استفسار" عن الوقت الذي تحملوا فيه ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا عبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وسن كل منهما دون العشر فقد اتفق أهل السير والأخبار ومن صنف في الصحابة أن ابن الزبير أول مولود في الإسلام بالمدينة من قريش وأنه ولد في السنة الثامنة ومما حفظه في الصغر ما أخرجه البخاري وغيره عنه أنه قال لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرفعني وأرفعه فإذا رفعني رأيت أبي حين يمر إلى بني قريظة وكان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي بني قريظة فذهب الزبير فلما رجع قلت له يا أبت لقد رأيتك وأنت تمر إلى بني قريظة فقال أما والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع لي أبويه يتفداني بهما فداك أبي وأمي. والخندق إما في السنة الرابعة أو الخامسة فأكثر ما يكون عمره إذ ذاك أربع سنين وبعض أشهر فقد ضبط هذه القصة وهو صغير جدا والنعمان من أقران ابن الزبير وهو أول مولود في الأنصار بعد الهجرة. قال الواقدي ولد على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة ومما صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما في الصحيحين عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه(24/146)
وسلم يقول: "الحلال بين" الحديث وابن عباس وإن جاء عنه في صحيح البخاري ما يدل على أنه أدرك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحمل صغيرا وأدى كبيرا فقد قيل له أشهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ولولا مكاني منه ما شهدته من الصغر. وساق الحديث رواه البخاري أيضا إلى غير ذلك وأما أنس فكان ابن عشر سنين لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعرضته أمه على النبي صلى الله عليه وسلم لخدمته فقبله وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة وقد روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثا ولم ينقل الفحص في شيء منها عن الوقت الذي تلقى فيه ذلك عنه ولو كان التلقي في غير حالة البلوغ غير معتبر لم يغفل الفحص عن وقته ولو في بعضها ولو فحص عنه لنقل ظاهرا ولم ينقل ثم قد كان فيما قبله كفاية "فبطل المنع" أي منع قبوله لكون الصغر مظنة عدم الضبط والتحرير ويستمر المحفوظ إذ ذاك على ما هو عليه.
"وأما إسماعهم الصبيان" للحديث كما جرت به عادة السلف والخلف "فغير مستلزم" قبول روايته بعد البلوغ ألبتة لجواز أن يكون ذلك للتبرك بدليل إحضارهم من لا يضبط لكن(24/147)
ص -306-…هذا إذا لم يتفقوا على رواية ما تحملوه في الصبا بعد البلوغ وقد ادعى بعضهم اتفاقهم على رواية ما تحملوه في الصبا "وقبل المراهق شذوذ مع تحكيم الرأي" فإذا وقع في ظن السامع صدقه قبل روايته كما في المعاملات والديانات. "قلنا المعتمد الصحابة ولم يرجعوا" أي الصحابة "إليه" أي المراهق "واعتماد أهل قباء على أنس أو ابن عمر لسن البلوغ" وهو جواب شمس الأئمة السرخسي عن حجة القائلين بأن رواية الصبي في باب الدين مقبولة وإن لم يكن مقبول الشهادة بحديث أهل قباء حيث قالوا فإن عبد الله بن عمر أتاهم وأخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم وكان ابن عمر يومئذ صغيرا على ما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو يوم أحد على حسب ما اختلف الرواة فيه وهو ابن أربع عشرة سنة وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بعلم وهو الصلاة إلى القبلة ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولكنا نقول إن الذي أتاهم أنس بن مالك وقد روي أنه عبد الله بن عمر فإنا نحمل على أنهما جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك فإنما تحولوا معتمدين على رواية البالغ وهو أنس بن مالك وكان ابن عمر بالغا يومئذ وإنما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعف بنيته لا لأنه كان صغيرا فإن ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا ا هـ وقد مشت هذه الجملة على جماعة من المتأخرين وتعقب الشيخ قوام الدين الأتقاني فيها أمورا أحدها أن المخبر لم يكن ابن عمر بل كان رجلا غيره وإنما كان ابن عمر راوي أخباره كما في صحيح البخاري وغيره ثانيها أن ابن عمر إنما عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. كما ذكره البخاري في صحيحه ثالثها أن تحويل القبلة كان بعد الهجرة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر وأنسا كان ابن عشر سنين(24/148)
كما سلف فكيف يكون بالغا ولم يكمل اثنتي عشرة سنة وأحد كانت في شوال سنة ثلاث فكان عمره ثلاث عشرة سنة وابن عمر كان يومئذ ابن أربع عشرة سنة فهو أكبر من أنس بسنة لا بالعكس. "والمحدثون عباد بن نهيك بن إساف وهو شيخ" أي والذي ذكره المحدثون أن الذي أتاهم عباد بن نهيك بن إساف الشاعر ذكره ابن عبد البر ونقله الأبناسي في رجال العمدة عن ابن سيد الناس وكان شيخا كبيرا فوضع عنه صلى الله عليه وسلم الغزو وهو الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع في صلاة العصر فأخبرهم بتحويل القبلة فاستداروا إلى الكعبة حكاه المصنف وقيل عباد بن بشر بن قيظي الأشهلي ذكره الفاكهي في أخبار مكة قال شيخنا الحافظ العسقلاني وهذا أرجح رواه ابن أبي خيثمة وغيره ا هـ. وليس هو برفيق أسيد بن حضير في المصباحين كما نبه عليه العلامة البلقيني وقيل عباد بن وهب قال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي ولا أعلم أحدا في الصحابة بهذه النسبة إلا أن يكون أحد منهم نسب إلى خلاف الظاهر ا هـ. والذي في صحيح البخاري من رواية البراء بن عازب أن الرجل المبهم صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فمر على أهل المسجد وهم راكعون. وفي رواية له: ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار(24/149)
ص -307-…في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس الحديث وفي الترمذي: فصلى رجل معه العصر ثم مر على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر. وأما ما في الصحيحين من رواية ابن عمر: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها. الحديث فقال شيخنا الحافظ في مقدمة شرح البخاري لم يسم هذا ومن فسر بالذي قبله فقد أخطأ لأن الصلاة في حديث البراء كانت صلاة العصر وهذه الصبح وذاك مسجد بني حارثة وذا مسجد قباء ثم قال في الشرح مشيرا إلى حديث ابن عمر وهذا فيه مغايرة لحديث البراء فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر. والجواب أن لا منافاة بين الخبرين لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر أو ابن نهيك كما تقدم ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر ولم يسم الآتي بذلك إليهم وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه عباد بن بشر ففيه نظر لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر فإن كان ما نقلوا محفوظا فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أولا في وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في الصبح ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى من حديث أنس أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة وبنو سلمة غير بني حارثة ا هـ وحكى النووي في شرح المهذب عن الجمهور قبول أخبار الصبي المميز فيما طريقه المشاهدة بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء ورواية الأخبار ونحوه وسبقه إلى ذلك المتولي.
"والمعتوه كالصبي" في حكمه لاجتماعهما في نقصان العقل بل ربما كان نقصانه بالعته فوق نقصانه بالصبا إذ قد يكون الصبي أعقل من البالغ والمعتوه لا.(24/150)
"ثم قيل سن التحمل خمس" حكاه القاضي عياض عن أهل الصنعة وقال ابن الصلاح هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين "لعقلية محمود المجة ابن خمس في البخاري" أي لما روى هو والنسائي عن محمود بن الربيع قال عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين. "أو" ابن "أربع" فقد قال ابن عبد البر حفظ ذلك عنه وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين والمجة الواحدة من المج وهو إرسال الماء من الفم مع النفخ وقيل لا يكون مجا حتى يتباعد به "وقيل" أقل سن التحمل "أربع لذلك" أي كون محمود المذكور كان سنه أربعا "ولتسميع ابن اللبان" وهو مصدر مضاف إلى المفعول أي تسميع أبي بكر بن المقري للقاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن اللبان الأصفهاني وهو ابن أربع سنين قال شيخ شيوخنا الحافظ زين الدين العراقي فروينا عن الخطيب قال سمعته يقول حفظت القرآن ولي خمس سنين وأحضرت عند أبي بكر بن المقري ولي أربع سنين فأرادوا أن يسمعوا لي فيما حضرت قراءته فقال بعضهم إنه يصغر(24/151)
ص -308-…عن السماع فقال لي ابن المقري اقرأ سورة الكافرون فقرأتها فقال اقرأ سورة التكوير فقرأتها فقال لي غيره اقرأ سورة والمرسلات فقرأتها ولم أغلط فيها فقال ابن المقري سمعوا له والعهدة علي. وقال ابن الصلاح بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال رأيت صبيا ابن أربع سنين وقد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير أنه إذا جاع يبكي ورواه الخطيب بسنده إلا أن فيه أحمد بن كامل القاضي وكان يعتمد على حفظه فيهم. وقال الدارقطني كان متساهلا قلت ولما تقدم عن ابن الزبير. وقال السلفي أكثرهم على أن العربي يصح سماعه إذا بلغ أربع سنين واحتجوا بحديث محمود بن الربيع وأن العجمي يصح سماعه إذا بلغ ست سنين.(24/152)
"وصحح عدم التقدير بل" المناط في الصحة "الفهم والجواب" فمتى كان يفهم الخطاب ويرد الجواب كان سماعه صحيحا وإن كان ابن أقل من خمس وإن لم يكن كذلك لم يصح وإن زاد عليها وما ذاك إلا "للاختلاف" أي اختلاف الصبيان بل أفراد الإنسان في فهم الخطاب ورد الجواب فلا يتقيد في حق الكافة بسن مخصوص "وحفظ المجة وإدراك ابن اللبان لا يطرد" كل منهما فلا يلزم من حفظ محمود المجة حفظ ما سواها مما يسمعه من الحديث ولا أن كل أحد يميز تمييز محمود في سنه ولا أن لا يعقل مثل ذلك وسنه أقل من سنه ولا من إدراك ابن اللبان في أربع إدراك غيره من الناس في أربع وكذا الكلام في الاسترواح بما تقدم عن ابن الزبير والصبي الذي رآه إبراهيم الجوهري ليلزم أن كل من كان ابن أربع صح تحمله "وهذا" أي كون الصحيح عدم التقدير بسن خاص "يوقف الحكم بقبول من علم سماعه صبيا على معرفة حاله في صباه" فيعطى لما يعلم من حاله حكمه من الصحة وعدم الصحة "أما مع عدمها" أي معرفة حاله "فيجب اعتبار التمييز لسبع"1 من السنين أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين" صححه غير واحد، منهم البيهقي على شرط مسلم وقيل أحسن ما قيل في سن التمييز أن يصير الصغير بحيث يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده "وأفرط معتبر خمسة عشر" حتى قال عنه أحمد بئس القول وهو محكي عن ابن معين وهو عجب من هذا العالم المكين. وقيل متى فرق بين البقرة والحمار وهو منقول عن موسى بن هارون الحمال "والإسلام كذلك" أي ومنها كون الراوي مسلما حين الأداء "لقبول" رواية "جبير في قراءته" أي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ "في المغرب بالطور. في الصحيحين" مع أن سماعه إياها منه صلى الله عليه وسلم إنما كان قبل أن يسلم لما جاء في فداء أسارى بدر "ولعدم الاستفسار" عن مرويه هل تحمله في حالة الكفر أو الإسلام ولو كان تحمله حالة الإسلام شرطا لاستفسر ولو استفسر لنقل ولم ينقل(24/153)
"بخلافه" أي أدائه "في الكفر" فإنه لا يقبل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية "وهو" أي الفاسق "الكافر بعرفهم"
ـــــــــــــــــــ
1 قوله اعتبار التمييز سبع هكذا في النسخ وعبارة شرح التيسير مع المتن فيجب اعتبار السن الغالب في التمييز أي الذي يحصل فيه التمييز غالباً [سبع] عطف بيان للغالب اهـ كتبه مصححه.(24/154)
ص -309-…أي السلف "وهو" أي الكافر "منه" أي ممن صدق عليه الفاسق لأنه اسم للخارج عن طاعة الله والكافر خارج عن طاعة الله "وللتهمة" أي تهمة العداوة الدينية لأن الكلام فيما يثبت به الأحكام والكافر عدونا في الدين فربما تحمله العداوة الدينية على السعي في هدم الدين بإدخال ما ليس منه فيه تنفيرا للعقلاء عنه "والمبتدع بما هو كفر" كغلاة الروافض والخوارج "مثله" أي الكافر الأصلي "عند المكفر" وهو الأكثرون على ما قال الآمدي واختاره ابن الحاجب بجامع الفسق والكفر "والوجه خلافه" أي خلاف هذا القول وهو إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته وإلا فلا كما اختاره الإمام الرازي والبيضاوي وغيرهما "لأنه" أي ابتداعه بما هو مكفر له "بتأويل الشرع" فكيف يكون كالمنكر لدين الإسلام ثم اعتقاده حرمة الكذب يمنعه من الإقدام عليه فيغلب على الظن صدقه فوجد المقتضي للقبول والأصل عدم المعارض وقال شيخنا الحافظ العسقلاني وقيل التحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله "وغيره" أي المبتدع بما هو كفر "كالبدع الجلية كفسق الخوارج" وهم سبع فرق ضالة لهم ضلالات فاضحة وأباطيل واضحة على اختلاف بينهم في أصنافها يعرف في كتب الكلام "وفيها" أي البدع الجلية مذهبان "الرد" للشهادة والرواية لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] وهو فاسق "والأكثر القبول" لما اشتهر بين الأصوليين والفقهاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" فإن قول صاحب هذه البدعة ظاهر الصدق إذا ظن صدقه إلا أن هذا الحديث قال شيخنا الحافظ لا(24/155)
وجود له في كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المشهورة وقد سئل المزي عنه فلم يعرفه والذهبي قال لا أصل له. وقال ابن كثير يؤخذ معناه من حديث أم سلمة في الصحيحين "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار" ونقل عن مغلطاي أنه رأى له في كتاب يسمى إدارة الأحكام لإسماعيل بن علي الخيزوني في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختصما في الأرض قال فقال أحدهما قضيت لي بحقي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" قال شيخنا ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري هل ساق له إسماعيل المذكور إسنادا أو لا "ولا يعارض" هذا المروي "الآية لتأولها بالكافر أو" بأن المراد به من هو مرتكب فسقا "بلا تأويل أنه" أي الفسق "من الدين" وهذا مرتكب فسقا بتأويل أنه من الدين "بخلاف استدلالهم" أي الأكثرين "أجمعوا على قبول قتلة عثمان وهي" أي بدعة قتلته "جلية" لذوي العقول المرضية "رد بمنع إجماع القبول" لروايتهم. قال السبكي بل الإجماع قائم على رد روايتهم وهذا في غاية الوضوح فإن قتلة عثمان إن كانوا مستحلين قتله فلا ريب في(24/156)
ص -310-…كفرهم والكافر مردود بالإجماع وإن كانوا غير مستحلين فلا ريب في فسقهم بفسق ظاهر فترد روايتهم وقال شيخنا الحافظ الذي ادعى الإجماع في هذا مجازف فإنه إن كان المراد من باشر قتله فليس لأحد منهم ممن ثبت عنه ذلك رواية أصلا وإن كان المراد من حاصره أو رضي بقتله فأهل الشام قاطبة مع من كان فيهم من الصحابة وكبار التابعين إما مكفر لأولئك وإما مفسق. وأما غير أهل الشام فكانوا ثلاث فرق فرقة على هذا الرأي وفرقة ساكتة وفرقة على رأي أولئك فأين الإجماع "ولو سلم" قبول رواية قتلته "فليس" قتل عثمان "منها" أي البدع الجلية بل كان ذلك مذهبا لبعض القتلة "لأن بعضهم يراه" أي قتله حقا "اجتهاديا فلا يفسقهم ونقل" هذا "عن عمار وعدي بن حاتم" من الصحابة ذكرهما الأصفهاني وغيره "والأشتر" في جماعة وفي هذا ما فيه فالوجه الاكتفاء بالأول. "وأما غير" البدع "الجلية كنفي زيادة الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة والقدرة والعلم والإرادة وغيرها لله تعالى على الذات كما عليه المعتزلة وموافقوهم على اختلاف عبارتهم في التعبير عن ذلك فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه إلى غير ذلك "فقيل تقبل اتفاقا" قاله القاضي عضد الدين "وإن ادعى كل" من المتخالفين "القطع بخطأ الآخر لقوة شبهته عنده وإطلاق فخر الإسلام" وموافقيه "رد من دعا إلى بدعته وقبول غيره" أي غير الداعي إلى بدعته لأن ذلك منه قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه وعزي إلى مالك وأحمد وعزاه ابن حبان إلى المحدثين بلفظ ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره وقال ابن الصلاح وغيره وهذا مذهب الكثير أو الأكثر وهو أعدل الأقوال وأولاها "يخصصه" أي إطلاق عدم قبول ذي البدعة الجلية اتفاقا "لاقتضائه" أي إطلاق فخر الإسلام "رد الداعي من نفاة الزيادة"(24/157)
للصفات على الذات إلى بدعته هذه بل قال ابن حبان الداعية إلى البدعة لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه اختلافا. كذا ذكره الشيخ زين الدين العراقي ويوافقه قول الحاكم في علوم الحديث الداعي إلى الضلال متفق على ترك الأخذ منه فعلى هذا قول شيخنا الحافظ وأغرب ابن حبان فادعى الاتفاق على قبول الداعية من غير تفصيل سهو قال العراقي وهكذا حكى بعض أصحاب الشافعي أنه لا خلاف بين أصحابه أنه لا يقبل الداعية وأن الخلاف فيمن لم يدع إلى بدعته وقال فخر الإسلام على هذا أئمة الفقه والحديث كلهم لأن المحاجة والدعوة إلى الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه لأنه لم يثبت عنده ما عزا الخطيب إلى جماعة من أهل النقل والمتكلمين أنه يقبل أخباره مطلقا وإن كان كافرا أو فاسقا بالتأويل أو لعدم الاعتداد بهذا القول ولم يثبت عنده أيضا ما عزاه الخطيب إلى ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والشافعي من أن المبتدع إن لم يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه قبل دعا إلى بدعته أو لا؟ وإن كان ممن يستحل ذلك ولم يقبل "وتعليله" أي فخر الإسلام وكذا غيره رد الداعي إلى بدعته "بأن الدعوة داع إلى التقول" أي الكذب "يخصصه" أي الرد "برواية" الداعي(24/158)
ص -311-…ما هو على "وفق مذهبه" لأن الظاهر أنه المراد من التعليل المذكور وصرح به بعضهم أيضا لأنه الذي يتمشى فيه ومن هنا نص شيخنا الحافظ على أن المختار رد رواية المبتدع ما يقوي بدعته إذا لم يكن داعية كما إذا كان داعية قال وبه صرح الحافظ الجوزجاني في كتابه معرفة الرجال فقال ومنهم زائغ عن الحق أي السنة صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم تقو به بدعته ا هـ وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية "لا مطلقا" كما هو ظاهر كلام ابن حبان السالف عن أهل الحديث "وتعليله" أي فخر الإسلام "قبول شهادة أهل الأهواء" جمع هوى مقصور وهو الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع والمراد المبتدعون المائلون إلى ما يهوونه في أمر الدين "إلا الخطابية" من الرافضة المنسوبين إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب وقيل ابن أبي زينب الأسدي الأجدع كان يزعم أن عليا الإله الأكبر وجعفر الصادق الإله الأصغر وفي المواقف قالوا الأئمة أنبياء وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته بل زادوا على ذلك الأئمة آلهة والحسنان ابنا الله وجعفر إله لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي فقبحهم الله تعالى ما أشد غباوتهم وأعظم فريتهم فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا كرامة وكيف وقد شاع أيضا كونهم الفرقة "المتدينين بالكذب لموافقهم أو للحالف" لهم على صدقه "بأن صاحب الهوى وقع فيه" أي في الهوى "لتعمقه" في الدين "وذلك" أي تعمقه في الدين "يصده" أي يمنعه "عن الكذب أو يراه" أي الكذب "حراما يوجب قبول الخوارج كالأكثر" لعدم استثنائهم من أهل الأهواء وعدم شهرة تدينهم بالكذب لموافقهم والحالف لهم ثم حيث قبلوا في الشهادة فكذا في الرواية. وهذا في المعنى ما عزاه الخطيب إلى ابن أبي ليلى ومن معه كما ذكرناه آنفا لكن في شرح القدوري للأقطع قال محمد في الخوارج ما(24/159)
لم يخرجوا إلى قتال أهل العدل فشهادتهم جائزة لأنهم لم يظهروا من أنفسهم الفسق وإنما اعتقدوه فإذا قاتلوا فقد أظهروا الفسق فلم تقبل شهادتهم ثم إن فخر الإسلام فرق في الداعي إلى بدعته بين الشهادة والرواية بالقبول في الشهادة وعدمه في الرواية بأن المحاجة والدعوة لا تدعو إلى التزوير في حقوق الناس فلم ترد شهادة صاحبها بخلافها في روايات الأخبار كما تقدم آنفا، ثم ظاهر كون، وتعليله مبتدأ وبأن صاحب الهوى متعلق به ويوجب قبول الخوارج خبره هذا ثم الظاهر أنه لم يثبت عند المقتصر على تعليل رد شهادة الخطابية بتدينهم الكذب لموافقهم أو الحالف على صدقه ما تقدم آنفا عنهم فإن ذلك منهم يوجب كونهم كفارا بالله العظيم ولا شهادة لكافر على مسلم ولا قبول لروايته في الدين والله تعالى أعلم.
"وأما شرب النبيذ" من التمر أو الزبيب إذا طبخ أدنى طبخه وإن اشتد ما لم يسكر من غير لهو "واللعب بالشطرنج" بالشين معجمة ومهملة مفتوحة ومكسورة والفتح أشهر بلا قمار به "وأكل متروك التسمية عمدا من مجتهد ومقلده" أي المجتهد "فليس بفسق" إذ لو فسقنا بشيء من هذا لفسقنا بارتكاب عمل متفرع على رأي يجب عليه الحكم بموجبه فإن على(24/160)
ص -312-…المجتهد اتباع ظنه وعلى المقلد اتباع مقلده وإنه باطل "ومنها رجحان ضبطه على غفلته ليحصل الظن" بصدقه إذ لا يحصل بدونه والحجة هي الكلام الصدق "ويعرف" رجحان ضبطه "بالشهرة وبموافقة المشهورين به" أي بالضبط في روايتهم في اللفظ والمعنى "أو غلبتها" أي الموافقة "وإلا" إن لم يعرف رجحان ضبطه بذلك "فغفلة وأما" ضبط المروي "في نفسه" أي الراوي "فللحنفية توجهه بكليته إلى كله عند سماعه ثم حفظه بتكريره ثم الثبات" عليه "إلى أدائه" "ومنها العدالة حال الأداء وإن تحمل فاسقا إلا بفسق" تعمد "الكذب عليه عليه السلام عند أحمد وطائفة" كأبي بكر الحميدي شيخ البخاري والصيرفي فإنه عندهم يوجب منع قبول روايته أبدا وكأنه لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وهو ثابت بالتواتر كما ذكره ابن الصلاح ولما فيه من عظم المفسدة لأنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة حتى ذهب أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين إلى أنه يكفر ويراق دمه لكن ضعفه ولده وعده من هفواته وقال الذهبي ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر ينقل عن الملة ثم قال ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض "والوجه الجواز" لروايته وشهادته. "بعد ثبوت العدالة" لأنه كما قال النووي المختار القطع بصحة توبته من ذلك وقبول روايته بعد صحة التوبة بشروطها وقد أجمعوا على قبول رواية من كان كافرا ثم أسلم وعلى قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة.(24/161)
"وهي" أي العدالة "ملكة" أي هيئة راسخة في النفس "تحمل على ملازمة التقوى" أي اجتناب الكبائر لأن الصغائر مكفرة باجتنابها لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] "والمروءة" بالهمز ويجوز تركه مع تشديد الواو وهي صيانة النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس وقيل أن لا يأتي ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل وقيل السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنيء والسخف رقة العقل.
"والشرط" لقبول الرواية والشهادة "أدناها" أي العدالة "ترك الكبائر والإصرار على صغيرة" لأن الصغائر قل من سلم منها إلا من عصمه الله والإصرار كما قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ا هـ ومن هنا قيل لا حاجة إلى ذكر ترك الإصرار على صغيرة لدخوله في ترك الكبائر لأن الإصرار على الصغيرة كبيرة. قلت ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" رواه الطبراني في مسند الشاميين والقضاعي في مسند الشهاب وابن شاهين فلعل ذكره مخافة توهم عدم دخوله في ترك الكبائر أو موافقة لمن قال إنها لا تصير بالإصرار كبيرة كما أن الكبيرة لا تصير بالمواظبة كفرا ولو اجتمعت الصغائر مختلفة النوع يكون حكمها حكم الإصرار على الواحدة إذا كانت بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به(24/162)
ص -313-…الإصرار على أصغر الصغائر قاله ابن عبد السلام "وما يخل بالمروءة" أي وترك الإصرار عليها أيضا.
"وأما الكبائر فروى ابن عمر الشرك والقتل وقذف المحصنة والزنى والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم أي الظلم وفي بعضها" أي الطرق "اليمين الغموس" وهذه الجملة لم أقف عليها مجموعة في رواية عن ابن عمر لا مرفوعة ولا موقوفة ثم قول شيخنا الحافظ وقع له مجموع الجملة الأولى كما هي كذلك في مختصر ابن الحاجب في رواية موقوفة وفي أخرى مرفوعة لكن تصحف الربا بالزنى لم يظهر ذلك من سياق بيانه بل إنما ظهر منه وجود ذلك في روايات مختلفة الطرق فإنه أسند إلى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى ابن عمر موقوفا إنما هي تسع: الإشراك بالله وقتل نسمة يعني بغير حق وقذف المحصنة والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم والذي يستسحر والإلحاد في المسجد يعني الحرام وبكاء الوالدين من العقوق ثم قال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث طيسلة بن مياس ثم ذكر أنه روي عنه مرفوعا من طريق أيوب بن عتبة عن طيسلة مثل هذا السياق لكن بتقديم وتأخير والموقوف أصح إسنادا لأن أيوب بن عتبة موصوف بسوء الحفظ. وقد اختلف عليه أيضا في عد الخصال فرواه البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن أيوب كما ذكرنا ورواه حسين بن محمد عن أيوب فأسقط خصلتين ثم أسند إلى حسين عن أيوب عن طيسلة قال سألت ابن عمر عن الكبائر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قلت أقبل الدم؟ قال: "نعم، ورغما، وقتل النفس والفرار يوم الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين" وكذا أخرجه الخطيب في الكفاية من طريق الأصم عن عباس الدوري وخالفه حسن بن موسى عن أيوب بن عتبة فذكر الزنى بدل خصلة من السبع أخرجه البرديجي وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد الجريري أن رجلا جاء إلى ابن عمر فذكر الحديث وعد الخصال كما في(24/163)
رواية حسين بن محمد لكن ذكر بدل الفرار من الزحف اليمين الفاجرة ورجال هذا رجال الصحيح لكن الجريري لم يلق ابن عمر فإن كان حمله عن ثقة فمتابعة قوية لرواية طيسلة. وإذا جمعت الخصال في هذه الطرق زادت خصلتين على التسع وهما الزنى واليمين الفاجرة وأقوى طرقه الرواية الأولى ثم قال حدثنا شيخ الإسلام أبو الفضل بن الحسين الحافظ فذكر سنده إلى عمير الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولياء الله المصلون ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله على عباده ومن يؤتي زكاة ماله طيبة بها نفسه ومن يصوم رمضان يحتسب صومه ويجتنب الكبائر" فقال رجل من أصحابه يا رسول الله وكم الكبائر قال: "هي تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار يوم الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا لا يموت رجل لم يعمل بهذه الخصال ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان إلا رافق محمدا في بحبوحة(24/164)
ص -314-…جنة أبوابها مصاريع الذهب" قال شيخنا حديث حسن أخرجه أبو داود مقتصرا على ذكر الكبائر دون أول الحديث وآخره والحاكم بتمامه وقال قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان ا هـ ملخصا.
"وزاد أبو هريرة أكل الربا" كذا قال ابن الحاجب وظاهره كما قال شيخنا الحافظ أنه لم يقع في حديث ابن عمر وليس كذلك لثبوته في جميع طرقه كما تقدم ثم هو أيضا في رواية أبي هريرة مرفوعا في الصحيحين "اجتنبوا السبع الموبقات" الحديث وفي رواية عنه في مسند البزار وتفسير ابن المنذر بلفظ الكبائر الشرك بالله. الحديث. فيستفاد من ذلك كما قال شيخنا الحافظ أن الكبيرة والموبقة مترادفتان فلا يتم قول السبكي الموبقة أخص من الكبيرة وليس في حديث أبي هريرة الكبائر "وعن علي إضافة السرقة وشرب الخمر" إلى الكبائر أيضا ذكره ابن الحاجب أيضا لكن قال ابن كثير لم أقف عليه وسألت المشايخ عنه فلم يحضرهم فيه شيء. وقال السبكي والسرقة لا نعرف لها إسنادا عنه كرم الله وجهه والخمر روي عنه أن مدمنه كعابد وثن ا هـ وهذا أخرجه أبو نعيم عنه مرفوعا قال: "قال لي جبريل يا محمد إن مدمن خمر كعابد وثن" ثم قال صحيح غريب والبزار وأبو نعيم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "شارب الخمر كعابد وثن" نعم عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم الزاني والسارق وشارب الخمر ما تقولون فيهم" قالوا الله ورسوله أعلم قال "هن فواحش وفيهن عقوبة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز فقال ألا وقول الزور ألا وقول الزور" قال شيخنا الحافظ حسن غريب من حديث الحسن عزيز من حديث قتادة أخرجه الطبراني في مسند الشاميين وابن أبي حاتم في التفسير والبيهقي والبخاري في الأدب المفرد وعن شعبة مولى ابن عباس قال قلت لابن عباس إن الحسن بن علي سئل عن الخمر أمن الكبائر هي قال لا فقال ابن عباس فلم قالها النبي صلى(24/165)
الله عليه وسلم "إذا شرب سكر وزنى وترك الصلاة فهي من أكبر الكبائر" قال شيخنا الحافظ كذا وقع في أصل سماعنا لكن ضبب على لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الصواب أنه موقوف وكذا أخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه من وجه آخر "وفي" الحديث "الصحيح" المتفق عليه "قول الزور وشهادة الزور" معدودان من الكبائر ومن أكبر الكبائر أيضا وهل يتقيد المشهود به بقدر نصاب السرقة تردد فيه ابن عبد السلام وجزم القرافي بعدم التقيد به. وقال ولو لم تثبت إلا فلسا.
"ومما عد" من الكبائر أيضا نقلا عن العلماء على ما في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي "القمار والسرف وسب السلف الصالح" أي الصحابة والتابعين وقوله "والطعن في الصحابة" من عطف الخاص على العام "والسعي في الأرض بالفساد في المال والدين وعدول الحاكم عن الحق". قلت وفي هذه نصوص من الكتاب والسنة تفيد تحريمها معروفة في مواضعها وأما النص الصريح السمعي على أنها كبائر فالله تعالى أعلم بذلك نعم يستفاد كونها كبائر من بعض ضوابطها كما هو ظاهر للمتأمل ويكاد أن يكون كل من آية المحاربة(24/166)
ص -315-…ومن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" رواه الترمذي نصا صريحا في كون السعي في الأرض بالفساد والحكم بغير الحق والطعن في الصحابة كبيرة "والجمع بين صلاتين بلا عذر" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر" رواه الترمذي ولا شك أن تركها بالكلية بلا عذر أولى بذلك أيضا "وقيل الكبيرة ما توعد عليه" أي ما توعد الشارع عليه "بخصوصه" قال الرافعي وهو أكثر ما يوجد للأصحاب وقال شيخنا الحافظ وهذا القول جاء عن جماعة من السلف وأعلاهم ابن عباس فأخرج الطبري في التفسير عنه قال كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعن أو عذاب فهو كبيرة ولعل هذا هو السبب في قول ابن عباس لما سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب أخرجه الطبري وإسماعيل وغيرهما بأسانيد مختلفة وبألفاظ مختلفة وفي بعضها أو سبعمائة وكأنها شك من الراوي أو مبالغة وقيل ما يوجب الحد. قال الرافعي وهم إلى ترجيحه أميل ا هـ وهو غير جامع لخروج عدة من الكبائر المنصوص عليها كأكل الربا وشهادة الزور والعقوق فالأول أمثل "قيل وكل ما مفسدته كأقل ما روي مفسدة فأكثر فدلالة الكفار على المسلمين للاستئصال أكثر من الفرار وإمساك المحصنة ليزنى بها أكثر من قذفها، ومن جعل المعول" أي الضابط للكبيرة "أن يدل الفعل على الاستخفاف بأمر دينه ظنه" أي هذا الضابط "غيره" أي غير ما قبله "معنى" والحال أن بينهما ملازمة وكأنه تعريض بما في شرح القاضي عضد الدين ويمكن أن يقال هو ما يدل على قلة المبالاة بالدين دلالة أدنى ما ذكر من الأمور ا هـ. أي ما يشعر بتهاون مرتكبها(24/167)
في دينه إشعار ما هو الأصغر من الكبائر المنصوص عليها وعلى هذا فالوجه أن يذكر هذا القيد كما هو مذكور للمعرض به "وما يخل بالمروءة صغائر دالة على خسة كسرقة لقمة واشتراط" أخذ الأجرة "على" سماع "الحديث" كذا في شرح البديع ولا يعرى إطلاق هذا عن نظر نعم ذهب أحمد وإسحاق وأبو حاتم الرازي إلى أنه لا تقبل رواية من أخذ على التحديث أجرا ورخص آخرون فيه كالفضل بن دكين شيخ البخاري وعلي بن عبد العزيز البغوي قال ابن الصلاح وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه غير أن في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظن يساء بفاعله إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه كما لو كان فقيرا معيلا وكان الاشتغال بالتحديث يمنعه من الاكتساب لعياله "وبعض مباحات كالأكل في السوق" ففي معجم الطبراني بإسناد لين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأكل في السوق دناءة" وفي فروع الشافعية المراد به أن ينصب مائدة ويأكل وعادة مثله خلافه فلو كان ممن عادته ذلك كالصناعين والسماسرة أو كان في الليل فلا وكالأكل في السوق والشرب من سقايات الأسواق إلا أن يكون سوقيا أو غلبه العطش. "والبول في الطريق" كذا في شرح البديع أيضا قلت وفي إباحته نظر للأمر باتقاء ذلك كما في الصحيحين وغيرهما ولما في أوسط الطبراني وغيره بسند رواته(24/168)
ص -316-…ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري وثقه ابن حبان وضعفه غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سل سخيمته في طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" "والإفراط في المزح المفضي إلى الاستخفاف به وصحبة الأرذال والاستخفاف بالناس وفي إباحة هذا" أي الاستخفاف بالناس "نظر". قلت وكيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم والترمذي وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم كما يؤيده رواية الحاكم ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس "وتعاطى الحرف الدنيئة" بالهمز من الدناءة وهي السقاطة المباحة "كالحياكة والصياغة" والحجامة والدباغة وغيرها مما لا يليق بأرباب المروآت وأهل الديانات فعلها ولا ضرر عليهم في تركها كذا في شرح البديع وغيره وفي بعض فروع الشافعية فإن اعتادها وكانت حرفة أبيه فلا في الأصح لكن في الروضة لم يتعرض الجمهور لهذا القيد وينبغي أن لا تقيد بصنعة آبائه بل ينظر هل تليق به هو أم لا "ولبس الفقيه قباء ونحوه" كالقلنسوة التركية في بلد لم يعتادوه "ولعب الحمام" إذا لم يكن قمارا لأنه فعل مستخف به يوجب في الغالب اجتماعا مع الأرذال إلى غير ذلك مما يدل على الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به لأن من لا يجتنب هذه الأمور فالغالب أنه لا يجتنب الكذب فلا يوثق بقوله ولا يظن صدقه في روايته "وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف و" عدم "الولاد و" عدم "العداوة" الدنيوية "فتختص بالشهادة" أي تشترط فيها لا في الرواية فلا تقبل شهادة الأعمى لأنها تحتاج إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له وعليه وإلى الإشارة إلى المشهود به فيما يجب إحضاره مجلس الحكم والأول منتف في حقه إلا بالنغمة وفي التمييز بها شبهة يمكن التحرز عنها بحبس الشهود فلم يقع(24/169)
ضرورة إلى إهدار هذه التهمة والثاني منتف في حقه مطلقا وهذا الاحتياج بجملته منتف في الرواية فكان البصير والأعمى فيها سواء وقد ابتلي جماعة من الصحابة بكف البصر كابن عباس ولم يتخلف أحد عن قبول روايتهم من غير فحص أنها كانت قبل العمى أو بعده ولا شهادة العبد في غير هلال رمضان لأنها تتوقف على كمال ولاية الشاهد إذ هي تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى وهذا موجود في الشهادة والولاية تعدم بالرق أصلا والرواية لا تعتمد الولاية لأن ما يلزم السامع من وجوب العمل بالمروي ليس بإلزام الراوي عليه بل بالتزامه طاعة الشارع باعتقاده أنه مفترض الطاعة فإذا ترجح صدق الراوي يلزمه العمل بروايته باعتبار اعتقاده امتثال ما يرد من الشارع كالقاضي يلزمه القضاء عند سماع الشهادة بالتزامه وتقلده هذه الأمانة لا بإلزام المدعي أو الشاهد ولأن حكم المروي يلزم الراوي أو لا لأنه مكلف ثم يتعدى إلى غيره وفي مثله لا يشترط الولاية ولهذا جعل العبد كالحر في مثله وهو الشهادة برؤية هلال رمضان بخلاف الشهادة في مجلس الحكم فإنها تلزم على الغير ابتداء فلا بد من كمال الولاية للشاهد ليمكن الإلزام بشهادته ولا شهادة المحدود في قذف وإن تاب عند أصحابنا لأن رد شهادته من تمام حده بالنص كما عرف "وعن أبي(24/170)
ص -317-…حنيفة" في رواية الحسن "نفي" قبول "روايته" لأنه محكوم بكذبه بقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]. وعلى هذا فليس عدم الحد مختصا بالشهادة "والظاهر" من المذهب "خلافه" أي خلاف قبول روايته "لقبول" الصحابة وغيرهم رواية "أبي بكرة" من غير اشتغال أحد بطلب التاريخ في خبره أنه رواه بعد ما أقيم عليه الحد أم قبله وعلى هذا فعدم الحد مختص بالشهادة لما ذكرنا ورواية الخبر ليس في معناها ولا شهادة الولد لوالده وإن علا ولا الوالد لولده وإن سفل ولا العدو على عدوه لما روى الخصاف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده" والحاكم على شرط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة" والظنة التهمة والحنة العداوة إلى غير ذلك والرواية ليست في هذا كالشهادة كما تقدم.(24/171)
"وظهر" من ذكر اشتراط العدالة مرادا بها أدناها وتفسيرها وتفسيره "أن شرط العدالة يغني عن ذكر كثير من الحنفية شرط الإسلام بالبيان إجمالا" بأن يقول عن تصديق قلبي آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره لأن في اعتباره تفصيلا حرجا "أو ما يقوم مقامه" أي مقام بيان الإسلام إجمالا "من الصلاة" في جماعة المسلمين "والزكاة وأكل ذبيحتنا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" رواه البخاري "دون النشأة في الدار" أي دار الإسلام "بين أبوين مسلمين" من غير أن يوجد منه الإسلام فإنه لا يكتفى بهذا الإسلام الحكمي شرطا في صحة الرواية وإنما ظهر عدم الحاجة إلى ذكر اشتراط الإسلام من ذكر اشتراط العدالة مرادا بها أدناها مع تفسيرها وتفسيره لظهور انتفائها فيه وكيف لا والكفر أعظم الكبائر فالاعتذار عن ذكره مع ذكرها بأن عدم ذكره ربما أوهم قبول خبر الكافر لأنه قد يوصف بالعدالة ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على مثله وطعن الخصم فيه ساقط ووصف الكافر بها في باب الشهادة مجاز عن استقامته على معتقده وحسن سيرته في معاملته والله سبحانه أعلم.(24/172)
"ثم الحنفية قالوا هذا" كله "في الرواية" للأخبار "وفي غيرها" أي غير الرواية "لا يقبل الكافر مطلقا في الديانات كنجاسة الماء وطهارته وإن وقع عنده" أي السامع "صدقه" أي الكافر لأن الكافر ليس أهلا لحكم الشرع فلا يكون له ولاية إلزام ذلك الحكم على الغير وفي قبول خبره جعله أهلا لذلك "إلا أن في النجاسة تستحب إراقته" أي الماء "للتيمم دفعا للوسوسة العادية" لأن احتمال الصدق غير منقطع عن خبره لأن الكفر لا ينافي الصدق وعلى تقديره لا تحصل الطهارة بالتوضؤ به بل تتنجس الأعضاء فكان الاحتياط في الإراقة ثم التيمم لتحصل الطهارة والاحتراز عن النجاسة بيقين "ولا تجوز" الصلاة بالتيمم "قبلها" أي إراقته لأنه واجد للماء الطاهر ظاهرا "بخلاف" "خبر الفاسق به" أي بكل من نجاسة الماء وطهارته "وبحل الطعام وحرمته يحكم" السامع "رأيه فيعمل بالنجاسة والحرمة إن وافقه" أي رأيه كلا منهما لأن(24/173)
ص -318-…أكثر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته وبنى على الاحتياط كاليقين "والأولى إراقة الماء" لاحتمال كذبه وعلى تقديره لا يجوز له التيمم فيريقه ليصير عادما للماء "ليتيمم" أي ليجوز له التيمم بيقين "وتجوز" صلاته "به" أي بالتيمم بل تجب "إن لم يرقه" لما ذكرنا وإنما كان خبر الفاسق به بخلاف خبر الكافر به "لأن الإخبار به يتعرف منه" أي الفاسق "لا من غيره" أي الفاسق "لأنه أمر خاص" بالنسبة إلى رواية الحديث يعني ليس بأمر يقف عليه جميع الناس حتى يمكن تلقيه من العدول بل ربما لا يقف عليه إلا الفاسق لأن ذلك إنما يكون في الفيافي والأسواق والغالب فيهما الفساق فقبل مع التحري لأجل هذه الضرورة "لكنها" أي النجاسة "غير لازمة" للماء بل عارضة عليه "فضم التحري" إلى إخباره "كي لا يهدر فسقه بلا ملجئ والطهارة" تثبت "بالأصل" لأنها الأصل فيه فيعمل به عند تعارض جهتي الصدق والكذب في خبره "بخلاف الحديث لأن في عدول الرواة كثرة بهم غنية" عن الفسقة فلا تقبل رواية الفاسق أصلا وقع في قلب السامع صدقه أولا لانتفاء الضرورة "بخلافه" أي خبر الفاسق "في الهدية والوكالة وما لا إلزام فيه من المعاملات" حيث يجوز الاعتماد عليه من غير وجوب ضم التحري إليه "للزومها" أي الضرورة "للكثرة" لوجودها. "ولا دليل" متيسر "سواه" أي خبر الفاسق فإنه لا يتيسر لكل مهد أو مرسل بخبر وكالة ونحوها كلما أراد ذلك عدل يقوم به وقد جرت السنة والتوارث بإرسال الهدية على يد العبيد والجواري مسلمين كانوا أو لا ويقبل ذلك من غير التفات أصلا إلى حال الواصل بها فكان ذلك إجماعا على القبول وما ذاك إلا لما ذكرنا من الحاجة "ومثله" أي الفاسق "المستور" وهو من لم تعرف عدالته ولا فسقه "في الصحيح" فلا يكون خبره حجة حتى تظهر عدالته وهو احتراز عن رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه كالعدل في الإخبار بنجاسة الماء وطهارته ورواية الأخبار وهي المسألة التي تلي هذا الفصل "وأما(24/174)
المعتوه والصبي في نحو النجاسة" أي الإخبار بنجاسة الماء وبطهارته وفي رواية الحديث وغيرها من الديانات "كالكافر" في عدم قبول أخباره لعدم ولايتهما على نفسهما فعلى غيرهما أولى على أن الصبي مرفوع القلم فلا يحترز عن الكذب لعدم الوازع والرادع له لكونه مأمون العقاب فلا يؤتمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثله المعتوه على قول الجمهور كما تقدم فلا تقبل روايتهما احتياطا "وكذا المغفل" أي الشديد الغفلة وهو الذي ظهر على طبعه الغفلة والنسيان في سائر الأحوال "والمجازف" الذي يتكلم من غير احتياط غير مبال بالسهو والغلط ولا مشتغل بالتدارك بعد العلم كالكافر في عدم قبول أخباره لأن معنى السهو والغلط في روايتهما يترجح باعتبار الغفلة وقلة المبالاة كما يترجح الكذب باعتبار الكفر والفسق.
مسألة
"مجهول الحال وهو المستور غير مقبول وعن أبي حنيفة في غير الظاهر" من الرواية عنه "قبول ما لم يرده السلف وجهها" أي هذه الرواية "ظهور العدالة بالتزامه الإسلام ولأمرت أن أحكم بالظاهر" وتقدم الكلام فيه قريبا "ودفع" وجهها "بأن الغالب أظهر وهو" أي الغالب(24/175)
ص -319-…"الفسق" في هذه الأزمان "فيرد" خبره "به" أي بهذا الغالب "ما لم تثبت العدالة بغيره" أي غير التزامه الإسلام "وقد ينفصل" القائل بهذه الرواية "بأن الغلبة" للفسق "في غير رواة الحديث" لا في الرواة الماضين له "ويدفع" هذا "بأنه" أي كون الغلبة في غير رواة الحديث إنما هو "في المعروفين" منهم "لا في المجهولين منهم" وكلامنا في المجهولين منهم "والاستدلال" للرواية المذكورة "بأن الفسق سبب التثبت فإذا انتفى" الفسق "انتفى" وجوب التثبت "وانتفاؤه" أي الفسق "بالتزكية موقوف على" صحة "هذا الدافع إذ يورد عليه" أي الدليل المذكور "منع الحصر" في التزكية "بالإسلام" أي بالتزامه فإنه يفيد الكف عن محظورات دينه كالتزكية "ويدفع" بأن الظاهر بالكثرة أظهر منه والمجهولون من النقلة لم تثبت فيهم غلبة العدالة فكانوا كغيرهم "وأما ظاهر العدالة فعدل واجب القبول وإنما سماه مستورا بعض" من الشافعية كالبغوي ثم قول البيهقي الشافعي لا يحتج بأحاديث المجهولين قال شيخنا المصنف رحمه الله لا يدخل فيه من عدالته ظاهرة بالتزامه أوامر الله ونواهيه وكون باطن أمره غير معلوم لا يصيره مردودا مجهولا على أن قول الشافعي في جواب سؤال أورده فلا يجوز أن يترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر صريح في قبول من كان بهذه المثابة وأنه ليس بداخل في المجهول فلا جرم أن قال الشيخ زين الدين العراقي فعلى هذا لا يقال لمن هو بهذه المثابة مستور وهذا هو المستقر عند المصنف ولذا أعطى حكم مجهول الحال عدم القبول وسماه مستورا وجعل من ظهرت عدالته مقابلا له فهو عدل غير مستور واجب القبول.
مسألة(24/176)
"عرف أن الشهرة" للراوي بالعدالة والضبط بين أهل العلم من أهل النقل وغيرهم "معرف العدالة والضبط كمالك والسفيانين" الثوري وابن عيينة "والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم" كوكيع وأحمد وابن معين وابن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر "للقطع بأن الحاصل بها" أي بالشهرة بهما "من الظن" بهما في المشهور بهما "فوق التزكية وأنكر أحمد على من سأله عن إسحاق" بن راهويه فقال مثل إسحاق يسأل عنه "وابن معين" على من سأله "عن أبي عبيد وقال أبو عبيد يسأل عن الناس، و" تثبت العدالة أيضا "بالتزكية وأرفعها" أي مراتبها على ما ذكر الحافظ الذهبي في الميزان "قول العدل نحو حجة ثقة بتكرير لفظا" كثقة ثقة حجة حجة "أو معنى" كثبت حجة ثبت حافظ ثقة ثبت ثقة متقن ونحو هذه مما كان من ألفاظ هذه المرتبة وقال شيخنا الحافظ أرفعها الوصف بما دل على المبالغة فيه وأصرح ذلك التعبير بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس أو إليه المنتهى في التثبت ثم ما تأكد من الصفات الدالة على التعديل أو وصفين كثقة ثقة أو ثقة حافظ "ثم" يليها "الإفراد" كحجة أو ثقة أو متقن. وجعل الخطيب هذا أرفع العبارات "وحافظ ضابط توثيق للعدل يصيره كالأول" أي تكرير التوثيق "ثم" يليها "مأمون صدوق ولا بأس وهو" أي لا بأس "عند ابن معين وعبد الرحمن بن إبراهيم كثقة على نظر في عبارة ابن معين" على ما ذكر ابن أبي خيثمة حيث قال قلت ليحيى بن معين إنك تقول فلان ليس به بأس وفلان ضعيف قال(24/177)
ص -320-…إذا قلت لك ليس به بأس فهو ثقة وإذا قلت هو ضعيف فليس هو بثقة لا تكتب حديثه فإنه كما قال الشيخ زين الدين العراقي ولم يقل ابن معين قولي به بأس كقولي ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين إنما قال إن من قال فيه هذا فهو ثقة وللثقة مراتب فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة "وخيار تعديل فقط لقول بعضهم كان من خيار الناس إلا أنه يكذب ولا يشعر ثم" يليها "صالح شيخ وهو" أي شيخ "أرفع من شيخ وسط ثم حسن الحديث وصويلح" وهذه كلها في مرتبة واحدة على ما في الميزان فإنه قال ثم محله الصدق وجيد الحديث وصالح الحديث وشيخ وسط وشيخ وحسن الحديث وصدوق إن شاء الله وصويلح ونحو ذلك ا هـ. وجعل العراقي منها متقارب الحديث بفتح الراء وكسرها وأرجو أنه ليس به بأس وقال ابن أبي حاتم من قيل فيه صالح الحديث يكتب حديثه للاعتبار وقال ابن الصلاح ما أعلم به بأسا دون قولهم لا بأس به وقال العراقي وأرجو أنه لا بأس به نظير ما أعلم به بأسا أو الأولى أرفع لأنه لا يلزم من عدم العلم حصول الرجاء بذلك.(24/178)
"والمرجع الاصطلاح وقد يختلف فيه" كما أشرنا إليه "وفي الجرح" قال شيخنا الحافظ أسوأ مراتبه الوصف بما دل على المبالغة، وأصرح ذلك التعبير بأفعل كأكذب الناس وقولهم إليه المنتهى في الوضع أو هو ركن الكذب ونحو ذلك ثم "كذاب وضاع دجال يكذب هالك" يضع الحديث أو وضع حديثا والألفاظ الأول من هذه وإن كان فيها نوع مبالغة فهي دون التي قبلها "ثم ساقط" وذكر الخطيب أن أدون العبارات كذاب ساقط "متهم بالكذب والوضع" والواو بمعنى أو "ذاهب" أو ذاهب الحديث "ومتروك" أو متروك الحديث ومتفق على تركه أو تركوه "ومنه للبخاري فيه نظر وسكتوا عنه" فإن البخاري يقول هاتين العبارتين فيمن تركوا حديثه "لا يعتبر به" لا يعتبر بحديثه "ليس بثقة" ليس بالثقة غير ثقة غير "مأمون ثم ردوا حديثه" رد حديثه مردود الحديث "ضعيف جدا، واه بمرة طرحوا حديثه مطرح" مطرح الحديث "ارم به ليس بشيء" لا شيء "لا يساوي شيئا ففي هذه" المراتب "لا حجية ولا استشهاد ولا اعتبار" بحديث من قيل فيه شيء من ذلك "ثم ضعيف منكر الحديث مضطربه واه ضعفوه" كذا ذكر الشيخ زين الدين العراقي وذكر في الميزان ضعفوه فيما قبل هذه المرتبة "لا يحتج به ثم فيه مقال" اختلف فيه فيه خلف فيه "ضعف ضعف" على صيغة الفعل المبني للمفعول. وكذا "تعرف وتنكر ليس بذاك" ليس بذاك القوي ليس "بالقوي" ليس "بحجة" ليس "بعمدة" ليس "بالمرضي" ليس بالمتين صدوق لكنه غير حجة للضعف ما هو "سيئ الحفظ لين" لين الحديث فيه لين تكلموا فيه.
"ويخرج" الحديث "في هؤلاء" المذكورين في هاتين المرتبتين "للاعتبار والمتابعات" عند المحدثين "إلا ابن معين في ضعيف" "ويثبت التعديل" للشاهد والراوي "بحكم القاضي العدل" بشهادة الشاهد "وعمل المجتهد" العدل برواية الراوي ولم يذكره للعلم به أو اكتفاء(24/179)
ص -321-…بذكره في القاضي هذا في القاضي والمجتهد "الشارطين" للعدالة في قبول الشهادة والرواية وإلا لكان الحاكم فاسقا بقبول شهادة من ليس بعدل عنده والمجتهد فاسقا بعمله برواية من ليس بعدل عنده وهو خلاف المفروض فيهما فلو لم يكن الحاكم عدلا أو كان ممن يرى الحكم بشهادة الفاسق فحكمه بشهادته لا يكون تعديلا له وعلى قياسه لو لم يكن المجتهد عدلا فعمله بروايته لا يكون تعديلا له ثم إنما يكون العمل بروايته تعديلا بشرطين أن يعلم أن لا مستند له في العمل سوى روايته وأن يعلم أن عمله ليس من الاحتياط في الدين كما يشير إليه قوله "لا إن لم يعلم" شيء "سوى كونه" أي عمل المجتهد "على وفقه" أي ما رواه الراوي المذكور وبقي هل رواية العدل الحديث عن الراوي تعديل له قيل نعم مطلقا وقيل لا مطلقا ونسبه ابن الصلاح إلى أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم وقال إنه الصحيح وقيل وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما إن علم من عادته أنه لا يروي إلا عن عدل فتعديل لأن الأصل الجري على العادة وإلا فلا لأن العادة جارية بأن الإنسان يروي الحديث عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها لأن مجرد الرواية لا يوجب العمل على السامع بمقتضاها بل الغاية أن يقول سمعته يقول فعلى السامع الاستكشاف عن حال المروي عنه إذا أراد العمل بروايته وإلا فالتقصير من قبله والله سبحانه أعلم.(24/180)
"تنبيه حديث" الراوي "الضعيف للفسق لا يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية" لعدم تأثير موافقة غيره فيه كما ذكره النووي "ولغيره" أي وحديث الضعيف لغير الفسق كسوء الحفظ مع الصدق والديانة "يرتقي" بتعدد الطرق إلى الحجية "وهذا التفصيل أصح منه" أي من التفصيل "إلى الموضوع فلا" يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية "أو خلافه" أي الموضوع "فنعم" أي يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية "لوجوب الرد للفسق وبالتعدد" لطرقه "لا يرتفع" الموجب للرد بفسقه "بخلافه" أي الرد "لسوء الحفظ لأنه" أي رده "لوهم الغلط والتعدد يرجح أنه" أي الراوي السيئ الحفظ "أجاد فيه" أي ذلك المروي "فيرتفع المانع وأما" الطعن في الحديث "بالجهالة" لراويه بأن لم يعرف في رواية الحديث إلا بحديث أو بحديثين "فبعمل السلف" به يزول الطعن فيه لأن عملهم به إما لعلمهم بعدالة الراوي وحسن ضبطه أو لموافقته سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من سامع منه ذلك مشهور لانتفاء اتهامهم بالتقصير في أمر الدين مع ما لهم من الرتبة العالية في الورع والتقوى.
"وسكوتهم" أي السلف "عند اشتهار روايته" أي الحديث الذي راويه بالصفة المذكورة "كعملهم" به "إذ لا يسكنون عن منكر" يستطيعون إنكاره والفرض ثبوت الاستطاعة كما هو الأصل. "فإن قبله" أي الحديث "بعض" منهم "ورده آخر" منهم "فكثير" من العلماء من أهل الحديث وغيرهم "على الرد والحنفية يقبل وليس" قبوله "من تقديم التعديل على الجرح لأن ترك العمل" بالحديث "ليس جرحا" في راويه "كما سنذكر فهو" أي قبول البعض له "توثيق" للراوي "بلا معارض ومثلوه" أي الحنفية ما قبله بعضهم ورده بعضهم "بحديث معقل بن سنان(24/181)
ص -322-…أنه عليه الصلاة والسلام قضى لبروع بنت واشق بمهر مثل نسائها حين مات عنها هلال بن مرة. قبله ابن مسعود ورده علي" فقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات عنها فقال ابن مسعود لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود وأخرجه أبو داود من طريقين بسياقين أحدهما مختصر قدمناه في مسألة بعد اشتراط الحنفية المقارنة في المخصص إلخ وثانيهما نحو هذا وفيه فقام ناس من أشجع فيهم الجراح وابن سنان فقالوا يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق وأن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت ففرح بها عبد الله بن مسعود فرحا شديدا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح قد روي عنه من غير وجه والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قال لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة وهو قول الشافعي وقال لو ثبت حديث بروع بنت واشق لكان الحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن الشافعي أنه رجع بمصر عن هذا القول وقال بحديث بروع ا هـ. لأنه كما قال البيهقي جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحاح وقال ابن المنذر ثبت مثل قول ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه نقول قال المصنف "ولا يخفى أن عمله" أي ابن مسعود "كان بالرأي غير أنه سر برواية الموافق لرأيه من إلحاق الموت بالدخول بدليل إيجاب العدة(24/182)
به" أي بالموت "كالدخول وهو" أي العمل به "أعم من القبول لجواز اعتباره" أي المروي المذكور بالنسبة إلى رأيه المذكور "كالمتابعات" في باب الروايات لإفادة التقوية "إلا أن ينقل" عن ابن مسعود "أنه بعد" أي بعد هذا "استدل به" أي بالمروي المذكور من غير استناد إلى رأيه "وهذا نظر في المثال غير قادح في الأصل فإن قيل إنما ذكروه" أي الحنفية قبول ما قبله بعض السلف ورده بعضهم "في تقسيم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة" أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم "والعبادلة" جمع عبدل لأن من العرب من يقول في زيد زيدل أو عبد وضعا كالنساء للمرأة وهم عند الفقهاء عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعند المحدثين مقام ابن مسعود عبد الله بن الزبير "فيقدم" خبره "على القياس مطلقا" أي سواء وافقه أو خالفه "و" إلى "عدل ضابط" غير مجتهد "كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم" خبره "إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى بن أبان والقاضي أبي زيد" وأكثر المتأخرين "كحديث المصراة" وهو ما روى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" متفق عليه، والتصرية ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها اليومين أو(24/183)
ص -323-…الثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا فيزيد في ثمنها ثم إذا حلبها الحلبة أو الحلبتين عرف أن ذلك ليس بلبنها وهذا غرور للمشتري وقد اختلف العلماء في حكمها فذهب إلى القول بظاهر هذا الحديث الأئمة الثلاثة وأبو يوسف على ما في شرح الطحاوي للإسبيجابي نقلا عن أصحاب الأمالي عنه والمذكور عنه للخطابي وابن قدامة أنه يردها مع قيمة اللبن. ولم يأخذ أبو يوسف ومحمد به لأنه خبر مخالف للأصول "فإن اللبن مثلي وضمانه بالمثل" بالنص والإجماع كما يأتي "ولو" كان اللبن "قيميا فبالقيمة" أي فضمانه بها من النقدين بالإجماع أيضا "لا كمية تمر خاصة ولتقويم القليل والكثير بقدر واحد" والمضمون إنما يكون قدر ضمانه بقدر التالف منه إن قليلا فقليل وإن كثيرا فكثير "ورب شاة" تكون "بصاع" من التمر خصوصا في غلائه "فيجب ردها مع ثمنها" فيكون ربا إلى غير ذلك "وعند الكرخي والأكثر" من العلماء كما قال صدر الإسلام خبر العدل الضابط "كالأول" أي كخبر المجتهدين "ويأتي الوجه" في كونه كذلك "وتركه" أي حديث المصراة "لمخالفة الكتاب" وهو قوله تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} [البقرة: 194] و" مخالفة السنة "المشهورة" وهي ما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أعتق شقصا أي نصيبا له من مملوك قوم عليه نصيب شريكه" إن كان موسرا كما روى معناه الجماعة "والخراج بالضمان" أخرجه أحمد وأصحاب السنن. وقال الترمذي حديث حسن والعمل على هذا عند أهل العلم وأبو عبيد وقال معناه الرجل يشتري المملوك فيستغله ثم يجد به عيبا كان عند البائع فقضي أنه يرد العبد على البائع بالعيب ويرجع بالثمن ويأخذه ويكون له الغلة طيبة وهو الخراج وإنما طابت له لأنه كان ضامنا للعبد ولو مات مات من مال المشتري لأنه في يده وهذا من جوامع الكلم. "و" مخالفة "الإجماع على التضمين بالمثل" في المثلي الذي ليس بمنقطع "أو القيمة" في القيمي الفائت عينه أو المثلي(24/184)
المنقطع لأن اللبن مثلي فضمانه بالمثل والقول في مقداره قول الضامن ولو فرض أنه ليس بمثلي فالواجب القيمة فكان إيجاب التمر مكان اللبن مطلقا مخالفا لهذه الأصول الثلاثة وللقياس أيضا على سائر المتلفات المثلية وغيرها من كل وجه مع أنه مضطرب المتن فمرة جعل الواجب صاعا من تمر ومرة صاعا من طعام غير بر ومرة مثل أو مثلي لبنها قمحا ومرة ذكر الخيار ثلاثة أيام ومرة لم يذكره وقيل هو منسوخ قال الطحاوي روي عن أبي حنيفة مجملا فقال ابن شجاع نسخه قوله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" فلما قطع النبي صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت أنه لا خيار إلا ما استثناه في هذا الحديث قال الطحاوي وفيه ضعف لأن الخيار المجعول في المصراة خيار العيب وهو لا يقطعه الفرقة اتفاقا وتعقب بأن في إشارات الأسرار التصرية ليست بعيب عندنا ومشى عليه في المختلف ويدفع بأن الأصح أنها عيب كما ذكر الإسبيجابي ونقله الطحاوي في شرح الآثار عن أبي حنيفة ومحمد ورواه الحسن في المجرد وأخذ به أبو الليث وقال عيسى بن أبان كان ذلك في وقت ما كانت العقوبات تؤخذ بالأموال ثم نسخ الله الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها "وأبو هريرة فقيه" لم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد(24/185)
ص -324-…وقد أفتى في زمن الصحابة ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل ما بين صحابي وتابعي منهم ابن عباس وجابر وأنس. وهذا هو الصحيح.
"ومجهول العين والحال كوابصة" بن معبد والتمثيل به مشكل فإن المراد بالمجهول المذكور عندهم من لم يعرف ذاته إلا برواية حديث أو حديثين ولم تعرف عدالته ولا فسقه ولا طول صحبته وقد عرفت عدالة الصحابة بالنصوص واشتهر طول صحبتهم فكيف يكون داخلا فيه وهو صحابي وقد يجاب بأنه وأمثاله كسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان وإن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ورووا عنه لا يعدون من الصحابة عند الأصوليين لعدم معرفة صحبتهم إليه أشار شمس الأئمة ولا يعرى عن نظر كما لا يخفى علي أن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا لوابصة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه الحديث وأن رجلا صلى خلف الصف وحده فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد. وابن ماجه أخرج له أيضا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر. والطبراني أخرج له ثلاثة أحاديث أخرى أحدها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تتخذوا ظهور الدواب منابر" ثانيها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن الوسخ الذي يكون في الأظفار فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ثالثها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: "ليبلغ الشاهد الغائب" وسلمة بن المحبق واسم المحبق صخر أخرج له الطبراني أربعة أحاديث وأحمد حديثين وابن ماجه حديثا. نعم معقل روى له أصحاب السنن حديثا والنسائي حديثا "فإن قبله السلف أو سكتوا إذا بلغهم أو اختلفوا قبل" وقدم على القياس "كحديث معقل" السابق في بروع فإن السلف اختلفوا في قبوله كما تقدم ووجه بأنه لما قبله بعض الفقهاء المشهورين صار كأنه رواه بنفسه فإذا قبله السلف أو سكتوا عن(24/186)
رده بعدما بلغهم فبطريق أولى لأنهم عدول أهل فقه لا يتهمون بالتقصير في أمر الدين بقبول ما لم يصح عندهم أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بالسكوت عن رد ما يجب رده في موضع الحاجة إلى البيان لأنه لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع "أو ردوه" أي السلف حديث المجهول "لا يجوز" العمل به "إذا خالفه" القياس لأنهم لا يتهمون برد الحديث الصحيح فيكون اتفاقهم على الرد دليلا على أنهم اتهموه في الرواية "وسموه منكرا كحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في صحيح مسلم وغيره "رده عمر" فقال لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت رواه مسلم أيضا. "وقال مروان في صحيح مسلم حين أخبر" بحديثها المذكور "لم يسمع هذا الأمر إلا امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها وهم" أي الناس يومئذ "الصحابة رضي الله عنهم فدل أنه مستنكر وإن لم يظهر" حديث المجهول "في السلف بل" ظهر "بعدهم فلم يعلم ردهم وعدمه" أي عدم رده "جاز" العمل به "إذا لم يخالف" القياس لترجح جانب الصدق في خبره باعتبار ثبوت العدالة ظاهرا لغلبتها في ذلك الزمان "ولم يجب" العمل به لأن الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق ذكره شمس الأئمة "فيدفع" بالنصب على أنه جواب النفي أي(24/187)
ص -325-…ليدفع "نافي القياس" عن منع هذا الحكم "أو ينفعه" أي نافي القياس وهذا تعريض بدفع جواب السؤال القائل إذا وافقه القياس ولم يجب العمل به كان الحكم ثابتا بالقياس فما فائدة جواز العمل به بأنها جواز إضافة الحكم إليه فلا يتمكن نافي القياس من منع هذا الحكم لكونه مضافا إلى الحديث "وإنما يلزم" الدفع أو النفع "لو قبله" أي السلف الحديث فإنه حينئذ لا يتمكن من منع الحكم الثابت به وقد ينفعه حيث يضيف الحكم إليه لا إلى القياس لكن الفرض عدم العلم به حيث لم يظهر فيهم وإنما يظهر بعدهم "ورواية مثل هذا المجهول في زماننا لا تقبل" ما لم تتأيد بقبول العدول لغلبة الفساق على أهل هذا الزمان.
"قلنا" لا نسلم أن التقسيم المذكور للراوي الصحابي "بل وضعهم" أي الحنفية التقسيم المذكور فيما هو "أعم" من الصحابة وغيره "وهو قولهم والراوي إن عرف بالفقه إلخ غير أن التمثيل وقع بالصحابة منهم وليس يلزم" كون الراوي "صحابيا" من قولهم ذلك "فصار هذا حكم غير الصحابي أيضا ولا جرح" للراوي والشاهد "بترك العمل في رواية ولا شهادة" لهما "لجوازه" أي ترك العمل بروايته وشهادته "بمعارض" من رواية أو شهادة أخرى أو فقد شرط غير العدالة لا لأن كلا من الراوي والشاهد مجروح. قال السبكي فإن فرض ارتفاع الموانع بأسرها وكان مضمون الخبر وجوبا فتركه حينئذ يكون جرحا قاله القاضي في التقريب وهو واضح قلت نعم في غير الصحابي أما في الصحابي فلا وستقف على تفصيل فيه للحنفية بعد سبع مسائل.
"ولا" جرح "بحد لشهادة بالزنى مع عدم" كمال "النصاب" للشهادة به لعدم دلالته على فسق الشاهد وتقدم في ذيل الكلام في العدالة أن هذا بالنسبة إلى الرواية ظاهر المذهب وأن الحسن روى عن أبي حنيفة ردها به كرد الشهادة به بلا خلاف في المذهب.(24/188)
"ولا" جرح "بالأفعال المجتهد فيها" من المجتهد القائل بإباحتها أو مقلده كشرب النبيذ ما لم يسكر من غير لهو واللعب بالشطرنج بلا قمار وترك البسملة في الصلاة لما تقدم "وركض الدابة" أي حثها لتعدو وهو تعريض بإفراط شعبة لما قيل له لم تركت حديث فلان قال رأيته يركض على برذون إذ ما يلزم من ركضه على برذون وكيف وهو مشروع من عمل الجهاد ففي الصحيحين والموطأ واللفظ له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت من الحيفاء وكان أمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها "وكثرة المزاح غير المفرط" بعد أن يكون حقا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح أحيانا ولا يقول إلا حقا فعن أبي هريرة قالوا إنك تداعبنا قال إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقا. رواه الترمذي وحسنه وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخ له صغير: "يا أبا عمير ما فعل النغير" متفق عليه وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني فقال: "إنا حاملوك على ولد ناقة" قال: وما أصنع بولد ناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تلد الإبل إلا النوق" رواه أبو داود والترمذي وصححه إلى غير ذلك. وأما(24/189)
ص -326-…إذا كانت الخفة تستفزه فيخلط الحق بالباطل ولا يبالي بما يأتي من ذلك فحينئذ يكون جرحا "وعدم اعتياد الرواية" لأن المعتبر هو الإتقان وربما يكون إتقان من لم تصر الرواية عادة له فيما يروي أكثر من إتقان من اعتادها وقد كان في الصحابة من يمتنع من الرواية في عامة الأوقات ومنهم من يشتغل بها في عامة الأوقات ثم لم يرجح أحد رواية من اعتادها على من لم يعتدها "ولا يدخله" أي من لم يعتدها "من له راو فقط" إذ يجوز اعتيادها مع وحدة الآخذ "وهو" أي من له راو فقط "مجهول العين باصطلاح" للمحدثين "كسمعان بن مشنج والهزهاز بن ميزن1 ليس لهما" راو "إلا الشعبي وجبار الطائي في آخرين" وهم عبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن أغر وسعيد بن ذي حدان وقيس بن كركم وخمر بن مالك1 "ليس لهم" راو "إلا" أبو إسحاق "السبيعي وفي" علم "الحديث" فيه أقوال. "نفيه" أي نفي قبوله "للأكثر" من أهل الحديث وغيرهم "وقبوله" مطلقا "قيل هو" أي هذا القول "لمن لم يشترط" في الراوي شرطا "غير الإسلام والتفصيل بين كون المنفرد لا يروي إلا عن عدل" كابن مهدي ويحيى بن سعيد واكتفى في التعديل بواحد "ومعلوم أن المقصود مع ضبط" فيقبل وإلا فلا "وقيل إن زكاه عدل" من أئمة الجرح والتعديل قبل وإلا فلا وهو اختيار ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام "وقيل إن شهر" في غير العلم "بالزهد كمالك بن دينار أو النجدة كعمرو بن معد يكرب" قبل وإلا فلا وهو اختيار ابن عبد البر. قال المصنف "ومرجع التفصيل" الأول "وما بعده واحد وهو إن عرف عدم كذبه" قبل وإلا فلا "غير أن لمعرفتها" والوجه لمعرفته أي عدم كذبه "طرقا؛ التزكية ومعرفة أنه لا يروي إلا عن عدل وزهده والنجدة فإن المتصف بها" أي النجدة "عادة يرتفع عن الكذب وفيه نظر فقد تحقق خلافه" أي خلاف ثبوت الصدق مع تحقق النجدة "فيما قال المبرد عنه" أي عن معد يكرب فإنه نسب إليه الكذب "والوجه أن قول إن زكاه" عدل قبل(24/190)
وإلا فلا "مراد الأول" وهو أنه إن كان لا يروي إلا عن عدل قبل وإلا فلا "ولا" جرح أيضا "بحداثة السن بعد إتقان ما سمع" عند التحمل وتحقيق العدالة وما في شرائط الراوي عند الرواية وما تقدم من الاتفاق على قبول من تحمل من الصحابة صغيرا وأدى كبيرا دليل واضح على ذلك.
"واستكثار مسائل الفقه" لأنه لا يلزم من ذلك خلل في الحفظ كما زعمه من زعمه بل ربما كان دليل قوة الذهن فيستدل به على حسن الضبط والإتقان "وكثرة الكلام كما عن زاذان". قال شعبة قلت للحكم بن عتيبة لم لم ترو عن زاذان قال كثير الكلام إذ لا يخفى أن مجرد هذا غير قادح "وبول قائما كما عن سماك" قال جرير رأيت سماك بن حرب يبول قائما فلم أكتب عنه فإن مجرد هذا غير قادح وكيف وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم بال قائما. إذ الظاهر أنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله الهزهاز بن ميزن وقوله بعده وخمر بن مالك كذا في الأصل ولم نعثر على الأول وأما الثاني فلعله محرف عن حميد بن مالك وهو من رجال الحديث كما في الخلاصة. فحرر كتبه مصححه.(24/191)
ص -327-…بيان للجواز كما ذهب إليه بعضهم فهو مباح غير خارم للمروءة إذا كان بحيث لا يرتد على البائل وأما ستر العورة فلا بد منه.
"واختلف في رواية العدل" عن المجهول على ثلاثة أقوال "فالتعديل" إذ الظاهر أنه لا يروي إلا عن عدل وإلا كانت تلبيسا لما فيها من الإيقاع في العمل بما لا يجوز العمل به لأن العدل إذا روى حديثا فقد أوجب على المكلفين العمل به والتلبيس خلاف مقتضى العدالة وهذا عزاه ابن الصلاح إلى بعض المحدثين وبعض الشافعية "والمنع" له إذ كثيرا ما يروي من يروي ولا يفكر عمن يروي ولا نسلم أنها لو لم تكن تعديلا له لكانت تلبيسا وإنما يلزم ذلك لو وجب بمجردها العمل على السامع وليس كذلك إذ غاية روايته عنه أن يقول سمعته يقول كذا وهو ليس بموجب العمل عليه بل يجب على السامع إذا أراد العمل الكشف عن حال المروي عنه فإن ظهرت عدالته عمل به وإلا فلا فإذا لم يكشف وعمل كان هو المقصر في حق نفسه وهذا ما عزاه ابن الصلاح إلى أكثر العلماء من المحدثين وغيرهم وذكر أنه الصحيح "والتفصيل بين من علم أنه لا يروي إلا عن عدل" فهي تعديل وإلا يلزم خلاف ما عهد عليه من العادة وهو خلاف الأصل "أو لا" يعلم ذلك من عادته فلا يكون تعديلا له لأن العادة جارية بأن الإنسان يروي عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها "وهو" أي هذا التفصيل "الأعدل" كما هو ظاهر من وجهه فلا جرم أن اختاره الآمدي وابن الحاجب. "وأما التدليس" وفسره بقوله "إيهام الرواية عن المعاصر الأعلى" سواء لقيه أو لا سماعا منه بحذف المعاصر الأدنى سواء كان شيخه أو شيخ شيخه أو كليهما فصاعدا بنحو عن فلان وقال فلان "أو وصف شيخه بمتعدد" بأن يسميه أو يكنيه أو ينسبه إلى قبيلة أو بلد أو صنعة أو غيرها أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف ويفعل هذا الموهم أو الواصف ذلك "لإيهام العلو" في السند أو لصغر سن المحذوف عن سن الراوي أو لتأخر وفاته ومشاركة من دونه فيه على التقدير الأول(24/192)
"والكثرة" في الشيوخ على التقدير الثاني لما فيه من إيهام أنه غيره وقد لهج بهذا غير واحد كالخطيب في تصانيفه "فغير قادح" والأول من تدليس الإسناد والثاني من تدليس الشيوخ "أما" ما كان من الأول "لإيهام الثقة" أي كون الإسناد موثوقا به "بإسقاط مختلف في ضعفه بين ثقتين يوثقه" المسقط بذلك "بأن ذكر" الثقة "الأول بما لا يشتهر به من موافق اسم من عرف أخذه عن" الثقة "الثاني وهو" أي هذا الصنيع "أحد قسمي" تدليس "التسوية فيرد" متن الحديث "عند مانعي" قبول "المرسل ويتوقف في عنعنته" أي قبول ما رواه بلفظ عن من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع وهذا لم أقف عليه بل الظاهر أنه يرد أيضا عندهم لأن العنعنة من صيغ التدليس والفرض أن المعنعن مدلس اللهم إلا أن يكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة متقن فقد قال ابن عبد البر ينظر في حال المدلس فإن كان يتسامح بأن يروي عن كل أحد لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول أنبأنا أو سمعت وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغنى عن توثيقه ولم يسأل عن تدليسه وعلى هذا أكثر أئمة الحديث ونقل عن أئمة الحديث أنهم قالوا يقبل تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر(24/193)
ص -328-…ونظرائهما ورجحه ابن حبان لكن ذكر أن هذا شيء ليس في الدنيا إلا لابن عيينة فإنه لا يكاد يوجد له خبر دلس فيه إلا. وقد تبين سماعه عن ثقة مثل ثقته وكلام البزار وأبي الفتح الأزدي يفيد عدم اختصاص ابن عيينة بذلك وهو الوجه، ثم لعل هذا أشبه من قول ابن الصلاح الصحيح التفصيل وهو أن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو مقبول يحتج به نعم. قال الحاكم الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أهل النقل وزاد أبو عمر والداني اشتراط أن يكون معروفا بالرواية عنه والأوجه حذف هذا الشرط. وقال الخطيب أهل العلم مجمعون على أن قول المحدث حدثنا فلان عن فلان صحيح معمول به إذا كان لقيه وسمع منه وقال الشيخ زين الدين العراقي اختلفوا في حكم الإسناد المعنعن فالصحيح الذي عليه العمل وذهب إليه الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم أنه من قبيل الإسناد المتصل بشرط سلامة الراوي بالعنعنة من التدليس وبشرط ثبوت ملاقاته لمن رواه عنه بالعنعنة ثم قال وما ذكرناه من اشتراط ثبوت اللقاء هو مذهب ابن المديني والبخاري وغيرهما من أئمة هذا العلم وأنكر مسلم في خطبة صحيحة اشتراط ذلك وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها. قال ابن الصلاح وفيما قاله مسلم نظر قال وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ذكر فلان قال فلان ونحو ذلك "دون المجيزين" لقبول المرسل أي جمهورهم فقد حكى الخطيب أن جمهور من يحتج بالمرسل يقبل خبر المدلس وذكر غيره أن بعض من يحتج بالمرسل لا يقبل عنعنة المدلس وسيأتي أن الأكثر على قبول المرسل.(24/194)
"ولا يسقط" الراوي المدلس بالتدليس المذكور "بعد كونه إماما من أئمة الحديث" وهذا لم أقف على صريح فيه وكأن المصنف أخذه من شرطه لقبول المرسل "لاجتهاده وعدم صريح الكذب وهو" أي هذا القسم من التدليس "محمل فعل الثوري والأعمش وبقية"1 وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب الصحيحة من هذا النوع كثير عن كثير كقتادة والسفيانين وعبد الرزاق والوليد بن مسلم. ومن ثمة قال النووي وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين "بعن" محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقال الحافظ عبد الكريم الحلبي قال أكثر العلماء المعنعنات التي في الصحيحين منزلة بمنزلة السماع "ويجب" سقوط الراوي بتدليسه "في المتفق" أي بمتفق على ضعفه لأنه غرر شديد في الدين لأنه يؤدي إلى إثبات الأحكام الشرعية بما لا يجوز إثباتها به ولو لم يقصد سوى تكبير شيخه أن يروي عن الضعفاء
ـــــــــــــــــــ
1 قوله وبقية هو بالموحدة قبل القاف ابن الوليد الكلاعي كما في الخلاصة وفي القاموس أنه محدث ضعيف لا بالتاء المثناة كما وقع في النسخ التي بيدنا كتبه مصححه.(24/195)
ص -329-…كما كان الوليد بن مسلم يفعله حتى قال له الهيثم بن خارجة: أفسدت حديث الأوزاعي تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد. وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع. عبد الله بن عامر الأسلمي وبينه وبين الزهري، إبراهيم بن مرة وقرة. فقال له أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء فقال الهيثم قلت له فإذا روى عن هؤلاء وهم ضعفاء أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي فلم يلتفت إلى قولي فهذا مستلزم للضرر الديني وهذا هو القسم الثاني من قسمي تدليس التسوية. والمراد بما عن شعبة التدليس أخو الكذب والتدليس في الحديث أشد من الزنى ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أدلس ولأن أزني أحب إلي من أن أدلس وهذا من شعبة كما قال ابن الصلاح إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير منه "وتحققه" أي هذا التدليس الكائن بالإسقاط يكون "بالعلم بمعاصرة الموصولين وإلا" إذا انتفى العلم بمعاصرتهما "لا تدليس" على الصحيح المشهور "ويقضي" تدليس الشيوخ "إلى تضييع" الشيخ "الموصول" أي المروي عنه "وحديثه" أي المروي أيضا بأن لا يتنبه له فيصير بعض رواته مجهولا ثم اعلم أن كون تدليس الإسناد ما تقدم هو المذكور لابن الصلاح وغيره وقال شيخنا الحافظ التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لقى لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه والصواب التفرقة بينهما ويدل على أن اعتبار اللقاء في التدليس دون المعاصرة وحدها لا بد منه إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الإرسال لا من قبيل التدليس ولو كان مجرد المعاصرة يكتفي به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم قطعا(24/196)
ولكن لم يعرف هل لقوه أم لا وممن قال باشتراط اللقاء في التدليس الإمام الشافعي وأبو بكر البزار وكلام الخطيب في الكفاية يقتضيه وهو المعتمد ويعرف عدم الملاقاة بإخباره عن نفسه بذلك أو بجزم إمام مطلع ولا يكفي أن يقع في بعض الطرق زيادة راو بينهما لاحتمال أن يكون من المزيد ولا يحكم في هذه الصورة بحكم كلي لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع وقد صنف فيه الخطيب كتاب التفصيل لمبهم المراسيل وكتاب المزيد في متصل الأسانيد.
مسألة
قال "الأكثر" ووافقهم الرازي والآمدي "الجرح والتعديل" يثبتان "بواحد في الرواية وباثنين في الشهادة وقيل" يثبتان "باثنين فيهما" أي الرواية والشهادة وهو مختار جماعة من المحدثين وحكاه الباقلاني عن أكثر الفقهاء من. أهل المدينة وغيرهم "وقيل" يثبتان "بواحد فيهما" أي الرواية والشهادة وهو مختار القاضي أبي بكر "للأكثر لا يزيد شرط على مشروطه بالاستقراء ولا ينقص" شرط عن مشروطه والعدالة شرط لقبول الرواية والشهادة والجرح شرط لعدم قبولهما، والرواية لا يشترط فيها العدد والشهادة يشترط فيها العدد وأقله اثنان فكذا(24/197)
ص -330-…التعديل والجرح فيهما "المعدد" أي شارطه فيهما قال كل منهما "شهادة" ولذا يرد بما ترد به الشهادة "فيتعدد" أي فيشترط فيهما العدد كما في سائر الشهادات "عورض" لا نسلم أن كلا منهما شهادة بل هو "خبر" عن حال الراوي "فلا" يشترط فيه العدد بل يكتفى فيه بالواحد إذا غلب على الظن صدقه "قالوا" أي المعدون فيهما اشتراط العدد في كل منهما "أحوط" لما فيه من زيادة الثقة والبعد عن احتمال العمل بما ليس بحديث فكان القول به أولى "أجيب بالمعارضة" وهي عدم اشتراط العدد أحوط حذرا من تضييع الشرائع من الأمر والنهي فإن الاكتفاء بواحد يفيد ذلك لأن به يصير قول الراوي مقبولا فتثبت به الشرائع من غير توقف على ثان تفوت بفواته ولأنه يبعد احتمال عدم العمل بما هو حديث "المفرد فيهما" أي التعديل والجرح قال كل منهما "خبر" فلا يشترط فيه العدد "فيقال" له بل كل منهما "شهادة" فيشترط فيه العدد "فإذا قال" المفرد الإفراد "أحوط" كما ذكرنا "عورض" بأن التعدد أحوط كما ذكرنا "والأجوبة" من الطرفين "كلها جدلية" لأنها ليست بمرجحة لمذهب بل موقفة عنه "والمعارضة الأولى" وهي الإفراد أحوط "تندفع بانتفاء شرع ما لم يشرع شر من ترك ما شرع" وهو عدم العمل بالحديث الذي لم تزك رواته اثنان وهما ليسا شرطا فيه ولا يخفى أن الصواب يندفع بأن شرع ما لم يشرع إلخ كما كانت النسخة عليه حال قراءتي لهذا الموضع على المصنف رحمه الله ثم إنما كان شرع ما لم يشرع شرا من ترك ما شرع لأنه يضرب بعرق إلى المشاركة في الربوبية تعالى الله عن ذلك بخلاف ترك ما شرع "والثانية" أي والمعارضة الثانية وهي التعدد أحوط "تقتضي التعدد فيهما" أي الجرح والتعديل "وقول الأكثر لا يزيد" شرط على مشروطه بالاستقراء "منتف بشاهد الهلال" أي هلال رمضان إذا كان بالسماء علة فإنه يكتفى فيه بواحد ويفتقر تعديله إلى اثنين "ولا ينقص" شرط عن مشروطه منتف "بشهادة الزنى" فإنه يلزم كونهم أربعة ويكفي(24/198)
في تعديلهم اثنان "وما قيل لا نقص" بهذين "بل" زيادة الأصل في شهادة الزنى ونقصانه في شهادة رمضان إنما ثبت "بالنص للاحتياط في الدرء" للعقوبات "والإيجاب" للعبادة كما هو مذكور في حاشية التفتازاني فللاحتياط في الدرء يرجع إلى شهادة الزنى والإيجاب يرجع إلى شهادة الهلال "لا يخرجه" أي هذا الجواب "عنهما" أي ثبوت الزيادة وثبوت النقص للشرط مع المشروط الذي هو عين ما به النقض وإن كان ذلك لباعث مصلحة خاصة فإن كل المشروعات كذلك "وأوجهها" أي هذه الأقوال "المفرد" أي القائل بأن المفرد يكفي فيهما "فإذا قيل كونه شهادة أحوط منع محليته" أي التعديل "له" أي للاحتياط "إذ الاحتياط عند تجاذب متعارضين" لا يمكن الجمع بينهما "فيعمل بأشدهما ولا تزيد التزكية على أنها ثناء" خاص "عليه" أي الشاهد والراوي "وهو" أي ثبوته له يكون "بمجرد الخبر" الخاص من المزكي "فإثبات زيادة على الخبر" بخبر آخر يكون "بلا دليل فيمتنع" التعارض "ولا يتصور الاحتياط واختلف في اشتراط ذكورة المعدل" للشاهد في الحدود عند أصحابنا ففي كتاب الحدود من باب أبي حنيفة من المختلف والحصر يشترط الذكورة في المزكي عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أن التزكية في معنى علة العلة عنده فيشترط فيها(24/199)
ص -331-…ما يشترط في العلة التي هي الشهادة وشرط محض لها عندهما فلا يشترط فيها ما يشترط فيها وظاهر الاختيار أنها شرط عند محمد خاصة والذي في الهداية ويشترط الذكورة في المزكي في الحدود قال في غاية البيان يعني بالإجماع وكذا في القصاص ذكره في المختلف في كتاب الشهادات في باب محمد ا هـ وهذا هو الأشبه فلا جرم أن قال الزيلعي قالوا يشترط الذكورة عند الشهادة في تزكية شهود الحد بالإجماع.
"ومقتضى النظر قبول تزكية كل عدل ذكرا أو امرأة فيما يشهد به حر أو عبد" لما تقدم من أن حقيقتها ثناء وإخبار خاص عن حال الشاهد أو الراوي لا الشهادة "ولو شرطت الملابسة في المرأة" لمن تزكيه "لسؤال بريرة" أي سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك بإشارة علي كما ثبت ذلك في الصحيح "والعبد" أيضا "لم يبعد فينتفي ظهور مبنى النفي" قال المصنف يعني أن نفي تعديل المرأة والعبد لظهور عدم مخالطتهما الرجال والأحرار خلطة توجب معرفة باطن الحال فلو قيل بجواز تعديلهما بشرط العلم بمخالطتهما كأن تعدل من كانت زوجته والعبد من كان مولى له ثم باعه أو من عرف اتفاق أمر كان جامعا بينه وبينهما لم يبعد، ولم يبعد كناية عن قولنا حسن فيكون مذهبا مفصلا فإن الخلاف في المرأة مطلق من الجانبين فيثبت قول ثالث وهو إن عرف مخالطتها وفي العبد المعروف إطلاق الجواز فيثبت فيه قول ثان وهو إن عرف مخالطته وإلا لا ا هـ.(24/200)
قلت وهذا الذي أبداه المصنف في المرأة تفقها ظفرت به منقولا ففي المحيط ويقبل تعديل المرأة لزوجها إذا كانت برزة تخالط الناس وتعاملهم لأن لها خبرة بأمورهم ومعرفة بأحوالهم فيفيد السؤال والتعديل من أمور الدين فيستوي فيه الأنثى والذكر كرواية الأخبار ورؤية هلال رمضان خصوصا في تعديل النسوان لأن المرأة أعرف بالأحوال في بيوتهن فإن كانت مخدرة غير برزة لا يكون لها خبرة فلا تعرف أحوال الناس إلا حال زوجها وولدها فلا يكون تعديلها معتبرا فلا يفيد السؤال عنها ا هـ.
وحينئذ فلقائل أن يقول مراد المطلق هذا وإنما طوى ذكره من طواه للعلم به من أنه إنما تطلب التزكية ممن له خبرة بأحوال المزكى كما نص عليه مشايخنا وغيرهم وقد حكى مشايخنا أيضا خلافا بين أبي حنيفة وأبي يوسف وبين محمد في تزكية العبد فلم يقبلها محمد وقبلها أبو حنيفة وأبو يوسف ولا بد من حمل إطلاق قبولها منه على ما إذا كان له خبرة بأحوال المزكى كما ذكرنا فيكون في كل من تزكية المرأة والعبد قولان المنع مطلقا والقبول بشرط خبرتهما بالمزكى ثم التحرير في هذه المسألة أن التزكية إما تزكية العلانية فأصحابنا مجمعون على أنه يشترط لها سائر أهلية الشهادة وما يشترط في الشهادة سوى لفظة الشهادة لأن معنى الشهادة فيها أظهر لأنها تختص بمجلس القضاء وأما تزكية السر ففي الحدود والقصاص عرفت ما فيها غير أنهم ذكروا أن محمدا اشترط في شهود الزنى أربعة ذكور ولم أقف على تعيين عدد فيها لهما اللهم إلا ما يقتضيه إطلاق اشتراط عدد الشهادة فيها في الحد(24/201)
ص -332-…إجماعا من أن المراد به اثنان بالنسبة إليهما ومن هنا يعلم توجه التقصي على قول محمد عن النقض بشهادة الزنى لما قيل من أنه لا ينقص شرط عن مشروطه فإن على قوله فيها لم ينقص وفي غيره من الحدود والقصاص تقدم أن اشتراط الرجلين إجماع وأما غير الحدود والقصاص فذكروا أن محمدا يشترط في الحقوق التي يطلع عليها الرجال رجلين أو رجلا وامرأتين وفيما لا يطلع عليه الرجال امرأة واحدة فرتبها على مراتب الشهادة وأنه لا يقبل تزكية الفاسق والمحدود في القذف والصبي والعبد والأعمى وأطلقوا أنهما يقبلان تزكية المذكورين والوالد لولده والولد لوالده وأحد الزوجين للآخر ولم يذكروا اشتراط عدد في ذلك عنهما والظاهر عدمه عندهما وإنما الأحوط اثنان كما ذكره غير واحد ومن هذا يعلم أيضا أن تقييد المصنف تعديل المرأة زوجها والعبد سيده بما يشير إليه كلامه من كون الزوجية والسيدية غير قائمة بينهما في الحال لا حاجة إليه ثم الظاهر أن تزكية الراوي كتزكية السر عند أبي حنيفة وأبي يوسف والله سبحانه أعلم.
مسألة(24/202)
"إذا تعارض الجرح والتعديل فالمعروف مذهبان تقديم الجرح مطلقا" أي سواء كان المعدلون أقل من الجارحين أو مثلهم أو أكثر منهم نقله الخطيب عن جمهور العلماء وصححه الرازي والآمدي وابن الصلاح وغيرهم "وهو المختار والتفصيل بين تساوي المعدلين والجارحين فكذلك" أي يقدم الجرح "والتفاوت" بين المعدلين والجارحين في المقدار "فيترجح الأكثر" من الفريقين على الأقل منهما "فأما وجوب الترجيح" لأحدهما على الآخر بمرجح "مطلقا" أي سواء تساويا أو كان أحدهما أكثر من الآخر "كنقل ابن الحاجب فقد أنكر" كما أشار إليه الشيخ زين الدين العراقي "بناء على حكاية القاضي أبي بكر" الباقلاني "والخطيب" البغدادي "الإجماع على تقديم الجرح عند التساوي لولا تعقب المازري الإجماع بنقله عن مالكي يشهر بابن شعبان" أنه يطلب الترجيح في هذا كما قيل إذا كان الجارح أقل من المعدل "لكنه" أي ابن شعبان "غير مشهور ولا يعرف له تابع فلا ينفيه" أي قول ابن شعبان الإجماع ولكن لقائل أن يقول إذا كان ثمة قائل بعدم تعين العمل بالتعديل إذا كان الجارح أقل بل يطلب الترجيح فهذا قائل أيضا بطريق أولى بعدم تعين العمل بالتعديل وطلب الترجيح إذا تساوى عدد الجارحين والمعدلين كما لا يخفى فينخدش دعوى الإجماع اللهم إلا أن يكون كل من هذين ذهب إلى ما قاله بعد انعقاد الإجماع على تقديم الجرح على التعديل إذا تساوى عدداهما ويجاب بأن الأمر على هذا لكن لم يتحقق قائل بطلب الترجيح إذا كان الجارح أقل "وأما وضع شارحه" أي كلام ابن الحاجب وهو القاضي عضد الدين "مكان" وقيل "الترجيح التعديل" أي قوله وقيل بل التعديل مقدم "فلا يعرف قائل بتقديم التعديل مطلقا" وأوله الأبهري بما لا طائل تحته وقال الكرماني وفي بعض النسخ بل التجريح مقدم وهو موافق لكلام الشارحين والمصنف أيضا قلت وهذا أعجب فإنه عين الأول ولعله توهم أنه الترجيح "والخلاف عند إطلاقهما" أي الجرح والتعديل بلا تعيين سبب "أو(24/203)
تعيين(24/204)
ص -333-…الجارح سببا لم ينفه المعدل أو نفاه" المعدل "بطريق غير يقيني لنا في تقديم الجرح عدم الإهدار" لكل من الجرح والتعديل بل الجمع بينهما "فكان" تقديمه "أولى أما الجارح فظاهر" لأنا قدمناه "وأما قول المعدل فلأنه ظن العدالة لما قدمناه" من أن التزام الإسلام ظاهر في اجتناب محظورات دينه "ولما يأتي" من أن العدالة يتصنع في إظهارها فتظن وليست بثابتة "ورد ترجيح العدالة بالكثرة" للمعدلين "بأنهم وإن كثروا ليسوا مخبرين بعدم ما أخبر به الجارحون" ولو أخبروا به لكانت شهادة باطلة على نفي ذكره الخطيب قال المصنف "ومعنى هذا أنهم" أي المعدلين والجارحين "لم يتواردوا في التحقيق" على محل واحد فلا تعارض بين خبريهما "فأما إذا عين" الجارح "سبب الجرح" بأن قال قتل فلان يوم كذا "ونفاه المعدل يقينا" بأن قال رأيته حيا بعد ذلك اليوم "فالتعديل" أي تقديمه على الجرح "اتفاق وكذا" يقدم التعديل على الجرح "لو قال" المعدل "علمت ما جرحه" أي الجارح للشاهد أو الراوي "به" من القوادح "وأنه" أي المجروح "تاب عنه" أي عما جرح به هذا وفي حكاية الاتفاق على تقديم التعديل في هاتين الصورتين أو الأولى نظر فإن الذي في الصورة الأولى في أصول ابن الحاجب وشروحه وكانت النسخة عليه أولا أيضا فالترجيح وقالوا لعدم إمكان الجمع وفي شرح السبكي والأظهر أنها من مواقع الخلاف انتهى نعم رجحان التعديل في الصورتين متجه كما هو غير خاف إن شاء الله تعالى والله سبحانه أعلم.
مسألة(24/205)
"أكثر الفقهاء ومنهم الحنفية و" أكثر "المحدثين" ومنهم البخاري ومسلم "لا يقبل الجرح إلا مبينا" سببه كأن يقول الجارح فلان شارب خمر أو آكل ربا "لا التعديل وقيل بقلبه" أي لا يقبل التعديل إلا مبينا سببه كأن يقول المعدل فلان مجتنب للكبائر والإصرار على الصغائر وخوارم المروءة ويقبل الجرح بلا ذكر سببه "وقيل" يكفي الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "وقيل لا" يكفي الإطلاق وقال "القاضي" أبو بكر قال "الجمهور من أهل العلم إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف" عن ذلك "ولم يوجبوه" أي الكشف "على علماء الشأن قال ويقوى عندنا تركه" أي الكشف عن ذلك "إذا كان الجارح عالما كما لا يجب استفسار المعدل" عما به صار عنده المزكى عدلا "وهذا ما يخالف ما عن إمام الحرمين إن كان" كل من المعدل والجارح "عالما كفى" الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "وإلا" لو لم يكن عالما "لا" يكفي الإطلاق فيهما كما ذكره ابن الحاجب وغيره واختاره الغزالي والرازي والخطيب "في الاكتفاء في التعديل بالإطلاق" عن شرط العلم به فإنه على قول القاضي يكتفى فيه بالإطلاق من غير شرط كون المعدل عالما وعلى قول الإمام لا يكتفى فيه بالإطلاق إلا إذا كان المعدل عالما "أو" هذا "مثله" أي ما عن الإمام من القول المذكور بناء على إرادة تقييد المعدل بالعلم "فما نسب إلى القاضي من الاكتفاء بالإطلاق" في الجرح كما وقع للإمام والغزالي في المنخول "غير ثابت" عن القاضي بل كما قال الشيخ زين الدين العراقي الظاهر أنه وهم منهما والمعروف عنه أنه لا يجب ذكر سبب واحد منهما إذ كان كل من الجارح(24/206)
ص -334-…والمعدل بصيرا كما مشى عليه الغزالي في المستصفى وحكاه عنه الرازي والآمدي ورواه الخطيب "ويبعد من عالم القول بسقوط رواية أو ثبوتها بقول من لا خبرة عنده بالقادح وغيره" بل كما قال السبكي لا يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقا من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل به وقد أشار إلى هذا القاضي "وما أوردوه من دليله" أي القاضي "إن شهد" الجارح "من غير بصيرة لم يكن عدلا" لإطلاق الكلام حينئذ بمجرد التشهي. "والكلام فيه" أي والحال أن الكلام إنما هو في العدل "فيلزم أن لا يكون" الجارح "إلا ذا بصيرة فإن سكت" الجارح عن البيان "في محل الخلاف" أي الموضع المختلف في أنه هو سبب الجرح "فمدلس" وهو قادح في عدالته وغير خاف أن ما أوردوه مبتدأ خبره "يفيد أن لا بد من بصيرة عنده" أي القاضي "بالقادح وغيره بالخلاف فيما فيه" الخلاف من أسباب الجرح والتعديل "وكذا ما أجابوا به" أي القاضي "من أنه" أي الجارح "قد يبني على اعتقاده" فيما يراه جرحا حقا "أو لا يعرف الخلاف" فلا يكون مدلسا "فرع أن له" أي للجارح "علما غير أنه قد لا يعرف الخلاف فيجرحه أو يعدله بما يعتقده وهو مخطئ فيه لكن دفع بأن كونه لا يعرف الخلاف خلاف مقتضى بصره، والحاصل أنه لا وجود لذلك القول" أي سقوط رواية أو ثبوتها بقول من لا خبرة عنده بالقادح وغيره "فيجب كون الأقوال على تقدير العلم" للمعدل والجارح فيكون "أربعة فقائل" يقول "لا يكفي" الإطلاق من العالم "فيهما" أي الجرح والتعديل "للاختلاف" بين العلماء في سببهما. "ففي التعديل جواب أحمد بن يونس في تعديل عبد الله العمري" إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة فاستدل على ثقته بما ليس بحجة لأن حسن الهيئة يشترك فيها المعدل والمجروح "وفي الجرح" الاختلاف في سببه "كثير كشعبة" أي كجرحه "بالركض" كما تقدم "وغيره" أي وبسماع الصوت من منزل المنهال بن عمرو للمنهال وخصوصا إن كان(24/207)
قراءة بألحان كما ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه فلو أثبت بالإطلاق لكان مع الشك به واللازم باطل "والجواب" عن هذا "بأن لا شك" في ثبوته به "مع إخبار العدل" لأن قوله يوجب الظن وأنه لو لم يعرف لم يقل "مدفوع بأن المراد" بالشك "الشك الآتي من احتمال الغلط في العدالة للتصنع" في إظهارها بالتكلف في الاتصاف بالفضائل والكمالات فيتسارع الناس إليها بناء على الظاهر وهذا هو الموعود به في التي قبل هذه بقوله ولما يأتي "واعتقاد ما ليس قادحا قادحا في الجرح، والعدالة لا تنفيه" أي الغلط المذكور "والجواب أن قصارى" أي غاية "العدل الباطن الظن القوي بعدم مباشرة الممنوع" شرعا "لتعذر العلم" بعدم المباشرة المذكورة "والجهل بمفهوم العدالة ممتنع عادة من أهل الفن ولا بد في إخباره" أي المعدل "من تطبيقه" أي مفهوم العدالة "على حال من عدله فأغنى" مجموع هذا "عن الاستفسار" منه عن سببها "ويقطع بأن جواب أحمد" بن يونس المذكور "استرواح لا تحقيق إذ لا نشك أنه لو قيل له ألحسن اللحية وخضابها دخل في العدالة؟ نفاه" أي أن يكون لها دخل في مفهومها "وقائل" يقول "يكفي" الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "من العالم لا من غيره" وقيد به ليتبين دخول قول الإمام(24/208)
ص -335-…في هذا القسم حيث قال "وهو مختار الإمام تنزيلا لعلمه منزلة بيانه" وإلا فقد علم أنه شرط في كل الأقوال "وجوابه في الجرح ما تقدم" من أن الاختلاف في أسباب الجرح كثير بخلاف العدالة "وقائل" يقول يكفي الإطلاق "في العدالة فقط للعلم بمفهومها اتفاقا فسكوته كبيانه بخلاف الجرح" فإن أسبابه كثيرة وبعضها مختلف فيه "وهو" أي هذا القول "مذهب الجمهور وهو الأصح وقائل" يقول "قلبه" أي يكفي الإطلاق في الجرح لا في العدالة "للتصنع في العدالة والجرح يظهر وتقدم" جوابه مرتين "ويعترض على الأكثر بأن عمل الكل" من أهل الشأن "في الكتب على إبهام" سبب "التضعيف إلا قليلا فكان" الاكتفاء بإطلاق الجرح "إجماعا والجواب" من ابن الصلاح عن هذا "بأنه" أي عملهم المذكور "أوجب التوقف عن قبوله" أي الراوي المضعف لأن ذلك يوقع فيه ريبة يوجب مثلها التوقف ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كمن احتج به البخاري ومسلم وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم "يوجب قبول" الجرح "المبهم إذ الكلام فيمن عدل وإلا فالتوقف لجهالة حاله ثابت وإن لم يجرح بل الجواب أن أصحاب الكتب المعروفين عرف منهم صحة الرأي في الأسباب" الجارحة فأوجب جرحهم المبهم التوقف عن العمل بالمجروح "حتى لو عرف" الجارح منهم "بخلافه" أي خلاف الرأي الصحيح في الأسباب الجارحة "لا يقبل" جرحه "فلا يتوقف" في قبول ذلك المجروح حينئذ والله تعالى أعلم.
مسألة(24/209)
"الأكثر على عدالة الصحابة" فلا يبحث عنها في رواية ولا شهادة "وقيل" هم "كغيرهم" فيهم العدول وغيرهم "فيستعلم التعديل بما تقدم" من التزكية وغيرها إلا من كان مقطوعا بعدالته كالخلفاء الأربعة أو ظاهرها "وقيل" هم "عدول إلى الدخول في الفتنة" في آخر عهد عثمان كما عليه كثير وقيل من حين مقتل عثمان وقال القاضي عضد الدين ما بين علي ومعاوية قال الأبهري وإنما قال هذا وإن كان من مذهب هذا القائل أنه لا تقبل رواية الداخل في فتنة عثمان أيضا تنبيها على أن الفتنة بينهما كانت بسبب قتل عثمان "فتطلب التزكية" لهم من وقتئذ "فإن الفاسق من الداخلين غير معين ونقل بعضهم" أي القاضي عضد الدين "هذا المذهب بأنهم كغيرهم إلى ظهورها فلا يقبل الداخلون مطلقا" أي من الطرفين "لجهالة عدالة الداخل والخارجون" منها "كغيرهم" يحتمل قوله إلى ظهورها أمرين عدم قبولهم إلا بعد ثبوت عدالتهم بالبحث عنها وعدم القبول مطلقا فإن أراد الأول كما أشار إليه قوله "إن أراد أنه يبحث عنها" أي عدالتهم "بعد الدخول وهو" أي البحث عنها بعده "منقول" عن بعضهم "ففاسد التركيب" إذ حاصله: هم كغيرهم إلى ظهورها فهم كغيرهم "وحاصله المذهب الثاني وليس ثالثا" إذ معناه حينئذ أنهم كغيرهم مطلقا وإن أراد الثاني كما أشار إليه قوله "وإن أراد لا يقبل بوجه فشقه الأول" ينبغي أن يكون: فهم "عدول" إلى: ظهورها فلا يقبلون لأنهم "كغيرهم" ثم لا قائل بأنهم لا يقبلون أصلا "وقالت المعتزلة عدول إلا من قاتل(24/210)
ص -336-…عليا لنا" على المختار وهو الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]" الآية مدحهم تعالى فدل على فضلهم "ولا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" كما في الصحيحين وغيرهما وهذا من أبلغ الأدلة وأوضحها على عظيم فضلهم "وما تواتر عنهم من مداومة الامتثال" للأمر والنهي وبذلهم الأموال والأنفس في ذلك فإن هذه الأمور أدل دليل على العدالة "ودخولهم في الفتن بالاجتهاد" أي اجتهدوا فيها فأدى اجتهاد كل إلى ما ارتكبه وحينئذ فلا إشكال سواء كان كل مجتهد مصيبا كما هو ظاهر أو المصيب واحدا لوجوب العمل بالاجتهاد اتفاقا ولا تفسيق بواجب على أن ابن عبد البر حكى إجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول وهذا أولى من حكاية ابن الصلاح إجماع الأمة على تعديل جميع الصحابة نعم حكايته إجماع من يعتد بهم في الإجماع على تعديل من لابس الفتن منهم حسن. وقال السبكي و القول الفصل أنا نقطع بعدالتهم من غير التفات إلى هذيان الهاذين وزيغ المبطلين وقد سلف اكتفاؤنا في العدالة بتزكية الواحد منا فكيف بمن زكاهم علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء في غير آية وأفضل خلق الله الذي عصمه الله عن الخطأ في الحركات والسكنات محمد صلى الله عليه وسلم في غير حديث ونحن نسلم أمرهم فيما جرى بينهم إلى ربهم جل وعلا ونبرأ إلى الملك سبحانه ممن يطعن فيهم ونعتقد أن الطاعن على ضلال مهين وخسران مبين مع اعتقادنا أن الإمام الحق كان عثمان وأنه قتل مظلوما وحمى الله الصحابة من مباشرة قتله فالمتولي قتله كان شيطانا مريدا ثم لا نحفظ عن أحد منهم الرضا بقتله إنما المحفوظ الثابت عن كل منهم إنكار ذلك ثم كانت مسألة الأخذ بالثأر اجتهادية رأى علي كرم الله وجهه التأخير مصلحة ورأت عائشة رضي(24/211)
الله عنها البدار مصلحة وكل جرى على وفق اجتهاده وهو مأجور إن شاء الله تعالى. ثم كان الإمام الحق بعد ذي النورين عليا كرم الله وجهه وكان معاوية رضي الله عنه متأولا هو وجماعته ومنهم من قعد عن الفريقين وأحجم عن الطائفتين لما أشكل الأمر وكل عمل بما أدى إليه اجتهاده والكل عدول رضي الله عنهم فهم نقلة هذا الدين وحملته الذين بأسيافهم ظهر وبألسنتهم انتشر ولو تلونا الآي وقصصنا الأحاديث في تفضيلهم لطال الخطاب فهذه كلمات من اعتقد خلافها كان على زلل وبدعة فليضمر ذو الدين هذه الكلمات عقدا ثم ليكف عما جرى بينهم فتلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا انتهى. والحاصل أنهم خير الأمة وأن كلا منهم أفضل من كل من بعده وإن رقي في العلم والعمل خلافا لابن عبد البر في هذا حيث قال قد يأتي بعدهم من هو أفضل من بعضهم والله سبحانه أعلم.
"ثم الصحابي" أي من يطلق عليه هذا الاسم "عند المحدثين وبعض الأصوليين من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات على إسلامه" قال شيخنا الحافظ والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكلمه، ويدخل فيه رؤية أحدهما الآخر سواء كان بنفسه أو بغيره انتهى وذلك بأن يحمل صغيرا إليه صلى الله عليه وسلم لكن هل تمييز(24/212)
ص -337-…الملاقي له شرط حتى لا يدخل الأطفال الذين حنكهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاقوه مميزين ولا من رآه وهو لا يعقل أم ليس بشرط فيدخلون. فيه تردد قال الشيخ زين الدين العراقي ويدل على اعتبار التمييز مع الرؤية ما قاله شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب المراسيل في ترجمة عبد الله بن الحارث بن نوفل حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولا صحبة له بل ولا رؤية وحديثه مرسل أيضا وفي ترجمة عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولا تعرف له رؤية بل هو تابعي وحديثه مرسل انتهى وخرج ب "مسلما" من لقيه كافرا سواء لم يسلم بعد ذلك أو أسلم بعد حياته أو لم يلقه أو بعد وفاته وبقوله ومات على إسلامه من لقيه مسلما ثم ارتد ومات على ردته كعبد الله بن خطل وهذا بناء على أن المراد تعريف من يسمى صحابيا بعد انقراض الصحابة لا مطلقا وهو كذلك وإلا لزمه أن لا يسمى الشخص صحابيا حال حياته ولا يقول بذلك أحد "أو" لقيه "قبل النبوة ومات قبلها على الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يبعث أمة وحده وذكره ابن منده في الصحابة وعلى هذا فينبغي أن يترجم في الصحابة القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ولد ومات قبل النبوة فإن قلت إنما لم يترجموه فيهم لاشتراط تمييز الملاقي كما يدل عليه ما تقدم قلت فيشكل بترجمتهم في الصحابة لإبراهيم وعبد الله ابنيه صلى الله عليه وسلم "أو" لقيه مسلما "ثم ارتد وعاد" إلى الإسلام "في حياته" صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن أبي سرح إذ لا مانع من دخوله في الصحبة ثانيا بدخوله الثاني في الإسلام "وأما" لو لقيه مسلما ثم ارتد وعاد إلى الإسلام "بعد وفاته" صلى الله عليه وسلم "كقرة" بن هبير "والأشعث" بن قيس "ففيه نظر و الأظهر النفي" لصحبته لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من أشرف الأعمال وحيث كانت الردة محبطة للعمل عند أبي حنيفة ونص(24/213)
عليه الشافعي في الأم فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة وذهب شيخنا الحافظ إلى أن الأصح أن اسم الصحبة باق للراجع إلى الإسلام سواء رجع للإسلام في حياته أم بعده سواء لقيه ثانيا أم لا قال ويدل على رجحانه قصة الأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد وأتي به إلى أبي بكر الصديق أسيرا فعاد إلى الإسلام فقبل منه ذلك وزوجه أخته ولم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة ولا عن تخريج أحاديثه في المسانيد وغيرها انتهى. والأول أوجه دليلا.
"و" عند "جمهور الأصوليين من طالت صحبته" للنبي صلى الله عليه وسلم "متتبعا" له "مدة يثبت معها إطلاق صاحب فلان عرفا" عليه "بلا تحديد" لمقدارها بمقدار مخصوص "في الأصح وقيل" مقدارها "ستة أشهر" فصاعدا ذكره المايمرغي والله تعالى أعلم بوجهه "وابن المسيب" مقدارها "سنة أو غزو" معه وعلل بأن لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم شرفا عظيما فلا تنال إلا باجتماع طويل يظهر فيه الخلق المطبوع عليه الشخص كالسنة المشتملة على الفصول الأربعة التي يختلف فيها المزاج والغزو المشتمل على السفر الذي هو قطعة من العذاب ويسفر فيه أخلاق الرجل وفيه ما لا يخفى ثم لو لم يلزمه إلا أنه لا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومن شاركه في انتفاء هذا الشرط مع كونهم لا خلاف في عدهم من الصحابة لكفى في ضعفه "لنا" على المختار وهو قول جمهور الأصوليين "إن المتبادر من" إطلاق "الصحابي وصاحب(24/214)
ص -338-…فلان العالم ليس إلا ذاك" أي من طالت صحبته إلى آخره "فإن قيل يوجبه" أي كون الصحابي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ساعة "اللغة" لاشتقاقه من الصحبة وهي تصدق على كل من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا "قلنا" إيجاب اللغة ذلك "ممنوع فيما بياء النسبة ولو سلم" إيجاب اللغة ذلك فيما بياء النسبة أيضا فقد تقرر للأئمة عرف في أنهم لا يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه على ما تقدم ولا يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة ومشى معه خطى وسمع منه حديثا وإذا كان كذلك "فالعرف مقدم ولذا" أي تقدمه على اللغة "يتبادر" هذا المراد العرفي من إطلاقه "قالوا الصحبة تقبل التقييد بالقليل والكثير يقال صحبه ساعة كما يقال" صحبه "عاما فكان" وضعها "للمشترك" بينهما كالزيارة والحديث فإنهما لما احتملا القليل والكثير جعل الزائر والمحدث لمن اتصف بالقدر المشترك بينهما دفعا للمجاز والاشتراك "قلنا" هذا "غير محل النزاع قالوا لو حلف لا يصحبه حنث بلحظة قلنا" هذا "في غيره" أي غير محل النزاع أيضا "لا فيه" أي محل النزاع "وهو الصحابي بالياء" التي للنسبة "بل تحقق فيه" أي الصحابي "اللغة والعرف الكائن في نحو أصحاب الحديث وأصحاب ابن مسعود وهو" أي العرف المذكور "للملازم متتبعا" للملازم "اتفاقا ويبتنى عليه" أي الخلاف في الصحابي من هو "ثبوت عدالة غير الملازم فلا يحتاج إلى التزكية" كما هو قول المحدثين وبعض الأصوليين "أو" عدم ثبوتها وحينئذ "يحتاج" إلى التزكية كما هو قول جمهور الأصوليين "وعلى هذا المذهب جرى الحنفية كما تقدم" في مثل معقل بن سنان فجعلوا تزكيته عمل السلف بحديثه "ولولا اختصاص الصحابي بحكم" شرعي وهو عدالته "لأمكن جعل الخلاف في مجرد الاصطلاح" أي تسميته صحابيا كما ذكره ابن الحاجب "ولا مشاحة فيه" أي الاصطلاح لكن الاختصاص المذكور يفيد أنه معنوي "وأما قول إن الصحابي من عاصره" صلى الله عليه وسلم "فقط" وهو قول(24/215)
يحيى بن عثمان بن صالح المصري فإنه قال وممن دفن أي بمصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أدركه ولم يسمع منه أبو تميم الجيشاني واسمه عبد الله بن مالك انتهى، وإنما هاجر أبو تميم إلى المدينة في خلافة عمر باتفاق أهل السير "ونحوه" كأن كان صغيرا محكوما بإسلامه تبعا لأحد أبويه وعليه عمل ابن عبد البر في الاستيعاب وابن منده في معرفة الصحابة "فتكلف كتابته كثير" لانكشاف انتفاء الصحبة فيمن كان بهذه المثابة والله تعالى أعلم.
مسألة
"إذا قال المعاصر" للنبي صلى الله عليه وسلم "العدل أنا صحابي قبل على الظهور" لأن الظاهر أن وازع عدالته تمنعه من الكذب "لا" على "القطع لاحتمال قصد الشرف" بدعوى رتبة شريفة لنفسه "فما قيل" هو "كقول غيره" أي غير الصحابي "أنا عدل" كما في البديع "تشبيه في احتمال القصد" للشرف "لا تمثيل" في حكمه "وإلا" لو كان تمثيلا "لقبل" قوله أنا عدل فيحكم بعدالته "أو لم يقبل الأول" أي قول المعاصر العدل أنا صحابي فلا يحكم بصحابته "والفارق" بين قول الصحابي أنا صحابي وقول غيره أنا عدل في قبول الأول دون الثاني "سبق العدالة للأول على(24/216)
ص -339-…دعواه" الصحبة بخلاف الثاني فإنه لم يثبت عدالته قبل قوله أنا عدل ليقبل نعم لا بد أن يكون دعواه الصحبة لا ينافيها الظاهر، وأما لو ادعاها بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فإنها لا تقبل للحديث الصحيح "أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن هو على وجه الأرض" يريد انخرام القرن قاله في سنة وفاته ذكره الحافظ زين الدين العراقي وغيره.
مسألة
"إذا قال الصحابي قال عليه السلام حمل على السماع" منه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة لأن الغالب من الصحابي أنه لا يطلق القول عنه إلا إذا سمعه منه "وقال القاضي يحتمله" أي السماع "والإرسال" لاحتمال الأمرين لفظ قال ومع هذا "فلا يضر إذ لا يرسل إلا عن صحابي" والصحابة كلهم عدول "ولا يعرف في" رواية "الأكابر عن الأصاغر روايتهم" أي الصحابة "عن تابعي إلا كعب الأحبار في الإسرائيليات" روى عنه العبادلة الأربعة وأبو هريرة ومعاوية وأنس ثم نقل هذا عن القاضي وفاقا لابن الحاجب والآمدي وتعقبه السبكي بأن الذي نص عليه القاضي في التقريب حمل قال على السماع ولم يحك فيه خلافا، قال السبكي بل ولا أحفظ عن أحد فيها خلافا "ولا إشكال في قال لنا وسمعته وحدثنا" وأخبرنا وشافهنا أنه محمول على السماع منه فهو خبر يجب قبوله بلا خلاف، "مع أنه وقع التأول في قول الحسن حدثنا أبو هريرة يعني" حدث أبو هريرة "أهل المدينة وهو" أي الحسن "بها" أي بالمدينة لكن قال ابن دقيق العيد هذا إذا لم يقم دليل قاطع على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة لم يجز أن يصار إليه قال الشيخ زين الدين العراقي قال أبو زرعة وأبو حاتم من قال عن الحسن حدثنا أبو هريرة فقد أخطأ انتهى والذي عليه العمل أنه لم يسمع منه شيئا وهو منقول عن كثير من الحفاظ بل. قال يونس بن عبيد ما رآه قط. وقال ابن القطان حدثنا ليس بنص في أن قائلها سمع "وفي مسلم قول الذي يقتله الدجال أنت الدجال الذي حدثنا به رسول الله صلى(24/217)
الله عليه وسلم أي أمته وهو منهم" بناء على أنه لم يثبت ما في مسلم أيضا. قال أبو إسحاق يعني إبراهيم بن سفيان راوي مسلم يقال إن هذا الرجل هو الخضر وإن كان معمر ذكره في جامعه في أثر هذا الحديث أيضا ولا أن الخضر لقي النبي صلى الله عليه وسلم هذا والذي في الصحيحين "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خيار الناس فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه" "فإن قال سمعته أمر أو نهى" أوجبت هذه الزيادة نقصا في الحجة فجاء الخلاف "فالأكثر حجة" لظهوره في تحققه كذلك والعدل لا يجزم بشيء إلا إذا علمه "وقيل يحتمل أنه اعتقده" أي ما سمعه "من صيغة أو" شاهده من "فعل أمرا ونهيا وليس" ما اعتقده أمرا ونهيا "إياه" أي أمرا ونهيا "عند غيره" كما إذا اعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فيقول نهى عن كذا والنهي عن الشيء أمر بضده أو أن الفعل يدل على الأمر فيقول أمر وغيره لا يراه نهيا ولا أمرا "ورده" أي هذا القول "بأنه احتمال بعيد صحيح" لمعرفتهم بأوضاع اللغة والفرق بين الأوامر والنواهي وما هو أدق منهما وعدالتهم المقتضية لتحرزهم في مواقع الاحتمال والاحتمالات(24/218)
ص -340-…البعيدة لا تمنع الظهور "أما أمرنا" بكذا كما في الصحيح عن أم عطية أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور الحديث. "ونهينا" عن كذا كما في الصحيح عنها أيضا نهينا عن اتباع الجنائز. "وأوجب" علينا كذا وأبيح لنا أو رخص لنا كذا ببناء الجميع للمفعول "وحرم" علينا كذا "وجب أن يقوى الخلاف" فيه "للزيادة" للاحتمال فيه على ما تقدم "بانضمام احتمال كون الآمر بعض الأئمة أو" كون ذلك "استنباطا" من قائله فإن المجتهد إذا قاس فغلب على ظنه أنه مأمور بالحكم الذي أداه إليه قياسه يجب عليه العمل بموجبه ويقول عرفا أمرنا بكذا وكذا الباقي وقد ذهب إلى هذا الكرخي والصيرفي والإسماعيلي "ومع ذلك" أي احتماله لهذه الاحتمالات فهي "خلاف الظاهر إذ الظاهر من قول مختص بملك له الأمر ذلك" أي أن الآمر ذلك الملك فيكون ظاهرا في أن الآمر والناهي والموجب والمحرم والمبيح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه الأكثر لا أنه لا خلاف فيه بين أهل النقل كما جزم به البيهقي وقيل هذا في غير الصديق أما إذا قاله الصديق فهو مرفوع بلا خلاف ثم ما عدا هذا الظاهر احتمال بعيد فلا يرفع الظهور "وقوله" أي أي الصحابي "من السنة كذا" كما في رواية ابن داسة وابن الأعرابي لسنن أبي داود أن عليا رضي الله عنه قال السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة. بل قول الراوي صحابيا كان أو غيره ذلك "ظاهر عند الأكثر في سنته عليه السلام" وقدمنا في تقسيم للحنفية الحكم إما رخصة... إلى آخره أن هذا قول أصحابنا المتقدمين وبه أخذ صاحب الميزان والشافعية وجمهور المحدثين "وتقدم للحنفية" أي لكثير منهم كالكرخي والرازي وأبي زيد وفخر الإسلام والسرخسي ومتابعيهم والصيرفي من الشافعية "أنه" أي هذا القول من الراوي صحابيا كان أو غيره "أعم منه" أي من كونه سنة النبي صلى الله عليه وسلم "ومن سنة" الخلفاء "الراشدين" وبينا ثمة بعون الله وتوفيقه الوجه من الطرفين.(24/219)
وإن الحافظ العراقي ذكر أن الأصح أنه من التابعين كما قال النووي موقوف ومن الصحابة ظاهر في مراده سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن البيهقي والحاكم نفيا في هذا الخلاف وأن ابن عبد البر نفاه فيهما وأنه محمول على اطلاعهم على الخلاف فليتنبه له "ومثله" أي قول الصحابي من السنة، في الخلاف، في ثبوت الحجية قوله "كنا نفعل أو نرى وكانوا" يفعلون كذا فالأكثر أنه "ظاهر في الإجماع عندهم" أي الصحابة "وقيل ليس بحجة قالوا لو كان" حجة "لم تجز المخالفة لخرق الإجماع" واللازم منتف بالإجماع "والجواب" عن هذا "بأن مقتضى ما ذكر ظهوره" أي هذا القول "في نفي الإجماع أو" "لزوم نفيه" أي الإجماع "وهو" أي ظهوره في أحدهما "خلاف مدعاكم" أيها النافون للحجية لأن مدعاكم أنه ليس بحجة وهذا منكم إنما ينفي كونه إجماعا أو يلزم منه نفي كونه إجماعا ولا يلزم من كل منهما نفي الحجية ثم الجواب مبتدأ خبره "غير لازم لأن التساوي" في احتمال كونه حجة واحتمال كونه غير حجة "كاف به" أي في جواز المخالفة له لأن الحجية لا تثبت بالشك "بل هو" أي الجواب "أن ذلك" أي عدم جواز المخالفة إنما هو "في الإجماع القطعي الثبوت" أما في ظني الثبوت فلا وهذا ظني الثبوت "وأما رده" أي دليل الأكثر "بأنه لا إجماع في زمنه عليه السلام(24/220)
ص -341-…ففي غير محل النزاع إذ المدعى ظهوره" أي هذا القول "في إجماع الصحابة بعده" أي النبي صلى الله عليه وسلم "وبهذا" أي كونه ظاهرا في إجماع الصحابة بعده "ظهر أن قول الصحابي ذلك" أي كنا نفعل وكانوا يفعلون "وقف خاص" لأنه على جملة الصحابة "وجعله" أي كنا نفعل وكانوا يفعلون "رفعا" كما ذهب إليه الحاكم والإمام الرازي "ضعيف" إذ لا يلزم منه نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا ولا عملا ولا تقريرا "حتى لم يحكه" أي القول بكونه رفعا "بعض أهل النقل فأما" قول الصحابي ذلك "بزيادة نحو: في عهده" أي النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "رفع" لأن ظاهره حينئذ مشعر باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريرهم عليه وتقريره أحد وجوه السنن المرفوعة وقوله "لا يعرف خلافه إلا عن الإسماعيلي" فيه نظر قد ذهب أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني إلى أنه إن كان لا يخفى غالبا فمرفوع وإلا فموقوف وحكى القرطبي أنه إن ذكره في معرض الاحتجاج كان مرفوعا وإلا فموقوف وقال نحوه في عهده ليشمل ما في لفظ لجابر في الصحيحين كنا نعزل والقرآن ينزل. "و" أما قول الصحابي ذلك "بنحو وهو يسمع فإجماع" كونه رفعا كقول ابن عمر كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ويسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره. رواه الطبراني في المعجم الكبير.
مسألة(24/221)
"إذا أخبر" مخبر خبرا "بحضرته عليه السلام فلم ينكر" صلى الله عليه وسلم ذلك عليه "كان" الخبر "ظاهرا في صدقه" أي مخبره فيه "لا قطعيا" وإلا لأنكره لو كان كاذبا لأن تقريره على الكذب الحرام ممتنع منه "لاحتمال أنه" صلى الله عليه وسلم "لم يسمعه" أي ذلك الخبر لاشتغاله عنه بما هو أهم منه "أو" سمعه لكن "لم يفهمه" لرداءة عبارة المخبر مثلا "أو كان" صلى الله عليه وسلم "بين نقيضه" أي ذلك الخبر وعلم أنه لا يفيد إنكاره "أو رأى تأخير الإنكار" لمصلحة في تأخيره "أو ما علم كذبه" لكونه دنيويا وهو صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم "أو رآه" أي ذلك الخبر "صغيرة ولم يحكم بإصراره" أي المخبر عليها قالوا ولو قدر عدم جميع هذه الاحتمالات فالصغيرة غير ممتنعة على الأنبياء فجاز أن يكون من الصغائر ومع الاحتمال لا قطع بصدقه.
مسألة
"حمل الصحابي مرويه المشترك" لفظا أو معنى "ونحوه" كالمجمل والمشكل والخفي "على أحد ما يحتمله" من الاحتمالات "وهو" أي الحمل المذكور "تأويله" أي الصحابي لذلك "واجب القبول" عند الجمهور "خلافا لمشهوري الحنفية" ووجب القبول عند الجمهور "لظهور أنه" أي حمله المذكور "لموجب هو به أعلم" لأن الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المشترك لقصد التشريع إلا ومعه قرينة حالية أو مقالية معينة مراده والصحابي الراوي الحاضر لمقاله الشاهد لأحواله أعرف بذلك من غيره "وهو" أي وجوب قبول تأويله "مثل تقليده في اللازم" يعني لازم وجوب تقليده في حكمه بالحكم ولازم وجوب الرجوع إلى تأويله واحد(24/222)
ص -342-…فالفرق بلا فارق والمراد بذلك اللازم ظهور أنه أخذه عنه صلى الله عليه وسلم وإن جاز خلافه لأن ذلك غالب أحوالهم فيحمل عليه إلا أن يترجح خلافه ذكره المصنف رحمه الله تعالى "و" حمل الصحابي مرويه "الظاهر على غيره" أي غير الظاهر حكمه ما يذكر: "فالأكثر" من العلماء منهم الشافعي والكرخي المعمول به هو "الظاهر" دون ما حمله عليه الراوي من تأويله "وقال الشافعي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحاججته" أي الصحابي بظاهر الحديث وقيل يجب حمله على ما عينه الراوي وفي شرح البديع وهو قول بعض أصحابنا انتهى وهو اختيار المصنف وقال عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أن الصحابي إنما صار إلى تأويله المذكور لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم له وجب العمل به وإن جهل أنه لذلك بل يجوز أن يكون لدليل ظهر له من نص أو قياس أو غيرهما وجب النظر في ذلك الدليل فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا وجب العمل بظاهر الخبر لأن الحجة كلام النبي صلى الله عليه وسلم دون تأويل الصحابي واختار الآمدي أنه إن علم مأخذ الراوي في المخالفة وكان المأخذ مما يوجب حمل الخبر على ذلك المحمل وجب المصير إليه اتباعا لذلك الدليل لا لحمل الراوي عليه وعمله به لأن عمل أحد المجتهدين ليس بحجة على الباقي وإن جهل مأخذه عمل بالظاهر لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والأصل في خبر العدل وجوب العمل به ما لم يقم دليل أقوى منه يوجب ترك العمل به ولم يثبت إذ كما يحتمل أن يكون لعلمه بأنه مراد النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لنسيان طرأ عليه أو لدليل اجتهد فيه وهو مخطئ فلا يترك الظاهر بالشك أثم على كل تقدير لا يفسق الراوي بل تبقى روايته مقبولة في هذا الخبر وغيره لأنه عامل باجتهاده الذي يجب العمل به ولا فسق بإتيان الواجب.(24/223)
فإن قيل مخالفة الظاهر حرام فكيف يجب حمله على خلافه كما هو المختار عند المصنف "قلنا ليس يخفى عليه" أي الصحابي الراوي "تحريم ترك الظاهر إلا لما يوجبه" أي تركه "فلولا تيقنه" أي الراوي "به" أي بما يوجب تركه "لم يتركه ولو سلم" انتفاء تيقنه به "فلولا أغلبيته" أي أغلبية الظن بما يوجب تركه لم يتركه "ولو سلم" انتفاء أغلبية الظن بل إنما ظن ذلك ظنا لا غير "فشهوده" أي الراوي "ما هناك" أي لحال النبي صلى الله عليه وسلم عند مقاله "يرجح ظنه" بالمراد لقيام قرينة حالية أو مقالية عنده بذلك "فيجب الراجح وبه" أي وبشهوده ذلك "يندفع تجويز خطئه بظن ما ليس دليلا دليلا" فإنه بعيد منه ذلك مع عدالته وعلمه بالموضوعات اللغوية ومواقع استعمالها وحالة من صدر عنه ذلك بل الظاهر أن ذلك منه إنما هو الدليل في نفس الأمر أوجب ذلك وقد اطلع عليه.
"ومنه" أي ترك الظاهر لدليل "لا من العمل ببعض المحتملات تخصيص العام" من الصحابي "يجب حمله على سماع المخصص كحديث ابن عباس" مرفوعا "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري وغيره "وأسند أبو حنيفة" عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين "عنه" أي ابن عباس ما معناه "لا تقتل المرتدة" إذ لفظه: "لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن(24/224)
ص -343-…الإسلام لكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه "فلزم" تخصيصه المبدل بكونه من الرجال لسماعه مخصصا له وهو إما نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء كما في الصحيحين وغيرهما وإما سماعه خصوص ذلك فقد أخرج الدارقطني عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل المرتدة إذا ارتدت" وفيه عبد الله بن عبس الجزري قال الدارقطني كذاب يضع الحديث أو ثبوت ذلك عنده بوجه غير سماعه نفسه له فقد ورد ذلك من طريق غيره من الصحابة هذا مذهب أصحابنا "خلافا للشافعي" ومالك وأحمد فقالوا يقتل عملا بالعموم الظاهر "فلو كان" المروي "مفسرا وتسميه الشافعية نصا على ما سلف" في التقسيم الثاني للمفرد باعتبار دلالته أوائل الكتاب "وتركه" أي الصحابي "بعد روايته لا إن لم يعرف تاريخ" لتركه وروايته له "تعين كون تركه لعمله بالناسخ" لأنه أجل من أن يخالف النص بغير دليل، ولا وجه لمخالفته له سوى اطلاعه على ناسخ له فيتعين. "فيجب اتباعه" في ترك العمل به خلافا للشافعي "وبه" أي كون ترك الراوي المروي المفسر وعمله بخلافه بعد روايته له إنما يكون لعلمه بالناسخ "يتبين نسخ حديث السبع من الولوغ" أي ما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" "إذ صح اكتفاء" رواية "أبي هريرة بالثلاث" كما رواه الدارقطني بسند صحيح "فيقوى به" أي باكتفائه بالثلاث "حديث اغسلوه ثلاثا وممن رواه الدارقطني" ولكن لفظه عنه صلى الله عليه وسلم "في الكلب يلغ في الإناء يغسل ثلاثا أو خمسا" ثم قال تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل وهو متروك ثم إنما يقوى به وإن كان ضعيفا "لموافقته الدليل" كأنه يريد الدليل المشتمل على ذكر الثلاث في تطهير النجاسة "ولا خفاء في عدم اعتبار الضعف في نفس الأمر في مسماه" أي الضعيف "بل" إنما يعتبر "ظاهرا فإذا اعتضد" الضعيف بمؤيد له "ظهر أن ما ظهر غير الواقع كما يضعف ظاهر(24/225)
الصحة بعلة باطنة واحتمال ظن الصحابي ما ليس ناسخا ناسخا لا يخفى بعده فوجب نفيه" أي هذا الاحتمال لانتفاء الدليل الملجئ إلى اعتباره "قالوا النص واجب الاتباع قلنا نعم وهو الناسخ الذي لأجله ترك" المروي المفسر لا نفس المفسر "ومنه" أي ترك الصحابي مرويه بعد روايته له حتى يكون تركه نسخا لمرويه "ترك ابن عمر الرفع" لليدين فيما عدا تكبيرة الافتتاح من الصلاة "على ما صح عن مجاهد صحبت ابن عمر سنين فلم أره يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح" أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح والطحاوي بلفظ صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة مع ما أخرج الستة عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك. وإن جهل تاريخ المخالفة للمروي لم يرد بها الحديث لأن الحديث حجة بيقين في الأصل ووقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك وحملت على أنها كانت قبل الرواية حملا لأمره على أحسن الوجهين فإنه واجب ما أمكن وقد عرف من هذا أنه إذا كانت مخالفته قبل الرواية بيقين لا تكون مخالفته جرحا في الحديث إذ الظاهر من حال العدل أنه إذا كان الحكم(24/226)
ص -344-…المخالف للحديث مذهبا له ثم بلغه الحديث أنه يترك مذهبه ويرجع إلى العمل بالحديث.
"وكتخصيصه" أي الصحابي الراوي "العام تقييده للمطلق" فيجب حمله على سماع المقيد لإطلاقه "فإن لم يعلم عمله" أي الصحابي الراوي له "وعلم عمل الأكثر بخلافه" أي الخبر "اتبع الخبر" لأن غير الراوي جاز أن لا يكون عالما بذلك المروي ثم ليس قول الأكثر حجة فضلا عن أن يكون راجحا يترك به الخبر "ومن يرى حجية إجماع" أهل "المدينة" كمالك "يستثنيه" فيقول إلا أن يكون فيه إجماع أهل المدينة فالعمل بإجماعهم "كإجماع الكل" لأن الإجماع متقدم على خبر الواحد والحنفية لم يذكروا هذا القسم. وإنما ذكره الآمدي وموافقوه كابن الحاجب وصاحب البديع فذكره المصنف من غير حكاية خلاف للحنفية فيه حكما منه بأن ما ذكروه يوافق قول الحنفية أخذا من قولهم في الصحابي المجهول العين والحال إن قبل السلف حديثه أو سكتوا أو اختلفوا عمل بالحديث فعلم من القبول مع الاختلاف العمل به في ترك الأكثر لتحقق الاختلاف خصوصا مع الحكم بصحة الحديث وشهرة راويه ذكره المصنف رحمه الله تعالى "وترك الصحابة الاحتجاج به" أي بالحديث "عند اختلافهم مختلف في رده" أي الحديث "وهو" أي رده بتركهم الاحتجاج به عند احتياجهم إلى الاحتجاج به هو "الوجه إذا كان" الحديث "ظاهرا فيهم وأما عمل غيره" أي غير راوي الحديث "من الصحابة بخلافه" أي المروي "فالحنفية إن كان" الحديث "من جنس ما يحتمل الخفاء على التارك" للعمل به "كحديث القهقهة" المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق منها رواية أبي حنيفة عن منصور بن زاذان الواسطي عن الحسن عن معبد بن أبي معبد الخزاعي عنه صلى الله عليه وسلم قال: بينما هو في الصلاة إذ أقبل أعمى يريد الصلاة فوقع في زبية فاستضحك القوم فقهقهوا فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة". "عن أبي موسى" الأشعري "تركه" أي العمل به "لا(24/227)
يضره" أي الحديث "إذ لا يستلزم" تركه قدحا في الحديث "مثل ترك الراوي" الصحابي مرويه المفسر بعد روايته له لجواز عدم اطلاعه عليه كما في وقوع القهقهة في الصلاة "لأنه" أي وقوعها في الصلاة "من الحوادث النادرة فجاز خفاؤه" أي الحديث "عنه" أي أبي موسى قلت لكن في تمثيلهم بهذا نظر ففي الأسرار قد اشتهر عن أبي العالية رواية هذا الحديث مرسلا ومسندا عن أبي موسى ورواه الطبراني بإسناد صحيح عنه مرفوعا فلا جرم أن قال "على أنه منع صحته" أي تركه "عنه" أي أبي موسى "بل" روى "نقيضه" أي نقيض ترك العمل به وهو العمل به عنه "أو لا" يكون الحديث "منه" أي جنس ما يحتمل الخفاء "كالتغريب" المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" رواه مسلم وغيره وهو إخراج الحاكم للمحصن الحر ذكرا كان أو أنثى إلى مسافة قصر فما فوقها وأول مدته ابتداء السفر كما هو مذكور في فروع الشافعية "تركه عمر بعد لحاق من غربه مرتدا" فأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب قال غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده مسلما "فيقدح" ترك عمل غير الراوي له من الصحابة فيه "لاستلزامه" أي ترك العمل به حينئذ "ذلك" أي القدح فيه "أو(24/228)
ص -345-…أنه" أي التغريب "كان زيادة تعزير سياسة" شرعية إيحاشا للزاني وزيادة في تنكيله "إذ لا يخفى" كون التغريب من الحد "عنه" أي عن عمر "لابتناء الحد على الشهرة مع حاجة الإمام إلى معرفته فيفحص عنه وكفره" أي المغرب في بعض الوقائع "لا يحل تركه الحد وقد قال عمر للمؤلفة بعده عليه السلام حين فهم انتهاء حكمهم وهم أهل شوكة الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومنعهم". فروى الطبري عنه أنه قاله لما أتاه عيينة بن حصن وأعقبه بقوله يعني ليس اليوم مؤلفة. "بقي قسم" لم يذكر في تقسيمهم وهو "محتمل لا يخفى" أي ما إذا لم يكن الحديث مما يحتمل الخفاء "وليس" الحكم الثابت به "من متعلقات" الصحابي الذي ليس براويه "التارك" للعمل به "التي تهمه" وتوجب له زيادة الفحص عنه قال المصنف "والوجه ليس" ترك عمل غير الراوي التارك له "كالراوي" أي كترك العمل به لراويه "لزيادة احتمال عدم بلوغه" أي الحديث الذي هو بهذه المثابة إلى تاركه الذي ليس براويه "وهو" أي هذا القسم بوجوب العمل بالحديث "أولى من الأكثر" أي من القسم الذي ترك الأكثر العمل "به" أي بوجوب العمل بالحديث للزيادة المذكورة وليطلب له مثال إن كان له وجود في نفس الأمر وإلا فلعلهم لم يذكروه لانتفاء مثاله في استقرائهم والله سبحانه أعلم.
مسألة(24/229)
"حذف بعض الخبر الذي لا تعلق له بالمذكور جائز" عند الأكثر "بخلاف" ما له تعلق به يخل بالمعنى حذفه مثل "الشرط" كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير". يعني الأمة غير المحصنة متفق عليه "والاستثناء" كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" رواه مسلم "والحال" كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء" رواه البخاري "والغاية" كقوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه فإنه لا يجوز حذفه لما فيه من فوات المقصود "وقيل لا" يجوز مطلقا "وقيل إن روى مرة على التمام" هو أو غيره الخبر جاز وإن لم يكن رواه على التمام هو ولا غيره لم يجز "وما قيل يمنع إن خاف تهمة الغلط" كما ذكر الخطيب حيث قال من روى حديثا على التمام وخاف إن رواه مرة أخرى على النقصان أن يتهم بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث لقلة ضبطه وكثرة غلطه فواجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه "فأمر آخر" لا دخل له في أصل الجواز الذي الكلام فيه "لنا إذا انقطع التعلق" بين المذكور والمحذوف "فكخبرين أو أخبار وشاع من الأئمة من غير نكير والأولى الكمال كقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى في القصاص والديات لا فضل لشريف على وضيع "ويسعى بذمتهم" أي بأمانهم "أدناهم" أي أقلهم "ويرد عليهم أقصاهم" أي يرد الأبعد منهم التبعة عليهم وذلك أن العسكر إذا دخل دار الحرب فاقتطع الإمام منهم سرايا وجهها للإغارة فما غنمته جعل لها ما سمى ويرد ما بقي لأهل العسكر لأن بهم قدرت السرايا على التوغل في دار الحرب وأخذ المال "وهم يد على من سواهم" أي كالعضو الواحد في اتحاد كلمتهم ونصرتهم وتعاونهم(24/230)
ص -346-…على جميع الملل المحاربة لهم رواه أبو داود وابن ماجه إلا أنه قال مكان ويرد عليهم أقصاهم ويجير عليهم أقصاهم ففسر الرد في تلك الرواية بالإجارة فالمعنى يرد الإجارة عليهم حتى يكون كلهم مجيرا يقال أجرت فلانا على فلان إذا حميته منه ومنعته.
مسألة
"المختار" كما هو مختار إمام الحرمين والغزالي والآمدي والإمام الرازي وابن الحاجب ورواية عن أحمد "أن خبر الواحد قد يفيد العلم بقرائن غير اللازمة لما تقدم" أي ما يلزم الخبر لنفسه أو للمخبر أو للمخبر عنه "ولو كان" المخبر "غير عدل لا" أنه يفيده "مجردا" عن القرائن "وقيل إن كان" المخبر "عدلا جاز" أن يفيد العلم "مع التجرد" عن القرائن لكن لا يطرد في خبر كل واحد عدل بمعنى أن كلما حصل خبر الواحد حصل العلم به بل قد يوجد خبر الواحد ولا يوجد العلم به وهو عن بعض المحدثين "وعن أحمد" في رواية أنه يفيد العلم مع التجرد عن القرائن لكن "يطرد" في خبر كل واحد عدل بمعنى أن كلما حصل خبر الواحد العدل حصل العلم به "وأول" العلم المفاد به مطردا "بعلم وجوب العمل لكن تصريح ابن الصلاح في مرويهما" أي صحيحي البخاري ومسلم "بأنه مقطوع بصحته" وسبقه إلى هذا محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف "ينفيه" أي هذا التأويل ثم ابن الصلاح ذهب إلى هذا "مستدلا بالإجماع على قبوله وإن كان" الإجماع "عن ظنون" أي ظن كل من أهل الإجماع "فظن معصوم" من الخطأ وظن من هو معصوم منه لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ "والأكثر" من الفقهاء والمحدثين "لا" يفيد العلم "مطلقا" أي سواء كان بقرائن أو لا "لنا" في الأول وهو إفادة العلم بقرائن "القطع به في نحو إخبار ملك" من إضافة المصدر إلى المفعول أي فيما إذا أخبر واحد ملكا "بموت ولد" له "في النزع مع صراخ وانتهاك حرم" للملك "ونحوه" من خروج الملك وراء الجنازة على هيئة منكرة من تمزيق ثوب وحسر رأس واضطراب بال وتشويش حال إذ(24/231)
كل عاقل سمع هذا الخبر وشاهد هذه القرائن قاطع بصحة المخبر عنه وحاصل له العلم به كما يعلم صدق المتواتر "وفي الثاني" وهو عدم إفادة العلم مع عدم القرائن "لو كان" خبر الواحد مفيدا العلم بالقرائن "فبالعادة" إذ لا علية ولا ترتيب إلا بإجراء الله عادته بخلق شيء عقب آخر "فيطرد" لأن معناه الحصول دائما من غير اقتضاء عقلي وهو معنى الاطراد وانتفاء اللازم ضروري بالوجدان إذ كثيرا ما نسمع خبر العدل ولا يحصل لنا العلم القطعي "واجتمع النقيضان في الإخبار بهما" أي إخبار عدلين بنقيضين فإن إخبارهما بهما جائز بالضرورة بل واقع والمعلومان ثابتان في الواقع وإلا كان العلم جهلا وبطلان اجتماعهما ظاهر فإن استحالته بديهية وفي شرح أصول ابن الحاجب للسبكي وفيه نظر فإن القائل خبر الواحد يفيد العلم إنما يقوله إذا لم تكن قرينة الكذب موجودة لأنه يحكم على خبر العدل مجردا عن القرائن وقد يقال انضمام خبر عدل آخر إليه مناف له قرينة كذب أحدهما فلا يفيد والحالة هذه خبر واحد منهما علما "ووجب التأثيم" له بالاجتهاد لمخالفته اليقين حينئذ "وهو" أي وجوب التأثيم(24/232)
ص -347-…لمخالفه "منتف بالإجماع" هذا وقد قال المصنف التلازم في الدليل الثاني من أدلة المذهب المختار وهو عدم حصول العلم مع عدم القرائن من اقترانيين واستثنائي. بيانها: لو كان مفيدا للعلم لكان بالعادة ولو كان بالعادة لاطردت. ينتج من الاقتراني المركب من الشرطيات؛ لو كان مفيدا لاطرد؛ ثم يقال أيضا لو كان مفيدا لاطرد ولو اطرد لاجتمع النقيضان، ينتج من الاقتراني المركب من الشرطيات أيضا؛ لو أفاد لاجتمع النقيضان؛ وأما الثالث فباستثنائي فيقال لو أفاد لوجب التأثيم لكن لا فلا "الأكثر" قالوا "مفيده" أي العلم "القرائن فقد أخرجوا الخبر عن كونه جزء مفيد العلم" أي جزء علة الإفادة "ودفعه" أي هذا القول من أهل المذهب المختار "بأنه لولا الخبر لجوزنا موت" شخص "آخر" للملك غير ولده من أخيه وأبيه فلا يحصل الجزم بموت ولده بعينه "يفيد أن المقصود مجرد حصول العلم مع المجموع" من الخبر والقرائن ولكنهم لا يقدرون على إثبات الخبر جزء علة إفادة العلم "فإذا عجز عن إثباته" أي الخبر "جزء السبب" لإفادة العلم "لزم" كونه "شرطا" لإفادة العلم "وهو" أي كونه شرطا لإفادة العلم "عين مذهب الأكثر" لأن الكلام فيما مع الخبر من القرائن لا مجرد قرائن بلا خبر "فهو" أي هذا القول من أهل المختار "اعتراف به" أي بكونه شرطا "فأغناهم" أي هذا الاعتراف أهل المختار "عما نسبوه" أي الأكثر "إليهم" أي أهل المختار "من قولهم" أي الأكثر "دليلكم" أصحاب المختار "على نفيه" أي العلم عن خبر الواحد "بلا قرينة ينفيه" أي العلم عنه "بها" أي بالقرينة "وهو" أي دليلكم على نفيه "لو كان" خبر الواحد مفيدا للعلم بلا قرائن "أدى إلى النقيضين" أي تناقض المعلومين "إلى آخره" أي ولزوم الاطراد وتأثيم مخالفه "و" أغناهم عن "دفعه بأنه" أي الدليل المذكور "إنما يقتضي امتناعه" أي كون الخبر مفيدا للعلم "عنده" أي عند نفي القرينة "لا مطلقا" ليدخل فيه ما مع القرينة "لأن لزوم(24/233)
المتناقضين" إنما هو "بتقديره" أي عدم القرائن "أما الجواب بالتزام الاطراد في مثله" أي فيما فيه القرائن بأن يقال خبر كل عدل مع القرينة يوجب العلم كما ذكره القاضي عضد الدين وأشار إليه ابن الحاجب "فبعيد للقطع بأن ليس كل خبر واحد بقرائن يوجب العلم والدعوى" أي والحال أن الدعوى تفيد أن خبر الواحد "قد يوجبه" أي العلم "لا الكلية" أي لا أن كل خبر واحد يفيد العلم "لما نذكر" في جواب الواقعة المذكورة للملك من أنه لا شك أنه يجوز أن يثبت نقيضها بأن يرجعوا فيذكروا أنه لم يمت وإنما سكن وبرد فظن موته "فبإيجابه" أي الخبر العلم "يعلم أنه" أي الخبر "ذلك" الخبر الذي يفيد العلم بالقرائن يعني أن الدليل المثبت إفادة العلم للخبر المحفوف بالقرائن إني وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر "كما في" الخبر "المتواتر يعرفه" أي كونه متواترا "أثره" أي إذا ثبت أثره وهو "العلم" ثبت أنه متواتر فكذا هنا إذا ثبت به العلم ثبت أنه ذلك الخبر المفيد للعلم بالقرائن "وحينئذ نمنع إمكان مثله" أي إخبار واحد آخر عدل "بالنقيض الآخر" لاستحالة ذلك "إلا لو وقع" الإخبار بالمتناقضين "في الأحكام الشرعية فيجوز لعدم حقيقة التعارض" فيها "للزوم اختلاف الزمان" فيها "فأحدهما منسوخ" والآخر ناسخ له "ويلتزم التأثيم" للمخالف للخبر المحفوف بالقرائن بالاجتهاد "لو وقع" الخبر المذكور "فيها" أي الأحكام الشرعية كما هو حكم سائر مفيدي العلم في الشرعيات لكنه لم يقع فيها "بخلافه"(24/234)
ص -348-…أي التأثيم "بخبر الواحد" فإنه غير ملتزم "للقطع بجواز إخبار اثنين بنقيضين بل" للقطع "بوقوعه فعلم به" أي بنفس إخبار اثنين بنقيضين "أنه" أي خبر الواحد "لا يفيده" أي العلم وإلا لم يقع منهما ذلك "وما قيل مثله" أي مثل هذا من جواز إخبار اثنين بمتناقضين "يقع فيما ذكر من إخبار الملك" بموت ابنه بأن يخبره مخبر بموته مع القرائن ثم يخبره آخر بأنه لم يمت وإنما اشتبه على المخبر والحاضرين وقامت القرائن على ذلك "يرد بأن ذاك" أي جواز إخبار اثنين بخبرين متناقضين للموت وهما موت ابنه وعدمه "عند عدم إفادته" أي الخبر الأول وهو الإخبار بموته العلم "الأول" وهو العلم به وهو إنما يكون مبنيا على مجرد الاعتقاد وهو لا يوجب التناقض لعدم استلزامه الثبوت في الواقع لأن المطابقة معتبرة في العلم فامتناع حصول العلم بنقيض ما علم ضروري "والطارد" لإفادته العلم "في مرويهما" أي الصحيحين قال "لو أفاد" مرويهما الظن لم يجمع على العمل به لكنه أجمع على العمل به فلم يفد الظن "أما الملازمة فللنهي عن اتباعه" أي الظن والنهي للتحريم "والذم عليه" أي على اتباعه قال تعالى "{وَلا تَقْفُ} [الاسراء: 36]" أي لا تتبع {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "إن يتبعون إلا الظن" في معرض الذم فدل على حرمته "والجواب" عن هذا "الإجماع عليه" أي على العمل بخبر الواحد "للإجماع على وجوب العمل بالظن لا لإفادته" أي مرويهما "العلم بمضمونه والسمعي" أي لا تقف ما ليس لك به علم و إن يتبعون "مخصوص بالاعتقاديات" المطلوب فيها اليقين لا ما يطلب فيه العمل من أحكام الشرع وإن كان ظاهر السمعي العموم "وذلك الإجماع" القطعي على وجوب العمل بالظن "دليل وجود المخصص" في الاعتقاديات على غير قول الحنفية "أو الناسخ" للنهي عن اتباع الظن في غيرها على قواعد الحنفية "وما قيل لا إجماع" على العمل بخبر الواحد "للخلاف الآتي" في العمل به "ليس بشيء" معتبر "لاتفاق هذين(24/235)
المتناظرين على نقل إجماع الصحابة فيه" أي في العمل به.
"وقوله" أي الطارد "ظن معصوم قلنا إنما أفاده الإجماع على العمل وأين هو من كون خبر الواحد يفيد العلم فالحاصل إن ادعيت أن الإجماع على العمل" بخبر الواحد "لإفادة الخبر العلم منعناه" أي هذا المدعى "وهو" أي هذا المدعى "أول المسألة" فهو مصادرة على المطلوب "أو أنه" أي الإجماع على العمل بخبر الواحد "أفاد أن هذا الخبر المعين الذي أجمع على العمل به حق قطعا أمكن تسليمه ولا يفيد" المطلوب "إذ الأول" أي كون خبر الواحد يفيد العلم "هو المدعى لا الثاني" وهو أن هذا الخبر الذي أجمع على العمل به حق قطعا "وسواء كان" هذا المجمع على العمل به "منهما" أي الصحيحين "أو لا يكون" منهما "وقد يكون" خبر الوحد "منهما" أي الصحيحين "ولا يجمع عليه" أي العمل بمقتضاه لتكلم بعض أهل النقد فيه كالدارقطني قيل وجملة ما استدركه الدارقطني وغيره على البخاري مائة وعشرة أحاديث وافقه مسلم على إخراج اثنين وثلاثين حديثا منها أو لغير ذلك "فالضابط ما أجمع على العمل به" لا مرويهما بخصوصه "وهي" أي ما أجمع على العمل به.(24/236)
ص -349-…مسألة
"إذا أجمع على حكم يوافق خبرا قطع بصدقه" أي الخبر "عند الكرخي وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري" في جماعة "لعملهم" أي أهل الإجماع "به" أي بالخبر الموافق لعملهم "وإلا" لو لم يقطع بصدقه "احتمل الإجماع الخطأ فلم يكن" الإجماع "قطعي الموجب" واللازم منتف لأنه لا إجماع على خطأ ولا يحتمل الخطأ "ومنعه" أي القطع بصدقه "غيرهم" وهو الجمهور فقالوا يدل على صدقه ظنا واختاره الآمدي وصاحب البديع "لاحتمال كونه" أي عملهم أو عمل بعضهم "بغيره" أي الخبر المذكور من الأدلة لا بذلك الخبر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد وحينئذ لا يدل عملهم على صدقه لعدم علمهم به "ولو كان" عملهم "به" أي بذلك الخبر "لم يلزم احتمال الإجماع" للخطأ على تقدير كونه مفيدا للظن لأنه كاف في العمل به "للقطع بإصابتهم في العمل بالمظنون" كخبر الواحد والقياس ومع هذه الاحتمالات لا يقطع بصدقه وإنما يكون الغالب على الظن "وتحقيقه" كما أشار إليه الشيخ سراج الدين الهندي "أنه" أي الإجماع الموافق لحكمه "يفيد القطع بحقية الحكم ولا يستلزم القطع بصدق الخبر" بمعنى "أنه" أي الخبر بلفظه "سمعه فلان منه عليه السلام".
مسألة
"إذا أخبر" مخبر خبرا عن محسوس صرح به الآمدي "بحضرة خلق كثير وعلم علمهم بكذبه لو كذب ولم يكذبوه ولا حامل على السكوت" من خوف أو غيره فقيل لا يلزم من سكوتهم تصديقه لجواز أن يسكتوا عن تكذيبه لا لشيء والمختار أن يقال "قطعنا بصدقه بالعادة" لأن مع اختلاف أمزجتهم ودواعيهم ووجود هذين الشرطين يمتنع عادة السكوت عن تكذيبه لو كان كاذبا فانتفى قول السبكي والمختار ما ذهب إليه ابن السمعاني من اشتراط تمادي الزمن الطويل في ذلك انتهى.
مسألة(24/237)
"التعبد بخبر الواحد العدل" وهو أن يوجب الشارع العمل بمقتضاه على المكلفين "جائز عقلا خلافا لشذوذ" وهم الجبائي في جماعة من المتكلمين "لنا القطع بأنه" أي التعبد به لورود السمع به كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم اعملوا به إذا ظننتم صدقه وعرضناه على عقولنا علمنا قطعا أنه "لا يستلزم محالا" لذاته عقلا "فكان" التعبد به "جائزا" إذ لا معنى للجواز غير هذا وغاية ما يتصور في اتباعه من المحذور احتمال كونه كذبا أو خطأ فيلزم منه التعبد بكذب أو خطإ لكن هذا الاحتمال لا يمنع التعبد به إذ كان الصدق راجحا وإلا لامتنع التعبد به في العمل بشهادة الشاهدين وقول المفتي للعامي لتحقق هذا الاحتمال فيهما لكن هذا لا يمنع العمل بهما بالاتفاق فكذا لا يمنع من العمل بخبر الواحد "قالوا" التعبد به إن لم يكن ممتنعا لذاته فممتنع لغيره لأنه "يؤدي إلى تحريم الحلال وقلبه" أي تحليل الحرام فيما إذا روى واحد خبرا يدل على التحريم وآخر خبرا يدل على الحل وكان أحدهما راجحا وعمل به "لجواز خطئه و" يؤدي إلى "اجتماع(24/238)
ص -350-…النقيضين" إن تساويا وعمل بهما "فينتفي الحكم" وهو التعبد به "قلنا الأول" أي تأديته إلى تحريم الحلال وقلبه "منتف على إصابة كل مجتهد" إذ لا حلال ولا حرام في نفس الأمر بل هما تابعان لظن المجتهد ويختلف بالنسبة فيكون حلالا لواحد حراما لآخر "وعلى اتحاده" أي كون المصيب واحدا فقط "إنما يلزم" كون التعبد به مؤديا إلى ذلك "لو قطعنا بموجبه" أي خبر الواحد على أنه الموافق لما في نفس الأمر "لكنا" لا نقطع به بل "نظنه وهو" أي ظنه "ما" أي الذي "كلف" المجتهد به "ونجوز خلافه" أي المظنون ونقول الحق مع من وقع على ما في نفس الأمر ومخالفه على خطأ لكن الحكم المخالف لظن المجتهد ساقط عنه إجماعا للإجماع على وجوب متابعة ظن نفسه "ونجزم" في الثاني وهو كونه مؤديا إلى اجتماع النقيضين "بأن الثابت في المتعارضين أحد الحكمين فإن ظنناه" أحدهما "سقط الآخر" لأن المرجوح في مقابلة الراجح في حكم العدم فلا تناقض "وإلا" لو لم يظن أحدهما حتى انتفى الترجيح "فالتكليف بالتوقف" عن العمل بكل منهما إلى أن يظهر رجحان أحدهما فيعمل به كما هو مذهب جماعة منهم القاضي أبو بكر أو يتخير المجتهد بالعمل بأيهما شاء فإذا عمل بأحدهما سقط الآخر كما هو مذهب آخرين منهم الشافعي وكلاهما يمنع اجتماع المتناقضين "ولا يخفى أن الأول" أي قولهم التعبد به ممتنع لغيره لأنه يؤدي إلى التحريم الحلال وقلبه فإنه ممكن وذلك باطل وما يؤدي إلى الباطل لا يجوز عقلا كما ذكره هكذا القاضي عضد الدين "ليس عقليا بل مما أخذه العقل من الشرع فالمطابق الثاني" وهو لزوم اجتماع النقيضين فهو تعريض بما ذكره القاضي وقد أوضحه المصنف بحاشيته هنا فقال أي الأول لما لم يفد الامتناع العقلي واقتصر عليه بعضهم قرر على إرادة الامتناع العقلي لغيره لا لذاته باعتبار أنه يؤدي إلى خلاف الواقع وهو باطل وما يؤدي إلى الباطل باطل عقلا وليس بل ما يؤدي إلى الباطل العقلي أما الباطل الشرعي فما(24/239)
يؤدي إليه باطل شرعا والعقل إنما يحكم به أخذا من الشرع كما إذا أخذ أصلا غيره فيحكم بمقتضاه في محال تحققه فاختار المصنف إلزام اجتماع النقيضين ليصح وضع المسألة انتهى "وما عنهم" أي المخالفين "من قولهم لو جاز" التعبد به من حيث هو "جاز" التعبد به في العقائد "ونقل القرآن وادعاء النبوة بلا معجز" لأن المجوز للتعبد به ظن الصدق وهو موجود في هذه أيضا واللازم باطل بالاتفاق فكذا الملزوم "ساقط لأن الكلام في التجويز العقلي فنمنع بطلان التالي" فنقول بل يجوز التعبد به فيها أيضا عقلا "غير أن التكليف وقع بعدم الاكتفاء" بخبر الواحد "فيها" أما في العقائد فلما تقدم من النص السمعي المفيد لذلك في مسألة المختار أن خبر الواحد قد يفيد العلم وأما في نقل القرآن فلأنه من أعظم المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فالدواعي متوفرة فحكمت العادة بكون إثباته قطعيا وأما في ادعاء النبوة فلأن العادة تحيل صدق مدعيها بغير معجزة دالة على صدقه لأنها أمر في نهاية العظمة وغاية الندرة والطباع مستبعدة لوقوعه بخلاف الفروع فإنه اكتفي فيها بالظن.(24/240)
ص -351-…مسألة
"العمل بخبر العدل واجب في العمليات، ومنعه الروافض وشذوذ" منهم أبو داود "لنا تواتر" العمل به "عن الصحابة في" آحاد "وقائع خرجت عن الإحصاء للمستقرين يفيد مجموعها" أي آحاد الوقائع "إجماعهم" أي الصحابة "قولا أو كالقول على إيجاب العمل عنها" أي أخبار الآحاد "فبطل إلزام الدور و" إلزام "مخالفة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}" على تقدير الاستدلال به على المطلوب لأنا إنما أثبتناه بتواتر العمل بها لا بخبر واحد بالعمل بها والمتواتر ولو معنى يفيد العلم "و" إلزام "كون المستفاد" من هذه الوقائع "الجواز" أي جواز الاستدلال والعمل بأخبار الآحاد. والنزاع إنما هو في الوجوب لأن إيجابهم الأحكام بها يدل على وجوب العمل بها "على أنه لا قائل به" أي بالجواز "دون وجوب ومن مشهورها" أي أعمال الصحابة بأخبار الآحاد "عمل أبي بكر بخبر المغيرة" بن شعبة "ومحمد بن مسلمة في توريث الجدة" السدس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم "وعمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس" وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. كما في صحيح البخاري "وبخبر حمل" بالحاء المهملة والميم المفتوحتين "ابن مالك في إيجاب الغرة في الجنين" حيث قال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة عبد أو أمة وأن تقتل بها كما أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم "وبخبر الضحاك" بن سفيان "في ميراث الزوجة من دية الزوج" حيث قال كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. أخرجه أحمد وأصحاب السنن "وقال الترمذي حسن صحيح وبخبر عمرو بن حزم في دية الأصابع" كما أفاده ما أسنده شيخنا الحافظ عن سعيد بن المسيب قال قضى عمر رضي الله عنه في الإبهام بثلاث عشرة وفي(24/241)
الخنصر بست حتى وجد كتابا عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه "وفيما هنالك من الأصابع عشر" ثم قال هذا حديث حسن أخرجه الشافعي والنسائي انتهى قلت فعلى هذا قول السبكي وأما رجوعه إلى كتاب عمرو بن حزم فحكاه الخطابي ولم يثبت لأنه لم يثبت عندنا أن كتاب عمرو بن حزم بلغ عمر وقد قال الشافعي لو بلغه لصار إليه وفي هذا القول دلالة على أنه لم يبلغه انتهى متعقب بهذا فليحرر ثم ممن روى كتاب عمرو بن حزم أحمد وأبو داود في المراسيل والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه ويدعون آراءهم "و" عمل "عثمان وعلي بخبر فريعة" بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري "أن عدة الوفاة في منزل الزوج" كذا في شرح القاضي عضد الدين وهو كذلك بالنسبة إلى عثمان رضي الله عنه كما رواه مالك وأصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم وأما بالنسبة إلى علي رضي الله عنه فالله تعالى أعلم به "وما لا يحصى كثرة من الآحاد التي يلزمها العلم بإجماعهم على(24/242)
ص -352-…عملهم بها لا بغيرها ولا بخصوصيات فيها سوى حصول الظن فعلمناه" أي حصول الظن "المناط عندهم مع ثبوت إجماعهم بالاستقلال على خبر أبي بكر رضي الله عنه "الأئمة من قريش"" وقدمنا في البحث الأول من مباحث العموم أن شيخنا الحافظ قال ليس هذا اللفظ موجودا في كتب الحديث عن أبي بكر بل معناه "ونحن معاشر الأنبياء لا نورث" وقدمنا ثمة أيضا أن المحفوظ؛ إنا؛ كما رواه النسائي "والأنبياء يدفنون حيث يموتون" رواه بمعناه ابن الجوزي في الوفاء "وإنما يتوقفون عند ريبة توجب انتفاء الظن كإنكار عمر خبر فاطمة بنت قيس في نفي نفقة المبانة" كما تقدم تخريجه في مجهول العين والحال "وعائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء الحي" كما في الصحيحين "وأيضا تواتر عنه صلى الله عليه وسلم إرسال الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام" منهم معاذ فروى الجماعة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الحديث إلى غير ذلك مما يطول تعداده ولو لم يجب قبول خبرهم لم يكن لإرسالهم معنى "والاعتراض" على الاستدلال بهذه الأخبار "بأن النزاع إنما هو في وجوب عمل المجتهد" بخبر الواحد لا في جواز العمل به وهذه الأخبار إنما تدل على الجواز لا على الوجوب "ساقط" لأن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغ الأحكام "إذ أفاد وجوب عمل المبلغ بما بلغه الواحد" للعلم القطعي بتكليف المبعوث إليهم بالعمل بمقتضى ما يخبرهم به رسله "كان" إرساله "دليلا في محل النزاع" وهو وجوب عمل المجتهد بخبر الواحد وغيره وهو وجوب العمل على المبلغ الذي ليس بمجتهد لأن المبلغ قد يكون له أهلية الاجتهاد وقد لا يكون وعلى كل أن يعمل بمقتضاه ويدخل فيه ما لو أفاد اللفظ علية وصف فإن العمل به عمل بمقتضى ذلك اللفظ قاله(24/243)
المصنف ويلزم منه أن يكون خبر الواحد وإن لم يكن رسولا مفيدا لوجوب العمل على المجتهد وغيره.
"واستدل" من قبلنا للمختار "بقوله تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: 122] الآية" أي {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لأن الطائفة تصدق على الواحد وقد جعل منذرا ووجب الحذر بإخباره ولولا قبول خبره لما كان كذلك "واستبعد" الاستدلال بها "بأنه" أي النفر لإفتائهم بناء على أن المراد بالإنذار الفتوى بقرينة توقفه على التفقه إذا الأمر بالتفقه إنما هو لأجله والمتوقف على التفقه إنما هو الفتوى لا الخبر المخوف مطلقا "ويدفع" هذا الاستبعاد "بأنه" أي الإنذار "أعم منه" أي الإفتاء "ومن أخبارهم" ولا موجب للتخصيص المذكور ولا نسلم أن الإنذار متوقف على التفقه وبأنه يلزم منه تخصيص القوم بالمقلدين لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا في فتواه بخلاف حمل الإنذار على ما هو أعم فإنه كما ينتفي تخصيص الإنذار ينتفي تخصيص القوم لأن الرواية ينتفع بها المجتهد في الأحكام والمقلد في الانزجار وحصول الثواب في مثلها إلى غيره "وأما {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ(24/244)
ص -353-…يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174] الآية "فغير مستلزم" وجوب العمل بخبر الواحد بناء على أنه لو لم يكن له لما كان للإيعاد على الكتمان لقصد الإظهار فائدة "لجواز نهيهم عن الكتمان ليحصل التواتر بإخبارهم و {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية" الاستدلال به من حيث إنه أمر بالتثبت في الفاسق فدل على أن العدل بخلافه استدلال "بمفهوم مختلف فيه" وهو مفهوم المخالفة وهو ضعيف "ولو صح كان ظاهرا ولا يثبتون به" أي بالظاهر "أصلا دينيا وإن كان" الأصل الديني "وسيلة عمل" وهذا كذلك لأن حاصله أمر اعتقادي وهو أن به تثبت الأحكام "قالوا توقف عليه السلام" لما انصرف من اثنتين في إحدى صلاتي العشي "في خبر ذي اليدين" أي الخرباق حيث قال "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال: "أصدق ذو اليدين" حتى أخبره غيره بأن قال الناس نعم فقام فصلى اثنتين أخريين" متفق عليه "قلنا" توقفه "للريبة" في خبره "إذ لم يشاركوه مع استوائهم في السبب" فإنه ظاهر في الغلط والتوقف في مثله وعدم العمل به واجب اتفاقا "ثم ليس" خبر ذي اليدين "دليلا على نفي خبر الواحد" أن يكون موجبا للعمل به "بل هو" أي خبر ذي اليدين دليل "لموجب الاثنين فيه" أي في العمل بخبر الواحد كما عن أبي علي الجبائي بناء على ما في رواية لهذا الحديث لذي اليدين نفسه رواها شيخنا الحافظ من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال "ماذا يقول ذو اليدين" قالا صدق يا رسول الله فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاب الناس فصلى بهم ركعتين ثم سلم وسجد سجدتي السهو "وإلا فمعهما" أي خبري الاثنين "لا يخرج" الخبر الذي رواه الواحد "عن خبر الواحد وكونه"(24/245)
أي خبر ذي اليدين "ليس في محل النزاع" لأن النزاع إنما هو في تعبد1 الأمة بخبر الواحد منقولا عن الرسول وهذا ليس كذلك "لا يضر إذ يستلزمه" أي خبره محل النزاع لأن حاصله أنه خبر واحد عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم نقل إلى سيد المجتهدين فلم يعمل به غير أنه اتفق أن النبي المنقول عنه هو المجتهد الأعظم المنقول إليه وذلك لا أثر له في نفي كون توقفه دليلا على عدم العمل بخبر الواحد فليس الجواب إلا ما ذكرنا.
"قالوا قال تعالى {وَلا تَقْفُ} [الاسراء: 36]" فنهى عن اتباع الظن وأنه ينافي الوجوب ولا شك أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن "والجواب" أن العمل ليس بالظن بل "بما ظهر من أنه" يجب العمل به "بمقتضى القاطع" وهو الإجماع على وجوب العمل بالظن "ومنهم من أثبته" أي وجوب العمل بخبر الواحد "بالعقل أيضا كأبي الحسين والقفال وأحمد وغيرهم" كابن سريج في جماعة "قال أبو الحسين العمل بالظن في تفاصيل معلوم الأصل واجب" عقلا "كإخبار واحد بمضرة طعام وسقوط حائط يوجب العقل العمل بمقتضاه للأصل المعلوم من
ـــــــــــــــــــ
1 في تعبد هكذا في الأصل ولعل المناسب في كون تعبد الخ ليستقيم قوله بعد منقولاً بالنصب وحرر كتبه مصححه.(24/246)
ص -354-…وجوب الاحتراس" عن المضار "فكذا خبر الواحد" يجب العمل به "للعلم بأن البعثة للمصالح ودفع المضار" ومضمون الخبر لا يخرج عنهما "وأجيب بأنه" أي هذا الدليل "بناء على التحسين" العقلي وقد أبطل وإنما اقتصر عليه لأن الكلام في الإيجاب "سلمناه" أي القول بالتحسين "لكنه" أي العمل بالظن في تفاصيل مقطوع الأصل "أولى عقلا" للاحتياط "لا واجب سلمناه" أي أن العمل به واجب "لكن في العقليات دون الشرعيات" ولا يجوز قياسها عليها لعدم التماثل وهو شرطه "سلمناه" أي أن العمل به واجب في الشرعيات أيضا بناء على أن كل ما هو علة للوجوب في العقليات فهو علة للوجوب في الشرعيات وصح قياس الشرعيات على العقليات "لكنه" أي هذا القياس "قياس تمثيلي يفيد الظن" والكلام إنما هو في أصل ديني لا يجوز ثبوته إلا بقطعي فلا يصح ثبوته بظني.
"قالوا" أي الباقون من مثبتيه بالعقل أيضا أولا خبر "يمكن صدقه فيجب العمل به احتياطا دفعا لمضرة قلنا لم يذكروا أصله" أي القياس "فإن كان" أصله الخبر "المتواتر فلا جامع" بينهما "لأن الوجوب فيه" أي المتواتر "للعلم" أي لإفادته العلم لا للاحتياط "وإن كان" أصله "الفتوى" من المفتي "فخاص بمقلده" أي فحكم المفتي خاص بمقلده فيها "وما نحن فيه" من حكم خبر الواحد "عام" في الأشخاص والأزمان "أو خاص بغير متعلقها" أي الفتوى فإن متعلقها المقلد وخبر الواحد خاص بالمجتهدين فهو خاص بغير متعلق الفتوى "فالمعدى غير حكم الأصل ولو سلم" عدم الفرق المؤثر وصحة القياس على الفتوى "فقياس كالأول" أي تمثيلي يفيد الظن والكلام إنما هو في أصل ديني لا يجوز ثبوته إلا بقطعي على أنه إذا كان أصله حكما شرعيا لم يكن عقليا بل شرعيا وهو خلاف مطلوبكم.(24/247)
"قالوا" ثانيا "لو لم يجب" العمل بخبر الواحد "لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام" وهو ممتنع أما الأولى فلأن القرآن والمتواتر لا يفيان بالأحكام بالاستقراء التام المفيد للقطع وأما الثانية فظاهرة لأنه يفضي إلى خلاف مقصود البعثة "والجواب منع الملازمة بل الحكم في كل ما لم يوجد فيه من الأدلة وجوب التوقف فلم يخل" أكثر الوقائع عن الأحكام "فإن كان المنفي غيره" أي غير وجوب التوقف "منعنا بطلان التالي" أي امتناع خلو وقائع عن الحكم لأن عدم الدليل مدرك شرعي لعدم الحكم للإجماع على أن ما لا دليل فيه فهو منفي "وإذا لزم التوقف ثبتت الإباحة الأصلية فيه" أي في ذلك الشيء "على الخلاف" فيها كما عرف "ولا يخفى بعده" أي بعد عدم وجوب العمل بخبر الواحد "من حض الشارع" أي حثه كل من سمع شرعية حكم قاله "على نقل مقالته" بنحو ما سيأتي في رواية الحديث بالمعنى من قوله صلى الله عليه وسلم "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها فحفظها فأداها كما سمعها" فلو كان حكم الخبر المنقول الوقف أدى إلى أن حضه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ من سمع الإيجاب لفائدة أن لا يعمل به وهكذا الندب والتحريم بل يتوقف وفي هذا من الفساد ما لا يخفى وحينئذ كان عدم النقل كالنقل فإن عدم العمل بحكم خاص والوقف عنه وثبوت الإباحة يحصل بعدم النقل ولا يمكن كون حضه صلى الله عليه وسلم لكل(24/248)
ص -355-…سامع ليحصل تواتر المنقول عنه "مع علمه بأن المنقول من سنته لا يصل منها إلى التواتر شيء" موافقة لمن ادعى عدم التواتر أصلا أو إلا حديث واحد أو حديثان وإلا كان أمره وحضه على ذلك لأمر لا يحصل وأنه مخطئ في ظن حصوله إلى وفاته على ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ إلى وفاته كذا ذكره المصنف والظاهر أنه يشير باقتصار المتواتر على حديث إلى ما يفيده قول ابن الصلاح حديث "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" مثال لذلك إلى آخر كلامه من غير ذكر غيره من الأحاديث معه بل صرح بعزة وجوده إلا أن يدعي في هذا الحديث على ما نقله شيخنا الحافظ عنه وبقوله أو حديثان إلى هذا الحديث وحديث المسح على الخفين فإن ابن عبد البر جعله متواترا كما قدمناه في ذيل الكلام على المشهور لكن في كون المتواتر معدوما أو مقصورا على حديث أو حديثين تأمل وقد قال شيخنا الحافظ ما ادعاه ابن الصلاح من العزة ممنوع وكذا ما ادعاه غيره من العدم لأن ذلك نشأ من قلة اطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقا ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير ا هـ والله سبحانه أعلم "أو" لا يخفى "الأخيران" أي لزوم التوقف والإباحة الأصلية أي ما فيهما على تقدير عدم وجوب العمل بخبر الواحد "فإن عدم النقل يكفي في الوقف" عن الحكم بشيء خاص "و" في "ثبوت" الإباحة "الأصلية" فلا حاجة إلى ارتكاب هذا ليتحققا "بل الجواب أنه" أي الدليل المذكور "من قبيل" الدليل "النقلي الصحيح لا عقلي" على وزان ما ذكر في مسألة(24/249)
التعبد بخبر الواحد "ولمن شرط المثنى" في قبول الخبر "أنه" أي الخبر "به" أي باشتراطه "أولى من الشهادة لاقتضائه" أي الخبر "شرعا عاما بخلافها" أي الشهادة فإنها تقتضي أمرا خاصا "قلنا الفرق" بينهما في ذلك "وجود ما ليس في الرواية من الحوامل" عليها من عداوة وغيرها كما في الشهادة "أو" اشتراط المثنى في الشهادة "بخلاف القياس ولذا" أي وجود حوامل في الشهادة ليست في الرواية "اشترط لفظ أشهد مع ظهور انحطاطها" أي الرواية عن الشهادة "اتفاقا بعدم اشتراط البصر والحرية وعدم الولاء" في الرواية واشتراطها في الشهادة على خلاف في بعضها "قالوا" أي القائلون خبر الواحد لا يجب العمل به "رد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه الخدري" أي في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثا فلم يؤذن له فرجع ففرغ عمر فقال ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له فقالوا رجع فدعاه فقال ما هذا فقال كنا نؤمر بذلك فقال لتأتيني على هذا ببينة فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا لا يشهد لك على ذلك إلا أصغرنا فانطلق أبو سعيد فشهد له فقال عمر لمن حوله خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق "قلنا لريبة في خصوصه" أي خبر أبي موسى قال الخطيب في كتاب شرف(24/250)
ص -356-…أصحاب الحديث لم يتهم عمر أبا موسى وإنما كان يشدد في الحديث حفظا للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا" في "عمومه" أي خبر الواحد "ولذا" أي كون توقف الصحابة عن العمل بخبر الواحد في بعض الصور لريبة لا لكونه خبر واحد "عملوا" أي الصحابة كلهم "بحديث عائشة في التقاء الختانين" كما يشير إليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم.
مسألة
"الواحد في الحد مقبول وهو قول أبي يوسف والجصاص" خلافا للكرخي والبصري أبي عبد الله "وأكثر الحنفية" منهم شمس الأئمة وفخر الإسلام كذا في شرح المنار للكاكي وعزا الأول في شرحه لأصول فخر الإسلام إلى جمهور العلماء وأكثر أصحابنا "لنا عدل ضابط جازم في عملي فيقبل كغيره" أي كما في غير الحد من العمليات "قالوا تحقق الفرق" بينه وبين غيره من العمليات "بقوله" صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا أي ادفعوا الحدود بالشبهات" أخرجه أبو حنيفة "وفيه" أي خبر الواحد "شبهة" وهي احتمال الكذب فلا يقام الحد بخبره "قلنا المراد" بالشبهة التي يدرأ بها الحد الشبهة "في نفس السبب لا المثبت" للسبب "وإلا" لو كان المراد بها الشبهة في مثبت السبب "انتفت الشهادة وظاهر الكتاب فيه" أي في الحد لانتفاء القطع فيها إذ احتمال الكذب في الشهادة وإرادة غير ظاهر الكتاب فيه من تخصيص وإضمار ومجاز قائم لكن الحد يجب بهما اتفاقا "وإلزامه" أي هذا القول بأنه ينبغي أن يثبت "بالقياس" أيضا لأن وجوب العمل به ثابت بدلائل موجبة للعلم كخبر الواحد والشهادة "ملتزم عند غير الحنفية" وعندهم غير ملتزم "والفرق لهم" بين خبر الواحد والقياس في هذا "بأنه" أي الحد "ملزوم لكمية خاصة لا يدخلها الرأي" فامتنع إثباتها به بخلاف خبر الواحد فإنه كلام صاحب الشرع وإليه إثبات كل حكم فيجب قبوله.(24/251)
"تقسيم للحنفية" لخبر الواحد باعتبار محل وروده أي ما جعل الخبر فيه حجة "محل ورود خبر الواحد مشروعات ليست حدودا كالعبادات" من الصلاة والصوم والزكاة والحج وما هو ملحق بها مما ليس عبادة مقصودة كالأضحية أو معنى العبادة فيه تابع كالعشر أو ليس بخالص كصدقة الفطر والكفارات "والمعاملات وهو" أي خبر الواحد المشروط فيه ما تقدم من العقل والضبط والإسلام والعدالة من غير اشتراط عدد في الراوي "حجة فيها خلافا لشارطي المثنى لما تقدم من الجانبين" فيما قبل هذه المسألة التي هذا التقسيم في ذيلها لكن إن كان الخبر حديثا يشترط أن يكون غير مخالف للكتاب والسنة الثابتة ولا شاذا ولا مما تعم به البلوى كما سيأتي "وحدود وفيها ما تقدم" في هذه المسألة من الخلاف في قبول الواحد فيها بشروطه الماضية وأما ثبوت مباشرة ما يوجب الحد على المباشر فإنما يثبت بإقراره أو بالبينة عليه بذلك على ما هو معروف في كتب الفروع "فإن كان" محل ورود الخبر "حقوقا للعباد فيها إلزام محض كالبيوع والأملاك المرسلة" أي التي لم يذكر فيها سبب الملك من هبة وغيرها والأشياء المتصلة بالأموال كالآجال والديون "فشرطه" أي هذا القسم عند الإمكان(24/252)
ص -357-…الشرعي "العدد ولفظ الشهادة مع ما تقدم" من العقل والبلوغ والحرية والإسلام والضبط والعدالة والبصر وأن لا يجر بشهادته مغنما ولا يدفع عنها مغرما ومع الذكورة في واحد من العدد "احتيط لمحليته" أي الخبر بهذه الأمور "لدواع" إلى التزوير والحيل في هذا النوع "ليست فيما عن الشارع" تقليلا لوقوع ذلك منها "ومنه" أي هذا القسم "الفطر" لأن الناس ينتفعون به فيشترط في الشهادة بهلال الفطر العدد ولفظ الشهادة مع سائر شروط الشهادة إذا كان بالسماء علة وفي التلويح وإن لم يكن من إثبات الحقوق التي فيها معنى الإلزام لأن الفطر مما يخاف فيه التلبيس والتزوير دفعا للمشقة بخلاف الصوم وهذا أظهر مما ذهب إليه بعضهم من أنه من هذا القسم بناء على أن العباد ينتفعون بالفطر فهو من حقوقهم ويلزمهم الامتناع عن الصوم يوم الفطر فكان فيه معنى الإلزام إذ لا يخفى أن انتفاعهم بالصوم أكثر وإلزامهم فيه أظهر مع أنه يكفي فيه شهادة الواحد ا هـ وأورد يلزم عليه ما إذا قبل الإمام شهادة الواحد في هلال رمضان وأمر الناس بالصوم فصاموا ثلاثين ولم ير الهلال يفطرون في رواية ابن سماعة عن محمد لأن الفرض لا يكون أكثر من ثلاثين فإن هذا فطر بشهادة الواحد وأجيب بأن الفطر غير ثابت بشهادتهم بل بالحكم فإنه لما حكم القاضي برمضان كان من ضرورته انسلاخه بمضي ثلاثين يوما فشهادته أفضت له كشهادة القابلة على النسب أفضت إلى استحقاق الميراث الذي لا يثبت بشهادة القابلة ابتداء ذكره في المبسوط وقوله "إلا إن لم يكن الملزم به مسلما فلا يشترط الإسلام" استثناء مما تضمنه ما تقدم من اشتراط الإسلام فيه وقوله "إلا ما لا يطلع عليه الرجال كالبكارة والولادة والعيوب في العورة" استثناء من العدد فلذا قال "فلا عدد" وقوله "وذكورة" استطراد "وإن" كان محل الخبر حقوقا للعباد "بلا إلزام" للغير "كالإخبار بالوكالات والمضاربات والإذن في التجارة والرسالات في الهدايا والشركات"(24/253)
والودائع والأمانات "فبلا شرط" أي فيقبل في هذه خبر الواحد بلا شرط شيء فيه "سوى التمييز مع تصديق القلب" فيستوي فيه الذكر والأنثى والحر والعبد والمسلم والكافر والعدل وغيره والبالغ وغيره إذا كان مميزا حتى إذا أخبر أحدهم غيره بأن فلانا وكله أو أن مولاه أذن له ووقع في قلبه صدقه جاز أن يشتغل بالتصرف معه بناء على خبره.
ثم اشتراط التحري ذكره شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام في موضع من كتابه ولم يذكره في موضع آخر منه وذكره محمد في الاستحسان من الأصل ولم يذكره في الجامع الصغير فقال الهندواني في كشف الغوامض يجوز أن يكون ما في الاستحسان تفسيرا لما في الجامع يعني أن محمدا أجمل فيه اعتمادا على تفصيله في الاستحسان فيشترط ويجوز أن يشترط استحسانا ولا يشترط رخصة ويجوز أن يكون في المسألة روايتان ثم لم يشترط سوى التمييز لأن اعتبار هذه الشروط ليترجح جانب الصدق في الخبر فيصلح ملزما والخبر هنا غير ملزم لأن التصرف غير لازم على هؤلاء وأيضا هذه حالة مسالمة وإنما احتيج إلى تلك الشروط في المنازعة المفضية إلى التزوير والاشتغال بالأباطيل دفعا لها وأيضا "للإجماع العملي" فإن الأسواق من لدن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قائمة بعدول وفساق ذكور(24/254)
ص -358-…وإناث أحرار وغير أحرار مسلمين وغيرهم والناس يشترون من الكل ويعتمدون خبر كل مميز بذلك من غير نكير "وكان عليه السلام يقبل خبر الهدية من البر والفاجر" كما هو ظاهر إطلاق ما في البخاري عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. وما روى الترمذي وابن ماجه: أنه كان يجيب دعوة العبد. وهذا وإن كان في سنده ضعف فثم ما يشهد له كقبول هدية سلمان وهو عبد كما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وما في الصحيحين من قبول هدية اليهودية الشاة المسمومة إلى غير ذلك وأيضا "دفعا للحرج اللازم من اشتراط العدالة في الرسول" لأن الإنسان قلما يجد المسلم البالغ الحر العدل في كل زمان ومكان ليبعثه إلى وكيله أو غلامه فتتعطل مصالحه لو شرطت في الرسول "بخلافه" أي اشتراطها "في الرواية" فإنه لا يؤدي إلى الحرج لأن في عدول المسلمين كثرة "وإن" كان محل الخبر حقوقا للعباد "فيها" إلزام للغير "لغير وجه" دون وجه "كعزل الوكيل" لأنه إلزام من حيث إن الموكل يبطل عمل الوكيل في المستقبل وليس بإلزام للوكيل من حيث إن الموكل يتصرف في حقه "وحجر المأذون" لأنه إلزام للعبد من حيث إنه يخرج تصرفات العبد من الصحة إلى الفساد بعد الحجر وليس بإلزام له من حيث إن المولى يتصرف في حقه "وفسخ الشركة والمضاربة" لأنه إلزام للشريك والمضارب من حيث إنه يلزم كلا منهما الكف عن التصرف في المستقبل وليس إلزاما لهما لأن الفاسخ يتصرف في حق نفسه إذ لكل من هؤلاء ولاية المنع من التصرف كما له ولاية الإطلاق "فالوكيل والرسول فيها" أي في هذه الحقوق ممن له ولاية التوكيل والإرسال بأن قال الموكل أو المولى أو من بمعناهما من أب أو وصي أو قاض أو الشريك أو رب المال وكلتك بأن تخبر فلانا بالعزل أو الحجر وأرسلتك إلى فلان لتبلغه عني هذا الخبر لا يشترط فيهما سوى التمييز بالاتفاق "كما قبله" أي كما في المخبر في القسم الذي قبل هذا وهو ما كان محل(24/255)
الخبر فيه حقوق العباد بلا إلزام لأن عبارة الوكيل والرسول كعبارة الموكل والمرسل إذ الوكيل في هذه الصورة كالرسول وفي المرسل والموكل لا يشترط سوى التمييز فكذا فيمن قام مقامهما "وكذا" المخبر "الفضولي" لا يشترط عدالته "عندهما" أبي يوسف ومحمد لأن هذه الأمور من المعاملات فلا تتوقف على شروط الشهادة لأن للناس في باب المعاملات عزلا وتوكيلا بحسب ما يعرض لهم من الحاجات ضرورة فلو شرطت العدالة لضاق الأمر عليهم فلم تشترط دفعا للحرج.
"وشرط" أبو حنيفة "عدالته أو العدد" أي كون المخبر الفضولي اثنين "لأنه" أي هذا الإخبار "لإلزام الضرر" فيه فإن بعد العزل ينفذ الشراء على الوكيل ولا يصح من المأذون "كالثاني" أي القسم الثاني وهو ما كان محل الخبر حقا للعبد فيه إلزام محض "ولولاية من" يتوصل الفضولي "عنه في ذلك" التصرف "كالثالث" أي القسم الثالث وهو ما كان حقا للعبد فيه إلزام من وجه "فتوسطنا" في القول في هذا بالاكتفاء بأحد شطري الشهادة وهو العدد أو العدالة إعمالا "للشبهين" لأن ما تردد بين شيئين يوفر حظه عليهما ثم اشتراط العدالة في المخبر الفضولي إذا كان واحدا عند أبي حنيفة متفق عليه بين المشايخ وعدم اشتراطها إذا(24/256)
ص -359-…كان اثنين قول بعض المشايخ وقال بعضهم يشترط فيهما أيضا لأن خبر الفاسقين كخبر فاسق في أنه لا يصلح ملزما فلا يكون لزيادة العدد فائدة قالوا والاختلاف نشأ من لفظ محمد في المبسوط حيث قال إذا حجر المولى على عبده أو أخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد فجعل بعضهم العدالة للمجموع وبعضهم للرجل فقط وهو الأصح لأن للعدد تأثيرا في الاطمئنان بل تأثيره أقوى من العدالة فإن القاضي لو قضى بشهادة واحد لا ينفذ وبشهادة فاسقين ينفذ وإن كان على خلاف السنة ولأنه لو اشترط في الرجلين العدالة كان ذكره ضائعا ويكفي أن يقال حتى يخبره رجل عدل ولم يذكر في المبسوط اشتراط وجود سائر الشروط من الذكورية والحرية والبلوغ فلذا قال فخر الإسلام وغيره يحتمل أن يشترط سائر شروط الشهادة عنده حتى لا يقبل خبر العبد والمرأة والصبي وجزم به صدر الشريعة وقيل لو كانت هذه الثلاثة شرطا مع أحد شطري الشهادة لذكرها محمد وهو أيضا خلاف ما في مختصر الكرخي فإن فيه وقال أبو حنيفة لا يكون ذلك إخراجا حتى يخبره رجل عدل أو امرأة عدلة أو يخبره رجلان وإن كانا غير عدلين.(24/257)
"وإخبار من أسلم بدار الحرب قيل الاتفاق على اشتراط العدالة في" لزوم "القضاء" لما فاته "لأنه" أي هذا الإخبار إخبار "عن الشارع بالدين والأكثر" من المشايخ على أنه "على الخلاف" الذي في العزل والحجر "وشمس الأئمة السرخسي" قال "الأصح" عندي أنه يلزمه "القضاء" اتفاقا "لأنه" أي المخبر "رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالتبليغ قال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" وقد بينا في خبر الرسول أنه بمنزلة خبر المرسل ولا يعتبر في المرسل أن يكون عدلا ا هـ. وتعقبه المصنف بقوله "ولو صح" هذا "انتفى اشتراط العدالة في الرواة" لأنه يصدق على كل أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ على هذا وانتفاء اشتراطها فيهم ممنوع اتفاقا "فإنما ذاك" أي الرسول الذي خبره بمنزلة خبر المرسل "الرسول الخاص بالإرسال" لا مطلقا وهذا المخبر ليس كذلك "ومسوغ الرواية التحمل وبقاؤه" أي التحمل "وهما" أي التحمل وبقاؤه "عزيمة" ورخصة "وكذا الأداء" له عزيمة ورخصة "فالعزيمة في التحمل أصل قراءة الشيخ من كتاب أو حفظ" عليك وأنت تسمع "وقراءتك أو" قراءة "غيرك كذلك" أي من كتاب أو حفظ على الشيخ "وهو يسمع" سواء كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه أو لا لكن ممسك أصله هو أو ثقة غيره إن لم يكن القارئ يقرأ فيه على هذا عمل كافة الشيوخ وأهل الحديث وقال ابن الصلاح إنه المختار قال الشيخ زين الدين العراقي وهكذا إن كان ثقة من السامعين يحفظ ما يقرأ على الشيخ والحافظ له مستمع غير غافل عنه فذلك كاف أيضا "وهي" أي قراءتك أو غيرك على الشيخ من كتاب أو حفظ "العرض" سميت به لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ فيقول أهو كما قرأت عليك "فيعترف" ولو بنعم "أو يسكت ولا مانع" من السكوت على ما عليه جمهور الفقهاء والمحدثين والنظار "خلافا لبعضهم" وهو بعض(24/258)
ص -360-…الظاهرية في جماعة من مشايخ المشرق في أن إقراره شرط والأول الصحيح "لأن العرف أنه" أي السكوت بلا مانع منه "تقرير ولأنه" أي السكوت بلا مانع منه "يوهم الصحة فكان صحيحا وإلا فغش ورجحها" أي القراءة على الشيخ "أبو حنيفة على قراءة الشيخ من كتاب خلافا للأكثر" حيث قالوا قراءة المحدث على الطالب أعلى لأن هذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذهب أبو حنيفة إلى ذلك "لزيادة عنايته" أي القارئ "بنفسه فيزداد ضبط المتن والسند" لأنه عامل لنفسه والشيخ لغيره والإنسان في أمر نفسه أحوط منه في أمر غيره وأورد القراءة على المحدث لا يؤمن فيها غفلته عن سماع القارئ أيضا وأجيب بأنها أهون من الخطأ في القراءة وحيث لم يمكن الاحتراز عنهما سقط اعتبار ما لم يمكن ووجب الاحتراز عن الأهم منهما "وعنه" أي عن أبي حنيفة أن القراءة عليه والسماع منه "يتساويان" ففي النوازل وروى نصير عن خلف عن أبي سعد الصغاني قال سمعت أبا حنيفة وسفيان يقولان القراءة على العالم والسماع منه سواء وهو محكي عن مالك وأصحابه ومعظم علماء الحجاز والكوفة والشافعي والبخاري "فلو حدث" الشيخ "من حفظه ترجح" التحديث من حفظه على قراءة القارئ عليه "بخلاف قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم" على غيره فإنها راجحة على قراءة غيره عليه "للأمن من القرار على الغلط" لو وقع وكذلك غيره "والحق أنه" أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم "في غير محل النزاع" فإن محله أن يروي الراوي وهو الشيخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن يروي نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على هذا حكاية ترجيح القراءة على الشيخ عن أبي حنيفة بلا هذا التفصيل كما وقع لغير واحد ليس على ما ينبغي وقد رواه كذلك الخطيب عن مالك والليث وشعبة ويحيى بن سعيد والقاسم بن سلام وأبي حاتم في آخرين والله سبحانه أعلم "وخلف عنه" أي الأصل وهو "الكتاب بحدثني فلان فإذا بلغك كتابي هذا فحدث به عني بهذا(24/259)
الإسناد" أي على رسم الكتب بأن يكتب في عنوانه من فلان بن فلان بن فلان الفلاني إلى فلان بن فلان بن فلان الفلاني ثم يكتب في داخله بعد التسمية والثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم من فلان إلخ ثم يقول حدثني فلان بن فلان عن فلان بن فلان إلى آخر الإسناد بكذا ثم يقول فإذا جاءك كتابي هذا أو إذا بلغك كتابي هذا فاروه عني أو فحدثه عني بهذا الإسناد ويشهد على ذلك شهودا ثم يختمه بحضرتهم فإذا ثبت الكتاب عند المكتوب إليه بالشهود قبله وروى ذلك الحديث عن الكاتب بإسناده وفي علوم الحديث لابن الصلاح من أقسام طرق الحديث وتلقيه المكاتبة وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب ذلك عنه إليه "والرسالة" أن يرسل الشيخ رسولا إلى آخر ويقول للرسول "بلغه عني أنه حدثني فلان" بن فلان عن فلان بن فلان إلى أن يأتي على تمام الإسناد بكذا فإذا بلغتك رسالتي إليك "فاروه عني" أو فحدث به عني "بهذا الإسناد" فشهد الشهود عند المرسل إليه على رسالة المرسل حلت للمرسل إليه الرواية عنه قال المصنف "وهذا" أي قوله فإذا بلغك إلخ في الفصلين إنما يلزم "على اشتراط الإذن والإجازة في الرواية عنهما" أي الكتابة والرسالة "والأوجه عدمه" أي(24/260)
ص -361-…عدم اشتراط الإجازة فيهما "كالسماع" فإنه ساق سندا خاصا بمتن معين غير أنه لم يسمعه منه فإذا ثبت أن الكتاب كتابه والرسول رسوله صار كأنه سمعه وإذا كان بعد الثبوت عنه كسماعه منه جاز أن يرويه بلا إذن فإن في السماع والمشافهة لو منعه عن الرواية جاز أن يروي مع منعه فضلا عن أن يتوقف على إذنه ذكره المصنف وقد ذكر ابن الصلاح إجازة الرواية بالكتابة المجردة عن كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني ومنصور والليث وأنها المذهب الصحيح المشهور بين أهل الحديث بل جعلها أبو المظفر السمعاني أقوى من الإجازة وصار إليه غير واحد من الأصوليين قال المصنف وهو الحق لأن الإجازة من قبيل الرخصة والكتابة، من قبيل العزيمة المسند الموصول "وهما" أي الكتابة والرسالة "كالخطاب" شرعا "لتبليغه عليه السلام بهما" أي الكتابة والرسالة فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام. متفق عليه وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى كل جبار عنيد يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم إلى غير ذلك وتقدم من جملة رسله بالتبليغ معاذ بل كل من الأمرين منه صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يذكر عليه دليل "وعرفا" كما في تقليد الملوك القضاء والإمارة بهما كما بالمشافهة "ويكفي معرفة خطه" أي الكاتب في حل رواية المكتوب إليه عنه "وظن صدق الرسول" كما عليه عامة أهل الحديث "وضيق أبو حنيفة" حيث نسب إليه أنه لا يحل في كل منهما إلا "بالبينة" كما في كتاب القاضي إلى القاضي ومال المصنف إلى الأول فقال "ولا يلزم كتاب القاضي للاختلاف" بين كتاب القاضي إلى القاضي وما نحن فيه "بالداعية" إلى ترويجها بحيث لا يلزم من اشتراطها في كتاب القاضي اشتراطها فيما نحن فيه فلا جرم أن في أصول الفقه للشيخ أبي بكر الرازي وأما من كتب إليه بحديث(24/261)
فإنه إذا صح عنده أنه كتابه إما بقول ثقة أو بعلامات منه وخط يغلب معها في النفس أنه كتابه فإنه يسع المكتوب إليه الكتاب أن يقول أخبرني فلان يعني الكاتب إليه ولا يقول حدثني "ولا خفاء في" جواز "حدثنا وأخبرنا وسمعته في الأول" أي في قراءة الشيخ على الطالب "وقال" أيضا مع الجار والمجرور من لي ولنا وبدون ذلك وإنما الكلام في كونها محمولة على السماع إذا تجردت عنهما فقال ابن الصلاح هي محمولة عليه إذا علم اللقي وسلم الراوي من التدليس لا سيما من عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه كحجاج بن محمد الأعور فروى كتب ابن جريج بلفظ. قال ابن جريج فحملها الناس عنه واحتجوا بها وخصص الخطيب ذلك بمن عرف من عادته مثل ذلك فأما من لا يعرف بذلك فلا يحمله على السماع ثم عده ابن الصلاح من أوضع العبارات في ذلك "وغلبت" لفظة قال "في المذاكرة" أي في التعبير بها مع الجار والمجرور على ما ذكره ابن الصلاح وغيره عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات حتى قال ابن الصلاح إنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة وهو به أشبه من حدثنا وأما قول ابن منده إن البخاري حيث قال قال لي فلان فهو إجازة وحيث قال قال فلان فهو تدليس. قال الحافظ العراقي فلم يقبل العلماء كلامه حتى قال ابن القطان فذلك عنه باطل "وفي الثاني"(24/262)
ص -362-…أي قراءة الطالب على الشيخ يقول "قرأت" عليه وهو يسمع إن كان هو القارئ "وقرئ عليه وأنا أسمع" إن كان القارئ غيره "وحدثنا بقراءتي" عليه "وقراءة" عليه "وأنبأنا ونبأنا كذلك" أي بقراءتي أو قراءة عليه "والإطلاق" لحدثنا وأخبرنا من غير تقييد بقراءتي أو قراءة عليه "جائز على المختار" كما هو مذهب أصحابنا والثوري وابن عيينة والزهري ومالك والبخاري ويحيى بن سعيد القطان ومعظم الكوفيين والحجازيين لا المنع مطلقا كما ذهب إليه ابن المبارك وأحمد وخلق كثير من أصحاب الحديث على ما ذكر الخطيب وقال القاضي أبو بكر إنه الصحيح "وقيل" الإطلاق جائز "في أخبرنا فقط" وهو للشافعي وأصحابه ومسلم وجمهور أهل المشرق وذكر صاحب كتاب الإنصاف أنه مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذي لا يحصيهم أحد وأنهم جعلوا أخبرنا علما يقوم مقام قول قائله أنا قرأته عليه لا أنه لفظ به لي وقال ابن الصلاح الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف وخير ما يقال فيه إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين ثم خصص النوع الأول بقول حدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة "والمنفرد" يقول "حدثني وأخبرني وجاز الجمع" أي حدثنا وأخبرنا لجوازه في كلام العرب كما أن من معه غيره يقول حدثنا وأخبرنا وجاز أن يقول حدثني وأخبرني لأن المحدث حدثه وغيره وأما ما اختاره الحاكم وذكر أنه الذي عهد عليه أكثر شيوخه وأئمة عصره وذكره غيره أيضا من أن الراوي يقول فيما يأخذه من المحدث لفظا وليس معه أحد حدثني فلان وفيما كان معه غيره حدثنا فلان وفيما قرأ على المحدث بنفسه أخبرني فلان وفيما قرئ على المحدث وهو حاضر أخبرنا فلان وقال ابن الصلاح وهو حسن رائق فليس بواجب بل مستحب كما حكاه الخطيب عن أهل العلم كافة "وفي الخلف" أي الكتابة والرسالة يقول "أخبرني" كما ذكر غير واحد من مشايخنا "وقيل" لا يجوز أن يقول فيهما أخبرني "كحدثني"(24/263)
لأن الإخبار والتحديث واحد "بل" يقول "كتب" إلي "وأرسل إلي لعدم المشافهة قلنا قد استعمل" أخبرني "للإخبار مع عدمها" أي المشافهة "كأخبرنا الله لا حدثنا" مع عدمها إذ لا يقال حدثنا الله على أن ابن الصلاح ذكر أنه ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم منهم الليث ومنصور إلى جواز حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار قول من يقول فيها كتب إلي فلان قال حدثنا فلان بكذا وقال الحاكم إنه الذي اختاره واعتمد عليه أكثر مشايخه وأئمة عصره وقال ابن الصلاح أيضا وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة وكذا لو قال أخبرني به مكاتبة أو كتابة أو نحو ذلك من العبارات "والرخصة" في التحمل "والإجازة مع مناولة المجاز به" للمجاز له "ودونها" أي وبدون مناولته لأنها لتأكيد الإجازة لأنها بدون الإجازة غير معتبرة والإجازة بدونها معتبرة. ثم من صور الإجازة بدون المناولة أن يقول المخبر لغيره أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب الذي حدثني به فلان إلى أن يأتي على سنده ومن صورها مع المناولة أن يناوله شيئا من سماعه أصلا أو فرعا مقابلا به ويقول هذا من سماعي أو روايتي عن فلان إلى آخر الإسناد فاروه عني.(24/264)
ص -363-…"ومنه" أي قسم الإجازة المجردة عن المناولة "إجازة ما صح من مسموعاتي" عندك إلا أن الشيخ أبا بكر الرازي ذكر أن نحو هذا وهو أجزت لك ما يصح عندك من حديثي ليس بشيء كما لو قال ما صح عندك من صك فيه إقراري فاشهد به علي لم يصح ولم تجز الشهادة به وسنذكر أيضا عن شمس الأئمة السرخسي ما يوافقه على وجه أبلغ منه.
ثم اختلف في جواز الرواية بالإجازة "قيل بالمنع" وهو لجماعات من المحدثين والفقهاء والأصوليين وإحدى الروايتين عن الشافعي وقطع به القاضي حسين والماوردي وقالا كما قال شعبة وغيره لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة والخجندي من الشافعية عن أبي طاهر الدباس وأنه قال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي "والأصح الصحة" وذكر ابن الصلاح أنه الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم قال وفي الاحتجاج بذلك غموض ويتجه أن يقال إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم وذلك يحصل بالإجازة المفهمة وقال غير واحد "للضرورة" لأن كل محدث لا يجد من يبلغ إليه ما صح عنده ولا يرغب كل طالب إلى سماع أو قراءة ما عند شيخه فلو لم يجز بها لأدى إلى تعطيل السنن وانقطاع أسانيدها "والحنفية" قالوا "إن كان" المجاز له "يعلم ما في الكتاب" المجاز به فقال له المجيز إن فلانا حدثنا بما في هذا الكتاب بأسانيده هذه فأنا أحدثك به وأجزت لك الحديث به "جازت الرواية" بهذه الإجازة إذا كان المستجيز مأمونا بالضبط والفهم "كالشهادة على الصك" فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما فيه أو أخبره من عليه الحق وأجاز له أن يشهد عليه بذلك كان صحيحا فكذا رواية الخبر "وإلا" لو لم يكن المجاز له عالما بما في الكتاب "فإن احتمل" الكتاب "التغيير" بزيادة أو نقصان "لم(24/265)
تصح" الإجازة ولا تحل الرواية بالاتفاق "وكذا" لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد "إن لم يحتمل" الكتاب ذلك "خلافا لأبي يوسف ككتاب القاضي" أي قياسا على اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي "إذ علم الشهود بما فيه شرط" عندهما لصحة الشهود "خلافا له" أي لأبي يوسف "وشمس الأئمة السرخسي قال الأصح" عند نفسه "عدم الصحة" لهذه الإجازة "اتفاق وتجويز أبي يوسف" الشهادة "في الكتاب" من القاضي إلى القاضي وإن لم يعلم الشهود ما فيه "لضرورة اشتماله على الأسرار" عادة "ويكره المتكاتبان الانتشار" لأسرارهما "بخلاف كتب الأخبار" لأن السنة أصل الدين ومبناها على الشهرة فلا وجه لصحة الأمانة فيها قبل العلم بها قال المصنف "وفيه نظر بل ذلك" أي جواز الشهادة على الكتاب وإن لم يعلم ما فيه للضرورة المذكورة إنما يتأتى "في كتب العامة لا" في كتاب "القاضي" إلى القاضي "بالحكم والثبوت" فينبغي أن يجوز فيما نحن فيه عنده كما في كتاب القاضي إلى القاضي عنده وفخر الإسلام تردد فيما ينبغي أن ينسب إلى أبي يوسف في هذه المسألة حيث لم يكن الخلاف عنه فيها منصوصا فقال يحتمل أن لا يجوز في هذا الباب ووجهه بما تقدم وهو متعقب بما ذكره(24/266)
ص -364-…المصنف ويحتمل الجواز بالضرورة أي أن يجوز الإجازة عنده بلا علم للمجاز بما في الكتاب المجاز به كما تجوز الشهادة على كتاب القاضي بلا علم للشاهد بما فيه بجامع الضرورة بينهما يعني كما لم يشرط أبو يوسف في صحة الشهادة على كتاب القاضي علم الشاهد بما فيه لضرورة إيصال الحقوق إلى أهلها ينبغي أن لا يكون علم الراوي بما في الكتاب المجاز به شرطا لصحة الإجازة عنده لضرورة أن المحدث محتاج إلى تبليغ ما صح عنده من الأخبار إلى الغير ليتصل الإسناد ويبقى الدين وقد ظهر تكاسل الناس في أمور الدين وربما لا يتيسر للطالب القراءة عليه والسماع منه وفي اشتراط العلم بما فيه نوع تعسير وتنفير فجوزت رخصة لهذا المعنى.(24/267)
"وهذا" التفصيل المذكور للحنفية إنما ذهبوا إليه "للاتفاق على النفي" لصحة الرواية "لو قرأ" الطالب "فلم يسمع الشيخ أو" قرأ "الشيخ" فلم يسمع الطالب "ولم يفهم" ففي الإجازة التي هي دون القراءة أولى ثم في تصحيح الإجازة بدون العلم رفع الابتلاء فإن الناس مبتلون بالتعليم والتعلم وتحمل المشاق فلو جوزت بدونه لرغب الناس عن التعلم اعتمادا على صحة الرواية بدونه وفيه فتح باب التقصير والبدعة إذ لم ينقل عن السلف مثل هذه الإجازة ولا يشكل هذا بقبول رواية من سمع في صباه بعد بلوغه فإنه كما قال "وقبول من سمع في صباه مقيد بضبطه غير أنه أقيمت مظنته" أي الضبط وهي التمييز مقامه "ولذا" أي اشتراط ضبط السامع "منعت" صحة الرواية "للمشغول عن السماع بكتابة" كما ذهب إليه الإسفراييني وإبراهيم الحربي وابن عدي وذهب إلى الصحة مطلقا الحافظ موسى بن هارون الحمال ويوافقه ظاهر ما عن أبي حاتم الحنظلي أنه كتب عند عارم وعند عمرو بن مرزوق في حالة السماع وما عن ابن المبارك أنه كتب وهو يقرأ عليه غير ما يكتب وقال الصبغي من الشافعية يقول حضرت لا حدثنا ولا أخبرنا "أو نوم أو لهو والحق أن المدار" لعدم جواز الرواية "عدم الضبط" للمروي "وأقيمت مظنته" أي عدم الضبط "نحو الكتابة" مقامه إذا كانت بحيث يمتنع معها الفهم لما يقرأ حتى يكون الواصل إلى سمع الكاتب كأنه صوت غفل أما إذا كانت بحيث لا يمتنع معها الفهم فلا "لحكاية الدارقطني" فإنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار فجلس ينسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي فقال له بعض الحاضرين لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قال تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن فقال الدارقطني أملى ثمانية عشر حديثا فعدت الأحاديث فوجدت كما قال ثم قال الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا والحديث الثاني عن فلان ومتنه كذا ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى(24/268)
على آخرها فعجب الناس منه ولعل ما تقدم عن الحنظلي وابن المبارك كان من هذا القبيل أيضا بل هو الأشبه ولا سيما من ابن المبارك فلا جرم أن قال الثوري وغيره الصحيح إن فهم المقروء صح وإلا لم يصح وقالوا لا فرق بين النسخ من السامع وبينه من المسموع ويجري هذا التفصيل فيما إذا تحدث الشيخ أو السامع أو أفرط القارئ في الإسراع أو بعد عنه والظاهر(24/269)
ص -365-…أنه يعفى عن اليسير نحو الكلمة والكلمتين وقال أحمد في الحرف يدغمه الشيخ فلا يفهم وهو معروف أرجو أن لا تضيق روايته عنه وفي الكلمة تستفهم من المستفهم إن كانت مجتمعا عليها فلا بأس وعن خلف بن سالم منع ذلك.
"وتنقسم" الإجازة "لمعين في معين" كأجزت لك أو لكم أو لفلان ويصفه بما يميزه الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة وقد ذكر ابن الصلاح وغيره أنها محل الخلاف السابق لا أنها مجمع على جوازها كما زعمه الباجي "وغيره" أي لمعين في غير معين "كمروياتي" ومسموعاتي قال ابن الصلاح وغيره والخلاف في هذا أقوى وأكثر والجمهور من العلماء على تجويز الرواية بها أيضا وعلى إيجاب العمل بما روى بها بشرط انتهى، ومن المانعين لصحتها شمس الأئمة السرخسي وحكى الاتفاق عليه وقال إنه بمنزلة ما لو قال لآخر اشهد علي بكل صك تجد فيه إقراري فقد أجزت لك فإن ذلك باطل وقد نقل عن بعض أئمة التابعين أن سائلا سأله الإجازة بهذه الصفة فتعجب وقال لأصحابه هذا يطلب مني أن أجيز له أن يكذب علي "ولغير معين" عام في معين وغير معين نحو أجزت لكل أحد الكتاب الفلاني أو مروياتي "للمسلمين من أدركني" ثم هذا ينقسم إلى موجود كما ذكرنا وإلى معدوم "ومنه من يولد لفلان" ومن ثمة فصله عما قبله وقد قال بصحة الإجازة لموجود غير معين عام جماعة من العلماء ورجحها ابن الحاجب والنووي في زيادات الروضة وعمل بها خلق كثير لا يتم معه قول ابن الصلاح إنه لم يسمع عن أحد يقتدى به الرواية بها على أنه كما قال النووي الظاهر من كلام مصححها جواز الرواية بها وأي فائدة لها غير الرواية بها ومنعها بعضهم ثم قال ابن الصلاح وغيره فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب انتهى ومثله القاضي عياض بأجزت لمن هو الآن من طلبة العلم ببلد كذا أو لمن قرأ علي قبل هذا وقال فما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن يصح عنده الإجازة(24/270)
ولا رأيت منعه لأحد لأنه محصور موصوف كقوله لأولاد فلان أو إخوة فلان وأما تخصيص المعدوم غير معطوف على موجود بالإجازة كما ذكره المصنف فالخلاف فيه أقوى وقد أبطلها أبو الطيب وابن الصباغ قال ابن الصلاح ومن تبعه هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا يصح الإجازة له انتهى ولو قلنا إنها إذن فلا يصح أيضا كما لا تصح الوكالة للمعدوم وأجازها للمعدوم مطلقا الخطيب ونقله عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي وأبي الفضل بن عمروس المالكي والقاضي عياض عن معظم الشيوخ المتأخرين قال وبهذا استمر عملهم شرقا وغربا انتهى ومنهم من فرعه على جواز الوقف على المعدوم كما هو قول الحنفية والمالكية والله تعالى أعلم وهذا "بخلاف" الإجازة لغير المعين "المجهول في معين" كأجزت لجماعة من الناس رواية صحيح البخاري "وغيره" أي وفي غيره معين "ك" أجزت لبعض الناس رواية "كتاب السنن" وهو يروي عدة من السنن المعروفة بذلك فإنها غير صحيحة "بخلاف" أجزت لك رواية "سنن فلان" كأبي داود فإنها صحيحة كما هو ظاهر(24/271)
ص -366-…ولو ترك لكان أحسن "ومنه" أي قبيل الإجازة في غير المعين إجازة رواية "ما سيسمعه الشيخ" وهي باطلة على الصحيح كما نص عليه عياض وابن الصلاح والنووي لأن هذا يجيز ما لا خبر عنده به ويأذن له في الحديث بما لم يحدث به بعد ويبيح ما لم يعلم هل يصح له الإذن فيه فمنعه هو الصواب "وفي التفاصيل اختلافات" ذكرنا معظمها ويراجع في الباقي منها الكتب المؤلفة في علم الحديث.
"ثم المستحب" للمجاز في أدائه "قوله أجاز لي ويجوز أخبرني وحدثني مقيدا" بقوله إجازة أو ومناولة أو إذنا "ومطلقا" عن القيد بشيء من ذلك "للمشافهة في نفس الإجازة" وعلى هذا الشيخ أبو بكر الرازي والقاضي أبو زيد وفخر الإسلام وأخوه وإمام الحرمين وحكي عن ابن جريج وجماعة من المتقدمين وذكر الوليد بن الخاقاني أنه مذهب مالك وأهل المدينة "بخلاف الكتاب والرسالة" لا يجوز أن يقول فيهما أخبرني ولا حدثني مطلقا "إذ لا خطاب أصلا" فيهما ذكره قوام الدين الكاكي وذكر قوام الدين الأتقاني أنه يجوز في المكاتبة والرسالة أن يقول حدثني بالاتفاق وإن كان المختار أخبرني لأن الكتاب والرسالة من الغائب كالخطاب من الحاضر "وقيل يمنع حدثني لاختصاصه بسماع المتن" ولم يوجد في الإجازة والمناولة ولا يمنع من أخبرني وعلى هذا شمس الأئمة السرخسي وقال ابن الصلاح والمختار الذي عليه عمل الجمهور وإياه اختار أهل التحري والورع المنع في ذلك من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحوهما من العبارات وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به بأن تقيد هذه العبارات كما تقدم "والوجه في الكل اعتماد عرف تلك الطائفة" فيؤدي على ما هو عرفها في ذلك على وجه سالم من التدليس وخلاف ما في نفس الأمر "والاكتفاء الطارئ في هذه الأعصار بكون الشيخ مستورا" أي كونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق وما يخرم المروءة "ووجود سماعه" مثبتا "بخط ثقة" غير متهم وبروايته من أصل "موافق لأصل شيخه" كما ذكر ابن الصلاح وسبق إلى الإشارة إليه(24/272)
البيهقي "ليس خلافا لما تقدم" من اشتراط العدالة وغيرها في الراوي "لأنه" أي الاكتفاء المذكور "لحفظ السلسلة" أي ليصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا "عن الانقطاع" وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم "وذلك" أي ما تقدم من اشتراط العدالة وغيرها "لإيجاب العمل على المجتهد والعزيمة في الحفظ" حفظه عن ظهر قلب من غير واسطة الخط "ثم داومه إلى" وقت "الأداء" لأن المقصود من السماع العمل بالمسموع وتبليغه إلى غيره وهما لا بد لهما من الحفظ قال شمس الأئمة السرخسي وغيره وهذا كان مذهب أبي حنيفة في الأخبار والشهادات جميعا ولهذا قلت روايته وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه للناس ويشهد له ما أسند الحافظ المزي في تهذيب الكمال إلى يحيى بن معين أنه قال كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث إلا بما حفظه ولا يحدث بما لا يحفظه "والرخصة" في الحفظ "تذكره" أي الراوي المروي "بعد انقطاعه" أي الحفظ "عند نظر الكتابة" سواء كانت خطه أو خط غيره معروف أو مجهول لأن المقصود به ذكر الواقعة وهو حاصل بخط المجهول أيضا فيصير كأنه حفظه(24/273)
ص -367-…من وقت السماع إلى وقت الأداء فيكون حجة وتحل له روايته لأن التذكر بمنزلة الحفظ، والنسيان الواقع قبله عفو لعدم إمكان الاحتراز عنه لأن الإنسان جبل عليه وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوة نور قلبه وإن كان متصورا أيضا لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى. إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6- 7] وسمى السرخسي هذا عزيمة مشبهة بالرخصة "فإن لم يتذكر" الراوي المروي بنظر المكتوب "بعد علمه أنه خطه أو خط الثقة وهو في يده" بحيث لا يصل يد غيره إليه أو مختوما بخاتمه "أو في يد أمين" على هذه الصفة "حرمت الرواية والعمل عند أبي حنيفة" بذلك "ووجبا" أي الرواية والعمل به "عندهما والأكثر وعلى هذا" الخلاف "رؤية الشاهد خطه" بشهادته "في الصك" أي كتاب الشهادة "والقاضي" خطه أو خط نائبه بقضائه بشيء "في السجل" الذي بديوانه ولم يتذكر كل منهما ذلك فروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لا يحل له أن يعتمد على الخط ما لم يتذكر ما تضمنه المكتوب لأن النظر في الكتاب لمعرفة القلب كالنظر في المرآة للرؤية بالعين والنظر في المرآة إذا لم يفده إدراكا لا يكون معتبرا فالنظر في الكتاب إذا لم يفده تذكرا يكون هدرا وهذا لأن الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط شبها لا يمكن التمييز بينهما إلا بالتخمين فبصورة الخط لا يستفيدون علما من غير التذكر "وعن أبي يوسف" في رواية بشر عنه "الجواز في الرواية" أي جواز العمل بمجرد الخط في رواية الحديث إذا كان خطا معروفا لا يخاف تغييره عادة بأن يكون بيده أو بيد أمين لأن التبديل فيه غير متعارف لأنه من أمور الدين ولا يعود بتغييره نفع لأحد ودوام الحفظ والتذكر متعذر فلو اشترطنا التذكر لصحتها أدى إلى تعطيل السنن "والسجل إذا كان في يده" أي وجواز عمل القاضي بمجرد خطه أو خط معروف مفيد قضاءه بقضية في مكتوب محفوظ بيده بحيث لا تصل إليه يد(24/274)
غيره أو يكون مختوما بخاتمه أو بيد أمينه الموثوق به كذلك لأن حفظ القاضي جميع جزئيات الوقائع ذكرا متعذر غالبا لكثرة أشغاله بأمور المسلمين فلو لم يجز اعتماده على الخط عند النسيان أدى إلى تعطيل أكثر الأحكام والحرج وهو منتف ولهذا كان من آداب القضاء كتابة القاضي الوقائع وإيداعها قمطره وختمه بخاتمه ولو لم يجز له الرجوع إليها عند النسيان لم يكن للكتابة والحفظ فائدة وإنما شرط أن يكون بيده أو بيد أمينه للأمن عن التزوير فيه حينئذ بخلاف ما إذا لم يكن بيد أحدهما فإن التزوير فيه متطرق إليه لما ينبني عليه من الخصومات "لا الصك" أي ولا يجوز عنده عمل الشاهد بمجرد الخط إذا لم يكن بيده لأن مبنى الشهادة على اليقين بالمشهود به والصك إذا كان بيد الخصم لا يحصل الأمن فيه من التغيير والتبديل بخلاف ما إذا كان بيده للأمن عن ذلك كالسجل بيد القاضي "وعن محمد" في رواية ابن رستم عنه يجوز العمل للمذكورين بمجرد الخط إذا تيقنوا أنه خطهم "في الكل" أي في الرواية والشهادة والقضاء ولو كان الصك بيد الخصم "تيسيرا" على الناس لأن جريان التغيير فيه بعيد لأنه لو ثبت ثبت بالخط والخط يندر شبهه بالخط على وجه يخفى التمييز بينهما و النادر لا حكم له ولا اعتبار لتوهم التغيير لأن له أثرا يمكن الوقوف عليه فإذا لم يظهر جاز الاعتماد(24/275)
ص -368-…على الخط وقد تعرض المصنف لدليلهما مع الأكثر في المسألة الأولى بقوله "لنا عمل الصحابة بكتابه" صلى الله عليه وسلم "بلا رواية ما فيه" للعاملين "بل لمعرفة الخط وأنه منسوب إليه صلى الله عليه وسلم ككتاب عمرو بن حزم" كما يفيده ما قدمنا في مسألة العمل بخبر العدل واجب فجاز مثله لغيرهم "وهو" أي عملهم بكتابه بمجرد معرفة الخط "شاهد لما تقدم من قبول كتاب الشيخ إلى الراوي" بالتحديث عنه "بلا شرط بينة" على ذلك "وهنا" أي العمل بمقتضى المكتوب بمجرد معرفة الخط "أولى" من عمل الراوي بكتاب الشيخ إليه بلا بينة لأن احتمال التزوير فيه أبعد "وما قيل النسيان غالب فلو لزم التذكر بطل كثير من الأدلة الشرعية" كما أشرنا إليه بديا على ما قالوه "غير مستلزم لمحل النزاع وإنما يستلزمه" أي محل النزاع "غلبة عدم التذكر عند معرفة الخط وهو" أي عدم التذكر غالبا عند معرفة الخط "ممنوع والعزيمة في الأداء" أن يكون "باللفظ" نفسه "والرخصة" فيه أن يكون المؤدى "معناه بلا نقص وزيادة للعالم باللغة ومواقع الألفاظ" من المعاني الدالة عليها ومقتضيات الأحوال لها عند الجمهور من الصحابة ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة "وفخر الإسلام" وصاحب الميزان وأتباعهما "إلا في نحو المشترك" من الخفي والمشكل وإلا في المجمل والمتشابه فإنه لا يجوز فيه أصلا "وبخلاف العام والحقيقة المحتملين للخصوص والمجاز" فإنه يجوز "للغوي الفقيه" لا للغوي فقط "أما المحكم" أي متضح المعنى بحيث لا يشتبه معناه ولا يحتمل وجوها متعددة على ما صرح به فخر الإسلام لا ما لا يحتمل النسخ على ما هو المصطلح في أقسام الكتاب "منهما" أي العام والحقيقة "فتكفي اللغة" أي معرفتها فيه.(24/276)
"واختلف مجيزو الحنفية" الرواية بالمعنى "في الجوامع" أي جوامع الكلم ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بجوامع الكلم" ولأحمد "أوتيت فواتح الكلام وجوامعه" ثم في صحيح البخاري وبلغني أن جوامع الكلم أن الله عز وجل يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الأمرين أو نحو ذلك وقال الخطابي إيجاز الكلام في إشباع للمعاني يقول الكلمة القليلة الحروف فينتظم الكثير من المعنى ويتضمن أنواعا من الأحكام قالوا "كالخراج بالضمان" وهو حديث حسن تقدم معناه وأنه رواه أحمد وأصحاب السنن ""والعجماء جبار"" متفق عليه قال أبو داود العجماء المنفلتة التي لا يكون معها أحد وقال ابن ماجه الجبار الهدر الذي لا يغرم فقال بعضهم يجوز للعالم بطرق الاجتهاد إذا كانت الجوامع ظاهرة المعنى وذهب فخر الإسلام والسرخسي إلى المنع لإحاطة الجوامع بمعان قد تقصر عنها عقول ذوي الألباب وكل واحد مكلف بما في وسعه "والرازي منهم" أي الحنفية "وابن سيرين" وثعلب في جماعة "على المنع مطلقا" أي سواء كان من المحكم أو لا، كذا ذكره غير واحد وفيه بالنسبة إلى الرازي نظر فإن لفظه في أصول الفقه له قد حكينا عن الشعبي والحسن أنهما كانا يحدثان بالمعاني وكان غيرهما منهم ابن سيرين يحدث باللفظ والأحوط عندنا أداء اللفظ وسياقته على وجهه دون الاقتصار على المعنى سواء كان اللفظ مما يحتمل التأويل أو لا يحتمله إلا أن يكون الراوي مثل الحسن والشعبي في(24/277)
ص -369-…إتقانهما للمعاني والعبارات إلى معناها فقها غير فاضلة عنها ولا مقصرة وهذا عندنا إنما كانا يفعلانه في اللفظ الذي لا يحتمل التأويل ويكون للمعنى عبارات مختلفة فيعبران تارة بعبارة وتارة بغيرها فأما ما يحتمل التأويل من الألفاظ فإنا لا نظن بهما أنهما كان يغيرانه إلى لفظ غيره مع احتماله لمعنى غير معنى لفظ الأصل وأكثر فساد أخبار الآحاد وتناقضها واستحالتها من هذا الوجه وذلك لأنه قد كان منهم من يسمع اللفظ المحتمل للمعاني فيعبر هو بلفظ غيره ولا يحتمل إلا معنى واحدا على أنه هو المعنى عنده فيفسده انتهى "لنا" فيما عليه الجمهور "العلم بنقلهم" أي الصحابة "أحاديث بألفاظ مختلفة في وقائع متحدة" كما يحاط بها علما في دواوين السنة "ولا منكر" لوقوع ذلك منهم "وما عن ابن مسعود وغيره قال عليه السلام كذا أو نحوه أو قريبا منه" فعن عمرو بن ميمون قال كنت لا يفوتني عشية خميس لا آتي فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فما سمعته يقول لشيء قط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانت ذات عشية فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه ثم قال أو مثله أو نحوه أو شبيه به قال فأنا رأيته وأزراره محلولة موقوف صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نحوه أو شبهه أخرجه الدارمي وهو موقوف منقطع رجاله ثقات وأخرجه الخطيب من وجه آخر موصولا والطبراني عن أبي إدريس الخولاني قال رأيت أبا الدرداء إذا فرغ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا أو نحوه أو شكله ورجاله ثقات وعن ابن سيرين كان أنس إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرغ قال أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح أخرجه ابن ماجه "ولا منكر" على قائليه "فكان" المجموع من قولهم وعدم إنكار غيرهم "إجماعا" على جواز الرواية بالمعنى "وبعثه" أي(24/278)
رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرسل" إلى النواحي بتبليغ الشرائع "بلا إلزام لفظ" مخصوص بل كان يطلق لهم أن يبلغوا المبعوث إليهم بلغتهم كما هو ظاهر من سياقاتها "وما روى الخطيب" في كتاب الكفاية في معرفة أصول علم الرواية عن يعقوب بن عبد الله بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له بآبائنا وأمهاتنا إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه منك قال صلى الله عليه وسلم "إذا لم تحلوا حراما أو تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس" وأخرجه الطبراني في الكبير. وقال الحافظ العراقي رواه ابن منده من حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال قلت يا رسول الله الحديث وزاد في آخره فذكر ذلك للحسن فقال لولا هذا ما حدثنا وتعقبه شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي بأن عبد الله ليس له صحبة بل هو تابعي على الصحيح كما يفيده تجريد الذهبي والصحبة لسليمان فيكون مرسلا انتهى وستعلم أن الإرسال غير ضائر في الإسناد من الثقة بل هي منه زيادة مقبولة "وأما الاستدلال" للجمهور "بتفسيره" أي بالإجماع على جواز تفسير الحديث "بالعجمية" فإنه إذ جاز تفسيره بها فلأن يجوز بالعربية أولى لأن التفاوت بين العربية وترجمتها بها أقل مما بينها وبين العجمية "فمع الفارق" أي قياس معه "إذ لولاه" أي تفسيره بالعجمية "امتنع معرفة الأحكام للجم الغفير" لأن العجمي لا يفهم العربي إلا بالتفسير فكان فيه(24/279)
ص -370-…ضرورة ولا ضرورة في النقل بالمعنى ولهذا يجوز تفسير القرآن بجميع الألسن ولا يجوز نقله بالمعنى بالاتفاق "وأيضا" من الأدلة "على تجويزه: العلم بأن المقصود المعنى" لأن الحكم ثابت به لا باللفظ من حيث هو لأنه غير معجز ولا يتعلق به شيء من الأحكام "وهو" أي المعنى "حاصل" فلا يضر اختلاف اللفظ "وأما استثناء فخر الإسلام" السابق "لأنه" أي النقل بالمعنى للمشترك والمشكل والخفي "تأويله" أي الراوي لهذه الأقسام "وليس" تأويله "حجة على غيره كقياسه" ليس حجة على غيره "بخلاف المحكم" فإنه يكون للأمن عن الغلط "والمحتمل للخصوص محمول على سماعه المخصص كعمله" أي الراوي في المفسر "بخلاف روايته" حيث يحمل عمله بخلاف روايته "على الناسخ" أي سماعه الناسخ لمرويه "ويشكل" استثناء فخر الإسلام "بترجيح تقليده" أي الصحابي فإنه يأتي فيه الدليل المذكور لاستثنائه "فإن أجيب" بأنه إنما ترجح تقليده "بحمله" أي تقليده "على السماع فالجواب أنه" أي حمله على السماع ثابت له "مع إمكان قياسه" أي أن يكون قاله قياسا واجتهادا "فكذا في نحو المشترك" من الخفي والمشكل إذا حمله على بعض وجوهه "تقدم ترجيح اجتهاده" إذا كان أعرف بما هناك مما شاهده من الأمور الموجبة لعلمه بأن المراد ما ذكر فإن قيل ترجيح اجتهاد الصحابي على اجتهاد غيره باطل لقوله صلى الله عليه وسلم "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها فحفظها فأداها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم فالجواب المنع "وإلى من هو أفقه منه قلله برب فكان الظاهر بعد الاشتراك" بين الصحابة وغيرهم "في الفقه أفقهيتهم إلا قليلا فيحمل" حالهم "على الغالب والتحقيق لا يترك اجتهاد لاجتهاد الأفقه وفي الصحابة لقرب سماع العلة أو نحوه من مشاهدة ما يفيدها" أي العلة "وعلى هذا" التوجيه "نجيزه" أي النقل بالمعنى "في المجمل ولا ينافي" هذا "قولهم" أي(24/280)
الحنفية "لا يتصور" النقل بالمعنى "في المجمل والمتشابه" لأنهم إنما نفوه لما ذكروه من قولهم "لأنه لا يوقف على معناه" فإن المجمل لا يستفاد المراد منه إلا ببيان سمعي والمتشابه لا ينال معناه في الدنيا أصلا والمصنف يقول بذلك لكنه يقول إذا رواه بمعنى على أنه المراد أصححه حملا على السماع فإنا إذا عملنا بتركه للحديث الذي رواه من المفسر لحكمنا بأنه علم أنه منسوخ إذا كان يحرم عليه ترك العمل بالحديث فكذلك إذا روى المجمل بمعنى مفسر على أنه المراد منه حكمنا بأنه سمع تفسيره إذ كان لا يحل أن يفسره برأيه فالحاصل أن الأقسام خمسة المفسر الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فيجوز نقله بالمعنى اتفاقا بعد علمه بالفقه والحقيقة والعام المحتملان للمجاز والتخصيص فيجوز مع الفقه واللغة فلو انسد باب التخصيص كقوله سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] والمجاز بما يوجبه رجع الجواز إلى الاكتفاء بعلم اللغة فقط لصيرورته محكما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمشترك والمشكل والخفي فلا يجوز بالمعنى أصلا عندهم لأن المراد لا يعرف إلا بتأويل وتأويله لا يكون حجة على غيره كقياسه وحكم المصنف بجواز ذلك لأنه دائر بين كونه تأويله أو مسموعه وكل منهما من الصحابي مقدم على غيره ومجمل ومتشابه(24/281)
ص -371-…فقالوا لا يتصور نقله بالمعنى لأنه فرع معرفة المعنى ولا يمكن فيهما والمصنف يقول كذلك ولكن نقول إذا عين معنى أنه المراد حكمنا بأنه سمعه على وزان حكمنا في تركه أنه سمع الناسخ حكما ودليلا وما هو من جوامع الكلم فاختلف المشايخ فيه كذا أفاد المصنف رحمه الله تعالى.
"قالوا" أي المانعون قال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم فحرض على نقل الحديث على الوجه الذي سمعه فيدل على وجوب نقله بلفظه لأن أداءه كما سمعه إنما يكون إذا كان بلفظه كما يشهد به ما في رواية عند الدارقطني والطبراني في مسند الشاميين "نضر الله من سمع قولي ثم لم يزد فيه" "قلنا" قوله "نضر الله امرأ" "حث على الأولى" في نقله وهو نقله بصورته سواء كان دعاء له أن يجعل الله وجهه نضرا أي يجمله ويزينه أو أن يكون خبرا عن أنه من أهل نضرة النعيم قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الانسان: 11] كما ذكرهما الرامهرمزي وقال هو بتخفيف الضاد والمحدثون يثقلونها وفي الغريبين رواه الأصمعي بالتشديد وأبو عبيد بالتخفيف. وقال الحسن بن محمد بن موسى المؤدب ليس هذا من الحسن في الوجه إنما معناه حسن الله وجهه في خلقه أي جاهه وقدره ويعارضه ما أسند شيخنا الحافظ إلى بشر بن الحارث سمعت الفضيل بن عياض يقول ما من أحد من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا" وإلى الحميدي سمعت سفيان يقول ما أحد تطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث "فأين منع خلافه" أي خلاف الأولى وهو النقل بالمعنى "فإن قيل هو" أي المانع من خلافه "قوله: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أفاد أنه" أي الراوي "قد يقصر لفظه" عن استيعاب أداء ما اشتمل عليه اللفظ النبوي من الأحكام "فتنتفي أحكام يستنبطها الفقيه" بواسطة نقله بالمعنى "قلنا(24/282)
غايته" أي قصور لفظه عن استيعاب ذلك "نقل بعض الخبر بعد كونه حكما تاما" وهو جائز كما تقدم "وقد يفرق" بين هذا وبين حذف بعض الخبر الذي لا تعلق له بالباقي تعلقا يغير المعنى "بأن لا بد" للحاذف "من نقل الباقي في عمره كي لا تنتفي الأحكام" المستفادة منه "بخلاف من قصر" لفظه عنها "فإنها" أي الأحكام التي ليست مستفادة منه "تنتفي" لعدم مفيدها حينئذ "بل" الجواب "الجواز لمن لا يخل" بشيء من مقاصده "لفقهه قالوا" أي المانعون أيضا النقل بالمعنى "يؤدي إلى الإخلال" بمقصود الحديث "بتكرر النقل كذلك" أي بالمعنى فانقطع باختلاف العلماء في معاني الألفاظ وتفاوتهم في تنبه بعضهم على ما لا يتنبه الآخر عليه فإذا قدر النقل بالمعنى مرتين وثلاثا ووقع في كل مرة أدنى تغيير حصل بالتكرار تغيير كثير واختل المقصود "أجيب بأن الجواز" للنقل بالمعنى حالة كونه "بتقدير عدمه" أي الإخلال بالمقصود كما هو محل النزاع "ينفيه" أي أداء النقل بالمعنى لأنه خلاف الفرض وقد انتفى بما تضمنته هذه الجملة قول الماوردي يجوز إن نسي اللفظ لا إن لم ينسه لفوات الفصاحة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما قيل يجوز إن كان موجبه علما لا إن كان عملا وما عليه الخطيب البغدادي من(24/283)
ص -372-…تقييد الجواز بلفظ مرادف مع بقاء التركيب وموقع الكلام على حاله والله تعالى أعلم.
مسألة
"المرسل قول الإمام" من أئمة النقل أي من لهم أهلية الجرح والتعديل "الثقة قال عليه السلام" كذا "مع حذف من السند وتقييده" أي القائل "بالتابعي أو الكبير منهم" أي التابعين كعبيد الله بن عدي بن الخيار وقيس بن أبي حازم وسعيد بن المسيب "اصطلاح" للمحدثين وسمي الأول بالمشهور وعزي الثاني إلى بعضهم "فدخل" في التعريف الأول "المنقطع" بالاصطلاح المشهور للمحدثين وهو ما سقط من رواته قبل الصحابي راو أو اثنان فصاعدا إلا من موضع واحد "والمعضل" باصطلاحهم المشهور وهو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا من موضع واحد "وتسمية قول التابعي منقطعا" كما هو صنيع الحافظ البرديجي ولعله المراد بحكاية الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله "خلاف الاصطلاح المشهور فيه" أي المنقطع فلا جرم أن قال ابن الصلاح وهذا غريب بعيد وحكى ابن عبد البر أن قوما يسمون قول التابعي الذي لقي من الصحابة واحدا أو اثنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطعا لا مرسلا لأن أكثر روايتهم من التابعين "وهو" أي قول التابعي الموقوف عليه هو "المقطوع" كما ذكره الخطيب وغيره على أن ابن الصلاح قال وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الشافعي والطبراني وغيرهما. وقال الحافظ العراقي ووجدته أيضا في كلام الحميدي الدارقطني "فإن كان" المرسل صحابيا "فحكى الاتفاق على قبوله لعدم الاعتداد بقول" أبي إسحاق "الإسفراييني" لا يحتج به "وما عن الشافعي من نفيه" أي قبوله "إن علم إرساله" أي الصحابي عن غيره كما نقله عنه في المعتمد أي ولعدم الاعتداد بهذا أيضا فإن قلت في أصول فخر الإسلام بعد حكاية الإجماع على قبول مرسل الصحابي وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته وكان يروي عن غيره من(24/284)
الصحابة فإذا أطلق الرواية فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك منه مقبولا وإن احتمل الإرسال لأن من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه إلا على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره انتهى فهذا موافق لما عن الشافعي قلت لا فإنه استثناء من حمل حديثه على سماعه بنفسه كما صرح به الشارحون فالمعنى إرسال الصحابي محمول على سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا صرح بالرواية عن غيره من الصحابة فحينئذ لا يحمل على سماعه بنفسه لأن الصريح يفوق الدلالة "أو" كان المرسل "غيره" أي غير صحابي "فالأكثر منهم الأئمة الثلاثة إطلاق القبول والظاهرية وأكثر" أهل "الحديث من عهد الشافعي إطلاق المنع والشافعي" قال "إن عضد بإسناد أو إرسال مع اختلاف الشيوخ" من المرسلين لا غير "أو قول صحابي أو أكثر العلماء أو عرف" المرسل "أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل وإلا" إذا لم يكن أحد هذه الأمور الخمسة "لا" يقبل "قيل وقيده" أي الشافعي قبوله مع كونه معضدا بما ذكرناه "بكونه" أي المرسل "من كبار التابعين" وإذا أشرك أحدا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه "ولو خالف الحفاظ فبالنقص" أي بكون حديثه أنقص(24/285)
ص -373-…ذكره الحافظ العراقي عن نص الشافعي "وابن أبان" يقبل "في القرون الثلاثة وفيما بعدها إذا كان" المرسل "من أئمة النقل وروى الحفاظ مرسله كما رووا مسنده والحق اشتراط كونه من أئمة النقل مطلقا" أي عند الكل على وزان ما تقدم للمصنف في مسألة بيان الجرح والتعديل هل هو شرط حيث شرط العلم على مذهب الكل "لنا جزم العدل بنسبة المتن إليه عليه السلام بقوله قال يستلزم اعتقاد ثقة المسقط" لتوقفه عليه وإلا كان تلبيسا قادحا فيه والفرض انتفاؤه "وكونه من أئمة الشأن قوي الظهور في المطابقة وإلا" لو لم يعتقد ثقة المسقط "لم يكن" المرسل "عدلا" ولو لم يطابق لم يكن "إماما" فالاستثناء باعتبارين "ولذا" أي استلزام جزم العدل بذلك اعتقاد ثقة المسقط "حين سئل النخعي الإسناد إلى عبد الله" أي لما قال الأعمش لإبراهيم النخعي إذا رويت لي حديثا عن عبد الله بن مسعود فأسنده لي "قال إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي رواه فإذا قلت قال عبد الله فغير واحد" أي فقد رواه غير واحد عنه "وقال الحسن متى قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه" لا غير "ومتى قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن سبعين" سمعته أو أكثر "فأفادوا أن إرسالهم عند اليقين أو قريب منه" أي اليقين بالمروي "فكان" المرسل "أقوى من المسند" لظهور أن العدل لم يسقط إلا من جزم بعدالته بخلاف من ذكره لظهور إحالة الأمر فيه على غيره غالبا "وهو" أي كونه أقوى منه "مقتضى الدليل" كما ذكرنا آنفا "فإن قيل تحقق من الأئمة كسفيان" الثوري "وبقية تدليس التسوية" كما سلف "وهو" أي إرسال من تحقق فيه هذا التدليس "مشمول بدليلكم" المذكور كما هو ظاهر فيلزم أن يقبلوه "قلنا نلتزمه" أي شمول الدليل له ونقول بحجيته حملا على أنه لم يرسل إلا عن ثقة "ووقف ما أوهمه" أي التدليس "إلى البيان" لإرساله عن ثقة أولا "قول النافين" لحجية المرسل "أو محله" أي الوقف "الاختلاف" أي اختلاف حال المدلس بأن علم(24/286)
أنه تارة يحذف المضعف عند الكل وتارة يحذف المضعف عند غيره "بخلاف المرسل" فإنه يجب الحكم فيه بأن المحذوف ليس مجمعا على ضعفه بل ثقة أو من يعتقد الإمام الحاذف ثقته "واستدل" للمختار "اشتهر إرسال الأئمة كالشعبي والحسن والنخعي وابن المسيب وغيرهم و" اشتهر "قبوله" أي إرسالهم "بلا نكير فكان" قبوله "إجماعا لا يقال لو كان" قبوله إجماعا "لم يجز خلافه" لكونه خرقا للإجماع واللازم منتف اتفاقا لأنا نقول لا نسلم ذلك "لأن ذلك" أي عدم جواز خلافه إنما هو "في" الإجماع "القطعي" والإجماع هنا ظني "لكن ينقض" الإجماع "بقول ابن سيرين لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث وهو" أي عدم مبالاتهما عمن أخذا الحديث "وإن لم يستلزم" إرسالهما عن غير ثقة "إذ اللازم" لدليل القابل للمرسل "أن الإمام العدل لا يرسل إلا عن ثقة ولا يستلزم" أنه لا يرسل إلا عن ثقة "أن لا يأخذ إلا عنه" أي عن ثقة "ناف للإجماع" لأنه لا إجماع مع مخالفة ابن سيرين "فهو" أي نقل الإجماع على قبوله "خطأ" على هذا وإن كان منع ابن سيرين من مراسيلهما خطأ أيضا لأنه علل بما لا يصح مانعا وكيف والعدل الثقة وإن أخذ عن غير ثقة فهو ثقة يبينه إذا روى عنه ولا يرسل فيسقطه لأنه غش في الدين ذكره المصنف واحتج(24/287)
ص -374-…"الأكثر" لقبوله "بهذا" الإجماع وهو متعقب بقول ابن سيرين المذكور "وبتقدير تمامه" أي الإجماع "لا يفيدهم" أي الأكثرين "تعميما" في أئمة النقل وغيرهم فإن المذكورين من أئمة النقل فلم يجب في غيرهم "وبأن رواية الثقة" أي العدل عمن أسقطه "توثيق لمن أسقطه" لأن الظاهر من حاله ذلك فيقبل كما لو صرح بالتعديل "ودفع" هذا "بأن ظهور مطابقة ظن الجاهل ثقة الساقط منتف" يعني كون رواية العدل توثيقا لمن روى عنه لا يستلزم المطابقة في نفس الأمر فإنه لو كان عدلا غير إمام وهو المراد بقوله ظن الجاهل ثقة الساقط لا يوجب ظهور ثقته فلا يثبت بتوثيقه ثقته "ولعل التفصيل" في المرسل بين كونه عدلا إماما فيقبل وإلا فلا. "مراد الأكثر من الإطلاق" لقبول المرسل بأن يريدوا قبوله بقيد إمامة المرسل وعدالته "بشهادة اقتصار دليلهم" للقبول "على الأئمة" أي على ذكر إرسالهم "وإلا" لو لم يكن المراد هذا "فبعيد قولهم بتوثيق من لا يعول على علمه ومثله" أي هذا الصنيع من إرادة المفيد من اللفظ المطلق بما يعرف من استدلالهم وفي أثناء كلامهم "من أوائل الأئمة كثير" فلا يكون قول الأكثر مذهب غير المفصل "النافون" لقبوله.
قالوا أولا الإرسال "يستلزم جهالة الراوي" للأصل عينا وصفة "فيلزم" من قبول المرسل "القبول مع الشك" في عدالة الراوي إذ لو سئل عنه هل هو عدل لجاز أن يقول لا كما يجوز أن يقول نعم واللازم منتف بالاتفاق "قلنا ذلك" أي هذا الاستلزام بما يترتب عليه إنما هو "في غير أئمة الشأن" وأما الأئمة فالظاهر أنهم لا يخرجون إلا عمن لو سئلوا عنه لعدلوه ونحن إنما قلنا بقبول مراسيلهم لا غير.(24/288)
"قالوا" ثانيا فحيث يجوز العمل بالمرسل "فلا فائدة للإسناد" واللازم باطل لأنه حينئذ يكون اتفاقهم على ذكره إجماعا على العبث وهو محال عادة "قلنا" الملازمة ممنوعة فإن الفائدة في ذكره غير منحصرة في جواز العمل به "بل يلزم الإسناد في غير الأئمة ليقبل" المروي فإن مرسل غيرهم لا يقبل فتكون الفائدة في ذكره بالنسبة إلى غيرهم قبوله "وفي الأئمة إفادة مرتبته" أي الراوي المنقول عنه فيما عساه يترجح فيه على غيره "للترجيح" عند التعارض "ورفع الخلاف" في قبول المرسل ورده لأنه لا خلاف في قبول المسند "وفحص المجتهد بنفسه" عن حال الراوي "إن لم يكن" المرسل "مشهورا" بالإمامة والعدالة "لينال" المجتهد "ثوابه" أي الاجتهاد "ويقوى ظنه" بصحة المروي فإن الظن الحاصل بفحصه أقوى من الحاصل بفحص غيره.
"قالوا" ثالثا "لو تم" القول بالعمل بالمرسل من السلف "قبل" المرسل "في عصرنا" أيضا لتحقق العلة الموجبة للقبول من السلف في عدل كل عصر "قلنا نلتزمه" أي قبول المرسل في كل عصر "إذا كان" المرسل "من العدول وأئمة الشأن" ونمنعه إذا لم يكن كذلك لغلبة الريبة وقلة المبالاة قال "الشافعي إن لم يكن" أي يوجد ذلك "العاضد" للمرسل معه "لم يحصل الظن وهو" أي عدم حصول الظن إذا لم يوجد العاضد المذكور معه "ممنوع بل" الظن حاصل(24/289)
ص -375-…بالمرسل "دونه" أي العاضد المذكور "بما ذكرنا" من الدليل لقبوله من أئمة الشأن "وقد شوحح" الشافعي في جعله من جملة شروط قبوله أن يأتي أيضا مرسلا من وجه آخر أو مسندا "فقيل ضم غير المسند" إلى غير المسند "ضم غير مقبول إلى مثله" أي غير مقبول "فلا يفيد" لأن المانع من قبوله عند الانفراد إنما هو الجهالة بعدالة راوي الأصل وهو قائم عند الإجماع أيضا "وفي المسند" أي وفي ضم المسند إليه "العمل به" أي بالمسند "حينئذ" أي حين ضم إلى المرسل فلا يكون قبوله قبولا للمرسل "ودفع الأول" أي عدم إفادة ضم المرسل إلى المرسل "بأن الظن قد يحصل عنده" أي ضم المرسل إلى المرسل "كما يقوى" الظن "به" أي بضم المرسل إلى المرسل "لو كان" الظن "حاصلا قبله" أي قبل ضمه إليه لأنه يجوز أن يحدث عن المجموع ما لم يكن عند الانفراد "وقدمنا نحوه في تعدد طرق الضعيف" بغير الفسق مع العدالة "قيل والثاني" أي كون العمل بالمسند إذا ضم إلى المرسل "وارد" وقائله ابن الحاجب ومنع وحينئذ يقال "والجواب بأن المسند يبين صحة إسناد الأول فيحكم له" أي للمرسل "مع إرساله بالصحة" ذكره ابن الصلاح "ودفع" هذا الجواب ودافعه الشيخ سراج الدين الهندي "بأنه إنما يلزم" تبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال بالمسند "لو كان" الإسناد في كليهما "واحدا ليكون المذكور إظهارا للساقط ولم يقصره" أي كون اعتضاد المرسل بالمسند موجبا لقبول المرسل "عليه" أي كون الإسناد في كليهما واحدا بل أطلق فكما يتناول هذا يتناول ما إذا تعدد إسنادهما، ومعلوم أنه لا يلزم من صحة الحديث بإسناد صحته بإسناد آخر "وأجيب أيضا بأنه يعمل بالمرسل وإن لم يثبت عدالة رواة المسند أو بلا التفات إلى تعديلهم" أي رواة المسند "بخلاف ما لو كان العمل به" أي بالمسند "ابتداء" فإنه إنما يعمل به بعد ثبوت عدالة رواته.(24/290)
"واعلم أن عبارة الشافعي لم ينص على اشتراط عدالتهم" أي رواة المسند "وهي" أي عبارته "قوله" والمنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث "فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه" بمثل معنى ما روى "كانت" هذه "دلالة" على صحة من قيل عنه وحفظه "وهذه الصفة لا توجب عبارته ثبوتها في سندهم" قال المصنف أي شركه الحفاظ المأمونون صفة لأهل سند المتصل العاضد لأن الضمير في شركه للمرسل وليس جميع رجال السند أرسلوا أو وصلوا بل إنما يتيسر كل منهما للمبتدئ بذكر الحديث وإسناده فهو الذي إن ذكر جميع الرجال فقد وصله وإن حذف بعضهم أرسله فلزم كون الصفة المذكورة إنما هي للمخرجين كما أن المرسل هو المخرج للحديث فبقي ساكتا عن رجال السند غير حاكم عليهم بتوثيق أو ضعف "وكان الإيراد" على العمل به إذا أتى مسندا أيضا "بناء على اشتراط الصحة" أي صحة السند في المسند "والجواب حينئذ" أي حين يشترط في سند المسند الصحة "صيرورتهما" أي المسند والمرسل "دليلين قد يفيد في المعارضة" بأن يرجح عند المعارضة دليل واحد هذا وأما قول الشافعي في مختصر المزني وإرسال سعيد بن المسيب عندي حسن ففي معناه قولان لأصحابه أحدهما أن مراسيله حجة لأنها فتشت فوجدت(24/291)
ص -376-…مسندة والثاني أنه يرجح بها لكونه من أكابر علماء التابعين لا أنه يحتج بها والترجيح بالمرسل صحيح قال الخطيب البغدادي الصحيح من القولين عندنا الثاني لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية كما استحسن مرسل سعيد.
"واعلم أن من المحققين" وهو إمام الحرمين "من أدرج عن رجل في حكمه" أي المرسل "من القبول عند قابل المرسل" وهو ظاهر صنيع أبي داود في كتاب المراسيل "وليس" هذا مقبولا مثل المرسل "فإن تصريحه" أي الراوي "به" أي بمن روى عنه حال كونه "مجهولا ليس كتركه" أي من روى عنه من حيث إنه "يستلزم توثيقه" أي من روى عنه والذي عليه ابن القطان وغيره أنه منقطع أي في حكم المنقطع عند المحدثين ورأيت بخط شيخنا الحافظ رحمه الله أن الذي يقتضيه النظر أن القائل إن كان تابعيا كبيرا حمل على الإرسال أو صغيرا حمل على الانقطاع نظرا إلى أن غالب حالهما مختلف هذا إذا قال عن رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما نحو عن رجل عن عمر أو عن رجل عن فلان فلا شك في انقطاعه انتهى والأولى أنه متصل في إسناده مجهول كما في كلام غير واحد من أهل الحديث وحكاه الرشيد العطار عن الأكثرين على ما ذكر الحافظ العراقي "نعم يلزم" حكم المرسل من باب أولى "كون" قول القائل "عن الثقة تعديلا" فيكون حدثني الثقة تعديلا فوق الإرسال عند من يقبله "بخلافه" أي قول القائل عن الثقة "عند من يرده" أي المرسل فإنه لا يعتبره "إلا إن عرفت عادته" أي القائل عن الثقة "فيه" أي قوله هذا "الثقة" أي أن يكون ثقة في نفس الأمر فإنه حينئذ يقبله من يرد المرسل "كمالك" أي كقوله حدثني "الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج ظهر أن المراد" بالثقة "مخرمة بن بكير والثقة عن عمرو بن شعيب قيل" الثقة "عبد الله بن وهب وقيل الزهري" ذكره ابن عبد البر "واستقرئ مثله" أي إطلاق الثقة على من يكون ثقة في نفس الأمر "للشافعي"(24/292)
فذكر أبو الحسن الآبري السجستاني في كتاب فضائل الشافعي سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث يقول إذا قال الشافعي في كتبه أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب فابن أبي فديك وعن الليث بن سعد فيحيى بن حسان وعن الوليد بن كثير فأبو أسامة وعن الأوزاعي فعمرو بن أبي سلمة وعن ابن جريج فمسلم بن خالد وعن صالح مولى التوأمة فإبراهيم بن أبي يحيى قال المصنف "ولا يخفى أن رده" أي ما يقول القائل فيه عن الثقة إذا لم يعرف أن عادته فيه الثقة في نفس الأمر "يليق بشارط البيان في التعديل لا الجمهور" القائلين بأن بيانه ليس بشرط في حق العالم بالجرح والتعديل فإنه تعديل عار عن بيان السبب والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا أكذب الأصل" أي الشيخ "الفرع" أي الراوي عنه "بأن حكم بالنفي" فقال ما رويت هذا الحديث لك أو كذبت علي "سقط ذلك الحديث" أي لم يعمل به "للعلم بكذب أحدهما(24/293)
ص -377-…ولا معين" له وهو قادح في قبول الحديث "وبهذا" التعليل "سقط اختيار السمعاني" ثم السبكي عدم سقوطه لاحتمال نسيان الأصل له بعد روايته للفرع "وقد نقل الإجماع لعدم اعتباره" أي ذلك الحديث نقله الشيخ سراج الدين الهندي والشيخ قوام الدين الكاكي لكن فيه نظر فإن السرخسي وفخر الإسلام وصاحب التقويم حكوا في إنكار الراوي روايته مطلقا اختلاف السلف "وهما" أي الأصل والفرع "على عدالتهما إذ لا يبطل الثابت" أي المتيقن من عدالتهما المفروضة "بالشك" في زوالها "وإن شك فلم يحكم بالنفي" أي بأن قال لا أعرف أني رويت هذا الحديث لك أو لا أذكره "فالأكثر" من العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين أن الحديث "حجة" أي يعمل به "ونسب لمحمد خلافا لأبي يوسف تخريجا من اختلافهما في قاض تقوم البينة بحكمه ولا يذكر ردها" أي البينة "أبو يوسف" فلا ينفذ حكمه "وقبلها محمد" فينفذ حكمه "ونسبة بعضهم القبول لأبي يوسف غلط" فإن المسطور في الكتب المذهبية المعتبرة هو الأول "ولم يذكر فيها" أي مسألة القاضي المنكر لحكمه "قول لأبي حنيفة فضمه مع أبي يوسف يحتاج إلى ثبت وعلى المنع الكرخي والقاضي أبو زيد وفخر الإسلام وأحمد في رواية القابل" للرواية مع إنكار الأصل قال "الفرع عدل جازم" بالرواية عن الأصل "غير مكذب" لأن الفرض أن الأصل غير مكذبه "فيقبل" لوجود المقتضي السالم عن معارضة المانع "كموت الأصل وجنونه" إذ نسيانه لا يزيد عليهما بل دونهما قطعا وفيهما تقبل روايته بالإجماع فكذا فيه "ويفرق" بينهما وبينه "بأن حجيته" أي الحديث "بالاتصال به صلى الله عليه وسلم وبنفي معرفة المروي عنه له" أي للمروي "ينتفي" الاتصال "وهو" أي انتفاء الاتصال "منتف في الموت" والجنون "والاستدلال بأن سهيلا بعد أن قيل له حدث عنك ربيعة أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين. فلم يعرفه" إذ في سنن أبي داود قال سليمان فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث(24/294)
فقال ما أعرفه "صار يقول حدثني ربيعة عني" كما أخرجه أبو عوانة في صحيحه وغيره وفي السنن فقلت إن ربيعة أخبرني به عنك قال فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني وفي رواية عن عبد العزيز قال فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه "دفع بأنه غير مستلزم للمطلوب وهو وجوب العمل" به فإن ربيعة لم ينقل ذلك على طريق إسناد الحديث وتصحيح روايته وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة بزعمه ولا دلالة لهذا على وجوب العمل به "ولو سلم" استلزامه له "فرأي سهيل كرأي غيره" فلا يكون رأيه حجة على غيره "ولو سلم" كون رأيه حجة على غيره "فعلى الجازم فقط" لا عموم الناس "قالوا" أي النافون للعمل به "قال عمار لعمر أتذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت وصليت فقال عليه السلام "إنما يكفيك ضربتان" فلم يقبله عمر" كما معنى هذا في صحيح البخاري وسنن أبي داود وأما لفظه بتمامه فالله تعالى أعلم به والظاهر أنه لم يقبله "إذ كان ناسيا له" إذ لا يظن بعمار الكذب ولا بعمر عدم القبول مع الذكر له ومما يشهد لذلك في السنن فقال يا عمار اتق الله فقال يا أمير المؤمنين إن شئت والله لم أذكره أبدا فقال كلا(24/295)
ص -378-…والله لنولينك من ذلك ما توليت "ورد بأنه" أي هذا المأثور عن عمار وعمر "في غير محل النزاع فإن عمارا لم يرو عن عمر" ذلك بل عن النبي صلى الله عليه وسلم "ورد" هذا الرد "بأن عدم تذكر غير المروي عنه الحادثة المشتركة" بينه وبين الراوي لها "إذا منع قبول" حكم "المبني عليها" للشك فيه حينئذ "فنسيان المروي عنه أصل روايته له أولى" أن يمنع قبول حكمه من ذلك "فالوجه رده" أي عمر "لكن لا يلزم الراوي" وهو عمار ما يلزم الناس من عدم العمل بحديثه "لدليل القبول" أي لقيام دليل قبوله في حقه حيث جزم بصحة هذه الحادثة فيلزم أن يعمل بمقتضاه وهو جواز التيمم لمن هو بمثل تلك الحالة وقد يقال لكن لا يلزم منه إذا قبل أن يجب العمل به على كافة الناس وليس ببعيد كما يشهد له ما ذكرنا آنفا من السنن "وأما" قول النافين للعمل به "لم يصدقه" أي الأصل الفرع "فلا يعمل به كشاهد الفرع عند نسيان الأصل" بجامع الفرعية والنسيان "فيدفع بأنها" أي الشهادة "أضيق" من الرواية لاختصاص الشهادة بشرائط لا تشترط في الرواية من الحرية والعدد والذكورة ولفظ الشهادة وغيرها لتعلقها بحقوق العباد المجبولين على الشح والضنة وتوفر الكذب فيها بخلاف الرواية، وأورد ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأنه يثبت بالرواية حكم كلي يعم المكلفين إلى يوم القيامة والشهادة قضية جزئية وأجيب بالتسليم إلا أن الرواية أبعد عن التهمة فكانت الشهادة أجدر بالاحتياط "ومتوقفة على تحميل الأصل" الفرع لها فتبطل شهادة الفرع "بإنكاره" أي الأصل الشهادة "بخلاف الرواية" فإنها مبنية على السماع دون التحميل فلا يكون إنكار الأصل مستلزما لفوات الرواية لجواز السماع مع نسيانه لكن هذا إنما يتم عند من شرط في قبول شهادة الفرع تحميل الأصل لها كالحنفية أما من لم يشرطه كالشافعية فلا وفي الأول كفاية وبالجملة لا يلزم من عدم جواز العمل بالشهادة مع نسيان الأصل عدم جواز العمل بالرواية مع نسيان(24/296)
الأصل للفرق المؤثر بينهما في ذلك والله تعالى أعلم.
"مسألة إذا انفرد الثقة" من بين ثقات رووا حديثا "بزيادة" على ذلك الحديث "وعلم اتحاد المجلس" لسماعه وسماعهم ذلك الحديث "ومن معه لا يغفل مثلهم عن مثلها" أي تلك الزيادة "عادة لم تقبل" تلك الزيادة "لأن غلطه" أي المنفرد بها "وهم" أي والحال أن من معه "كذلك" أي لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة "أظهر الظاهرين" من غلطه وغلطهم لأن احتمال تطرق الغلط والسهو إليه أولى من احتمال تطرقه إليهم وهم بهذه المثابة ويحمل على أنه سمعها من غير المروي عنه والتبس عليه الأمر فظن أنه سمعها منه "وإلا" فإن كان مثلهم يغفل عن مثلها "فالجمهور" من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين "وهو المختار تقبل" وعن أحمد في رواية وبعض المحدثين لا تقبل "لنا" أن راويها "ثقة جازم" بروايتها "فوجب قبوله" كما لو انفرد برواية الحديث "قالوا" أي نافو قبولها راويها "ظاهر الوهم لنفي المشاركين" له في السماع والمجلس "المتوجهين لما توجه له" إياها "قلنا إن كانوا" أي نافوها "من تقدم" أي من لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة "فمسلم" كونه ظاهر الوهم فلا يقبل ولكن ليس هذا محل النزاع "وإلا" فإن كانوا ليسوا ممن تقدم "فأظهر منه" أي من كونه ظاهر الوهم "عدمه" أي عدم ظهوره "لأن(24/297)
ص -379-…سهو الإنسان في أنه سمع ولم يسمع بعيد بخلاف ما تقدم" في الشق الأول من أنهم "إذا كانوا ممن تبعد العادة غفلتهم عنه" فإن سهوه ليس ببعيد "فقد علمت أن حقيقة الوجهين" في الشقين "ظاهران تعارضا فرجح" في الأول أحدهما وفي الثاني الآخر لموجب له "فإن تعدد المجلس أو جهل" تعدده "قبل" المزيد "اتفاقا" أما إذا تعدد فلاحتمال أن يكون المزيد في مجلس انفرد به وأما إذا جهل فلاحتمال التعدد كذلك هذا "والإسناد مع الإرسال زيادة وكذا الرفع" للحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ثقة "مع الوقف" له على غيره من ثقة زيادة "والوصل" له بذكر الوسائط التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من ثقة "مع القطع" له بترك بعضها من ثقة زيادة فيأتي في كل منها ما يأتي في الزيادة من الحكم "خلافا لمقدم الأحفظ" سواء كان هو المرسل أو المسند أو الرافع أو الواقف أو الواصل أو القاطع كما هو قول بعضهم "أو الأكثر" كذلك أيضا كما هو قول بعض آخرين.(24/298)
"فإن قيل الإرسال والقطع كالجرح في الحديث" فينبغي أن يقدما على الإسناد والوصل كما يقدم الجرح على التعديل "أجيب بأن تقديمه" أي الجرح "لزيادة العلم" فيه "لا لذاته" أي الجرح "وذلك" أي مزيد العلم "في الإسناد فيقدم" على غيره "وهذا الإطلاق" لقبول الزيادة المراد بقوله فالجمهور وهو المختار يقبل "يوجب قبولها" أي الزيادة سواء كانت "من راو" واحد روى ناقصا ثم رواه بالزيادة "أو أكثر" من واحد بأن رواه بعضهم ناقصا وبعضهم بزيادة "وإن عارضت" الزيادة "الأصل وتعذر الجمع" بينهما أو لا "وهذا" معنى "ما قيل" أي ما نقله الخطيب من ذهاب الجمهور من الفقهاء والمحدثين إلى قبولها "غيرت الحكم" الثابت "أم لا" أوجبت نقصا من أحكام ثبتت بخبر ليست فيه تلك الزيادة أم لا كان ذلك من واحد أو كانت الزيادة من غير من رواه بدونها "ونقل فيه" أي هذا القول "إجماع" أهل "الحديث" ذكره ابن طاهر حيث قال لا خلاف نجده بين أهل الصنعة أن الزيادة من الثقة مقبولة انتهى فلم يقيده بقيد "وقيل في الكتب المشهورة المنع" أي وقال الشيخ سعد الدين في صورة ما إذا كان الراوي واحدا والزيادة معارضة وفي الكتب المشهورة أنه إن تعذر الجمع بين قبول الزيادة والأصل لم تقبل وإن لم يتعذر فإن تعدد المجلس قبلت وإن اتحد فإن كانت مرات روايته للزيادة أقل لم تقبل إلا أن يقول سهوت في تلك المرات وإن لم تكن أقل قبلت قال المصنف "وهو" أي منع قبول الزيادة المعارضة مطلقا سواء كانت من راو أو أكثر "مقتضى حكم" أهل "الحديث بعدم قبول الشاذ المخالف" لما رواه الثقات وإن كان راويه ثقة "بل أولى إذ مثلوه" أي الشاذ المخالف "برواية الثقة" وهو همام بن يحيى احتج به أهل الصحيح "عن ابن جريج أنه عليه السلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" رواه أصحاب السنن "ومن سواه" أي الثقة الذي هو همام إنما روى "عنه" أي ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه كما ذكره أبو(24/299)
داود قال والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام وهو متعقب بأن يحيى بن المتوكل البصري رواه عن ابن جريج أيضا كما أخرجه الحاكم "مع كونه" أي مروي الثقة عن ابن جريج "لم يعارض" برواية غيره عنه فإذا حكموا بعدم قبول رواية الثقة عن ابن(24/300)
ص -380-…جريج مع مخالفة ليست معارضة فأولى أن يردوا الزيادة المعارضة لما رواه هو أو غيره "وإن لم يتعذر" الجمع "مع جهل الاتحاد" للمجلس ومع وحدة الراوي "ومرات روايتها" أي الزيادة "ليست أقل من تركها قبلت وإلا لم تقبل إلا أن يقول سهوت في مرات الحذف" ولا يخفى ما في هذا من الزيادة على ما نقله التفتازاني عن الكتب المشهورة قال المصنف "والمعروف أنه" أي هذا "مذهب في قبولها" أي الزيادة "مطلقا" أي سواء كانت مخالفة أو لا "من" الراوي "الواحد لا بقيد مخالفتها" وهو ما ذكره ابن الصباغ في العدة حيث قال: إذا روى الواحد خبرا ثم رواه بعد ذلك بزيادة فإن ذكر أنه سمع كلا من الخبرين في مجلس قبلت الزيادة وإن عزا ذلك إلى مجلس واحد وتكررت روايته بلا زيادة ثم روى الزيادة فإن قال كنت أنسيت هذه الزيادة قبل منه وإن لم يقل ذلك وجب التوقف في الزيادة قال المصنف وليس هذا قدحا صريحا في نقل هذا المذهب فإن النقل كثير "ثم موجب الدليل السابق" وهو قولنا ثقة جازم "والإطلاق" المذكور في نقل مذهب الجمهور كما نقله الخطيب وغيره "قبول" الزيادة "المعارضة" مطلقا وإن تعذر الجمع "أو يسلك الترجيح" أما كون هذا مقتضى الدليل المذكور فظاهر إذ لا شك في أنه يتناول المعارضة وغيرها وأما أنه مقتضى إطلاق نقل هذا المذهب فكذلك وقد ذكره ثم ليس يلزم من قبولها عدم العمل بما يترجح ظن خلافه لمعارضة الثقات وإنما يلزم لو التزمنا من قبولها العمل بها لكنا أنزلناها حديثا معارضا لغيره فيطلب الترجيح بخلاف ما لو رددناها فإنا حينئذ لا نطلب ترجيحا بينها وبين ما عارضته فكان الوجه القبول كما هو ظاهر إطلاق الجمهور ثم النظر في الترجيح ذكره المصنف رحمه الله "ومنه" أي المزيد المعارض الزيادة "الموجبة نقصا مثل" رواية "وتربتها طهورا" بعد قوله "وجعلت لي الأرض مسجدا" بدل قوله وطهورا وتقدم تخريج الحديث في مسألة إفراد فرد من العام بحكم العام لا يخصصه ثم لما توجه أن(24/301)
يقال فلا يرد الشاذ المخالف لما روته الثقات التزمه وقال "والشاذ الممنوع" أي المردود هو "الأول" أي ما انفرد بمزيد في مجلس متحد له ولهم والمزيد "ما لا يغفل مثلهم" أي من معه فيه "عنه" أي ذلك المزيد "وعليه" أي قبول الزيادة المعارضة "جعل الحنفية إياه" أي المزيد إذا كان هو والأصل "من اثنين خبرين كنهيه" صلى الله عليه وسلم "عن بيع الطعام قبل القبض" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما بلفظ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه وفي رواية حتى يستوفيه وقوله صلى الله عليه وسلم لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى أهل مكة "انههم عن بيع ما لم يقبضوا" رواه أبو حنيفة بلفظ ما لم يقبض وفي سنده ما لم يسم "أجروا" أي الحنفية "المعارضة" بينهما "ورجحوا" قوله المذكور لعتاب لأن فيه "زيادة العموم" لتناوله الطعام وغيره غايته أن أبا حنيفة وأبا يوسف لم يعملا بها في حق العقار لكون النص معلولا بغرر الانفساخ بالهلاك وهو منتف في العقار لأن هلاكه نادر والنادر لا عبرة به ولا يبتنى الفقه باعتباره وإنما رجحوا قوله لعتاب على نهيه عن بيع الطعام قبل القبض ولم يقيدوه به "إذ لا يحملون المطلق على المقيد" في مثله كما عرف في موضعه "والوجه فيه" أي في حديث النهي عن بيع ما لم يقبض "وفي تربتها" أي وفي هذا الحديث(24/302)
ص -381-…"تعين العام" وهو النهي عن بيع ما لم يقبض والأرض لإجراء المعارضة ثم الترجيح بالعموم كما يرجح العلة بزيادة المحال لأن الزيادة صيرت كلا من قبيل إفراد فرد من العام وهو ليس تخصيصا لأن حاصله إثبات عين الحكم الذي أثبته العام لبعض أفراده ولا منافاة فلا يخرج عن العموم الذي اقتضاه المتروك فلا يعارض لترجح فإن الترجيح عند المعارضة يكون كما أشار إليه بقوله "ويلزم الشافعية مثله لأنه من قبيل إفراد فرد من العام" بحكمه "ومن الواحد" أي وجعل الحنفية الزيادة والأصل بدونها إذا كان راويهما واحدا خبرا "واحدا ولزم اعتبارها" أي وحكموا بأنها مرادة في الأصل "كابن مسعود" أي كما في رواية عن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان" ولم يكن لهما بينة "والسلعة قائمة" فالقول ما قال البائع أو يترادان" "وفي أخرى" عنه "لم تذكر" السلعة رواهما أبو حنيفة لكن بلفظ البيعان والحديث في السنن وغيرها وهو بمجموع طرقه حسن يحتج به لكن في لفظه اختلاف ذكره ابن عبد الهادي "فقيدوا" أي الحنفية جريان التحالف بين المتبايعين إذا اختلفا في المبيع أو الثمن "بها" أي بالزيادة التي في إحدى الروايتين وهي قيام السلعة "حملا على حذفها في الأخرى نسيانا بلا ذلك التفصيل" المتقدم وهو أنه إذا كان مرات ترك الزيادة أقل من مرات روايتها لا تقبل إلا أن يقول سهوت في مرات الحذف "وهو" أي قولهم هذا هو "الوجه" لأن عدالته وثقته تعبر عن الراوي بهذا المعنى الذي ذكره المفصل شرطا للقبول بلا حاجة إلى أن يعبر عنه بلسانه صريحا "فليس" هذا منهم "من حمل المطلق" على المقيد.
مسألة(24/303)
"خبر الواحد مما تعم به البلوى أي يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره لا يثبت به وجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة بالقبول" له أي مقابلته بالتسليم والعمل بمقتضاه ثم حيث كان هذا "عند عامة الحنفية" فلا يظهر لتنصيصه على الكرخي بقوله "منهم الكرخي" بعد شمولهم إياه فائدة بل الذي في غير موضع الاقتصار على الاشتهار ونسبة هذا إلى الكرخي من أصحابنا المتقدمين وإلى المتأخرين منهم وقد كانت النسخة على هذا أولا فغيرت إلى هذا الذي هي عليه الآن ثم الظاهر أنه لا تلازم كليا بين الاشتهار وبين تلقي الأمة له بالقبول إذ قد يوجد اشتهار للشيء بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول وقد يتلقى الأمة الشيء بالقبول بلا روايته على سبيل الاشتهار ثم هذه الزيادة لا بأس بها لكن الشأن في كونها منقولة عنهم "كخبر مس الذكر" أي "من مس ذكره فليتوضأ" الذي روته بسرة بنت صفوان كما أخرجه أصحاب السنن وصححه أحمد وغيره فإن نواقض الوضوء يحتاج إلى معرفتها الخاص والعام وهذا السبب كثير التكرر وخبره هذا لم يشتهر ولم يتلقه الأمة بالقبول بل قال شمس الأئمة السرخسي إن بسرة انفردت بروايته فالقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة حاجتهم إليه شبه المحال انتهى. فإنه لم يسلم طريق غيرها من تضعيف فلا جرم أن الحنفية لم يعملوا به فإن قيل يشكل عليهم قبولهم خبر الواحد المتفق عليه المفيد لغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء عند الشروع في(24/304)
ص -382-…الوضوء منه، وخبر الواحد المتفق عليه المفيد لرفع اليدين عند إرادة الشروع في الصلاة مع أن كلا منهما مما تعم به البلوى فالجواب لا كما أشار إليه بقوله "وليس غسل اليدين ورفعهما منه" أي العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى على الوجه الذي نفيناه "إذ لا وجوب" لهما أي فإنا لم نثبت بكل منهما وجوبا بل أثبتنا به استنان ذلك فلا يضر قبولنا إياه فيه "كالتسمية في قراءة الصلاة" فإنا قبلنا خبرها فيها وكأنه يعني ما عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة في الصلاة وعدها آية. أخرجه ابن خزيمة والحاكم وإن كانت مما تعم به البلوى لأنا لم نثبت به وجوبها بل ظاهر المذهب استنانها فلا يرد علينا أيضا "والأكثر" من الأصوليين والمحدثين "يقبل" خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صح إسناده "دونهما" أي بلا اشتراط اشتهاره ولا تلقي الأمة له بالقبول "لنا أن العادة قاضية بتنقيب المتدينين" أي بحثهم "عن أحكام ما اشتدت حاجتهم إليه لكثرة تكرره" أي ما اشتدت حاجتهم إليه قال المصنف واشتداد الحاجة بالوجوب "وبإلقائه" أي ما اشتدت الحاجة إليه "إلى الكثير" منهم "دون تخصيص الواحد والاثنين ويلزمه" أي إلقاءه إلى الكثير "شهرة الرواية والقبول وعدم الخلاف" فيه "إذا روى فعدم أحدهما" أي الشهرة والقبول "دليل الخطأ" أي خطأ ناقله "أو النسخ" والوجه كما يشهد له أولا قوله دون اشتهار أو تلقي الأمة بالقبول وثانيا ما سيأتي من قوله فأما ما اشتهر أو تلقي أن يقول ويلزمه شهرة الرواية أو القبول فعدمهما دليل الخطأ أو النسخ "فلا يقبل" ثم لا يخفى أنه لا حاجة إلى عطف عدم الخلاف على القبول تفسيرا له لأن الظاهر أن القبول أخص من عدم الخلاف إذ قد لا يخالف الشيء ولا يقبل ثم الظاهر أن المراد به تسليمه والعمل بمقتضاه لا ما هو أعم منه ومن ترك رده فليتأمل.(24/305)
"واستدل" للمختار بمزيف وهو "العادة قاضية بنقله" أي ما تعم به البلوى نقلا "متواترا" لتوفر الدواعي على نقله كذلك ولما لم يتواتر علم كذبه "ورد" هذا "بالمنع" أي منع قضاء العادة بتواتره "إذ اللازم" لكونه تعم به البلوى إنما هو "علمه" أي الحكم للكثير "لا روايته" أي الحكم لهم "إلا عند الاستفسار" عنه "أو يكتفى برواية البعض مع تقرير الآخرين قالوا" أي الأكثرون "قبلته" أي خبر الواحد فيما تعم به البلوى "الأمة في تفاصيل الصلاة وقبلتموه في مقدماتها كالفصد" أي الوضوء منه بقوله صلى الله عليه وسلم "الوضوء من كل دم سائل" رواه الدارقطني وابن عدي "والقهقهة" أي والوضوء منها إذا كانت في صلاة مطلقة بما تقدم في مسألة حمل الصحابي مرويه المشترك من طريق أبي حنيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة" "وقبل فيه" أي في حكم ما تعم به البلوى "القياس" أي العمل به "وهو" أي القياس "دولانه" أي خبر الواحد لما سيأتي في المسألة التالية لما بعد هذه فخبر الواحد أولى بالقبول "قلنا التفاصيل إن كانت رفع اليدين والتسمية والجهر بها ونحوه من السنن" كوضع اليمين على الشمال تحت السرة وإخفاء التأمين "فليس محل النزاع" فإنا لم نثبت بخبر الواحد وجوبها وليس النزاع إلا في إثبات الوجوب به إذ اشتداد الحاجة مع الوجوب "أو" كانت "الأركان الإجماعية" من القيام والقراءة والركوع والسجود "فبقاطع" أي فإنما أثبتناه بدليل قاطع(24/306)
ص -383-…من الكتاب والسنة والإجماع كما عرف في موضعه "أو" كانت الأركان "الخلافية كخبر الفاتحة" أي ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" "فأما اشتهر أو تلقي" بالقبول "فقلنا بمقتضاه من الوجوب أو" كانت "ليس" كل منها "منه" أي مما تعم به البلوى "إذ هو" أي ما تعم به البلوى "فعل" يكثر تكرره سببا للوجوب عليهم فيحتاج الكل إلى معرفته حاجة شديدة كالبول والصلاة "أو حال يكثر تكرره للكل" حال كونه "سببا للوجوب" عليهم أيضا فيحتاج الكل إلى معرفته حاجة شديدة سواء كان مبنيا على اختيارهم أو غير مبني عليه كالحدث عن المس فإن سببه وهو المس يكثر بخلافه عن التقاء الختانين فإنه لا يكثر لعدم كثرة سببه "فيعلم" الوجوب عليهم "لقضاء العادة بالاستعلام أو بلزوم كثرته" أي كثرة إعلام المكلفين به "للشرع قطعا" بأن يلقيه إلى كثير تشهيرا له لشدة الحاجة إليه "كمطلق القراءة" في الصلاة "حينئذ" أي حين كان الأمر على هذا التفصيل "ظهر أن ليس منه" أي مما تعم به البلوى "نحو الفصد" فإنه لا يكثر للمتوضئين على أن الوضوء من نحوه لم يثبت وجوبه عندنا بمجرد الحديث المذكور وكيف وقد ضعف ببعض من في سنده بل بغيره من الأحاديث الثابتة والقياس الصحيح كما هو معروف في موضعه "والقهقهة" في الصلاة فإنها ليست مما يكثر "فلا يتجه إيجابهم" أي الحنفية "السورة" أي قراءتها مع الفاتحة في الصلاة "مع الخلاف" في قبول حديثها وعدم اشتهاره بل وفي صحته أيضا مع أنها مما تعم به البلوى وهو ما أخرج الترمذي وابن ماجه مرفوعا "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة" في فريضة وغيرها "ولزوم" العمل بمقتضى "القياس" فيما تعم به البلوى للحنفية المشار إليه بقول الأكثرين وقبل فيه القياس دونه "متوقف على لزوم القطع بحكم ما تعم به" البلوى "ولا نقول به" أي بالقطع به "بل الظن وعدم قبول ما لم يشتهر" من أخبار الآحاد "أو" لم "يقبلوه"(24/307)
منها إنما هو "لانتفائه" أي الظن "بخلاف القياس" قال المصنف يعني المسألة ظنية والقياس يوجب الظن بخلاف خبر الواحد فإنه لا يوجب الظن فيما تعم به البلوى وتشتد الحاجة إليه إلا إذا اشتهر أو قبلوه فأما إذا لم يشتهر فيغلب على الظن خطؤه للوجه الذي ذكر، هذا "ويمكن منع ثبوته" أي حكم ما تعم به البلوى "بالقياس لاقتضاء الدليل" وهو قضاء العادة بالاستعلام أو كثرة إعلام الشارع به "سبق معرفته" أي حكم ما تعم به البلوى للناس "على تصوير المجتهد إياه" أي القياس فيثبت الحكم بمعرفة الناس له قبل القياس.
مسألة
"إذا انفرد" مخبر "بما شاركه بالإحساس به خلق" كثير "مما تتوفر الدواعي على نقله" دينيا كان أو غيره "يقطع بكذبه خلافا للشيعة، لنا العادة قاضية به" أي بكذبه لأن طباع الخلق مجبولة على نقله والعادة تحيل كتمانه وخصوصا إن تعلق بفعله مصالح العباد أو صلاح البلاد "قالوا" أي الشيعة "الحوامل" المقدرة "على الترك" لنقله "كثيرة" من مصلحة تتعلق بالجميع في أمر الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب أو ملك قاهر إلى غير ذلك "ولا طريق إلى علم عدمها" أي الحوامل على الترك لعدم إمكان ضبطها "ومع(24/308)
ص -384-…احتمالها" أي الحوامل السكوت "ليس السكوت" من المشاركين له "قاطعا في كذبه" لعدم الجزم به حينئذ "ولذا" أي جواز انفراد البعض مع كتمان الباقين فيما هذا شأنه لحامل عليه "لم ينقل النصارى كلام عيسى عليه السلام في المهد" مع أنه مما تتوفر الدواعي على نقله لأنه من أعجب حادث في العالم ومن أعظم ما يحصل الداعية على إشاعته إذ ليس يظهر للكتمان سبب سوى ذلك "ونقل اشتقاق القمر وتسبيح الحصى والطعام وحنين الجذع وسعي الشجرة وتسليم الحجر والغزالة" للنبي صلى الله عليه وسلم "آحادا" مع أن كلا منها مما تتوفر الدواعي على نقله "أجيب بإحالة العادة وشمول حامل" على الكتمان "للكل" كما تحيل اتفاقهم في داع لا كل طعام واحد في وقت واحد "والظاهر عدم حضور عيسى" وقت كلامه في المهد "إلا الآحاد" من الأهل الذين أتت به تحمله إليهم "وإلا" لو حضره الجم الغفير "وجب القطع بتواتره وإن انقطع" التواتر "لحامل المبدلين على إخفاء ما تكلم به" وقتئذ وهو قوله: إني عبد الله والحامل على إخفائهم إياه ادعاؤهم أنه إله وأنه ابن فإن كلامه هذا الذي بدأ به أول ما تكلم اعترافه بالعبدية لله وهو مسجل عليهم بتكذيبهم "وهو" أي حضور الجم الغفير إياه مع عدم نقله متواترا "إن جاز" عقلا "فخلاف الظاهر" المقطوع به عادة فلا يقدح في القطع العادي "وما ذكر" مما تتوفر الدواعي على نقله من المعجزات المذكورة "حضره الآحاد ولازمه" أي حضورهم إياه "الشهرة" فإن التواتر يمتنع باعتبار أن الطبقة الأولى آحاد فبقي أن يتواتر في حال البقاء وهو الشهرة "وقد تحققت" في ذلك فأخذ كونها مما تتوفر الدواعي على نقله مقتضاه "على أنه لو فرض عدد التواتر" في شيء من ذلك "وتخلف" تواتره "فلاكتفاء البعض" من الناقلين لذلك "بأعظمها" أي المعجزات "القرآن" فإنه المعجزة المستمرة الباقية في مستقبل الأزمنة الدائرة على الألسنة في غالب الأمكنة هذا وقد يقال كل من انشقاق القمر وحنين الجذع(24/309)
متواتر أما انشقاق القمر فقد قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] الآية قال القاضي عياض فذكر الانشقاق بلفظ الماضي وأخبر أن الكفار أعرضوا عن آيته وزعموا أنها سحر قال وأجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه ورواه من الصحابة علي وابن مسعود وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وابن عباس وأنس وبين شيخنا الحافظ مخرجي أحاديثهم من الأئمة إلا حديث علي قال لم أقف عليه وقال القرطبي في المفهم رواه العدد الكثير من الصحابة ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين فمن بعدهم وأما حنين الجذع فإن طرقه كثيرة قال البيهقي أمره ظاهر نقله الخلف عن السلف وإيراد الأحاديث فيه كالتكلف قال شيخنا الحافظ يعني لشدة شهرته وهو كما قال فقد وقع لنا من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس وجابر وسهل بن سعد وأبي وأبي سعيد وبريدة وعائشة وأم سلمة وبين مخرجي أحاديثهم من الأئمة فلا جرم أن قال السبكي الصحيح عندي في الجواب التزام أن الانشقاق والحنين متواتران ا هـ ثم تسبيح الحصى بيده. أخرجه أبو نعيم والبيهقي والطبراني وغيرهم وتسبيح الطعام وهم يأكلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري وأحمد وابن خزيمة وغيرهم وسعي الشجرة إليه رواه الترمذي وابن ماجه(24/310)
ص -385-…وغيرهما وتسليم الحجر رواه مسلم وأخرج الدارمي والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا معه في بعض نواحيها فمررنا بين الجبال والشجر فلم نمر بجبل ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله. وأما تسليم الغزالة فقال شيخنا الحافظ فمشتهر في الألسنة وفي المدائح النبوية ولم أقف لخصوص السلام على سند وإنما ورد الكلام في الجملة ثم ساق ذلك بسنده وأفاد أنه أخرجه الحاكم في الإكليل والبيهقي والطبراني بسند ضعيف والله سبحانه أعلم.
مسألة(24/311)
"إذا تعارض خبر الواحد والقياس بحيث لا جمع" بينهما ممكن "قدم الخبر مطلقا عند الأكثر" منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد "وقيل" قدم "القياس" وهو منسوب إلى مالك إلا أنه استثنى أربع أحاديث فقدمها على القياس حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب وحديث المصراة وحديث العرايا وحديث القرعة "وأبو الحسين" قال قدم القياس "إن كان ثبوت العلة بقاطع" لأن النص على العلة كالنص على حكمها فحينئذ القياس قطعي والخبر ظني والقطعي مقدم قطعا "فإن لم يقطع" بشيء "سوى بالأصل" أي بحكمه "وجب الاجتهاد في الترجيح" فيقدم ما يترجح إذ فيه تعارض ظنين: النص الدال على العلة، وخبر الواحد ويدخل في هذا ما إذا كانت العلة منصوصا عليها بظني وما إذا كانت مستنبطة "وإلا" إن انتفى كلا هذين "فالخبر" مقدم على القياس لاستوائهما في الظن وترجح الخبر على النص الدال على العلة بأنه يدل على الحكم بدون واسطة بخلاف النص الدال على العلة فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة فيشمل ما إذا كانت منصوصة بظني أو مستنبطة ولم يكن حكمها في الأصل ثابتا بقطعي هذا ولفظه في المعتمد العلة إن كانت منصوصة بقطعي فالقياس أو بظني ولم يكن حكمها في الأصل ثابتا بقطعي فالخبر وإن كان ثابتا بمقطوع فينبغي أن يكون القياس اختلفوا في هذا الموضع وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقا ثم قال والأولى أن يرجح أحدهما على الآخر بالاجتهاد عند قوة الظن قال السبكي وأنت تراه كيف لم يجعل اختياره مذهبا مستقلا برأسه بل أشار إلى موضع الخلاف وينجر اختياره إلى اتباع أقوى الظنين وهذا أيضا لا ينازعه فيه أحد وإنما النزاع في أن أقوى الظنين ما هو فمن رجح الخبر قال الظن المستفاد منه أقوى وبالعكس، ثم تخصيص أبي الحسين الخلاف بالمحل الذي ذكره قال ابن السمعاني لا يعرف له فيه متقدم قال السبكي وإن فرض أبو الحسين صورة يكون القطع موجودا فيها فهذا ما لا ينازع إذ القاطع مرجح على الظن وكذا أرجح الظنين(24/312)
فليس في تفصيله عند التحقيق كبير أمر.
"والمختار" عند الآمدي وابن الحاجب والمصنف "إن كانت العلة" ثابتة "بنص راجح على الخبر ثبوتا" إذا استويا في الدلالة "أو دلالة" لو استويا ثبوتا "وقطع بها" أي العلة "في الفرع قدم القياس" لكن الآمدي وابن الحاجب اقتصرا على تقييد رجحان النص على الخبر(24/313)
ص -386-…بكونه في الدلالة وقال الكرماني وإنما قيد بقوله في الدلالة إذ المعتبر ذلك لا رجحانه بحسب الإسناد بأن يكون متواترا لجواز ثبوتها بخبر واحد راجح على ذلك الخبر في الدلالة وقال السبكي ولقائل أن يقول لا يلزم من ثبوت العلية براجح والقطع بوجودها أن يكون ظن الحكم المستفاد منها في الفرع أقوى من الظن المستفاد من الخبر لأن العلة عندكم لا يلزمها الاطراد بل ربما تخلف الحكم عنها لمانع فلم قلتم إنه لم يتخلف عن الفرع لمانع الخبر لا سيما إذا كانت العلة عامة تشمل فروعا كثيرة والخبر يختص بهذا الفرع المتنازع فيه فهذا ما لا يعتقد أن الظن المستفاد من الخبر فيه أضعف من القياس أبدا ا هـ قلت وهذا ذهول عن موضوع الخلاف فإنه ما إذا تساويا في العموم والخصوص كما وقع التصريح به بعد سوق الأدلة وهو لا يتأتى فيه البحث فليتأمل "وإن ظنت" العلة في الفرع "فالوقف" قال السبكي ولقائل أن يقول الوقف إنما يكون عند تساوي الأقدام فينبغي أن يقال إن كان وجودها ظنيا والظنان متساويان ونحن نمنع ذلك فإنا نعتقد أن ظن الخبر أرجح "وإلا تكن" العلة ثابتة "براجح" بأن تكون مستنبطة أو ثابتة بنص مرجوح عن الخبر أو مساو له "فالخبر" مقدم على القياس وتوقف القاضي أبو بكر في تقديم القياس على الخبر وعكسه وقال ابن أبان إن كان الراوي ضابطا غير متساهل فيما يرويه قدم خبره على القياس وإلا فهو موضوع اجتهاد وقال فخر الإسلام إن كان الراوي من المجتهدين كالخلفاء الراشدين قدم خبره على القياس وإن كان من المشهورين بالضبط والعدالة دون الفقه والاجتهاد فالأصل العمل بخبره فلا يترك ما لم توجب الضرورة تركه وهي ضرورة انسداد باب الرأي والقياس مطلقا "للأكثر ترك عمر القياس في الجنين وهو" أي القياس "عدم الوجوب" لشيء على الضارب لبطن امرأة فيه جنين فأسقطته ميتا "بخبر حمل بن مالك" وتقدم تخريجه في مسألة العمل بخبر العدل واجب "وقال لولا هذا لقضينا فيه برأينا"(24/314)
ولم أقف على هذا اللفظ عنه وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما أخرج الشافعي عنه في الأم فقال عمر إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا وعند أبي داود فقال عمر الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا "فأفاد" عمر "أن تركه" الرأي إنما هو "للخبر وفي دية الأصابع" القياس أيضا "وهو تفاوتها" أي الدية فيها "لتفاوت منافعها وخصوصه" أي تفاوت منافعها "أمر آخر وكان رأيه في الخنصر" بكسر الخاء والصاد. وقال الفارسي اللغة الفصيحة فتح الصاد وعليه مشى في القاموس "ست" من الإبل "والتي تليها" وهي البنصر "تسع" من الإبل "وكل من الآخرين" كأنه باعتبار العضو وإلا فالوجه الظاهر الأخريان وهما الوسطى والمسبحة "عشر" من الإبل كذا ذكر غير واحد والذي في سنن البيهقي أنه كان يرى في السبابة اثني عشر وفي الوسطى عشرا وفي الإبهام ثلاثة عشر وقدمنا في المسألة المشار إليها من رواية الشافعي والنسائي قضاءه في الإبهام بذلك أيضا "لخبر عمرو بن حزم: "في كل إصبع عشر من الإبل" كما أسلفناه ثمة من رواية الشافعي والنسائي "وفي ميراث الزوجة من دية زوجها وهو" القياس "عدمه" أي ميراثها منه "إذ لم يملكها" الزوج "حيا بل" إنما يملكها الورثة "جبرا لمصيبة القرابة ويمكن حذف الأخير" أي(24/315)
ص -387-…كون ملكهم إياها جبرا لمصيبة القرابة "فلا يكون" توريثه إياهم منها دون الزوجة "من النزاع" أي تعارض خبر الواحد والقياس فإن القياس أن يرث الجميع "ولم ينكره" أي ترك عمر القياس للخبر "أحد فكان" تقديم الخبر على القياس "إجماعا وعورض بمخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة" مرفوعا "توضئوا مما مسته النار" ولو من أثوار أقط" إذ قال له ابن عباس يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة يا ابن أخي إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلا رواه الترمذي "وبمخالفته هو" أي ابن عباس "وعائشة خبره" أي أبي هريرة المتفق عليه "في المستيقظ" وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" "وقالا" أي ابن عباس وعائشة "كيف نصنع بالمهراس" وهو حجر منقور مستطيل عظيم كالحوض لا يقدر أحد على تحريكه ذكره أبو عبيد عن الأصمعي أي إذا كان فيه ماء ولم تدخل فيه اليد فكيف نتوضأ منه "ولم ينكر" إنكارهما "فكان" العمل بالقياس عند معارضة الخبر له "إجماعا قلنا ذلك" أي المخالفة المذكورة "للاستبعاد لخصوصه" أي المروي "لظهور خلافه" أي المروي أما في الأول فلتأديته إلى أن يكون المصحح مبطلا وأما في الثاني فلأدائه إلى ترك الوضوء مع وجود الماء على أن ما عن عائشة وابن عباس قال شيخنا الحافظ لا وجود له في شيء من كتب الحديث وإنما الذي قال هذا لأبي هريرة رجل يقال له قين الأشجعي فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم من النوم فليفرغ على يديه من وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" فقال له قين الأشجعي كيف نصنع بمهراسكم فقال له أبو هريرة نعوذ بالله من شرك وقين الأشجعي ذكره ابن منده في الصحابة فقال له ذكر في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة يعني هذا وتعقبه أبو نعيم بأنه ليس فيه ما يدل على(24/316)
صحبته قال شيخنا الحافظ بل ولا على إدراكه وكلامه هذا وقع لغيره مثله فأخرج ابن أبي شيبة من طريق الشعبي قال كان أصحاب عبد الله يعني ابن مسعود يقولون ماذا يصنع أبو هريرة بالمهراس "وليس" الخلاف للاستبعاد المذكور "من محل النزاع" أي معارضة القياس بخبر الواحد "لا" أن ذلك منه "لتركه" خبر الواحد "بالقياس" على أنه لا قياس ينافي وجوب غسل اليد قبل الإدخال في الإناء ولا قياس يقتضي غسل اليد من المهراس "ولهم" أي الأكثر "تقريره عليه السلام معاذا حين أخر القياس" كما تقدم بيانه في مسألة وليست لغوية مبدئية: الأئمة الأربعة يجوز التخصيص بالقياس "وأيضا لو قدم القياس لقدم الأضعف وبطلانه إجماع أما الملازمة فلتعدد احتمالات الخطأ بتعدد الاجتهاد" وضعف الظن بتعدد الاحتمالات "ومحاله" أي الاجتهاد "فيه" أي القياس "أكثر" من محاله في الخبر "فالظن" في القياس حينئذ "أضعف" منه في الخبر إذ محال الاجتهاد في القياس ستة "حكم الأصل" أي ثبوته "وكونه" أي حكم الأصل "معللا" بعلة ما لأنه من الأحكام التعبدية "وتعيين الوصف" الذي به التعليل "للعلية ووجوده" أي ذلك الوصف "في الفرع ونفي المعارض" للوصف من انتفاء شرط أو وجود مانع "فيهما" أي في الأصل والفرع "وفي الخبر" محل الاجتهاد فيه أمران "في العدالة"(24/317)
ص -388-…للراوي "والدلالة" للخبر على الحكم "وأما" أن هذا معارض بأن الخبر يتطرق إليه "احتمال كفر الراوي وكذبه وخطئه" لأنه غير معصوم عنها "واحتمال المتن المجاز" وما في حكمه من الإضمار والاشتراك والتخصيص بخلاف القياس فإنه لا يتطرق إليه شيء منها ولا شك أن ما يتطرق إليه أضعف مما لا يتطرق إليه فكان القياس أقوى فيقدم عليه "فمن البعد" بمحل "لا يحتاج إلى اجتهاد في نفيه ولو" احتيج في نفي الكفر وأخويه إلى اجتهاد "فلا" يحتاج إليه "على الخصوص بل ينتظمه" أي نفي ذلك "العدالة" أي الاجتهاد فيها فإذا أدى إليها حصل نفي ذلك وهو ظاهر "ولا يخفى أن احتمال الخطأ في حكم الأصل ليجتهد فيه منتف لأنه" أي حكم الأصل "مجمع عليه ولو بينهما" أي المتناظرين "في المختار عندهم وكذا نفي كونه" أي حكم الأصل "فرعا" لغيره هو المختار عندهم أيضا "فهي" أي محال الاجتهاد في القياس "أربعة لسقوطه" أي الاجتهاد "في معارض الأصل" وهو أحد المحال له "ضمنه" أي ضمن سقوط الاجتهاد في نفس الأصل "ولو سلم" أنه لا يشترط الاتفاق عليه "فإثباته ليس من ضروريات القياس" أي شرطا لازما فيه بل اللازم في القياس ثبوته فإن حاصل الأصل أنه حكم دل عليه سمعي والمجتهدون بصدد أن يأخذوا الأحكام الشرعية من السمعية للعمل بها فحين اجتهد في السمعي لإثبات ذلك الحكم لم يكن ذلك ليتوصل به إلى القياس وضعا بل وضع لاجتهاده ليعمل بعين ذلك الحكم سواء قيس عليه أو لا غير أنه إذا اتفق بعد ما ثبت لغرض العمل بعينه أن يستأنف عملا آخر يستعلم به أن محلا آخر هل فيه ذلك الحكم أو لا فهذا العمل هو القياس وهو فيه مستغن عن أن يجتهد في إثبات الحكم السابق وإنما حاجته الآن إليه نفسه وهو مفروغ منه لا إلى إثباته وهذا على أن القياس فعل المجتهد وأما على أنه المساواة فذلك العمل اجتهاد ليحصل القياس كذا أفاده المصنف "وإن الاجتهاد" أي ولا يخفى أنه "في العدالة لا يستلزم ظن الضبط فهو" أي الضبط(24/318)
"محل ثالث في الخبر وفي الدلالة إن أفضى" الاجتهاد "إلى ظن كونه" أي المدلول "حقيقة أو مجازا لا يوجب ظن عدم الناسخ" إذ لا ملازمة بينهما "فرابع" أي فمدلول الخبر محل رابع للاجتهاد في كونه غير منسوخ "ولا" يوجب ظن عدم "المعارض" له "فخامس" أي فهو محل خامس للاجتهاد في كونه غير معارض "ويندرج بحثه" أي المجتهد "عن المخصص" إذا كان المدلول عاما في بحثه عن نفي المعارض لأنه معارض صورة في بعض الأفراد "وفي الأقيسة المنصوصة العلة بغير راجح إن زاد" القياس منها على ما ليس كذلك "محلان" الدلالة والعدالة "سقط" من محال الاجتهاد فيه "محلان" كونه معللا وتعيين العلة فإن قيل بل على بحثكم خمسة قلنا لما فرض أنه مرجوح تبين بالأمرين فلا يتعدى الناظر إلى غيرهما لعدم الفائدة إذ كان برده كذا أفاده المصنف "فقصر" القياس عن الخبر في عدد محال الاجتهاد فكان الظن الذي فيه أقوى مما في الخبر.
ثم هذا نظر في هذا الدليل الخاص فلا يقدح في المطلوب كما أشار إليه بقوله "وفيما تقدم" من الأدلة على ثبوت المطلوب "كفاية" عن هذا الدليل "واستدل" للأكثر أيضا "بثبوت أصل القياس بالخبر" كخبر معاذ السابق "فلا يقدم" القياس "على أصله" أي الخبر "وقد يمنع(24/319)
ص -389-…الأمران" أي إثباته بالخبر لما سيأتي في مسألة تكليف المجتهد بطلب المناط في أواخر مباحث القياس وتقديمه على الخبر لأنه مصادرة على المطلوب "وبأنه قطعي" أي واستدل للأكثر أيضا بأن الخبر دليل قطعي "ولولا الطريق" الموصلة له إلينا لأن سماع الشيء من قائله من طرق العلم به "بخلاف القياس" فإنه ظني "ويجاب بأن المعتبر الحاصل الآن وهو" أي الحاصل الآن منه "مظنون" ثم مضى.
"هذا وأما تقديم ما ذكر من القياس" الذي علته ثابتة بنص راجح على الخبر وقطع بها في الفرع على الخبر "فلرجوعه" أي العمل بالقياس الذي هذا شأنه "إلى العمل براجح من الخبرين تعارضا إذ النص على العلة نص على الحكم في محلها" وهو الفرع "وقد قطع بها" أي بالعلة "فيه" أي محلها الذي هو الفرع "والتوقف" فيما أوجبناه فيه وهو ما إذا كانت العلة بنص راجح ووجودها في الفرع ظنيا "لتعارض الترجيحين خبر العلة بالفرض" فإن الفرض رجحانه "والآخر" أي والخبر الآخر "بقلة المقدمات" لعدم انضمام القياس إليه "وعلمت ما فيه" فإنه ظهر بالبحث أن القياس أقل محال للاجتهاد من الخبر "هذا إذا تساويا" أي القياس والخبر المتعارضان بحيث لا جمع بينهما في العموم والخصوص "فإن كانا" أي الخبر والقياس المذكوران "عاما" أحدهما "وخاصا" الآخر "فعلى الخلاف في تخصيص العام به" أي بالقياس "كيف اتفق" أي سواء خص بغيره أو لا "وعدمه" أي تخصيص العام به وتقدم الكلام فيه في مسألة مستقلة وهي الأئمة الأربعة يجوز التخصيص بالقياس فعلى الشافعية يخص الخاص مطلقا ويجري فيه وجهان الأول اعتباره بين خبر العلة والخبر المعارض لمقتضى العلة وتخرج المسألة عن كونها مما قدم فيه القياس على خبر الواحد أو قدم خبر الواحد فإن كان العام هو خبر الواحد المعارض لخبر العلة يكون العمل فيما سوى محل القياس الذي به وقع التخصيص بخبر الواحد وفي الذي أخرجه نص العلة بخبر العلة وإن كان العام خبر العلة فعلى القلب أي يكون(24/320)
العمل بما به التخصيص وهو المخرج بخبر الواحد وفي غيره بخبر العلة وعلى الحنفية يتعارضان ويرجح فيكون إما عملا بخبر الواحد في الكل وأهدر خبر العلة أو بخبر العلة في الكل وأهدر خبر الواحد والثاني اعتباره بين القياس والخبر المعارض له فيخص القياس عموم ذلك الخبر بأن يعمل به في ذلك الفرد وبالقلب هذا وفي البديع وغيره إن كان الخبر أعم من القياس خصه القياس جمعا بينهما فإنه أولى من ترك القياس وإن كان الخبر أخص من القياس فعلى جواز تخصيص العلة وعدم بطلانها به يعمل بالخبر فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعا بينهما لكونه أولى من ترك أحدهما وعلى بطلان تخصيص العلة هما متعارضان في ذلك كالحكم فيما إذا تعذر الجمع بينهما من جميع الوجوه وهو الخلاف المذكور في صدر المسألة والله تعالى أعلم.
مسألة:
"الاتفاق في أفعاله الجبلية" أي الصادرة بمقتضى طبيعته صلى الله عليه وسلم في أصل خلقته كالقيام(24/321)
ص -390-…والقعود والنوم والأكل والشرب "الإباحة لنا وله وفيما ثبت خصوصه" أي كونه من خصائصه كإباحة الزيادة على أربع في النكاح وإباحة الوصال في الصوم "اختصاصه" به ليس لأحد من الأمة مشاركته فيه "وفيما ظهر بيانا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" متفق عليه فإنه بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] "وخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" "في أثناء حجه" أي وهو يرمي الجمرة على راحلته كما رواه مسلم وغيره فإنه بيان لقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] "أو" بيانا بفعل صالح للبيان "بقرينة حال كصدوره" أي الفعل "عند الحاجة" إلى بيان لفظ مجمل "بعد تقدم إجمال" له حال كون الفعل "صالحا لبيانه" يكون بيانا لا محالة وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز وكأنه حذفه للعلم به من قوله بيانا "كالقطع من الكوع والتيمم إلى المرفقين أنه بيان لآيتيهما" أي السرقة والتيمم إذ قد تقدم للمصنف في المسائل التي تذيل بحث المجمل أن الإجمال في آية القطع بالنسبة إلى المحل وأما أنه في آية التيمم في اليد فتقدم نفيه ثمة فحينئذ التمثيل به إنما هو على قول الشرذمة القائلين بأنها مجملة أو يراد بكونه بيانا أعم من أن يكون بيانا لمجمل أو ما هو المراد من مطلق ثم قد أخرج البيهقي بإسناد حسن عن عدي هو ابن عدي تابعي ثقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل. وعليه أن يقال إنما يكون قطعها من الكوع بيانا بفعله لو ثبت أنه باشر القطع بنفسه وهو ليس بلازم بل الظاهر أنه أمر به غيره كما فيما روى الدارقطني بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان صفوان بن أمية نائما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيابه تحت رأسه فأتى سارق فأخذها فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأقر السارق فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع من المفصل فيكون(24/322)
البيان بالقول لا بالفعل إلا أن يجعل فعل المأمور كفعله لما كان بأمره وفيه ما فيه وأخرج أحمد عن أبي هريرة أن ناسا من أهل البادية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فساقه إلى أن قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالأرض ثم ضرب بيده على الأرض لوجهه ضربة واحدة ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها على يديه إلى المرفقين. وفي إسناده المثنى بن صباح ضعيف لكن تابعه ابن لهيعة أخرجه أبو يعلى وله طريق أخرى عند الطبراني فيها إبراهيم بن يزيد ضعيف أيضا وفي كون هذا مبينا لآية التيمم كلام غير هذا الموضع به أليق "بخلافهما" أي المرفقين "في الغسل" في الوضوء فإن غسله صلى الله عليه وسلم إياهما كما في صحيح مسلم ليس بيانا لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] "لذكر الغاية وعدم إجمال أداتها" أي الغاية بخلاف آية التيمم فإنها لم تذكر فيها "وما لم يظهر فيه ذلك" أي البيان والخصوصية "وعرف صفته" في حقه صلى الله عليه وسلم "من وجوب ونحوه" من ندب وإباحة "فالجمهور منهم الجصاص أمته مثله" فإن وجب عليه وجب عليهم وإن ندب أو أبيح له ندب أو أبيح لهم "وقيل" أي وقال أبو علي بن خلاد أمته مثله "في العبادات" فقط "والكرخي" والدقاق والأشعرية "يخصه" أي النبي صلى الله عليه وسلم الفعل بصفته من الوجوب والندب والإباحة "إلى" قيام "دليل العموم" لهم أيضا "وقيل" هو "كما لو جهل" أي لم يعلم وصفه "وليس" هذا القول(24/323)
ص -391-…"محررا إلا أن يعرف قوله" أي هذا القائل "في المجهول" وصفه "ولم يدر" أي والحال أنه لم يعلم قوله فيه ففي الحوالة عليه جهالة "أو يريد من قال في المجهول" ما قال "فله في المعلوم مثله فباطل فمن سيعلم قائلا بالإباحة في المجهول قولهم في المعلوم شمول صفته" لهم أيضا فقوله فمن سيعلم مبتدأ وقائلا حال منه وقولهم مبتدأ ثان وشمول صفته خبره والجملة خبر المبتدأ الأول وقد أجرى المصنف الاستعمالين الإفراد والجمع في من فالإفراد في قوله قائلا والجمع في قوله قولهم "لنا أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله احتجاجا واقتداء كتقبيل الحجر فقال عمر لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" كما في الصحيحين "ولم ينكر" على عمر ذلك "وتقبيل الزوجة صائما" كما في الصحيحين وغيرهما "وكثير" ولا سيما في أبواب العبادات كما يحيط به مستقرؤه من دواوين السنة "وأيضا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والتأسي فعل مثله" أي مثل فعل الغير "على وجهه لأجله" فاحترز بمثل فعله عما ليس كذلك بأن تختلف صورة الفعل كالقيام بالنسبة إلى القعود فإنه لا يسمى تأسيا وبعلى وجهه أي بأن يكون مشاركا له في الصفة والغرض والنية عما ليس كذلك لأن من فعل واجبا على قصد الوجوب لا يكون متأسيا بمن فعله على قصد الندب وإن توافقا في الصورة وبقوله لأجله عما ليس كذلك فإنه لو اتفق فعل جماعة في الصورة والصفة والقصد ولم يكن فعل أحدهم لأجل فعل الآخر كاتفاق جماعة في صلاة الظهر أو صوم رمضان لامتثال أمر الله لا يقال تأسى البعض بالبعض ولا يخل بالتأسي مع وجود هذه القيود اختلاف الفعلين زمانا ومكانا إلا إذا دل الدليل على اختصاص الفعل بالمكان كاختصاص الحج بعرفات أو بالزمان كاختصاص صوم رمضان به ولا كون فعل الغير متكررا أو لا ومثل التأسي في الفعل التأسي في الترك وهو ترك الشخص فعلا مثل ما تركه الآخر على وجهه لأجله "ومثله" أي(24/324)
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] في الدلالة على المطلوب قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فإن المتابعة للغير فعل مثل فعل الغير على الوجه الذي فعله وإلا ففعله على غير الوجه الذي فعله منازعة لا متابعة "وأما" قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] "فبدلالة المفهوم المخالف" يدل "على اتحاد حكمه" صلى الله عليه وسلم "بهم" أي مع حكم الأمة لأنه سبحانه علل تزويجه صلى الله عليه وسلم بنفي الحرج الكائن في تحريم زوجات الأدعياء ومفهومه لو لم يزوجه ثبت الحرج على المؤمنين في ذلك وثبوت الحرج على ذلك التقدير إنما يكون إذا اتحد حكمهم بحكمه ولم يتحد.
"وما جهل وصفه" بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ففيه بالنسبة إليه وإلى الأمة مذاهب "فأبو اليسر" قال "إن" كان "معاملة فالإباحة إجماع والخلاف" إنما هو "في القرب فمالك شمول الوجوب" له ولنا "كذا نقله بعضهم" منهم صاحب الكشف "متعرضا للفعل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كقول الكرخي مباح في حقه للتيقن" أي تيقنها في الفعل فوجب إثباتها دون غيرها إلا بدليل "وليس(24/325)
ص -392-…لنا اتباعه" إلا بدليل كما سيأتي توجيهه "وقول الجصاص وفخر الإسلام وشمس الأئمة والقاضي أبي زيد" ومتابعيهم "الإباحة في حقه ولنا اتباعه" ما لم يقم دليل على الخصوص "والقولان" أي قول الكرخي وقول الجصاص وموافقيه "يعكران نقل أبي اليسر" الإجماع بناء على أن المراد بالفعل ما هو أعم من القرب وغيرها فيتناول المعاملة ويمكن أن يدفع بناء على أن المراد بالفعل ما ليس بمعاملة بقرينة جعله قسيما لها "وخص المحققون الخلاف بالنسبة إلى الأمة فالوجوب" وهو معزو وفي المحصول إلى ابن سريج والإصطخري وابن خيران وفي القواطع إلى مالك والكرخي وطائفة من المتكلمين وبعض أصحاب الشافعي والأشبه بمذهب الشافعي وعزاه بعضهم إلى الحنابلة أيضا "والندب" وهو معزو وفي المحصول إلى الشافعي وفي القواطع إلى الأكثر من الحنفية و المعتزلة والصيرفي والقفال "وما ذكرنا" أي الإباحة وهو معزو في المحصول إلى مالك "والوقف" وهو معزو في المحصول إلى الصيرفي وأكثر المعتزلة وفي القواطع إلى أكثر الأشعرية والدقاق وابن كج وفي غيره والغزالي والقاضي أبي الطيب واختاره الإمام الرازي وأتباعه "ومختار الآمدي" وابن الحاجب "إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويجب" أن يكون هذا القول "قيدا لقول الإباحة للأمة" وإلا لم يقل أحد بأن ما هو من القرب عمله مباح من غير ندب وهو الظاهر من تعليل الإباحة بالتيقن "الوجوب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}" أي افعلوه ففعله مما أتى به فوجب اتباعه لأن الأمر للوجوب "أجيب بأن المراد ما أمركم" به قولا "بقرينة مقابله وما نهاكم" ليتجاوب طرفا النظم وهو اللائق بالفصاحة الواجب رعايتها في القرآن "قالوا" ثانيا قال تعالى "{فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]" والأمر للوجوب "قلنا هو" أي الاتباع "في الفعل فرع العلم بصفته" أي الفعل في حق المتبع "لأنه" أي الاتباع في الفعل "فعله على وجه فعله" المتبع "والكلام في مجهولها" أي الصفة(24/326)
فلا يتحقق الاتباع مع عدم العلم بصفة الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم "وقد منع اعتبار العلم بصفة الفعل في الاتباع فيه" أي الفعل بأن يقال لا نسلم أن الاتباع متوقف على العلم بصفة الفعل بل يجب الفعل وإن لم يعلم صفته في حق المتبع ورشح المصنف ذلك بقوله "وفي عبارة الإباحة ولنا اتباعه" أي سواء علمت صفة الفعل أو لا فلا يتم الجواب "بل الجواب القطع بأنه" أي الدليل وهو فاتبعوه عام "مخصوص إذ لا يجب قيام وقعود وتكرير عمامة وما لا يحصى" من الأفعال أي الاتباع فيها "ولا مخصص معين فأخص الخصوص" أي فتعين حمل الدليل على أخص الخصوص "من معلوم صفة الوجوب" أي ما كان من الأفعال معلوما صفته من الوجوب وهو المختار "قالوا" ثالثا "لقد كان إلى آخرها" قضية "شرطية مضمونها لزوم التأسي للإيمان" إذ معناه من كان يؤمن بالله فله فيه أسوة حسنة "ولازمها عكس نقيضها عدم الإيمان لعدم التأسي وعدمه" أي الإيمان "حرام فكذا" ملزومه الذي هو "عدم التأسي فنقيضه" وهو الإيمان "واجب" فكذا لازمه الذي هو التأسي وإلا ارتفع اللزوم "والجواب مثله" أي مثل ما قبله "لأن التأسي كالاتباع" وهو الفعل على الوجه الذي فعله لأجله فيتوقف إثبات الوجوب علينا على العلم بالوجوب عليه وهو خلاف المفروض "وفيه"(24/327)
ص -393-…من البحث "مثل ما قبله" وهو منع اعتبار العلم بصفة الفعل في الائتساء "ومنه" أي مما قبله من الجواب يؤخذ أيضا "الجواب المختار" وهو حمله على أخص الخصوص وهو التأسي فيما علم وجوبه "قالوا" رابعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذا خلع نعليه فخلعوا أي أصحابه نعالهم قال "ما حملكم على أن ألقيتم نعالكم" قالوا رأيناك ألقيت فألقينا قال "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى" أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان "فأقرهم على استدلالهم" بفعله "وبين سبب اختصاصه به" أي بخلع نعليه وهو ما كان بها من أذى "إذ ذاك" ولولا وجوب الاتباع لأنكر عليهم ذلك "قلنا دليلهم" على الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" "لا فعله أو فهمهم القربة" من الخلع وإلا لحرم أو كره "أو مندوبا" لا واجبا "قالوا" خامسا "أمرهم" أي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه "بالفسخ" أي فسخ الحج إلى العمرة "فتوقفوا" عن الفسخ "لعدم فسخه فلم ينكره" أي توقفهم لعدم فسخه "وبين مانعا" من الفسخ "يخصه وهو" أي المانع "سوق الهدي كذا ذكر" ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أن يحل من إحرامه وأن يجعله عمرة وأنه صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه وأن الناس استعظموا ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" فدل ذلك على وجوب اتباعه قال المصنف "ومن نظر السنن فعلم أنه غضب من توقفهم" فقد أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع أو خمس مضين في ذي الحجة فدخل علي وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله قال: "أشعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أحل كما أحلوا" ظهر له أنه "لم يلزم" منه أنه غضب لتوقفهم "لعدم الفعل" منه "بل" إنما غضب "لكونه" أي(24/328)
توقفهم "بعد الأمر ثم بين مانعه" من الفعل فلم يصح قولهم لم ينكره "وأحسن المخارج لهم" أي الصحابة "ظنه" أي الأمر بالفسخ "أمر إباحة رخصة ترفيها" لهم "وأظهر منه" أي من هذا في الدلالة على المطلوب على ما فيه "أمره" صلى الله عليه وسلم أصحابه "بالحلق في الحديبية" بضم الحاء المهملة ثم فتح الدال المهملة ثم الياء آخر الحروف ثم الباء الموحدة المكسورة ثم الياء آخر الحروف مخففة ومثقلة وأكثر المحدثين على التثقيل موضع معروف من جهة جدة بينها وبين مكة عشرة أميال "فلم يفعلوا حتى حلق فازدحموا" كما يفيده ما في حديث المسور بن مخرمة على ما في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه" "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضهم غما ا هـ. إذ هذا أظهر في إفادة أن توقفهم كان لعدم فعله فلما فعل فعلوا "ولا يتم الجواب" عن هذا الخامس "بأن الفهم" لوجوب المتابعة لم يستفد من فعله فقط بل "من" قوله صلى الله عليه وسلم:(24/329)
ص -394-…"خذوا عني" مناسككم وهو لم يحل فلم يحلوا كما أجابوا به "لأنه لم يكن" صلى الله عليه وسلم "قاله بعد في الصورتين" أي حين أمرهم بالفسخ وحلقه بالحديبية لأنه قاله وهو يرمي جمرة العقبة كما تقدم ومعلوم أنه كان بعد الحديبية قطعا وأما أنه كان بعد أمرهم بالفسخ فلأن أمرهم به كان في أوائل دخولهم مكة "بل" الجواب "ما ذكرنا" وهو ظنهم أن الأمر أمر إباحة فلم يفعلوا أخذا بالأحمز "أو بحلقه" صلى الله عليه وسلم "عرف حتمه" أي أنه أمر إيجاب هذا ووقع عند أحمد عن جابر عقب قوله صلى الله عليه وسلم "ولولا أني سقت الهدي لأحللت ألا فخذوا عني مناسككم" فلعله قاله مرارا وعلى هذا فيتم ذلك الجواب أيضا "قالوا" سادسا "اختلفت الصحابة في وجوب الغسل بالإيلاج" لقدر الحشفة في الفرج من غير إنزال "ثم اتفقوا عليه" أي وجوب الغسل به كما يفيده ظاهر حديث لأحمد في مسنده لكن لا "لرواية عائشة فعله" بل لقولها "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" وإن كان في رواية لأحمد عنها بغير هذه القصة بعد هذا اللفظ فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا "أجيب بأن فيه قولا إذا التقى" الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل رواه ابن أبي شيبة وابن وهب "وإنما يفيد" هذا الجواب "إذا روته" أي عائشة هذا أو معناه "لهم" أي للصحابة والأمر كذلك كما ذكرناه "أو هو" أي الفعل الذي روته عائشة من وجوب الغسل من التقاء الختانين "بيان" قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] والأمر للوجوب أي فلم يرجعوا إلى الفعل من حيث هو فعله بل إلى أمره تعالى بالاطهار للجنب وبالفعل ظهر أن الجنابة تثبت به كما تثبت بالإنزال فثبت به حكم الكتاب وهو إيجاب الغسل فإذن ليس هو من محل النزاع لأنه حينئذ يكون من قسم الأفعال البيانية "أو تناوله" أي وجوب الغسل من التقاء الختانين ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" "إذ هو" أي(24/330)
الغسل "شرطها" أي الصلاة وهو إنما صلى بعد الالتقاء بالغسل "أو لفهم الوجوب منها" أي عائشة حيث حكت فعله والاغتسال منه "إذ كان خلافهم فيه" أي في وجوبه أي أو لفهم الوجوب من حكايتها بقرينة وهي سؤالهم لها بعد اختلافهم في الوجوب إذ لولا إشعار الجواب به لما تطابق السؤال والجواب فيكون حينئذ مما علم صفته فلا يكون من المتنازع فيه "قالوا" سابعا الوجوب "أحوط" لما فيه من الأمن من الإثم قطعا فيجب الحمل عليه "أجيب بأنه" أي الاحتياط "فيما لا يحتمل التحريم" على الأمة "وفعله" صلى الله عليه وسلم "يحتمله" أي التحريم على الأمة "ورد" هذا "بوجوب صوم" يوم "الثلاثين" من رمضان "إذا غم الهلال" لشوال بالاحتياط وإن احتمل كونه حراما لكونه يوم العيد "بل الجواب" عن أصل الدليل "أنه" أي الاحتياط إنما شرع "فيما ثبت وجوبه كصلاة نسيت غير معينة" فيجب عليه الخمس احتياطا "أو كان" ثبوت الوجوب "الأصل كصوم" يوم "الثلاثين" من رمضان إذ الأصل بقاؤه "الندب الوجوب يستلزم التبليغ" دفعا للتكليف بما لا يطاق "وهو" أي التبليغ "منتف بالفرض" إذ الكلام فيما وجد فيه مجرد الفعل "وأسوة حسنة تنفي المباح" لأنها في معرض المدح ولا مدح على المباح "فتعين الندب أجيب بأن الأحكام" الشرعية "مطلقا" أي سواء كانت وجوبا أو ندبا أو إباحة "تستلزمه" أي التبليغ فإن وجوب التبليغ يعمها "فلو انتفى" التبليغ "انتفى الندب(24/331)
ص -395-…أيضا والمذكور في الآية حسن الائتساء ويصدق" حسنه "مع المباح" لأن المباح حسن "قالوا" أي النادبون ثانيا "هو" أي الندب "الغالب من أفعاله أجيب بالمنع الإباحة هو" أي المباح "المتيقن" لانتفاء المعصية والوجوب "فينتفي الزائد" عليها "لنفي الدليل" له "وهو" أي هذا "وجه" قول "الآمدي إذا لم تظهر القربة" أي قصدها فيه "وإلا" إذا ظهر قصدها فيه "فالندب" لظهور الرجحان فيه "ويجب كونه" أي القول بالإباحة "كذا" أي ندبا عند ظهور قصد القربة "لمن ذكرنا من الحنفية" أنهم قائلون بالإباحة "بمثله" أي هذا التوجيه "وهو" أي الندب "أنه المتيقن معها" أي القربة "إلا أن لا يترك" ذلك الفعل "مرة على أصولهم" أي الحنفية "فالوجوب" يكون حكم ذلك الفعل حينئذ "والحاصل أن عند عدم ظهور القرينة" للقربة "المتيقن الإباحة وعند ظهورها" أي القرينة للقربة "وجد دليل الزيادة" على الإباحة "والندب متيقن فينتفي الزائد" وهو الوجوب "وعدم الترك مرة دليل حامل الوجوب الكرخي جازت الخصوصية" أي أن يكون ذلك من خواصه كما جاز مشاركة الأمة له فيه لأنه ثبت اختصاصه بالبعض ومشاركة الأمة له في البعض "فاحتمل فعله التحريم" على الأمة كما احتمل الإطلاق لهم على السواء "فيمنع" فعله لهم حتى يقوم دليل يرجح أحد هذين الجائزين "الجواب أن وضع مقام النبوة للاقتداء قال تعالى لإبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] فثبت" جواز الاقتداء فيه "ما لم يتحقق خصوص" له فيه "وهو" أي الخصوص "نادر لا يمنع احتماله" جواز الاقتداء "الواقف صفته" أي الفعل "غير معلومة" بالفرض "والمتابعة" إنما تكون "بعلمها" أي صفته كما تقدم "فالحكم بأن المجهول كذا" أي واجب أو مندوب أو مباح "بعينه في حقه كالكرخي ومن ذكرنا من الحنفية وناقل الوجوب على الوجه الأول" من وجوبه وهو {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ثم قوله فالحكم مبتدأ خبره "تحكم باطل يجب التوقف عنه ونص على(24/332)
إطلاقهم" أي الواقفية "الفعل" للأمة والناص الشيخ سعد الدين في التلويح "ولا ينافي" إطلاقهم الفعل للأمة "الوقف" في حقه صلى الله عليه وسلم وحقنا "لأنه" أي مجرد الإذن في الفعل ليس الحكم الذي هو الإباحة وإنما هو "جزء الحكم" الذي هو الإباحة إذ تمامها إطلاق الفعل وإطلاق الترك ولم يقل به لأن الدليل على مجرد إطلاق الفعل لا يدل على إطلاق الترك لجواز كون الثابت مع إطلاق الفعل حرمته أو كراهته تنزيها فإثبات شيء بعينه منهما في الترك تحكم "فلم يحكم في حقه ولا حق الأمة بحكم وهو" أي إطلاقهم الفعل في حقه وحقنا "مقتضى الدليل لمنع شرط العلم" بحال الفعل "في المتابعة" في جانب الفعل "والتحكم" أي ومنع التحكم في جانب الترك "ويجب حمل الإباحة عليه" أي إطلاق الفعل "لا" على المعنى "المصطلح" لها وهو جواز الفعل مع جواز الترك "لانتفاء التيقن فيه" أي المعنى المصطلح "ومثله" أي هذا بعينه "الندب" أي جاز فيه فهو "في القربة على مجرد ترجيح الفعل لنفي التحكم" فإن القربة ليس مقتضاها إلا أن يرجح الفعل على الترك وذلك يصدق مع الوجوب والندب المصطلح فإثبات أحدهما بعينه في الترك تحكم "وحينئذ" أي حين إذ كان الوقف ما ذكرنا انتفى دفع ما ذكرناه عنه من قولنا المنصب للاقتداء إلخ لأنه تبين أن الواقف لا يمنع(24/333)
ص -396-…الاتباع مطلقا بل يجيز الفعل وحينئذ "فدليلهم" أي الواقفية "من غيرهم" جار "على لسانهم" لا لهم "وإنما" المناسب لهم على هذا أن يقال "هو" أي دليلهم "احتمالات متساوية فلا يتحكم بشيء منها ومجرد إطلاق الفعل ثابت بما ذكرنا" فيجب القول به والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا علم" النبي صلى الله عليه وسلم "بفعل وإن لم يره" أي ذلك الفعل "فسكت" عن إنكاره حال كونه "قادرا على إنكاره فإن" كان ذلك الفعل "معتقد كافر" أي مما علم أنه صلى الله عليه وسلم منكر له وترك إنكاره في الحال لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الكافر علم منه ذلك وبأنه لا ينتفع في الحال "فلا أثر لسكوته" ولا دلالة له على الجواز اتفاقا "وإلا" لو لم يكن معتقد كافر "فإن سبق تحريمه بعام فنسخ" لتحريمه منه عند الحنفية "أو تخصيص" له به عند الشافعية "على الخلاف" بينهم في أن مثل ذلك نسخ أو تخصيص "وإلا" لو لم يسبق تحريمه "فدليل الجواز" له "وإلا" لو لم يكن دليل الجواز له "كان تأخير البيان عن وقت الحاجة" وهو غير واقع كما سيأتي في فصل البيان "فإن استبشر" النبي صلى الله عليه وسلم "به" أي بذلك الفعل "فأوضح" في أنه دليل الجواز "إلا أن يدل دليل على أنه" أي استبشاره "عنده" أي الفعل "لأمر آخر لا به" أي الفعل "قد يختلف في ذلك" أي في الاستبشار "في الموارد ومنه" أي المختلف فيه من الموارد "إظهار البشر" أي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم السرور "عند قول" مجزز بضم الميم وفتح الجيم وزايين معجمتين الأولى مشددة مكسورة "المدلجي" بضم الميم وسكون الدال المهملة من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة له صحبة وذكر ابن يونس أنه شهد فتح مصر لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت له أقدام زيد وأسامة إن هذه الأقدام بعضها من بعض. كما في الكتب الستة. قال أبو داود وكان أسامة أسود وكان زيد أبيض. وقال(24/334)
البيهقي قال إبراهيم بن سعد كان أسامة مثل الليل وكان زيد أبيض أحمر أشقر "فاعتبره" أي بشر النبي صلى الله عليه وسلم "الشافعي بقوله" أي المدلجي "فأثبت" الشافعي "النسب بالقيافة ونفاه" أي ثبوتها به "الحنفية وصرفوا البشر إلى ما يثبت عنده" أي البشر "من تركهم الطعن في نسبه وإلزامهم بخطئهم فيه" أي الطعن فيه "على اعتقادهم" حقية القيافة "ودفع" هذا "بأن ترك إنكاره" صلى الله عليه وسلم "الطريق" الذي هو القيافة "ظاهر في حقيتها" أي القيافة وإلا لعده من الزجر والتحمير "فلا يجوز" ترك إنكاره "إلا معه" أي كونها حقا "وإلا لذكره" أي إنكارها "ولا ينفي" ذكره الإنكار "المقصود من رجوعهم" أي الطاعنين "والجواب أن انحصار ثبوت النسب في الفراش كان ظاهرا عند أهل الشرع والطعن ليس منهم" أي من أهل الشرع "بل من المنافقين وهم" أي المنافقون "يعتقدون بطلان قولهم" أنفسهم "لقوله" أي المدلجي "فالسرور لذلك" أي لبطلان قولهم "وترك إنكار السبب" الذي هو القيافة لا يضر "لأنه كتركه" صلى الله عليه وسلم الإنكار "على تردد كافر إلى كنيسة فلا يكون" سكوته عن إنكارها "تقريرا".(24/335)
ص -397-…مسألة
"المختار أنه صلى الله عليه وسلم قبل بعثه متعبد" أي مكلف "قيل" بشرع آدم عليه السلام لأنه أول الشرائع حكاه ابن برهان وقيل "بشرع نوح" عليه السلام لأنه أول الرسل المشرعين قلت وفيه نظر ففي حديث أبي ذر الطويل الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره قلت: يا رسول الله كم الأنبياء قال "مائة ألف وعشرون ألفا" قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك قال "ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا" قلت يا رسول الله من كان أولهم قال "آدم" قلت يا رسول الله أنبي مرسل قال "نعم" "وقيل" بشرع "إبراهيم" عليه السلام لأنه صاحب الملة الكبرى "وقيل" بشرع "موسى" عليه السلام لأنه صاحب الكتاب الذي نسخ ولم ينسخ أكثر أحكامه إذ عيسى موافق له في بعضها "وقيل" بشرع "عيسى" عليه السلام لأنه بعدهم ولم ينسخ إلى حين بعثه صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما في كل من هذه الأوجه "والمختار" عند المصنف أنه متعبد "بما ثبت أنه شرع إذ ذاك" أي في ذلك الزمان بطريقه فإنه عسر إذ ذاك لأنه بعدالة النقلة في غير التواتر فإذا ثبت بطريق يفيد الثبوت أنه شرع نبي وجب العمل به وإن كان نبيا بعده غيره لأن الأصل عدم النسخ إلا بما لا مرد له ذكره المصنف "إلا أن يثبتا" أي الشرعان أمرين "متضادين فبالأخير" أي فالحكم أن يجب عليه ما ثبت بالشرع المتأخر للعلم بثبوت نسخه "فإن لم يعلم" الشرع "الأخير لعدم معلومية طريقه" أي الأخير "فيما ركن إليه" أي فهو متعبد بما اطمأن قلبه إليه "منهما لأنهما كقياسين لعدم ما بعدهما ونفاه" أي تعبده قبل البعثة بشرع من قبله "المالكية" قال القاضي وعليه جماهير المتكلمين ثم اختلفوا فمنعته المعتزلة عقلا وقال أهل الحق يجوز ولكن لم يقع وعليه القاضي وغيره قال المصنف "والآمدي وتوقف الغزالي" ونسب السبكي التوقف إلى إمام الحرمين والغزالي والآمدي وابن الأنباري وغيرهم واختاره "لنا لم ينقطع التكليف من بعثة آدم عموما كآدم ونوح وخصوصا" كشعيب إلى أهل(24/336)
مدين وأصحاب الأيكة "ولم يتركوا" أي الناس "سدى" أي مهملين غير مأمورين ولا منهيين في زمن من الأزمان "قط فلزم" التعبد "كل من تأهل" من العباد "وبلغه" ذلك المتعبد به "وهذا" الدليل "يوجبه" أي التعبد "في غيره عليه السلام" أيضا "وهو كذلك وتخصيصه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "اتفاقي واستدل" للمختار "بتضافر روايات صلاته وصومه وحجه" أي تعاونها واجتماعها وهو بالضاد المعجمة لا بالظاء وهذا أشهر من أن يذكر فيه شيء مخصوص وذلك "للعلم الضروري أنه" أي فعلها "لقصد الطاعة وهي" أي الطاعة "موافقة الأمر" فلا يتصور من غير شرع "والجواب أن الضروري قصد القربة وهي" أي القربة "أعم من موافقة الأمر والتنفل فلا يستلزم" القربة "معينا" منهما "ظاهرا فضلا عن ضروريته واستدل أيضا بعموم كل شريعة" جميع المكلفين فيتناوله أيضا "ومنع" عموم كل شريعة جميع المكلفين وكيف لا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" قال "النافي لو كان" متعبدا بشريعة من قبله "قضت العادة بمخالطته أهلها ووجبت" مخالطته لهم لأخذ الشرع منهم "ولم يفعل" إذ لو فعل لنقل لتوفر الدواعي على نقله ولم ينقل(24/337)
ص -398-…"أجيب الملزم" للتعبد بما علم أنه شرع "إذ ذاك" أي قبل البعثة "التواتر" لأنه المفيد للعلم "ولا حاجة معه" أي التواتر "إليها" أي مخالطته لهم "لا" أن الملزم له "الآحاد لأنها" أي الآحاد "منهم" أي أهل الشرع "لا تفيد ظنا" لعدم الوثوق بما في أيديهم إلى غير ذلك فضلا عن العلم هذا والخلاف في هذا يجب أن يكون مخصوصا بالفروع إذ الناس في الجاهلية مكلفون بقواعد العقائد ولذا انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون فيها على كفرهم ولولا التكليف ما عذبوا فعموم إطلاق العلماء مخصوص بالإجماع ذكره القرافي ثم هذه المسألة. قال إمام الحرمين والمازري وغيرهما لا يظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ولا يترتب عليها حكم في الشريعة وفيه تأمل "وأما" أنه متعبد بشرع ما قبله "بعد البعث فما ثبت" أنه شرع لمن قبله فهو "شرع له ولأمته" عند جمهور الحنفية والمالكية والشافعية على ما ذكر القرافي وعن الأكثرين المنع فالمعتزلة مستحيل عقلا وغيرهم شرعا واختاره القاضي والإمام الرازي والآمدي "لنا ما اخترناه من الدليل" السابق "فيثبت" ذلك شرعا له "حتى يظهر الناسخ والإجماع" ثابت "على الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 45]" أي أوجبنا على بني إسرائيل "فيها" أي التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} على وجوب القصاص في شرعنا ولولا أنا متعبدون به لما صح الاستدلال بوجوبه في دين بني إسرائيل على وجوبه في ديننا "وقوله عليه السلام "من نام عن صلاة" وتلا {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}" ولم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما في صحيح مسلم "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] "وهي" أي هذه الآية "مقولة لموسى عليه السلام" فاستدل بها على وجوب قضاء الصلاة عند تذكرها وإلا لم يكن لتلاوتها(24/338)
فائدة ثم لو لم يكن هو صلى الله عليه وسلم وأمته متعبدين بما كان موسى متعبدا به في دينه لما صح الاستدلال "قالوا" أي النافون أولا "لم يذكر" شرع من قبلنا "في حديث معاذ" السابق "وصوبه" أي ما في حديثه من القضاء بما في كتاب الله ثم بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم باجتهاده ولو كان شرع من قبلنا شرعا لنا لذكره أو لم يصوبه "أجيب بأنه" إنما لم يذكره "إما لأن الكتاب يتضمنه" نحو قوله تعالى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فإنه أعم من الإيمان والأعمال التي كلفوا بها "أو لقلته" أي قلة وقوعه "جمعا للأدلة" دليلنا الدال على كونه وأمته متعبدين به ودليلكم الدال على نفيه "قالوا" ثانيا "الإجماع على أن شريعتنا ناسخة" لجميع الشرائع "قلنا" لكن "لما خالفها لا مطلقا للقطع بعدمه" أي النسخ "في الإيمان والكفر وغيرهما" كالقصاص وحد الزنا "قالوا" ثالثا "لو كان" صلى الله عليه وسلم متعبدا به "وجبت خلطته" لأهله كما تقدم تقريره "أجيب بما تقدم" أيضا من أن الملزم للتعبد بما علم أنه شرع من قبله هو التواتر لأن الكلام فيما علم وصح أنه من شريعة من تقدم والآحاد لا تفيده والتواتر لا يحتاجه هذا "واعلم أن الحنفية قيدوه" أي كون شرع من قبلنا شرعا لنا "بما إذا قص الله ورسوله" ذلك "ولم ينكره فجعل" هذا منهم قولا "ثالثا" قال المصنف وليس كذلك "والحق أنه" أي هذا التقييد "وصل بيان طريق ثبوته" أي شرع من قبلنا(24/339)
ص -399-…شرعا واجب الاتباع بهذا المذهب "لا يتأتى فيه خلاف إذ لا يستفاد" شرعهم "عنهم آحادا ولم يعلم متواتر" منه "لم ينسخ ولا بد من ثبوته" شرعا لهم أولا ليثبت له وجوب اتباعنا له ثانيا "فكان" ثبوته "بذلك" أي بقص الله أو رسوله من غير تعقب بإنكار بل كونه شرعا لنا حينئذ ضروري "وبيان رده إلى الكتاب أو السنة يمنع كونه" قسما "خامسا من الاستدلال كما سيأتي" هذا وغير واحد على أن قولنا متعبد بشرع من قبله بفتح الباء كما أشرنا إليه صدر المسألة ووافق القرافي على هذا إذا أريد به الأصول وما بعد النبوة أما قبلها إذا أريد به الفروع فالصواب كسر الباء ويعرف توجيهه في شرح تنقيح المحصول له ودفعه مما سلف هنا فليراجع ذاك ويتأمل ما هنا.
مسألة(24/340)
"تخصيص السنة بالسنة كالكتاب" أي كتخصيص الكتاب بالكتاب "على الخلاف" في الجواز فيه بين الجمهور وشذوذ ثم على الخلاف فيه بين الجمهور في اشتراط المقارنة في المخصص الأول بمعنى كونه موصولا بالعام كما تقدم في بحث التخصيص فأكثر الحنفية يشترط وبعضهم كالشافعية لا يشترط إلى غير ذلك مما تقدم في بحث التخصيص "قالوا" أي الجمهور "خص" قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء" والعيون أو كان عثريا "العشر" لفظ البخاري ولمسلم نحوه "بـ "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"" متفق عليه "وهو" أي تخصيص الأول بالثاني "تام على" قول "الشافعية" وبعض الحنفية حيث لم يشرطوا المقارنة ويرى الشافعية تقديم الخاص مطلقا "لا" على قول "أبي يوسف ومحمد إذ لم تثبت مقارنته" أي الثاني للأول "ولا تأخيره ليخص" على تقدير مقارنته "وينسخ" على تقدير تأخيره "فتعارضا" أي الحديثان في الإيجاب فيما دون خمسة أوسق فقدم أبو يوسف ومحمد الثاني بما الله أعلم به فإن وجهه بالنسبة إلى الأصل المذهبي غير ظاهر "وقدم" أبو حنيفة "العام" أي الأول "احتياطا" لتقدم الموجب على المبيح وحمل غير واحد من المشايخ منهم صاحب الهداية مرويهما على زكاة التجارة جمعا بين الحديثين قالوا لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق وقيمة الوسق كانت يومئذ أربعين درهما ولفظ الصدقة ينبئ عنها بل نقله في الفوائد الظهيرية عن أبي حنيفة وفي مبسوط أحمد الطواويسي أخذ أبو حنيفة هذا الأصل من عمر رضي الله عنه فإنه عمل بالعام المتفق عليه حين أراد إجلاء بني النضير فاعترضوا عليه بقوله عليه السلام: "اتركوهم وما يدينون" وعمر تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلاهم.
مسألة(24/341)
"ألحق الرازي من الحنفية والبردعي و فخر الإسلام وأتباعه" والسرخسي وأبو اليسر والمتأخرون ومالك والشافعي في القديم وأحمد في إحدى روايتيه "قول الصحابي" المجتهد "فيما يمكن فيه الرأي بالسنة" لغير الصحابي "لا لمثله" أي صحابي آخر "فيجب"(24/342)
ص -400-…على غير الصحابي "تقليده" أي الصحابي "ونفاه" أي إلحاق قوله بالسنة "الكرخي وجماعة" من الحنفية منهم القاضي أبو زيد "كالشافعي" في الجديد "ولا خلاف فيما لا يجري فيه" أي قوله الذي لا يمكن فيه الرأي "بينهم" أي الحنفية أنه يجب تقليده فيه لأنه كالمرفوع لعدم إدراكه بالرأي وبه قال الشافعي أيضا في الجديد على ما حكاه السبكي عن والده "وتحريره" أي محل النزاع "قوله" أي الصحابي "فيما" يدرك بالقياس لكن "لا يلزمه الشهرة" بين الصحابة لكونه "مما لا تعم به البلوى ولم ينقل خلاف" فيه بين الصحابة ثم ظهر نقل هذا القول في التابعين "وما يلزمه" الشهرة مما يدرك بالقياس لكونه مما تعم به البلوى واشتهر بين الخواص ولم يظهر خلاف من غيره "فهو إجماع كالسكوتي حكما لشهرته" أي بسببها على الوجه الذي ذكرنا "وفي اختلافهم" أي الصحابة في ذلك "الترجيح" بزيادة قوة لأحد الأقاويل إن أمكن "فإن تعذر" الترجيح "عمل بأيهما شاء" بعد أن يقع في أكبر رأيه أنه هو الصواب ثم بعد أن يعمل بأحدهما ليس له أن يعمل بالآخر بلا دليل "لا يطلب تاريخ" بين أقوالهم ليجعل المتأخر ناسخا للمتقدم كما يفعل في النصين لأنهم لما اختلفوا ولم يتحاجوا بالسماع تعين أن تكون أقوالهم عن اجتهاد لا سماع فكانا "كالقياسين" تعارضا "بلا ترجيح" لأحدهما على الآخر حيث يكون هذا حكمهما وذلك لأن الحق لا يعدو أقوالهم حتى لا يجوز لأحد أن يقول بالرأي قولا خارجا عنها "واختلف عمل أئمتهم" أي الحنفية في هذه المسألة وهي تقليده فيما يمكن فيه الرأي فلم يستقر عنهم مذهب فيها ولا يثبت فيها عنهم رواية ظاهرة "فلم يشرطا" أي أبو يوسف ومحمد "إعلام قدر رأس مال السلم المشاهد" أي تسمية مقداره إذا كان مشارا إليه في صحة السلم "قياسا" على الإعلام بالتسمية لأن الإشارة أبلغ في التعريف من التسمية والإعلام بالتسمية يصح بالإجماع فكذا بالإشارة وقياسا على البيع المطلق به "وشرطه" أي أبو حنيفة(24/343)
إعلام قدر رأس المال المشاهد في صحته "وقال بلغنا" ذلك "عن ابن عمر" كذا في الكشف وفي غيره عن عمر وابن عمر "وضمنا" أي أبو يوسف ومحمد "الأجير المشترك" وهو من يعقد على عمله كالصباغ والقصار العين التي هي العمل إذا هلكت "فيما يمكن الاحتراز عنه كالسرقة بخلاف" ما إذا هلكت بالسبب "الغالب" وهو ما لا يمكن الاحتراز عنه كالحرق والغرق الغالبين والغارة العامة فإنه لا ضمان عليه اتفاقا وإنما ضمناه في الأول "بقول علي رضي الله عنه" رواه ابن أبي شيبة عنه من طرق وأخرج الشافعي عنه أنه كان يضمن الصباغ والصائغ ويقول لا يصلح الناس إلا ذلك "ونفاه" أي أبو حنيفة تضمين الأجير المشترك "بقياس أنه أمين كالمودع" والأجير الواحد وهو من يعقد على منافعه لأن الضمان نوعان ضمان جبر وهو يجب بالتعدي وضمان الشرط وهو يجب بالعقد ولم يوجد كلاهما لأن قطع يد المالك حصل بإذنه والحفظ لا يكون جناية فبقيت العين في يده أمانة كالوديعة فلا يضمن بالهلاك قلت وهذا إنما يتم إذا لم ينقل عن علي ولا غيره خلافه وليس كذلك فقد أخرج محمد في الآثار عن أبي حنيفة بسنده عنه أنه كان لا يضمن القصار ولا الصائغ ولا الحائك ورفعه أبو حنيفة في مسنده عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان(24/344)
ص -401-…على قصار ولا صباغ ولا وشاء" فلا جرم أن قال الإسبيجابي الضمان كان من رأي علي ثم رجع عنه وأخرج محمد في الآثار أيضا عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أن شريحا لم يضمن أجيرا قط قيل وكان حكم شريح بحضرة الصحابة والتابعين من غير نكير فحل محل الإجماع.
"واتفق فيما لا يدرك رأيا كتقدير أقل الحيض" بثلاثة أيام "بما عن عمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأنس" رضي الله عنهم كذا في جامع الأسرار ولم أقف على ذلك عن عمر وعلي وأما روايته عن ابن مسعود فأخرجها الدارقطني وأما عن عثمان بن أبي العاص فلم أقف على ما يفيد ذلك عنه وأما عن أنس فأخرجها الكرخي وابن عدي قلت ولقائل أن يقول لم لا يكون القول بأن أقل الحيض ثلاث بالمرفوع في ذلك كما رواه الدارقطني والطبراني من حديث أبي أمامة وابن عدي من حديث أنس ومعاذ الدارقطني من حديث واثلة وابن الجوزي من حديث الخدري وابن حبان من حديث عائشة وإن كان في طرقها ضعف فإن تعددها يرفعها إلى درجة الحسن وهو صنيع غير واحد من المشايخ ثم في حكاية الاتفاق نظر فإن في رواية الحسن عن أبي حنيفة ثلاثة أيام والليلتان اللتان تتخللانها وعند أبي يوسف يومان وأكثر الثالث "وفساد بيع ما اشترى قبل نقد الثمن بقول عائشة" لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئس ما اشتريت وبئس ما شريت رواه أحمد قال ابن عبد الهادي إسناده جيد "لما تقدم" أي لأنه لا يدرك رأيا "لأن الأجزية" على الأعمال إنما تعلم "بالسمع" فيكون لهذا حكم الرفع "للنافي" إلحاق قول الصحابي بالسنة "يمتنع تقليد" الصحابي "المجتهد" غيره "وهو" أي الصحابي "كغيره" من المجتهدين في احتمال اجتهاده الخطأ لانتفاء العصمة فيمتنع تقليده "الموجب" لتقليده "منع" المقدمة "الثانية" وهي كون الصحابي المجتهد كغيره(24/345)
من المجتهدين في احتمال اجتهاده الخطأ "بل يقوى فيه" أي في قوله "احتمال السماع" والظاهر الغالب من حاله إفتاؤه بالخبر لا بالرأي إلا عند الضرورة بعد مشاورة القرناء لاحتمال أن يكون عندهم خبر وقد ظهر من عادتهم سكوتهم عن الإسناد عند الفتوى إذا كان عندهم خبر يوافق فتواهم لأن الواجب عند السؤال بيان الحكم لا غير "ولو انتفى" السماع "فإصابته" الحق "أقرب" من غيره "لبركة الصحبة ومشاهدتهم الأحوال المستنزلة للنصوص والمحال التي لا تتغير" الأحكام "باعتبارها" ولهم زيادة جد وحرص في بذل المجهود في طلب الحق والقيام بما هو سبب قوام الدين والاحتياط في حفظ الأحاديث وضبطها والتأمل فيما لا نص عندهم فيه "بخلاف غيره" أي الصحابي قلت وللموجب أن يمنع المقدمة الأولى أيضا فقد ذكر الشيخ أبو بكر الرازي أن أبا حنيفة قال من كان من أهل الاجتهاد فله تقليد غيره من العلماء وترك رأيه لقوله وإن شاء أمضى اجتهاد نفسه ا هـ والمسألة مستوفاة في(24/346)
ص -402-…المقالة الثانية ويأتي الكلام عليها ثمة إن شاء الله تعالى "فصار" قول الصحابي "كالدليل الراجح وقد يفيده عموم" قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مدح الصحابة وتابعيهم بإحسان وإنما استحق التابعون المدح على اتباعهم بإحسان من حيث الرجوع إلى رأيهم لا إلى الكتاب والسنة لأن في ذلك استحقاق المدح باتباع الكتاب والسنة لا باتباع الصحابة وذلك إنما يكون في قول وجد منهم ولم يظهر من بعضهم فيه خلاف فأما الذي فيه اختلاف فلا يكون موضع استحقاق المدح فإنه إن كان يستحق المدح باتباع البعض يستحق الذم بترك اتباع البعض فوقع التعارض فكان النص دليلا على وجوب تقليدهم إذا لم يوجد بينهم اختلاف ظاهر كذا في الميزان "والظاهر" من المذهب "في" التابعي "المجتهد في عصرهم" أي الصحابة "كابن المسيب" والحسن والنخعي والشعبي "المنع" من تقليده "لفوت المناط المساوي" للمناط في وجوب التقليد للصحابي وهو بركة الصحبة ومشاهدة الأمور المثيرة للنصوص والمفيدة لإطلاقها حتى ذكروا عن أبي حنيفة أنه قال إذا اجتمعت الصحابة سلمنا لهم وإذا جاء التابعون زاحمناهم وفي رواية لا أقلدهم هم رجال اجتهدوا ونحن رجال نجتهد "وفي النوادر نعم كالصحابي" واختاره الشيخ حافظ الدين النسفي "والاستدلال" لذلك "بأنهم" أي الصحابة "لما سوغوا له" أي للتابعي الاجتهاد وزاحمهم في الفتوى "صار مثلهم" فيجوز تقليده كما في الصحابي "ممنوع الملازمة لأن التسويغ" لاجتهاده "لرتبة الاجتهاد" أي لحصولها له "لا يوجب ذلك المناط" لوجوب التقليد "فبرد شريح الحسن على علي" أي فالاستدلال لهذا بما ذكر المشايخ من أن عليا رضي الله عنه تحاكم إلى شريح فخالف عليا في رد شهادة الحسن له للقرابة "وهو" أي علي "يقبل الابن" أي كان من رأيه جواز شهادة الابن لأبيه "ومخالفة مسروق ابن عباس في إيجاب(24/347)
مائة من الإبل في النذر بذبح الولد إلى شاة" قالوا ورجع ابن عباس إلى قول مسروق بعد ثبوت كل منهما "لا يفيد" المطلوب لأن خلافهما وتقريرهما لرتبة الاجتهاد ولا يستلزم الارتفاع إلى رتبة الصحابي إلا بما ذكرنا وهو يخصه "وجعل شمس الأئمة الخلاف" في قول التابعي "ليس إلا في أنه هل يعتد به في إجماع الصحابة فلا ينعقد" إجماعهم "دونه أو لا" يعتد به في إجماعهم "فعندنا نعم" يعتد به وعند الشافعي لا يعتد به فلم يعتبر رواية النوادر وقال ولا خلاف في أن قول التابعي ليس بحجة على وجه يترك به القياس والله سبحانه أعلم.
وجد في نسخة الأصل المنقولة من نسخة المؤلف ما نصه قال المصنف شارح هذا الكتاب متع الله المسلمين بطول حياته وقد يسر الله تعالى من فضله وإحسانه وجوده وامتنانه ختم تبييض هذا السفر الثاني من التقرير والتحبير شرح كتاب التحرير على يدي مؤلفه العبد الفقير إلى الله ذي الفضل العميم والوعد الوفي محمد بن محمد بن محمد المشتهر بابن أمير حاج الحلبي الحنفي عاملهم الله بلطفه الجلي والخفي بالمدرسة الحلاوية(24/348)
ص -403-…النورية بحلب المحروسة لا زالت رباعها بالبركات والفضائل مأنوسه ورايات الأعداء عنها منكوسه أصيل يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة هجرة نبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وتسهيل السبيل إلى الاطلاع على مصادره وموارده في خير من الله تعالى وعافية ونعم منه ضافية وافية على وجه يرضاه ربنا جل جلاله ويرضى به عنا إنه سبحانه ذو الفضل العظيم والكرم العميم وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والتسليم على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله فصل في التعارض.(24/349)
عنوان الكتاب:
التقرير والتحبير – الجزء الثالث
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
دراسة وتحقيق:
عبد الله محمود محمد عمر
الناشر:
دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الاولى 1419هـ/1999م(25/1)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في التعارض
وأشار إلى وجه ذكره بعد خبر الواحد بقوله "وغالبه في الآحاد" و "هو" أي التعارض لغة "التمانع" على سبيل التقابل تقول: عرض لي كذا إذا استقبلك ما يمنعك مما قصدته، ومنه سمي السحاب عارضا؛ لأنه يمنع شعاع الشمس وحرارتها من الاتصال بالأرض "وفي الاصطلاح اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر" وفيه المعنى اللغوي كما هو ظاهر "فعلى ما قيل" والقائل غير واحد من مشايخنا كفخر الإسلام وأتباعه "لا يتحقق" التعارض "إلا مع الوحدات" الثمان وحدة المحكوم عليه وبه والزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والشرط وقيل التسع والتاسعة وحدة الحقيقة والمجاز كما عرف في المنطق وردت إلى الإضافة والجميع إلى وحدتي المحكوم عليه وبه وإلى وحدة النسبة الحكمية كما عرف في المنطق أيضا فالتعارض "لا يتحقق في" الأحكام "الشرعية للتناقض" حينئذ والشارع منزه عنه لكونه أمارة العجز "ومتى تعارضا" أي الدليلان "فيرجح" أحدهما إذا وجد المرجح له "أو يجمع" بينهما بأن يحمل كل منهما على محمل بطريقة يتحقق "معناه" أي التعارض "ظاهرا" أي يكون التعارض المذكور ظاهر اقتضاء الدليلين "لجهلنا" بالمتقدم منهما "لا" حقيقته "في نفس الأمر" كما أشار إليه صاحب البديع وصدر الشريعة "وهو" أي كون المراد به هذا هو "الحق" فيفرع عليه قوله "فلا تعتبر" الوحدات المذكورة فيه؛ لأن المبوب له صورة المعارضة لا حقيقتها لاستحالتها على الشارع فلا معنى لتقييدها بتحقق الوحدات؛ لأنها حينئذ المعارضة الممتنعة والكلام في إعطاء أحكام المعارضة الواقعة في الشرع وهي ما تكون صورة فقط مع الحكم بانتفائها حقيقة.
وقوله أيضا "ولا يشترط تساويهما" أي الدليلين المتعارضين "قوة" لا كما قيل يشترط؛ لأن الأضعف بالنسبة إلى الأقوى في حكم العدم فلا تماثل بينهما؛ لأنه بناء على التعارض حقيقة.(25/2)
وقوله أيضا "ويثبت" التعارض "في" دليلين "قطعيين ويلزمه" أي التعارض في قطعيين "محملان" لهما إذا لم يعلم تأخر أحدهما عن الآخر "أو نسخ أحدهما" بمعارضة الآخر إن علم تأخر أحدهما عن الآخر "فمنعه" أي التعارض "بينهما" أي القطعيين "وإجازته في الظنين" كما ذكره ابن الحاجب وغيره وعلله العلامة الشيرازي بأنه إما أن يعمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو لا يعمل بشيء منهما وهو جمع بين النقيضين في طرف النفي أو بأحدهما دون الآخر وهو ترجيح بلا مرجح "تحكم" لجريان هذا التعليل بعينه في الظنيين أيضا على أن الكلام في صورة التعارض لا في تحققه في الواقع وهي كما توجد في الظنيين توجد في القطعيين وفي القطعي والظني "والرجحان" لأحد المتعارضين القطعيين أو(25/3)
ص -4-…الظنيين إنما هو "بتابع" أي بوصف تابع لذلك الراجح كما في خبر الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل غير فقيه "مع التماثل" أي تساويهما في القطع والظن لا بما هو غير تابع "ومنه" أي التماثل بين الدليلين في الثبوت السنة "المشهورة مع الكتاب حكما" أي من حيث وجوب تقييد مطلقه وتخصيص عمومه وجواز نسخه بها ولا سيما على قول الجصاص وإن كانت لا تماثله من حيث إكفار جاحده على ما هو الحق كما سلف في موضعه "فلا يقال النص راجح على القياس"؛ لأن رجحان النص على القياس بوصف غير تابع فلا مماثلة بينهما أولا "بخلاف عارضه" أي القياس النص "فقدم" النص عليه فإنه يقال؛ لأن المراد صورة التعارض فلا يلزم منه تحقق المماثلة بينهما في نفس الأمر "إذ حكمه" أي التعارض صورة "النسخ إن علم المتأخر" فيكون ناسخا للمتقدم "وإلا" إذا لم يعلم المتأخر "ف" الحكم "الترجيح" لأحدهما على الآخر بطريقه إن أمكن "ثم الجمع" بينهما إن أمكن إذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؛ لأن إعمال كليهما في الجملة حينئذ أولى من إلغاء كليهما بالكلية "وإلا" إذا لم يعلم المتقدم ولم يمكن ترجيح أحدهما ولا الجمع بينهما "تركا" أي المتعارضان "إلى ما دونهما" من الأدلة "على الترتيب إن كان" أي وجد ما دونهما بأن كان التعارض بين آيتين فإنهما يتركان إلى السنة إن كانت ولم تكن متعارضة فإن لم يوجد في ذلك سنة أو وجدت لكن متعارضة ففخر الإسلام تركها إلى القياس وأقوال الصحابة ولم يفصح بما يصار إليه أولا منهما ولفظ السرخسي يصار إلى ما بعد السنة فيما يكون حجة في حكم الحادثة وذلك الحكم قول الصحابي أو القياس الصحيح فقيل في الأول إشارة إلى تقديم القياس وفي الثاني إشارة إلى قول الصحابي؛ لأن التقديم في الذكر يدل على شدة العناية وفي التقويم وإن كان بين السنتين فالميل إلى قول الصحابي ثم إلى الراوي انتهى. وعليه مشى المصنف كما سترى.(25/4)
ثم ظاهر أن هذا كله فيما يدرك بالقياس أما فيما لا يدرك، فقول الصحابي مقدم على القياس اتفاقا ثم إنما يتساقط المتعارضان حيث لا ترجيح ولا جمع بينهما ممكن إلى ما دونهما حيث وجد لتعذر العمل بهما للتنافي بينهما وبأحدهما عينا لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ثم لا ضرورة في العمل بأحدهما أيضا لوجود الدليل الذي يعمل به وهو ما دونهما فلا يقع العمل بما يحتمل أنه منسوخ ثم إنما يجب المصير إلى ما دونهما حينئذ؛ لأن الحادثة التحقت بما إذا لم يوجد فيها ائتزرت الدليلان ولا بد من دليل يتعرف به حكم الحادثة "وإلا" إذا لم يوجد دون المتعارضين دليل آخر يعمل به أو وجد التعارض في الجميع "قررت الأصول" أي يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلق بالمتعارضين "أما" في التعارض "في القياسين" إذا وقعت الحاجة إلى العمل "فبأيهما شهد قلبه" أي أدى تحري المجتهد إليه يجب العمل به عليه "إن" طلب الترجيح وظهر له أن "لا ترجيح" ولا يسقطان لأداء تساقطهما إلى العمل بلا دليل شرعي بعد القياس يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة الذي هو مضطر إلى معرفته، والعمل بلا دليل شرعي باطل وكل من القياسين حجة في(25/5)
ص -5-…العمل به لوضع الشارع إياه للعمل به لا في إصابة الحق؛ لأنه عند الله واحد فمن حيث الأول وجب أن يثبت الخيار من غير تحر كما في الكفارات ومن حيث الثاني وجب أن يسقطا كما في النصين؛ لأن أحدهما خطأ وهو لا يدري فوجب العمل من وجه وسقط من وجه فقلنا يحكم رأيه ويعمل بشهادة قلبه؛ لأن لقلب المؤمن نورا يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" رواه الترمذي ثم إذا عمل بأحدهما بالتحري ليس له أن يعمل بالآخر لصيرورة الذي عمل به هو الحق عند الله والآخر خطأ في الظاهر فلا يجوز له أن يعمل به إلا بدليل فوق التحري كأن يتبين نص بخلافه لظهور خطئه حينئذ حيث اجتهد في المنصوص عليه وإذا لم تقع حاجة إلى العمل يتوقف فيه. وقال الشافعي يعمل بأيهما شاء من غير تحر ولهذا صار له في المسألة قولان وأقوال وأما الروايتان عن أصحابنا في مسألة واحدة فإنما كانتا في وقتين إحداهما صحيحة والأخرى لا، ولكن لم تعرف الأخيرة منهما ودفع العمل بالقياسين جميعا بأن الحق عند الله واحد كما عليه أهل السنة والجماعة، فالجمع بينهما في العمل جمع بين الحق والباطل وهو غير جائز.(25/6)
"وقول الصحابيين بعد السنة قبل القياس كالقياسين فلا يصار عنهما إلى القياس" أي قولهما إما أن يكون فيما يمكن فيه الرأي أو لا ففيما يمكن حمل تعارضهما أن يترجح أحدهما بطريقة فإن لم يكن مرجح عمل بأيهما شاء ولا يصار إلى القياس؛ لأن عملهم حينئذ عن رأي؛ لأنهم لما لم يتحاجوا بالسمع ظهر أنهم اختلفوا عن اختلاف رأي ولا رأي في الشرع إلا القياس فصار قولاهما كقياسين تعارضا ولا مرجح وفي ذلك يعمل بأيهما شاء فكذا هذا فإن قيل جاز أنا لو صرنا إلى القياس ظهر لنا قياس آخر غيرهما قلنا قدمنا أن اجتهاد الصحابي مقدم على اجتهاد غيره فهو كالدليل الراجح بالنسبة إلى المرجح فالقياس الثالث محكوم بمرجوحيته بالنسبة إلى القياسين اللذين هما قولاهما فلا يجوز أن يعمل به أصلا وأيضا يكون الحاصل أنهم أجمعوا على قولين فلا يجوز إحداث ثالث فلا فائدة في المصير إلى القياس عند تعارضهما ولا مرجح غير واقع بل الواقع الإطلاقات المشهورة في الكتب أنه لا يصار في معارضتهما إلى القياس بل يعمل بأيهما شاء ذكره المصنف. "والجمع في العامين بحمل كل على بعض" كاقتلوا المشركين لا تقتلوا المشركين ولا مرجح يحمل الأول على الحربيين والثاني على الذميين "أو" على "القيد" أي على قيد غير قيد الآخر كإذا لم يكونوا ذمة في الأول وإذا كانوا ذمة في الثاني "وكذا" الجمع "في الخاصين" يحمل كل على قيد غير قيد الآخر "أو يحمل أحدهما على المجاز" والآخر على الحقيقة "وفي العام والخاص ولا مرجح للعام" على الخاص موجود "كإخراج من تحريم، ولا الخاص" أي ولا مرجح له على العام موجود "كمن إباحة" أي إخراج منها "فبالخاص" أي فالعمل به "في محله" أي الخاص نفسه "والعام" أي والعمل به "فيما سواه" أي سوى محل الخاص "فيتحد الحاصل منه" أي من الجمع بين العام والخاص على هذا الوجه "ومن تخصيص العام به" أي بالخاص(25/7)
ص -6-…"مع اختلاف الاعتبار"؛ لأنه على الشافعية تخصيص العام بالخاص وعلى الحنفية حمل لدفع التعارض إذا تعذر الترجيح ومعرفة التأخر لينسخ الآخر ذكره المصنف أما لو وجد مرجح للعام فقط قدم على الخاص أو للخاص فقد قدم على ما يعارضه من العام.
"وقد يخال" أي يظن "تقدم الجمع" بين العام والخاص على الترجيح عند الحنفية "لقولهم الإعمال أولى من الإهمال وهو" أي الإعمال "في الجمع" بين العام والخاص كما هو غير خاف لا في ترجيح أحدهما على الآخر فإن فيه إبطال الآخر "لكن الاستقراء خلافه" أي دال على عدم اطراد تقدم الجمع على ترجيح أحدهما فقد "قدم عام "استنزهوا البول" "على" خاص "شرب العرنيين أبوال الإبل" المفصح به حديثهم وتقدم تخريج الحديثين في آخر البحث الرابع من مباحث العام "لمرجح التحريم" لشرب أبوال وهو أبو حنيفة رحمه الله تعالى "مع إمكان حمله" أي عام "استنزهوا البول" "على" ما "سوى" بول "ما يؤكل" كما ذهب إليه مبيحه مطلقا كمحمد وأحمد رحمهما الله أو للتداوي فقط كأبي يوسف رحمه الله "وعام ما سقت" أي "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر" "على خاص الأوسق" أي "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وتقدم تخريج الحديثين في مسألة تخصيص السنة بالسنة "لمرجح الوجوب" للعشر في كل ما سقته السماء أو سقي سيحا قل أو كثر وهو أبو حنيفة "مع إمكان نحوه" أي حمل ما سقته السماء على ما كان خمسة أوسق فصاعدا كما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وغيرهما "وكيف" يقدم الجمع مطلقا على اعتبار الراجح منهما "وفي تقديمه" أي الجمع مطلقا عليه "مخالفة ما أطبق عليه العقول من تقديم المرجوح على الراجح" وظاهر أن هذا بيان للمخالفة لا لما أطبق وإلا لكان الوجه القلب مع أنه قد كان هو الأولى "وتأويل" أخبار "الآحاد" المعارضة ظاهر الكتاب "عند تقديم الكتاب" عليها "ليس منه" أي الجمع بين المتعارضين ظاهرا "بل استحسان حكما للتقديم" للكتاب عليها "وقولهم" أي الحنفية(25/8)
"تقديم النص على الظاهر تعارضا فيما وراء الأربع" من النساء بملك النكاح للأحرار "أي" قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه ظاهر في حل الأكثر من الأربع "ومثنى إلخ" أي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فإنه نص على قصر الحل على الأربع "فيرجح النص" على الظاهر "ويحمل الظاهر عليه" أي النص "اتفاق منهم" أي الحنفية "عليه" أي نفي الجمع بعد الترجيح وعلى تأويل المرجوح بعد تقديم الراجح بحمله على معنى الراجح وليس هذا جمعا فإن الجمع أن يحمل كل على بعض، وفيه عدم إعمال الراجح في جميع معناه وليس هذا كذلك بل أعمل الراجح وهو النص في كل معناه وهو قصر الحل على الأربع ثم حمل المرجوح وهو الظاهر على هذا بعينه.
قال المصنف "ولو خالفوا" أي الحنفية هذا الأصل "كغيرهم" وجعلوا الجمع قبل الترجيح حتى يصار إليه مع أن أحدهما راجح أو عرف تأخره "منعناه"؛ لأن هذه الأصول ليست إلا من تصرفات العقول فلكل أحد أن يبدي وجها عقليا ويعمل به ويدفع غيره إن أمكنه كما(25/9)
ص -7-…ذكرناه وقولهم الإعمال أولى إلخ إن أريد مع المرجوحية منعناه؛ لأنه نقض الأصول ومكابرة العقول وإن أريد عند عدهم الرجحان فيقدم على المصير إلى ما دونهما فنعم ذكره المصنف.
هذا والذي في الميزان المخلص من التعارض من وجهين: أحدهما ما يرجع إلى الركن بأن لم يكن بين الدليلين مماثلة كنص الكتاب وخبر المتواتر مع خبر الواحد والقياس أو خبر الواحد مع القياس؛ لأن شرط قبول خبر الواحد والقياس أن لا يكون ثمة نص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع بخلافه، وكذا إذا كان لأحد الخبرين من الآحاد أو لأحد القياسين رجحان على الآخر وجه من وجوه الترجيح؛ لأن العمل بالراجح واجب عند عدم المتيقن بخلافه، ولا عبرة للمرجح بمقابلة الراجح ولكن هذا إنما يستقيم بين خبري الواحد وبين القياسين؛ لأن كلا منهما ليس بدليل موجب للعلم وإنما يوجب الظن أو علم غالب الرأي وهذا يحتمل التزايد من حيث القوة بوجوه الترجيح فأما بين النصين كتابا وسنة متواترة في حق الثبوت فلا يتصور الترجيح؛ لأن العلم بثبوتها قطعي. والعلم القطعي لا يحتمل التزايد في نفسه من حيث الثبوت وإن كان يحتمله من حيث الجلاء والظهور، إلا إذا وقع التعارض في موجبيهما بأن كان أحدهما محكما والآخر فيه احتمال فالمحكم أولى وثانيهما ما يرجع إلى الشرط بأن لا يثبت التنافي بين الحكمين ويتصور الجمع بينهما لاختلاف المحل والحال والقيد والإطلاق والحقيقة والمجاز واختلاف الزمان حقيقة أو دلالة وبيانه أن النصين إذا تعارضا ولم يكن أحدهما خاصا والآخر عاما فأما أن لا يكون بينهما زمان يصلح للنسخ ففي الخاصين يحمل أحدهما على قيد أو حال أو مجاز ما أمكن وفي العامين من وجه يحمل على وجه يتحقق الجمع بينهما وفي العامين لفظا يحمل أحدهما على بعض والآخر على بعض آخر أو على القيد والإطلاق، وإما أن يكون بينهما زمان يصلح للنسخ بأن كان المكلف يتمكن من الفعل والاعتقاد أو من الاعتقاد لا غير على(25/10)
الاختلاف فيه فيمكن العمل بالطريقين بالتناسخ والتخصيص والتقييد والحمل على المجاز في العامين والخاصين فأصحاب الحديث العمل بطريق التخصيص، والبيان أولى والمعتزلة بالتناسخ أولى ومشايخنا واختيار أبي منصور الماتريدي ينظر إلى عمل الأمة في ذلك فإن حملوه على التناسخ يجب العمل به وإن حملوه على التخصيص يجب العمل به وإن لم يعرف عمل الأمة في ذلك على أحد الوجهين أو استوى عملهم فيه بأن عمل بعضهم على أحد الوجهين والبعض على الوجه الآخر فيرجع في ذلك إلى شهادة الأصول فيعمل بالوجه الذي شهدت به وإن كان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن عرف تاريخهما وبينهما زمان يصح فيه التناسخ فإن كان الخاص سابقا والعام متأخرا نسخ الخاص به وإن كان العام سابقا والخاص متأخرا نسخ العام بقدر الخاص ويبقى الباقي وإن وردا معا وكان بينهما زمان لا يصح فيه النسخ يبنى العام على الخاص فيكون المراد من العام ما وراء المخصوص وهذا قول مشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تابعه من ديارنا وقالت الشافعية يبنى العام على الخاص في الفصلين حتى إن الخاص السابق يكون مبينا للعام اللاحق فيكون المراد من العام(25/11)
ص -8-…ما وراء قدر المخصوص بطريق البيان. وعلى قول مشايخ سمرقند الجواب فيه كذلك إذا لم يكن بينهما زمان يصلح للنسخ؛ لأنه لا يندفع التناقض إلا بهذا الطريق فأما إذا كان بينهما زمان يصلح فيه التناسخ قالوا يتوقف في حق الاعتقاد ويعمل بالنص العام بعمومه ولا يبنى على الخاص، وتوجيه هذه الأقوال مذكورة فيه فليراجعه من أراد ذلك.
"ومنه" أي التعارض صورة في الكتاب والتعارض "ما" أي الذي "بين قراءتي آية الوضوء من الجر" لابن كثير وأبي عمرو وحمزة "والنصب" للباقين "في أرجلكم" من قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] "المقتضيتين مسحهما" أي الرجلين كما هو ظاهر قراءة الجر "وغسلهما" كما هو ظاهر قراءة النصب "فيتخلص" من هذا التعارض "بأنه تجوز بمسحهما" المفاد ب وامسحوا المقدر الدال عليه الواو "عن الغسل" مشاكلة كما في قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه…قلت اطبخوا لي جبة وقميصا(25/12)
فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد "والعطف فيهما" أي القراءتين "على رءوسكم" ولعل فائدته التحذير من الإسراف المنهي عنه إذ غسلهما مظنة له لكونه يصب الماء عليهما فعطفت على الممسوح لا لتمسح بل للتنبيه على وجوب الاقتصاد فكأنه قال اغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها بالمسح وإنما قلنا تجوز بمسحهما عن غسلهما "لتواتر الغسل عنه صلى الله عليه وسلم" لهما إذ قد "أطبق من حكى وضوءه" من الصحابة "ويقربون من ثلاثين عليه" أي على غسله صلى الله عليه وسلم رجليه يزيدون على ذلك. وقد أسعف المصنف بذكر اثنين وعشرين منهم في فتح القدير عثمان رواه البخاري ومسلم وعلي رواه أصحاب السنن وعائشة رواه النسائي وغيره وابن عباس والمغيرة رواه البخاري وغيره وعبد الله بن زيد رواه الستة وأبو مالك الأشعري وأبو هريرة وأبو أمامة والبراء بن عازب رواه أحمد وأبو بكر رواه البزار ووائل بن حجر رواه الترمذي ونفيل بن مالك رواه ابن حبان وأنس رواه الدارقطني وأبو أيوب الأنصاري وأبو كاهل وعبد الله بن أنيس رواه الطبراني والمقدام بن معدي كرب وكعب بن عمرو اليامي والربيع بنت معوذ وعبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود وعبد الله بن أبي أوفى رواه أبو يعلى وممن حكاه أيضا زيادة على هؤلاء عمر رواه عبد بن حميد وابن عمر وأبي بن كعب رواه ابن ماجه ومعاوية رواه أبو داود ومعاذ بن جبل وأبو رافع وجابر بن عبد الله وتميم بن غزية الأنصاري وأبو الدرداء وأم سلمة رواه الطبراني وعمار رواه الترمذي وابن ماجه وزيد بن ثابت رواه الدارقطني فبلغت الجملة أربعة وثلاثين، وباب الزيادة مفتوح للمستقرئ. ثم المراد اتفاق الجم الغفير الذي يمنع العقل تواطؤهم على الكذب من الصحابة على نقل غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم ثم اتفاق الجم الغفير الذين هم بهذه المثابة التابعين على نقل ذلك عن الصحابة وهلم جرا حتى إلينا وليس معنى التواتر إلا هذا "وتوارثه" أي ولتوارث غسلهما(25/13)
"من الصحابة" أي لأخذنا غسلهما عمن يلينا وهم ذلك عمن(25/14)
ص -9-…يليهم وهكذا إلى الصحابة وهم أخذوه بالضرورة عن صاحب الوحي فلا يحتاج إلى أن ينقل فيه نص معين. ثم النسخ في المسح المقدر لهما في الآية منتف اتفاقا فتعين تجوزه فيهما عن الغسل لإمكانه وإلجاء الدليل إليه "وانفصال ابن الحاجب عن المجاورة" أي عن جر الأرجل بالمجاورة لقوله {بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] "إذ ليس" الجر بها "فصيحا" أي قال لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح "بتقارب الفعلين" أي امسحوا واغسلوا "وفي مثله" أي تقارب الفعلين "تحذف العرب" الفعل "الثاني وتعطف متعلقه على متعلق" الفعل "الأول كأنه" أي متعلق الفعل الأول "متعلقه" أي الفعل الثاني كقولهم متقلد سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا إذ الأصل ومعتقلا رمحا وسقيتها ماء باردا فحذفا وعطف متعلقهما على متعلق ما قبلهما، والآية من هذا القبيل أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم فحذف اغسلوا وعطف متعلقه وهو أرجلكم على متعلق الأول وهو رءوسكم فبعد الإغضاء عن المناقشة في أنه لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح بوقوعه في نحو قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26، والزخرف:65] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] في قراءة حمزة والكسائي إلى غير ذلك وفي أنه لا حذف في النظيرين المذكورين بل ضمن متقلدا معنى حاملا وعلفتها معنى أنلتها والتزم على هذا صحة علفتها ماء باردا وتبنا لما ألزم به لقول طرفة:
لها سبب ترعى به الماء والشجر(25/15)
"غلط" منه وهو خبر انفصال "إذا لا يفيد" هذا منه ما قصده من الخروج عن المجاورة في القرآن "إلا في اتحاد إعرابهما" أي إلا إذا كان إعراب المتعلقين المتعاطفين من نوع واحد كما ذكر في علفتها وسقيتها "وليست الآية منه" أي مما اتحد فيه إعراب المتعلقين المتعاطفين بل هو مختلف فيهما؛ لأنه على ما ذكر تكون الأرجل منصوبة؛ لأنها معمول اغسلوا لمحذوف فحين ترك إلى الجر الذي هو المشاكل لإعراب الرءوس "فلا يخرج" جرها "عن الجوار" بجر رءوسكم فما هرب منه وقع فيه "وما قيل" أي وما في التلويح علاوة على ما تقدم أولا "في الغسل المسح" وزيادة "إذا لا إسالة" وهي معنى الغسل "بلا إصابة" وهي معنى المسح "فينتظمه" أي الغسل المسح "غلط بأدنى تأمل"؛ لأن الغسل لا ينتظمه وإنما ينتظم المعنى الأعم المشترك بينهما وهو مطلق الإصابة وهي إنما تسمى مسحا إذا لم يحصل سيلان "ولو جعل" الغسل "فيهما" أي الرجلين بالعطف "على وجوهكم" في القراءتين وقد كان حقه النصب كما هو إحداهما لكون المعطوف عليه كذلك لكنه كما قال "والجر" لأرجلكم "للجوار" لرءوسكم "عورض بأنه" أي الجر "فيهما" بالعطف "على رءوسكم والنصب" بالعطف "على المحل" أي محل رءوسكم كما هو اختيار المحققين من النحاة فإن محله النصب "ويترجح" هذا "بأنه" أي العطف على المحل "قياس" مطرد يظهر في الفصيح وإعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي "لا الجوار" فإنه في العطف شاذ إذ الحمل على الشائع المطرد حيث أمكن مقدم على الشاذ "و" منه ما بين "قراءتي التشديد في يطهرن" لحمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن(25/16)
ص -10-…عباس من قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] "المانعة" من قربانهن "إلى الغسل والتخفيف" فيه للباقين المانعة من قربانهن "إلى الطهر" أي الانقطاع "فيحل" قربانهن "قبله" أي الاغتسال "بالحل الذي انتهى. ما عرضه من الحرمة فتحمل تلك" أي فيتخلص من هذا التعارض بحمل قراءة التشديد "على ما دون الأكثر" من مدة الحيض الذي هو العادة لها ليتأكد جانب الانقطاع به أو بما يقوم مقامه على تقدير عدمه لتوهم معاودة الدم فإنه ينقطع تارة ويدر أخرى والوقت صالح له "وهذه" أي قراءة التخفيف "عليه" أي على أكثر مدة الحيض؛ لأنه انقطاع بيقين، وحرمة القربان إنما كانت باعتبار قيام الحيض فلا يجوز تراخيها إلى الاغتسال لأدائها إلى جعل الطهر حيضا وإبطال التقدير الشرعي ومنع الزوج من حق القربان بدون العلة المنصوص عليها وهو الأذى والكل غير جائز فإن قيل إنما يتم هذا التخلص أن لو قرئ فإذا طهرن بالتخفيف كما قرئ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بالتشديد ليكون التخفيف موافقا للتخفيف، والتشديد موافقا للتشديد ولم يقرأ فثبت أن المراد الجمع بين الطهر والاغتسال بالقراءتين أجيب بالمنع وليس المراد الجمع بينهما فيهما لما ذكرنا من اللازم الممنوع فيحمل {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف على طهرن بالتخفيف أيضا "وتطهرن بمعنى طهرن" غير مستنكر فإن تفعل تجيء بمعنى فعل من غير أن يدل على صنع "ك تكبر" وتعظم "في صفاته تعالى" إذ لا يراد به صفة تكون بإحداث الفعل "وتبين" بمعنى بان وظهر "محافظة على حقيقة يطهرن بالتخفيف" وأورد يلزم من هذا التعميم المشترك إن كان يطهرن حقيقة في الانقطاع كما في الاغتسال والجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان مجازا في الانقطاع ودفع بالمنع؛ لأن إرادة الانقطاع حال اختبار التخفيف وهو في هذه الحالة ليس له معنى غيره وإرادة الاغتسال حال اختيار التشديد هو في هذه الحالة ليس له معنى غيره(25/17)
والحالتان لا يجتمعان إذ لا يقرأ بهما في حالة واحدة فلا جمع بينهما إذ من شرطه اتحاد الحالة ولم توجد "وكلاهما" أي المحملين المذكورين "خلاف الظاهر" كما رأيت "لكنه" أي حمل قراءة التخفيف على مجرد الانقطاع على الأكثر "أقرب" من حملها على الاغتسال "إذ لا يوجب" حملها على ذلك "تأخر حق الزوج" في الوطء "بعد الانقطاع بارتفاع العارض المانع" من ذلك وهو الحيض "مع قيام المبيح" وهو الحل الأصلي الثابت قبل عروض هذا المحرم بخلاف حملهما على الاغتسال فإنه يوجب ذلك، فالقول بأن ذاك الحمل متعين أحق من أنه أقرب ثم هذا جمع من قبل الحال كما سيفصح به المصنف.
"و" منه "بين آيتي اللغو" في اليمين وهي عند أصحابنا وأحمد الحلف على أمر يظن أنه كما قال وهو بخلافه وعند الشافعي وأحمد في رواية كل يمين صدرت عن غير قصد في الماضي وفي المستقبل "تقيد إحداهما" أي {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] "المؤاخذة بالغموس" وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد الكذب به "لأنها مكسوبة" أي مقصودة بالقلب "والأخرى" أي {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] "عدمه" أي أن لا يأخذ بالغموس "إذ ليست" الغموس "معقودة"؛(25/18)
ص -11-…لأن العقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه وقد قوبلت باللغو فيكون اللغو الخالية عن الفائدة واللغو بهذا المعنى ثابت قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25] {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] "فدخلت" الغموس في هذه الآية "في اللغو لعدم الفائدة التي تقصد اليمين لها" شرعا وهي تحقيق العمد والصدق في الغموس إذ لا يتصور فيها فلا يكون مؤاخذا بها "وخرجت" الغموس "منه" أي من اللغو "في" الآية "الأخرى" ودخلت في المكسوبة "بشمول الكسب إياها" أي الغموس فيكون مؤاخذا بها "وأفادت" هذه الآية الأخرى "ضدية" حكم "اللغو" وهو المؤاخذة "للكسب" أي؛ لأن حكم اللغو عدم المؤاخذة "فهو" أي اللغو هنا "السهو" فتعارضتا في الغموس حينئذ "والتخلص" من هذا التعارض "عند الحنفية بالجمع" بينهما "بأن المراد بالمؤاخذة" الثابتة للغموس "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية" وهي العقاب "وفي الثانية" أي والمراد بالمؤاخذة المنفية عن الغموس في الآية الثانية المؤاخذة "الدنيوية بالكفارة" فتغايرت المؤاخذتان فلا تعارض "أو" المراد باللغو في الآيتين الخالي عن القصد وبالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الأخروية" والغموس في المكسوبة لا في المعقودة فالآية الأولى أوجبت المؤاخذة على الغموس "و" الآية "الثانية ساكتة عن الغموس وهي" أي الغموس "ثالثة" وعلى هذا مشى صدر الشريعة.(25/19)
فإن قيل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} تفسير للمؤاخذة والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختصة بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة "أي يؤاخذكم في الآخرة بما عقدتم" أي إذا جعل الإثم باليمين المنعقدة "فطريق دفعه" أي الفعل الذي هو المؤاخذة على المعقودة الحانثة فيما لا يجب فيه الحنث "وستره إطعام" عشرة مساكين إلخ، وكذا فيما يجب فيه الحنث قال المصنف ووجه المؤاخذة في هذه ما تضمنه من سوء الأدب على الشرع فإنه لما حرم تعالى الخمر فحلف ليشربنها فقد بالغ في المكابرة على قصد المخالفة فإن لم يفعل حتى سلم من إثم ارتكاب النهي بقي عليه إقدامه على اليمين على فعل ما نهي عنه فدفعه الله عنه كرما وفضلا بالكفارة فصار الحاصل من الآيتين أنه أثبت المؤاخذة على الغموس والمنعقدة في الآخرة ثم دفع المؤاخذة عن المنعقدة بشرع الكفارة فبقيت الغموس مسكوتا عنها في ذلك فلم تشرع الكفارة فيها دافعة ساترة.
"واحتج الأول" أي القائل بأن المراد بالمؤاخذة في الأولى الأخروية وفي الثانية الدنيوية فلا تكون الغموس واسطة بين اللغو والمنعقدة "بأن المفهوم من: لا يؤاخذ بكذا لكن" يؤاخذ "بكذا عدم الواسطة" أي كون الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما كما في التلويح فلو كانت المؤاخذة فيهما المؤاخذة الأخروية لزم كون المؤاخذ به في الآيتين واحدا قلت وهذا ظاهر الورود على أن المراد المؤاخذة الأخروية، أما لو أريد المؤاخذة(25/20)
ص -12-…مطلقا عقوبة كانت أو كفارة فلا؛ لأنه حينئذ لا يمكن دخول الغموس في اللغو؛ لأنها كبيرة محضة نطق الحديث الصحيح بها واليمين اللغو ليست كذلك ولا في المعقودة؛ لأنها توجب الكفارة ولا كفارة في الغموس لما أخرج أحمد بسند صرح ابن عبد الهادي بجودته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس ليس لهن كفارة" وذكر منهن ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" إلى غير ذلك وكل من قال: لا كفارة في الغموس لم يفصل بين اليمين الصابرة أي المصبورة على مال كذبا وبين غيرها وهي المفضي بها؛ لأنها مصبور عليها أي محبوس "وعند الشافعي" المراد بالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الدنيوية وهي" أي الغموس عنده "داخلة في المعقودة" بناء على حمل العقد على القلب كقول الشاعر:
عقدت عن قلبي بأن يكتم الهوى(25/21)
"كما" هي داخلة "في المكسوبة فلا تعارض، ودفعه" أي دخولها في المعقودة كما أشار إليه غير واحد "بأن حقيقة العقد بغير القلب" أي بأن فيه عدولا عن الحقيقة بغير ضرورة؛ لأن العقد ربط الشيء بالشيء، وذلك حقيقة في العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الكلامين بالآخر وارتباط الكلام بمحل الحكم إن كان الكلام واحدا، وعزم القلب لا يرتبط بشيء؛ لأنه لا يوجب حكما فإطلاق اسم العقد عليه مجاز؛ لأنه سبب العقد فلا تكون الغموس معقودة حقيقة بل مجازا ثم دفعه مبتدأ خبره "قد يمنع" مبنيا للمفعول "بأنه" أي العقد "أعم" من أن يكون في الأعيان أو المعاني "يسند إلى الأعيان فيراد" به "الربط" لبعضها ببعض "وإلى القلب فعزمه" أي فيراد به عزم القلب "وكثر" إطلاق عزم القلب على هذا المعنى "في اللغة" وفي التلويح على أن عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه وجعله ثابتا عليه أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه فإنه من مخترعات الفقهاء، وأجيب بأن العقد بمعنى الربط وإن كان حقيقة في الأعيان إلا أنه في عرف الشرع صار حقيقة شرعية في قول يكون له حكم في المستقبل لارتباط بينهما كما يدل عليه قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ لأن الأمر بالإيفاء لا يصلح إلا لما له حكم في المستقبل فلا يصار إلى غيره إلا عند تعذره ولم يتعذر "بل" الأولى في الجواب أن يقال "الظاهر" أن المراد بالمؤاخذة "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية للإضافة إلى كسب القلب" كما أشار إليه صدر الشريعة إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في المؤاخذة الدنيوية في بعض الصور كما في حقوق العباد فلا يصار إليها عند عدم الدليل على أن الغموس كبيرة محضة لا تناسب الكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة فاندفع رد ذلك في حقوق الله لا سيما الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة، وقال غير واحد من المحققين؛ لأنها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الكامل والأخروية هي الكاملة؛ لأن الآخرة خلقت(25/22)
للجزاء كما يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] فتجازى فيه على وفاق عملها بخلاف الدنيا فإنها دار ابتلاء قد يؤاخذ فيها المطيع بجناية تطهيرا وقد ينعم العاصي بها استدراجا على أن المؤاخذات في الدنيا شرعت بأسباب فيها نوع ضرر لتكون زواجر فيها إصلاحنا فلا(25/23)
ص -13-…تتمحض مؤاخذة لحق الله وإنما تتمحض في الآخرة فلم يكن الحكم الثابت في أحد النصين الحكم الثابت في الآخرة فبطل التدافع.
"وهذا" الجمع بين مضمون هاتين الآيتين "جمع من قبل الحكم" باختلافه فيهما. "ومنه" أي الجمع من قبل الحكم "توزيعه" أي الحكم بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد الدليلين وبعضها منفيا بالآخر "كقسمة المدعي بين المثبتين" أي مدعي كل منهما إياه كلا بحجته "وما قيل" أي قيل هذا الجمع في قراءتي التشديد والتخفيف في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هو "من قبل الحال" فإنه قد حمل إحداهما على حالة والأخرى على حالة كما رأيت وعبر عنه صدر الشريعة بالمحل "ويكون" الجمع بينهما "من قبل الزمان صريحا بنقل التأخر" لأحدهما عن الآخر كقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن بينهما تعارضا في حق الحامل المتوفى عنها زوجها، وجمع الجمهور بينهما بأن {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] الآية "بعد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} الآية كما صح عن ابن مسعود وتقدم تخريجه في البحث الخامس في التخصيص "أو" يكون من قبل الزمان "حكما كالمحرم" أي كتقديمه "على المبيح" إذا عارضه "اعتبارا له" أي للمحرم "متأخرا" عن المبيح "كي لا يتكرر النسخ" على تقدير كون المحرم مقدما على المبيح "بناء على أصالة الإباحة" فإن المحرم حينئذ يكون ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم بخلاف تقدير كون المحرم متأخرا مع القول بأصالة الإباحة فإنه لا يتكرر النسخ؛ لأن المبيح وارد لإبقائها حينئذ والمحرم ناسخ له والأصل عدم التكرار وتقدم ما في أصالة الإباحة في المسألة الثانية من مسألتي التنزل في فصل الحاكم من البحث والتحرير فليطلب ثمة "ولأنه" أي تقديم(25/24)
المحرم على المبيح "الاحتياط"؛ لأن فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء عنه واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وهو ينعدم في المبيح، والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن ابن أبان وأبي هاشم أنهما يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة كالغرقى إذا لم يتقدم بعضهم على بعض ثم من أمثله هذا ما ورد في تحريم الضب وإباحته إذ في سنن أبي داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب". وروى أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار برجال الصحيح عن عبد الرحمن بن حسنة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصبنا منها فذبحنا فبينما القدور تغلي بها خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أمة من بني إسرائيل فقدت وإني أخاف أن تكون هي فأكفئوها فأكفأناها وإنا لجياع" وروى الجماعة إلا الترمذي عن خالد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إليه ضب فأهوى بيده إليه فقيل هو الضب يا رسول الله فرفع يده فقال خالد أحرم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني" فتعارض المحرم والمبيح فجعلنا المحرم آخرا لما قلنا من تقليل معنى النسخ له كالطحاوي في شرح الآثار محجوج بهذا.(25/25)
ص -14-…"ولا يقدم الإثبات" لأمر عارض "على النفي" له كما ذهب إليه الكرخي والشافعية "إلا إن كان" النفي لا يعرف بالدليل بل كان "بالأصل" أي بناء على العدم الأصلي فإن الإثبات يقدم عليه حينئذ. "كحرية" مغيث "زوج بريرة؛ لأن عبديته كانت معلومة فالإخبار بها" أي بعبديته كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها وكان زوجها عبدا "بالأصل" أي بناء على أن رقبته لم تتغير فهذا نفي لا يدرك عيانا بل بناء على ما كان من ثبوتها والإخبار بحريته كما في الكتب الستة أنه كان حرا حين أعتقت إثباتا لأمر عارض على ما ثبت له أولا من الرقبة فيقدم عليه لاشتماله على زيادة علم ليست في النفي المذكور فلا جرم أن ذهب أصحابنا إلى ثبوت خيار العتق لها عبدا كان زوجها أو حرا خلافا لهم فيما إذا كان حرا "فإن" كان النفي "من جنس ما يعرف بدليله عارضه" أي الإثبات لتساويهما "وطلب الترجيح" لأحدهما بوجه آخر "كالإحرام في حديث ميمونة رضي الله عنها" أي ما في الكتب الستة عن ابن عباس: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم". زاد البخاري وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف. وفي رواية النسائي تزوج نبي الله ميمونة وهما محرمان. فإنه "نفي لأمر" عارض وهو الإحرام على الأصل الذي هو الحل "يدل عليه هيئة محسوسة" من التجرد ورفع الصوت بالتلبية "فساوى رواية" مسلم وابن ماجه عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وزاد فيه أبو يعلى: بعد أن رجعنا من مكة رواية الترمذي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي رافع تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما. "ورجح نفي ابن عباس على" إثبات "ابن الأصم وأبي رافع" بقوة السند وخصوصا بالنسبة إلى حديث أبي رافع فقد. قال الترمذي لا نعلم أحدا أسنده غير حماد عن مطر يعني عن ربيعة عن سليمان بن يسار. قال(25/26)
ابن عبد البر وهو غلط منه؛ لأن سليمان ولد سنة أربع وثلاثين ومات أبو رافع قبل عثمان بسنتين وكان قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يروي عنه قال شيخنا الحافظ رواه الطبراني من طريق ابن سلام بن المنذر عن مطر موصولا لكنه خالف في إسناده فقال عن عكرمة عن ابن عباس فوهم من وجهين والمحفوظ عن ابن عباس: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم". انتهى. ومطر ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بل قال الطحاوي لا يحتج بحديثه عندهم وبضبط الرواة وفقههم وخصوصا ابن عباس إذ ناهيك به فقاهة وضبطا واتفاقا ولذا قال عمرو بن دينار للزهري وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال على ساقه أتجعله مثل ابن عباس. وقال الطحاوي الذين رووا أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها وهو محرم أهل علم وثبت من أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وهؤلاء كلهم فقهاء والذين نقلوا عنهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح وهؤلاء أئمة يقتدى برواياتهم إلى غير ذلك.
"هذا بالنسبة إلى الحل اللاحق" للإحرام "وأما على إرادة" الحل "السابق" على الإحرام "كما في بعض الروايات" أي ما في موطأ مالك عن سليمان بن يسار قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا(25/27)
ص -15-…رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج وفي معرفة الصحابة للمستغفري قبل أن يحرم" فابن عباس مثبت ويزيد" بن الأصم "ناف فيترجح" حديث ابن عباس "بذات المتن" لترجيح المثبت على النافي "ولو عارضه" أي نفي يريد إثبات ابن عباس لكون نفي يزيد مما يعرف بدليله؛ لأن حالة الحل تعرف بالدليل أيضا وهو هيئة الحلال "فيما قلنا" أي فالترجيح لحديث ابن عباس قلنا من قوة السند وفقه الراوي ومزيد ضبطه فترجح قول أصحابنا بجواز عقد نكاح المحرم والمحرمة حالة الإحرام على قول الأئمة الثلاثة بعدم الجواز "وعرف" من هذا "أن النافي راوي الأصل" أي الحالة الأصلية للمروي عنه بالنسبة للمثبت كما أن المثبت هو الراوي الحالة العارضة على تلك الحالة الأصلية "فإن أمكنا" أي كون النفي بناء على الدليل وكونه بناء على العدم الأصلي "كحل الطعام وطهارة الماء" فإن كلا منهما "نفي يعرف بالدليل" بأن ذبح شاة وذكر اسم الله عليها وغسل إناء بماء السماء أو بماء جار ليس به أثر نجاسة وملأه بأحدهما ولم يغب عنه أصلا ولم يشاهد وقوع نجاسة فيه "والأصل" بأن يعتمد على أن الأصل في المذبوحة الحل ولم يعلم ثبوت حرمة فيها وفي الماء الطهارة ولم يعلم وقوع نجاسة فيه "فلا يعارض" الإخبار بهما "ما" أي الإخبار "بحرمته ونجاسته ويعمل بهما" أي بالحل في الطعام والطهارة في الماء "إن تعذر السؤال" للمخبر عن مستنده؛ لأن الاستصحاب وإن لم يصلح دليلا يصلح مرجحا فيرجح الخبر النافي به "وإلا" إذا لم يتعذر السؤال للخبر عن مستنده "سئل" المخبر "عن مبناه" أي مبنى خبره "فعمل بمقتضاه" فإن تمسك المخبر بظاهر الحال من أن الأصل في الشاة الحل وفي الماء الطهارة ولم يعلم ما ينافيهما فخبر الحرمة والنجاسة أولى؛ لأنه خبر عن دليل فلا يعارض الخبر المثبت وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات فيقع التعارض ثم يجب العمل بالأصل لما(25/28)
ذكرنا.
"ومثل الحنفية تقرير الأصول" لمتعلق المتعارضين إذا لم يكن بعدهما دليل يصار إليه "بسؤر الحمار" أي البقية من الماء الذي شرب منه في الإناء "تعارض في حل لحمه وحرمته المستلزمتين لطهارته" أي سؤره "ونجاسته الآثار" ففي الصحيحين عن جابر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر". والنهي عنها يدل على تحريمها وحرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء إذا لم يكن للكرامة آية النجاسة ولحمها من هذا القبيل فيكون نجسا وإذا كان نجسا كان لعابه نجسا؛ لأنه يجلب من اللحم وهو يخالط الماء فيكون نجسا وفي سنن أبي داود عن غالب بن أبجر قال: "أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" وهذا يدل على حلها وإذا كانت حلالا كانت طاهرة وإذا كانت طاهرة كان سؤرها طاهرا لأن اللعاب المختلط به طاهر. "فقرر حديث المتوضئ به" أي بسوره على ما كان عليه من الوجود "وطهارته" أي(25/29)
ص -16-…السؤر على ما كان عليه الماء قبل مخالطة اللعاب له قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي تقرير الأصول "حكم عدم الترجيح لكن رجحت الحرمة" على الإباحة إذا تعارضتا كما تقدم آنفا فينبغي أن ترجح هنا أيضا الحرمة الموجبة للنجاسة وكيف لا وحديث التحريم صحيح الإسناد، والمتن لا اضطراب فيه وحديث الإباحة مضطرب الإسناد ذكره البيهقي ثم النووي ثم المزي ثم الذهبي فلم يوجد ركن المعارضة على أن في دلالته على الإباحة مطلقا نظرا فإن القصة تشير إلى اضطرارهم ومن ثمة قال البيهقي وإن صح فإنما رخص له عند الضرورة وأيضا هو مصرح بتأخره عن حديث التحريم فلو صح مفيد الإباحة مطلقا لكان ناسخا للتحريم موجبا للطهارة "والأقرب" في تقرير الأصول في هذا المثال لوجود التعارض الملجئ إلى ذلك "تعارضت الحرمة المقتضية للنجاسة والضرورة المقتضية للطهارة" فيه؛ لأن الحمار في الدور والأفنية ويشرب في الأواني المستعملة ويحتاج إليه في الركوب والحمل "ولم تترجح" الطهارة "للتردد فيها" أي الضرورة المسقطة للنجاسة "إذا ليس كالهرة" في المخالطة حتى تسقط نجاسته كما سقطت نجاسة سؤر الهرة؛ لأن الهرة تلج المضايق دونه "ولا الكلب" في المجانبة الغالبة حتى لا تسقط نجاسته لانعدام الضرورة في الكلب دونه "ولا النجاسة" لما فيه من إسقاط حكم الضرورة بالكلية وأنه خلاف النظر فتساقطتا ووجب المصير إلى الأصل فالماء كان طاهرا فلا يتنجس بما لم تتحقق نجاسته والسؤر بمقتضى حرمة اللحم نجس فلا يحكم بطهارته ولا بنجاسة الماء الواقع فيه وعلى هذا مشى شيخ الإسلام صاحب المبسوط.(25/30)
تتميم ثم إذا كان الكتاب لبيان اصطلاحي الحنفية والشافعية وما تقدم بيان اصطلاح الحنفية فلا بأس بذكر اصطلاح الشافعية تكميلا وحاصله على ما ذكره الإمام الرازي وغيره أن النصين المتعارضين قسمان أحدهما أن يكونا متساويين في القوة بأن يكونا معلومين أو مظنونين وفي العموم بأن يصدق كل على ما يصدق عليه الآخر وهذا له ثلاثة أحوال: الأول أن يعلم تأخر ورود أحدهما بعينه عن الآخر فالمتأخر ناسخ للمتقدم إذا كان مدلوله قابلا للنسخ سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وإن كان غير قابل للنسخ تساقطا، ووجب الرجوع إلى غيرهما ومن لم يجوز النسخ عند اختلاف الجنس يمنع ورود هذا القسم والخاصان حكمهما هذا الحكم، الثاني أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين تساقطا لاحتمال كل منهما أن يكون هو المنسوخ احتمالا على السواء ووجب الرجوع إلى غيرهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا تخير المجتهد، الثالث أن تعلم مقارنتهما فإن كانا معلومين وأمكن التخيير فيهما تعين القول به؛ لأنه تعذر الجمع ولا يترجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد، وإنما يرجع إلى الحكم ككون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية وهو غير جائز، وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا قوة فالتخيير، ثانيهما أن لا يتساويا في القوة والعموم معا. وهذا له ثلاثة(25/31)
ص -17-…أحوال أيضا: الأول أن لا يتساويا في القوة بأن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فيترجح القطعي ويعمل به إن كانا عامين أو خاصين أو القطعي خاصا والظني عاما فإن كان القطعي عاما والظني خاصا يرجح الخاص على العام ويعمل به جمعا بينهما سواء علم تأخره عن العام أم لا؛ لأن الصحيح أن المظنون يخصص المعلوم؛ لأن فيه إعمالا للدليلين أما الخاص ففي جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الأفراد التي لم تخصص، ومنع التخصيص يقضي إلى إلغاء أحدهما وهو الخاص وإعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما وفي شرح المنهاج للإسنوي نعم إن عملنا بالعام المقطوع به ثم ورد الخاص بعد ذلك فلا نأخذ به إذا كان مظنونا؛ لأن الأخذ به في هذه الحالة نسخ لا تخصيص ونسخ المقطوع بالمظنون لا يجوز، الثاني أن يتساويا في القوة لا في العموم فإن كانا عامين وكان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سواء كانا قطعيين أو ظنيين علم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه يصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أو ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا أو شرعيا أو مثبتا والآخر إباحة أو عقليا أو نافيا ونحو ذلك، وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد، الثالث أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن كانا عامين وأحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فيرجح الظن بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو مثبتا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وإن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا والله تعالى أعلم.
مسألة(25/32)
"لا شك في جري التعارض بين قولين ونفيه" أي ولا في نفي جريه "بين فعلين متضادين" لجواز كون الفعل المضاد لغيره واجبا أو مندوبا أو مباحا في وقت وليس كذلك في وقت آخر مثله من غير رفع وإبطال لذلك الحكم إذ لا عموم للفعلين ولا لأحدهما "كصوم يوم وفطر في مثله" أي مثل ذلك اليوم بأن كان الصوم في يوم السبت والفطر في سبت آخر قال المصنف وهذا نص من قول عضد الدين وفطر في يوم آخر ثم قال استثناء من نفيه "إلا إن دل على وجوبه" أي ذلك الفعل "عليه" صلى الله عليه وسلم "ونحوه" أي أو على ندبه أو إباحته "وسببية متكرر" أي ودل مع ذلك على سببية متكرر لذلك الوجوب أو الندب بأن دل أن يوم السبت جعل سببا لوجوبه أو ندبه فإنه حينئذ يثبت التعارض بواسطة هذه الدلالة فيكون فطره في يوم السبت الآخر بعد هذه الدلالة دليل رفع ما وجب من صوم كل سبب "وتقدمت الدلالة على "أن الأمة مثله" صلى الله عليه وسلم فيما عرفت فيه صفة الفعل وقد فرض أنه دل هنا على صفة الفعل في حقه، وتكرره بتكرر ثبوته في حق الأمة على تلك الصفة فحينئذ "فالنافي" وهو فطره "ناسخ عن الكل"؛ لأن فطره المتأخر مثبت بحكم تلك الدلالة المتقدمة على الأمة الفطر كما أن صومه كان(25/33)
ص -18-…مثبتا ذلك فلهذا يلزم أن فطره المتأخر ناسخ عنه وعن الأمة الصفة المتقدمة منه. "وعن الكرخي وطائفة" أن فعله الثاني ينسخ "عنه" صلى الله عليه وسلم "فقط" بناء على أن قوله لا يوجب في حق الأمة شيئا بدليل الوجوب عليه ونحوه ومن الندب والإباحة، ودليل التكرر يخصه "وأما" التعارض "بين فعل" للنبي صلى الله عليه وسلم "عرفت صفته" من وجوب أو ندب مثلا "في حقه وقول" ينفي ذلك كأن يصوم يوم السبت ثم يقول صومه حرام "فعلى المختار من أن أمته مثله وجوبا أو غيره" لا يخلو من أن يدل على سببية متكرر لوجوب ذلك الفعل ونحوه أو لا "فمع دليل سببية متكرر، والقول خاص به" كقوله صوم يوم السبت حرام علي "نسخ عنه المتأخر منهما" أي القول والفعل الآخر "ولا معارضة فيهم" أي في الأمة "فيستمر ما فيهم" أي عليهم ما كان ثبت عليهم من الاتباع على الوجه الثابت في حقه إذ الناسخ لم يتعرض سواه صلى الله عليه وسلم "فإن جهل" المتأخر منهما اختلف فيه "قيل يؤخذ بالفعل فيثبت" الفعل "على صفته على الكل" أي فيلزمه أي يستمر ما كان وعليهم "وقيل" يؤخذ "بالقول فيخصه النسخ ويثبت ما فيهم" أي يستمر عليهم مقتضى الفعل من الاتباع على الوجه الذي عرف عليه "وقيل يتوقف" في حقه "وهو المختار دفعا للتحكم" أي الترجيح بلا مرجح إذ جواز تقدم كل منهما وتأخره ثابت فالتعيين تحكم "في حقه وثبت" أي ذلك الفعل "ما فيهم" أي على الأمة على صفته لعدم المعارضة في حقهم "وإن" كان القول "خاصا بهم" أي الأمة بأن صام يوم السبت وقال لا يحل للناس صومه "فلا تعارض في حقه فما كان له" أي ثابتا في حقه من وجوب أو ندب متكررين أو إباحة فهو ثابت عليه "كما كان وفيهم" أي في الأمة "المتأخر ناسخ وإن جهل" المتأخر منهما فأقوال أحدهما يؤخذ بالفعل فيجب عليهم الصوم ثانيها يؤخذ بالوقف فلا يثبت حكم "فثالثها" وهو "المختار" يؤخذ "بالقول" فيحرم عليهم الصوم "لوضعه" أي القول "لبيان المرادات" القائمة(25/34)
بنفس المتكلم "وأدليته" أي؛ لأنه أدل من الفعل على خصوص المراد "وأعميته" أي ولأنه أعم دلالة أي فأفراد مدلولاته أكثر لذا يدل به على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس "بخلاف الفعل" فإن له محامل وإنما يفهم منه ذلك في بعض الأحوال بقرينة خارجية فيقع الخطأ فيه كثيرا ويختصر بالموجود والمحسوس؛ لأن المعدوم والمعقول لا يمكن مشاهدتهما بل الفعل "إنما يدل على إطلاقه" نفسه "للفاعل" لا على وجوبه أو ندبه أو إباحته "فإن دل على الاقتداء" أي على اقتداء غير الفاعل به "فبذلك" الدال لا بالفعل "وإنما يثبت معه" أي مع الفعل بعد دلالته على مجرد إطلاقه للفاعل "احتمالات" الوجوب والندب والإباحة للفاعل وغيره ولا يتعين شيء منهما بالفعل بل "إن تعين بعضها فبغيره" أي غير الفعل "وكونه" أي الفعل "قد يقع بيانا للقول" أي لصورة مدلول القول إنما هو "عند إجماله" أي القول فيها كفعل الصلاة "وكلامنا" في الترجيح "مع عدمه" أي الإجمال "والفرق" بين ما تقدم وهو ما إذا كان خاصا به حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر وبين ما هنا حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر "أنا هنا" أي فيما إذا كان خاصا بنا "متعبدون بالاستعلام لتعبدنا بالعمل" المتوقف عليه "لا هناك" فإنا لسنا هناك مأمورين باستعلام حاله صلى الله عليه وسلم في جهلنا بالمتأخر "إذ لم تؤمر به في حقه(25/35)
ص -19-…وهو" صلى الله عليه وسلم "أدرى به" أي المتأخر الذي يلزمه حكمه "أو" كان القول "شاملا" له ولهم بأن فعل الصوم ثم قال حرم علي وعليكم "فالمتأخر ناسخ عن الكل" أي عنه وعن أمته فإن كان الفعل فيثبت في حق الكل وإن كان القول فيحرم على الكل "وفي الجهل" بالمتأخر قدم "بالقول" فيحرم الصوم على الكل "لوجوب الاستعلام في حقنا" فيجب البحث عنه "وباتفاق الحال بعلم حاله مقتضى للشمول" أي ثم يلزم من بحثنا العلم بحاله صلى الله عليه وسلم باتفاق الحال لا بالقصد بالبحث إلى استعلامه في حقه "لكنا لا نحكم به" عليه "لما ذكرنا" من أنا لسنا مأمورين باستعلام حاله في جهلنا بالمتأخر بل هو أدرى بالمتأخر الذي يلزمه حكمه.(25/36)
ثم شرع في قسيم قوله فمع دليل سببية متكرر فقال "وأما مع عدم دليل التكرار" أي إذا كان الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا دليل على تكرره وعلمت صفته وجوبا أو ندبا فلا يخلو القول: إما أن يكون خاصا به أو بالأمة أو شاملا له ولهم فأشار إلى الأول بقوله "والقول الخاص به معلوم التأخر" بأن يفعل شيئا ثم يعلم أنه قال بعده لا يحل لي فعله فلا شيء عليه لعدم معارضته للفعل؛ لأنه إن كان واجبا عليه أو مندوبا "فقد أخذت صفة الفعل مقتضاها منه بذلك الفعل الواحد"؛ لأن الإيجاب لا يقتضي التكرار ولم يقم دليل عليه فإنما يجب أو يندب مرة وقد فعله مرة فلا شيء عليه "والقول شرعية مستأنفة في حقه لا ناسخ" للفعل؛ لأنه لا يقتضي التكرار وقد فعله فتم أمره "ويثبت في حقهم" أي الأمة الفعل "مرة بصفته" عليهم من وجوب أو ندب "إذ لا تعارض في حقهم" لفرض أن القول خاص به "ولا سبب تكرار أو" علم "المتقدم" للقول كأن يقول لا يحل لي كذا ثم يفعله "نسخ عنه الفعل مقتضى القول أي دل" الفعل "عليه" أي نسخ القول "ويثبت" الفعل "على الأمة على صفته مرة" بذلك الفعل الناسخ "لفرض الاتباع فيما علم وعدم التكرار وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه تقديم الفعل فيثبت الفعل في حقهم وتقديم القول فيحرم والوقف فلا يثبت حكم "قيل والمختار الوقف ونظر فيه" والناظر القاضي عضد الدين "بأن لا تعارض مع تأخر القول" الخاص به "فيؤخذ به" أي بالقول حكما بأن الفعل متقدم؛ لأنه لو أخذ بالفعل نسخ موجب القول عنه وهذا معنى قوله "ترجيحا لرفع مستلزم النسخ وعلمت استواء حالتي الأمة فيهما" أي تقدم القول وتأخره "من ثبوته" أي الفعل "مرة منهم" أي عليهم فلا فائدة في التوقف بالنسبة إليهم وفي هذا إشارة إلى دفع ترجيح القول على الوقف يعني أنه علم حال الأمة بالنسبة إلى محل الجهل من تقدم القول وتأخره فلم يبق التردد إلا في حالة فإنه يختلف فيهما وتقدم في مثله اختيار الوقف لعدم(25/37)
التكليف باستعلام الثابت له "وإن" كان القول "خاصا بهم" بأن فعل وقال لا يحل للناس هذا "فلا تعارض في حقه" لعدم تعلق القول به علم تقدمه أو لا "وفيهم" أي في الأمة "المتأخر" من القول أو الفعل "ناسخ للمرة" فإن الفعل بلا تكرار يوجب المرة فينسخها كما لو قال: صوموا يوم سبت فإنه يوجب مرة فإذا أفطر - والأمة مثله - أو قال لا تصوموا فيه نسخ عنهم الصوم فيه "وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول وإن" كان "شاملا" له ولهم "فعلى ما تقدم فيه وفيهم في علم(25/38)
ص -20-…المتأخر" من القول والفعل ففي حقه إن تقدم الفعل فلا يعارض لعدم تكرر الفعل وإن تقدم القول فالفعل ناسخ له وفي حق المتأخر ناسخ "وإن جهل" المتأخر في حقه وحقنا "فالثلاثة" الأقوال الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول فينسخ عنهم المرة لكن لو قدم الفعل وجبت" المرة "فالاحتياط فيه" أي وفي وجوبه مرة "ثم تقول في الوجه الذي قدم به القول" على الفعل والوقف "حيث قدم" عليهما من أنه وضع القول لبيان المرادات إلى آخر ما سلف "نظر وإنما يفيد" الوجه المذكور "تقديمه" أي القول "ولو كان" التقديم "باعتبار مجرد ملاحظة ذات الفعل معه" أي مع القول "لكن النظر بين فعل دل على خصوص حكمه وعلى ثبوته في حق الأمة ففي الحقيقة النظر" إنما هو "في تقديم القول على مجموع أدلة منها قول وفعل والقول وإن كان بحيث يدل به على هذا المجموع فإنما عارضه ما دل به أيضا عليه" أي هذا المجموع "فاستويا" أي الفعل والقول "والأدلية ونحوه" مما تقدم من الأعمية وغيرها "طردا وحينئذ" لا أثر لها في هذا المحل "فالوجه في كل موضع من ذلك" التعارض "ملاحظة أن الاحتياط يقع فيه على تقدير" تقديم "القول أو الفعل فيقدم ذلك" الذي فيه الاحتياط "كفعل عرفت صفته وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك" أي بالوجوب أو الندب إذا كان التاريخ مجهولا "يقدم" الفعل المذكور "على القول المبيح وقلبه القول" فيقدم القول المبيح على فعل عرفت صفته من وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك "وكذا القول" حال كونه "محرما مع الفعل مطلقا" يقدم على الفعل مطلقا "وقول كراهة مع فعل إباحة" يقدم الأول على الثاني "وقس" على هذه أمثالها "فأما إذا لم تعرف صفة الفعل فعلى الوجوب عليه وعليهم" عند الجمهور "والندب والإباحة كذلك" أي له ولهم عند القائلين بالندب فيما لم يعرف صفة فعله والآخرين القائلين بالإباحة فيه "وعلى خصوص هذه" الأحكام من الوجوب والندب والإباحة "بالأمة المتأخر" من الفعل والقول "ناسخ(25/39)
عنهم فعلا" كان "أو قولا شاملا" له ولهم "أو خاصا بهم فإن جهل" المتأخر "فالمختار ما فيه الاحتياط كما ذكرنا وعلى الوقف في الكل" أي كل الأحكام "سوى إطلاق الفعل إن تأخر القول النافي له" أي إطلاق الفعل حال كونه "خاصا به" بأن صام يوم الجمعة ثم قال: لا يحل لي صوم يوم الجمعة "منعه" أي نسخ القول إطلاق الفعل "في حقه دونهم" فيستمر لهم موجب الفعل وهو حلة لهم مع الوقف عما زاد على ذلك "أو" حال كونه خاصا "بهم" كأن قال: لا يحل لأمتي صوم يوم الجمعة "ففي حقهم" أي نسخ القول إطلاق الفعل في حقهم وحكمنا بالإطلاق مع الوقف عما زاد عليه "أو" حال كونه "شاملا" له ولهم "نفي الإطلاق مطلقا" أي نسخ الحل الذي كان مقتضى الفعل عن الكل وزال الوقف مطلقا "فلو كان" القول المتأخر "موجبا أو نادبا قرره" أي الفعل "على مقتضاه" أي القول من الوجوب والندب "وإن" كان المتأخر "الفعل والقول خاص به" كأن يقول أولا لا يحل لي صوم يوم الجمعة ثم يصوم "فالوقف فيما سوى مجرد الإطلاق في حق الكل" أي ثبت الحل في حقه وحقهم بمقتضى الفعل المتأخر مع الوقف عما سوى في حق الكل "أو" كان القول خاصا "بهم" كأن يقول: لا يحل للأمة صوم يوم الجمعة ثم استمر(25/40)
ص -21-…بصومه "أو شاملا" له ولهم كلا يحل لي ولكم ثم صامه "منعوا" أي منع الحل في حقهم "دونه" فيحل له "وإن جهل" المتأخر "ففي الأول" أي إذا كان القول خاصا به "الوقف في حقه"؛ لأنه لو كان المتأخر القول حرم عليه أو الفعل حل له ولسنا مأمورين بالبحث عن ذلك فنقف عن الحكم عليه بشيء "والحل لهم" أي فيحكم بالحل في حقهم؛ لأنه ثابت لهم تقدم هذا القول أو تأخر "وفي الثاني" أي إذا كان القول خاصا بهم "منعوا" لثبوته لهم تقدم القول أو تأخر وجهل المتأخر لا يخرج عن كون الواقع أحدهما "وحل له"؛ لأن الفعل يوجبه ولم يعارضه القول "وفي الثالث" أي إذا كان شاملا له ولهم "الوقف في حقه"؛ لأنه إن كان القول الشامل متأخرا عن فعله حرم عليه أو متقدما حل ويجب أن لا يحكم في حقه بشيء فيجب فيه الوقف "ومنعوا"؛ لأنهم في التأخر والتقدم كذلك.
ثم لما كان مما يتخلص به من التعارض الترجيح أعقبه بفصل فيه فقال:
فصل(25/41)
"الشافعية" أي بعضهم "الترجيح اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها" وعلى هذا مشى ابن الحاجب "وهو" أي هذا المعنى "وإن كان" هو "الرجحان وسبب الترجيح"؛ لأن الترجيح جعل أحد جانبي المتعاملين راجحا بإظهار فضل فيه لا تقوم به المماثلة كترجيح إحدى كفتي الميزان على الأخرى بنحو شعيرة وذلك الفضل هو الرجحان والسبب الداعي إلى جعله زائدا على معاملة "فالترجيح" أي فهو الترجيح "اصطلاحا" لمعرفي الترجيح به فهو حقيقة عرفية خاصة فيه ومجاز لغوي من تسمية الشيء باسم سببه "والأمارة" أي وإنما ذكرها لا الدليل القطعي ولا ما هو أعم منهما "لأنه لا تعارض مع قطع" كما سلف عن ابن الحاجب وغيره "وتقدم ما فيه" في أول فصل التعارض بل التحقيق جريانه في القطعيين أيضا كما في الظنيين وإن تخصيص الظنيين به دون القطعيين تحكم ثم قيل: يتساقط الدليلان وقال القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه: يلزم التخيير وقال الأكثرون يجب تقديم الأمارة التي ظهر رجحانها كما أشار إليه بقوله "فيجب تقديمها" أي الأمارة المقترنة بما تقوى به على معارضها "للقطع عن الصحابة ومن بعدهم به" أي بتقديمها كما يفيده تتبع الوقائع الكثيرة لهم ومن ذلك تقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في "الغسل بالتقاء الختانين" على خبر أبي سعيد الخدري "إنما الماء من الماء" كما يشير إليه سياق خبرها في صحيح مسلم وكلا الخبرين في صحيح مسلم للاحتياط ولكون الحال في مثله على أزواجه أبين وأكشف. "وأورد" على الأكثرين "شهادة أربعة مع" شهادة "اثنين" إذا تعارضتا فإن الظن بالأربعة أقوى منه بالاثنين ولا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين "فالتزم" تقديم شهادة الأربعة كما هو قول لمالك والشافعي "والحق الفرق" بين الشهادة والدليل إذ كم من وجه ترجح به الأدلة ولا ترجح به الشهادات، ووجه أن الشهادة في الشرع مقدورة بعدد معلوم فكفينا الاجتهاد فيها بخلاف الرواية فإنها مبنية عليه "وللحنفية" في تعريف(25/42)
الترجيح بناء "على أنه" أي الترجيح(25/43)
ص -22-…"فعل إظهار الزيادة لأحد المتماثلين على الآخر بما لا يستقل" فخرج النص مع القياس المعارض له صورة فلا يقال: النص راجح عليه ولا العمل بالنص ترجيح لانتفاء المماثلة التي هي الاتحاد في النوع وقد عرفت فائدة التقييد بما لا يستقل من قوله في التعارض، والرجحان تابع مع التماثل وهو مصرح بها أيضا الآن وعلى أنه فعل أيضا ما في منهاج البيضاوي وغيره تقوية إحدى الإمارتين ليعمل بها "وعلى مثل ما قبله" أي وعلى أن المراد بالترجيح الرجحان قول فخر الإسلام وغيره "فضل إلخ" أي لأحد المتماثلين على الآخر وصفا فلا حاجة إلى نسبة قائله إلى المساهلة كما ذكر الشارحون إذ لا مشاحة في الاصطلاح. "وأفاد" تعريف الحنفية "نفي الترجيح بما يصلح دليلا" في نفسه مع قطع النظر عن الدليل الموافق فلا يقال لما تعارض فيه حديثان أو قياسان إذا وجد دليل آخر موافق لأحدهما على مقتضاه دون الآخر إن الموافق لموافقه راجح على معارضه ثم إذا كان معنى الترجيح عند الحنفية هذا "فبطل" الترجيح لأحد الحكمين المتعارضين "بكثرة الأدلة" له على الآخر "عندهم" لاستقلال كل بثبوت المطلوب به فلا ينضم إلى الآخر ولا يتحد به ليفيد تقويته؛ لأن الشيء إنما يتقوى بصفة توجد في ذاته لا بانضمام مثله إليه كما في المحسوسات وسيذكر المصنف هذا عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وخلافه عن الأكثر والوجه من الطرفين آخر هذا الفصل.(25/44)
ثم لما كان عن بعض مشايخنا أن النصين المتعارضين يترجح أحدهما بالقياس كما ذكر في الكشف وغيره وقد يظن أنه من الترجيح بكثرة الأدلة وليس كذلك نبه عليه بقوله "وترجيح ما" أي نص "يوافق القياس على ما" أي نص "يخالفه" أي القياس بالقياس "ليس به" أي بالترجيح بكثرة الأدلة "عند قابله" بالباء الموحدة أي من يقبل الترجيح بكثرة الأدلة ويراه مذهبا "لأنه" أي القياس الموافق للنص "غير معتبر هناك" أي في إثبات ذلك الحكم؛ لأنه غير معتبر في مقابلة النص "فليس" القياس ثمة "دليلا والاستقلال فرعه" أي كونه دليلا بل هو بمنزلة الوصف لذلك النص فترجيحه به إنما هو بهذا الاعتبار "وصح عندهم" أي الحنفية "نفيه" أي ترجيح ما يوافق القياس على ما يخالفه به وذكر في الكشف وغيره أنه الأصح "لأنه" أي القياس "دليل في نفسه مستقل" ولذا يثبت الحكم به عند عدم النص والإجماع "لكن عدم شرط اعتباره" هنا لما ذكرناه وسيذكر المصنف في أثناء ما به الترجيح أن الأحق أنه يترجح به ونذكر هناك وجهه والجواب عن وجههم إن شاء الله تعالى "والقياس على مثله" أي وترجيح القياس على قياس مثله معارض له "بكثرة الأصول" كما سيأتي تمثيله في موضعه "ليس منه" أي من الترجيح بكثرة الأدلة "لأنها" أي الأصول "لا توجب حكم الفرع" بل توجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف ليحدث فيه قوة مرجحة "وهو" أي وجوب حكم الفرع بالقياس هو "المطلوب" من القياس "فيعتبر فيه" أي الفرع "التعارض" بين القياسين ثم يرجح القياس الذي له أصول يؤخذ فيها جنس الوصف أو نوعه على ما ليس كذلك "فهو" أي الترجيح بكثرة الأصول ترجيح "بقوة الأثر" وهو من الطرق الصحيحة في ترجيح الأقيسة كما سيعلم.(25/45)
ص -23-…ثم أخذ في بيان ما به الترجيح في المتن فقال "ففي المتن" أي ما تضمنه الكتاب والسنة من الأمر والنهي والعام والخاص ونحوها يكون "بقوة الدلالة كالمحكم في عرف الحنفية على المفسر وهو" أي المفسر عندهم "على النص" كذلك "وهو" أي النص كذلك "على الظاهر" كذلك والكل ظاهر مما تقدم في التقسيم الثاني من الفصل الثاني من المبادئ اللغوية "ولذا" أي ولترجيح الأقوى دلالة "لزم نفي التشبيه" عن الباري جل وعز "في {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ونحوه مما ظاهره يوهم المكان "ب" قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]"؛ لأنه يقتضي نفي المماثلة بينه وبين شيء ما والمكان والمتمكن فيه يتماثلان من حيث القدر إذ حقيقة المكان قدر ما يتمكن فيه المتمكن لا ما فصل عنه وقدم العمل بهذه الآية؛ لأنها محكمة لا تحمل تأويلا "ويضبط ما تقدم من الاصطلاحين" للحنفية والشافعية في ألقاب أفراد تقسيمات الدلالة للمفرد في الفصل الثاني من المقالة الأولى في المبادئ اللغوية "يجمع" أي يحكم بوجود بعض الأقسام على الاصطلاحين جميعا في بعض الموارد "ويفرق" أي ويحكم بوجود بعضها على أحد الاصطلاحين دون الآخر وينشأ لك من ذلك ترجيح البعض على البعض بحسب التفاوت بينهما في قوة الدلالة "والخفي" ترجيح "على المشكل عندهم" أي الحنفية لما عرف ثمة من أن الخفاء في المشكل أكثر منه في الخفي "وأما المجمل مع المتشابه" باصطلاح الحنفية "فلا يتصور" ترجيح أحدهما على الآخر "ولو" قصد إليه "بعد البيان" للمجمل "لأنه" أي ترجيح أحدهما على الآخر "بعد فهم معناهما"؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره والمتشابه انقطع رجاء معرفته في الدنيا عندهم "والحقيقة" ترجح "على المجاز المساوي" في الاستعمال لها "شهرة" و "اتفاقا" لترجحها عليه بأنها الأصل في الكلام "وفي" ترجيح المجاز "الزائد" في الاستعمال من حيث الشهرة عليها "خلاف أبي حنيفة" فقال يرجح عليه وقال الجمهور منهم(25/46)
الصاحبان يرجح عليها وتقدم الكلام في ذلك في الفصل الخامس في الحقيقة والمجاز.
"والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة" "وهي" أي الإشارة "على الدلالة مفهوم الموافقة" ومثل هذه مذكور في الشروح فلا نطول بذكرها "وهي" أي الدلالة "على المقتضى ولم يوجد له" أي لترجيح الدلالة عليه "مثال في الأدلة وقيل يتحقق" له مثال فيها وهو ما "إذا باعه" أي عبدا "بألف ثم قال" البائع للمشتري قبل نقد الثمن "أعتقه عني بمائة" ففعل إذ "دلالة حديث زيد بن أرقم" السابق في المسألة التي يليها فصل التعارض "تنفي صحته" أي بيع العبد المذكور الثابت للبائع اقتضاء لشرائه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن "واقتضاء الصورة" أي قول غير مالك العبد لمالكه أعتق عبدك عني بمائة في غير هذه الواقعة "يوجبها" أي صحة البيع المقتضى "وليس" هذا مثالا لترجيح الدلالة على المقتضى "إذ ليسا" أي بيع زيد واقتضاء الصورة صحة البيع "دليلين" سمعيين كما هو ظاهر فأين تعارض الدليلين الذي الترجيح فرعه ؟، "ولأن حديث زيد إنما نسب إليه" أي إلى زيد "لأنه صاحب الواقعة في زمن عائشة الرادة عليه" به "فلا يكون غيره" أي ثبوت الحكم في واقعة زيد لغير زيد إذا وقع منه مثل ما وقع من زيد "مثله" أي مثل زيد "دلالة إذ هو" أي الحديث المردود به(25/47)
ص -24-…على زيد "نهيه عليه السلام عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن". فيثبت" هذا النهي "في غيره" أي غير زيد "عبارة كما" يثبت "فيه" أي في زيد عبارة أيضا غاية ما في الباب أن واقعته مثار رواية عائشة الحديث وهو منطبق على واقعة زيد وعلى غيرها مما وجد فيه مثل هذا الصنيع كهذه الصورة على تقدير ارتكاب تصحيح كلام البائع المذكور بجعلها صورة من صور الاقتضاء "وكيف" يكون هذا من تعارض الدلالة والمقتضى "ولا أولوية" لهذه الصورة بالحكم المذكور لبيع زيد على اشتراط أولوية المسكوت بالحكم في الدلالة "ولا لزوم فهم المناط" للحكم المذكور في المسكوت "في محل العبارة" ولا دلالة بدونه "والمقتضى" بفتح الضاد "للصدق" أي ضرورة صدق الكلام يرجح "عليه" أي على المقتضى "لغيره" أي غير الصدق وهو وقوعه شرعيا؛ لأن الصدق أهم من وقوعه شرعيا. "ومفهوم الموافقة على" مفهوم "المخالفة" "عند قابله" بالباء الموحدة كما فيما تقدم آنفا أي من يقبل مفهوم المخالفة؛ لأن مفهوم الموافقة أقوى ومن ثمة لم يقع فيه خلاف وألحق بالقطعيات وقال ابن الحاجب على الصحيح فانتفى قول الآمدي يمكن ترجيح مفهوم المخالفة بوجهين الأول أن فائدة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع والثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان فعل وجوده في فعل المسكوت وإن اقتضاء الحكم في محل السكوت أشد وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن لا يكون أولى بإثبات الحكم في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربع أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد وأما من لم يقبل مفهوم المخالفة فهو مهدر الاعتبار عنده مع قطع النظر عن مفهوم الموافقة "والأقل احتمالا" على الأكثر احتمالا "كالمشترك(25/48)
لاثنين على ما" أي المشترك "لأكثر" لبعد الأول عن الاضطراب وقرب استعماله في المقصود بالنسبة إلى الثاني. "والمجاز الأقرب" إلى الحقيقة على ما هو أبعد منه إليها "وفي كتب الشافعية" يرجح المجاز على مجاز آخر "بأقربية المصحح" أي العلاقة إلى الحقيقة مع اتحاد الجهة "كالسبب الأقرب" في المسبب "على" السبب "الأبعد" منه في المسبب "وقربه" أي وبقرب المصحح إلى الحقيقة في ذلك المجاز "دون" المصحح "الآخر" في المجاز الآخر "كالسبب" أي كإطلاق اسم السبب "على المسبب على عكسه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب ولما عللوا هذا بأن السبب مستلزم لمسببه ولا عكس ومعناه أن المسبب لا يستلزم سببا معينا لجواز ثبوته بسبب آخر بخلاف السبب فإن كل سبب يستلزم المسبب المعين قال المصنف "وينبغي تعارضهما" أي ما سمي باسم سببه وما سمي باسم مسببه "في" السبب "المتحد" لمسبب؛ لأن كلا منهما يستلزم الآخر بعينه ولا يترجح أحدهما إلا بغير هذا "وما" أي المجاز الذي "جامعه" أي علاقته "أشهر" يترجح على مجاز ليست علاقته كذلك "و" المجاز "الأشهر" استعمالا "مطلقا" أي في اللغة أو في الشرع أو في العرف على غيره لكونه أقرب إلى الحقيقة. "والمفهوم والاحتمال الشرعيان"(25/49)
ص -25-…يترجحان على المفهوم والاحتمال اللذين ليسا بشرعيين "بخلاف" اللفظ "المستعمل" للشارع "في" معناه "اللغوي معه" أي استعماله له "في" المعنى "الشرعي" فإنه يقدم المعنى اللغوي على الشرعي عند تعارضهما ممكنين في إطلاق "وفيه" أي هذا "نظر"؛ لأن استعماله له في معناه اللغوي لا يوجب كونه حقيقة شرعية فيه واستعماله له في غير معناه اللغوي يوجب نقله إليه وأنه حقيقة شرعية فيه فتقديم اللغوي عليه حينئذ تقديم للمجاز عنده على الحقيقة من غير قرينة صارفة عنها إليه وذلك غير جائز ولا يعرى عن بحث إذ ليس ببعيد أن يقال لم لا يكون استعمال الشارع اللفظ في معناه اللغوي حقيقة شرعية كما هو حقيقة لغوية؛ لأن الأصل عدم النقل وفي المعنى الذي ليس بلغوي مجاز شرعي؛ لأن الأصل عدم الاشتراك وحينئذ فتقديم اللغوي عليه تقديم للحقيقة على المجاز حيث لا صارف عنها إليه وهو الجادة وأيضا هو عمل بما هو من لسان الشرع مع التقرير وهو أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير "كأقربية المصحح وقربه وأشهريته" أي كما أن في ترجيح كل من هذه على ما يقابله نظرا "بل وأقربية نفس المجازي" أي بل في ترجيح هذا على مجاز ليس كذلك نظر أيضا كما سيعلم "وأولوية" المجاز الذي هو من نفي "الصحة" للذات "في "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وتقدم مخرج هذا في المسألة الرابعة من المسائل التي بذيل المجمل على المجاز الذي هو من نفي الكمال فيه "لذلك" أي لأن نفي الصحة المجاز الأقرب إلى نفي الذات وأولوية مبتدأ خبره "ممنوع؛ لأن النفي على النسبة لا" على "طرفها" الأول "و" طرفها "الثاني محذوف فما قدر" أي فهو ما قدر خبرا للظرف الأول وإذا كان الأمر على هذا "كان كل الألفاظ" الملفوظ منها والمقدر في التركيب المذكور "حقائق" لاستعمالها في معانيها الوضعية "غير أن خصوصه" أي المقدر إنما يتعين "بالدليل" المعين له كما في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فإن قيام الدليل(25/50)
على الصحة أوجب كون المراد كونا خاصا وهو كاملة "ووجهه" أي النظر في تقديم ما اشتمل على أقربية المصحح إلخ "أن الرجحان" إنما هو "بما يزيد قوة دلالة على المراد أو" بما يزيد قوة دلالة على "الثبوت" وهذه المذكورات ليس فيها ذلك "والحقيقي لم يرد" أي والفرض أن المعنى الحقيقي لم يرد من إطلاق اللفظ "فهو" أي الحقيقي الذي ليس بمراد من اللفظ "كغيره" من المعاني التي ليست بمرادة منه "وتعين المجاز في كل" أي والحال أن تعين المعنى المجازي للفظ في كل استعمال له فيه إنما هو "بالدليل" المعين له "فاستويا" أي المجازيان "فيه" أي في اللفظ، وإيضاح هذا أنه كما قال المصنف إذا ذكر لفظ وصرف الدليل عن إرادة معناه الحقيقي إلى ما يصحح أن يتجوز به فيه فقد تعين بالدليل خصوص المراد به فإذا لزم لفظ مثله آخر فيما يضاد الأول كان حاصله إفادة الدليل ثبوت إفادة ضدين بلفظين فكون أحد المفادين من المعنى المجازي بينه وبين معناه الحقيقي بعد وقرب في ذاته أو مصححه أو شهرة مصححه لا أثر له إذ بعد العلم يكون الحقيقي لم يرد صار كغيره في سائر المعاني التي لم ترد فقرب المراد منه وبعده كقربه من بعض المعاني المغايرة له التي لم ترد، وبعده من بعض آخر لا يزيد بالقرب إليه قوة دلالته(25/51)
ص -26-…على خصوص ذلك معنى المراد ولا بالبعد منه تضعف دلالته عليه وكيف؟ ولا تثبت إرادة كل من المعنيين إلا بدليل أوجب تعين إرادته بعينه فصار كل كأنه الآخر هذا؛ لأن الفرض أنه معنى مجازي فلا بد في تعين إرادته باللفظ من دليل على ذلك وكما قام الدليل أن هذا المعنى المجازي القريب من حقيقته مراد من هذا اللفظ قام على أن ذلك المعنى المجازي البعيد من حقيقته مراد من ذلك اللفظ فلا مقتضى لضعف دلالة أحدهما على مراده دون الآخر "نعم لو احتملت دلالته دون الآخر" أي لو أن القرينة الموجبة لإرادة أحدهما في إيجابها له تردد واحتمال كان ضعف الدلالة لذلك إذا كانت قرينة الآخر في مراده ليست كذلك فيقدم ما ليس في دلالته ضعف على ما فيها ضعف "وذلك" أي تقديم الذي ليس في دلالته احتمال على ما في دلالته احتمال "شيء آخر" غير نفس القرب من الحقيقي الغير المراد وبعده منه فهو ترجيح باعتبار ثبوت الاحتمال في إرادة ذلك وعدمه في إرادة الآخر فيرجع إلى ما فيه احتمال مع ما ليس فيه احتمال وترجيح ما ليس فيه على ما فيه "وما أكدت دلالته" بأن تعددت جهاتها أو كانت مؤكدة ترجح على ما ليس كذلك؛ لأنه أغلب على الظن. "والمطابقة" تترجح على التضمن والالتزام؛ لأنها أضبط "والنكرة في" سياق "الشرط" تترجح "عليها" أي على النكرة "في" سياق "النفي وغيرها" أي على غير النكرة كالجمع المحلى والمضاف "لقوة دلالتها" أي النكرة في سياق الشرط "بإفادة التعليل" عليها إذا كانت في سياق النفي وعلى غيرها مما ذكر؛ لأن الشرط كالعلة والحكم المعلل أولى "والتقييد" للنكرة "بغير المركبة" أي المبنية على الفتح لكون " لا " فيها لنفي الجنس لكونها نصا في الاستغراق لا يحتمل الخصوص كما ذكر التفتازاني وغيره "تقدم". البحث الثاني من مباحث العام "ما ينفيه" فيستوي الحال بين أن تكون مركبة أو لا. "وكذا الجمع المحلى والموصول" يترجح كل منهما "على" اسم الجنس "المعرف" باللام لكثرة(25/52)
استعماله في المعهود فتصير دلالته على العموم ضعيفة على أن الموصول مع صلته يفيد التعليل كما تفيده النكرة في الشرط ولهذا قال، وكذا "والعام" يترجح "على الخاص في الاحتياط" أي فيما إذا كان الاحتياط في العمل بالعام كما لو كان العام محرما والخاص مبيحا؛ لأن العمل حينئذ أقرب إلى تحصيل المصلحة ودرء المفسدة "وإلا" لو لم يكن الاحتياط في العمل بالعام "جمع" بينهما بالعمل بالخاص في محله وبالعام فيما سواه "كما تقدم" في فصل التعارض "والشافعية" يترجح عندهم "الخاص دائما" على العام؛ لأنه غير مبطل للعام بخلاف العمل بالعام فإنه مبطل للخاص ولأنه أقوى دلالة على ما يتضمنه من دلالة العام عليه لإجمال تخصيصه منه إذ أكثر العمومات مخصصة وأكثر الظواهر الخاصة مقررة على حالها غير مؤولة. "وما" أي العام الذي "لزمه تخصيص" يترجح "على خاص ملزوم التأويل"؛ لأن تخصيص العام أكثر من تأويل الخاص كما ذكرنا آنفا "والتحريم" يترجح "على غيره" من الوجوب والندب والإباحة والكراهة كما مشى عليه الآمدي وابن الحاجب وعبر عنه المصنف بقوله "في المشهور احتياطا" ظنا من قائله أن ذلك الفعل إن كان حراما كان في ارتكابه ضرر وإن كان غير(25/53)
ص -27-…حرام لا ضرر في تركه، ومعلوم أن هذا بعد أن يكون المراد بالكراهة الكراهة التنزيهية لا يتم في الواجب فإن في تركه ضررا كما سنذكر وقد يقال إن التحريم لدفع مفسدة والندب والوجوب والإباحة لتحصيل مصلحة، واعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح بدليل أنه يجب دفع كل مفسدة ولا يجب جلب كل مصلحة والكراهة وإن كانت لدفع مفسدة إلا أن في العمل بها تجويزا للفعل وفيه إبطال المحرم بخلاف العكس فكان التحريم أولى، هذا والذي عليه الإمام وأتباعه كالبيضاوي تساوي المحرم والموجب فيلزم تقديم الموجب حيث كان المحرم مقدما على المبيح؛ لأن المساوي للمقدم على شيء مقدم على ذلك الشيء ثم في شرح الإسنوي والمراد بالإباحة هنا جواز الفعل والترك ليدخل فيه المكروه والمندوب والمباح المصطلح عليه، وعلل البيضاوي وغيره تقديم المحرم على المبيح بالاحتياط فإنه يقتضي الأخذ بالتحريم؛ لأن ذلك الفعل إن كان حراما كان ارتكابه ضررا وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه ولا بأس بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" لكن هذا متعقب بأنه لا يعرف مرفوعا كما قال الزركشي بل قال الحافظ العراقي ولم أجد له أصلا انتهى. نعم رواه عبد الرزاق والبيهقي في سننه عن جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود موقوفا، والشعبي عن ابن مسعود منقطع ثم له معارض ففي سنن ابن ماجه الدارقطني عن ابن عمر رفعه "لا يحرم الحرام الحلال" وفي سنده إسحاق الفروي أخرج له البخاري وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي ليس بثقة ووهاه أبو داود جدا. وقال الدارقطني لا يترك وقال أيضا ضعيف قال شيخنا والمعتمد فيه ما قال أبو حاتم صدوق ولكن ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة ثم على هذا الذي ذكره البيضاوي مشى المصنف كما هو آت وقال أيضا "وإذا ثبت أنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كان يحب ما خفف على أمته" وإذا هنا للماضي كما في قوله(25/54)
تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] لثبوته وعدم خفائه على المصنف ومن ثمة جزم به في آخر مسألة في هذا الكتاب وهو في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها لكن بلفظ عنهم وفي لفظ ما يخفف عنهم وفي الصحيحين عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما". وفي حديث المعراج فيهما أيضا "فمررت بموسى فقال بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم وليلة قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وليلة وإني - والله - قد جربت الناس وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت" الحديث وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة" وفيهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير وصلى فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن(25/55)
ص -28-…يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به" إلى غير ذلك، وإذا، قد ثبت ثبوتا مستفيضا شائعا لا مرد له حبه التخفيف عن أمته. "اتجه قلبه" أي ترجيح غير التحريم لكن قد عرفت أن غير التحريم يشمل الأقسام الأربعة الباقية ثم غير خاف أن هذا إن تم في الإباحة والندب والكرهة لا يتم في الوجوب إذ ليس في ترجيحه على التحريم تخفيف؛ لأن المحرم يتضمن استحقاق العقاب على الفعل، والموجب يتضمن استحقاق العقاب على الترك فتعذر الاحتياط فلا جرم إن جزم بالتساوي بينهما الأستاذ أبو منصور وقال لا يقدم أحدهما على الآخر بل بدليل ومشى عليه من قدمناهم على أن ابن الحاجب وإن ذكر ترجيح الإباحة على الحظر قولا فقد قال التفتازاني لم يذهب أحد إليه إلا أن الآمدي قال يمكن ترجيح الإباحة وحاصله ما أشار إليه عضد الدين بقوله لئلا تفوت مصلحة إرادة المكلف ولأنه لو قدم لكان أيضا الواضح وهو الجواز الأصلي وتعقبه الأبهري بأن الوجهين ضعيفان أما الأول فلأن تصور المكلف واعتقاده أن في الفعل مصلحة ربما لا يكون مطابقا للواقع فيكون خطأ ولما كانت شرعية الأحكام تابعة لمصالح العباد وكان الحظر بناء على مصلحة في الترك أو مفسدة في الفعل كان أولى، وأما الثاني فلأنه يلزم من تقديم الإباحة أي العمل بها كثرة التغيير من ارتفاع الإباحة الأصلية بالحظر ثم ارتفاع الحظر بالإباحة الشرعية بخلافه إذا كان العمل بالحظر والأصل عدمها انتهى. وفي هذه الجملة ما فيها فقد اختار القاضي عبد الوهاب في الملخص ترجيح المقتضي للإباحة على المقتضي للحظر وقال القاضي والإمام والغزالي وابن أبان وأبو هاشم يتساويان؛ لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة وصححه التاجي ونقله عن شيخه القاضي أبي جعفر ويؤيده ما في المعجم الكبير للطبراني عن أم معبد مولاة قرظة بن كعب قالت: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المحرم ما أحل الله كالمستحل ما حرم الله" وقال سليم إن كان(25/56)
للشيء أصل إباحة أو حظر وأحد الخبرين يوافق ذلك الآخر والآخر بخلافه كان الناقل عن ذلك الأصل أولى، وإن لم يكن له أصل من حظر ولا إباحة فوجهان: أحدهما الحظر أولى للاحتياط ثانيهما أنهما سواء؛ لأن تحريم المباح كتحليل الحرام فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر هذا وفي كلام المصنف إشارة إلى تقديم المتضمن للتخفيف على المتضمن للتشديد، وعليه مشى البيضاوي وصاحب الحاصل وعلله بأنه أظهر تأخرا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ أولا زجرا لهم عن العادات الجاهلية ثم مال إلى التخفيف وذهب الآمدي إلى تقديم المتضمن للتغليظ على المتضمن للتخفيف فإنه صلى الله عليه وسلم كان في ابتداء أمره يرأف بالناس ويأخذهم شيئا فشيئا ولا يتعبد بالتغليظ فاحتمال تأخير التشديد أظهر قلت وفي كلا التعليلين نظر، فإن كل المشروعات لم يكن أحدهما شأنها بل فيها وفيها كما هو معلوم للمستقرئ لها ولا سيما في باب النسخ ثم لعل الأخف أولى لما أشار المصنف إليه مع ما علم بنص القرآن من إرادة الله تعالى اليسر بنا ونفي الحرج في الدين عنا وبنص السنة الصحيحة من أن هذا الدين يسر وحينئذ لا يخفى على المتأمل أن هذا غير معارض بما قيل في تعليل تقديم(25/57)
ص -29-…الأثقل عليه من أن المصلحة فيه أكثر على ما في إطلاق هذا أيضا من نظر والله سبحانه أعلم.
"والوجوب" يرجح "على ما سوى التحريم" من الكراهة والندب والإباحة للاحتياط "والكراهة" ترجح "على الندب"؛ لأنها أحوط "والكل" من الكراهة والتحريم والوجوب والندب يرجح "على الإباحة" للاحتياط "فتقديم الأمر" على ما سوى النهي "والنهي" على ما سواه مطلقا أو النهي على الأمر كما أطلقه كثير "ليس لذاتيهما" كما يوهمه إطلاق بعضهم وإلا لما كان الوجوب مقدما على المكروه فإن الوجوب قد يكون مفيده الأمر والكراهة قد يكون مفيدها النهي بل تقديم الأمر على ما سوى النهي للاحتياط وتقديم النهي على ما سواه مطلقا إما للاحتياط أو لدفع المفسدة؛ لأن أكثر النهي لذلك "والخاص من وجه" يرجح "على العام مطلقا"؛ لأن احتمال تخصيصه أكثر من الخاص من وجه إذ لا يدخله التخصيص من تلك الجهة "و" العام "الذي لم يخص" على العام المخصوص نقله إمام الحرمين عن المحققين وعللوه بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ والرازي بأن الذي قد دخله قد أزيل عن تمام مسماه. والحقيقة تقدم على المجاز وعضد الدين بتطرق الضعف إليه بالخلاف في حجته واختار ابن المنير والصفي الهندي والسبكي عكسه؛ لأن ما خص من العام هو الغالب والغالب أولى من غيره؛ ولأن المخصوص قلت أفراده حتى قارب النص إذ كل عام لا بد أن يكون نصا في أقل متناولاته فإذا قرب من الأقل بالتخصيص فقد قرب من التنصيص فكان أولى وذهب ابن كج إلى استوائهما؛ لأن الحادثة من هذا اللفظ كهي من اللفظ الآخر قال وقد أجمعوا كلهم على أن العموم إذا استثني بعضه صح التعلق به "وذكر من الأدلة" للأحكام التكليفية من الأمثلة لما بين دليلين منها تعارض، والحال أن "ما" أي الذي "بينهما" أي الدليلين من النسب عموم "من وجه، مثل "لا صلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة" ولفظ الصحيحين "بفاتحة الكتاب" فإن هذا "عام في المصلين خاص في المقروء "ومن كان له إمام(25/58)
فقراءة الإمام له قراءة" أخرجه ابن منيع بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم فإن هذا "خاص بالمقتدي عام في المقروء فإن خص عموم المصلين بالمقتدي عن وجوبها" أي الفاتحة "عليه" أي المقتدي "وجب أن يخص خصوص المقروء وهو الفاتحة عموم المقروء المنفي عن المقتدي فتجب عليه الفاتحة فيتدافعان" أي الدليلان المذكوران في المقتدي حينئذ لإيجاب الأول قراءة الفاتحة عليه والثاني نفي قراءتها عليه وفيه نظر "فالوجه" والأوجه "في هذا" المثال "أن لا تعارض" بين الدليلين المذكورين في قراءة المقتدي "إذ لم ينف" الدليل الثاني "قراءتها" أي الفاتحة "على المقتدين بل أثبت أن قراءة الإمام جعلت شرعا قراءة له" أي المقتدي "بخلاف النهي عنها" أي الصلاة "في الأوقات" الثلاثة: وقت طلوع الشمس حتى ترتفع ووقت استوائها حتى تزول ووقت ميلها إلى الغروب حتى تغرب كما ثبت في صحيح مسلم وغيره "مع من نام عن صلاة" فليصلها إذا ذكرها أخرجه بمعناه مسلم كما قدمته في مسألة المختار أنه صلى الله عليه وسلم قبل بعثه متعبد فإنه لا يندفع التعارض بينهما في الفرض الفائت قال المصنف: ومن قال من(25/59)
ص -30-…الشافعية يحمل عموم الصلاة على ما سوى النوم فهو استرواح؛ لأن كلا فيه خصوص وعموم فإن خص عموم الصلاة في حديث النهي في الأوقات الثلاثة بخصوص الفائتة في حديث التذكر وجب أن يخص عموم الأوقات فيه بخصوص الثلاثة في حديث النهي عن الصلاة فيتدافعان في القضاء في الأوقات الثلاثة فحديث النهي يقتضي منعه، وحديث التذكر يقتضي حله فيه فلا بد من مرجح خارج كما أشار إليه بقوله "وفي بعض كتب الشافعية" كشرح منهاج البيضاوي للإسنوي "يطلب الترجيح فيهما" أي في هذين المتعارضين "من خارج، وكذا يجب للحنفية" طلب الترجيح فيهما من خارج؛ لأن كلا أخذ مقتضى خصوصه في عموم الآخر ثم وقع التعارض بينهما فإن أمكن ترجيح أحدهما عمل به؛ لأنه أولى من إهدارهما وقد أمكن هنا في منع القضاء في الأوقات الثلاثة كما أشار إليه بقوله "والمحرم مرجح" على غيره إذ حديث النهي محرم وحديث "من نام عن صلاة" مطلق لا يحرم فيترجح عليه "وما جرى بحضرته" صلى الله عليه وسلم "فسكت" عنه يترجح "على ما بلغه" فسكت عنه ذكره الآمدي قال المصنف "والوجه تقييده" أي ما بلغه فسكت عنه "بما إذا أظهر عدم ثبوته" أي ثبوت وقوع هذا الذي بلغه "لديه" أي النبي صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون سكوته عنه حينئذ لعلمه بعدم وقوعه من وحي أو غيره وإلا فحيث ظهر ثبوت وقوع ذلك لديه صلى الله عليه وسلم لا يظهر رجحان؛ لما بحضرته عليه لاستوائهما في القوة إذ كما لا يجوز عليه السكوت عن غير جائز شرعا واقع بحضرته لا يجوز عليه السكوت عن غير جائز شرعا علم وقوعه بغيبته شرعا وهذا التوجيه مما ظهر للعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - "وما بصيغته" أي والمروي بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم يترجح "على المنفهم عنه" أي عن الذي روى معناه الراوي بعبارة نفسه قلت؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال الغلط بخلاف الثاني، وغير خاف أن هذا أولى مما في شرح المنهاج للإسنوي؛ لأن المحكي باللفظ مجمع على قبوله بخلاف(25/60)
المحكي بالمعنى ثم كما قال التفتازاني ويندرج فيه ما إذا كان الآخر قد فهم معنى من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فرواه وما إذا قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا بدون أن يروي صيغة الأمر أو النهي الصادر عنه صلى الله عليه وسلم ولعل هذا ما في المحصول، وكذا على الخبر الذي يحتمل أن يكون قد روي بالمعنى "ونافي ما يلزمه" أي والخبر المشتمل على نفي حكم شرعي يلزم المكلف "داعية" إلى معرفته لكونه مما تعم به البلوى "في" خبر "الآحاد" يترجح "على مثله" أي ذلك الحكم كخبر طلق ينفي وجوب الوضوء من مس الذكر وخبر بسرة بإثباته وتقدم وجهه في مسألة خبر الواحد فيما تعم به البلوى هذا على أصول الحنفية ونقل إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء تقديم المثبت، وفصل هو أن الثاني إن نقل لفظا معناه النفي كلا يحل ونقل الآخر يحل فهما سواء؛ لأن كلا منهما مثبت وإن أثبت أحدهما قولا أو فعلا ونفاه الآخر كلم يفعله أو لم يقله، فالإثبات مقدم وقيل: النفي والإثبات سواء لاحتمال وقوعهما في حالين واختاره الغزالي في المستصفى بناء على أن الفعلين لا يتعارضان وعبد الجبار قال التاجي وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر وهو الصحيح انتهى. وقال إلكيا وابن عبد السلام ما حاصله: إن كان النافي استند إلى العلم فمقدم على المثبت وقال النووي: النفي المحصور(25/61)
ص -31-…والإثبات سيان قال الزركشي فتحصل أن المثبت يقدم إلا في صور: إحداها أن ينحصر النفي فيضاف الفعل إلى مجلس لا تكرار فيه فيتعارضان، الثانية أن يكون راوي النفي لديه عناية فيقدم على الإثبات الثالثة أن يستند نفي النافي إلى علم، وغير خاف أن الصورة الثانية هي قول الحنفية المذكورة.
"ومثبت درء الحد" أي دفع إيجابه يترجح "على موجبه" أي الحد لما في الأول من اليسر وعدم الحرج الموافقين لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولموافقة قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود" رواه الحاكم وصححه وفي المنتهى؛ لأن ما يعرض في الحد من المبطلات أكثر منه في الدرء وذهب المتكلمون إلى تقديم موجب الحد نظرا إلى أن فائدة العمل بالموجب التأسيس وبالدرء التأكيد، والتأسيس مقدم على التأكيد قلت وقد صرح الشافعية بأن نافي الحد مقدم على موجبه فيصير هذا صورة رابعة للصور المستثناة آنفا من تقديم المثبت على النافي وقيل: هما سواء ورجحه الغزالي؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوت شرعيته بدليل أنه يثبت بخبر الواحد مع قيام الاحتمال والحد إنما يسقط بالشبهة إذا كانت في نفس الفعل أو للاختلاف في حكمه كأن يبيحه قوم ويحظره آخرون كالوطء بلا شهود ولا يقال: الخلاف لفظي؛ لأن قول التساوي يئول إلى تقديم النافي فإنهما يتعارضان فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما فإن كان ثمة دليل شرعي حكم به، وإلا بقي الأمر على الأصل فيلزم نفي الحد؛ لأنا نقول بل معنوي؛ لأن الأول ينفي الحد بالحكم الشرعي والآخر ينفيه استصحابا بالأصل. "وموجب الطلاق والعتاق" يترجح على نافيهما كما مشى عليه البيضاوي وغيره؛ لأنه محرم للتصرف في الزوجة والرقيق والإرث ونافيهما مبيح والحظر مقدم على الإباحة فلا جرم أن قال "ويندرج" موجبهما "في المحرم وقيل: بالعكس" أي يترجح نافيهما على موجبهما؛ لأنه على وفق(25/62)
الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النافي لهما كما أشار إليه الآمدي بحثا وفيه من النظر ما لا يخفى. "والحكم التكليفي" يترجح "على الوضعي"؛ لأن التكليفي محصل للثواب، ومقصود الشارع بالذات، والأكثر من الأحكام بخلاف الوضعي "وقيل بعكسه" أي يترجح الوضعي عليه وذكر السبكي أنه الأصح؛ لأن الوضعي لا يتوقف على أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل بخلاف التكليفي وفيه نظر ظاهر "وما يوافق القياس" من النصوص على نص لم يوافقه "في الأحق" من القولين؛ لأن كون القياس دليلا مستقلا في نفسه وإنما عدم شرط اعتباره مع النص كما هو وجه المانع لا يمنع جعله وصفا مقويا بالموافقة غير مستقل في إثبات حكمه وليس المراد بالترجيح إلا هذا. "وما لم ينكر الأصل" رواية الفرع فيه يترجح على ما أنكر الأصل رواية الفرع فيه لمرجوحية الثاني قال السبكي وهذا فيما إذا أنكر الأصل وصمم على إنكاره مثل إنكار أم معبد ما حدث به عمرو بن دينار من حديث ابن عباس أنه: كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير. أما إذا لم يصمم وحمل شكه في نفسه على النسيان فلا تظهر مرجوحيته وقد كانوا يحدثون به بعد ذلك عمن رواه عنهم فيقول أحدهم: حدثني فلان(25/63)
ص -32-…عني كما فعل سهل في حديث القضاء باليمين مع الشاهد وسبقه أنس فقال حدثني فلان عني أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يجعل فص الخاتم من غيره". انتهى وقد عرفت أن تصميم الأصل على الإنكار مسقط لذلك المروي أصلا فليس الكلام فيه إذا كان مع غيره، وإنما الكلام فيما إذا لم يصمم وقبلنا ذلك المروي وظاهر أنه مرجوح بالنسبة إلى ما ليس كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم إذا عارض الإجماع نص أطلق ابن الحاجب تقديم الإجماع على النص وعلله غير واحد من الشارحين بعدم قبوله النسخ وقال الأبهري كأنه أراد إذا كانا قطعيين؛ لأن الإجماع متأخر عن النص فلا ينعقد على خلافه إلا إذا كان له سند ناسخ للنص من نص آخر قطعي، وعلى هذا مشى المصنف فقال "والإجماع القطعي" يترجح "على نص كذلك" أي قطعي كتابا كان أو سنة متواترة، وقال التفتازاني ينبغي أن يقيد بالظنيين وتوقف فيه المصنف حيث قال "وكون" الإجماع "الظني كذلك" أي يترجح على نص ظني "ترددنا فيه" وأما الأبهري فقال: أما إذا كان ظني المتن والسند أو كان النص ظني السند وجب تأويل القابل له انتهى. قلت وفيه نظر فإن من ما صدق هذا أنه إذا تعارض الإجماع الظني السند القطعي المتن مع النص كذلك يجب تأويل القابل التأويل منهما، وهو يشير إلى أن أحدهما قد يكون قابلا للتأويل لكن لا قابل للتأويل منهما؛ لأن المراد بالمتن جهة الدلالة كما صرح هو به والقطعي الدلالة لا يقبل التأويل المقبول لعدم احتمال اللفظ له وتبعية الإرادة للدلالة في القطع، والذي في منهاج البيضاوي إذا عارض الإجماع نص أول القابل له أي للتأويل بوجه ما، سواء كان الإجماع أو النص جمعا بين الدليلين قال وإلا تساقطا. قال الإسنوي شرحا له وإن لم يكن أحدهما قابلا للتأويل تساقطا؛ لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح وهذا كله إذا كانا ظنيين فإن كانا قطعيين أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فلا تعارض كما(25/64)
ستعرفه في القياس انتهى. ولم يتعرض له فيه ويتحرر هنا أقسام ثمانية. كون الإجماع والنص قطعي السند والمتن كونهما ظنيي السند والمتن كون الإجماع قطعيهما والنص ظنيهما كون الإجماع ظنيهما والنص قطعيهما كون الإجماع قطعي السند ظني المتن والنص كذلك كون الإجماع ظني السند قطعي المتن والنص كذلك كون الإجماع قطعي السند ظني المتن والنص بالعكس كون الإجماع ظني السند قطعي المتن والنص بالعكس، ثم الذي يظهر تقديم الإجماع القطعي سندا ومتنا على النص القطعي كذلك، وعلى النص الظني كذلك إذا لم يقبل التأويل وعلى النص الظني أحدهما كذلك وتقديم الإجماع الظني سندا ومتنا على النص الظني كذلك إذا لم يقبل أحدهما التأويل وتقديم الإجماع القطعي متنا لا سندا على النص كذلك وتقديم الإجماع القطعي سندا لا متنا على النص كذلك إذا لم يقبل أحدهما التأويل. وتقديم النص القطعي سندا ومتنا على الإجماع الظني كذلك إذا لم يقبل التأويل وعلى الإجماع الظني أحدهما إذا لم يقبل التأويل وأما تقديم الإجماع القطعي سندا لا متنا على النص القطعي متنا لا سندا أو بالعكس وتقديم الإجماع القطعي متنا لا سندا على النص(25/65)
ص -33-…القطعي سندا لا متنا أو بالعكس إذا لم يقبل أحدهما التأويل ففي كليهما تأمل، والوجه في ذلك كله غير خاف على المتأمل - إن شاء الله تعالى - والله سبحانه أعلم -.
"وما عمل به" الخلفاء "الراشدون" أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يرجح على ما ليس كذلك؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعتهم والاقتداء بهم كما يفيده ما قدمناه عنه صلى الله عليه وسلم في بحث العزيمة وكونهم أعرف بالتنزيل ومواقع الوحي والتأويل يفيد غلبة الظن في ذلك ولا سيما إذا كان بمحضر من الصحابة ولم يخالف فيه أحد فإنه يحل محل الإجماع بل ذهب أبو حازم إلى أن ما اتفقت الخلفاء الأربعة عليه إجماع ولكن الأكثر على خلافه كما سيأتي في باب الإجماع. "أو علل" أي الحكم الذي تعرض فيه للعلة يترجح على الحكم الذي لم يتعرض فيه لها "لإظهار الاعتناء به" أي لأن ذكر علته يدل على الاهتمام به والحث عليه للدلالة عليه من جهة اللفظ ومن جهة العلة "لا الأقبلية" أي لا؛ لأن الفهم أقبل له لسهولة فهمه بواسطة كونه معقول المعنى كما أشار إليه الآمدي، ثم عضد الدين وحينئذ فلا يقال: ربما يرجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم، ثم في المحصول يقدم المتقدم فيه ذكر العلة على الحكم على عكسه؛ لأنه أدل على ارتباط الحكم بالعلة واعترضه النقشواني بأن الحكم إذا تقدم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمعتها ركنت إليها، ولم تطلب غيرها والوصف إذا تقدم تطلب النفس الحكم فإذا سمعته قد تكتفي في علته بالوصف المتقدم إذا كان شديد المناسبة كما في {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية وقد لا تكتفي به بل تطلب علة غيره كما في {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} الآية فيقال تعظيما للمعبود قلت إذا كانت العلة المفيدة لتقديم ما ذكرت فيه العلة على ما لم تذكر إظهارا للاعتناء بما ذكرت فيه فالحق أنه لا يوجب تقديمها فيه تقديمه على ما أخرت فيه(25/66)
ولا تأخيرها فيه تقديمه على ما قدمت فيه، والارتباط بالعلة موجود في كليهما والركون إليها وعدم الركون إليها مع التعرض لها في كليهما لا أثر له في الترجيح على أنه قد يوجد كل منهما في كليهما نعم الترتيب الطبيعي بين العلة والمعلول موجود في تقديم ذكر العلة على المعلول لكن معلوم أن مجرد ذلك لا يفيد ترجيحا له على ما ذكرت فيه بعد المعلول مع أنه معارض بما يخال في تقديم ذكر المعلول على العلة من الاهتمام ما ليس في عكسه والله سبحانه أعلم. "كما" يترجح ما "ذكر معه السبب" على ما لم يذكر معه أي العام الوارد على سبب خاص يترجح على العام المطلق عنه إذا تعارضا في صورة السبب للاهتمام به إذ السبب هو العلة الباعثة عليه ظاهرا فكانت دلالته فيها شديدة القوة حتى لا يجوز تخصيصها وأما فيما عدا صورة السبب فيترجح العام المطلق عنه على الوارد على سبب لكونه أقوى منه لقيام احتمال كون ذي السبب خاصا بمورده إذ الأصل مطابقته لما ورد فيه قال السبكي فمن قال إن الوارد على سبب راجح أراد في صورة السبب ومن قال إن عكسه راجح أراد فيما عداها ولا يتجه خلاف في الموضعين.
"وفي السند" أي والترجيح للمتن باعتبار حكاية طريقه "كالكتاب" أي كترجيحه "على السنة" وهذا على إطلاقه، قول بعضهم كما أشار إليه السبكي بقوله ولا يقدم الكتاب(25/67)
ص -34-…على السنة ولا السنة عليه خلافا لزاعميهما أي تقديم الكتاب عليها مستندا لحديث معاذ المشتمل على أنه يقضي بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك كما رواه أبو داود وغيره وتقديم السنة عليه مستندا إلى قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ثم قال: الأصح تساوي المتواترين من كتاب وسنة وقيل يقدم الكتاب عليها لأنه أشرف منها وقيل تقدم السنة لما ذكرنا والذي يقتضيه أصول أصحابنا على ما قدمه المصنف في أول فصل التعارض أن القطعي الدلالة من السنة القطعية السند تترجح على الظني الدلالة من الكتاب، والقطعي الدلالة منهما إذا لم يعلم تاريخهما يجري لزوم فيهما مجملين، وإن علم فالمتأخر ناسخ للمتقدم والظني الدلالة منهما إذا لم يعلم تاريخهما لا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابا أو سنة بل بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن وإلا جمع بينهما إن أمكن وإلا تساقطا. وإن علم تاريخهما نسخ المتأخر المتقدم، وقطعي الدلالة من الكتاب يترجح على القطعي السند الظني الدلالة من السنة لقوة دلالته فلم يبق ما ينطبق عليه إلا ما كان من السنة قطعي الدلالة ظني السند مع ما كان من الكتاب ظني الدلالة لرجحان الكتاب حينئذ باعتبار السند فينبغي التقييد به ولا يقال: وهذا أيضا لا يتم؛ لأنه لا معارضة بين قطعي وظني كما صرحوا به؛ لأنا نقول: مضى أن ليس المراد بالمعارضة في الشرعيات حقيقتها لتعالي الشارع عنها بل صورتها وهي موجودة بينهما وعليه قوله "ومشهورها" أي يرجح الخبر المشهور من السنة "على الآحاد" لرجحان المشهور سندا على الآحاد "كاليمين على من أنكر" فإنه حديث مشهور وتقدم تخريجه في مفهوم المخالفة "على خبر الشاهد واليمين" أي القضاء بهما للمدعي المخرج في صحيح مسلم وغيره وهو من أخبار الآحاد التي لم تبلغ حد الشهرة على ما عرف في موضعه فلا جرم أن أصحابنا لم يأخذوا(25/68)
به مطلقا خلافا للائمة الثلاثة في بعض الموارد كما هو معروف في الفروع "وبفقه الراوي" ولعل المراد به اجتهاده كما هو عرف الصدر الأول "وضبطه" وتقدم بيانه في شرائط الراوي "وورعه" أي تقواه وهو الإتيان بالواجبات والمندوبات والاجتناب عن المحرمات والمكروهات "وشهرته بها" أي بهذه الأمور "وبالرواية وإن لم يعلم رجحانه فيه" أي في كل منها فإن شهرته به تكون غالبا لرجحانه فيه والمعنى كترجيح أحد الخبرين على الآخر بكون راويه موصوفا بهذه الصفات أو بعضها على الآخر الذي ليس راويه كذلك؛ لأن صدق الظن فيه أقوى واحتمال الغلط فيه أوهى وصرح شمس الأئمة بأن اعتياد الرواية ليس بمرجح على من لم يعتدها وهو حسن، ثم منهم من خص الترجيح بالفقه بالخبرين المرويين بالمعنى وفي المحصول والحق الإطلاق؛ لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وما لا يجوز فإذا سمع ما لا يجوز أن يحمل على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدماته وسبب نزوله فيطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف العامي وقال ابن برهان، ويكون أحدهما أفقه من الآخر، وبقوة حفظه وزيادة ضبطه وشدة اعتنائه فيرجح على ما كان أقل في ذلك حكاه إمام الحرمين عن إجماع أهل الحديث قيل وبعلمه بالعربية فإن العالم بها يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل فيكون الوثوق بروايته أكثر قيل: ويمكن أن(25/69)
ص -35-…يقال إنه مرجوح؛ لأن العالم بها يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ والجاهل بها يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ولا يعرى كل منهما عن النظر قيل وبسرعة حفظ أحدهما وإبطاء نسيانه مع سرعة حفظ الآخر وسرعة نسيانه وفيه تأمل "وفي" كون "علو السند" أي قلة الوسائط بين الراوي للمجتهد وبين النبي صلى الله عليه وسلم مرجحا على ما ليس كذلك؛ لأنه كلما قلت الوسائط كان أبعد من الخطأ كما ذهب إليه الشافعية "خلاف الحنفية" كما يفيده واقعة الإمام أبي حنيفة مع الأوزاعي في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه وهي مشهورة خرجها الحافظ ابن محمد الحارثي في تخريج مسند الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وقد سقناها في حلبة المجلي شرح منية المصلي في شرح قوله ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى "وبكونها" أي وكترجيح إحدى الروايتين المتعارضتين بكون إحداهما "عن حفظه" أي الراوي "لا نسخته" فيقدم خبر المعول على حفظه على خبر المعول على كتابه لاحتماله الزيادة والنقص قال الإمام الرازي وفيه احتمال وهو كما قال فإن كتابه المصون تحت يده هذا الاحتمال فيه بعيد بل ليس هو دون احتمال النسيان والاشتباه على الحافظ وقد عد ذلك فيه كالعدم "وخطه" أي وكترجيح رواية من يعتمد في روايته على خطه "مع تذكره" لذلك على رواية من يعتمد في روايته "على مجرد خطه وهذا" الترجيح ظاهر أنه متفرع "على غير قوله" أي أبي حنيفة أما على قوله فلا إذ لا عبرة عنده للخط بلا تذكر فلم يحصل التعارض الذي فرعه الترجيح "وبالعلم" أي وكالترجيح لأحد المرويين بالعلم "بأنه" أي راويه "عمل بما رواه على قسيميه" أي الذي لم يعلم أنه عمل به ولا أنه لم يعمل به والذي علم أنه لم يعمل به؛ لأنه أبعد من الكذب قلت وهذا في أولهما إذا لم يعلم عمله بخلافه بعد روايته له. أما إذا علم أنه عمل فيه بخلافه بعد روايته له فقد سبق أنه عند الحنفية يدل على نسخه فما رواه حينئذ ساقط الاعتبار فلا يقوم بين(25/70)
المرويين ركن التعارض الذي فرعه الترجيح "أو" كان الترجيح لأحد المرويين بالعلم بأن راويه "لا يروي إلا عن ثقة" على ما راويه ليس كذلك وهذا إنما هو بالنسبة إلى المرسلين فلذا قال "على" قول "مجيز المرسل" أما على قول من لم يجزه فظاهر أن لا تعارض لانتفاء الدليلين عنده فلا ترجيح، ثم قال "والوجه نفيه" أي نفي الترجيح بهذا على قول مجيز المرسل أيضا "لأن الغرض فيه" أي في قبول المرسل "ما يوجبه" أي نفي الترجيح بذلك وهو العلم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة أما مطلقا أو عنده فقد تساويا في ذلك الترجيح بما به الترجيح إنما يكون بعد ذلك هذا ما ظهر للعبد أنه مراد المصنف - والله تعالى أعلم بكل مراد - "ومن أكابر الصحابة" أي كالترجيح لأحد المرويين يكون راويه من أكابر الصحابة "على أصاغرهم" أي على المروي الذي راويه من أصاغر الصحابة؛ لأن الأكبر إلى الرسول أقرب غالبا فيكون بحاله أعرف قال المصنف "ويجب لأبي حنيفة تقييده" أي ما رواه الأكبر منهم "بما إذا رجح" ما رواه "فقها" بالنظر إلى قواعد الفقه لا بفقهه "إذ قال" أبو حنيفة وأبو يوسف "برأي الأصاغر في الهدم" أي هدم الزوج الثاني ما دون الثلاث وهم ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كما رواه محمد بن الحسن في الآثار دون الأكابر في عدم(25/71)
ص -36-…الهدم كما ذهب إليه محمد والأئمة الثلاثة وهم عمر وعلي رضي الله عنهما كما رواه البيهقي من طريق الشافعي مع أن أكابر الصحابة ولا سيما عمر وعليا فقهاء. وإن كان الأوجه نظرا إلى القواعد الفقهية ما عليه أكابر الصحابة حتى قال المصنف فيما سيق والحق عدم الهدم وفي فتح القدير القول ما قال محمد وباقي الأئمة الثلاثة ولقد صدق قول صاحب الأسرار ومسألة يخالف فيها كبار الصحابة يعوز فقهها ويصعب الخروج منها ويتفرع على ما بحثه للإمام أبي حنيفة رحمه الله أن يقال: "فلا يترجح" خبر الأكبر من حيث هو أكبر "في الرواية" على الأصغر من حيث هو أصغر إذا تعارضا "بعد فقه الأصغر وضبطه إلا بذاك" أي برجحانه بالنظر إلى قواعد الفقه "أو غيره" من المرجحات قلت ولكن إذا كانت علة تقديم رواية الأكابر على الأصاغر هي الأقربية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلزم من عدم الأخذ بما عن الأكابر فيما يرجع إلى رأيهم فيه عدم الترجيح لما هو من مروياتهم عنه مع وجود الأقربية منه، ثم حيث تكون العلة في تقديم روايتهم على رواية الأصاغر ما ذكرنا يستغنى عنه بقوله "وبأقربيته" أي وكالترجيح لأحد المرويين بأقربية رواية عند السماع من النبي صلى الله عليه وسلم على الآخر الذي ليس له تلك الأقربية. "وبه" أي وبقرب السماع "رجح الشافعية الإفراد" بالحج على غيره "من رواية ابن عمر؛ لأنه كان تحت ناقته" فقد أخرج أبو عوانة عنه أنه قال وإني كنت عند ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج وهم في ذلك تبع لإمامهم قال الشافعي أخذت برواية جابر لتقدم صحبته وحسن سياقه لابتداء الحديث وبرواية عائشة لفضل حفظها وبحديث ابن عمر لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي هذا نصه في المزني، ثم في هذه العلة أن يقال: "ولا يخفى عدم صحة إطلاقه" أي الترجيح بالقرب "ووجوب تقييده" أي القرب المرجح على البعد "ببعد الآخر بعدا يتطرق معه الاشتباه" أي(25/72)
اشتباه الكلام على ذلك البعيد "للقطع بأن لا أثر لبعد شبر لقريبين" بإن كان أحدهما أقرب إلى المتكلم من الآخر بمقدار شبر في تفاوت سماع كلامه "ثم للحنفية" الترجيح بالقرب أيضا للقران من رواية أنس "إذ عن أنس أنه كان آخذا بزمامها حين أهل بهما" أي بالحج والعمرة ففي المبسوط عنه كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها، ولعابها يسيل على كتفي وهو يقول "لبيك بحجة وعمرة" أي تجر ما تجتره من العلف وتخرجه إلى الفم وتمضغه، ثم تبلعه ولفظ ابن ماجه وكذا أخرجه عنه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال عند المسجد بدل عند الشجرة ولم يذكر قائمة وقال "قال لبيك بحجة وعمرة معا" إني عند ثفنات ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة فلما استوت به قائمة قال "لبيك بحجة وعمرة معا" وذلك في حجة الوداع "وتعارض ما عن ابن عمر في الصحيح" إذ كما عنه في الصحيحين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا. فعنه أيضا فيهما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ولم تتعارض الرواية عن أنس أنه لبى بهما جميعا والأخذ برواية من لم تضطرب روايته أولى من الأخذ برواية من اضطربت إلى غير ذلك من وجوه ترجيح كونه صلى الله عليه وسلم حج قارنا على كونه حج مفردا أو متمتعا كما هو مذكور في موضعه.(25/73)
ص -37-…"وبكونه تحمل بالغا" أي وكالترجيح لأحد المرويين بكون راويه تحمل جميع ما يرويه بالغا على الآخر الذي لم يتحمل راويه جميع ما يرويه بالغا سواء تحمل جميعه صبيا أو بعضه بالغا وبعضه صبيا أو بكون راويه تحمل بعض ما يرويه بالغا على الآخر الذي تحمل راويه جميع ما يرويه صبيا كما مشى عليه البيضاوي وغيره وهو ظاهر المحصول؛ لأن البالغ أضبط من الصبي وأقرب منه غالبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم "وينبغي مثله" أي الترجيح "فيمن تحمل مسلما" فيرجح خبره على خبر من تحمل غير مسلم "لأنه" أي غير المسلم "لا يحسن ضبطه لعدم إحسان إصغائه وبقدم الإسلام" أي ويرجح المروي الذي راويه قديم الإسلام على معارضه الذي راويه حديث الإسلام فإن خبر متقدمه أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام وتحرزه فيه ذكره الآمدي وابن الحاجب لكن كما قال الأبهري هذا إذا كان راويه متقدم الإسلام في زمان متأخر الإسلام أما إذا كانت روايته متقدمة على متأخر الإسلام فلا وهو مأخوذ من كلام الإمام الرازي كما سترى "وقد يعكس" أي يرجح خبر متأخر الإسلام على خبر متقدمه كما في المحصوليات وذكر السبكي أنه الذي ذكره جمهور الشافعية لكن شرط في المحصول أن يعلم أن سماعه وقع بعد إسلامه "للدلالة على آخرية الشرعية" هذا وذكر الإمام الرازي أن الأولى أنا إذا علمنا أن المتقدم مات قبل إسلام المتأخر أو أن روايات المتقدم أكثرها متقدم على راويات المتأخر فهنا يحكم بالرجحان؛ لأن النادر ملحق بالغالب انتهى. يعني فيقدم المتأخر وقال الأستاذ أبو منصور إن جهل تاريخهما فالغالب أن رواية متأخر الإسلام ناسخ، وإن علم في أحدهما وجهل في الآخر فإن كان المؤرخ في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم فهو الناسخ فينسخ قوله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا" بصلاة أصحابه قياما خلفه وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه وإن لم يعلم التاريخ فيهما واحتيج إلى نسخ أحدهما بالآخر(25/74)
فقيل: الناقل عن العادة أولى من الموافق لها وقيل: المحرم والموجب أولى من المبيح فإن كان أحدهما موجبا والآخر محرما لم يقدم أحدهما على الآخر إلا بدليل ولو أسلم الراويان كخالد وعمرو بن العاص وعلم أن أحدهما تحمل بعد الإسلام فخبره راجح على الخبر الذي لم يعلم هل تحمله الآخر في إسلامه أم في كفره قال في المحصول؛ لأنه أظهر تأخرا. "ككونه مدنيا" أي كما يترجح الخبر المدني على الخبر المكي لتأخره عنه، ثم المصطلح عليه أن المكي ما ورد قبل الهجرة في مكة أو غيرها والمدني ما ورد بعدها في المدينة أو مكة أو غيرهما لكن قال الإسنوي وهذا الاصطلاح ليس المراد هنا؛ لأنه لو كان كذلك لكان المدني ناسخا للمكي بلا نزاع ولأن تقديم الناسخ على المنسوخ ليس من باب الترجيح كما نص عليه الإمام بل المراد أن الخبر الوارد في المدينة مقدم على الوارد في مكة سواء علمنا أنه كان قد ورد في مكة قبل الهجرة أو لم يعلم الحال، والعلة فيه ما قاله الإمام أن الغالب في المكيات ورودها قبل الهجرة والوارد منها بعد الهجرة قليل والقليل ملحق بالكثير فيحصل الظن بأن هذا الوارد في مكة إنما ورد قبل الهجرة وحينئذ فيجب تقديم المدني عليه لكونه متأخرا. "وشهرة النسب" أي وكترجيح أحد المتعارضين بشهرة نسب راويه(25/75)
ص -38-…على الآخر بعدم شهرة نسب راويه قال الآمدي؛ لأن احتراز مشهور النسب عما يوجب نقص منزلته المشهورة يكون أكثر "ولا يخفى ما فيه" أي ما في الترجيح بهذا وأقرب منه ما في المحصول رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهوله. "وصريح السماع" أي وكترجيح أحد المتعارضين بتصريح راويه بسماعه ك سمعته يقول كذا "على محتمله" أي على الآخر الراوي له بلفظ محتمل للسماع "كقال" للتيقن في الأول والاحتمال في الثاني "وصريح الوصل" أي وكترجيح أحدهما بكون سنده متصلا صريحا بأن ذكر كل من رواته تحمله عن من رواه ب حدثنا أو أخبرنا أو سمعت أو نحو ذلك "على العنعنة" أي على الآخر الذي رواه كل رواته أو بعضهم بلفظ عن من غير ذكر صريح اتصال بتحديث أو غيره لاحتمال عدم الاتصال في هذا قال المصنف "ويجب عدمه" أي عدم الترجيح بصراحة الوصل على العنعنة "لقابل المرسل بعد عدالة المعنعن وأمانته" وكونه غير مدلس تدليس التسوية؛ لأنه لا يروي إلا عن ثقة وقدمنا قبيل مسألة الجرح والتعديل عن الحاكم الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أهل النقل. "وما لم تنكر روايته" أي وكترجيح أحد المرويين الذي لم ينكر الثقات روايته على رواية الآخر الذي أنكر الثقات روايته على راويه؛ لأن الظن الحاصل به أقوى "وبدوام عقله" أي وكترجيح أحدهما بكون راويه سليم العقل دائما على الآخر الذي اختل عقل راويه في بعض الأوقات كذا أطلقه الحاصل والتحصيل والمنهاج "والوجه فيما" أي الحديث الذي "علم أنه" رواه راويه الذي اختل عقله في وقت قد رواه "قبل زواله" أي عقله "نفيه" أي ترجيح ذاك عليه بهذا العارض "وذاك" الترجيح لذاك عليه بهذا العارض "إذا لم يميز" أي لم يعلم هل رواه في سلامة عقله أم في اختلاطه كما شرطه في المحصول "وصريح التزكية" أي وكترجيح أحدهما يكون راويه مزكى بلفظ صريح في التزكية "على" الآخر المزكى راويه بسبب "العمل بروايته" أو الحكم بشهادته؛ لأن العمل(25/76)
والحكم قد يبنيان على الظاهر من غير تزكية ويستندان إلى شيء آخر موافق للرواية والشهادة "وما بشهادته" أي كترجيح أحدهما بكون تزكية راويه بالحكم بشهادته "عليها" أي على رواية الآخر الذي زكي بالعمل بها؛ لأنه يحتاط في الشهادة أكثر وما زكي راويه بالخلطة والاختبار على ما زكي راويه بالأخبار كما سيشير إليه المصنف؛ لأن المعاينة أقوى من الخبر. "والمنسوب إلى كتاب عرف بالصحة" أي وكترجيح المروي في كتاب عرف بالصحة كالصحيحين "على" منسوب إلى "ما" أي كتاب "لم يلتزمها" أي الصحة "فلو أبدى" أي أظهر ما لم يلتزمها "سندا" لذلك المروي "اعتبر الأصحية" بينهما طريقا فأيهما فاز بها فقد فاز بالتقديم "وكون ما في الصحيحين" راجحا "على ما روي برجالهما في غيرهما أو" راجحا على ما "تحقق فيه شرطهما بعد إمامة المخرج" كما مشى عليه ابن الصلاح وأتباعه "تحكم" وزاد في فتح القدير لا يجوز التقليد فيه إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال روايتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواية حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم، ثم حكمهما أو أحدهما بأن الراوي المعين يجتمع فيه تلك الشروط(25/77)
ص -39-…ليس مما يقطع فيه بمطابقة الواقع فيجوز كون الواقع خلافه وقد أخرج مسلم عن كثير في كتابه ممن لم يسلم من غوائل الجرح، وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم، وكذا في الشروط حتى أن من اعتبر شرطا وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئا لمعارضة المشتمل على ذلك الشرط، وكذا فيمن ضعف راويا ووثقه آخر نعم تسكن نفس غير المجتهد ومن لم يخبر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر أما المجتهد باعتبار الشرط وعدمه والذي خبر لراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه انتهى. فإن قلت ليست أصحيتهما لمجرد اشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها بل ولتلقي الأمة بعدهما لقبول كتابيهما وهذا منتف في غيرهما قلت تلقي الأمة لجميع ما في كتابيهما ممنوع أما لرواتهما فلما ذكر المصنف وأما لمتون أحاديثهما؛ فلأنه لم يقع الإجماع على العمل بمضمونها ولا على تقديمها على معارضها، ثم مما ينبغي التنبيه له أن أصحيتهما على ما سواهما تنزلا إنما يكون بلزمانها من بعدهما لا المجتهدون المتقدمون عليهما فإن هذا مع ظهوره قد يخفى على بعضهم أو يغالط به والله سبحانه أعلم(25/78)
"ويجب" الترجيح للمروي "بالذكورة" لراويه "فيما يكون خارجا" أي في الأمور الواقعة خارج البيوت "إذ الذكر فيه أقرب" من الأنثى "وبالأنوثة" لراويه "في عمل البيوت"؛ لأنهن به أعرف "ورجح في كسوف الهداية حديث سمرة" بن جندب المفيد أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين. كما أخرجه أصحاب السنن. وقال الترمذي حسن صحيح غير أن صاحب الهداية عزاه إلى راويه ابن عمر ولم توجد عنه "على" حديث "عائشة" المفيد أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين. كما أخرجه أصحاب الكتب الستة "بأن الحال أكشف لهم" أي للرجال لقربهم وإن كان إنما يتم هذا في خصوص هذا إذا لم يرو حديث الركوعين غير عائشة أحد من الرجال لكن قد رواه ابن عباس في الصحيحين وعبد الله بن عمر في صحيح مسلم، ثم هذا أحد الأقوال وعبر عنه السبكي بترجيح الذكر في غير أحكام النساء بخلاف أحكامهن؛ لأنهن أضبط فيها وما ذكره المصنف أولى وأشمل ثانيها يقدم خبر الذكر على خبر الأنثى مطلقا؛ لأنه أضبط منها في الجملة ثالثها لا يقدم خبره مطلقا من حيث الذكورة على خبرها "وكثرة المزكين" في الترجيح بها "ككثرة الرواة" وسيأتي قريبا ما في الترجيح بكثرتها من وفاق وخلاف. "وبفقههم ومداخلتهم للمزكى" أي ويترجح أحدهما بفقه مزكي راويه ومخالطتهم في الباطن له على الآخر الذي مزكو راويه ليسوا كذلك؛ لأن ظن صدقه أقوى "وبعدم الاختلاف" أي ويترجح بعدم الاختلاف "في رفعه" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معارضه المختلف في رفعه إليه ووقفه على راويه لما في المتفق على رفعه من قوة الظن بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس للمختلف في رفعه إليه قلت ولو قيل هذا فيما للرأي فيه مجال أما لو كان المختلف في رفعه مما ليس للرأي فيه مجال فهما سواء لكان وجيها "وتركنا" مرجحات أخرى "للضعف" أي لضعفها قال المصنف كقولهم يرجح(25/79)
ص -40-…الموافق لدليل آخر ولعمل أهل المدينة انتهى قلت وفي ضعف الترجيح بالموافق لدليل آخر مطلقا نظر وكيف؟ والأحق من القولين عند المصنف: ترجيح ما يوافق القياس على ما لا يوافقه ومنها كون الإسناد حجازيا أو كون راويه من بلد لا يرضون التدليس أو كونه صاحب كتاب يرجع إليه أو كون لفظه أفصح ولفظ الآخر فصيحا فإنه صلى الله عليه وسلم قد يتكلم بالأفصح والفصيح لا سيما إذا كان من لغتهم ذلك أو كون أحد الراويين أنحى من الآخر إلى غير ذلك "والوضوح" أي ولوضوحها قال المصنف ولقولهم بقدم الإجماع المتقدم عند تعارض إجماعين وفي تعارض تأويلين يقدم ما دليل تأويله أرجح وفي تعارض عامين ما ورد على سبب وغيره يقدم الوارد في السبب والآخر في غيره للخلاف انتهى. لكن هذا لم يترك بل أشار إليه كما أوضحناه سالفا ومنها كونه غير مشعر بنوع قدح في الصحابة على ما أشعر وكونه لم يضطرب لفظه على ما اضطرب وكونه قولا على كونه فعلا إلى غير ذلك. "وتتعارض التراجيح" فيحتاج إلى بيان المخلص كما فيما بين الأدلة "كفقه ابن عباس وضبطه" في روايته لوقوع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. بل وهما محرمان "بمباشرة أبي رافع" الرسالة بينهما في راويته لتزوجها وهو حلال "حيث قال كنت السفير بينهما" والذي في رواية الترمذي وغيره كما قدمناه الرسول بينهما ولا ضير في هذا فإنه معناه "وكسماع القاسم" بن محمد بن أبي بكر "مشافهة من عائشة" أن "بريرة عتقت وكان زوجها عبدا" فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه فإنها عمته فلم يكن بينه وبينها حجاب "مع إثبات الأسود عنها" أي عائشة كان زوج بريرة حرا فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري وأصحاب السنن وهو أجنبي منها فإذا سمع منهما "فإنه" أي سماعه يكون "من وراء حجاب" فتعارض الإثبات والمشافهة المشتملة على النفي "وإذا قطع" الأسود "بأنها" أي المخبرة(25/80)
من وراء حجاب "هي" أي عائشة "فلا أثر لارتفاعه" أي الحجاب فلا يصلح ارتفاعه مرجحا فيترجح الإثبات على النفي لاشتماله على زيادة علم ليست للنافي إلى غير ذلك "ولو رجح" حديث أبي رافع "بالسفارة لكان" الترجيح بها ليس إلا "لزيادة الضبط"؛ لأن السفير له زيادة ضبط "في خصوص الواقعة" التي هو سفير فيها "فإذا كان" الضبط "صفة النفس" يغلب ظن الصدق وحينئذ "اعتدلا" أي تساوى ابن عباس وأبو رافع "فيها" أي في هذه الصفة لوجودها لكل منهما "وترجح" خبر ابن عباس "بأن الإخبار به" أي بالإحرام "لا يكون إلا عن سبب علم هو" أي سبب العلم به "هيئة المحرم" بخلاف خبر أبي رافع "نعم ما عن صاحبة الواقعة" ميمونة رضي الله عنها تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان رواه أبو داود "إن صح قوى" خبر أبي رافع وفيه إشارة إلى أن خبر صاحب الواقعة يترجح على غيره إذا عارضه؛ لأنه أدرى وقد صح ويؤيده لفظ مسلم عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. فيتعارض ترجيح إخبار ابن عباس بما اشتمل عليه خبره من كونه لا يكون إلا عن سبب علم به وترجيح خبر أبي رافع بموافقة صاحبة الواقعة له في ذلك، وقد أمكن الجمع بين إخبارها وبين إخبار ابن عباس فتعين مخلصا "فيجب" أن يكون قولها تزوجني "مجازا عن الدخول"(25/81)
ص -41-…لعلاقة السببية العادية بينهما إذا هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء "جمعا" بين الحديثين بقدر الإمكان "ومنه" أي تعارض التراجيح "للحنفية الوصف الذاتي" وهو "ما" يعرض للشيء "باعتبار الذات أو الجزء" الغالب منها "على الحال" وهو "ما" يعرض للشيء "بخارج" أي بسبب أمر خارج عنه فإن كلا منهما بمفرده يقع به الترجيح فإذا تعارضا في محل رجح ما فيه الذاتي على الحال؛ لأن الذاتي أسبق وجودا من الحال زمانا أو رتبة فيقع به الترجيح أولا؛ لأن السبق من أسباب الترجيح فلا يتغير بما يحدث بعده كاجتهاد أمضي حكمه فإنه لا ينسخ باجتهاد بعده؛ ولأن الحال في الشيء قائم به لا بنفسه وما هو قائم بغيره فله حكم العدم في حق نفسه لعدم قيامه وبقائه في نفسه فكانت الحال موجودة من وجه دون وجه تابعة لغيرها والذات موجودة من كل وجه وأصل بنفسها فالترجيح بها أولى، ثم بعدما صار الدليل راجحا باعتبار الذات لا يجعل الآخر راجحا باعتبار الحال؛ لأنه يصير نسخا وإبطالا لما هو أصل بنفسه بما هو تبع لغيره وهو لا يصلح لذلك "كصوم" ليوم من رمضان أو ليوم معني بالنذر "لم يبيت" بأن لم ينو من الليل وإنما نوى قبل نصف النهار فإذن "بعضه منوي وبعضه لا" بالضرورة "ولا يتجزأ" أي والحال أن صوم يوم واحد لا يتجزأ صحة وفسادا بل إما أن يفسد الكل أو يصح الكل "فتعارض مفسد الكل" وهو عدم النية في البعض "ومصححه" أي الكل وهو وجود النية في البعض "فترجح الأول" وهو الإفساد للكل كما ذهب إليه الشافعي "بوصف العبادة المقتضيها" أي النية "في الكل" فإن وصف العبادة توجب الفساد وقد انتفت النية في البعض فتفسد لعدمها فيفسد الكل لتعذر فساد البعض وصحة البعض وهذا ترجيح بالحال؛ لأن وصف العبادة عروضه للإمساك لا لذات الإمساك فإن الإمساك من حيث هو ليس بعبادة بل باعتبار خارج عنه وهو النية "و" ترجيح "الثاني" وهو الصحة للكل "بكثرة الأجزاء المتصلة" بالنية أي بسبب وجودها مع كثرة(25/82)
الأجزاء "وهو" أي هذا الترجيح ترجيح "بالذاتي" فإن وجوده الخارجي باعتبار أجزاء الصوم الواقعة هي فيها أعني النية "وينقض" هذا "بالكفارة" أي بصومها، وكذا بصوم النذر المطلق فإنهم لم يجيزوهما إلا مبيتين مع إمكان الاعتبار المذكور "ويدفع بأن الغرض" مع ذلك الاعتبار "توقف الإجزاء" أي كون تلك الإمساكات محكوما بتوقفها "لما فيه" أي في الوقت من الشروع قبل النية إلى أن يظهر لحوق نيته في الأكثر أولا لا بطلانها فإن لحقت انسحب على تلك الإمساكات حكمهما وإلا زال التوقف وحكم ببطلانها "وذلك" أي التوقف "في الوجوب" إنما هو "في" لازم "معين" بالضرورة فظهر أن في معين خبر ذلك كما ذكره المصنف "بخلاف نحو" صوم "الكفارة لم يتعين يومها للواجب" أي لم يثبت الشرع فيه الوجوب قبل النية حتى جاز فطره "فلمشروع الوقت" أي فكان المشروع فيه مشروع الوقت "وهو النفل" فإذا لم يثبت كانت تلك الإمساكات السابقة على النية متوقفة لصوم النفل فلا تنسحب نية الوجوب عليها فلا تصير واجبة بل إما نفلا أو فطرا ولما كان الحكم بالتوقف يحتاج إلى ما يفيد اعتباره أشار إليه بقوله "وهو" أي النفل "الأصل" في الاعتبار "إذا كان صلى الله عليه وسلم ينويه من النهار" كما ثبت في صحيح مسلم ويصير به صائما كل اليوم وذلك إنما يكون(25/83)
ص -42-…بالتوقف "وهذا" التوجيه بناء "على أنه" صلى الله عليه وسلم "صائم كل اليوم" وهو كذلك إن شاء الله تعالى ومن ثمة قال في الهداية وعندنا يصير صائما من أول النهار؛ لأنه عبادة قهر النفس وهو إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره انتهى. على أنه إذا حكم له بصوم البعض دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم بلا نية كما لو نسي الصوم أو غفل عنه بعد نيته والله تعالى أعلم.
مسألة
قال "أبو حنيفة وأبو يوسف لا ترجيح بكثرة الأدلة والرواة ما لم يبلغ" المروي بكثرتهم "الشهرة" فحينئذ يترجح الحديث الذي بلغ بكثرتهم حد الشهرة على الحديث الذي لم يبلغ بكثرتهم حدها وتعرض للشهرة دون التواتر؛ لأنها إذا كانت مرجحة فالتواتر بطريق أولى؛ لأنه لا يبلغ حده ما لم يبلغ حدها "والأكثر" من العلماء قولهم "خلافه" أي خلاف قولهما فيرجح عندهم بكثرة الأدلة والرواة وإن لم يبلغ المروي بكثرتهم حد الشهرة "لهما تقوي الشيء" أي ترجيحه إنما يكون "بتابع" لذلك الشيء "لا بمستقل" أي لا بشيء مستقل بالتأثير إذا تقوي الشيء إنما يكون بصفة توجد في ذاته وتكون تبعا له وأما ما يستقل بنفسه فلا يحصل للغير قوة بانضمامه إليه وكل من الأدلة والرواة المتعددة في أحد الجانبين مستقل بإيجاب الحكم فلا يكون مرجحا لموافقه "بل يعارض" الدليل المنفرد في أحد الجانبين كل دليل في الجانب الآخر "كالأول" أي كما يعارض الدليل المطلوب ترجيحه منهما إذا ليس معارضته لواحد منها بأولى من معارضته للآخر "ويسقط الكل" عند عدم المرجح كما هو حكم المعارضة عند عدمه "كالشهادة" من حيث إنه لا ترجيح لإحدى الشهادتين المتعارضتين بعد استكمال نصابها فيها بزيادة لإحداهما في العدد على الأخرى وحكى غير واحد كصدر الشريعة الإجماع على هذا وقد ينظر فيه بما قدمنا من أن مالكا والشافعي في قول لهما يريان ذلك اللهم إلا أن يراد إجماع الصدر الأول إن لم يثبت فيه خلاف لأحد من(25/84)
مجتهديه "ولدلالة إجماع سوى ابن مسعود على عدم ترجيح عصوبة ابن عم هو أخ لأم" بأن تزوج عم إنسان من أبويه أو الأب أمه فولدت له ابنا فالابن ابن عمه وأخوه لأمه "على ابن عم ليس به" أي بأخ لأم في الإرث منه "ليحرم" ابن العم الذي ليس بأخ لأم مع ابن العم الذي هو أخ لأم "بل يستحق" ابن العم الذي هو أخ لأم "بكل" من كونه ابن عم وكونه أخا لأم "مستقلا" نصيبا من الإرث فيستحق السدس بكونه أخا لأم ونصف الباقي بكونه عصبة إذا لم يترك وارثا سواهما أما ابن مسعود فذهب إلى أن ابن العم الذي هو أخ لأم يحجب ابن العم الذي ليس أخا لأم أخرج ابن أبي شيبة عن النخعي في امرأة تركت بني عمها أحدهم أخوها لأمها فقضى فيها عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم أن لأخيها لأمها السدس وهو شريكهم بعد في المال وقضى فيها عبد الله أن المال له دون بني عمه "والكل" أي ولدلالة إجماع الكل "فيه" أي في ابن عم حال كونه "زوجا" أيضا على عدم ترجيحه على ابن عم فقط في الإرث فيكون لابن العم الزوج النصف بالزوجية ويكون النصف الآخر بينه وبين ابن العم الذي ليس بزوج إذ لو كان الترجيح(25/85)
ص -43-…بكثرة الدليل ثابتا لكان بكثرة دليل الإرث ثابتا أيضا، واللازم منتف فالملزوم مثله وهذا "بخلاف كثرة" يكون "بها هيئة اجتماعية" لأجزائها "والحكم وهو الرجحان منوط بالمجموع" من حيث هو مجموع لا بكل واحد من أجزائها فإنه يرجح بها على ما ليس كذلك "لحصول زيادة القوة لواحد" فيه قوة زائدة وهي الهيئة الاجتماعية "فلذا" أي لثبوت الترجيح بالكثرة التي لها هيئة اجتماعية والحكم منوط بمجموعها من حيث هو "رجح" أحد القياسين المتعارضين "بكثرة الأصول" أي بشهادة أصلين أو أصول لوصفه المنوط به الحكم على معارضه الذي ليس كذلك "في" باب تعارض "القياس"؛ لأن كثرة الأصول توجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف فيحدث بها في نفس الوصف قوة صالحة للترجيح كالاشتهار في السنة على ما هو المختار خلافا لبعض أصحابنا وبعض الشافعية كما سيأتي بيانه مستوفى في القياس إن شاء الله تعالى. "بخلافه" أي ما إذا كان الحكم منوطا "بكل" لا بالمجموع فإنه لا يرجح بالكثرة الحاصلة من ضم غيره إليه والحاصل أن الكثرة إن أدت إلى حصول هيئة اجتماعية هي وصف واحد قوي الأثر صلحت للترجيح؛ لأن المرجح هو القوة لا الكثرة غايته أن القوة حصلت بالكثرة وإلا فلا "وأجابوا" أي الأكثر "بالفرق" بين الشهادة والرواية أن الحكم في الشهادة منوط بأمر واحد هو هيئة اجتماعية فالأكثرية والأقلية فيها سواء؛ لأن المؤثر هو تلك الهيئة فقط بخلاف الرواية فإن الحكم فيها بكل واحد فإن كل راو بمفرده يناط به الحكم وهو وجوب العمل بروايته "وبأن الكثرة تزيد الظن بالحكم قوة"؛ لأن الظنين فصاعدا أقوى من ظن واحد، والعمل بالأقوى واجب "فيترجح" الحكم الذي لمفيده كثرة على معارضه الذي لا كثرة لمفيده وهذا دليل الأكثر أدمجه في الجواب عن حجتهما "ويدفع" هذا "بدلالة الإجماع المذكور على عدم اعتباره" أي هذا القدر من زيادة قوة الظن بالحكم مرجحا لمعارضه في أصل الظن وبه، وإلا لقدموا ابن العم الأخ(25/86)
لأم أو الزوج على ابن العم فقط، وبأن كل دليل يؤثر في إثبات المدلول كان ليس معه غيره وليس المدلول متعلقا بالجميع حتى يكون للهيئة الاجتماعية تأثير في القوة وكونه موافقا لدليل آخر وإن كان له دخل في إفادة قوة فيه لكنه معارض بمخالفته للدليل الآخر "بخلاف بلوغه" أي الخبر "الشهرة" حيث يترجح به على معارضه مما هو خبر واحد غير مشهور فإن الرجحان حينئذ هيئة اجتماعية يمنع كذبهم وقبل البلوغ إليها كل واحد يجوز كذبه "وقد يقال :" ترجيحا للترجيح بكثرة الرواة "إن لم تفد كثرة الرواة قوة الدلالة فتجويز كونه" أي خبر ما رواته أقل "بحضرة كثير لا" الخبر "الآخر" المعارض له الذي رواته أكثر "أو" بحضرة قوم "متساوين" في العدد لعدد الحاضرين للخبر الآخر المعارض له "واتفق نقل كثير" في الخبر الذي رواته أقل "دونه" أي الخبر الذي رواته أكثر "بل جاز الأكثر" أي ما رواته أكثر "بحضرة الأقل" عددا بالنسبة إلى عدد الحاضرين، لما رواته أقل فلا يلزم الرجحان بكثرة الرواة "لا ينفي قوة الثبوت" لما رواته أكثر "لأنه" أي التجويز المذكور "معارض بضده" وهو أن يكون الخبر الذي رواته أكثر بحضرة من هو أكثر ممن حضر ما رواته أقل "فيسقطان" أي التجويزان المذكوران "ويبقى مجرد كثرة تفيد قوة(25/87)
ص -44-…الثبوت" الموجبة لزيادة الظن وهو معنى الرجحان "بخلاف ثبوت جهتي العصوبة وما معها" من الأخوة لأم أو الزوجية "عن الشارع فإنهما سواء" في الثبوت قلت على أن كلا من الإجماع على عدم ترجيح ابن العم الزوج وإجماع من سوى ابن مسعود على عدم ترجيح ابن العم الأخ لأم على ابن العم فقط إنما يدل على عدم الترجيح بكثرة الأدلة أن لو كان كل من الزوجية والأخوة لأم يقتضي ابتداء إرث جميع المال إذا انفردت فتتوارد الأدلة المتحدة الموجب على مورد واحد عارضها في ذلك دليل آخر في محل آخر يقتضي مقتضاها ثمة، ثم لم يترجح مقتضي تلك في ذلك المحل على مقتضي هذا في هذا المحل كما هو المراد بعدم الترجيح بكثرة الأدلة. ومعلوم أن الأمر ليس كذلك في كلتا المسألتين فإن موجب العصوبة من حيث هي إذا انفردت استحقاق جميع المال وموجب الزوجية إذا انفردت استحقاق النصف لا غير وموجب الأخوة لأم بالإيجاب الأول إذا انفردت استحقاق السدس لا غير وقد أعطي كل من هاتين مقتضاها في هذه الحالة كما لو كانت منفردة فليتأمل، وأما وجه اندفاع ما وجه به قول ابن مسعود في المسألة المذكورة من أنهما استويا في قرابة الأب وقد ترجحت قرابة الأخ لأم بانضمام قرابة الأم؛ لأن العلة تترجح بالزيادة من جنسها إذا كانت غير مستقلة والأخوة لأم كذلك لكونها من جنس العمومة باعتبار كونها قرابة مثلها لكنها لا تستبد بالتعصيب فيكون مثل الأخ لأب وأم مع الأخ لأب بخلاف الزوجية فإنها ليست من جنس القرابة فلا تصلح للترجيح فهو منع أن الإخوة لأم من جنس العمومة بل هي أقرب ولذا يكون استحقاق ابن العم بالعصوبة بعد استحقاق الأخ فلا يكون تبعا لها فلا يكون مرجحا بخلاف الأخوة فإنها من جنس واحد تتأكد بانضمام الإخوة من الأم إليه بمنزلة وصف تابع له ألا ترى أنه لو اجتمع الإخوة لأب والإخوة لأم لم تصلح أخوة الأم سببا للاستحقاق بالفرضية فظهر أن الأصل في استحقاق العصوبة قرابة الأب وأن قرابة(25/88)
الأم وصف لقرابة الأب تابع لها ترجحت به قرابة الأب في الأخ لأبوين على الأخ لأب للاستواء في المنزلة والله سبحانه أعلم.
فصل
"يلحق السمعيين" الكتاب والسنة "البيان الإظهار لغة" كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي إظهار معانيه وشرائعه "واصطلاحا إظهار المراد" من لفظ متلو ومرادف له "بسمعي" متلو أو مروي "غير ما" أي اللفظ الذي "به" كان أداء المعنى المراد وهو اللفظ السابق عليه الذي له تعلق به في الجملة فخرجت النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء وغير خاف أن البيان على هذا فعل المبين كالسلام والكلام "ويقال" البيان أيضا "لظهوره" أي المراد الذي هو أثر الدليل ومتعلقه يقال بأن الأمر والهلال إذا ظهر وانكشف ونسبه شمس الأئمة إلى بعض أصحابنا واختيار أصحاب الشافعي وعليه تعريف الدقاق وأبي عبد الله البصري بالعلم الذي يتبين به المعلوم إلا أنه مخدوش بأن أثر الدليل قد يكون ظنيا لكون الدليل ظنيا فلا يكون جامعا "و" يقال أيضا "للدال على المراد بذلك" أي بما لحقه البيان وغير(25/89)
ص -45-…خاف أن البيان على هذا اسم للدليل الذي يحصل به إدراك المراد بما لحقه البيان فعلى هذا كل مفيد من كلام الشارع وفعله وتقريره وسكوته واستبشاره وتنبيهه بالفحوى على الحكم بيان لا جميع ذلك دليل، وإذا كان بعضها يفيد العلم وبعضها غلبة الظن ظهر أن تعريفه بالدليل الموصل بصحيح النظر إلى اكتساب العلم بما هو دليل عليه غير جامع أيضا كتعريف الدقاق. ثم عزا صاحب الكشف وغيره هذا إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين قال المصنف "و" يجب "على الحنفية زيادة أو" إظهار "انتهائه" أي المراد من لفظ سابق متلو أو مروي "أو رفع احتمال" لإرادة غيره وتخصيصه "عنه" أي عن المراد بذلك اللفظ نحو بجناحيه في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فإنه يفيد نفي التجوز بالطائر عن سريع الحركة في السير كالبريد والتأكيد في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] فإنه يفيد نفي احتمال الملائكة التخصيص "لأنهم" أي الحنفية كفخر الإسلام وموافقيه إلا القاضي أبا زيد "قسموه" أي البيان "إلى خمسة" من الأقسام وهو إلى أربعة أقسام "بيان تبديل سيأتي" وهو النسخ، ومعلوم أنه ليس ببيان المراد من اللفظ بل بيان انتهاء إرادة المراد منه وهذا هو الذي أسقطه أبو زيد ووافقه على إسقاطه شمس الأئمة إلا أنه وافقهم على أنها خمسة أقسام وسنذكر ما هو الخامس عنده "و" بيان "تقرير وهو التأكيد" وهو إنما يفيد رفع احتمال غير المراد من المبين "وقسم الشيء من ما صدقاته وتحصيل الحاصل منتف" وإذا كان منتفيا ولزم كون القسم المسمى ببيان التقرير من أقسامه "فلزم ذلك" أي زيادة أو رفع احتمال عنه، وهذا يجوز مفصولا وموصولا اتفاقا؛ لأنه مقرر للظاهر وموافق له فلا يفتقر إلى التأكيد بالاتصال "و" بيان "تغيير كالشرط والاستثناء وتقدما" في بحث التخصيص "إلا أن تغيير الشرط من إيجاب المعلق في الحال" أي وقوعه فيه كما هو ظاهر إطلاقه(25/90)
بتأخيره نسبته "إلى" زمان "وجوده" أي الشرط "و" تغيير "الاستثناء" من إيجاب الحكم الثابت للمستثنى منه "إلى عدمه" أي الحكم المذكور للمستثنى أصلا وهو ظاهر وقد عرف من هذا وجه تسمية كل منهما بيان وتغيير، وملخصه أن كلا منهما من حيث إنه بين المراد من مدخولهما بيان، ومن حيث إنه غير ما كان مفهوما للسامع من إطلاق مدخولهما على تقدير عدمهما تغيير وتعقب بأن على هذا التقدير يكون جميع متعلقات الفعل من قبيل بيان التغيير لتأتي هذا الاعتبار فيها "وبه" أي بهذا الفرق بينهما "فرقوا" أي الحنفية "بين تعلقه" أي الشرط "بمضمون الجمل لمتعقبها وعدمه" أي عدم تعلق الاستثناء بمضمون الجمل لمتعقبها "في الاستثناء" بل بالأخيرة فقط "تقليلا للإبطال ما أمكن"؛ لأن الأصل عدمه وفي صرفه إلى الأخيرة قضاء لحقه فلا يتعلق بما سواها أيضا إلا لموجب ووافق شمس الأئمة فخر الإسلام على أن الاستثناء بيان تغيير وجعل التعليق بيان التبديل كأبي زيد "ويمتنع تراخيهما" أي الشرط والاستثناء. "وتقدم قول ابن عباس في الاستثناء" بجواز تراخيه على خلاف في مقداره، ووجهه ودفعه "ومنه" أي بيان التغيير "تخصيص العام وتقييد المطلق"؛ لأنه مبين أن كلا منهما غير جار على عمومه وإطلاقه ولزم منه تغيير كل عما هو المتبادر لسامعه من الشمول لسائر أفراده "وتقدما" في بحث العموم(25/91)
ص -46-…والتخصيص فيعطيان حكم بيان التغيير من امتناع التراخي وقد سلف ثمت بيانه موجها "ويجب مثله" أي امتناع التراخي "في صرف كل ظاهر" عن ظاهره دفعا للزوم اللازم الباطل وهو طلب الجهل المركب والإيقاع في خلاف الواقع بذلك الظاهر؛ لأن أدنى حال الصارف بالنسبة إلى المصروف عنه أن يكون كالمخصص بالنسبة إلى العام "وعلى الجواز" لتأخير بيان تخصيص العام عنه كما هو قول مشايخ سمرقند وعليه يتفرع جواز تأخير صرف كل ظاهر عن ظاهره أن يقال: "تأخيره عليه السلام تبليغ الحكم" الشرعي المأمور بتبليغه المكلفين "إلى" وقت "الحاجة" إليه وهو وقت تنجيز التكليف "أجوز"؛ لأنه لا يلزم في تأخير تبليغه شيء من المفاسد التي في تأخير بيان مخصص العام عنه إذ لا تكليف قبل التبليغ، وإذا جاز التأخير مع وجود التكليف فمع عدمه أولى "وعلى المنع" لتأخير بيان مخصص العام عنه "وهو" أي المنع لتأخيره "المختار للحنفية" أي لمشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تبعه من المتأخرين منهم يجوز تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة أيضا "إذ لا يلزم" فيه "ما تقدم" من المانع المذكور في مباحث التخصيص وهو الإيقاع في خلاف الواقع ومطلوبية الجهل المركب بل هو منتف فيه. وقيل: لا يجوز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] لأن وجوب التبليغ معلوم بالعقل ضرورة فلا فائدة للأمر به إلا الفور قلنا: لا شك في أنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر بتبليغه مما أنزل إليه، والظاهر أنه المراد كما في صحيح البخاري عن عائشة من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب ولكن لا يلزم أن يكون ذلك منه على الفور.(25/92)
"وكون أمر التبليغ" أمرا إيجابيا "فوريا ممنوع" لجواز أن تكون فائدته تقوية العقل بالنقل "ولعله" أي التبليغ "وجب لمصلحة" لم تفت بتأخيره إذا لم يأت وقتها وعلم ذلك وحيا أو اجتهادا "وأيضا" لو سلمنا أنه للوجوب والفور فنقول "ظاهره" أي ما أنزل إليك "للقرآن"؛ لأنه السابق للفهم من لفظ المنزل وهذا يفيد المنع في القرآن كما إليه ميل كلام الإمام الرازي والآمدي وقد يقال: أي فرق بين تبليغ القرآن وغيره؟ ويجاب التعبد بتلاوته ولكن على هذا أن يقال: القرآن يشتمل على آيات تتضمن الأحكام فإذا وجب تبليغه على الفور وجب تبليغ أحكامها وإذا وجب ذلك وجب تبليغ الأحكام مطلقا إذ لا قائل بالفرق وإلا شبه كما قال البيضاوي وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه، ثم هذه المسألة وقعت في أصول ابن الحاجب تفريعا على جواز تأخير بيان المجمل عنه وما سلكه المصنف من تفريعها على جواز تأخير بيان المخصص عنه الذي هو من بيان التغيير أوجه؛ لأن على التقدير الأول لا يكون جواز تأخير التبليغ أجوز من جواز تأخير بيان المجمل عنه لتساويهما في عدم المانع، والفرض دعوى الأجوزية بخلافه على التقدير الثاني فليتأمل(25/93)
ص -47-…مسألة
"والأكثر" ومنهم الإمام الرازي وابن الحاجب "يجب زيادة قوة المبين للظاهر" عليه "والحنفية تجوز المساواة" بينهما في القوة "ودفع بعدم أولوية المبين منهما بخلاف الراجح" مع المرجوح "لتقدمه" أي الراجح على المرجوح "في المعارضة ويدفع" هذا الدفع "بأن مرادهم" أي الحنفية المساواة "في الثبوت لا الدلالة ومعلوم أن الأول مبين" وعدم الأولوية في المعنى إنما هو على تقدير المساواة في الدلالة وأما قول أبي الحسين ويجوز بالأدنى أيضا فباطل؛ لأنه يلزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح "و" بيان "تفسير وهو بيان المجمل" بالمعنى المصطلح عليه عند الشافعية وهو ما فيه خفاء فيعم باصطلاح الحنفية الخفي والمشترك والمشكل والمجمل كما صرح به صاحب الكشف وغيره "ويجوز" بيان التفسير "بأضعف" دلالة "إذ لا تعارض" بين المجمل والبيان "ليترجح" البيان عليه فيلزم إلغاء الأقوى بالأضعف "و" يجوز "تراخيه" أي بيان المجمل عن وقت الخطاب به "إلى وقت الحاجة إلى الفعل وهو وقت تعليق التكليف" بالفعل "مضيقا" عند الجمهور منهم أصحابنا والمالكية وأكثر الشافعية واختاره الإمام الرازي وابن الحاجب في غالب المتأخرين. "وعن الحنابلة والصيرفي وعبد الجبار والجبائي وابنه" وبعض الشافعية كأبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد "منعه" أي منع تراخيه عن وقت الخطاب به إلا أن الإسفراييني ذكر أن الأشعري نزل ضيفا على الصيرفي فناظره في هذا فرجع إلى الجواز "لنا لا مانع عقلا" من جوازه "ووقع شرعا كآيتي الصلاة والزكاة" أي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ", ثم بين" النبي صلى الله عليه وسلم "الأفعال" للصلاة كما في حديث المسيء صلاته في الصحيحين وغيرهما "والمقادير" للزكاة كما في كتب الصدقات ككتاب الصديق رضي الله عنه في صحيح البخاري وكتاب عمر رضي الله عنه في سنن أبي داود وابن ماجه وجامع الترمذي وكتاب عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيرها "أما" تراخي بيان(25/94)
المجمل "عن وقت الحاجة فيجوز" عقلا "عند من يجوز تكليف ما لا يطاق" وهم الأشاعرة "لكنه" أي تراخيه عن وقت الحاجة "غير واقع" شرعا وأما من لم يجوز تكليف ما لا يطاق فلا يجوز هذا عنده؛ لأنه من أفراده. ثم قال تعليلا لقوله لا مانع عقلا "لأنه" أي المجمل "قبل البيان لا يوجب شيئا" على المكلف مما لعله أن يكون مرادا منه بل إنما يجب عليه اعتقاد حقيقة المراد منه لا غير حتى يلحقه البيان فيجب عليه حينئذ ما أظهر البيان أنه المراد منه "فلم يحكم" الشارع عليه "بوجوب ما لم يعلم" المكلف وجوبه عليه "بحيث" إذا لم يفعل المكلف ذلك "يعاقب بعدم الفعل" فانتفى وجه المانعين له بأن المقصود من الخطاب إيجاب العمل وهو يتوقف على الفهم والفهم لا يحصل بدون البيان فلو جاز تأخير البيان أدى إلى تكليف ما ليس في الوسع "وبه" أي القول بأنه لا يوجب شيئا قبل البيان "اندفع قولهم" أي المانعين له تأخير بيان المجمل "يؤدي إلى الجهل المخل بفعل الواجب في وقته" فإنه يوجب الجهل بصفة العبادة؛ لأن الفرض أن صفتها إنما تعلم بالبيان ولا بيان والجهل بصفة الشيء يخل بفعله في وقته. ووجه اندفاعه أن وقت العبادة وقت بيان صفتها فلا يخل بفعل الواجب(25/95)
ص -48-…في وقته لانتفاء التكليف بإيقاعه قبل بيانه "وقولهم" أي المانعين له أيضا: لو جاز تأخير بيان المجمل لكان الخطاب بالمجمل "كالخطاب بالمهمل" فيلزم جواز الخطاب به وجواز تأخير بيانه بجامع عدم الإفادة في الحال والإفادة عند البيان واللازم باطل فالملزوم مثله "مهمل" إذ في المجمل يعلم أن المراد أحد محتملاته أو معنى ما فيطيع أو يعصي بالعزم على فعله أو تركه إذ بين هذا من أعظم فوائد التكليف بخلاف المهمل فإنه يعرف أن ليس له معنى أصلا. "وما قيل :" أي وما في أصول ابن الحاجب "جواز تأخير إسماع المخصص" للعام المكلف الداخل تحت العموم إلى وقت الحاجة "أولى" بالجواز "من تأخير بيان المجمل" إلى وقت الحاجة "لأن عدم الإسماع" أي إسماع المكلف المخصص للعام مع وجوده في نفس الأمر "أسهل من العدم" أي عدم بيان المجمل لإمكان الاطلاع على المخصص المذكور وعدم إمكان الاطلاع على بيان المجمل قبل وجوده وهذا يصلح أن يكون وجها إلزاميا من الشافعية المجيزين لتأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة للحنفية القائلين به دون تراخي التخصيص فيقال: إذا جاز تأخير بيان المجمل بموافقتكم فيلزمكم جواز تأخير بيان التخصيص بأولى، ثم ما قيل: مبتدأ خبره "غير صحيح؛ لأن العام غير مجمل فلا يتعذر العمل به" قبل الاطلاع على مخصص به "فقد يعمل به" بناء على أن عمومه مراد "وهو" أي والحال أن عمومه "غير مراد بخلاف المجمل" فإنه لا يعمل به قبل البيان "فلا يستلزم تأخير بيانه محذورا" وهو العمل بما هو غير مراد به "بخلافه" أي تأخير البيان "في المخصص" فإنه يستلزمه كما بينا. "ثم تمنع الأولوية" أي كون تأخير إسماع المخصص بالجواز أولى من تأخير بيان المجمل "بل كل من العام والمجمل أريد به معين آخر ذكر داله فقبل ذكره" أي داله "هو" أي ذلك المعين "معدوم إلا في الإرادة" أي إلا في جواز كونه المراد من اللفظ "فهما" أي المجمل والعام "فيها" أي في الإرادة "سواء".
مسألة(25/96)
"ويكون" البيان "بالفعل كالقول إلا عند شذوذ لنا يفهم أنه" أي الفعل الصالح لكونه مرادا من القول هو "المراد بالقول" المجمل "بفعله" أي ذلك الفعل "عقيبه" أي ذلك القول المجمل "فصلح" الفعل "بيانا بل هو" أي الفعل "أدل" على بيانه من الإخبار عنه ومن ثمة قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الخبر كالمعاينة" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني وزاد فيه "فإن الله تعالى أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده فلم يلق الألواح فلما عاين ذلك ألقى الألواح" وقد صار هذا القول مثلا "وبه" أي بالفعل "بين" النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة والحج" لكثير من المكلفين كما يشهد به استقراء بعض المشاهير من دواوين السنة "قالوا" أي المانعون لم يبينهما بالفعل "بل "صلوا كما رأيتموني أصلي" "وخذوا عني مناسككم" وتقدم تخريجهما في مسألة الاتفاق في أفعاله الجبلية الإباحة لنا وله "أجيب بأنهما" أي القولين المذكورين "دليلا كونه" أي الفعل "بيانا" لا أنه هو البيان؛ لأنه لم يشتمل على تعريفهما "وهذا" الجواب "ينفي الدليل الأول" وهو اقتضاء فهم أن الفعل الموقع بعد القول(25/97)
ص -49-…المجمل هو المراد منه أي ينفي أن يكون هذا مثبتا للمدعى "إذ يفيد" هذا "أن كونه" أي الفعل "بيانا" إنما عرف "بالشرع وبه" أي بالشرع "كفاية" في إثبات كون الفعل بيانا "فالأولى أن يقال: إنه" أي كلا من: صلوا وخذوا إلى آخرهما "لزيادة البيان" فإن البيان حصل لهم بلا شك بمباشرة تلك الأفعال بحضرتهم على أنها أفعال الصلاة والحج فقوله: صلوا وخذوا تأكيد "وقولهم" أي المانعين للبيان بالفعل "الفعل أطول" من القول زمانا "فيلزم تأخيره" أي البيان به "مع إمكان تعجيله" بالقول، وأنه غير جائر "ممنوع الأطولية" إذ قد يطول البيان بالقول أكثر مما يطول بالفعل وما في ركعتين من الهيئات والأجزاء لو بين بالقول ربما استدعى زمانا أكثر مما يصليهما فيه "و" ممنوع "بطلان اللازم" أي لزوم التأخير "بعده" أي بعد إمكان تعجيله قال المصنف أي لا نسلم أنه لا يجوز تأخيره مع إمكان تعجيله فإنه إذا كان التعجيل قبل الحاجة ممكنا والفرض أن التأخير حينئذ جائز فلا يلزم تعجيله، ثم الممنوع هو التأخير المفوت عن الوقت المضيق فيه وهو ممنوع بل المفروض أن يشتغل بالبيان بالفعل في زمان بحيث يمضي منه الوقت المضيق فيه قبل معرفة البيان بإتمام ذلك الفعل المبين "فلو تعاقبا" أي القول والفعل الصالح كل منهما أن يكون بيانا "وعلم المتقدم فهو" أي المتقدم البيان قولا كان أو فعلا لحصوله به والثاني تأكيد "وإلا" إذا لم يعلم المتقدم "فأحدهما" من غير تعيين هو البيان أي يقضى بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والثاني تأكيد. وقيل: يتعين الأرجح منهما للتأخر، والمرجوح للمتقدم؛ لأن المتأخر تأكيد والمرجوح لا يكون تأكيدا للراجح لامتناع ترجيح الشيء بما دونه في الدلالة؛ لأن المؤكد يدل عليه وعلى الزيادة فلا فائدة فيه واختاره الآمدي وأجيب بأن ذلك إنما يلزم في المفردات ك جاءني القوم كلهم أما المؤكد المستقبل يعني: ما لا يتوقف في كونه بيانا على(25/98)
غيره فلا يلزم فيه ذلك؛ لأنه ليس تابعا في الدلالة للراجح حتى لو جعل تأكيدا لم يكن له فائدة ومن ثمة تذكر الجمل بعضها بعد بعض للتأكيد، وإن كانت الثانية أضعف من الأولى لو استقلت؛ لأنها بانضمامها إليها تفيدها تأكيدا وتقريرا لمضمونها في النفس زيادة تقرير، ثم هذا كله إذا اتفقا في الدلالة على حكم واحد "فإن تعارضا" قالوا كما لو طاف بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد وقد ورد كلاهما فعن علي رضي الله عنه أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف طوافين وسعى سعيين وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. رواه النسائي بإسناد رواته موثقون وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب "فالمختار" وفاقا للإمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب أن البيان هو "القول"؛ لأنه يدل بنفسه والفعل لا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده أو أن يقول هذا الفعل بيان للمجمل أو بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلا صالحا أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر وما هو مستقل بنفسه في الدلالة أولى مما يحتاج فيها إلى غيره.(25/99)
ص -50-…وقد أوردت على المصنف رحمه الله ينبغي على ما تقدم من أن الفعل أدل من القول أن يقدم الفعل على القول. فأجاب أن معنى أدليته أن الفعل الجزئي الموجود في الخارج لا يحتمل غيره لا أنه بهيئاته أدل على كونه المراد بالمجمل من دلالة القول على المراد به فإن الاستقراء يفيد أن كثيرا من الأفعال المبينة للمجمل تشتمل على هيئات غير مرادة من المجمل وهذا ليس في القول، ثم لا فرق بين أن يكون القول متقدما أو متأخرا أو لم يعلم شيء منهما؛ لأن فيه جمعا بين الدليلين وهو أولى من إبطال أحدهما وهو القول إن قلنا الفعل هو البيان لا القول، ثم فعله صلى الله عليه وسلم الزائد على مقتضى قوله كالطواف الثاني ندب أو واجب في حقه دون أمته كما ذكره ابن الحاجب وغيره وقال الآمدي الأشبه أنه إن تقدم القول فهو المبين وإن تأخر فالفعل المتقدم مبين في حقه حتى يجب عليه الطوافان والقول المتأخر مبين في حقنا حتى يكون الواجب علينا طوافا واحدا عملا بالدليلين.(25/100)
"وقول أبي الحسين" البيان هو "المتقدم" منهما قولا كان أو فعلا لو كان" المتقدم "الفعل" فإن كان الفعل إذا كان طوافين فقد وجبا علينا فإذا أمر بطواف واحد فقد نسخ أحد الطوافين عنا وهو باطل وإنما استلزم النسخ بلا ملزم لإمكان الجمع بأن يكون القول هو البيان بخلاف ما إذا كان المتقدم القول فإن حكم الفعل كما سبق. قلت: وقد ذهل الإسنوي فجعل هذا بعينه تفريعا على قول الإمام وموافقيه فتنبه له قيل: ولو نقص الفعل عن مقتضى القول فقياس المختار أن البيان القول ونقص الفعل عنه تخفيف في حقه صلى الله عليه وسلم تأخر الفعل أو تقدم وقياس ما تقدم لأبي الحسين أن البيان المتقدم فإن كان القول فحكم الفعل كما سبق أو الفعل فما زاده القول عليه مطلوب بالقول، هذا ولم أقف لمشايخنا على صريح في هذا المقام ولو قالوا بالمختار لاحتاجوا إلى الاعتذار عن قولهم بوجوب طوافين أو سعيين للقارن على وجه لا ينقض هذه القاعدة وذلك ممكن إن شاء الله تعالى فيقال هذه القاعدة على إطلاقها إذا لم يوجد مرجح للفعل على القول أما إذا وجد فلا وهنا قد وجد ما بين ما هو في قوة المعارض القولي وهو قول عمر رضي الله عنه لصبي ابن معبد هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما قال له طفت طوافا لعمرتي وسعيت سعيا لعمرتي، ثم عدت ففعلت مثل ذلك لحجي، ثم بقيت حراما ما أقمنا أصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت آخر نسكي. رواه أبو حنيفة وما هو موافق قولي وعملي من غير واحد من أعيان الصحابة للفعل وكون الفعل أقيس بأصول الشرع؛ لأن المستقر شرعا في ضم عبادة إلى أخرى أنه يفعل أركان كل منهما كما ذكر ذلك المصنف في فتح القدير.(25/101)
"ولا يتصور فيه" في المجمل "أرجحية دلالته على دلالة المبين" بصيغة اسم الفاعل "على" المعنى "المعين" من المجمل "بل يمكن" أن تكون دلالة المجمل "على معناه الإجمالي وهو أحد الاحتمالين" أقوى من دلالة مبين أن المراد منه أحدهما بعينه لا غير "كثلاثة قروء" فإنه قوي الدلالة "على ثلاثة أقراء من الطهر أو الحيض ويتعين" أحدهما "بأضعف دلالة على(25/102)
ص -51-…المعين" بأن لا يكون قطعيا في مدلوله. "وسلف للحنفية" في بحث المجمل "ما تقصر معرفته" أي المراد بالمجمل: السمعي "على السمع فإن ورد" بيان المراد منه بيانا "قطعيا شافيا صار مفسرا أو لا فمشكل أو ظنا فمشكل وقبل الاجتهاد في استعلامه" وفيه نظر فإن الذي ذكره غير واحد منهم المصنف فيما سلف: أنه إن كان البيان شافيا بقطعي فمفسر أو بظني فمؤول أو غير شاف خرج من الإجمال إلى الإشكال "وهو" أي هذا الخلاف "لفظي مبني على الاصطلاح" في المراد بالمجمل وقد تقدم الكلام عليه في موضعه "وقالوا" أي الحنفية "إذا بين المجمل القطعي الثبوت بخبر واحد نسب" المعنى المبين "إليه" أي المجمل لكونه أقوى "فيصير" المعنى المبين "ثابتا به" أي المجمل "فيكون" ذلك المعنى "قطعيا" بناء على أنه ثابت بقطعي "ومنعه صاحب التحقيق إذ لا تظهر ملازمة" بينهما توجب ذلك، ثم أي فرق بين معرفة المراد من المشترك بالرأي الذي هو ظني وبين معرفة المراد من المجمل بخبر الواحد الذي هو ظني ومن ثمة ذكر في الميزان أن المجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد فهو مؤول قال المصنف "وهو" أي منعه "حق ولو انعقد عليه" أي على أن المراد من المجمل معنى بعينه "إجماع فشيء آخر".
"وإلى بيان ضرورة تقدم" في التقسيم الأول من الفصل الثاني وهذا أيضا لم يجعله القاضي أبو زيد من أقسام البيان وجعله فخر الإسلام وشمس الأئمة وموافقوهما من أقسامه وحينئذ يحتاج تعريف البيان السابق إلى زيادة توجب دخوله فيه، ثم الإضافة فيه من إضافة الشيء إلى سببه بخلاف ما تقدم وبيان التبديل أيضا فإن الإضافة فيها من إضافة العام إلى الخاص.(25/103)
وهذا أوان الشروع في بيان التبديل فنقول "وأما بيان التبديل فهو النسخ وهو" أي النسخ لغة "الإزالة" أي الإعدام حقيقة كنسخت الشمس الظل والشيب الشباب والريح آثار الدار "مجازا للنقل" أي التحويل للشيء من مكان إلى مكان أو من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه كنسخت النحل العسل إذا نقلته من خلية إلى خلية تسمية للملزوم باسم اللازم؛ لأن في النقل إزالة عن موضعه الأول وهذا قول أبي الحسين البصري وعزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين ورجحه الإمام الرازي بأن النقل أخص من الزوال فإن النقل إعدام صفة وإحداث أخرى والزوال مطلق الإعدام وكون اللفظ حقيقة في العام مجازا في الخاص أولى من العكس لتكثير الفائدة "أو قلبه" أي حقيقة للنقل مجاز للإزالة تسمية للازم باسم الملزوم وهذا قول جماعة منهم القفال "أو مشترك" لفظي بين الإزالة والنقل بناء على أنه أطلق عليهما، الأصل في الإطلاق الحقيقة وهذا قول القاضي والغزالي ولا يخفى أنه يطرقه أن المجاز مقدم على الاشتراك اللفظي إذا دار الإطلاق بينهما أو معنوي بينهما فهو للقدر المشترك بينهما وهو الرفع، وبه قال ابن المنير في شرح البرهان "وتمثيل النقل ب نسخت ما في الكتاب" كما ذكره كثير "تساهل"؛ لأنه فعل مثل ما في غيره لا نقل عينه ولا إزالته ولا رفعه، ثم قالوا هذا كله نزاع لفظي لا يتعلق به غرض عملي وقيل: بل معنوي تظهر فائدته في جواز النسخ بلا بدل وتعقب بأن المدار على الحقائق العرفية لا اللغوية وأن هذا مبني على أنه كنقل الصلاة(25/104)
ص -52-…اللغوية إلى الشرعية كما ذهب إليه بعض المتكلمين لكن الأظهر أنه كنقل الدابة فنقل من الأعم إلى الأخص "واصطلاحا رفع تعلق مطلق" عن تقييد بتأقيت أو تأبيد بحكم شرعي بفعل "بحكم شرعي ابتداء" فالرفع شامل للنسخ وغيره وما عداه مخرج لغيره فينطبق عليه، ثم كما في التلويح لا يقال: ما ثبت في الماضي لا يتصور بطلانه لتحققه قطعا وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل وأيا ما كان فلا رفع؛ لأنا نقول ليس المراد بالرفع البطلان بل زوال ما يظن من التعلق بالمستقبل بمعنى أنه لولا الناسخ لكان في عقولنا ظن التعلق في المستقبل فبالناسخ زال ذلك التعلق المظنون، ثم نقول "فاندفع" متعلق أن يقال: "إن الحكم قديم لا يرتفع"؛ لأنه كلام الله تعالى " وما ثبت قدمه امتنع عدمه " فلا يتصور رفعه فلا يصح أن يقال: رفع الحكم الشرعي كما ذكر غير واحد وإن وقع التقصي عنه بأن المراد به ما تعلق الخطاب به تعلق تنجيز وهو بهذا المعنى إنما يحدث بعد حدوث شروط التكليف والقديم إنما يتعلق تعلقا معنويا هو ضروري للطلب، والحاصل أنا نعلم قطعا أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه فقد انتفى الوجوب وهذا الانتفاء هو الذي نعنيه بالرفع وإذا تصورت الحكم والرفع كذلك كان إمكان رفعه ضروريا "و" اندفع "بمطلق ما" أي التعلق المرفوع "بالغاية" نحو {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] "والشرط" نحو "صل الظهر إن زالت الشمس" "والاستثناء" نحو: اقتل المشركين إلا أهل الذمة فإن رفع الصيام عن الليل والصلاة عما قبل الزوال والقتل عن أهل الذمة لا يسمى نسخا اتفاقا قلت ولقائل أن يقول أولا الرفع يقتضي سابقة الثبوت كما سنذكر والغاية والشرط والاستثناء لم يرفع ما سبق ثبوته قبل ذكرها وثانيا سنذكر أن المراد بالتأخر التراخي وهذه لو قدر بها رفع لم تكن متراخية فلا يحتاج إلى الاحتراز عن الرفع بها فالأوجه أنه احتراز عن الحكم المؤقت بوقت خاص فإنه لا يصح نسخه(25/105)
قبل انتهائه ولا يتصور بعد انتهائه وعن الحكم المقيد بالتأبيد على ما في كليهما من خلاف سيذكر إن شاء الله تعالى واندفع بقولنا بحكم شرعي وقد كان الوجه التصريح به ما كان رفعا للإباحة الأصلية الثابتة بحكم الأصل قبل ورود الشرع عند القائل بها بحكم شرعي فإنه لا يسمى نسخا اتفاقا ومن ثمة اعترض على قول مالك رحمه الله: إن الكلام كان مباحا في الصلاة في ابتداء الإسلام على الإطلاق فيما لا يتعلق بمصلحة الصلاة بالإجماع وبقي ما سواه على أصل الإباحة بأن هذا ليس بنسخ؛ لأن إباحة الكلام إنما كانت على الأصل لا بخطاب شرعي فإن قيل: وأيضا سيأتي من أقسام النسخ ما نسخ لفظه وبقي حكمه وهو ليس برفع حكم بل لفظ فالجواب أن هذا متضمن لرفع أحكام كثيرة كالتعبد بتلاوته ومنع الجنب ومن في معناه منها ومن مسه إلى غير ذلك "و" اندفع "بالأخير" أي ابتداء "ما" أي التعلق المطلق لحكم شرعي المرفوع "بالموت والنوم" والجنون ونحوها وبانعدام المحل كذهاب اليدين والرجلين "لأنه" أي رفعه كالصلاة عن الميت والنائم والمجنون وكوجوب غسل اليدين والرجلين عن مقطوعها "لعارض" من هذه العوارض لا ابتداء بخطاب شرعي وأورد رفع تعلق الحكم الشرعي بالنوم ممنوع بل بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ" الحديث وقدمنا تخريجه(25/106)
ص -53-…قبيل الفصل الذي اختص الحنفية بعقده في الأهلية وأجيب بأن رفع الحكم عن الميت والمجنون والنائم والغافل إنما هو في الحقيقة لعدم قابلية المحل له لطريان هذه الأمور عليه، والنصوص الواردة في ذلك ليست رافعة بل مبينة أن هذه واقعات قلت ولقائل أن يقول ثم إذا كان هذا القيد لإخراج ما يكون بهذه الأمور وما جرى مجراها لم يكن حاجة إلى ذكره؛ لأن الرفع بها خارج بحكم شرعي فإن هذه العوارض ليست بحكم شرعي، ثم قد كان الوجه أيضا إبدال شرعي بدليل شرعي؛ لأن النسخ قد يكون بلا بدل فلا ينطبق التعريف عليه ولا يكون إلا بدليل شرعي "ويعلم التأخر" أي التراخي للرفع عن ثبوت التعلق "من" ذكر "الرفع" نفسه فإنه يقتضي سبق الثبوت للمرفوع فيكون الرفع متأخرا عنه ضرورة وإنما فسرنا التأخر بالتراخي؛ لأن المتأخر قد يكون مخصصا لا ناسخا كالاستثناء والمخصص الأول وقد كان الأحسن التصريح به فيقال بحكم شرعي متراخ، ثم لقائل أن يقول هذا التعريف يصدق على المخصص الثاني إذا كان متراخيا وهلم جرا مع أن ذلك ليس بنسخ نعم لا يضر هذا المصنف بناء على اختياره اشتراط المقارنة في سائر المخصصات السمعية فالمخصص المتراخي منها ناسخ عنده كما تقدم في موضعه - والله سبحانه أعلم - "والسمعي المستقل" بنفسه "دليله" أي الرفع الذي هو النسخ "وقد يجعل" النسخ "إياه" أي الدليل "اصطلاحا في قول إمام الحرمين اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول" قال القاضي عضد الدين ومعناه أن الحكم كان دائما في علم الله دواما مشروطا بشرط لا يعلمه إلا هو وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكم ويبطل دوامه وما ذلك إلا بتوفيقه تعالى إياه فإذا قال قولا دالا عليه فذلك هو النسخ "والغزالي" وفاقا للقاضي أبي بكر "الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب الأول على وجه لولاه كان ثابتا مع تراخيه عنه" وقال الخطاب ليعم اللفظ والفحوى والمفهوم لجواز النسخ(25/107)
بجميعها ويخرج الموت ونحوه، ومما يرفع الأحكام والخطاب المقرر للحكم وقال على ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر ويعم أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة والحظر والوجوب، فإن جميع ذلك قد ينسخ وقال بالخطاب المتقدم؛ لأن إيجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا؛ لأنه لم يزل حكم خطاب وقال لولاه لكان ثابتا؛ لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رفعا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي فخرج الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم الذي له وقت محدود مثل "لا تصوموا بعد غروب الشمس" بعد {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإنه ليس نسخا وإن كان دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم لكن على وجه لولاه لكان ثابتا وقال مع تراخيه؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانا لمدة الحكم لا نسخا له كالشرط والصفة والغاية والاستثناء "وما قيل :" وعزاه ابن الحاجب إلى الفقهاء "النص الدال على انتهاء أمد الحكم" أي غايته "مع تراخيه عن مورده" أي زمان ورود الحكم الأول وهو احتراز عن البيان المتصل بالحكم الأول سواء كان مستقلا كلا تقتلوا أهل الذمة عقب اقتلوا المشركين متصلا به أو غير متصل كالاستثناء والغاية والشرط والوصف "فإنه اعترض(25/108)
ص -54-…عليها" أي على هذه التعاريف الثلاثة "بأن جنسها" من اللفظ والخطاب والنص "دليله" أي طريق النسخ المعرف له "لا هو" أي النسخ "وأجيب بالتزامه" أي التزام كون جنسها دليلا دليل النسخ في الحقيقة لكن لا ضير فإن التعريف له غايته أن إطلاق النسخ عليه حقيقة اصطلاحية ومجاز لغوي فليس النسخ اصطلاحا إلا ذلك القول "كما أنه" أي ذلك القول هو "الحكم، وهذا" أي يكون النسخ الحكم وليس إلا ذلك القول "إنما يصح في" الكلام "النفسي والمجعول جنسا" في هذه التعاريف إنما هو "اللفظ" الذي هو الكلام اللفظي فلا يستقيم أن يكون جنسا له "ولأنه" أي الخطاب "جعل دالا لنا والنفسي مدلول" عليه به "وأيضا يدخل قول العدل نسخ" حكم كذا في التعاريف المذكورة لصدقها عليه وليس بنسخ فلا تكون مطردة "ويخرج" عنها "فعله صلى الله عليه وسلم" إذ قد يكون النسخ به فلا تكون منعكسة "وأجيب بأن المراد" بالدال في التعاريف المذكورة "الدال بالذات" أي بحسبها لا بحسب المفهوم "وهما" أي قول العدل وفعله صلى الله عليه وسلم "دليلا ذلك" أي الدال بالذات وهو قول الله تعالى الدال على انتهاء الحكم "لا هو" أي الدال بالذات "وخص الغزالي بورود استدراك على وجه إلخ" أما لولاه لكان ثابتا فلأن الرفع لا يكون إلا كذلك وأما مع تراخيه عنه فلأنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول إذا تقرر إلا بعد تمام الكلام فكان رفعا للثبوت لا رفعا للثابت فهو حينئذ تخصيص لا نسخ "وأجيب بأنه" أي على وجه إلخ "احتراز" عن قول العدل "لأنه" أي قول العدل "ليس كذلك" أي لولاه لكان ثابتا "لأن الارتفاع بقول الشارع قاله هو" أي العدل "أو لا" أي أو لم يقله "والتراخي لإخراج المقيد بإلغائه" ونحوها من المخصصات المتصلة فأن أفعله إلى يوم كذا يوجب ارتفاع التكليف في يوم كذا بالغاية وهي غير متراخية عن التكليف به "ولا يخفى أن صحته" أي هذا الجواب "توجب اعتبار قول العدل داخلا" في تعريفه الذي هو الخطاب الدال إلخ؛(25/109)
لأنه يحترز عما ليس بداخل "فلا يندفع" إيراد قول العدل وفعله صلى الله عليه وسلم "عن الآخرين" الأول والثالث لإيجابه حمل الدال على أعم مما يكون بالذات "ولو صح ذلك" أي دفع الإيراد عنهما "بادعاء أنه" الدال بالذات هو "المتبادر من الدال لزم الاستدراك" المذكور على الغزالي وخصوصا حيث وصف به الخطاب وكان المراد به خطاب الشارع كما هو المتبادر من إطلاقه هنا والحاصل أنه دار الحال بين اندفاع قول العدل وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعاريف الثلاثة ولزوم الاستدراك للغزالي اللهم إلا أن يقال: قوله لولاه إلخ تصريح بما علم التزاما من إرادة الدال بالذات ودفع لما يتبادر إلى الفهم من إطلاق الدلالة ولا يقدح في التعريف التصريح بما علم التزاما وهذا لا بأس به لولا فهم خطاب الشارع من الخطاب هنا وبين اندفاعهما عن تعريفه من غير استدراك عليه على ما فيه كما أشرنا إليه آنفا وعدم اندفاعهما عن الآخرين إلا الثالث كما أشار إليه بقوله "ويندفع قول الراوي" نسخ كذا "عن الثالث أيضا بأنه" أي قوله "ليس بنص في المتبادر"، وكذا فعل الرسول لما فيهما من الاحتمال، والأشبه أن النص ليس بمخرج لكل منهما مطلقا بل قد وقد فإن كلا من قول الراوي وفعل الرسول قد يكون نصا كما يكون ظاهرا ومجملا هذا إن أريد بالنص ما يقابل الظاهر وإن أريد ما يقابل الإجماع(25/110)
ص -55-…والقياس وهو الكتاب والسنة فخروج قول العدل ودخول فعل الرسول ظاهر هذا والذي عليه كثير من الحنفية كفخر الإسلام وشمس الأئمة أن النسخ بالنسبة إلى الله تعالى بيان لمدة الحكم الأول لا رفع وتبديل، وبالنسبة إلينا تبديل؛ لأن الله تعالى لما كان عالما بأن الحكم الأول مؤقت ومن وقت كذا إلى وقت كذا كان النسخ بيانا محضا لمدة الحكم في حقه تعالى، ولما كان الحكم الأول مطلقا كان البقاء فيه أصلا ظاهر في حقنا لجهلنا بمدته فالنسخ يكون تبديلا له بآخر في حقنا كالقتل بيان محض للأجل في حقه تعالى؛ لأن الميت مقتول بأجله وفي حقنا تبديل للحياة بالموت؛ لأن ظاهره الحياة لولا مباشرة قتله وتعقبه صاحب الميزان بأنه غير مستقيم؛ لأنه يؤدي إلى القول بتعدد الحقوق، والحق في الشرعيات والعقليات واحد، وأجيب بأن الحق واحد لكن بالنسبة إلى ما هو واقع عند الله وأما بالنسبة في حق العمل فمتعدد حتى وجب على كل مجتهد العمل باجتهاده ولا يجوز له تقليد غيره وهذا الحق بالنسبة إلى صاحب الشرع واحد، وهو كونه بيانا محضا لا رفعا وهو كالأسباب فإنها علامات محضة بالنسبة إلى الشارع وإن كانت موجبة بالنسبة إلينا قلت: وهذا عجيب من المعترض والمجيب فإن ما نحن فيه ليس فيه حق متعدد أصلا، وإنما هو شيء واحد له اعتباران مختلفان بالنسبة إلى جهتين كما فيما ذكر من القتل والوقت ولا خفاء في أن الشيء الواحد لا يكون في الخارج باعتبارين بالنسبة إلى جهتين شيئين مختلفين وكم له من أمثال غير أن شمس الأئمة لم يجعله من أقسام البيان كما ذكرنا بناء على أن البيان إظهار حكم الحادثة عند وجودها ابتداء والنسخ رفع بعد الثبوت فكانا غيرين وإن كان النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فإنه في حق صاحب الشرع أما في حق العباد فرفع الحكم الثابت والبيان إنما يكون بيانا بالنسبة إليهم لاحتياجهم إليه لا إلى صاحب الشرع لعلمه بالأشياء كلها وجعله فخر الإسلام وموافقوه بيانا كما سلف قال(25/111)
الشيخ سراج الدين الهندي وهو الأقرب؛ لأن النسخ فعل الشارع وحقيقته إظهار مدة الحكم للعباد وأما كونه رفعا لما هو المستمر ظاهرا في حقنا فليس حقيقته في نفس الأمر فإن الذي في نفس الأمر كونه مؤقتا في عمله تعالى فينتهي بانتهائه لا كونه مستمر المشروعية فكان اعتبار كونه بيانا أولى من اعتبار كونه رفعا، والبيان غير منحصر في إظهار حكم الحادثة عند وجودها ابتداء كالأوامر الواردة بالصلاة والزكاة وغيرهما ولا نسلم أن النسخ رفع بعد الثبوت بل هو بيان انتهاء مشروعيته، وإن كان هذا المعنى مسلما في حق الشارع ولكن هذا لا ينافي كونه حقيقة فيه، ولا نسلم أنه رفع بالنسبة إلينا بل هو بيان بالنسبة إلينا أيضا إذ نعلم به أن الحكم كان مؤقتا، وأن الاستمرار الذي توسمناه غير مطابق لما في الواقع وإذا كان العباد محتاجين إلى البيان فجعله بيانا بالنسبة إليهم هو المناسب لكن بالنسبة إليهم بمعنى الظهور وهو لا ينافي كونه بيانا بالنسبة إلى الشارع بمعنى الإظهار لهم لما يجهلونه وإظهار المجهول لمن لا علم له إنما يتحقق من العالم به وليس المراد بكونه إظهارا وبيانا بالنسبة إلى الشارع إظهار الشيء لنفسه بعد ما لم يكن ظاهرا حتى ينافي كون الأشياء معلومة له انتهى قلت: ثم هذا كما يفيد جواز تعريفه(25/112)
ص -56-…بكل من جهتي البيان والرفع يفيد ترجيح تعريفه من جهة البيان على تعريفه من جهة الرفع، وعليه مشى الإمامان الرازيان وأبو منصور الماتريدي وإمام الحرمين والإسفراييني ونسب إلى أكثر العلماء وعكس السبكي فرجح الرفع لشموله النسخ قبل التمكن وفي هذا الترجيح تأمل وعليه مشى القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب، ثم ظاهر قول المصنف "وذكرهم" أي بعض الفقهاء "الانتهاء دون الرفع إن كان لظهور فساده" أي ذكر الرفع "إذ لا يرتفع القديم لم يفد؛ لأنه" أي الرفع "لازم الانتهاء" فإنه إذا انتهى ارتفع، وإذا كان القديم لا يرتفع فكذا لا ينتهي أيضا وحيث كان المراد بانتهاء تعلقه فكذا المراد برفعه رفع تعلقه فلا محذور كما سلف في صدر الكلام فيه "وإن" كان "لاتفاق اختيارهم عبارة أخرى" تفيد الرفع "فلا بأس" إذ لا حجر في ذلك يشير إلى أن الخلاف لفظي وظاهر كلام الرازي، ثم السبكي يفيد أنه معنوي بناء على ما قدمناه عنه آنفا وأفاده القاضي أيضا لكن جعل ثمرته جواز نسخ الخبر وعدم جوازه كما سنذكره عنه في مسألة نسخ الخبر. وقد يقال: لا خفاء في اتفاق القولين على أن الحكم الأول انعدم تعلقه لا ذاته وأن الخطاب الثاني هو الذي حقق زوال تعلق الأول وإنما اختلفا في أن يقال: الرافع هو الثاني حتى لو لم يجئ لبقي الأول أو أن للأول غاية لا نعلمها فلما جاء الدليل بين انتهاءها حتى لو لم يجئ كان الحكم للأول وإن لم نعلمه فيتخلص الفرق بينها إلى أنه زال به أو عنده لا به ولكن لم نعلم الزوال إلا به وغير خاف أن هذا الاختلاف لا ثمرة له في الأحكام التكليفية فلا يوجب كونه معنويا والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة(25/113)
"أجمع أهل الشرائع على جوازه" أي النسخ عقلا "ووقوعه" سمعا "وخالف غير العيسوية من اليهود في جوازه ففرقة" وهم الشمعونية منهم ذهبوا إلى امتناعه "عقلا" وسمعا "وفرقة" وهم العنانية منهم ذهبوا إلى امتناعه "سمعا" أي نصا لا عقلا واعترف بجوازه عقلا وسمعا العيسوية منهم وهم أصحاب أبي عيسى الأصفهاني المعترفون ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى بني إسماعيل خاصة وهم العرب لا إلى الأمم كافة "و" خالف "أبو مسلم الأصفهاني" المعتزلي الملقب بالحافظ واسمه محمد بن بحر وقيل: ابن عمر وقيل: هو عمر بن يحيى وهو معروف بالعلم ذو تأليفات كثيرة ما بين تفسير وغيره "في وقوعه في شريعة واحدة" وفي القرآن كذا في كشف البزدوي وحكى الإمام الرازي وأتباعه إنكاره نسخ شيء من القرآن؛ لأنه تعالى وصف كتابه بأنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فلو نسخ بعضه لبطل وأجاب البيضاوي وغيره بأن الضمير لمجموع القرآن وهو لا ينسخ اتفاقا. وأجاب في المحصول بأن معناه لم يتقدمه من الكتب ما يبطله ولا يأتي بعده ما يبطله وأجاب آخرون بأنا لا نسلم أن النسخ إبطال سلمنا أنه أبطال لكنا نمنع أن هذا الإبطال باطل بل هو حق من حق {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وسيتلى عليك ما يقطع بحقيقة ويقطع دابر الإنكار وحكى الآمدي وابن الحاجب إنكاره ووقوع النسخ مطلقا وقيل: لم ينكر وقوعه وإنما سماه تخصيصا؛ لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان فهو كالتخصيص في الأعيان ويؤيده نص غير واحد على أن(25/114)
ص -57-…الخلاف بيننا وبينه لفظي إذا لا يتصور من المسلم إنكاره لكونه من ضروريات الدين ضرورة ثبوت نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة بالأدلة القاطعة على حقية شريعتنا ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة من شريعتنا، والحاصل أنه ينازع في الارتفاع ويزعم أن كل منسوخ بالإسلام أو في الإسلام هو في علم الله مغيا إلى ورود الناسخ كالمغيا في اللفظ وأنه لا فرق عنده بين أن يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} إلى الليل وبين أن يقول صوموا مطلقا وعلمه محيط بأنه سينزل ولا تصوموا الليل ومن هنا نشأ تسميته تخصيصا وصح أنه لم يخالف في وقوعه أحد من المسلمين "لنا لا يلزم قطعا منه" من النسخ "محال عقلي" أي محال لذاته فإن فرض المسألة ليس فيها حسن لذاته ولا قبح لذاته لما حسن لغيره وقبح لغيره وحينئذ فنقول "إن لم تعتبر المصالح" أي رعاية جلب نفع العباد ودفع ضرهم في التكاليف "فظاهر" عدم لزومه؛ لأن المقصود من التكاليف حينئذ ليس إلا الابتلاء والله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد من غير اعتبار مصلحة في حكمه. "وإن" اعتبرت المصالح فيها كقول المعتزلة فكذلك إذ كما قال "فلاختلافها" أي المصالح "بالأوقات" باختلافها كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت "فيختلف حسن الشيء وقبحه" باختلاف الأوقات فربما كان الشيء حسنا في وقت قبيحا في آخر "والأحوال" أي وباختلاف الأحوال كشرب الدواء أيضا فإنه قد يكون نافعا في حالة دون حالة فربما كان الشيء حسنا في حالة قبيحا في أخرى والأعيان فربما قبح الشيء من إنسان وحسن من إنسان كشرب الدواء أيضا فإنه ربما نفع إنسانا وضر لإنسان وكيف لا والشرع للأديان كالطبيب للأبدان "فبطل قولهم" أي مانعي جوازه عقلا "النهي يقتضي القبح والوجوب الحسن فلو صح" كون الفعل الواحد منهيا عنه مأمورا به "حسن وقبح" وهو محال لاستحالة اجتماع الضدين ووجه بطلانه ظاهر في فرض المسألة فلا اجتماع للحسن والقبح للشيء الواحد في وقت(25/115)
واحد فلا استحالة "ولأنه" أي نسخ الله تعالى الحكم "إن" كان "لحكمة ظهرت" له تعالى "بعد عدمه" أي عدم ظهورها عند شرع ذلك الحكم "فبداء" بالمد أي ظهور بعد الخفاء وهو على الله تعالى محال لاستلزامه العلم بعد الجهل وهو نقص لا يحوم حول جنابه المقدس، وكيف والأدلة القطعية العقلية والنقلية دالة على أنه تعالى عالم بالأشياء كلها على ما هي عليه أزلا وأبدا {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] "أو لا" لحكمة ظهرت له تعالى "وهو" أي ما لا يكون لحكمة "العبث" إذ هو فعل الشيء لا لغرض صحيح وهو على الله تعالى محال أيضا؛ لأنه علامة الجهل ومناف للحكمة وهو العليم الحكيم. "وإنما يكون" كل من هذين لازما "لو نسخ ما حسن" لنفسه "وقبح لنفسه كالإيمان والكفر" وقد ذكرنا أن فرض المسألة ليس في ذلك بل فيما حسن وقبح لغيره، ثم هذا عند غير الأشاعرة "أما الأشاعرة فيمنعون وجوده" أي ما حسن لنفسه وقبح لنفسه كما تقدم فإبطال هذا الاحتجاج على رأيهم أظهر "وأما الوقوع ففي التوراة أمر آدم بتزويج بناته من بنيه" كما ذكره الجم الغفير وقال التفتازاني يعني ورد في التوراة بلفظ الإطلاق، بل العموم لكن عن سبيل التوزيع من غير تخصيص بالبنات والبنين وفي زمانه(25/116)
ص -58-…ولا تقييد بوقت دون وقت، والاحتمالات التي لم تنشأ عن دليل ينفيها ظاهر الدليل لكونها منفية على أن الطبري أخرج عن ابن عباس وابن مسعود وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يولد لآدم غلام إلا ولدت معه جارية فكان يزوج توأمة هذا للآخر وتوأمة الآخر لهذا فساق القصة بطولها قال شيخنا الحافظ وقد وقعت لنا من وجه آخر موصولا إلى ابن عباس فساقه بسنده إليه قال كان آدم عليه السلام نهي أن ينكح ابنته توأمها وأن يزوج توأمة هذا الولد آخر وأن يزوجه توأمة الآخر، ثم قال وهذا أقوى ما وقفت عليه من أسانيد هذه القصة، ورجاله رجال الصحيح إلا عن عبد الله بن عثمان بن خيثم فإن مسلما أخرج له في المتابعات وعلق له البخاري شيئا ووثقه الجمهور ولينه بعضهم قليلا وقد حرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء اتفاقا وهذا هو النسخ "وفي السفر الأول" من التوراة "قال تعالى لنوح" عند خروجه من الفلك "إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك" وأطلقت ذلك أي أبحت ذلك كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه "ثم حرم منها" أي من الدواب على من بعده "على لسان موسى كثير" منها كما اشتمل عليه السفر الثالث من التوراة وهذا نسخ ظاهر "وأما الاستدلال" عليهم "بتحريم السبت" أي العمل الدنيوي كالاصطياد فيه في شريعة موسى عليه السلام "بعد إباحته" قبل موسى عليه السلام "ووجوب الختان عندهم" أي اليهود "يوم الولادة" وقيل: في ثامن يومها "بعد إباحته في ملة يعقوب" أو في شريعة إبراهيم عليهما السلام في أي وقت أراد المكلف في الصغر والكبر، وإباحة الجمع بين الأختين في شريعة يعقوب وتحريمه عند اليهود وكل ذلك نسخ "فيدفع بأن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا" وإباحة هذه الأمور كانت بأصل فلا يكون رفعها نسخا.(25/117)
"والحكم بالإباحة وإن كان حكما بتحقيق كلمته النفسية وهي" أي كلمته النفسية هي "الحكم لكن" الحكم "الشرعي أخص منه" أي من الحكم بالإباحة الأصلية "وهو" أي الحكم الشرعي "ما علق به خطاب في شريعة" على أنه كما قال الشيخ سراج الدين ويمكن أن يقال: لما تقررت تلك الإباحات في تلك الشرائع صارت بحكم تقرير أنبيائها من حكم شرائعهم فيكون رفعها رفع حكم شرعي فيكون نسخا وأيضا كما قال المصنف "وبعض الحنفية التزموه" أي رفع الإباحة الأصلية "نسخا؛ لأن الخلق لم يتركوا سدى" أي مهملين غير مأمورين ولا منهيين "في وقت" من الأوقات كما مشى عليه في كشف البزدوي وغيره بل كلامهم يفيد أنه المذهب حيث قالوا: رفع الإباحة الأصلية نسخ عندنا "فلا إباحة ولا تحريم قط إلا بشرع فما يذكر من حال الأشياء قبل الشرع فرض وأما" النسخ "في شريعة" واحدة "فوجوب التوجه إلى البيت" أي الكعبة المشرفة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] بعد أن كان التوجه إلى بيت المقدس كما في الصحيحين وغيرهما "ونسخ الوصية للوالدين" الثانية بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل(25/118)
ص -59-…حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وإنما الكلام في الناسخ ما هو وسيأتي في مسألة نسخ السنة بالقرآن "وكثير" وستقف على كثير منه فالحق أنه "لا ينكره إلا مكابر أو جاهل بالوقائع" قال "المانعون سمعا لو نسخت شريعة موسى لبطل قوله هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض" قالوا والتالي باطل؛ لأنه متواتر فالمقدم مثله "أجيب بمنع أنه" أي هذا القول "قاله" بل هو مختلف فضلا عن كونه متواترا وكونه فيما بأيديهم الآن من التوراة لا ينافي كونه مختلفا؛ لأنه ليس بأول كذب انتحلوه فيها وقد ذكر غير واحد أنه قيل أول من اختلقه لليهود ابن الراوندي ليعارض به دعوى رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن صاحب هذا الاختلاق إن مات عليه فليس له في الآخرة من خلاق "وإلا" لو قاله "لقضت العادة بمحاجتهم" أي اليهود "به" أي بهذا القول للنبي صلى الله عليه وسلم لحرصهم على معارضته ودفع دعوى رسالته "وشهرته" أي ولقضت العادة بشهرة الحجاج به لو وقع الحجاج به؛ لأن الأمور الخطيرة لا يخفى وقوعها وتتوفر الدواعي على نقلها ولم ينقل محاجتهم به ولا اشتهر وقوع الحجاج به، ثم نمنع كونه متواترا عنه ولو زعموا أنه قاله من التوراة "لأنه لا تواتر في نقل التوراة الكائنة الآن لاتفاق أهل النقل على إحراق بخت نصر أسفارها و" أنه "لم يبق من يحفظها. وذكر أحبارهم أن عزيرا ألهمها فكتبها ودفعها إلى تلميذه ليقرأها عليهم" فأخذوها من التلميذ وبخبر الواحد لا يثبت التواتر وبعضهم زعم أن التلميذ زاد فيها ونقص فكيف يوثق بما هذا سبيله "ولذا لم تزل نسخها الثلاث" التي بأيدي العنانية والتي بأيدي السامرية والتي بأيدي النصارى "مختلفة في أعمار الدنيا" وأهلها ففي نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكسر على ما في نسخة العنانية وفي التي في أيدي النصارى زيادة ألف وثلثمائة سنة وفيها الوعد بخروج المسيح وبخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند(25/119)
خروجهما كذا ذكره غير واحد من مشايخنا. وفي تتمة المختصر في أخبار البشر للشيخ زين الدين عمر بن الوردي ما ملخصه نسخ التوراة ثلاثة: السامرية والعبرانية وهي التي بأيدي اليهود إلى زماننا وعليها اعتمادهم وكلتاهما فاسدة لإنباء السامرية بأن من هبوط آدم عليه السلام إلى الطوفان ألفي سنة وثلثمائة وسبع سنين وكان الطوفان لستمائة خلت من عمر نوح عليه السلام وعاش آدم تسعمائة وثلاثين سنة باتفاق فيكون نوح على حكم هذه التوراة أدرك جميع آبائه إلى آدم ومن عمر آدم فوق مائتي سنة وهو باطل باتفاق ولإنباء العبرانية بأن بين هبوط آدم والطوفان ألفي سنة وخمسمائة وستا وخمسين سنة وبين الطوفان وولادة إبراهيم عليه السلام مائتي سنة واثنين وتسعين سنة وعاش نوح بعد الطوفان ثلثمائة سنة باتفاق فيكون نوح أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة وهذا باطل باتفاق؛ لأن قوم هود أمة نجت بعد قوم نوح وأمة صالح نجت بعد أمة هود وإبراهيم وأمته بعد أمة صالح بدليل قوله تعالى: خبرا عن هود فيما يعظ به قومه وهم عاد :{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] وقوله تعالى: خبرا عن صالح فيما يعظ به قومه وهم ثمود {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74] والنسخة الثالثة اليونانية وذكر أنها(25/120)
ص -60-…اختارها محققو المؤرخين وأنه ليس فيها ما يقتضي الإنكار على الماضي من عمر الزمان وهي توراة نقلها اثنان وسبعون حبرا قبل ولادة المسيح بقريب ثلثمائة سنة لبطليموس اليوناني بعد الإسكندر قلت وهذه، وإن كانت بهذه المثابة فلم يثبت تواترها ولا اشتمالها على هذا وقال الطوفي والمختار في الجواب إن في التوراة نصوصا كثيرة وردت مؤبدة، ثم تبين أن المراد بها التوقيت بمدة مقدرة كقوله إذا خربت صور لا تعمر أبدا، ثم إنها عمرت بعد خمسين سنة ومنها إذا خدم العبد سبع سنين أعتق فإن لم يقبل العتق استخدم أبدا، ثم أمر بعتقه بعد مدة معينة سبعين سنة أو غيرها وإذا جاز في هذه النصوص المؤبدة أن يراد بها التوقيت فلم لا يجوز في نص موسى على تأبيد شريعته وإلا فما الفرق قلت: على أن الذي في شرح تنقيح المحصول؛ ولأن لفظ الأبد منقول في التوراة وهو على خلاف ظاهره قال في العبد يستخدم ست سنين، ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فليثقب أذنه وليستخدم أبدا مع تعذر الاستخدام أبدا بل العمر أبدا فأطلق الأبد على العمر فقط انتهى، وكذا في جامع الأسرار وزاد، ثم قال في موضع آخر يستخدم خمس سنين، ثم يعتق في تلك السنة وهذا اضطراب في التوراة بالنسبة إلى خصوص هذا الفرع أيضا وهو مما يدل على تبديلهم وتحريفهم كما صرح القرآن به.(25/121)
هذا وقد عرفت أن مانعي جوازه سمعا فريقان: من لا يمنعه عقلا: ومن يمنعه عقلا أيضا فقد اجتمعا في الوجه السمعي المذكور وانفرد مانعوه سمعا وعقلا بوجوه عقلية منها ما تقدم ومنها ما أشار إليه بقوله "قالوا" أي مانعوا جوازه سمعا وعقلا وإنما لم يفصح بهم هكذا لإرشاد المقول إليهم فإنه وجه عقلي وهو الحكم "الأول إما مقيد بغاية" أي بوقت محدود معين "فالمستقبل" أي فالحكم الذي بخلاف الأول المذكور "بعده" أي بعد الحكم الأول كمن يقول: صم إلى الغد، ثم يقول في الغد لا تصم "ليس نسخا" للأول "إذ ليس رفعا" للأول قطعا بل الحكم الأول انتهى بنفسه بانتهاء وقته المعين "أو" مقيد "بتأبيد فلا رفع" أيضا فيه "للتناقض" على تقدير الرفع؛ لأنه يلزم منه الإخبار بتأبيد الحكم وبنفي تأبيده، والتناقض عليه تعالى باطل؛ لأنه أمارة العجز عن إيراد ما لا تناقض فيه ومستلزم للكذب وهو محال أيضا في كلام العالم القادر الصادق فلا نسخ "ولتأديته" أي جواز نسخه أيضا "إلى تعذر الإخبار به" أي بالتأبيد بوجه من الوجوه إذ ما من عبارة تذكر له إلا ويقبل النسخ واللازم باطل بالاتفاق؛ لأنه مقدور له غير متعذر عليه بلا نزاع وكيف لا ونحن نعلم بالضرورة أن ذلك كسائر المعاني الذهنية يمكن التعبير عنه والإخبار به "و" إلى "نفي الوثوق" بتأبيد حكم ما أيضا "فلا يجزم به" أي بالتأبيد في أحكام نطق دين الإسلام بتأبيدها أعني "في نحو الصلاة" أي فرضيتها وفرضية الصوم إلى غير ذلك بل "وشريعتكم" أي ولا نجزم بتأبيدها أيضا بل تجوز نسخها إذ لا مانع منه غير النص الصريح عندكم بتأبيدها وحيث لم يكن التأبيد مانعا من قبول النسخ جاز نسخها لكن جواز نسخها باطل عندكم "الجواب إن عني بالتأبيد إطلاقه" أي الحكم عن التوقيت والتأبيد "فلا يمتنع" جواز نسخه "إذ لا دلالة لفظية عليه" أي امتناع جواز نسخه فإن التوقيت والتأبيد والبقاء والاستمرار غير داخل في المطلق وبقاء التعلق والوجوب(25/122)
ص -61-…وعدم بقائهما غير مستفاد من الصيغة "بل إنه" أي النسخ "مشروع" فيما هذا شأنه "أو" عني بالتأبيد "صريحه" أي التأبيد "فكذلك" أي لا امتناع لنسخه "إن جعل" التأبيد "قيدا للفعل الواجب" إذ لا تناقض بين دوام الفعل وعدم دوام الحكم المتعلق به ك صم رمضان أبدا فإن التأبيد قيد للصوم الذي هو الفعل الواجب لا لإيجابه على المكلف؛ لأن الفعل إنما يعمل بمادته لا بهيئته ودلالة الأمر على الوجوب بالهيئة لا بالمادة فيكون الرمضانات كلها متعلق الوجوب من غير تقييد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد فلم يكن رفع الوجوب وهو عدم استمراره مناقضا للوجوب في الجملة كما في صم رمضان فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب وإذا مات انقطع الوجوب قطعا، ولم يكن نفيا لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات وتناول الخطاب له "لا" إن جعل قيدا في "وجوبه" أي وجوب الفعل الواجب نفسه وهو الحكم بأن يخبر أن الوجوب ثابت أبدا، ثم ينسخ حتى يأتي زمان لا وجوب فيه على أنه كما قال "وإن لزم" صريح التأبيد "قيدا له" أي الحكم "فمختلف" في جواز نسخه فمنهم من أجازه أيضا ومنهم من منعه كما سيأتي بيانه، ثم كما قال أيضا "ولا يفيد" هذا الترديد منع جواز النسخ مطلقا "لجوازه" أي النسخ "بما تقدم" من الدليل الدال على جوازه، ثم وقوعه فالتشكيك فيه سفسطة. "وتسليم كون الحكم المقيد" بالتأبيد "صريحا لا يجوز نسخه لا يفيدهم" أي مانعي جواز النسخ مطلقا "النفي الكلي" لجواز النسخ "الذي هو مطلوبهم مع أن الحكم المقيد بالتأبيد أقل من القليل قالوا" أي مانعوا جوازه سمعا وعقلا؛ ولما ذكرنا "أيضا" آنفا "لو رفع" تعلق الحكم "فإما" أن يكون رفعه "قبل وجوده" أي الفعل "فلا ارتفاع" له؛ لأن ارتفاعه يقتضي سابقة وجوده؛ لأن العدم الأصلي لا يكون ارتفاعا والفرض أنه لم يوجد "أو" يكون رفعه "بعده" أي الفعل "أو" يكون رفعه "معه" أي الفعل "فيستحيل" رفعه أيضا لاستحالة رفع ما وجد وانقضى؛ لأن ارتفاع(25/123)
المعدوم محال ولاستحالة رفع الشيء حال وجوده للزوم اجتماع النفي والإثبات فيوجد حين لا يوجد وأنه مستحيل "ولأنه تعالى: إما عالم باستمراره" أي بدوام الحكم المنسوخ "أبدا فظاهر" أنه لا نسخ وإلا يلزم وقوع خلاف علم الله وهو محال؛ لأنه جهل والبارئ تعالى منزه عنه "أو لا" يعلم استمراره أبدا "فهو" أي الحكم المنسوخ "في علمه مؤقت فينتهي" الحكم "عنده" أي ذلك الوقت "والقول الذي ينفيه" أي ذلك الحكم بعد ذلك الوقت "ليس رفعا" لحكم ثابت فلا يكون نسخا "والجواب عن الأول" وهو "أنه" لو رفع فإما قبل وجوده إلخ "ترديد في الفعل" وليس محل النزاع "لا" في "الحكم" وهو محل النزاع إذ النسخ ارتفاع الحكم لا الفعل ولا يلزم من بطلان ارتفاع الفعل ارتفاع الحكم "ولو أجرى" الترديد "فيه" أي في الحكم "قلنا المراد" بالنسخ "انقطاع تعلقه" أي الحكم وانقطاع استمراره ومعناه إن وجد التعلق بالفعل الذي في الزمان الأول لم يوجد التعلق بالفعل الذي في الزمان الثاني فارتفع وانقطع الاستمرار الذي كان يتحقق لولا الناسخ "كما قدمناه في التعريف"، وإن كان الحكم أزليا لا يرتفع لا أن الفعل ارتفع "ونختار علمه" أي أنه تعالى على استمرار الحكم المنسوخ "مؤقت" أي إلى الوقت الذي علم أنه ينسخه فيه(25/124)
ص -62-…"ويتضمن" علمه به مؤقتا "علمه بالوقت الذي ينسخه فيه" وعلمه بارتفاعه بنسخه فيه لا يمنع النسخ بل يثبته ويحققه "فكيف ينافيه".
مسألة
"الاتفاق على جواز النسخ" للحكم المتعلق بالفعل "بعد التمكن" من الفعل بعد علمه بتكلفه به "بمضي ما يسع" الفعل "ومن الوقت المعين له" أي للفعل "شرعا إلا ما عن الكرخي" من أنه لا يجوز إلا بعد حقيقة الفعل سواء مضى من الوقت ما يسع الفعل أو لا "واختلف فيه" أي في النسخ "قبله" أي التمكن من الفعل "بكونه" أي النسخ "قبل" دخول "الوقت" المعين للفعل "أو بعده" أي بعد دخول الوقت المعين له "قبل" مضي "ما يسع" الفعل منه سواء "شرع" في الفعل "أو لا" أي أو لم يشرع فيه، وفي هذا تعريض بنفي تعيين ابن الحاجب وغيره كون الخلاف قبل وقت الفعل ولذا قال في التصوير قبل دخول عرفة، ولم يزد عليه لكن الحق ما ذكره المصنف والمثال الواضح "كصم غدا ورفع" وجوب صومه "قبله" أي الغد "أو" رفع "فيه" أي في الغد "وإن شرع" في صومه بعد أن يكون "قبل التمام" لصيامه "فالجمهور من الحنفية وغيرهم" منهم الشافعية والأشاعرة قالوا "نعم" يجوز نسخه "بعد التمكن من الاعتقاد" بالقلب لحقيته "وجمهور المعتزلة وبعض الحنابلة والكرخي" والجصاص والماتريدي والدبوسي "والصيرفي لا" يجوز وإن كان بعد التمكن من الاعتقاد فيتلخص أن محل الخلاف ما إذا مضى ما لا يسع الفعل وحصل التمكن من عقد القلب قال المصنف وقد يظهر من بعض الأدلة ما يفيد أنهم يمنعونه قبل نفس الفعل كما في ابن الحاجب إذ قال: ولنا أن كل نسخ قبل الفعل وقد اعترفتم بثبوته فليلزمكم قبل الفعل وهذا مع تهافته يفيد أنهم يمنعونه قبل حقيقة الفعل، وليس كذلك للاتفاق المحكي في أول المسألة إلا ما عن الكرخي وصرح صاحب الكشف فقال: وعندهم هو أن النسخ بيان مدة العمل بالبدن وذلك لا يتحقق إلا بعد الفعل أو التمكن منه؛ لأن الترك بعد التمكن منه تفريط من العبد فلا ينعدم به معنى بيان مدة(25/125)
العمل بالنسخ انتهى. فكل ما يفيد خلافه تساهل "لنا: لا مانع عقلي ولا شرعي" من ذلك "فجاز ونسخ خمسين" من الصلوات في اليوم والليلة بفرض خمس كذا ذكر جماعة منهم ابن بطال والشيخ سراج الدين الهندي والشيخ قوام الدين الكاكي والأظهر كما قال فخر الإسلام وغيره نسخ ما زاد على الخمس فإن ظاهر الأحاديث الصحيحة تفيد نسخ خمس وأربعين منها واستمرار خمس، ثم قوله "في" ليلة "الإسراء" إن كان المراد به المعراج إلى السماء، ثم إلى ما شاء الله تعالى فظاهر، وإن كان المراد به الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فهو بناء على أنها ليلة المعراج أيضا وأنهما كانا يقظة كما هو المشهور عند الجمهور وإلا فليس ذلك في ليلة الإسراء بل في ليلة المعراج ومن ثمة قال فخر الإسلام وغيره هي ليلة المعراج "وإنكار المعتزلة إياه" أي نسخ الخمسين أو ما زاد على الخمس في الليلة المذكورة بعد وجوبها، وكذا إنكار جمهورهم المعراج "مردود بصحة النقل" لذلك كما في الصحيحين وغيرهما مع عدم إحالة العقل له فإنكاره بدعة ضلالة وأما إنكار الإسراء من(25/126)
ص -63-…المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فكفر، ثم قولهم هذا يقتضي جواز النسخ قبل التمكن من الاعتقاد أيضا؛ لأن الأمر بخمسين صلاة كان للأمة ولو يوجد تمكنهم من الاعتقاد إذ لا يتصور قبل العلم دفع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المكلفين بها، وهو الأصل في الشريعة، والأمة تابعة له وقد علم واعتقد على أنه كما قال صدر الإسلام ظهر بالنسخ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأمر بخمسين صلاة دون أمته وإن كان الأمر في الابتداء متناولا له ولهم فإن قيل ظاهر المروي أن أمته كانوا مأمورين بها أيضا فكيف يستقيم هذا أجيب بأن الله تعالى يبتلي عباده بما شاء فإذا نسخ المأمور قبل التمكن من عمله للجميع ومن الاعتقاد للأمة ظهر أن الابتلاء كان بالاعتقاد والقبول من النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته ولا بدع في ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبتلى بأمته كما يبتلى لنفسه فإنه في الشفقة في حق أمته كالأب في حق ولده، والأب يبتلى بولده كما يبتلى بنفسه فلم يوجد النسخ إلا بعد التمكن من الاعتقاد والقبول، ثم الابتلاء بهما كالابتلاء بالفعل بل أولى حتى كان القبول إيمانا، والفعل خدمة ومعلوم أن الإيمان رأس الطاعات ورأس العبادات.(25/127)
"وقولهم" أي المانعين "لا فائدة" حينئذ في التكليف بالفعل؛ لأن العمل بالبدن هو المقصود من شرع الأحكام إذ به يتحقق الابتلاء، ألا ترى أن الأمر والنهي يدلان على وجوب نفس العمل لا على العزم، والعقد "منتف بأنها" أي الفائدة في التكليف حينئذ "الابتلاء للعزم" على الفعل إذا حضر وقته وتهيئة أسبابه وإظهار الطاعة من نفسه "ووجوب الاعتقاد" لحقيته ولا نسلم أن العمل وحده هو المقصود بل عقد القلب مقصود أيضا وكيف والطاعة لا تتصور بدونه حتى لو فعل المأمور به، ولم يعتقد وجوبه لا يصح فعله وعزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل؛ لأنه يحصل له الثواب بمجرد نية الخير كما دل عليه ما في صحيح البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم "فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" إلى غير ذلك والإنسان إذا تمكن من التصديق القلبي فأتى به، ولم يتمكن من الإقرار اللساني كان إيمانا صحيحا بالإجماع بل الفعل باحتمال السقوط فوق العزيمة القلبية؛ لأن الفعل يسقط بعذر الإغماء وغيره والتصديق لا يحتمل السقوط أصلا فإذن اعتبار التمكن من عزيمة القلب في تحقيق معنى الابتلاء أولى من اعتبار التمكن من الفعل ويتحرر أن حكم النسخ بيان لمدة عمل القلب والبدن جميعا تارة ولمدة عمل القلب وحده تارة، وإن الشرط التمكن من الأمر الأصلي الذي لا يحتمل السقوط وهو عمل القلب الذي هو رئيس الأعضاء إذ ابتلاؤه هو المقصود الأعظم فكان لازما على كل تقدير وأما التمكن من العمل فمن الزوائد التي لا تحتمل السقوط فيحتمل أن يكون النسخ بيانا لمدته ويحتمل أن لا يكون وكون المقصود العمل لا غير إنما هو من أوامر العباد؛ لأنها لجر النفع لا للابتلاء وذا يحصل بالفعل لا بالاعتقاد.
"وأما إلحاقه" أي جواز النسخ قبل التمكن من الفعل "بالرفع" أي رفع الحكم "للموت"(25/128)
ص -64-…أي لموت المكلف قبل التمكن من فعل ما كلف به فكما أن هذا لا يعد تناقضا فكذا النسخ قبل التمكن من الفعل بجامع استوائهما في انقطاع تعلق الخطاب بهما كما أشار إليه ابن الحاجب وصاحب البديع "وما قيل: كل رفع قبل" وقت "الفعل" كما قدمناه عن ابن الحاجب وهو في البديع أيضا "فليسا بشيء لتقييد الأول" أي الرفع بالموت "عقلا" أي بالعقل إذ العقل قاض بأنه لا تكليف للميت فلم يوجد الجامع بينهما؛ لأن الرفع بالموت بالعقل لا بدليل شرعي والكلام إنما هو في الرفع بالدليل الشرعي "لا ما قيل: من منع تكليف المعلوم موته قبل التمكن" من الفعل "ليدفع بأنه إجماع" أو لزام للمعتزلة حيث قالوا بالتكليف قبل الفعل من غير التفرقة بين من علم الله أنه يموت أو لا يموت كما ذكره التفتازاني "والثاني" أي كل رفع قبل وقت الفعل "في غير النزاع؛ لأنه" أي قائله "يريد" أي بالوقت "وقت المباشرة" لا للفعل لما ذكرنا سالفا "والنزاع" ليس فيه في الجملة بل النزاع إنما هو رفع التكليف بالفعل "في وقته" أي الفعل "الذي حد له" أي للفعل شرعا قبل مضي زمن منه يسع الفعل وفيما قبل حضور الوقت المقدر للفعل شرعا "واستدل" للمختار "بقصة إبراهيم عليه السلام أمر" بذبح ولده فأفاد وجوبه عليه "ثم ترك" إبراهيم عليه السلام ذبحه "فلو" كان تركه له مع التمكن منه "بلا نسخ" لوجوبه "عصى" بتركه لكنه لم يعص إجماعا فتعين أن تركه له كان لنسخ وجوبه قبل التمكن منه "وأجيب بمنع وجوب الذبح" عن أمر له به "بل" رأى "رؤيا فظنه" أي الوجوب ثابتا له بدليل قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فنسبه إلى المنام "وما تؤمر" أي وقول ولده له {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} "يدفعه" أي منع وجوب الذبح لانصرافه ظاهرا إلى أنه مأمور به إذ لا مذكور غيره فإن قيل تؤمر مضارع فلا يعود إلى ما مضى في المنام أجيب يجب الحمل عليه ضرورة إقدامه على الذبح بتهيئة أسبابه "مع" لزوم "الإقدام على ما(25/129)
يحرم" من قصد الذبح وترويع الولد "لولاه" أي الوجوب بالأمر وإلا لكان ممتنعا شرعا وعادة على أن منام الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بالأمر والنهي وحي معمول به "وعلى أصلهم" أي ويدفع هذا الجواب على أصل المعتزلة أن الأحكام ثابتة عقلا والشرع كاشف عنها ويجب عليه إنزال الكتب وإرسال الرسل وتمكين المكلفين من فهم ما أنزل إليهم لينكشف لهم أن إراءة إبراهيم عليه السلام ما يوهم أنه أمر وليس بأمر "توريط له" أي إيقاع لإبراهيم "في الجهل فيمتنع" بل لا يجوز لآحاد المكلفين فكيف لإبراهيم صلى الله عليه وسلم "وقولهم" أي المعتزلة "جاز التأخير" للذبح من غير لزوم عصيان "لأنه" أي وجوبه "موسع" فيحصل التمكن منه؛ لأنه أدرك الوقت فلا يكون نسخا قبل التمكن بل بعده "فيه" أي في قولهم هذا "المطلوب" وهو النسخ قبل التمكن من الفعل "لتعلقه" أي الوجوب حينئذ "بالمستقبل"؛ لأن الأمر باق على المكلف قطعا في الوقت الموسع إذا لم يأت بالمأمور به فإذا نسخ عنه فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل "وهو" أي تعلق الوجوب بالمستقبل هو "المانع عندهم" أي المعتزلة من النسخ لاشتراطهم في تحقيق النسخ كون المنسوخ واجبا في وقته وتعلق الوجوب في المستقبل ينافيه وستقف قريبا على ما في إطلاقه وأنه لا يتم في هذا "لكن نقل المحققون" كالحنفية "عنهم" أي المعتزلة "أنه" أي النسخ(25/130)
ص -65-…"بيان مدة العمل بالبدن فلا يتحقق" النسخ "إلا بعد التمكن" من العمل بالبدن "المقصود الأصلي" من شرع الأحكام "لا العزم" على العمل "ومعه" أي التمكن من العمل "يجوز" النسخ وإن لم يعمل "لأن الثابت" حينئذ من المكلف "تفريط المكلف" في ذلك بالترك له "وليس" تفريطه "مانعا" من النسخ "وهذا" أي التمكن من العمل "متحقق في الموسع" فيجوز فيه النسخ عندهم "ودفعه" أي جواز النسخ عندهم في الموسع "بتعلق الوجوب بالمستقبل في الموسع" فلا يتحقق شرط النسخ عندهم فيه كما ذكرنا "إنما يصدق في المضيق" قبل وقته المقدر له شرعا "وإلا فقد يثبت الوجوب" في الموسع "ولذا" أي لوجوبه "لو فعله" أي الواجب "سقط بخلاف ما" أي الفعل الذي "قبل الوجوب مطلقا" أي في المضيق والموسع لا يسقط به الواجب "ثم الجواب" عن قولهم المقصود الأصلي العمل بالبدن "أن ذلك" أي كونه مقصودا أصليا "لا يوجب الحصر" فيه كما أوضحناه قريبا "ومنعه" أي وجوب الذبح موسعا "بأنه" أي وجوب الذبح "لو كان" موسعا "لأخر" المكلف بفعله فعله "عادة في مثله" أي ذبح الولد إما رجاء أن ينسخ عنه أو يموت أحدهما فيسقط عنه لعظم الأمر "منتف؛ لأن عليه السلام يقتضي المبادرة" إلى امتثال الأمر "وإن كان ما كان" وكيف لا وهو خليل الرحمن "وقولهم" أي المانعين "فعل" أي ذبح و "لكن" كان كلما قطع شيئا "التحم" أي برأ واتصل ما تفرق عقيب القطع أي كان مأمورا ولكن بما هو مقدور له من فعله وهو إمرار السكين على الحلق والتحامل عليه وترتب عليه أثره من قطع الأوداج فحصل مطاوع الذبح لكن انعدم أثره وطرأ ضده عقبه ولهذا قيل له {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} ومدح على ذلك "دعوى مجردة" عن الثبوت "كذا" قولهم "منع" القطع "بصفيحة" من حديد أو نحاس خلقت على حلقه أي لم يترتب عليه أثر لوجود هذا المانع فلم يحصل مطاوع الذبح دعوى مجردة مع أن كلا خلاف العادة والظاهر، ولم ينقل نقلا معتبرا ولو صح لنقل واشتهر وكان من(25/131)
الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ولا يدل عليه قد صدقت؛ لأن معناه - والله أعلم - أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه قلت لكن يعكر هذا ما أخرج ابن أبي حاتم بسند رجاله موثقون عن السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن تابعي صغير من رجال مسلم "لما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه قال الغلام يا أبت اشدد علي رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لئلا ينضح عليك من دمي وأسرع السكين على حلقي ليكون أهون علي قال فأمر السكين على حلقه وهو يبكي فضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس. قال فقلبه على وجهه وحز القفا فذلك قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإذا الكبش فأخذه وذبحه وأقبل على ابنه يقبله ويقول يا بني اليوم وهبت لي" وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر السكين فانثنت مرة بعد أخرى فقال له الغلام اطعن بها طعنا فطعن بها فانقلبت فنودي حينئذ، ثم على هذا لا يتم قوله "مع أنه" أي الذبح على التقدير الثاني "حينئذ تكليف بما لا يطاق" لعدم قدرته حينئذ على حقيقة الذبح الذي هو قطع الحلق على وجه تبطل به الحياة والمعتزلة لا يجوزونه "ثم هو" أي هذا المنع "نسخ"(25/132)
ص -66-…للفعل الذي هو الذبح "أيضا قبل التمكن" منه وإلا أثم بتركه وهو باطل بالاتفاق أما الأول فلأنه إنما يكون تكليفا بما لا يطاق أن لو كان التكليف بحقيقة الذبح موجودا حالة قيام هذا المانع بحلقه ونحن لا نقول به بل نقول زال التكليف بحقيقة الذبح في هذه الحالة بالمانع المذكور، وأما الثاني فلأن المانع المذكور إنما يكون نسخا قبل التمكن من الفعل أن لو كان دليلا شرعيا لكنه ليس بدليل شرعي، نعم أجيب عن هذا بأن القائل بالنسخ لا يقول نسخ بالمانع المذكور بل بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وإنما يذكر المانع المذكور لعدم التمكن من الذبح فيكون النسخ بالدليل المذكور قبل التمكن بالمانع لا بنفس المانع "وللحنفية" في جوابهم "منع النسخ والترك" للمأمور به "للفداء" أي لقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] "وهو" أي الفداء "ما يقوم مقام الشيء في تلقي المكروه" المتوجه عليه ومنه فدتك نفسي أي قبلت ما يتوجه عليك من المكروه. وحاصل ما لهم كما قاله المصنف رحمه الله أن النسخ رفع الحكم، والولد ونحوه محل للفعل الذي هو متعلق الحكم فهو محل محل الحكم ومحل الحكم ليس داخلا في الحكم فضلا عن محل محله وإنما يتحقق نسخ الحكم برفعه لا بإبدال محله بل الإبدال يدل على بقاء الحكم غير أنه جعل محله فداء عوضا عن ذاك فإذن كما قال "فلو ارتفع" وجوب ذبح الولد "لم يفد" أي لم يقم غيره مقامه، ولم يسم فداء له، والتالي منتف ونظيره بقاء وجوب الصوم في حق الشيخ الفاني عند وجوب الفدية عليه وإلا لم تجب الفدية عليه فدل على أنه لم يتحقق ترك المأمور به حتى يلزم الإثم "وما قيل" من الإيراد على هذا "الأمر بذبحه" أي الفداء "بدلا هو النسخ" يعني جعل وجوب ذبح الفداء بدلا عن وجوب ذبح الولد وهذا نسخ ظاهر فجوابه هذا "موقوف على ثبوته" أي ثبوت رفع ذلك الوجوب المتعلق بذبح الولد وإثبات وجوب آخر لذبح الكبش(25/133)
"وهو" أي ثبوت هذا "منتف" ولا يلزم من مجرد إبدال المحل ذلك لا يقال إن لم يلزم ذلك من مجرد الإبدال فهو ظاهر فيه؛ لأنا نمنعه بل الإبدال كما جاز أن يكون مع إيجاب آخر جاز أن يكون مع الإيجاب الأول وإذا جاز وجب اعتباره مع الأول؛ لأنه اعتبار لا يؤدي إلى النسخ وكل اعتبار كذلك يترجح ما يؤدي إليه فتعين. ذكره المصنف وفي التلويح فإن. قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أعني ذبح الولد وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة فجوابه أنا لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب، ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا يكون حكمها شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى. قلت وهذا على منوال ما تقدم من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا إما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم قط إلا بشرع كما تقدم أيضا يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا، ثم إذا كان رفعها نسخا يكون ثبوتها بعد رفعها نسخا أيضا فيبقى الإيراد المذكور محتاجا إلى الجواب فليتأمل.
ثم اختلف في الذبيح قال أبو الربيع الطوفي فالمسلمون على أنه إسماعيل وأهل(25/134)
ص -67-…الكتاب على أنه إسحاق وعن أحمد فيه القولان انتهى ويعكره ما في الكشاف فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين أنه إسماعيل وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين أنه إسحاق وعزى الفقيه أبو الليث الأول إلى مجاهد وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي والثاني إلى ابن عباس وعكرمة وقتادة وأبي هريرة وعبد الله بن سلام قال وهكذا قال أهل الكتابين وذكر كونه إسحاق عن الأكثرين المحب الطبري وكونه إسماعيل عنهم النووي وصحح القرافي أنه إسحاق وابن كثير أنه إسماعيل وزاد ومن قال إنه إسحاق فإنه تلقاه مما حرفه النقلة من بني إسرائيل انتهى. وذكر الفاكهي أنه أثبت والبيضاوي أنه الأظهر وهو كذلك - إن شاء الله تعالى - وعليه مشى المصنف في مسألة يجوز بأثقل، والحجج من الطرفين لها موضع غير هذا.(25/135)
"قالوا" أي المعتزلة "إن كان" أي المنسوخ "واجبا وقت الرفع اجتمع الأمران بالنقيضين في وقت" واحد وتوارد النفي والإثبات على محل واحد محال "وإلا" أي وإن لم يكن واجبا وقت الرفع "فلا نسخ" لعدم الرفع "أجيب باختيار الثاني" وهو أنه لم يكن واجبا وقت الرفع لانتهاء التكليف به وانقطاعه بالناسخ وقت وروده متصلا به؛ لأن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فيكون عقبها بالضرورة كما أن المكلف مكلف قبل الموت وينقطع عنه التكليف بالموت عقبه متصلا به "والمعنى رفع إيجابه" أي إيجاب المنسوخ "حكمه" الثابت له "عند حضور وقته" المقدر له شرعا "لولاه" أي الناسخ "وهو" أي رفع الناسخ حكم المنسوخ عند حضور وقت المنسوخ المقدر له "ممنوعكم" أيها المعتزلة حيث قلتم تعلق الوجوب بالمستقبل مانع من نسخه "فإن أجزتموه" أي رفع الناسخ حكم المنسوخ الواجب في الاستقبال "ولم تسموه نسخا فلفظية" أي فالمنازعة لفظية غير ظاهرة الوجه "وقد وافقتم" على جواز النسخ قبل التمكن من الفعل "وأيضا لو صح" كون تعلق الوجوب بالمستقبل مانعا من نسخه "انتفى النسخ" مطلقا ولو بعد حضور زمن من وقته يسع الفعل؛ لأنه حينئذ لم يبق لتحققه مساغ إلا بعد مباشرة الفعل أو معه وتقدم انتفاء تحققه فيهما. "ثم استبعد" هذا "عنهم" أي المعتزلة "لذلك الرفع منهم" أي قولهم في قصة إبراهيم عليه السلام جاز التأخير؛ لأنه موسع فإنه يفيد أن تعلق الوجوب بالمستقبل لا يكون مانعا من النسخ كما قررناه آنفا "وللتعارض" في الجملة بين قولهم لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل وقولهم تعلق الوجوب بالمستقبل مانع من نسخه "يجب نسبة ذاك" الذي ذكره المحققون عنهم إليهم لسلامته عن التعارض حملا لكلام العقلاء على عدم المناقضة ما أمكن وإنما قلت في الجملة؛ لأنه إنما يظهر التعارض بينهما في صورة ما إذا مضى زمن من وقت الفعل المقدر له شرعا يسع مباشرة الفعل، ولم يباشره فإن مقتضى تمكنه من الفعل يجوز النسخ ومقتضى كونه(25/136)
لم يفعل ووجوب الأداء باق عليه في باقي الوقت يمنع من النسخ ومعلوم أن ليس كل نسخ بعد مضي زمن من وقت الفعل المقدر له شرعا وقبل مباشرة الفعل هذا ما ظهر للعبد الضعيف غفر الله تعالى له في شرح هذه الزيادة أعني قوله وأيضا لو صح إلخ على ما كانت النسخة عليه أولا والله سبحانه أعلم.(25/137)
ص -68-…مسألة
"الحنفية والمعتزلة لا يجوز نسخ حكم فعل لا يقبل حسنه وقبحه السقوط كوجوب الإيمان وحرمة الكفر"؛ لأنه لا يحتمل الارتفاع والعدم بحال لقيام دليله وهو العقل على كل حال فلا يحتمل النسخ "والشافعية يجوز" والإجماع على عدم الوقوع "وهي" أي هذه المسألة "فرع التحسين والتقبيح" العقليين فلما قال به الحنفية والمعتزلة قالوا يمنع جواز نسخهما ولما لم يقل به الأشاعرة من الشافعية وغيرهم قالوا يجوز نسخهما عقلا وقد تقدم استيفاء الكلام فيهما في فصل الحاكم "ولا" يجوز نسخ حكم "نحو: الصوم عليكم واجب مستمر أبدا اتفاقا" فعند غير الحنفية "للنصوصية" على تأييد الحكم بذكره قيدا للحكم لا للفعل الذي هو الصوم "وعند الحنفية لذلك" التنصيص "على رأي" في النص وهو اللفظ المسوق للمراد الظاهر منه كما هو قول متقدميهم فإن أبدا كذلك هنا "وعلى" رأي "آخر" فيه وهو اللفظ المسوق لمراد ظاهر منه ليس بمدلول وضعي له كالتفرقة بين البيع والربا في الحل والحرمة في {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} كما هو قول متأخريهم يكون عدم جواز النسخ في هذا "للتأكيد" فإن الأبد الاستمرار الدائم وهو وإن كان مسوقا له هنا فهو مدلول وضعي له وإلى هذا الاختلاف أشار بقوله "على ما سلف من تحقيق الاصطلاح" في التقسيم الثاني من الفصل الثاني في الدلالة قلت ولقائل أن يقول لا يمنع كل من النصوصية والتأكيد جواز النسخ وكيف يمنع، والنص يحتمل التخصيص والتأويل فضلا عن النسخ فكيف لا يجوز نسخه والتأكيد وإن كان قد يمنع احتمالهما فلا يمنع احتمال النسخ أيضا. وإذا لم يمنع احتماله فلا يمنع وقوعه فضلا عن جوازه نعم قد يقال في وجه منع جواز نسخ هذا أن هذا الكلام يفيد الحكم دائما، والنسخ يفيد عدم دوامه فلا يلحقه دفعا للتناقض، ثم هو في حكاية الاتفاق موافق للبديع لكن في شرحه للشيخ سراج الدين الهندي في الأحكام ما يدل على أنه اختار جواز نسخه، وكذا ذكر الخلاف(25/138)
غيره فلا يكون متفقا عليه فلا جرم أن قال الأكثر على أنه لا يجوز نسخ هذا، وقال السبكي إذا قاله إنشاء يجوز نسخه خلافا لابن الحاجب.
"واختلف في" حكم "ذي مجرد تأبيد قيدا للحكم" ك يجب عليكم أبدا صوم رمضان فإن أبدا نص في ظرفيته للوجوب لا للصوم بناء على أن المصدر لا يعمل فيما تقدم عليه "لا الفعل كصوموا أبدا" فإن أبدا ظرف للصوم المنسوب إلى المخاطبين لا لإيجاب الصوم عليهم؛ لأن الفعل إنما يعمل بمادته لا بهيئته ودلالة الأمر على الوجوب بالهيئة لا بالمادة كما ذكرنا هذا سالفا، ثم هذا يشير إلى أن هذا إما أنه متفق على جواز نسخه، وإما أنه متفق على عدم جواز نسخه وليس كذلك فقد ذكر ابن الحاجب وغيره جواز نسخه عن الجمهور "أو" في حكم ذي مجرد "تأقيت قبل مضيه كحرمته عاما" حال كون حرمته "إنشاء فالجمهور ومنهم طائفة من الحنفية" منهم صدر الإسلام "يجوز" نسخه. "وطائفة كالقاضي أبي زيد وأبي منصور وفخر الإسلام والسرخسي" وأبي بكر الجصاص "يمتنع" نسخه "للزوم الكذب" في الأول للتناقض "أو البداء" على الله تعالى في الثاني؛ لأنه إنشاء على تقدير النسخ "وهو" أي(25/139)
ص -69-…اللزوم المذكور هو "المانع" من النسخ "في المتفق" على عدم جواز نسخه من نحو مستمر أبدا فكذا يكون مانعا في هذا المختلف في جواز نسخه "قالوا" أي المجوزون للنسخ في الأول أبدا "ظاهر في عموم الأوقات" المستقبلة "فجاز تخصيصه" بوقت منها دون وقت كما هو حكم سائر الظواهر؛ لأن التخصيص في الأزمان كالتخصيص في الأعيان "قلنا نعم" يجوز تخصيصه "إذا اقترن" المخصوص "بدليله" أي التخصيص "فيحكم حينئذ" أي حين اقترانه بدليل التخصيص "بأنه" أي التأبيد في المختلف فيه "مبالغة" في إرادة الزمن الطويل مجازا إلا أن المراد حقيقته التي هي الاستمرار والدوام المفيد لاستغراق الأزمنة كلها "أما مع عدمه" أي دليل التخصيص "وهو" أي عدمه "الثابت" فيما نحن فيه "فذلك اللازم" أي فإرادة تخصيصه بالبعض يلزمه لزوم الكذب "وحاصله حينئذ" أن هذا الجواب "يرجع إلى اشتراط المقارنة في دليل التخصيص" للعام المخصوص "وتقدم" ذلك في بحث التخصيص "والحق أن لزوم الكذب" إنما هو "في الإخبار المفيد للتأبيد كماض" أي كقوله صلى الله عليه وسلم "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" وتقدم تخريجه في التقسيم المشار إليه آنفا؛ لأن المراد بتأبيد الحكم تأبيده ما دامت دار التكليف فإلى يوم القيامة تأبيد لا تأقيت قلت غير أن لقائل أن يقول: إذا كان منع النسخ في نحو هذا الأجل لزوم الكذب على تقدير النسخ فهو إنما جاء من حيث إنه خبر مع قطع النظر عن التأبيد فيستوي فيه المقيد بالتأبيد وعدمه "فلذا" أي لزوم الكذب في الخبر على تقدير نسخه. "اتفق عليه" أي على عدم جواز نسخه "الحنفية والخلاف" إنما هو "في غيره" أي غير الخبر المقيد بحكم شرعي فرعي غير مقيد بالتأبيد إذا كان "مما يتغير معناه ككفر زيد" وإيمانه أي كالإخبار عنه بأحدهما فإنه يجوز أن يتبدل بالآخر فالمختار عند ابن الحاجب وفاقا لأكثر المتقدمين أنه لا يجوز نسخه سواء كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا وعدا أو وعيدا قال الأصفهاني(25/140)
وهو الحق وفي شرح عضد الدين وعليه الشافعي وأبو هاشم وقال عبد الجبار وأبو الحسين وأبو عبد الله البصريان والإمام الرازي والآمدي يجوز مطلقا ونسبه ابن برهان إلى المعظم وآخرون منهم البيضاوي إن كان مستقبلا جاز لجريانه مجرى الأمر والنهي فيجوز أن يرفع وإلا فلا؛ لأنه يكون تكذيبا "بخلاف حدوث العالم" أي الإخبار بما لا يتبدل قطعا لعدم إمكان احتماله للتبديل فإن الإجماع على أنه لا يجوز نسخه كالإخبار بأن العالم حادث فإن اتصاف العالم بالحدوث لا يتبدل بضده وهو القدم قطعا هذا "ولازم تراخي المخصص من التعريض على الوقوع في غير المشروع" كما سلف بيانه في بحث التخصيص "غير لازم هنا" أي في جواز نسخ الإخبار لما يحتمل التغيير المقيد بالتأبيد "بل غايته" أي جواز نسخ هذا أنه يلزم "اعتقاد أنه" أي حكم الإخبار "لا يرفع" فيجب العمل بمقتضاه عملا باستصحاب الحال إذ الأصل في كل ثابت دوامه وما لم يظهر غيب لا يوقف عن العمل "وهو" اعتقاد أنه لا يرفع فيترتب عليه ذلك "غير ضائر" في العمل في الحال والاستقبال ولا في ترك العمل في الاستقبال إذا ظهر الرافع له لوجود المزيل حينئذ بالنسبة إلى الاستقبال "فالوجه الجواز" لنسخ الحكم الإنشائي المقيد بالتأبيد "كصم غدا ثم نسخ(25/141)
ص -70-…قبله" أي الغد "فإنه" أي جواز نسخه "اتفاق"؛ لأن في كل التزاما في زمن مستقبل، ثم نسخ قبل انقضاء ذلك الزمن ومن ثمة قال الشيخ سراج الدين الهندي، والفرق بين جواز نسخ صم غدا قبل مجيئه وبين عدم جواز نسخ صم أبدا عسر. "وما قيل" وقائله عضد الدين "لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد وعدم أبدية التكليف" بالفعل أي لا منافاة بين أن يكون الفعل الذي تعلق به الوجوب أبديا وبين أن لا يكون إيجابه كذلك؛ لأن إيجاب الدوام إنما يناقضه عدم إيجاب الدوام لا عدم دوام الإيجاب "بعد ما قرر" هذا القائل "في النزاع من أنه" أي النزاع "على جعله" أي التأبيد "قيدا للحكم معناه بالنسخ يظهر خلافه" أي أن التأبيد ليس قيدا للحكم "والوجه حينئذ" أي حين يكون المراد هذا "أن لا يجعل" ما التأبيد فيه قيدا للحكم "النزاع على ذلك التقدير" الذي ذكرنا أنه المراد "بل هو" أي النزاع "ما" أي التأبيد الذي "هو ظاهر في تقييد الحكم" لا الذي هو نص فيه "وإلا" لو لم يكن النزاع فيما هو ظاهر فيه بل فيما هو نص فيه "فالجواب" بأنه لا منافاة بين إيجاب فعل إلخ "على خلاف المفروض" وهو أن النزاع في الحكم المقيد بالتأبيد "وحينئذ فقد لا يختلف في الجواز" لنسخه بل وبعضهم على أنه كما يجوز نسخ مثل صوموا أبدا يجوز نسخ واجب مستمرا أبدا كما قدمناه آنفا غير أن عضد الدين القائل: لا منافاة بين إيجاب فعل إلخ لم يجعل النزاع في الحكم المقيد بالتأبيد بل في الفعل المقيد بالتأبيد فإنه قال الحكم المقيد بالتأبيد إن كان التأبيد قيدا في الفعل مثل صوموا أبدا فالجمهور على جواز نسخه وإن كان التأبيد قيدا للوجوب وبيانا لمدة بقاء الوجوب والاستمرار فإن كان نصا مثل الصوم واجب مستمر أبدا لم يقبل خلافه وإلا قبل وحمل ذلك على المجاز انتهى. نعم أورد عليه كيف يصح تقسيم الحكم المقيد بالتأبيد إلى كونه قيدا للفعل وقيدا للوجوب وأجيب بأن المراد بالحكم الإيجاب وهو غير الوجوب وإلى(25/142)
هذا أشار التفتازاني حيث قال: أي المشتمل ذكره على ما يفيد تأبيد الواجب أو الوجوب هذا وفي كشف البزدوي ولا طائل في هذا الخلاف إذ لم يوجد في الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعيته بعد ذلك في زمان الوحي ولا يتصور وجوده بعده فلا يكون فيه كبير فائدة والله سبحانه أعلم.
مسألة
قال "الجمهور لا يجري" النسخ "في الأخبار" سواء كانت ماضية أو مستقبلة "لأنه" أي النسخ فيها هو "الكذب" والشارع منزه عنه والحق أن النسخ لا يجري في واجبات العقول بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز "وقيل نعم" يجري فيها مطلقا أي ماضية ومستقبلة وعدا ووعيدا وعليه الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلولها مما لا يتغير وعزاه في كشف البزدوي إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما كما لو قال: عمرت زيدا ألف سنة، ثم بين أنه أراد تسعمائة أو لأعذبن الزاني أبدا، ثم قال أردت ألف سنة؛ لأن الناسخ بين أن المراد بعض المدلول بخلاف ما إذا لم يكن متكررا نحو أهلك الله(25/143)
ص -71-…زيدا، ثم قال ما أهلكه؛ لأن ذلك يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن إعدامه وبقائه جميعا كان تناقضا ومنهم كالبيضاوي من منعه في الماضي وجوزه في المستقبل لقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] وقد قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وكأنه نظر إلى أن الصلة مضارع فيتعلق المحور بما يقدره الله والإخبار يتبعه وأيضا الوجود المحقق في الماضي لا يمكن رفعه بخلاف المستقبل؛ لأنه يمكن منعه من الثبوت قيل؛ ولأن الكذب لا يتعلق بالمستقبل بل هو مختص بالماضي قال السبكي وهو المفهوم عن الشافعي ومن أجله قال لا يجب الوفاء بالوعد ويسمى من لا يفي بالوعد مخلفا لا كاذبا كما صرح به أبو القاسم الزجاجي ولذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق "إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف" كما في صحيح البخاري وغيره. ولو كان الإخلاف كذبا دخل تحت "وإذا حدث كذب" والأوجه كما ذهب إليه السبكي والكرماني وغيرهما أن الخبر المتعلق بالاستقبال ك سيخرج الدجال يصح فيه التصديق والتكذيب، والوعد إنشاء لا خبر والإخلاف أيضا كذب وللاهتمام به خصصه بالذكر، وتخصيصه باسم آخر لا ينافيه مع اتحاد المسمى، ثم تقول إذا لم يدخله الكذب لا يكون خبرا فلا يكون داخلا في المسألة الملقبة بنسخ الأخبار، ثم منهم كابن السمعاني من لم يجوزه في الوعد؛ لأن الخلف في الإنعام على الله مستحيل وجوزه في الوعيد؛ لأنه لا يعد خلفا بل عفوا وكرما وعبارة الخطابي: النسخ يجري فيما أخبر الله تعالى أنه يفعله؛ لأنه يجوز تعليقه على شرط بخلاف إخباره بما لا يفعله إذ لا يجوز دخول الشرط فيه وعلى هذا تأول ابن عمر النسخ في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فإنه نسخها بعد ذلك برفع حديث النفس وجرى ذلك مجرى التخفيف والعفو عن(25/144)
عباده وهو كرم وفضل وليس بخلف وذكر صاحب الميزان أن الخبر إن كان في الأحكام الشرعية فهو والأمر والنهي سواء فإذا أخبر الله أو رسوله بالحل مطلقا، ثم أخبر بعده بالحرمة بنسخ الأول بالثاني وإن أخبر عنهما مؤبدا لا ينسخ وإن كان في غير الأحكام كإخباره أنه يدخل الأنبياء والمؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار فعند عامة أهل الأصول لا يحتمل النسخ؛ لأنه يؤدي إلى الخلف في الخبر. وقال بعضهم: يجوز في الوعيد؛ لأنه كرم لا في الوعد؛ لأنه لزم، وكذا إذا أخبر الله أو رسوله بأنه يولد لفلان ولد يوم كذا فإنه لا يحتمل أن لا يكون إذ خلافه كذب فلا يجوز في وصف الله والنبي معصوم عنه وقال الشيخ أبو بكر الرازي الخبر الوارد عن الله وعن رسوله ينتظم معنيين أحدهما العبادة باعتقاد مخبره على ما أخبر به فهذا لا يجوز نسخه ولا التعبد فيه بغير الاعتقاد الأول والمعنى الآخر حفظه وتلاوته وهذا مما يجوز نسخه وإن أمرنا بالإعراض عنه وترك تلاوته حتى يندرس على مرور الأزمان فينسى كما نسخ تلاوة سائر كتبه القديمة، ثم قد عرف من هذه الجملة أن ليس محل الخلاف إذا لم يكن معناه الأمر أما إذا كان كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] جاز بلا خلاف كما ذكر ابن برهان بل الخلاف يجري فيه أيضا كما صرح به في المحصول وغيره، وجواز نسخه معزو إلى الأكثرين خلافا(25/145)
ص -72-…للدقاق ولا وجه ظاهر له قيل: إلا أن يقال لكونه على صورة الخبر وهو ساقط هذا وقال القاضي في التقريب الخلاف في المسألة مبني على أن النسخ رفع أو بيان فإن قلنا رفع لم يجز نسخ الخبر قطعا؛ لأنه إن كان الناسخ الرافع لبعض مدلوله كاذبا ضرورة أنه صادق وإلا فهو كاذب وإن قلنا بيان المراد اتجه أن يقال: الخطاب وإن دل على ثبوت الأزمنة كلها ظاهرا لكنه غير مراد من اللفظ فلم يفض نسخ الخبر حينئذ إلى الكذب وهو محل تأمل.(25/146)
"وعلى قولهم" أي المجوزين لنسخ الأخبار "يجب إسقاط شرعي من التعريف" ليشمل نسخ الأخبار عن حكم شرعي وغيره، وإلا لم يكن جامعا لكن غير خاف أن قول المجوزين لنسخ الخبر أن لفظ شرعي الذي يجب إسقاطه هو وصف المنسوخ لا الناسخ وشرعي المذكور في التعريف السابق وصف الناسخ وقد كان هذا من المصنف رحمه الله بناء على كون صدر تعريفه رفع تعلق حكم شرعي إلخ، ثم تحرر عنده ما تقدم، ولم يقع التنبه لهذا فتنبه له. "والجواب" لما نفى نسخه عن الآيتين أن معنى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} "ينسخ بما يستصوبه" والوجه حذف الباء كما قال في الكشاف وغيره ينسخ بما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يقتضي حكمته إثباته أو يتركه غير منسوخ "أو" يمحو "من ديوان الحفظة" ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره "وغيره" من الأقوال كيمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها ويمحو قرنا ويثبت آخرين إلى غير ذلك وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] من القيد والإطلاق لا النسخ" كذا في الميزان "وأما نسخ إيجاب الأخبار" عن شيء "بالأخبار" أي بإيجاب الأخبار "عن نقيضه فمنعه المعتزلة لاستلزامه" أي النسخ الشيء "القبيح كذب أحدهما" أي الناسخ والمنسوخ "بناء على حكم العقل" بالتحسين والتقبيح "ويجب للحنفية مثله" أي منع ذلك أيضا لقولهم باعتبار حكم العقل بذلك كما تقدم "إلا إن تغير الأول" عن ذلك الوصف الذي وقع الإخبار به أولا "إليه" أي الوصف الذي كلف الإخبار عنه ثانيا لانتفاء المانع حينئذ "وكذا المعتزلة" ينبغي أن يكون قولهم على هذا التفصيل فلا جرم أن قال السبكي: فإن كان مما يتغير كما إذا قال كلفتكم بأن تخبروا بقيام زيد، ثم يقول كلفتم بأن تخبروا بأن زيدا ليس بقائم فلا خلاف في جوازه لاحتمال كونه قائما وقت الإخبار بقيامه غير قائم وقت الإخبار بعدم قيامه وإن كان مما لا يتغير ككون السماء فوق الأرض مثلا فهو(25/147)
محل الخلاف ومذهبنا الجواز انتهى. وذكر ابن الحاجب أنه مطلقا المختار وعلل بأنه إن اتبع المصلحة فيتغير بتغيرها وإلا فله الحكم كيف شاء ولا يخفى ما فيه، ثم بالجملة قد كان مقتضى التحرير تلخيص هذه والتي قبلها في مسألة واحدة هي محل النسخ كذا وفاقا وخلافا والمتلخص من ذلك أن محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم، ثم عند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد، ولا بتأقيت قبل مضيه خلافا لآخرين واختصاره ما حسنه أو قبحه محتمل للسقوط غير مؤد نسخه إلى جهل ولا كذب وهذا القيد الأخير متفق عليه وإنما وقع النزاع في لحوق النسخ لبعض للنزاع في أن لحوقه مؤد إلى ذلك فليتأمل والله سبحانه أعلم.(25/148)
ص -73-…مسألة
"قيل" وقائله بعض المعتزلة والظاهرية "لا ينسخ" الحكم "بلا بدل" عنه وعليه أن يقال "فإن أريد" بالبدل بدل "ولو" كان "بإباحة أصلية" أي بثبوتها لذلك الفعل إذا لم يستمر تعلق المنسوخ به "فاتفاق" كونه لا يجوز بلا بدل بهذا المعنى؛ لأن البارئ تعالى لم يترك عباده هملا في وقت من الأوقات، وقول الشافعي رحمه الله في الرسالة وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة انتهى - أراد به كما نبه عليه الصيرفي في شرحها أنه ينقل من حظر إلى إباحة أو من إباحة إلى حظر أو تخيير على حسب أحوال الفروض. قال ومثل ذلك المناجاة كان يناجي النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم إلى ما كانوا عليه فإن شاءوا تقربوا بالصدقة إلى الله وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة. قال فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فرض فتفهمه انتهى. "أو" أريد بالبدل بدل "مفاد بدليل النسخ" في المنسوخ "فالحق نفيه" أي نفي هذا المراد "لأنه" أي القول به قول "بلا موجب والواقع خلافه كنسخ حرمة المباشرة" للنساء "بعد الفطر" وهذا موافق لما في تفسير الزجاج أي حكم المنسوخ في هذا حرمة المباشرة والمذكور للآمدي وابن الحاجب ووجوب الإمساك بعد الفطر قال الأبهري أي الإفطار؛ لأنه اسمه والإمساك بظاهر إطلاقه يتناول الإمساك عن المباشرة والأكل والشرب.(25/149)
قلت والأولى أن يقال كنسخ حرمة المفطرات الثلاثة بالنوم بعد دخول الليل أو بصلاة العشاء إذ في صحيح البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فأتى امرأته فقال هل عندك من طعام قالت لا ولكن أنطلق أطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فنام فجاءت امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وفي سنن أبي داود وغيرها عن ابن عباس وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة فاختان رجل نفسه فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر فأراد الله تعالى أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة فقال سبحانه {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] نعم المشهور في رواية غير البراء. والمتفق عليه في روايات البراء أن ذلك كان مقيدا بالنوم ويترجح بقوة سنده وبما أخرجه ابن مردويه بسند رجاله موثقون عن ابن عباس قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصيام ما نزل يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولم يأت أهله حتى يفطر من القابلة وإن(25/150)
ص -74-…عمر رضي الله عنه بعد ما نام ووجب عليه الصيام وقع على أهله ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشكو إلى الله وإليك الذي أصبت قال وما الذي صنعت قال إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأردت الصيام فنزلت {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قوله فالآن {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] وبما أخرج الطبري من طريق السدي كتب على النصارى الصيام وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم وكتب على المسلمين أولا مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار فذكر القصة ومن طريق إبراهيم التيمي كان المسلمون أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة ويؤيده ما أخرج مسلم مرفوعا "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" ثم كما قال المصنف رحمه الله؛ لأن الإباحة وإن ثبتت عند نسخ الحرمة لكن لم يفدها نفس الناسخ أعني قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فإن قيل بل أفاد هذا الناسخ الإباحة الشرعية وهي الحل فلا يصلح جعله مما لم يفد فيه الناسخ بدلا. قلنا الحل ليس حكما شرعيا بل بعض حكم شرعي؛ لأنه إما بعض الإباحة أو بعض الوجوب أو الندب فلا يستقل حكما بل هو جنس للأحكام الثلاثة وأما قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فدليل آخر أفاد البدل فهو من قبيل القسم الثالث الذي يذكر بعد هذا القسم "وليس منه" أي من الناسخ لحكم ببدل مفاده بغير الناسخ "ناسخ ادخار لحوم الأضاحي" فوق ثلاث؛ لأنه مقرون بالبدل حيث قال صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم " رواه مسلم فهذه إباحة شرعية هي بدل مقرون بدليل النسخ وفي هذا تعريض ب ابن الحاجب في تمثيله لوقوع النسخ(25/151)
بلا بدل بهذا "وجاز أن لا يتعرض الدليل" الناسخ "لغير الرفع" لتعلق الحكم المنسوخ "أو" أريد بالبدل بدل هو حكم آخر يتعلق بذلك الفعل "بلا ثبوت حكم شرعي" لذلك الفعل "وإن لم يكن" ذلك الحكم "به" أي ثابتا بدليل النسخ "فكذلك" أي الحق نفيه "لذلك" أي لأنه بلا موجب له "وتكون" الصفة "الثابتة" للفعل "الإباحة الأصلية" بناء على أنها ليست بحكم شرعي وإلا فقد عرف ما عليه غير واحد من الحنفية من أنها حكم شرعي "لكن ليس منه" أي من الناسخ بلا ثبوت حكم شرعي "نسخ تقديم الصدقة" عند إرادة مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لثبوت الحكم الشرعي" وهو ندبية الصدقة "بالعام النادب للصدقة" كتابا وسنة "بثبوت إباحة المباشرة بباشروهن" وفي هذا تعريض بعضد الدين في تمثيله لوقوع النسخ بلا بدل بهذا "قالوا" أي مانعو النسخ بلا بدل قال الله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ولا يتصور كون المأتي به خيرا من المنسوخ أو مثله إلا إذا كان بدلا منه على ما يشعر به تعريف المثلين وهو الشيئان اللذان يسد أحدهما مسد الآخر "أجيب بالخيرية لفظا على إرادة نسخ التلاوة لأنه" أي كون المراد الخيرية لفظا هو "الظاهر"؛ لأن الآية في الحقيقة اسم للنظم الخاص ومدلول اللفظ قد يكون لفظا ومدلول الآية من هذا؛ لأنه كلمة أو أكثر منقطع معنى مما قبله ومما بعده فيكون المعنى(25/152)
ص -75-…إن ننسخ لفظا مستعملا منقطعا مما قبله وما بعده نأت بلفظ آخر خير منه أو مثله؛ لأن مثل هذا اللفظ يكون لفظا وكذا الخير، وليس النزاع في أن اللفظ إذا نسخ جاز أن لا يكون بدله لفظ آخر أو لم يجز بل في أن الحكم إذا نسخ جاز أن لا يكون بدله حكم آخر أو لا وهذا لا دلالة للآية عليه "وأما ادعاء أن منه" أي من الإتيان بخير من المنسوخ حكما "على التنزل" إليه "ترك البدل" فيقال سلمنا أن المراد نأت بحكم خير منها لكنه عام يقبل التخصيص فلعله خصص بما نسخ لا إلى بدل جمعا بين الدليل الدال على جوازه وبين الآية كما ذكر ابن الحاجب وغيره "فليس" بذاك "إذ ليس" ترك البدل "حكما شرعيا وصرح أن الخلاف فيه" أي في الحكم الشرعي ومن العجب أن من المصرحين به الأبهري ثم قرر التنزل إلى هذا ولم يتعقبه "وتجويز التخصيص لا يوجب وقوعه" أي التخصيص قال المصنف يعني إن جاز تخصيص الإتيان بالخير بما إذا أبدل لا مطلقا لكن إنما يفيد وقوع التخصيص بدليله لا جوازه "والتنزل" كما ذكره ابن الحاجب وغيره "إلى أنها" أي الآية "لا تفيد نفي الوقوع" للنسخ بلا بدل شرعا؛ لأن عدم الجواز عقلا "والخلاف" إنما هو "في الجواز تسليم لهم" أي للنافين نفيهم الجواز سمعا "لأن الظاهر إرادتهم" أي النافين "نفيه" أي الوقوع "سمعا لا عقلا باستدلالهم" قال المصنف يعني أن قولهم لا يجوز النسخ بلا بدل ليس معناه نفي الجواز العقلي فيكون محالا عقليا وإذا لم يحيلوه عقلا كان جائزا عندهم في العقل فإذا قيل لا يجوز والفرض جوازه عقلا لا بد أن يكون معناه أنه لا يقع بدليل السمع الدال على عدم وقوعه على قوله نأت بخير منها فصار حاصل المعنى لا يجوز أن يقال يقع النسخ بلا بدل للسمعي الدال على أنه لا يقع والنظر إلى استدلالهم على نفي الجواز بنحو نأت بخير منها يفيد ما قلنا ونسبناه إليهم.
مسألة(25/153)
يجوز اتفاقا نسخ التكليف بتكليف أخف كنسخ تحريم الأكل والشرب والمباشرة بعد صلاة العشاء أو النوم من ليالي رمضان بإباحة ذلك وبتكليف مساو كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة وهل يجوز بتكليف أثقل قال "الجمهور يجوز بأثقل ونفاه" أي جوازه بأثقل "شذوذ" بعضهم عقلا وبعضهم سمعا وبه قال أبو بكر بن داود "لنا أن اعتبرت المصالح وجوبا أو تفضلا" في التكليف "فلعلها" أي المصلحة للمكلف "فيه" أي في النسخ بأثقل كما ينقله من الصحة إلى السقم ومن الشباب إلى الهرم "وإلا" إن لم يعتبر فيه "فأظهر" أي فالجواز أظهر؛ لأن له تعالى أن يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد "ويلزم" من عدم جواز الأثقل لكونه أثقل "نفي ابتداء التكليف" فإنه نقل من سعة الإباحة إلى مشقة التكليف؛ لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا الواجب استضروا بالعقوبة عليه لكن لا قائل بعدم جواز ابتداء التكليف قال القاضي ولا جواب لهم عن ذلك وتعقبه الكرماني بأن لقائل أن يقول ما خرج بالإجماع عن القاعدة لا يرد نقضا. "ووقع" النسخ بأثقل "بتعيين الصوم" أي صوم رمضان للمكلف القادر عليه غير مسافر "بعد التخيير" للمكلف القادر عليه مطلقا "بينه" أي الصوم "وبين الفدية" عن كل صوم يوم بإطعام مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير عند أصحابنا ومد(25/154)
ص -76-…طعام برا كان أو غيره من أقوات البلد عند الشافعية ومد بر أو مدي تمر أو شعير عند أحمد فإن وجوب الصوم على التعيين أشق من التخيير وهذا بناء على ما في الصحيحين وغيرهما عن سلمة بن الأكوع لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وما في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصيام ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فأمروا بالصيام لكن يعارضهما ما في صحيح البخاري أيضا عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولبعض الرواة يطوقونه. قال ابن عباس ليست منسوخة وهي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. قال شيخنا الحافظ والأولى الجمع وإنها كانت في حق الجميع ثم خصت بالعاجز انتهى.(25/155)
قلت وغير خاف أن هذا ليس من الجمع بشيء فإن منطوق اللفظ لا يساعد على ذلك للتباين بين مفهومي من يطيق ومن لا يطيق فلا يشمل أحدهما الآخر، بل أكثر ما يمكن أن يقال هاهنا على ما فيه أن الآية كانت مفيدة هذه الرخصة للمطيقين منطوقا ولغيرهم مفهوما ثم نسخت بالنسبة إلى المنطوق دون المفهوم وهذا قول في هذه المسألة وستقف على ما فيها وإنما قلت على ما فيه إذ لا يلزم من شرعية هذه الرخصة للمطيقين شرعيتها لغيرهم لا بطريق أولى ولا بطريق المساواة إذ من الظاهر أن ليس يلزم من تخيير المطيقين للصوم بينه وبين الفدية تخيير العاجزين عن الصوم بينه وبين الفدية ولا تعين لزوم الفدية لهم ضرورة انتفاء طاقتهم له إذ من الجائز أن لا تجب عليهم الفدية أيضا بناء على أن وجوبها على سبيل التخيير بينها وبين الصوم على المطيقين إنما كان لوجود قدرتهم على الصوم وحيث انتفت في العاجزين انتفى وجوب الفدية عليهم أيضا. ومشى شيخنا المصنف في فتح القدير على تقديم ما عن ابن عباس؛ لأنه مما لا يقال بالرأي بل من سماع؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن؛ لأنه مثبت في نظم كتاب الله فجعله منفيا بتقدير حرف النفي لا يقدم عليه إلا لسماع ألبتة وكثيرا ما يضمر حرف لا في اللغة العربية في التنزيل الكريم {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أي لا تفتؤ، وفيه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. أي لا تضلوا، {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. وقال شاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا …ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح وقال:
تنفك تسمع ما حييـ…ـت بهالك حتى تكونه
أي لا تنفك ورواية الأفقه أولى ولأن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ليس نصا في نسخ إجازة الافتداء الذي هو ظاهر اللفظ انتهى.
"قلت" وللبحث في هذا مجال أيضا فإن في الآية القراءة المشهورة وخمس قراءات عن(25/156)
ص -77-…ابن عباس كما في الكشاف وغيره القراءتان السالفتان ويتطوقونه ويطوقونه ويطيقونه، وللكل معنيان: أحدهما يقدرون عليه لا مع جهد وعسر وعبارة نجم الدين النسفي أي يقدرون على الصوم بأن لا يكونوا مرضى أو مسافرين. ثانيهما: في المجهول يكلفونه على جهد منهم ومشقة، وفي المعلوم يتكلفونه على هذا الوجه أيضا أخذا من الكلفة بمعنى المشقة وبلوغ الجهد والطاقة، فالآية على المعنى الأول منسوخة الحكم قطعا من غير احتياج إلى تقدير لا مع أنه لم ينقل تقديرها عن ابن عباس نعم ذكر النسفي في قراءة حفصة رضي الله عنها وعلى الذين لا يطيقونه فيحمل على هذا المعنى القول بالنسخ وعلى الثاني ثابتة الحكم عند الجمهور خلافا لجماعة منهم مالك رحمه الله، وعليه يحمل القول بنفي النسخ على أنه لو كان محل توارد قولي النسخ ونفيه القراءة المشهورة مع تقدير لا على قول ابن عباس لكان قول النسخ مقدما على قول نفيه؛ لأن قول النسخ مثبت وقول نافيه ناف؛ لأن الأصل عدم النسخ فيجوز أن يكون مستندا فيه وحمله على ذلك على تقدير لا لاحتياج ثبوت استمرار الحكم إليها مع كثرة إضمارها بخلاف النسخ فإنه خلاف الأصل فلا يكون إلا عن سماع وخصوصا في السياقين المذكورين لابن الأكوع وابن أبي ليلى فإن الظاهر منهما أن ذلك كان بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير منه لهم عليه قطعا. ومن هذا يظهر أن قوله {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] كان نصا عندهم في إفادة النسخ بقرائن اختفت إن لم يكن بنفسه على أنه قد قيل في " خير " ليس هذا للتفضيل بل معناه وفي الصوم خيرات لكم ومنافع دينا ودنيا مع أن كونه ناسخا للافتداء لا يتوقف على كونه نصا في تعيين الصوم بل الظهور فيه كاف والمثبت مقدم على النافي، وكون قول ابن عباس أولى لكونه أفقه بعد تسليم أن يكون له حكم الرفع فإنما يتم في مقابلة ابن الأكوع لا في مقابلة ابن عمر إذ في صحيح البخاري عنه فدية طعام مسكين هي(25/157)
منسوخة ولا في مقابلة من لقيهم ابن أبي ليلى من الصحابة كما يفيده قوله السابق على أن في أحكام القرآن للشيخ أبي بكر الرازي وعن عبد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا حتى نزل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والله تعالى أعلم.
قال المصنف هذا "والوجه" على ما تقدم للحنفية "أنه" أي الوجوب الذي هو الحكم الأول "ليس بنسخ" أي بمنسوخ "أصلا على وزان ما تقدم في فداء إسماعيل عليه السلام" فإن الوجوب هنا لم يرتفع كما لم يرتفع ثمة. لكن الذي يظهر للعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - أن يقول على ضد وزان ما تقدم في فداء الذبيح؛ لأن الوجوب هنا صار بحيث لا يسقط عنه ببدل متعلقه مع قدرته على متعلقه بعد أن كان بحيث يسقط بكل منهما مع قدرته عليهما وثمة صار الوجوب يسقط عنه ببدل متعلقه قطعا بحيث لا يجوز له العدول إلى متعلقه وإن كان قادرا عليه، ثم هو لا يعرى عن تأمل. نعم عدم نسخ وجوب الصوم على العاجز من شيخ وشيخة بالفدية ظاهر كما ذكرنا ثمة والله سبحانه أعلم.(25/158)
ص -78-…"ورجم الزواني" إن كن محصنات "وجلدهن" إن كن غير محصنات "بعد الحبس في البيوت" فقد أخرج الطبري وأبو عبيد عن ابن عباس في هذه الآية {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله {سَبِيلاً} قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت إلى أن نزلت {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قال فإن كانا محصنين رجما بالسنة فهو سبيلهن الذي جعل الله ولا يضر ما فيه لتضافر الروايات الصحيحة بهذا المعنى وانعقاد الإجماع عليه والرجم أثقل من الحبس "قالوا" أي الشاذون قال الله تعالى "{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] والأثقل إلى الأثقل ليس تخفيفا فلا يريده تعالى "أجيب بأن سياقها" أي الآية يدل على إرادة التخفيف "في المآل" أي المعاد "وفيه" أي المآل "يكون" التخفيف "بالأثقل في الحال، ولو سلم" العموم في الحال والمآل "كان" العموم "مخصوصا بالوقوع" كما ذكرنا آنفا كما هو مخصوص بخروج أنواع التكاليف الثقيلة المبتدأة وأنواع الابتلاء في الأبدان والأموال مما هو واقع باتفاق ولا يعد ولا يحصى. "وهو" أي هذا الاستدلال من الشاذين "بناء على ما نفيناه" أي على وزان ما قال في المسألة السابقة من أن الظاهر أن الخلاف فيها ليس في الجواز العقلي وإنما هو فيها في الجواز الشرعي؛ لأن المخالفين لم يحيلوه عقلا حيث لم يذكروا ما يفيده كذلك بل ذكروا ما يفيده بحسب اعتقادهم فكذا هنا وحينئذ يحتاج المخالف عقلا إلى ذكر مستند له يفيد دعواه ولو ظاهرا وهو بعيد فليتنبه له. "قالوا" أي الشاذون ثانيا قال الله تعالى "{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] الآية" فيجب الأخف لأنه الخير، أو المساوي لأنه المثل، والأشق ليس بخير ولا مثل "أجيب بخيرية الأثقل عاقبة" أي بأن الأثقل خير باعتبار الثواب إذ(25/159)
لعله فيه أكثر قال تعالى: {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ} [التوبة: 120] الآية وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة واخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتنا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك. أخرجه البخاري وكما يقول الطبيب للمريض الجوع خير لك "أو ما تقدم" من أن المراد الخيرية لفظا.
مسألة
"يجوز نسخ القرآن به" أي القرآن "كآية عدة الحول بآية الأشهر" كما تقدم بيانه في بحث التخصيص "والمسالمة" كنسخ آيات المسالمة للكفار التي هي أكثر من مائة آية كقوله {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] "بالقتال" أي بآياته كقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] "والخبر المتواتر بمثله" أي بالخبر المتواتر "و" خبر "الآحاد بمثله" كقوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي أن تمسكوا فوق ثلاثة أيام فأمسكوا ما بدا لكم" إلخ" ولم أقف على هذا السياق مخرجا وأسلفت بعض سياق مسلم وتمامه "ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية ولا تشربوا مسكرا ولعل هذا هو المراد بقوله إلخ والمقصود حاصل بكل منهما "فبالمتواتر" أي فجواز نسخ الآحاد بالمتواتر "أولى" من جواز النسخ بالآحاد؛ لأنه أقوى "وأما قلبه" وهو نسخ المتواتر بالآحاد "فمنعه الجمهور كل مانعي تخصيص المتواتر بالآحاد وأكثر مجيزيه" أي تخصيص المتواتر بالآحاد(25/160)
ص -79-…"فارقين بأن التخصيص جمع لهما" أي للمتواتر والآحاد. "والنسخ إبطال أحدهما" الذي هو المتواتر بالآحاد "وأجازه" أي نسخ المتواتر بالآحاد "بعضهم" أي بعض المجيزين لتخصيص المتواتر بالآحاد "لنا" خبر الآحاد "لا يقاومه" أي المتواتر؛ لأنه قطعي وخبر الآحاد ظني "فلا يبطله" خبر الآحاد المتواتر؛ لأن الشيء لا يبطل ما هو أقوى منه "قالوا" أي المجيزون "وقع" نسخ المتواتر بخبر الآحاد "إذ ثبت التوجه" لأهل مسجد قباء "إلى البيت بعد القطعي" المفيد لتوجههم إلى بيت المقدس ما يزيد على عام على خلاف في مقداره "الآتي لأهل" مسجد "قباء" كما في الصحيحين وتقدم سياقه، وقول ابن طاهر وغيره أنه عباد بن بشر وما لشيخنا الحافظ من التعقب له في فصل شرائط الراوي "ولم ينكره صلى الله عليه وسلم"؛ لأنه لو أنكره لنقل ولم ينقل ويشهد له ما أخرج الطبراني عن تويلة بنت مسلم قالت صلينا الظهر والعصر في مسجد بني حارثة واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاءنا من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحولنا النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بنى حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولئك رجال آمنوا بالغيب "وبأنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كان يبعث الآحاد للتبليغ" للأحكام مطلقا أي مبتدأة كانت أو ناسخة لا يفرق بينهما والمبعوث إليهم متعبدون بتلك الأحكام وربما كان في الأحكام ما ينسخ متواترا؛ لأنهم لم ينقلوا الفرق بين ما نسخ متواترا وهذا دليل جواز نسخ المتواتر بالآحاد "{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية" نسخ منها ما يفيد حله من ذي الناب "بتحريم كل ذي ناب" من السباع الثابت بخبر الواحد كما في صحيح مسلم وغيره مرفوعا "كل ذي ناب من السباع حرام" إذ الآية إنما تفيد تحريم ما استثني فيها وذو الناب لم يستثن فيها فكان مباحا(25/161)
وحيث حرم فإنما حرم بالحديث وإذا جاز نسخ القرآن بخبر الواحد فبالخبر المتواتر أجدر "أجيب بجواز اقتران خبر الواحد بما يفيد القطع" والأول كذلك؛ لأن وجود القرائن فيه ظاهر والمصير إليه لوجود المعارض القطعي واجب "وجعله" أي المقترن بهذا الخبر المفيد لقطعه "النداء" أي نداء مخبرهم بذلك "بحضرته" صلى الله عليه وسلم على رءوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة كما ذكر عضد الدين "غلط أو تساهل" بأن يراد بحضرته وجوده في مكان قريب بحيث لا يخفى عليه ما صنع المخبر كالواقع بحضوره "وهو" أي التساهل "الثابت" لبعد لمن يراد نداؤه في مجلسه "والثاني" وهو بعثه الآحاد لتبليغ الأحكام إنما يتم "إذا ثبت إرسالهم" أي الآحاد "بنسخ" حكم "قطعي عند المرسل إليهم وليس" ذلك بثابت ومن ادعاه فعليه البيان على أنه قد أجيب على تقدير التسليم له بأن حصول العلم بتلك الآحاد بقرائن الحال ويجب الحمل عليه جمعا بينه وبين الدليل المانع "ولا أجد الآن تحريما" أي ومعنى الآية هذا؛ لأن أجد فعل مضارع للحال فتكون إباحة غير المستثنى مؤقتة بوقت الإخبار بها وهو الآن لا مؤبدة "فالثابت" فيما عداه فيها عدم تحريم الشارع بمعنى أنه لم يثبت فيه خطاب الحظر والإطلاق كما هو المراد بقوله "إباحة أصلية ورفعها" أي الإباحة الأصلية في المستقبل بالتحريم "ليس نسخا"؛ لأنه ليس رفعا لحكم شرعي والنسخ رفع لحكم شرعي لا أن الثابت(25/162)
ص -80-…إذن شرعي في الفعل والترك حتى يكون حكما شرعيا فيكون رفعه نسخا.
قلت إلا أن على هذا أن يقال هذا لا يتم على القائلين من الحنفية بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ كما تقدم غير مرة فهم محتاجون إلى جواب غير هذا ولعله أن يقال وحيث كانت هذه الإباحة مؤقتة بوقت الإخبار بها فالتحريم المذكور ليس نسخا؛ لأن انتهاء الشيء لانتهاء وقته لا يكون نسخا والله تعالى أعلم.
مسألة
"يجوز نسخ السنة بالقرآن" عند جمهور الفقهاء والمتكلمين ومحققي الشافعية "وأصح قولي الشافعي المنع" وفي القواطع وأما نسخ السنة بالقرآن فذكر الشافعي في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولعله صرح بذلك ولوح في موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابنا على قولين: أحدهما أنه لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه، والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق انتهى. فإنه قال لا ينسخ كتاب الله إلا كتاب الله كما كان المبتدئ بفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل جلاله ولا يكون ذلك لأحد من خلقه وقال وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين أن له سنة ناسخة للتي قبلها بما يخالفها انتهى. ثم اختلف أصحابه في ذلك فقيل المراد نفي الجواز العقلي ونسبه السبكي إلى الحارث المحاسبي وعبد الله بن سعيد والقلانسي وهم من كبار أهل السنة ويروى عن أحمد أيضا وقيل نفي الجواز الشرعي وهو قول أبي حامد وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي الطيب الصعلوكي وأبي منصور وقيل لم يمنع العقل والسمع منه ولكنه لم يقع وهو قول ابن سريج قال السبكي ونص الشافعي لا يدل على أكثر منه ثم قال السبكي مراد الشافعي أنه حيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها يبين توافق الكتاب والسنة أو نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة(25/163)
عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة واستشهد لهذا بقوله فإن قال هل تنسخ السنة بالقرآن قيل له لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين بأن سنته منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله ا هـ إلى غير ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. "لنا لا مانع" عقلي ولا شرعي من ذلك "ووقع" أيضا والوقوع دليل الجواز "فإن التوجه إلى القدس" أي بيت المقدس "ليس في القرآن ونسخ" التوجه إليه "به" أي بالقرآن وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] "وكذا حرمة المباشرة" بل المفطرات الثلاثة بالنوم في ليالي رمضان بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية كما تقدم فإن تحريمها ليس في القرآن "وتجويز كونه" أي كل من التوجه إلى بيت المقدس وحرمة المباشرة منسوخا "بغيره" أي غير القرآن "من سنة أو" تجويز كون "الأصل" أي التوجه إلى بيت المقدس وحرمة المباشرة ثابتا(25/164)
ص -81-…"بتلاوة نسخت وذلك" أي الناسخ السني على التقدير الأول والمنسوخ القرآني على التقدير الثاني "على الموافقة" أي الأول موافق لنص القرآن فيكون من نسخ السنة بالسنة والثاني موافق لنص السنة فيكون من نسخ القرآن بالقرآن؛ لأن الحكم الموافق لنص القرآن لا يجب أن يكون منه "احتمال بلا دليل" فلا يسمع "ثم لو صح لم يتعين ناسخ علم تأخره" لنسخ ما تقدمه "ما لم يقل عليه الصلاة والسلام هذا ناسخ" لكذا أو نحوه لتطرق الاحتمال المذكور إليه "وهو" أي عدم تعين المعلوم تأخره ناسخا للمتقدم ما لم يقل صلى الله عليه وسلم ذلك "خلاف الإجماع قالوا أي المانعون" أولا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يقتضي أن شأنه البيان للأحكام والنسخ رفع لا بيان "أجيب" بتسليم أن شأنه ذلك لكن لا نسلم أن النسخ ليس ببيان بل "والنسخ منه" أي من البيان؛ لأنه بيان انتهاء مدة الحكم "قالوا" أي المانعون ثانيا نسخ السنة بالقرآن "يوجب التنفير" للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يفهم أن الله لم يرض بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم ينسخه وحصول التنفير مناف لمقصود البعثة وهو التأسي به والاقتداء بقوله وفعله لاحتمال كونه غير مرضي عند الله تعالى ومناف لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} [النساء: 64] "أجيب" بمنع حصول النفرة على ذلك التقدير فإنه "إذا آمنا بأنه مبلغ" عن الله تعالى لا غير "لم يلزم" من نسخ السنة بالقرآن وجود النفرة إذ الجميع من عند الله وما ينطق عن الهوى فلا يتأتى أن يقال أنه تعالى لم يرض بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأما قلبه" وهو نسخ القرآن بالسنة "فمنعه" الشافعي "قولا واحدا" كما رأيت فهو كما قال إمام الحرمين قطع جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وعلمت تأويل السبكي "وأجازه الجمهور لما تقدم" من أنه لا(25/165)
مانع عقلي ولا شرعي من ذلك "ووقوعه" فأخرج الشافعي بسند صحيح عن مجاهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث}" وفي مسند أحمد والسنن "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" قال الترمذي حسن صحيح فهذا لعمومه في نفي الوصية للوارث "نسخ الوصية للوالدين والأقربين" الثابتة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] "والاعتراض منتهض على الوقوع" أي وقوع نسخ القرآن بالسنة بهذا الحديث وأضرابه "بأنها آحاد فلو صح" نسخ القرآن بها "نسخ بها" أي بأخبار الآحاد "القرآن" وهو غير جائز اتفاقا "إلا أن يدعى فيها" أي في هذه الأحاديث "الشهرة فيجوز" النسخ بها "على" اصطلاح "الحنفية" حتى نقل الكرخي عن أبي يوسف أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسح على الخفين لشهرته "وهو" أي وكونها مشهورة فيجوز نسخ الكتاب بها "الحق" لأنه في قوة المتواتر إذ المتواتر نوعان: متواتر من حيث الرواية ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير فإن ظهوره يغني الناس عن روايته وهذا بهذه المثابة فإن العمل ظهر به مع القبول من أئمة الفتوى بلا تنازع فيجوز به النسخ وقيل لا نسلم عدم تواتر هذا ونحوه للمجتهدين الحاكمين بالنسخ لقربهم من زمان النبي صلى الله عليه وسلم "وإذ قال" القاضي أبو زيد "لم يوجد" في كتاب الله ما نسخ بالسنة إلا من طريق الزيادة على النص "فالوجه" في الاستدلال للوقوع أن يقال:(25/166)
ص -82-…"الإجماع" على الحكم المتأخر "دل على الناسخ" لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا على الصحيح كما سيأتي ثم لا بد له من مستند لا يصلح أن يكون قياسا؛ لأن النسخ بالرأي لا يجوز "ولم يوجد" الناسخ "في القرآن فهو سنة" هذا ما عليه طائفة من العلماء منهم من مشايخنا أبو منصور الماتريدي وصدر الإسلام وصاحب الميزان وأبو الليث السمرقندي وبه يظهر عدم تمام دعوى الزجاج الإجماع على أن فرض الوصية نسخته آيات المواريث نعم ذهب إليه كثير واختاره الجصاص وفخر الإسلام وصدر الشريعة ووجهه أن الله تعالى فرض الوصية إلى العباد بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]. ثم تولى ذلك بنفسه فقال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية وقصر الإيصاء على حدود معلومة من النصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس لا يزاد عليها ولا ينقص عنها لعلمه تعالى بجهل العباد وعجزهم عن معرفة مقاديره وبمن هو الأنفع من هذه الورثة في الدنيا والآخرة فصار بيان المواريث هو الإيصاء؛ لأنه بيان لذلك الحق بعينه فانتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطريقين كمن وكل غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه ينتهي حكم الوكالة لحصول المقصود. نعم الحديث مقرر لنسخ الوصية للوارث ومشعر بأن ارتفاع الوصية إنما هو بسبب شرعية الميراث حيث رتب صلى الله عليه وسلم قوله "فلا وصية لوارث" على قوله "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه"؛ لأن الفاء في مثله تشعر بسببية ما قبلها لما بعدها كما في زارني فأكرمته ودفع في شرح التأويلات هذا بأن دعوى النسخ بآية المواريث لا تصح لوجهين: أحدهما أن في الآية الأولى أن الله تعالى فرض على الموصي الوصية للوالدين والأقربين وفي الآية الثانية بيان أنه أوصى الله تعالى لهم من غير أن ينفي وصية(25/167)
الموصي ولا نهاه عنها فيجب أن يجمع بينهما بقدر الإمكان حتى لا ينسخ الحكم الثابت بالكتاب من غير ضرورة؛ لأن ما لا تنصيص من الله تعالى في نسخه من نفي أو نهي فالحكم بنسخه لضرورة التناقض بين الحكمين وهاهنا إن لم يمكن الجمع بين الوصيتين في جميع المال أمكن الجمع بينهما بأن تصرف الأولى إلى ثلث المال والثانية إلى الباقي كما في الأجانب فإن الوصية بقيت مشروعة في حقهم بعد شرع المواريث في حق الأقارب بالطريق الذي قلنا. والوجه الثاني أن الله تعالى قال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] جعل الإرث بعد الوصية مطلقة من غير فصل بين الأجانب والأقارب فدل أنه يمكن تخريج الآيتين على التوافق فلا يجب التخريج على التناسخ انتهى. قلت يعني فقد كان يجوز على الوجه الأول أن يكون فرض الوصية للوالدين والأقربين باقيا لكنه من الثلث وغايته أن يجتمع للوالدين وبعض الأقربين الوصية والميراث وليس ذلك بممتنع؛ لأنه كما قال الفقيه أبو الليث الشيء إنما يصير منسوخا بما يضاده وليس بين الوصية والميراث تضاد ألا ترى أنه يجوز أن يجتمع الدين والميراث فكذا يجوز أن تجتمع الوصية والميراث لولا هذا الخبر وعلى الوجه الثاني جواز الوصية للوالدين والأقارب والأجانب غير أن السنة نسخت جوازها للوارث منهم نعم يبقى على هذا ما في صحيح(25/168)
ص -83-…البخاري عن ابن عباس أن الذي نسخ آية الوصية آية المواريث وأجاب عنه شيخنا الحافظ بأن آية المواريث ليست صريحة في النسخ وإنما بينه الحديث المذكور انتهى. قلت ولا يخفى أنه لا يلزم من عدم كونها صريحة في النسخ أن لا يجوز أن ينسب إليها على أن النسخ خلاف الأصل فلا يكون إلا عن سماع كما تقدم.
"قالوا" أي المانعون قال تعالى "{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] الآية" أي من القرآن "ولا مثلا" للقرآن "ونأت يفيد أنه" أي الآتي بما هو خير من المنسوخ أو مثله "هو تعالى" وما يأتي به تعالى هو القرآن "أجيب بما تقدم" وهو أن المراد بالخيرية والمثلية من جهة اللفظ "وعدم تفاضله" أي اللفظ "بالخيرية أي البلاغة ممنوع" إذ في القرآن الفصيح والأفصح والبليغ والأبلغ "ولو سلم" أن المراد بالخيرية والمثلية كونهما من حيث الحكم "فالمراد بخير من حكمها" للمكلفين أو مساو لحكمها الذي كان ثابتا للمكلفين "والحكم الثابت بالسنة جاز كونه أصلح للمكلف" مما ثبت بالقرآن أو مساويا له فيه "وهو" أي الحكم الثابت بالسنة "من عنده تعالى والسنة مبلغة ووحي غير متلو باطن لا من عند نفسه" صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فلا يصح التشبث بهذه الآية على المنع أيضا بل وفي جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكسه إعلاء منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته من حيث إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه ليبينه بعبارته وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به انتهاء مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه ومن حيث إنه جعل سنته في إثبات الحكم مثل كلامه وتولى بيان مدته بنفسه(25/169)
كما تولى بيان مدة الحكم الذي أثبته بكلامه هذا وظهر أن ما عن القاضي أبي زيد الدبوسي من أنه لم يوجد في كتاب الله ما نسخ بالسنة إلا من طريق الزيادة على النص ليس ببعيد، وكذا ما ذهب إليه السبكي من أن مراد الشافعي بقوله لا ينسخ كتاب الله إلا كتاب الله بخلاف ما ذهب إليه من أن مراده بقوله لا تنسخ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنته ولا سيما في نسخ صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على رد نسائهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية كما ثبت في صحيح البخاري وغيره فليتأمل والله سبحانه أعلم
مسألة
نسخ جميع القرآن ممنوع بالإجماع كما قاله الإمام الرازي وغيره؛ لأنه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم المستمرة على التأبيد ونسخ بعضه جائز وهو على ثلاثة أقسام كما أشار إليه بقوله "ينسخ القرآن تلاوة وحكما أو أحدهما" أي تلاوة لا حكما أو حكما لا تلاوة "ومنع بعض المعتزلة غير الأول" أي نسخ أحدهما كما في كشف البزدوي وغيره أما الأول فجائز عند كل من قال بجواز النسخ "لنا جواز تلاوة وحكم" ولهذا يثاب عليها وتحرم على الجنب بالإجماع إلى غير(25/170)
ص -84-…ذلك كما سيأتي "ومفاده" من الوجوب والتحريم وغيرهما حكم "آخر ولا يلزم من نسخ حكم آخر" لا تلازم بينهما يوجب ذلك وهذان الحكمان كذلك فيجوز نسخ أحدهما دون الآخر كسائر الأحكام التي ليس بينهما هذا التلازم "ووقع" نسخ أحدهما دون الآخر "روي عن عمر: "كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله" كذا ذكره ابن الحاجب والذي وقفت عليه عن عمر رضي الله عنه ما أخرج الشافعي عنه أنه قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة فإنا قد قرأناها. وللترمذي نحوه، نعم أخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال كم تعدون سورة الأحزاب قال قلت ثنتين أو ثلاثا وسبعين آية قال كانت توازي سورة البقرة أو أكثر وكنا نقرأ فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله "وحكمه" أي هذا المنسوخ التلاوة "ثابت" لأن المراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة وهما إذا زنيا رجما إجماعا "ولقد استبعد" هذا "من طلاوة القرآن" بضم الطاء المهملة وفتحها أي حسنه وأورد أيضا أنه يلزم من هذا أن يثبت قرآن بالآحاد وإذا لم تثبت قرآنيته لم يثبت نسخ قرآن، وأجيب بأن التواتر إنما هو شرط في القرآن المثبت بين الدفتين أما المنسوخ فلا سلمنا لكن الشيء يثبت ضمنا بما لا يثبت به أصله كالنسب بشهادة القابلة على الولادة وقبول خبر الواحد في أن أحد المتواترين بعد الآخر على أنه يجوز أن يقع التواتر في الصدر الأول ثم ينقطع فيصير آحادا فما روي لنا بالآحاد إنما هو حكاية عما كان موجودا بشرائطه وقد يجاب أيضا بأنه وإن لم يثبت قرآنا بالنسبة إلينا لعدم التواتر ثبت قرآنا بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم(25/171)
كعمر وأبي إذ لا يظن بهم أنهم اخترعوه من قبل أنفسهم فيحمل على أنه كان مما يتلى ثم نسخت تلاوته بصرف الله القلوب عن حفظه إلا قلوب هؤلاء وسماعهم كاف لكونه قرآنا إذ لا يشترط التواتر في حقهم غاية ما فيه أنه يلزم كونه قرآنا في الزمان الماضي بالظن وهو ليس بقادح فيما نحن فيه؛ لأن الثبوت بطريق القطع مشروط فيما بقي بين الخلق من القرآن لا فيما نسخ.
"ومنه" أي المنسوخ التلاوة فقط عند أصحابنا "القراءة المشهورة لابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام "متتابعات"؛ لأنه لا وجه لها أن يقال إن هذا كان يتلى في القرآن كما حفظ ابن مسعود ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرف القلوب عن حفظه إلا قلب ابن مسعود فيكون الحكم باقيا بنقله فإن خبر الواحد موجب العمل به وقراءته لا تكون دون روايته فكان بقاء هذا الحكم بهذا الطريق "وابن عباس فأفطر فعدة" من أيام أخر فإنها قراءة مشهورة عنه أيضا للإجماع على أنه إنما يجب القضاء على المفطر ووجهها ما تقدم آنفا وما في الصحيحين أنه كان في القرآن لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى أن يكون له ثالث ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب قال ابن عبد البر في التمهيد قيل إنه كان من سورة " ص " وما في صحيح البخاري في حديث السبعين الذين قتلهم رعل وذكوان(25/172)
ص -85-…وعصية ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت يدعو عليهم شهرا عن أنس أنهم قرءوا فيها قرآنا ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم رفع بعد ذلك "وقلبه" أي نسخ الحكم لا التلاوة "آية الاعتداد حولا متلوة وارتفع مفادها" بأربعة أشهر وعشر المفاد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] كما تقدم بيانه في بحث التخصيص "وهما" أي نسخ التلاوة والحكم "معا قول عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات" معلومات "يحرمن" رواه مسلم "قالوا" أي مانعو نسخ أحدهما بدون الآخر أولا "التلاوة مع مفادها" من الحكم في دلالتهما عليه "كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم" وكما لا ينفك أحدهما عن الآخر في كل من هذين لا ينفك الحكم عن التلاوة ولا التلاوة عن الحكم.(25/173)
ولما أجاب غير واحد من قبل الجمهور بأن العالمية من الأحوال يعني الصفات النفسية التي ليست بموجودة ولا معدومة قائمة بموجود وتمام هذا فرع ثبوت الحال والحق عندنا نفي الحال وإن قال بثبوته بعض منا كإمام الحرمين، ورأى المصنف أن هذا لا يفيد؛ لأن قول المعتزلة ذلك من باب ذكر المثال وإنما مرادهم أن التلاوة وهي اللفظ ملزوم لإفادة معناه فلا يثبت دونه لاستحالة ثبوت الملزوم بلا لازمه غير أنهم ضربوا ذلك مثلا فبطلانه لا يوجب بطلان الأصل المذكور أشار إلى هذا وعدل عن ذلك الجواب فقال "والمقصود أنه" أي المتلو "ملزوم" لمعناه "فلا يضره" أي هذا الاستدلال "منع ثبوت الأحوال والجواب إن قلت" المتلو "ملزوم الثبوت" أي ثبوت معناه "ابتداء سلمناه ولا يفيد"؛ لأن الكلام ليس فيه "أو" ملزوم الثبوت "بقاء معناه" إذ لا يلزم من الثبوت ابتداء الثبوت بقاء "والكلام فيه" أي في ثبوته بقاء "قالوا" أي المانعون ثانيا "بقاء التلاوة دون الحكم يوهم بقاءه" أي الحكم لكون التلاوة دليله وبقاء الدليل موهم بقاء المدلول "فيوقع" بقاؤها دون المكلف "في الجهل" لظنه بقاء الحكم وهو ليس بباق في الحال والإيقاع في الجهل قبيح فلا يقع من الله تعالى. "وأيضا فائدة إنزاله" أي القرآن "إفادته" أي الحكم الشرعي الذي دلت التلاوة عليه "وتنتفي" إفادتها الحكم "ببقائه" أي الحكم "دونها" أي التلاوة، والكلام الذي لا فائدة فيه يجب أن ينزه القرآن عنه "أجيب مبناه" أي كل من هذين "على التحسين والتقبيح" العقليين وقد نفاهما الأشاعرة "ولو سلم" القول بهما "فإنما يلزم الإيقاع" في الجهل على تقدير نسخ الحكم لا التلاوة "لو لم ينصب دليل عليه" أي عدم بقاء الحكم لكنه نصب عليه فالمجتهد يعلمه بالدليل، والمقلد بالرجوع إليه فينتفي التجهيل "ويمنع حصر فائدته" في إفادة الحكم "بل" إنزاله لفوائد لما ذكرتم وأيضا "للإعجاز ولثواب التلاوة أيضا وقد حصلتا" أي هاتان الفائدتان؛ لأن الإعجاز(25/174)
لا ينتفي بنسخ تعلق حكم اللفظ؛ لأن اللفظ لا ينعدم به والأعجاز تابع لوجوده لا لمجرد قرآنيته والثواب يحصل بتلاوته كما قبل النسخ "كالفائدة التي عينتموها" أي كما حصلت إفادة الحكم الشرعي ويستتبع بقاءه لفظا أيضا حرمة ذكره على الجنب وجواز الصلاة وحرمة مس رسمه للمحدث كالمتشابه على أنه لا يلزم من ترتب فائدة الشيء عليه بقاؤها "وإلا انتفى النسخ بعد الفعل الواجب تكرره" لعدم بقاء فائدته التي هي وجوب تكرره دائما وهو باطل.(25/175)
ص -86-…مسألة
"لا ينسخ الإجماع" القطعي أي لا يدفع الحكم الثابت به "ولا ينسخ به" غيره "أما الأول" أي أنه لا ينسخ "فلأنه لو كان" أي وجد رفع حكمه "فبنص قاطع أو إجماع" قاطع "والأول" أي رفع حكمه بنص قاطع "يستلزم خطأ قاطع الإجماع؛ لأنه" أي الإجماع حينئذ "خلاف القاطع" الذي هو النص وخلافه خطأ لتقدمه عليه قطعا وعدم انعقاد الإجماع على خلاف النص القاطع "والثاني" أي رفع حكمه بالإجماع يستلزم "بطلان أحدهما" أي الإجماعين الناسخ والمنسوخ؛ لأن الإجماع لا ينعقد على خلاف إجماع آخر فأحد الإجماعين ساقط بالضرورة ولما امتنع بطلان الإجماع القاطع كان الإجماع الآخر وهو ما فرض نسخه غير قاطع وباطل، وعلى الخطأ قال المصنف "وليس" هذا الدليل على منع نسخ الإجماع بكل من هذين "بشيء" مانع من نسخه بكل منهما "لأن النسخ لا يوجب خطأ الأول وإلا" لو كان النسخ يوجب خطأ المنسوخ "امتنع" النسخ "مطلقا" وليس كذلك، وإذا لم يلزم من القاطع المتأخر خطأ القاطع المتقدم لزم صحة الإجماع الأول إلى ظهور النص القاطع أو الإجماع القاطع فيرتفع به كقطعي الكتاب بعد مثله "بل" إنما لا ينسخ الإجماع بنص متأخر "لأنه لا يتصور؛ لأن حجيته" أي الإجماع مشروطة "بقيد بعديته عليه السلام فلا يتصور تأخر النص عنه" أي الإجماع "وثمرته" أي الخلاف في أن الإجماع لا ينسخ بغيره تظهر "فيما إذا أجمع على قولين جاز بعده" أي بعد الإجماع على القولين الإجماع "على أحدهما" بعينه "فإذا وقع" الإجماع على أحدهما عينا "ارتفع جواز الأخذ بالآخر" لتعين الأخذ بالمجمع عليه المعين وبطلان الأخذ بمخالفه "فالمجيز" لجواز نسخ الإجماع يقول ارتفاع جواز الأخذ بالآخر "نسخ" لجواز الأخذ به "والجمهور" يقولون "لا" ينسخ جواز الأخذ بكل منهما اجتهاد أو تقليد "لمنع" جواز "الإجماع على أحدهما" عينا بعد خلافهم المستقر "لأنه" أي جواز الإجماع على أحدهما عينا حينئذ "مختلف" فيه كما سيأتي في الإجماع(25/176)
"ولو سلم" جواز الإجماع على أحدهما بعد الخلاف المستقر فلا نسخ للإجماع الأول؛ لأن الإجماع الأول كما قال "فمشروط بعدم قاطع يمنعه" أي إنما ينعقد على أن المسألة اجتهادية بشرط أن لا تصير قطعية بانعقاد الإجماع الثاني فإذا انعقد الإجماع الثاني انتفى شرط كون المسألة اجتهادية فانتفى شرط الإجماع الأول لانتفاء شرطه لا لكونه منسوخا وهذا هو المراد بقوله "والإجماع على أحدهما" عينا بعد ذلك "مانع" من ذلك "وأما الثاني" أي أن الإجماع لا ينسخ به غيره "فالأكثر على منعه" أي على كونه لا ينسخ به غيره "خلافا لابن أبان وبعض المعتزلة. لنا إن" كان الإجماع "عن نص" من كتاب أو سنة "فهو" أي النص "الناسخ يعني لما بحيث ينسخ" قال المصنف وإنما قال هذا؛ لأن هذا المستدل بين فيما زعم أن الإجماع لا ينسخ بغيره في المسألة التي قبلها فلا بد من كون النص المذكور إذا اعتبر ناسخا أن ينسخ ما بحيث يجوز نسخه "وإلا" إن لم يكن الإجماع عن نص "فالأول" أي المنسوخ "إن" كان "قطعيا لزم خطأ الثاني" الذي هو الإجماع الناسخ "لأنه" أي الإجماع حينئذ "على خلاف" النص "القاطع"(25/177)
ص -87-…والإجماع على خلاف القاطع خطأ "وإلا" فإن كان الأول ظنيا "فالإجماع على خلافه" أي الأول "أظهر أنه" أي الأول "ليس دليلا"؛ لأن شرط العمل به رجحانه وقد انتفى بمعارضة قاطع له وهو الإجماع "فلا حكم" ثابت له "فلا رفع"؛ لأن الرفع فرع الثبوت "وعليه" أي ويرد على هذا "منع خطأ الثاني؛ لأنه" أي الثاني "قطعي متأخر عن" نص "قطعي" متقدم كما هو التقدير الأول والنسخ لا يوجب خطأ المنسوخ وإلا امتنع النسخ مطلقا "وإن" كان الأول "عن ظني" كما هو التقدير الثاني "فيرفعه" الثاني؛ لأن القاطع يرفع ما دونه "كالكتاب للكتاب" أي كنسخ قطعي الدلالة منه لقطعي الدلالة منه وظني الدلالة "وإذن فللخصم منع الأخير" وهو أن الإجماع أظهر أن الظني ليس دليلا "بل ينسخ" الإجماع الثاني القطعي الأول "الظني لا أنه" أي الثاني "يظهر بطلانه" أي الأول "فالوجه" في بيان دليل منع نسخ الإجماع "ما للحنفية" في ذلك وهو أنه "لا مدخل للآراء في معرفة انتهاء الحكم في علمه تعالى" بل إنما يعلم ذلك بالوحي ولا وحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا" أي المانعون "وقع" نسخ القرآن بالإجماع "بقول عثمان" لما قال له ابن عباس كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] والأخوان ليسا إخوة "حجبها قومك" يا غلام قال ابن الملقن رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وقدمته بلفظ آخر في البحث الثالث من مباحث العام فإنه صريح في إبطال حكم القرآن بالإجماع وهو النسخ "وبسقوط سهم المؤلفة" قلوبهم من الزكاة عند الحنفية وموافقيهم بإجماع الصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه الدال عليه ما روى الطبري من طريق حبان بن أبي جبلة أن عمر رضي الله عنه لما أتاه عيينة بن حصن قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] يعني اليوم ليس مؤلفة إلى غير ذلك من غير إنكار أحد من(25/178)
الصحابة ذلك "قلنا الأول" أي كون قول عثمان حجبها قومك ناسخا للقرآن "يتوقف على إفادة الآية" أي {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] "عدم حجب ما ليس إخوة قطعا" لها من الثلث إلى السدس؛ لأنها إذا لم تفد عدم حجب ما ليس إخوة لم يلزم أن يكون معنى قول عثمان حجبها قومك حجبها الإجماع لجواز أن يكون حجبهم إياها لدليل آخر على حجبها بهما "و" على "أن الأخوين ليسا إخوة قطعا"؛ لأنهما لو جاز أن يقال لهما إخوة لكان معنى قول عثمان حجبها قومك اللغة تجيز لفظ الإخوة للأخوين كما تجيزه للثلاثة "لكن الأول" أي إفادة الآية عدم حجب ما ليس إخوة ثابت "بالمفهوم" المخالف "المختلف" في صحة كونه حجة وهو وإن لم يكن له إخوة لا يكون لأمه السدس "والثاني" أي إن الأخوين ليسا إخوة قطعا "فرع إن صيغة الجمع لا تطلق على الاثنين لا" حقيقة "ولا مجازا قطعا" وليس كذلك فإن الإطلاق عليهما مجازا لا ينكر "ولو سلم" أن عثمان أراد حجبها الإجماع "وجب تقدير نص" حدث قطعا يكون النسخ به وإلا كان الإجماع على خلاف القاطع الذي هو المفهوم المفروض قطعيته وهو باطل "وسقوط المؤلفة من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته المفردة" الغائبة وهي الإعزاز للإسلام؛ لأن الدفع لهم هو العلة للإعزاز إذ يفعل الدفع ليحصل الإعزاز فإنما انتهى ترتب الحكم الذي هو الإعزاز على الدفع الذي هو(25/179)
ص -88-…العلة وعن هذا قيل عدم الدفع الآن للمؤلفة تقرير لما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم لا نسخ؛ لأن الواجب الإعزاز وكان بالدفع والآن هو في عدم الدفع لكن لا يخفى أن هذا لا ينفي النسخ؛ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع وغاية الأمر أنه حكم شرعي هو علة لحكم آخر شرعي فنسخ الأول لزوال علته ذكره المصنف رحمه الله "وليس" انتهاء الحكم لانتهاء علته "نسخا ولو ادعوا" أي القائلون الإجماع ينسخ به "مثله" أي كون الإجماع مبينا رفع الحكم وانتهاء مدته "نسخا فلفظي" أي فالخلاف في أن الإجماع يكون ناسخا أو لا حينئذ لفظي "مبني على الاصطلاح في استقلال دليله" أي النسخ فمن اشترطه فيه وهو الجمهور لم يجعل الإجماع ناسخا فإن الإجماع ليس مستقلا بذاته في إثبات الحكم بل اعتبار أنه لا بد له من دليل يستند إليه فالإجماع كاشف عن ذلك الدليل وإن لم ينقل إلينا لفظه ومن لم يشرطه فيه جعله ناسخا كما هو ظاهر ما عن المخالفين إذ الوجه أن يكون الكل متفقين على أن الإجماع دليل وجود الناسخ أي يعلم به النسخ بدليله وإن لم يعلم عين دليله لا أن الإجماع نفسه ناسخ، وعبارة عيسى بن أبان على ما ذكر الجصاص أنه قال إذا روي خبران متضادان والناس على أحدهما فهو الناسخ للآخر انتهى صريحه في هذا كما ترى نعم كلام شمس الأئمة السرخسي في حكاية قول المخالف تنبو عن هذا فإنه قال وأما النسخ بالإجماع فقد جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور وإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى وأكثرهم على أنه لا يجوز ذلك؛ لأن الإجماع عبارة عن اجتماع الآراء على شيء ولا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله تعالى ثم أوان النسخ حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لاتفاقنا على أنه لا نسخ بعده وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع(25/180)
بدون رأيه وكان المرجوع إليه فرضا، وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع منه وإنما يكون الإجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده فعرفنا أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز. "وصرح فخر الإسلام بمنسوخيته" أي الإجماع "أيضا" وهذا يفيد أنه مصرح بنسخ الإجماع والنسخ به "قال والنسخ في ذلك كله" أي في الإجماع "بمثله" أي بإجماع مثله "جائز حتى إذا ثبت حكم بإجماع في عصر يجوز أن يجمع أولئك على خلافه فينسخ به الأول وكذا في عصرين" على ما فيه من تقييد وتعقب نذكرهما قريبا "ووجه" قول فخر الإسلام في كشفه "بأنه لا يمتنع ظهور انتهاء مدة الحكم" الأول "بإلهامه تعالى للمجتهدين وإن لم يكن للرأي دخل في معرفة انتهاء مدة الحكم وزمان نسخ ما ثبت بالوحي وإن انتهى بوفاته عليه السلام لامتناع نسخ الوحي بعده" صلى الله عليه وسلم "لكن زمان نسخ ما ثبت بالإجماع لم ينته به" أي بموته صلى الله عليه وسلم "لبقاء زمان انعقاده" أي الإجماع وحدوثه "فجاز أن يجمع على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول" إذ يتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع ناسخ له "فيظهر بالإجماع المتأخر انتهاء مدة حكم الإجماع السابق إلا أن شرطه" أي نسخ الإجماع الإجماع "المماثلة" بينهما في القوة "فلا ينسخ إجماع الصحابة إجماع" من غيرهم "بعده بخلاف ما بعده"(25/181)
ص -89-…أي بعد إجماعهم لانتفاء المماثلة قال المصنف رحمه الله "وأنت خبير بأن هذا" التوجيه "لا يتأتى إلا على القول بجواز الإجماع لا عن مستند وليس" هذا القول القول "السديد ثم ناقض" فخر الإسلام هذا "قوله في النسخ وأما الإجماع فذكر بعض المتأخرين أنه يجوز النسخ به والصحيح أن النسخ به لا يكون إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ليس حجة في حياته؛ لأنه لا إجماع بدون رأيه والرجوع إليه فرض وإذا وجد منه البيان فالموجب للعلم هو البيان المسموع منه وإذا صار الإجماع واجب العمل به" بعده "لم يبق النسخ مشروعا" بعده "وجوز أن يريد" فخر الإسلام بالصحيح المذكور كما هو مسطور في الكشف وغيره أنه "لا ينسخ الكتاب والسنة بالإجماع أما نسخ الإجماع بالإجماع فيجوز" والفرق أن الإجماع لا ينعقد بخلاف الكتاب والسنة فلا يتصور أن ينسخهما ويتصور أن ينعقد إجماع بمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الإجماع الأول "وهو" أي هذا المراد إذا كان "لمجرد دفع المناقضة لا يقوى اختياره للضعيف" وهو أن النسخ يكون بالإجماع "ثم هو" أي هذا المراد "مناف لقوله النسخ لا يكون إلا في حياته إلخ" ظاهر المنافاة "وما قيل" كما هو محصل بحث في التلويح "جاز وقوع الإجماع الثاني عن نص راجح على مستند الإجماع الأول ولا يعلم تأخره" أي النص الراجح "عنه" أي عن مستند الأول "كي لا ينسب النسخ إلى النص فيقع الإجماع الثاني متأخرا" عن الأول "فيكون ناسخا" للأول "لم يزد على اشتراط تأخر الناسخ" عن المنسوخ "ثم لا يفيد" توجه نسخ الإجماع المتأخر بسبب كون مستنده أقوى "لأنه إذا فرض تحقق الإجماع عن نص امتنع مخالفته" أي ذلك الإجماع "ولو ظهر نص أرجح منه" أي من نص الإجماع المذكور "لصيرورة ذلك الحكم" المجمع عليه "قطعيا بالإجماع فلا تجوز مخالفته فلا يتصور الإجماع بخلافه".
مسألة(25/182)
"إذا رجح قياس متأخر لتأخر شرعية حكم أصله عن نص على نقيض حكمه" أي حكم الأصل "في الفرع" فلتأخر بيان وجه كونه متأخرا. و " عن نص " متعلق ب " تأخر " بيان للمتأخر عنه، و " على نقيض " متعلق بـ " نص " أي عن نص على نقيض حكم ذلك الأصل في الفرع سابق ذلك النص على حكم أصل ذلك القياس مما بحيث تقدم عليه القياس إذا عارضه مما ليس بقياس أو ساواه كما سنذكره فإن الناسخ عندنا لا يلزم رجحانه بل ينسخ المساوي لغيره المعارض له إذا تأخر عنه وجواب إذا "وجب نسخه" أي القياس "إياه" أي النص السابق "لمن يجيز تقديمه" أي القياس "على خبر الواحد بشروطه" أي النسخ "دون غيره" أي غير من يجيز تقديمه على خبر الواحد "وكذا" المعارض "المساوي" مثاله نص الشارع على عدم ربوية الذرة ثم نص بعده على ربوية القمح وهو أصل قياس ربوية الذرة على القمح فقد اقتضى القياس المتأخر لتأخر شرعية حكم أصله في الذرة الربوية والنص عدمها فيها مع علم تأخر أحد المتعارضين وهو النسخ إن كملت شروطه ذكره المصنف "وما قيل في نفيه" أي النسخ "في" القياسين "الظنيين" كما في أصول ابن الحاجب؛ لأنه "بين القياس" الثاني المظنون "زوال شرط العمل به" أي بالقياس الأول المظنون "وهو" أي شرط عمله "رجحانه" أي الأول المظنون بأن لا(25/183)
ص -90-…يظهر له معارض راجح أو مساو وإذ بمجرد المعارض المساوي تبطل ظنيته فكيف بالراجح والقياس الظني راجح؛ لأنا فرضناه ناسخا فيبطل وجوب العمل بالظني المتقدم لانتفاء شرطه فلا يكون القياس ناسخا له "ليس بشيء بعد فرض تأخره" أي القياس الثاني "والحكم بصحة الحكم السابق" بالقياس الأول "وإلا" لو لم يكن متأخرا "فلا نسخ وإنما ذاك" أي عدم النسخ "في المعارضة المحضة" بين القياسين وليس الكلام فيها "وأما نسخه" أي القياس "قياسا آخر بنسخ حكم أصله" أي الآخر "مع" وجود "علة الرفع" للحكم "الثابتة في الفرع" أي بنسخ حكم الأصل بنص مشتمل على علة متحققة في الفرع فينسخ حكم الفرع أيضا بالقياس على الأصل فيتحقق قياس ناسخ وآخر منسوخ مثاله أن تثبت حرمة الربا في الذرة بقياس على البر منصوص العلة ثم تنسخ حرمة الربا في البر تنصيصا على العلة المشتركة بينه وبين الذرة فيقاس عليه وترفع حرمة الربا فيها فيكون نسخا للقياس بالقياس "على ما قيل" وقائله التفتازاني "ففيه نظر عندنا" أي الحنفية "إذ لا نجيز القياس لعدم حكم كما سيعلم" في المرصد الثاني في شرط العلة "ولا يعلل الناسخ وما فرضه القائل" من وجود علة الرفع في الفرع "لا يكون غير بيان وجه انتهاء المصلحة" التي شرع لها الحكم "وهو" أي انتهاء المصلحة "معلوم في كل نسخ فلو اعتبر ذلك" أي انتهاؤها ناسخا "كان" الناسخ "معللا دائما" وهو خلاف الإجماع ومن ثمة قال الأبهري وأما المثال المذكور في الشرح وهو إذا نسخ حكم الأصل فيقاس عليه فمختلف فيه على ما سيجيء من أنه إذا نسخ حكم الأصل هل يبقى معه حكم الفرع أو لا؟ وعلى تقدير عدم بقائه فانتفاؤه لرفع حكم الأصل أو لأن نسخ حكم الأصل نسخ له بأن يقاس عدمه على عدم حكم الأصل فيه خلاف "وإنما يتصور" نسخ القياس بالقياس "عندنا بشرعية بدل" عن حكم الأصل "فيه" أي في الأصل "يضاد" الحكم "الأول فيستلزم" شرع ذلك "رفع حكمه" الأول وحينئذ "فقد يقال بمجرد رفع(25/184)
حكم الأصل أهدر الجامع" بين الأصل والفرع "فيرتفع حكم الفرع بالضرورة ولا أثر للقياس فيه وأغنى هذا عن مسألتها" أي هذه الجزئية التي هي جواز نسخ القياس بالقياس "وتمامه" أي هذا البحث "في" المسألة "التي تليها" أي هذه المسألة وذكر الأبهري أن مثال نسخ القياس بالقياس اتفاقا أن ينص الشارع على خلاف حكم الفرع في محل يكون قياس الفرع عليه أقوى "ولا حاجة إلى تقسيم القياس إلى قطعي وظني" كما ذكر ابن الحاجب وغيره وهو ظاهر مما تقدم "وستعلم" في ذيل الكلام في أركان القياس "أن لا قطع عن قياس ولو قطع بعلته" أي الحكم في الأصل "ووجودها في الفرع لجواز شرطية الأصل أو مانعية الفرع" منه "ولو تجوز به" أي بالقطعي "عن كونه" أي القياس "جليا ففرض غير المسألة" التي نحن بصددها "أن عنى به" أي بالجلي "مفهوم الموافقة وإلا" إذا لم يعن به ذلك "فما فرضناه" من موضوع المسألة "عام" له ولغيره وحينئذ "لا يحتاج إليه" أي إلى ذكر الجلي وتخصيصه بذلك "قالوا" أي مجيزو النسخ "تخصيص الزمان بإخراج بعضه" أي الزمان من أن يكون الحكم مشروعا فيه "فكتخصيص المراد" أي فهو كإخراج بعض ما يتناوله العام من أن يكون مرادا بالحكم المتعلق بالعام، والقياس يجوز أن يخصص به المراد فيجوز(25/185)
ص -91-…أن ينسخ به والملخص أنه يجوز النسخ بالقياس قياسا على التخصيص به بجامع كونهما تخصيصين، وكون أحدهما في الأعيان والآخر في الزمان لا يصلح فارقا إذ لا أثر له "الجواب منع الملازمة إذ لا مجال للرأي في الانتهاء" للحكم في علم الله تعالى "كما تقدم" في التي قبلها "ولو علم" الحكم "منوطا بمصلحة علم ارتفاعها فكسهم المؤلفة" أي فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته كسقوط سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة وليس نسخا.
مسألة(25/186)
"نسخ أحد الأمرين من فحوى منطوق" أي هل ينسخ الفحوى دون المنطوق وبالعكس "وهو" أي فحواه "الدلالة للحنفية" ومفهوم الموافقة لغيرهم فيه أقوال أحدها: نعم وعليه البيضاوي، ثانيها لا ونسب إلى الأكثرين، "ثالثها المختار للآمدي وأتباعه جواز" نسخ "المنطوق" بدون الفحوى "لا" جواز "قلبه" أي يمتنع نسخ الفحوى بدون المنطوق "لأنه" أي المنطوق كتحريم التأفيف "ملزوم" لفحواه كتحريم الضرب "فلا ينفرد" الملزوم "عن لازمه" أي فلا يوجد تحريم التأفيف مع عدم تحريم الضرب؛ لأن وجود الملزوم مع عدم اللازم محال "بخلاف نسخ التأفيف فقط" أي انتفاء الملزوم مع بقاء اللازم وهو تحريم الضرب فإنه لا يمتنع "لأنه" أي نسخ التأفيف لا غير "رفع للملزوم" ورفعه مع بقاء اللازم غير ممتنع قال "المجيزون" النسخ كل منهما بدون الآخر "مدلولان" متغايران أحدهما صريح والآخر غير صريح "فجاز رفع كل دون الآخر" ضرورة "أجيب" بجوازه "ما لم يكن أحدهما ملزوما للآخر فإذا كان" أحدهما ملزوما للآخر "فما ذكرنا" أي فإنما يجوز نسخ المنطوق بدون الفحوى لا القلب. قال "المانعون" لنسخ كل منهما بدون الآخر يمتنع نسخ "الفحوى دون الأصل" الذي هو المنطوق "لما قلتم" من لزوم الملزوم مع عدم اللازم "وقلبه" أي ويمتنع نسخ الأصل دون الفحوى "لأنه" أي الفحوى "تابع" للأصل "فلا يثبت" الفحوى "دون المتبوع" أي الأصل لوجوب ارتفاعه بارتفاع متبوعه وإلا لم يكن تابعا له "أجيب بأن التابعية" أي تابعية الفحوى للأصل إنما هي "في الدلالة" أي دلالة اللفظ على الأصل "ولا ترتفع" الدلالة إجماعا "لا" أن الفحوى تابع للأصل في "الحكم" أي حكم الأصل فإن فهمنا تحريم الضرب من فهمنا لتحريم التأفيف لا أن الضرب إنما كان حراما؛ لأن التأفيف حرام ولا أنه لولا حرمة التأفيف لما كان الضرب حراما "وهو" أي الحكم الذي هو حرمة التأفيف "المرتفع" فالمتبوع لم يرتفع والمرتفع ليس بمتبوع "واعلم أن تحقيقه أن الفحوى" إنما(25/187)
تثبت "بعلة الأصل متبادرة" إلى الفهم بمجرد فهم اللغة "حتى تسمى قياسا جليا فالتفصيل" المذكور "حتى على اشتراط الأولوية" أي أولوية المسكوت بالحكم في الفحوى كما هو قول بعضهم "لأن نسخ الأصل" يكون "برفع اعتبار قدره" أي ما يدل عليه منطوقه من المقدار الذي هو عليه الحكم فيه "وجاز بقاء المفهوم" المذكور "بقدر فوقها" أي العلة التي تضمنها الأصل فيبقى حكم المفهوم لبقاء علته "بخلاف القلب" أي نسخ الفحوى دون الأصل فإنه لا يجوز "إذ لا يتصور إهدار الأشد في التحريم" كالضرب. "واعتبار ما دونه" أي ما دون الأشد في التحريم وهو التأفيف "فيه" أي في التحريم(25/188)
ص -92-…حتى يجوز أن ينسخ حرمة الضرب ولا ينسخ حرمة التأفيف بل الأمر بالقلب فإن الحكمة الباعثة على تحريم التأفيف غاية في إيجاب التعظيم والمنع من الإيذاء حتى يستتبع تحريم الشتم والضرب وسائر أنواع الإيذاء، بخلاف حكمة تحريم الضرب فإنها ليست في تلك الغاية من التعظيم فلا يلزم من ارتفاع التعظيم الأول ارتفاع التعظيم الثاني؛ لأن من لا يجب أن يعظم غاية التعظيم قد يجب أن يعظم تعظيما ما وحاصله أن الرعاية والعناية في تحريم التأفيف فوقها في تحريم الضرب وأخص منها وانتفاء الأعلى والأخص لا يوجب انتفاء الأدنى والأعم "ونحو اقتله ولا تهنه" إنما جاز مع أن القتل أشد من الإهانة "لعرف صير الإهانة فوق القتل أذى" ونحن قائلون بأنه لا يلزم من إهدار الأدنى إهدار الأعلى "وتقدم" في التقسيم الأول من الفصل الثاني في الدلالة "أن الحنفية وكثيرا من الشافعية أن لا يشترط" في مفهوم الموافقة "سوى التبادر" أي تبادر حكم المذكور للمسكوت بمجرد فهم اللغة سواء "اتحد كمية المناط" للحكم "فيهما" أي في المنطوق والمفهوم بأن تساويا في مقداره "أو تفاوت" المناط فيهما كمية بأن كان في المسكوت أشد "فيلزمهم" أي الحنفية "التفصيل المذكور في الأولى والمنع فيهما" أي المنطوق والمفهوم "في المساواة فلو نسخ إيجاب الكفارة للجماع" أي جماع الصحيح المقيم الصائم في نهار رمضان في أحد السبيلين "لانتفى" إيجابها "للأكل" أي لأكله عمدا فيه "ومبناه" أي عدم التفصيل في المساواة "على المختار من أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع" كما خلافه منسوب إلى الحنفية "وكونه" أي عدم بقاء حكم الفرع "يسمى نسخا أو لا" نزاع "لفظي أو سهو المخالف" إذ لا نسخ حقيقة وإنما هو من زوال الحكم لزوال علته "لنا نسخه" أي حكم الأصل "يرفع اعتبار كل علة له" أي لحكم الأصل "وبها" أي وبعلة الأصل "ثبت حكم الفرع فينتفي" بانتفائها وإلا لزم ثبوت الحكم بلا دليل، "فقول المبقين" لحكم الفرع(25/189)
"الفرع تابع للدلالة لا للحكم" أي لحكم الأصل "ولا يلزمه" أي كونه تابعا لدلالة الأصل "انتفاؤه" أي حكمه "لانتفائه" أي حكم الأصل "وقولهم" أي المبقين أيضا "هذا" أي الحكم بأن حكم الفرع لا يبقى مع نسخ حكم الأصل "حكم يرفع حكم الفرع قياسا على رفع حكم الأصل وهو" أي هذا الحكم قياس "بلا جامع" بينهما موجب للرفع "بعد عظيم" كما هو ظاهر مما تقدم، وأما نسخ الفحوى مع الأصل فيجوز اتفاقا ولم يتعرض المصنف لجواز كون الفحوى ناسخا وقد ادعى الإمام الرازي والآمدي الاتفاق عليه ونقل أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني الخلاف فيه بناء على أن الفحوى قياس والقياس لا يكون ناسخا وقد عرفت ما فيه ولم يتعرض أيضا لمفهوم المخالفة ويجوز نسخه مع الأصل وبدونه، وأما نسخ الأصل بدونه فذكر الصفي الهندي أن أظهر الاحتمالين أنه لا يجوز؛ لأنها تابعة له فترتفع بارتفاعه ولا يرتفع هو بارتفاعها، وقيل يجوز وتبعيتها له من حيث دلالة اللفظ عليها معه لا من حيث ذاته وهل يجوز النسخ بمفهوم المخالفة فابن السمعاني لا لضعفها عن مقاومة النص وأبو إسحاق الشيرازي الصحيح الجواز؛ لأنها في معنى النطق والله سبحانه وتعالى أعلم.(25/190)
ص -93-…مسألة
مذهب الحنفية والحنابلة ومشى عليه ابن الحاجب وغيره "لا يثبت حكم الناسخ" في حق الأمة "بعد تبليغه" أي جبريل النبي "عليه السلام قبل تبليغه هو" أي النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وقيل يثبت قال السبكي والخلاف إذا بلغ جبريل وألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض ولم يتمكن أحد من المكلفين من العلم به، ووراءه صور إحداها: أن لا ينزل إلى الأرض ولا يبلغ جنس البشر كما إذا أوحى الله إلى جبريل ولم ينزل. الثانية أن ينزل ولكن لم يلقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في هاتين أنه لا يتعلق به حكم. الثالثة أن يبلغ جنس المكلفين من البشر ولكن في غير دار التكليف كالسماء ثم يرتفع كفرض خمسين صلاة ليلة المعراج فإنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع فهل يكون نسخا؟ فيه نظر يحتمل أن لا يثبت حكمه، ويحتمل أن يقال بثبوته وعليه يدل كلام ابن السمعاني ا هـ قلت؛ لأنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمه واعتقد وجوبه فلم يقع النسخ له إلا بعد علمه واعتقاده ا هـ. وعليه مشايخنا أيضا كما تقدم في مسألة الاتفاق على جواز النسخ بعد التمكن. الرابعة أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض ولا يبلغ الأمة فإن تمكنوا من العلم به ثبت في حقهم قطعا وإلا فهو محل الخلاف، والجمهور أنه لا يثبت لا بمعنى وجوب الامتثال ولا بمعنى الثبوت في الذمة، وقال بعضهم يثبت بالمعنى الثاني كالنائم ولا نحفظ أحدا قال بثبوته بالمعنى الأول ا هـ ثم إنما كان المختار ما ذكر المصنف "لأنه" أي ثبوته "يوجب تحريم شيء ووجوبه في وقت" واحد لو كان الشيء المنسوخ واجبا قبل نسخه إذ وجوبه باق على المكلف قبل وصول الناسخ إليه "لأنه لو ترك المنسوخ قبل تمكنه من علمه" بالناسخ "أثم" بالإجماع "وهو" أي الإثم على تقدير الترك "لازم الوجوب" فكان العمل به واجبا "والفرض أنه" أي العمل به "حرم" بالناسخ فكان واجبا حراما في حالة واحدة وهو محال(25/191)
"ولأنه لو علمه" أي المكلف الثاني "غير معتقد شرعيته لعدم علمه" بكونه ناسخا للأول "أثم" بعلمه بالاتفاق "فلم يثبت حكمه" أي الناسخ وإلا لم يأثم بالعمل به؛ لأنه لا إثم بالعمل بالواجب "وأيضا لو ثبت" حكمه "قبله" أي تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الأمة "ثبت" حكمه "قبل تبليغ جبريل" النبي صلى الله عليه وسلم "لاتحادهما" أي هذين "في وجود الناسخ" في نفس الأمر "الموجب لحكمه" أي الناسخ "مع عدم تمكن المكلف من عمله" أي الناسخ "وقد يقال" على الوجهين الأولين "الإثم" إنما هو "لقصد المخالفة" للمشروع "مع الاعتقاد" للمخالفة للمشروع "فيهما لا لنفس الفعل" في الثاني كما فيمن وطئ زوجته يظنها أجنبية فإنه لا يأثم بالوطء بل بالجراءة عليه "ولا نؤثمه" بترك العمل بالناسخ "قبل تمكن العلم" الناسخ لعدم لزوم امتثاله في حق المكلف قبل التمكن من العلم به بل "إنما يوجب" التمكن من العلم بالناسخ إذا فات مقتضى الناسخ "التدارك" لمقتضاه فيما يمكن التدارك له بذلك "كما لو لم يعلم بدخول الوقت" المعين للصلاة والصوم مثلا "وخروجه" إلا بعد خروجه لمانع من ذلك غير مسقط للقضاء فإنه يتدارك كل منهما بالقضاء ويقال على الوجه الثالث "والفرق" بين ما قبل تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبين ما بعد تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يبلغ الأمة "أن ما قبل(25/192)
ص -94-…تبليغ جبريل" للنبي صلى الله عليه وسلم هي حالة للناسخ "قبل التعلق" أي تعلقه بالمكلفين "أن شرطه" أي تعلقه بهم "أن يبلغ واحدا" فصاعدا منهم ولم يوجد بخلاف ما بعد تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يبلغ الأمة فإنه حالة للناسخ بعد تعلق ثبوته في حقهم على تفصيل في ذلك تقدم ذكره آنفا فلا تساوي بينهما، على أنه إذا علم الرسول فسائر المكلفين متمكن من العلم به لإمكان استحصاله منه بخلاف ما إذا لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فإن الاستحصال من جبريل غير متمكن "قالوا" أي القائلون بثبوت حكم الناسخ في حق الأمة إذا بلغ النبي ولم يبلغ الأمة حكم الناسخ "حكم تجدد" أي ظهر تعلقه "فلا يعتبر العلم به" للمكلف أي لا يتوقف ثبوته في حقه على علمه به "للاتفاق على عدم اعتباره" أي العلم به "فيمن لم يعلمه" من المكلفين "بعد بلوغه واحدا" منهم في ثبوت ذلك عليه فكذا هذا يثبت في حقه إذا وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يبلغه "قلنا" قولكم علم المكلف به غير معتبر مسلم ولكن وراء عدم العلم به أمران أحدهما عدم التمكن من العلم به أيضا، وهذا الذي نمنعه لئلا يلزم تكليف الغافل وهو من ليس له صلاحية العلم لا من ليس عالما وإلا لم يكن الكفار مكلفين ومن لم يبلغ التكليف إليه ولا إلى غيره من الأمة ليس له صلاحية العلم به فيكون غافلا، والثاني التمكن من العلم به وهذا هو الصورة المتفق عليها كما ذكرتم؛ لأن "ببلوغه واحدا حصل التمكن ولذا" أي ولحصول التمكن ببلوغ واحد "شرطناه" أي بلوغ الواحد في ثبوت التعلق في حق الجميع آنفا "بخلاف ما قبله" وهو ما إذا بلغ النبي لا الأمة "فافترقا" ولكن هذا متعقب بما ذكرناه من أنه إذا علم الرسول أمكن سائر المكلفين استحصاله منه كما أشار إليه بقوله "وقد يقال النبي" صلى الله عليه وسلم "ذلك" الواحد "فيه" أي ببلوغه "يحصل التمكن" لهم من العلم به فلا يلزم منه تكليف الغافل وأورد أيضا إن أريد(25/193)
بنفي الثبوت نفي وجوب الامتثال فمسلم ولا نزاع فيه وإن أريد به نفي الثبوت في الذمة فممنوع فقد يستقر الشيء في ذمة من يعلم به ولم يتمكن منه فلا جرم إن قال المصنف "فالوجه" في الاستدلال لنفي ثبوت حكم الناسخ في حق من لم يبلغه من الأمة وإن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم بل وبعض الأمة "السمع" وهو ما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فقال رجل يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال "اذبح ولا حرج" فساقه إلى أن قال فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال "افعل ولا حرج" بناء "على" قول "أبي حنيفة" تقديم نسك على نسك شرعا مرتبين واجب يوجب الإخلال به الدم عملا بما روى ابن أبي شيبة والطحاوي عن ابن عباس من قدم شيئا في حجه أو أخره فليهرق دما فإن ظاهر الحديث أنه إنما سقط الدم لعدم العلم قبل الفعل بوجوب الترتيب كما يصرح به قوله لم أشعر ففعلت كذا أي لم أعلم وجوب ذلك، ثم ظهر لي بعد الفعل أنه ممنوع من ذلك ولذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر وعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك للجهل به؛ لأن الحال كان في ابتدائه وأمرهم أن يتعلموا منه مناسكهم وأيضا واقعة أهل قباء فإنهم أتاهم الخبر بنسخ القبلة وهم في الصلاة فاستداروا ولو ثبت الحكم في حقهم قبل ذلك لأمرهم بالإعادة. هذا وقد ظهر أن الخلاف ليس بلفظي كما قال القاضي في التقريب(25/194)
ص -95-…بل معنوي كما ذكر السبكي أنه الأظهر وأن المسألة ليست قطعية كما قال إمام الحرمين في مختصر التقريب بل هي ملحقة بالمجتهدات كما ذكر غيره والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا زاد في مشروع جزءا أو شرطا له متأخرا" عن المزيد عليه يصح القول بالنسخ فيه "هو" أي المزيد "فعل أو وصف كركعة في الفجر والتغريب في الحد" وهذان من أمثلة الجزء "والطهارة في الطواف ووصف الأيمان في الرقبة" وهذان من أمثلة الشرط "فهل هو" أي المزيد "نسخ" للمزيد عليه أم لا "فالشافعية والحنابلة" وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وأكثر الأشعرية على ما ذكر الماوردي "لا" يكون نسخا "وقيل إن رفعت" الزيادة حكما شرعيا كانت نسخا وإلا فلا وهذا للقاضي وأبي الحسين البصري واستحسنه الإمام الرازي واختاره إمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب "بناء على أنها" أي الزيادة "قد" ترفع حكما شرعيا "وقد" لا ترفعه ونقل التفتازاني عن صاحب التنقيح أن هذا كلام خال عن التحصيل؛ لأن كل أحد يعلم ذلك ويعرف به، وإنما الكلام في أن أي صورة تقتضي رفع حكم شرعي وأي صورة لا تقتضيه وأوضحه السبكي فقال وأنا أقول لا حاصل لهذا التفصيل وليس هو بواقع في محل النزاع فإنه لا ريب في أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا؛ لأنه حقيقته ولسنا هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لا فليس بنسخ فالقائل أنا نفرق بين ما رفع حكما شرعيا وما لم يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخا فهي نسخ وإلا فلا وهذا كما تراه وإنما حاصل النزاع بينهم في أن الزيادة هل ترفع حكما شرعيا فيكون نسخا أو لا؟ فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع على أنها نسخ أو على أنها لا ترفع لوقع على أنها ليست بنسخ، فالنزاع في الحقيقة في أنها هل هي رفع أو لا؟ ولذا أكثر الأئمة في المسألة من تعداد الأمثلة ليعتبرها النظر ويردها إلى مقارها ويقضي عليها بالنسخ إن كانت رفعا وبعدمه إن لم تكن. قال ولي وراء هذا التقرير كلام آخر(25/195)
فأقول قولنا الزيادة هل هي نسخ ليس معناه إلا أنها هل هي نسخ المزيد عليه نفسه فلا يتجه حينئذ قول من يقول إن رفعت حكما شرعيا كانت نسخا؛ لأنه ليس كلامنا في أنها هل هي نسخ من حيث هو أم إنما كلامنا في نسخ خاص فهل هي نسخ للمزيد عليه أم لا والمزيد عليه حكم شرعي بلا نظر فهل الزيادة رافعة له فيكون منسوخا أو لا؟ هذا حرف المسألة ولكنهم توسعوا في الكلام فذكروا ما إذا رفعت المزيد عليه وما إذا رفعت غيره انتهى، ثم الذي يتلخص في بيان هذا المذهب أن الزيادة إذا ثبتت بما يصلح أن يكون ناسخا وكانت حكما شرعيا ومتأخرة عن المزيد تأخرا يصح معه النسخ وكان المرفوع حكما شرعيا كانت ناسخة وقول من قال بدليل شرعي لزيادة البيان والتأكيد؛ لأن ثبوت الحكم الشرعي ورفعه لا يكون إلا بدليل شرعي "والحنفية" قالوا "نعم" هي نسخ "لأنها ترفع حكما شرعيا" قال السبكي واختاره بعض أصحابنا وادعى أنه مذهب الشافعي "أما رفع مفهوم المخالفة كفي المعلوفة" زكاة "بعد" قولنا في "السائمة" زكاة "فنسبته" أي كونه نسخا "إلى الحنفية" كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب ومشى عليه عضد الدين(25/196)
ص -96-…"غلط إذ ينفونه" أي مفهوم المخالفة كما تقدم بل يكون إيجاب الزكاة في المعلوفة عندهم من باب زيادة عبادة مستقلة على ما قد شرع وهو ليس بنسخ كما ستعلم، وما في التلويح وأنت خبير بأنه لا مؤاخذة في ذلك على ابن الحاجب لما علم من عادته في الاختصار بالسكوت عما هو معلوم فهو في حكم المستثنى تعقب بأنه اعتذار بعيد؛ لأنه لم يسكت بل حكم بأنه عند أبي حنيفة نسخ. قيل والاعتذار القريب أن يقال أراد به أنه لو قال بمفهوم المخالفة كان رفعه نسخا فهو حكم بذلك على أصل أبي حنيفة وإلى هذا مال الأبهري ولا يخفى أنه بعيد أيضا "وإذا لزم الرفع" لحكم شرعي "عندهم امتنع بخبر الواحد على القاطع" على ما ثبت به "فمنعوا زيادة الطهارة والأيمان والتغريب" بخبر الواحد في الأول كما تقدم في المسألة التي يليها باب السنة وفي الأخير كما تقدم في مسألة حمل الصحابي مروية المشترك إلخ وبالقياس على كفارة القتل في الثاني "على ما سلف" أي الطواف والرقبة في كفارة الظهار واليمين وحد غير المحصن في الزنا الثابتة بالنصوص القرآنية "إذ يرفع" الظن في هذه "حرمة الزيادة في الحد والإجزاء بلا طهارة" في الطواف "و" بلا "أيمان" في تحرير الرقبة في كفارتي الظهار واليمين. "وإباحته" أي كل من الطواف وتحرير الرقبة فيهما "كذلك" أي بلا طهارة في الأول وبلا أيمان في الثاني "وهو" أي كل من الحرمة والإباحة المذكورتين "حكم شرعي هو مقتضى إطلاق النص" الذي هو وليطوفوا بالبيت العتيق وتحرير رقبة "فهو" أي كل من الحرمة والإباحة المذكورتين ثابت "بدليل شرعي" قطعي هو النص المذكور في الطواف والنص المذكور في الكفارة "وعموم تحريم الأذى" كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" وقد ذكر أبو داود أنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. وقال ابن الصلاح أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد يقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به،. وقال الحاكم صحيح(25/197)
الإسناد على شرط مسلم في تحريم الزيادة على الحد، والقطعي لا يبطل بالظني، وقال الغزالي إن اتصلت الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهي نسخ إذ كان حكم الركعتين في الأوليين الإجزاء والصحة بدون الأخريين وقد ارتفع وإلا فلا والمراد بقوله اتصال اتحاد أن تكون الزيادة والمزيد عليه جزأين لعبادة واحترز به عن كون الزيادة شرطا كاشتراط الطهارة في الطواف قال؛ لأنه من قبيل التخصيص والنقصان من النص لا من قبيل النسخ؛ لأنه ثبت بالنص إجزاء الطواف بالطهارة وبغيرها وأخرج قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" أحد القسمين وخرج أيضا زيادة عشرين جلدة على الثمانين في حد القذف فإنها ليست بنسخ؛ لأن الثمانين بقي وجوبه وإجزاؤه عن نفسه ووجبت الزيادة عليه مع بقائه وأورد على نفسه اعتراضين أن الثمانين كان حدا كاملا ورفع استحقاق حكم الكمال بالزيادة عليه فكانت نسخا وأن الزيادة عليه نسخ لوجوب الاقتصار على المزيد عليه وهو حكم شرعي. وأجاب عن الأول بأن استحقاق اسم الكمال ليس حكما شرعيا وعن الثاني بأن وجوب الاقتصار لم يثبت بالمنطوق بل بالمفهوم، والقائل بعدم جواز الزيادة على النص بالآحاد لا يقول بثبوت المفهوم وهو(25/198)
ص -97-…وإن قال بجواز الزيادة على النص بالآحاد فهو لا يقول بثبوت مفهوم العدد وهذا منه على أن القائل بثبوته إنما يتم أن تكون هذه الزيادة عنده نسخا أن لو تحقق أن المفهوم كان مرادا، ثم ارتفع بالزيادة ولا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لإسقاط المفهوم متصلا أو قريبا منه كما قاله الغزالي أيضا "وعبد الجبار" قال الزيادة "إن غيرته" أي المزيد عليه تغيرا شرعيا "حتى لو فعل" المزيد عليه بعد الزيادة كما كان يفعل قبلها "وجب استئنافه كزيادة ركعة في الفجر أو" كان "تخييره" أي المكلف "بين" خصال "ثلاث" كأعتق أو صم أو أطعم "بعده" أي بعد تخييره "في ثنتين" منها كأعتق أو صم كانت نسخا عنده أما الأول فظاهر والثاني "لرفع حرمة تركهما" أي الخصلتين الأوليين مع فعل الثالثة بعد أن كان تركهما محرما "بخلاف زيادة التغريب على الحد وعشرين على الثمانين" فإنها ليست نسخا عنده؛ لأن وجود المزيد عليه بدون وجودها ليس كالعدم ولا يجب فيه استئناف المزيد عليه وإنما يجب ضمها إلى المزيد عليه "وغلط فيه" أي في هذا الأخير "بعضهم" أي ابن الحاجب حيث جعل وجود المزيد عليه فيه بدونها كالعدم وأن الزيادة فيه نسخ. قال السبكي وما يقال شرط الضربات أن تكون متوالية فلو أتى بثمانين منفصلة عن عشرين لم يكف ضم العشرين إليها تكلف محض، ثم أنه قد يجلد في يوم ثمانين وفي اليوم الذي يليه عشرين وذلك يجزي قاله الأصحاب إنما الممتنع تفرقه لا يحصل بها إيلام ونكيل وزجر كما إذا ضربه في كل يوم سوطا أو سوطين وضبط إمام الحرمين التفريق فقال إن كان بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له وقع كسوط أو سوطين في كل يوم لم يجز وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع فإن لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأول جاز وإن تخلل لم يكف على الأصح ولن يعدم المحاول إذا تكلف صورة من هذا يصح التمسك بها وليس من شأن ذوي التحقيق، والصواب أن هذا مثال للقسم الثاني وهو ما لا يغير المزيد عليه بل يكون على(25/199)
حياله ولا يكون نسخا عند القاضي عبد الجبار وقد مثل له الآمدي به وبزيادة التغريب على الحد انتهى. وفي القواطع وغيره عن أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري إن غيرت الزيادة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا كزيادة التغريب فإنها توجب تغيير الحكم الأول في المستقبل من الكل إلى البعض، وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له كزيادة ستر شيء من الركبة بعد وجوب ستر الفخذ فإنها لا تكون ناسخة لوجوب ستر كل الفخذ؛ لأن ستر الكل لا يتصور بدون ستر البعض بل مقررة "والأصح في زيادة صلاة" على الخمس لو وقعت "عدمه" أي النسخ كما هو قول الجمهور "وقيل نسخ" وعزي إلى بعض مشايخنا العراقيين "لوجوب المحافظة على الوسطى" بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] والزيادة تخريجها عن كونها وسطى "والجواب" أن الزيادة "لا تبطل وجوب ما كان مسمى الوسطى صادقا عليه وإنما بطل كونها وسطى وليس" كونها وسطى "حكما شرعيا" بل هو أمر حقيقي فلا يكون رفعه نسخا وهذا ما قال السبكي إن كانت الوسطى علما على صلاة بعينها إما الصبح أو العصر أو غيرهما وليست فعلى من المتوسط بين الشيئين فهو أيضا ساقط إذ لا يلزم من(25/200)
ص -98-…زيادة صلاة ارتفاع الأمر بالمحافظة على تلك الصلاة الفاصلة لكنه قال وإن كانت الوسطى المتوسط بين الصلوات فالذي يظهر حينئذ أن الأمر يختلف بما يزاد فإن زيدت واحدة فهي ترفع الوسط بالكلية ويتجه بما ذكروه؛ لأن الوسط حينئذ وإن كان أمرا حقيقا إلا أن الشرع ورد عليه وقرره فيكون نسخا للأمر الشرعي، وإن زيدت ثنتين ونحوهما بما لا يرفع الوسط فلا نسخ وإنما خرجت الظهر مثلا عن أن تكون وسطى وكونها كانت الوسط أمر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ عليه والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك وهو لم يزل بل هو باق "وأما نقص جزء" من المشروع كركعتين من الظهر "أو" نقص "شرط" من شروطه كاستقبال القبلة للصلاة "فنسخ اتفاقا لحكمه" أي ذلك الجزء أو الشرط "ثم قيل ونسخ لما منه" الجزء وله الشرط أيضا، ثم منهم كالصفي الهندي من جعل الخلاف في الشرط المتصل كالمثال المذكور لا المنفصل كالطهارة فإنه ليس نسخا إجماعا ومنهم من يفيد كلامه إثبات الخلاف في الكل "وعبد الجبار" قال يكون ذلك النقص نسخا للمشروع أيضا "إن" كان الناقص "جزءا" من المشروع ولا يكون نسخا للمشروع إن كان شرطا له، والمختار أنه ليس بنسخ للمشروع مطلقا "لنا لو كان" نقص ركعتين من الظهر مثلا أو بعض شرطها الذي هو الطهارة مثلا "نسخا لوجوب الركعات الباقية افتقرت" الركعات الباقية بعد النقص في وجوبها "إلى دليل آخر له" أي للوجوب والتالي باطل للإجماع على أن الباقي لا يفتقر إلى دليل ثان. بيان الملازمة أن وجوب الشرع الذي كان ثابتا قبل نقصان الجزء أو الشرط قد ارتفع بالنقصان؛ لأن الفرض أن النقصان نسخ للوجوب فوجوب المشروع بعد النقصان لا بد له من دليل آخر. "قالوا" أي القائلون نقصان الجزء أو الشرط نسخ للمشروع "حرمت" الصلاة "بلا شرطها" الذي هو الطهارة مثلا "وباقيها" أي بدون جزئها الذي هو الركعتان من الظهر مثلا "وارتفعت حرمته" أي المشروع الذي هو الصلاة مثلا المؤدى بهذا النقص قبل(25/201)
ورود النص به "بنقص الشرط" الذي هو الطهارة مثلا أي بورود النص به كما ينقص الجزء الذي هو الركعتان من الظهر مثلا فكان نقصان الشرط أو الجزء نسخا "وإذن فلا معنى لتفصيل عبد الجبار" المذكور لاستوائهما في ارتفاع تحريم المشروع بدونهما بعد أن كان محرما "أجيب بأن وجوب الباقي" بعد النقص "عين وجوبه الأول ولم يتجدد وجوب بل" إنما تجدد "إبطال وجوب ما نقص فظهر أن حكمهم" أي القائلين بأن نقص الجزء أو الشرط نسخ للمشروع "به" أي بنسخ المشروع إنما هو "لرفع حرمة لها نسبة" أي تعلق "بالباقي على تقدير الاقتصار" على ما سوى الجزء والشرط المنسوخين قبل ورود النقصان بأحدهما "وعندنا هو" أي نقصان الجزء والشرط "يرفع الوجوب" لهما "لأنه" أي رفع وجوبهما هو "الحكم الآن" أي بعد النقصان "وذاك" أي حكمهم بنسخ المشروع بواسطة النقصان المذكور "كالمضاف" إلى ما قبل ورود النقصان بأحدهما ولا شك أن الأول أولى "وقيل" أي وقال التفتازاني "الخلاف" إنما هو "في" نسخ "العبادة وهي" أي العبادة "المجموع" من الأجزاء "لا مجرد الباقي" منها فالنزاع في نسخها بمعنى ارتفاع جميع أجزائها وإلا فارتفاع الكل بارتفاع الجزء ضروري "ولا شك في ارتفاع وجوب الأربع"(25/202)
ص -99-…بارتفاع وجوب ركعتين منها. "واتجه تفصيل عبد الجبار" بين الجزء والشرط بل قال التفتازاني وينبغي أن يكون هذا مراد القاضي عبد الجبار قال المصنف "ولا شك في صدق ذلك" أي ارتفاع وجوب الأربع "بصدق كل من نسخ وجوب أحدهما" أي أحد أجزائها "أو" نسخ "وجوب كل" أي كل جزء "منها والثاني" نسخ وجوب كل جزء منها "ممنوع والأول" أي نسخ وجوب أحد أجزائها "مرادنا ففي الحقيقة إنما نسخ وجوب" جزء "واحد دون الباقي، وإن كان يصدق ذلك" أي ارتفاع وجوب الأربع "به" أي بنسخ وجوب جزء منها "فبما" أي فالاعتبار بالذي هو ثابت "في التحقيق اعتبارنا" فكان أولى "ولبعضهم هنا خبط" والله تعالى أعلم بمن هو المراد بالبعض وبما هو المراد بالخبط. ثم قد علم من هذا أن المراد نقص ما يتوقف صحة المشروع عليه داخلا كان فيه أو خارجا عنه أما نقص ما لا يتوقف صحة المشروع عليه كسنة من سننها ومثله الغزالي بالوقوف على يمين الإمام وستر الرأس فليس نسخا للعبادة بالاتفاق كما نقله قوم قال السبكي وقد يقال إن قلنا إن العبادة مركبة من السنن والفرائض كان القول بأن نقصان السنن نسخ لها كالقول في نقصان الجزء، وإن قلنا مختصة بالفرائض فلا وصنيع الفقهاء يدل على أنها مركبة من الفرائض والسنن جميعا حيث يذكرون في صفة الصلاة سننها وحيث يقولون باب فرائض الصلاة وسننها انتهى. قلت والتحقيق أن العبادة مركبة من الأجزاء الداخلة المقومة لماهيتها والسنن وما جرى مجراها من المستحبات والآداب إنما هي أوصاف خارجة عن حقيقتها موجبة مراعاتها لها صفة كمال خارجي، وذكر السنن في صفة الصلاة وإضافتها إليها لا يدل على أنها مركبة منها ومن الفرائض؛ لأن مرادهم بالصفة كيفية إيقاعها في الخارج على الوجه الأكمل لا بيان الحقيقة من حيث هي والإضافة تكون بأدنى ملابسة ولا شك في أن نسخ العبادة بنسخ سننها بعيد جدا ومن ثمة كان الاتفاق على أن نسخها لا يكون نسخا للعبادة والله سبحانه أعلم.
مسألة(25/203)
"يعرف الناسخ بنصه عليه السلام" عليه "وضبط تأخره" أي الناسخ "ومنه" أي ضبط تأخره ما قدمنا من صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" الحديث "والإجماع على أنه ناسخ أما" تعيين الناسخ "بقول الصحابي هذا ناسخ فواجب عند الحنفية لا الشافعية" قالوا "لجواز اجتهاده" أي أن يكون تعيينه عن اجتهاده ولا يجب اتباع المجتهد له فيه "وتقدم" في مسألة حمل الصحابي مرويه المشترك ونحوه على أحد ما يحتمله "ما يفيده" أي وجوب قبوله كما هو قول الحنفية وإن هذا التحرير مرجوح فليراجع ما هناك وهذا الإطلاق مقدم أيضا على تفصيل الكرخي إن عين الناسخ بأن قال هذا ناسخ بذاك لا يقبل، وإن لم يعين بل قال منسوخ قبل؛ لأنه لولا ظهور النسخ فيه ما أطلق إطلاقا "وفي تعارض متواترين" إذا عين الصحابي أحدهما "فقال هذا ناسخ" أو الناسخ "لهم" أي الشافعية "احتمال النفي" لقبول كونه الناسخ "لرجوعه" أي قبوله "إلى نسخ المتواتر بالآحاد" أي قول الصحابي "أو" نسخ المتواتر "به" أي بالمتواتر "والآحاد دليله" أي قول الصحابي دليل كونه ناسخا فالناسخ هو المتواتر إذ لا(25/204)
ص -100-…شك أن أحدهما ناسخ للآخر، ثم غير خاف أن هذا وجه القبول لا وجه نفي القبول فالوجه إما أنه كان يقول احتمال النفي والقبول ويسقط هنا قوله "والقبول" وإما أنه كان يقول بعد قوله بالآحاد والقبول لرجوعه إلى نسخ المتواتر به والآحاد دليله وقوله "إذ ما لا يقبل ابتداء قد يقبل مآلا كشاهدي الإحصان" جواب عن سؤال مقدر وهو أنه إذا كان لا يقبل حكم الصحابي بالنسخ فكذا لا يقبل ما يستلزم حكمه به وهو تعيينه أحد المتواترين لذلك وإيضاح الجواب أن ما لا يقبل أولا قد يقبل إذا كان المآل إليه كما يقبل الشاهدان في الإحصان، وإن ترتب عليه الرجم لا في الرجم فإنه لا يترتب إلا على شهادة أربعة بالزنا وشهادة النساء في الولادة، وإن ترتب عليها النسب لا في النسب إلى غير ذلك فجاء التجويز العقلي إذ يحتمل ما نحن فيه أن يكون مما لا يقبل ابتداء ويقبل تبعا "فوجب الوقف" قال المصنف "فإن" كان وجوبه "عن الحكم بالنسخ فكالأول" أي كقوله هذا ناسخ في غير المتواترين وقد عرفت أن لا وجوب للوقف فيه بل هو ناسخ عند الحنفية غير ناسخ عند الشافعية "وإن" كان وجوبه "عن الترجيح" لأحد الاحتمالين "فليس" الترجيح "لازما" للمتعارضين "بل أحد الأمرين منه" أي الترجيح "ومن الجمع" بينهما إذا أمكن، ثم الترجيح هنا للنسخ ظاهر مما تقدم بطريق أولى فإن في غير المتواترين قد لا يلزم النسخ وهو باجتهاده حكم بالنسخ وفي المتواترين النسخ لازم والصحابي عين الناسخ هذا والذي مشى عليه البيضاوي وغيره ونص عليه القاضي في مختصر التقريب لو قال هذا الحديث سابق قبل إذ لا مدخل للاجتهاد فيه قال والضابط أن لا يكون ناقلا فيطالب بالحجاج فأما إذا كان ناقلا فيقبل، ثم هذه هي الطرق الصحيحة في معرفة الناسخ "بخلاف بعديته" أي أحد النصين عن الآخر "في المصحف" بناء على أن ذلك يفيد بعديته في النزول عليه "و" بخلاف "حداثة سن الصحابي" الراوي له "فتتأخر صحبته فمرويه" عنه أيضا "و" بخلاف(25/205)
"تأخر إسلامه" أي الصحابي الراوي بناء على أن ذلك يفيد أن ذلك يفيد تأخر مرويه أيضا "بجواز قلبه" أي كل من هذه وهو أن يكون ما بعد غيره في ترتيب المصحف قبله في النزول فإن ترتيب السور والآيات ليس على ترتيب نزولها والمعتبر في النسخ تأخر النزول لا التأخر في وضع المصحف وقد روينا في بحث التخصيص من صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لكن على هذا أن يقال هذا نادر وذاك غالب والحمل على الغالب مقدم على الحمل على النادر ومروي حديث السن متقدما على كبيره اللهم إلا أن تنقطع صحبة الأول قبل صحبة الثاني فيرجع إلى ما علم تقدم تاريخه ومروي متأخر الإسلام متقدما على قديمه لجواز أن يكون قديم الإسلام سمعه بعد متأخر الإسلام إلا أن تنقطع صحبة الأول بموت ونحوه "وكذا" ليس من الطرق الصحيحة لتعين الناسخ ما قيل "موافقته" أي أحد النصين "للبراءة الأصلية تدل على تأخره" عن المخالف لها "لفائدة رفع المخالف" أي لأنه يفيد فائدة جديدة وهي رفع الحكم المخالف للبراءة الأصلية بناء على أن الأصل مخالفة الشرع لها "بخلاف القلب" أي جعل الدال على المخالفة لها(25/206)
ص -101-…متأخرا عن الدال على الموافقة فإن الدال على الموافقة لا يدل على فائدة جديدة؛ لأنها حينئذ تأكيد للأصل والتأسيس خير من التأكيد وأورد بأن هذا معارض بأنه لو تأخر لزم نسخ حكم الأصل، ثم نسخ رافعه بالموافق لحكم الأصل ولو تقدم لم يلزم إلا نسخ واحد والأصل تقليل النسخ وأجيب بأن رفع الحكم بأن رفع الحكم الأصلي ليس نسخا على ما عرف فاستويا نعم عليه أن يقال أن هذا إنما يتم على غير القائل من الحنفية بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ كما تقدم، ثم إنما لم يكن هذا طريقا صحيحا لتعيين الناسخ "فإن حاصله نسخ اجتهادي كقول الصحابي" هذا ناسخ "اجتهادا" على أنه يمكن أن يعارض بأن تأخر الموافق يستلزم تغييرين وتقدمه لا يستلزم إلا تغييرا واحدا والأصل قلة التغيير "وما قيل" وقائله التفتازاني "مع أن العلم بكون ما علم بالأصل ثابتا عند الشرع حكما من أحكامه فائدة جديدة" ولعله سبق قلم إذ الوجه حذفه أو فهو "متوقف على تسمية الشارع رفعه" أي رفع حكم الأصل "نسخا وهو" أي وكون رفعه يسمى نسخا شرعا "منتف بل الثابت" شرعا "حينئذ رفعه" أي رفع حكم الأصل "ولا يستلزم" رفعه "ذلك" أي كونه ناسخا "كرفع الإباحة الأصلية" فإنه لا يسمى نسخا، وإن كان رفعا ويطرقه ما تقدم آنفا وسالفا من أنه نسخ عند طائفة من الحنفية "وما للحنفية في مثله" أي مثل هذا "في التعارض" بين المحرم والمبيح "ترجيح المخالف حكما" كالمحرم على المبيح "بتأخره" أي باعتباره متأخرا "كي لا يتكرر النسخ" بناء على أصالة الإباحة معناه "أي" يتكرر "الرفع أو" النسخ "على حقيقته بناء على ما سلف عن الطائفة" الحنفية القائلين بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ في مسألة أجمع أهل الشرائع على جوازه ووقوعه "فلا يجب الوقف غير أنه مرجح لا ناسخ" ولعله يريد إلا أن كون المعارض مشتملا على ما يخالف الأصل مرجح على ما اشتمل على ما يخالف الأصل عند المعارضة لا ناسخ نقلي مثل ما قالت الحنفية وموافقوهم في(25/207)
ترجيح المخالف حكما بتأخره عن معارضه، وإن لزم منه القول بمنسوخية الآخر كما هو الشأن في كل متعارضين رجح المجتهد أحدهما كما تقدم في بحث مفهوم المخالفة وفائدة هذا الاستدراك التنبيه صريحا على نفي توهم كون المخالفة للأصل إذا لم يفد ثبوت نسخ ما اشتمل عليها للموافق للأصل أن لا يكون لها أثر بأن لها أثر وهو ترجيحها لما اشتملت عليه على ما وافق الأصل لا أن المراد لكن ما تقدم للحنفية مرجح لا ناسخ بخلاف ما نحن فيه إذ قد يظهر أن ما نحن فيه كذلك فلا يكون لتخصيص الاستدراك به وجه ظاهر هذا وقد عرف أن التراجيح قد تتعارض وهذا الترجيح يعارضه ما في تقديم الموافق على المخالف من أن التأسيس خير من التأكيد فيبقى النظر في أيهما أولى ولو ذهب ذاهب إلى تقديم ما لزم منه تقليل النسخ، وإن لزم كونه تأكيدا على ما يلزم فيه تكرر النسخ، وإن كان تأسيسا لكان أقرب من القلب إلى القلب والله سبحانه أعلم.(25/208)
ص -102-…الباب الرابع في الإجماع:
"الإجماع العزم والاتفاق لغة" يقال أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه والقوم على كذا إذا اتفقوا عليه فيتصور الإجماع بالمعنى الأول من واحد لا بالمعنى الثاني قيل والثاني بالمعنى الاصطلاحي أنسب انتهى وهو بناء على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد لا يكون قوله حجة كما هو أحد القولين فيه، ثم لقائل أن يقول المعنى الأصلي له العزم، وأما الاتفاق فلازم اتفاقي ضروري للعزم من أكثر من واحد؛ لأن اتحاد متعلق عزم الجماعة يوجب اتفاقهم عليه لا أن العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه كما ذكره القاضي فإنه ليس بمطرد ولا أنه مشترك لفظي بينهما كما ذكره الغزالي إذ لا ملجأ إليه مع أنه خلاف الأصل "واصطلاحا اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر شرعي" فاتفاق مجتهدي عصر يفيد اتفاق جميعهم أي اشتراكهم في ذلك الأمر المجمع عليه فخرج ما اتفق عليه بعضهم كما هو قول الجمهور وإنما الشأن فيما إذا انفرد واحد في عصر هل يكون قوله إجماعا فظاهر هذا لا ولا ضير؛ لأن الأظهر أن قوله ليس إجماعا كما سيأتي ويفيد أنه لا عبرة باتفاق غيرهم قيل اتفاقا وفيه نظر بل الجمهور على أنه لا يعتبر خلاف العامي الصرف ولا وفاقه والقاضي أبو بكر الباقلاني يعتبر مطلقا وآخرون يعتبر في الإجماع العام وهو ما ليس مقصورا على العلماء وأهل النظر بل يشترك فيه الخاصة والعامة لحاجة الجميع إلى معرفته كالإجماع على أمهات الشرائع من الصلاة والزكاة والصوم والحج وعلى وجوب الغسل وتحريم الربا وشرب الخمر لا في الإجماع الخاص وهو ما يختص بالرأي والاستنباط وما يجري مجراه فيختص به الخاصة من العلماء الذين هم شهداء الله كفرائض الصدقات وما يجب من الحق في الزروع والثمار وعلى هذا مشى الجصاص وفخر الإسلام ولا ضير فإن التعريف إنما هو للخاص. هذا وقد حكي خلاف في المراد باعتبار قول العامي في الإجماع فذكر(25/209)
السبكي أن المراد في صحة إطلاق أن الأمة أجمعت وأنه صريح كلام القاضي وذكر الآمدي أن المراد في افتقار كونه حجة، ثم لا شك في بعده بل في سقوطه لأن القول بغير دليل باطل والعامي ليس من أهل الاستدلال والنظر فلا يكون من أهل الإجماع فيما يحتاج إلى النظر كالصبي والمجنون فلا يعتد فيه بخلافه ولا وفاقه، على أن على اعتبار قوله لا يتحقق الإجماع لعدم إمكان ضبط العامة والإطلاع على أقاويلهم لإتساع انتشارهم شرقا وغربا واللازم منتف فالملزوم مثله، وأما العامي غير الصرف ممن حصل علما معتبرا من فقه أو أصول فمن الظاهر أن القاضي يعتبره في الإجماع بطريق أولى، وأما غيره فمنهم من طرد عدم اعتباره أيضا نظرا إلى فقد أهلية الاجتهاد ومنهم من اعتبره بحصول قوة النظر له في الأحكام أو في الأصول ولا كذلك العامي، ومنهم من اعتبر الفقيه لا الأصولي؛ لأن الفقيه عالم بتفاصيل الأحكام التي يبنى عليها الخلاف والوفاق ومنهم من(25/210)
ص -103-…عكس لكون الأصولي أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعلمه بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها وكيفية استفادتها منها، والأول هو المشهور وعليه التعريف ويفيده اختصاص الإجماع بالمسلمين؛ لأن الإسلام شرط في الاجتهاد ويلزمه خروج من يكفر ببدعته كالكافر أصالة. وأما العدالة فسينبه المصنف رحمه الله على وجوب التعرض لها في التعريف على قول مشترطها في أهل الإجماع واندفع بإضافة المجتهدين إلى عصر أي زمن طال أو قصر توهم أن لا يتحقق الإجماع إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم القيامة وخرج بقوله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إجماع الأمم السالفة فإنه ليس بحجة كما نقله في اللمع عن الأكثرين وهو الأصح كما هو ظاهر ما سيأتي من السنة خلافا للإسفراييني في جماعة أن إجماعهم قبل نسخ مللهم حجة وللآمدي موافقة للقاضي في اختياره الوقف وخرج بالأمر الشرعي وهو ما لا يدرك لولا خطاب الشارع سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا أو تقريرا ولو بالسكوت ما ليس كذلك وهو مشكل بإجماعهم على أمر لغوي كالفاء للتعقيب فقد ذكر الإسنوي أنه لا نزاع فيه وبما سيأتي آخر الباب أنه حجة في بعض العقليات خلافا لبعض الحنفية وأن المختار أنه أيضا حجة من أهل الاجتهاد والعدالة في الأمور الدنيوية ولا محيص عن هذا، إلا أن ثم أن يقال لا يشكل التعريف المذكور بالإجماع على كل من هذه؛ لأنه إن تعلق بها عمل أو اعتقاد صدق التعريف على الإجماع على كل منها؛ لأنه حينئذ إجماع على أمر شرعي، وإن لم يتعلق بها عمل ولا اعتقاد فليس الإجماع عليها من الإجماع المتكلم فيه وهو ما كان دليلا من أدلة الشرع موجبا لاعتبار ما يتعلق به فإن الإجماع على كل من هذه يمكن أن يقال: إنه ليس كذلك ولا شك في تمام الشق الأول، وأما الشق الثاني ففي تمامه نظر بل يقال ثبوت حجية الإجماع في الأمر الشرعي يفيد ثبوتها في الأمر اللغوي والعرفي بطريق أولى والله سبحانه أعلم. هذا وقال السبكي(25/211)
وينبغي أن يزاد في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإجماع لا ينعقد في زمانه كما ذكر الأكثرون منهم القاضي والإمام الرازي وابن الحاجب؛ لأن قولهم دونه لا يصح، وإن كان معهم فالحجة في قوله ولم أر أحدا ذكر هذا القيد ولا بد منه قلت وفيه نظر فإن في جواز انعقاد الإجماع في زمانه صلى الله عليه وسلم خلافا والوجه أنه ينعقد كما سأذكره من الميزان في ذيل مسألة لا إجماع إلا عن مستند وحينئذ فالوجه إسقاط هذا القيد لا أنه لا بد منه والله سبحانه أعلم.
"وعلى من شرط لحجيته" أي الإجماع "والتعريف له انقراض عصرهم" أي والحال أن التعريف لمشترط انقراض عصر أولئك المجتهدين في حجية إجماعهم أي الوقت الذي حدثت فيه المسألة وظهر الكلام فيها من مجتهديه "زيادة إلى انقراضهم" بعد أمر شرعي سواء كانت فائدة الاشتراط جواز الرجوع لا دخول من سيحدث في إجماعهم كما هو قول أحمد ومن تابعه أو إدخال من أدرك عصرهم من المجتهدين فيه كما هو قول باقي المشترطين ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم فإنه ليس بالإجماع المقصود وهو ما يكون حجة شرعا؛ لأن التعريف لما هو من الأدلة الشرعية وهو المقرون بالشرائط، ثم هذه الزيادة على قول هؤلاء ألزم والوجه(25/212)
ص -104-…ظاهر "و" على "من شرط" لحجية الإجماع "عدم سبق خلاف مستقر" وكان يرى جواز حصول الإجماع بعد الخلاف المستقر وكان التعريف له "زيادة غير مسبوق به" أي بخلاف مستقر بعد شرعي إن كان ممن لا يشترط انقراض العصر وبعد إلى انقراضهم إن كان ممن يشترطه ليخرج عن التعريف ما كان بعد خلاف مستقر بخلاف ما لو كان صاحب التعريف يرى عدم جواز حصول الإجماع بعد الخلاف المستقر فإنه لا يحتاج إلى هذه الزيادة؛ لأنه لا يدخل في الجنس فلا يحتاج إلى الإخراج أو كان يرى جواز حصوله بعد ذلك وينعقد فإنه لا يحتاج إليها أيضا؛ لأنه من أفراد المعرف فلا وجه لإخراجه، ثم مبنى هذا كله على أن الشروط المذكورة شروط لماهية الإجماع الشرعي كما ذكرنا آنفا.(25/213)
"وإذن" أي وإذ كان تعريفه يختلف بحسب اختلاف ما يتوقف حجيته عليه "فمن شرط العدالة" في المجمعين "وعدد التواتر" فيهم لحجيته كما الأول للحنفية وموافقيهم، والثاني لبعض الأصوليين منهم إمام الحرمين "مثله" أي زيادة ذلك في التعريف فيزاد إذا كان التعريف للأولين: " عدول بعد مجتهدي عصر " وللآخرين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بعد عدول إن كانوا ممن يرون هذا الشرط وإلا فبعد مجتهدي عصر وستتضح هذه الجمل في مسائل الباب وعلى هذا المنوال يعامل هذا التعريف بمزيد أو نقصان بحسب ما هو شرط المعرف فليتأمل "وقول الغزالي" في تعريفه "اتفاق أمة محمد على أمر ديني معترض بلزوم عدم تصوره" أي وجوده؛ لأن أمته كل المسلمين من بعثته إلى يوم القيامة فقبل القيامة لا إجماع وبعدها حجية "وفساد طرده" لو أريد به تنزيلا اتفاقهم في عصر ما "إن لم يكن فيهم مجتهد" فإنه لا يكون إجماعا مع صدق التعريف عليه "وأجيب بسبق إرادة المجتهدين في عصر للمتشرعة" من اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم "كما سبق" هذا المراد "من" نحو ما عنه صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وستقف على تخريجه من طرق، ثم كأنه اختار هذا اللفظ ليوافق الحديث الدال على حجية الإجماع وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] والاتفاق قرينة ذلك فإنه لا يمكن إلا بين الموجودين في عصر "و" بفساد "عكسه لو اتفقوا على عقلي أو عرفي" لوجود المعرف مع عدم التعريف "أجيب" بأن الاتفاق على كل منهما "لا يضر" بالتعريف "إذا كان" كل منهما "دينيا" لمنع عدم التعريف حينئذ "وغيره" أي الديني "خرج" بالديني فلا يضر عدم صدق التعريف عليه؛ لأنه لا حجية في الإجماع فيه ويطرقه ما تقدم آنفا "وادعى النظام وبعض الشيعة استحالته" أي الإجماع "عادة" كذا ذكره ابن الحاجب وغيره وذكر السبكي أن هذا قول بعض أصحاب النظام. وأما رأي النظام نفسه في بعض أصحابه فهو أنه يتصور ولكن لا(25/214)
حجة فيه كذا نقله وأبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وهي طريقة الإمام الرازي وأتباعه في النقل عنه وإنما أحاله من أحاله "لأن انتشارهم" أي المجتهدين في مشارق الأرض ومغاربها وقفار الفيافي وسباسبها "يمنع من نقل الحكم إليهم" عادة "ولأن الاتفاق" على الحكم الشرعي "إن" كان "عن" دليل "قطعي أحالت(25/215)
ص -105-…العادة عدم الإطلاع عليه" لتوفر الدواعي على نقله وشدة تفحصهم عنه وحينئذ فيطلع عليه "فيغني" القطعي "عنه" أي عن الإجماع ولكنه لم ينقل فلم يطلع عليه فليس الإجماع حينئذ عن قطعي "أو" كان "عن ظني أحالت" العادة "الاتفاق عنه لاختلاف القرائح" أي القوى المفكرة "والأنظار" ومواد الاستنباط عندهم وأحالتها لهذا "كإحالتها اتفاقهم على اشتهاء طعام" قالوا "ولو تصور" ثبوته في نفسه "استحال ثبوته عنهم" أي المجمعين "لقضائها" أي العادة "بعدم معرفة أهل المشرق والمغرب" بأعيانهم "فضلا عن أقوالهم مع خفاء بعضهم لخموله" أي لكونه غير معروف بالاجتهاد مع أنه مجتهد "ونحو أسره" في دار الحرب في مطمورة أو عزلته وانقطاعه عن الناس بحيث يخفى أثره "وتجويز رجوعه" عن ذلك "قبل تقرره" أي الإجماع عليه بأن يرجع قبل قول الآخر به فلا يجتمعون على قول في عصر إذ لا يمكن السماع منهم في آن واحد بل إنما يكون في زمان متطاول وهو مظنة تغير الاجتهاد قالوا "ولو أمكن" ثبوته عنهم "استحال نقله إلى من يحتج به وهم" أي المحتجون به "من بعدهم لذلك بعينه" أي لقضاء العادة بإحالة ذلك كما سيتضح فإن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد "و" استحال "لزوم التواتر في المبلغين" عادة لتعذر أن يشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين شرقا وغربا ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل التواتر هكذا طبقة بعد طبقة إلى أن يتصل بنا، وأما الآحاد فلا يصلح هنا "إذ لا يفيد الآحاد" العلم بوقوعه وكان الأولى حذف "والعادة تحيله" أي لزوم التواتر في المبلغين كما بينا وذكر عادة بعد المبلغين كما ذكرنا "والجواب منع الكل" أي القول بعدم ثبوته في نفسه وبعدم ثبوته عن المجمعين على تقدير ثبوته عن نفسه وبإحالة العادة نقله إلى من يحتج به بعدهم "مع ظهور الفرق بين الفتوى بحكم و" بين "اشتهاء طعام" واحد وأكله للكل فإن هذا لا إجماع لهم عليه لاختلافهم في الدواعي له طبعا ومزاجا وغيرهما بخلاف(25/216)
الحكم الشرعي فإنه تابع للدليل فلا يمتنع اجتماعهم عليه لوجود دليل قاطع أو ظاهر "وما بعد" أي وما بعد هذه الشبهة من الشبهتين الأخريين "تشكيك مع الضرورة إذ نقطع بإجماع كل عصر" من الصحابة وهلم جرا "على تقديم" الدليل "القاطع على المظنون" وما ذاك إلا بثبوته عنهم ونقله إلينا ولا عبرة بالتشكيك في الضروريات "ويحمل قول أحمد من ادعاه" أي الإجماع "كاذب على استبعاد انفراد اطلاع ناقله" عليه إذ لو لم يكن كاذبا لنقله غيره أيضا كما يشهد به لفظه في رواية ابنه عبد الله وهو من ادعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه لا إنكار لتحقق الإجماع في نفس الأمر إذ هو أجل أن يحوم حوله قلت ويؤيده ما أخرج البيهقي عنه قال أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة يعني {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فهذا نقل للإجماع فلا جرم أن قال أصحابه إنما قال هذا على جهة الورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأن أحمد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة وذهب ابن تيمية والأصفهاني إلى أنه أراد غير إجماع الصحابة. أما إجماع الصحابة فحجة معلوم تصوره لكون(25/217)
ص -106-…المجمعين ثمة في قلة والآن في كثرة وانتشار قال الأصفهاني والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجد مكتوبا في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة، وأما بعدهم فلا وقال ابن رجب إنما قاله إنكارا على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد التابعين أو بعد القرون الثلاثة انتهى. هذا وقال أبو إسحاق الإسفراييني نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة ولهذا يرد قول الملاحدة أن هذا الدين كثير الاختلاف ولو كان حقا لما اختلفوا فنقول أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر من مائة ألف مسألة يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد والخلاف، ثم في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع من نفسه وفي بعض ينقض حكمه وفي بعضها يتسامح فلا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة.(25/218)
"وهو" أي الإجماع "حجة قطعية" عند الأمة "إلا" عند "من لم يعتد به من بعض الخوارج والشيعة؛ لأنهم" أي الخوارج والشيعة "مع فسقهم" إنما وجدوا "بعد الإجماع عن عدد التواتر من الصحابة والتابعين على حجيته" أي الإجماع "وتقديمه على القاطع" وهذا متوارث الشك فيه كالشك في الضروريات، "وقطع مثلهم" أي الصحابة والتابعين بمثله "عادة لا يكون إلا عن سمعي قاطع في ذلك" الحكم المجمع عليه؛ لأن تركهم القاطع لظني بعيد جدا "فيثبت" الإجماع على أن الإجماع حجة قطعية "به" أي بالسمعي القاطع المقتضي له وهو المطلوب. فإن قيل هذا دور؛ لأنه استدلال على حجية الإجماع بالإجماع قلنا ممنوع بل إنما استدللنا على كونه حجة قطعية بسمعي قاطع اقتضى ذلك "وذلك الاتفاق بلا اعتبار حجيته" أي الاتفاق نفسه "دليله" أي السمعي القاطع يعني الاستدلال على حجية الإجماع وقع بالإجماع بلا اعتبار حجيته بل بمجرده وأثبت المطلوب لكونه دليلا على أنه كان عن سمعي قاطع فالمثبت لحجية أن الإجماع حجة قاطعة دليل سمعي قاطع، عرفنا وجود ذلك الاتفاق الكائن من الصحابة والتابعين البالغين عدد التواتر على حجية الإجماع وتقديمه على القاطع فالمتوقف في الحقيقة غير المتوقف عليه "فلا دور" وهذا الإجماع المستدل به "بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم؛ لأنه عن" نظر "عقلي يزاحمه الوهم" فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلا عن المحققين المجتهدين "على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوثه" أي العالم "منهم" أي الفلاسفة فلا إجماع لهم على ذلك ومما يدل على ذلك ما حكاه لنا المصنف رحمه الله عند قراءة هذا المحل عليه من كتابة وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه أنباء الرواة على أبناء(25/219)
ص -107-…النحاة، ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المقري1 عمن ذكر أنه قرئ بحضرته يوما أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطا إلا على جبل فامتثلوا وتعسر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم فأعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسا فقال اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسه وضع على حجر أم لا ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونا من الأصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف قلم اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين لما أن كان العالم محدثا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين وأشياعهما، حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند ناديه بخير فعل والسلام. فأطرق أبو العلاء عند سماع ذلك وأخذ الجماعة في التعجب من أمر هذا الهيكل وأمر الأسطوان المؤرخ به وفي أي زمان كان فلما فرغوا من ذلك رفع أبو العلاء رأسه وأنشد في صورة متعجب:
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة …كما قال قوم ما جديس وما طسم(25/220)
وأمر بتسطير الحكاية على ظهر جزء من " استغفر واستغفري " بخط ابن أبي هاشم كاتبه وأكثر من نقل الكتاب نقل الحكاية على مثل الجزء الذي هي مسطورة عليه انتهى. قلت وقد ذكرها مختصرة ياقوت الحموي في معجم البلدان لكن مع زيادة بين ذي اللحيين وبين حينئذ هي فوجبت عبادة خالق المخلوقات، وهي زيادة حسنة وبدل على مضي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام على مضي سبعة آلاف وتسعمائة عام وأفاد من أهل الأسطوان قوم من الحكماء الأول كانوا ببعلبك حكى ذلك أحمد بن الطبيب السرخسي الفيلسوف والله تعالى أعلم.
"وإجماع اليهود على نفي نسخ شرعهم عن موسى عليه السلام و" إجماع "النصارى على صلب عيسى عليه السلام" إنما هو "لاتباع الآحاد الأصل" لاتباعهم في هذين الافتراءين لآحاد أوائلهم هم أهل الطبقة الأولى فيهما "لعدم تحقيقهم" إذ لو كانوا محققين لم يجمعوا عليهما؛ لأنهما موضوعان "بخلاف من ذكرنا" من الصحابة والتابعين فإنهم محققون غير متبعين لأحد في ذلك "لأنهم الأصول" والحاصل أنه لا يرد كل من هذه الإجماعات نقضا على أن العادة حاكمة بأن مثل الاتفاق لا يكون إلا عن قاطع لانتفاء الشرعية في الأول والتحقيق في الأخيرين فهذا دليل عقلي على أن الإجماع حجة قطعية "ومن" الأدلة "السمعية آحاد تواتر
1 قوله المقري كذا في نخسة وفي أخرى المغربي. فليحرر انتهى مصححه.(25/221)
ص -108-…منها" قدر هو "مشترك لا تجتمع أمتي على الخطأ ونحوه كثير" بإضافة " مشترك " إلى ما بعده وجر " نحوه " بالعطف على لا تجتمع وكثير على أنه صفته أي القدر المشترك بين هذا الحديث وغيره وهو عصمة الأمة عن الخطأ فأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار" وقال غريب من هذا الوجه وأبو نعيم في الحلية واللالكائي في السنة بلفظ "إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار" قال شيخنا الحافظ ورجاله رجال الصحيح إلا أنه معلول، ثم بين علته وابن ماجه بلفظ "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" والحاكم بلفظ "لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة" ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون فإنهما لم يخرجا له وبلفظ "إن الله لا يجمع جماعة محمد على ضلالة"، ثم قال صحيح على شرط مسلم وأحمد والطبراني عن أبي هانئ الخولاني عمن أخبره عن أبي بصرة الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها" الحديث قال شيخنا الحافظ ورجاله رجال الصحيح إلا التابعي المبهم وله شاهد مرسل رجاله رجال الصحيح أيضا أخرجه الطبري في تفسير سورة الأنعام إلى غير ذلك وهذا طريق الغزالي واستحسنه ابن الحاجب، "ومنها" قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] "وهو" أي غير سبيل المؤمنين "أعم من الكفر جمع بينه" أي بين اتباع غير سبيلهم "وبين المشاقة" للرسول صلى الله عليه وسلم "في الوعيد" الشديد(25/222)
"فيحرم" اتباع غير سبيلهم إذ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد؛ لأنه لا دخل للمباح فيه وإذا حرم اتباع غير سبيلهم يجب اتباع سبيلهم إذ لا مخرج بحسب الوجود عنهما؛ لأن ترك اتباع سبيلهم اتباع لسبيل غيرهم إذ معنى السبيل هنا ما يختاره الإنسان لنفسه ويعرف به من قول أو فعل والإجماع سبيلهم فيجب اتباعه وهو المطلوب.
"ويعترض" هذا الاستدلال "بأنه إثبات حجية الإجماع بما" أي بشيء "لم تثبت حجيته" أي ذلك الشيء "إلا به" أي بالإجماع "وهو" أي ذلك الشيء "الظاهر" وهو الآية الشريفة "لعدم قطعية سبيل المؤمنين في خصوص المدعى" وهو الإجماع لجواز أن يريد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته ودفع الأعداء عنه أو في الاقتداء به أو فيما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع الدال على التمسك بالظواهر المفيدة للظن إذ لولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36]، فكان الاستدلال به إثباتا للإجماع بما لم تثبت حجيته إلا به فيصير دورا وأفادنا المصنف في الدرس بأنه يمكن الجواب عن هذا على طريقة أكثر الحنفية بأن هذا الاحتمال لا يقدح في قطعيته فإن حكم العام عندهم ثبوت الحكم فيما تناوله قطعا ويقينا فيتم التمسك به من غير احتياج إلى الإجماع الدال على جواز(25/223)
ص -109-…التمسك بالظواهر المفيدة للظن؛ لأن الواقع أنه غير مثبت للحكم فيما تناوله بطريق الظن. قلت إلا أن السبكي ذكر أن الشافعي استنبط الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع وأنه لم يسبق إليه وحكى أنه تلا القرآن ثلاث مرات حتى استخرجه روى ذلك البيهقي في المدخل وساق فيه حكاية طويلة غريبة بسنده، ولم يدع أعني الشافعي القطع فيه ا هـ فإن ادعى الظن فلا إشكال لكن المطلوب القطع، وإن ادعى القطع أشكل بقوله بظنية دلالة العام اللهم إلا أن يدفع هذا بأن ظنيتها حيث لا قرينة تفيد القطع بذلك وهاهنا قد احتف بما يوجب القطع بذلك لكن الشأن في ذلك، ثم بعد ذلك لم يكن مجرد الآية وحدها دليلا مستقلا في إفادة المطلوب فليتأمل والله أعلم.(25/224)
"والاستدلال" كما ذكر إمام الحرمين على حجية الإجماع "بأنه" أي الإجماع "يدل على" وجود دليل "قاطع في الحكم" المجمع عليه "عادة" لقضائها بامتناع اجتماع مثلهم على مظنون فيكون قولهم حجة قطعية لذلك القاطع لا لقولهم وهو المطلوب "ممنوع" فإن سند الإجماع قد يكون ظنيا ولا نسلم قضاء العادة بذلك دائما بل يمتنع اتفاقهم على مظنون دق فيه النظر لا في القياس الجلي وأخبار الآحاد بعد العلم بالظواهر ولما كان هذا مظنة أن يقال فلا يتم الاستدلال بإجماع الصحابة على حجية الإجماع لغير هذا، وحينئذ لا نسلم أيضا إجماعهم على تقديمه على القاطع دفعه بقوله "بخلاف ما تقدم فإنه" أي القطع ثمة "قطع كل" من المجمعين فإنه قول بأصل ديني اعتقادي فلا بد من قطع قائله به "والقطع هنا" أي فيما سواه قد يكون "بعده" أي الإجماع وهذا من خواص المصنف رحمه الله "قالوا" أي المخالفون قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا مرجع إلى غير الكتاب والسنة؛ لأن الرجوع إليهما رجوع إلى الله والرسول "الجواب لو تم" هذا "انتفى القياس ولا ينفونه" أي المخالفون "فإن رجعتموه" أي القياس "إلى أحدهما" أي الكتاب والسنة "لثبوت أصله" أي القياس وهو المقيس عليه "به" أي بأحدهما "فكذا لا إجماع إلا عن مستند" وهو أحدهما أو القياس الراجع إلى أحدهما وحيث كان ذاك ردا إلى الله والرسول فكذا هذا "أو خص" وجوب الرد "بما فيه" النزاع لكونه جوابا له "وهو" أي ما فيه النزاع "ضد المجمع عليه" هذا "إن لم يكن" وجوب الرد "خص بالصحابة" بقرينة الخطاب "ثم" لو سلم عدم الاختصاص فغايته أنه "ظاهر لا يقاوم القاطع" الذي هو أول الأدلة الدالة على حجية الإجماع "وأيضا" قالوا "نحو" قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا(25/225)
بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] إلى غير ذلك مما ورد نهيا عاما للأمة "يفيد جواز خطئكم" أي الأمة إذ الخطاب عام لهم ولولا جواز صدور كل من المنهيات عن جميعهم لما أفاد النهي إذ لا ينهى عن الممتنع "أجيب بعدم كونه" أي النهي "منعا لكل" وحينئذ لا يلزم جواز كون الكل ذا خطأ "لا الكل" أي الجميع كما قلتم به ورتبتم عليه لزوم جواز صدور كل من المنهيات عن جميعهم "يمنع استلزام النهي جواز صدور المنهي" عن المكلف "بل يكفي فيه" أي في كون النهي صحيحا "الإمكان الذاتي" لوقوع النهي "مع الامتناع بالغير" أي كونه ممتنعا(25/226)
ص -110-…بعارض من العوارض فلا يلزم جواز خطئهم. على أن الجواز عقلي بمعنى أنه لو وقع لم يلزم منه محال عقلا فلا يلزم منه الوقوع "ومفاده" أي النهي حينئذ "الثواب بالعزم" على ترك المنهي إذا خطر له فعله وهو من أعظم الفوائد، ثم هذه جرت العادة باستطرادها في الأصول فوافقهم المصنف على ذلك وإلا فهي من مسائل الفقه كما ذكر في المقدمة فكن منه على ذكر.
مسألة
"انقراض المجمعين" على حكم أي موتهم عليه "ليس شرطا" لانعقاده ولا "لحجته" أي إجماعهم "عند المحققين" منهم الحنفية ونص الشيخ أبو بكر الرازي والقاضي عبد الوهاب على أنه الصحيح وابن السمعاني على أنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي والإمام على أنه المختار والرافعي على أنه أصح الوجهين فيكون اتفاقهم حجة في الحال "فيمتنع رجوع أحدهم" أي المجمعين على ذلك الحكم لصيرورة قوله الأول مع قول موافقيه حجة عليه "وخلاف من حدث" من المجتهدين بعد إجماعهم فيه "وشرطه" أي انقراضهم "أحمد وابن فورك" وسليم الرازي والمعتزلة على ما نقله ابن برهان والأشعري على ما ذكره الأستاذ أبو منصور "مطلقا" أي سواء كان إجماعهم عن قطع أو ظن "إن كان سنده قياسا" لا إن كان نصا قاطعا كذا ذكره ابن الحاجب وغيره. قال السبكي وهو وهم فإمام الحرمين لا يعتبر الانقراض ألبتة بل يفرق بين المستند إلى قاطع، وإن كان في مظنة الظن فلا يشترط فيه تمادي زمان وينهض حجة على الفور والظني فيشترط تمادي الزمان حتى لو خر على المجمعين سقف عقب الاتفاق أو عمهم الهلاك بوجه من الوجوه. قال فلست أرى ذلك إجماعا، ثم هو مصرح بأن ما ذكره من الظني متعذر أو محال؛ لأن الظنون لا تستقيم على منوال واحد مع التمادي قال إلا أن يتكلف المتكلف وجها فيقول يعمهم ظهور وجه من الظن قال وللفطن أن يقول ما انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزى إلى القطع "وقيل" يشترط الانقراض "في السكوتي" وهو ما كان بفتوى البعض وسكوت الباقين لضعفه لا ما إذا كان بصريح(25/227)
أقوالهم وأفعالهم أو بهما معا، وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراييني وبعض المعتزلة واختاره الآمدي، وزعم سليم انقراض العصر في السكوتي معتبر بلا خلاف، وإنما محل الخلاف القولي وقيل ينعقد قبل الانقراض فيما لا مهلة فيه ولا يمكن استدراكه من قبل نفس واستباحة حكاه ابن السمعاني عن بعض الشافعية وقيل إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك اشترط قطعا، وإن تعلق بها ذلك فوجهان وهذا طريق الماوردي وقيل انقراض العصر شرط في إجماع الصحابة دون غيرهم وعليه مشى الطبري، ثم من المشترطين من اشترط انقراض جميع أهله ومنهم من اشترط انقراض أكثرهم فإن بقي من لا يقع العلم بصدق خبره كواحد واثنين لم يعتبر ببقائه كذا في تقريب القاضي ولفظ الغزالي في منخوله اختلف المشترطون فقيل يكتفى بموتهم تحت هدم دفعة إذ الغرض انتهاء أعمارهم عليه والمحققون لا بد من انقضاء مدة تفيد فائدة فإنهم قد يجمعون على رأي وهو معرض للتغيير، ثم القائلون بالاشتراط اختلفوا فقيل شرط في انعقاده وقيل في كونه حجة.(25/228)
ص -111-…هذا وفي الكشف وغيره واختلف في فائدة هذا الاشتراط فأحمد ومتابعوه جواز رجوع المجمعين أو بعضهم عما أجمعوا عليه قبل الانقراض لا دخول من سيحدث في إجماعهم واعتبار موافقيه للإجماع حتى لو أجمعوا وانقرضوا مصرين على ما قالوا يكون إجماعا وإن خالفهم المجتهد اللاحق في زمانهم، وقياس هذا أن لا يكون المخالف خارقا للإجماع لوقوع الخلاف قبل الحكم بانعقاد الإجماع إذ اتفاقهم ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا انقرضوا لم يبق ذلك الخلاف معتبرا ويكون قول المخالف إذ ذاك خرقا للإجماع وذهب الباقون إلى أنها جواز الرجوع وإدخال من أدرك عصرهم من المجتهدين في إجماعهم، ثم لا يشترط انقراض عصر المدرك المدخل في إجماعهم وإلا لم يتم انعقاد إجماع أصلا كما نقله إمام الحرمين وغيره عنهم.(25/229)
"لنا" الأدلة "السمعية توجبها" أي حجية الإجماع "بمجرده" أي الاتفاق من مجتهدي عصر من الأمة على حكم شرعي ولو في لحظة إذ الحجة إجماعهم لا انقراضهم فلا موجب لاشتراطه "قالوا" أي المشترطون "يلزم" عدم اشتراطه "منع المجتهد عن الرجوع" عن ذلك الحكم "عند ظهور موجبه" أي الرجوع "خبرا" كان الموجب "أو غيره" واللازم باطل. أما إذا كان خبرا فلاستلزامه عدم العمل بالخبر الصحيح وقد اطلع عليه، وأما إذا لم يكن خبرا بإن كان إجماعهم عن اجتهاد فلأنه لا حجر على المجتهد في الرجوع عند تغير اجتهاده بيان اللزوم أنه إذا تغير اجتهاد بعض المجمعين وقد انعقد الإجماع باجتهاده فنحكم باجتهاده الأول ولا يمكن من العمل باجتهاده الثاني لمخالفته الإجماع "أجيب" وجود الخبر مع ذهول المجمعين عليه "يعيد بعد فحصهم" عنه والإطلاع عليه بعد الذهول الكائن بعد الفحص أبعد "ولو سلم" وجوده بعد ذهولهم الكائن بعد فحصهم والإطلاع عليه "فكذا" يقال للمشترطين إجماعكم بعد الانقراض ليس بحجة لاستلزام حجته إلغاء الخبر الصحيح إذا اطلع عليه من بعدكم "فهو" أي هذا الإلزام "مشترك" بيننا وبينكم فما هو جوابكم عنه هو جوابنا وهذا جواب جدلي "والحل" وهو الجواب الجدلي "يجب ذلك" أي إلغاء الخبر الصحيح المخالف حكمه لما أجمع عليه تقديما للقاطع وهو الإجماع على ما ليس بقاطع وهو الخبر الصحيح الذي اطلع عليه بعد ذلك ولا نسلم أنه غير محجور عن الرجوع عن اجتهاده المجمع عليه والحاصل أنا لا نسلم أن اللازم باطل مطلقا بل عند عدم الإجماع، وأما معه فالمنع عن الرجوع واجب "ولذا" أي كون الرجوع عند ظهور موجبه ليس مطلقا بباطل بل فيما إذا انعقد الإجماع عليه "قال عبيدة" بفتح العين المهملة السلماني "لعلي" رضي الله عنه "حين رجع" عن عدم جواز بيع أمهات الأولاد "قبله" أي انقراض المجمعين عليه حيث قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد أن يبعن ومقول قول عبيدة(25/230)
"رأيك" ورأي عمر "في الجماعة أحب" إلي "من رأيك وحدك" في الفرقة فضحك علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق وليس هذا من علي رضي الله عنه مخالفة للإجماع بل كما قال المصنف "وغاية الأمر أن عليا رضي الله عنه يرى اشتراطه" أي انقراض العصر، ثم ليس هذا الرأي منه(25/231)
ص -112-…المدلول عليه بهذه الواقعة مع مخالفة غيره من الصحابة فيه بمتعين الاعتبار حتى ينتهض حجة للمخالفين على أن الذي في رواية البيهقي عن علي رضي الله عنه أنه خطب على منبر الكوفة فقال اجتمع رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر أن لا تباع أمهات الأولاد وأنا الآن أرى بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فأطرق رأسه، ثم قال اقضوا فيه ما أنتم قاضون فأنا أكره أن أخالف أصحابي "قالوا" أي المشترطون ثانيا "لو لم تعتبر مخالفة الراجع؛ لأن الأولى كل الأمة لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقي كل الأمة" واللازم باطل "أجيب عدم اعتبار" مخالفة "الميت مختلف" فيه فعلى عدم الاعتبار له نمنع بطلان اللازم ويلزم أن لا قول للميت "وعلى الاعتبار" له نمنع الملازمة، وحينئذ "الفرق" بينهما "تحقق الإجماع" أولا بموافقته "قبل الرجوع فامتنع" اعتبار مخالفته ثانيا "ولم يتحقق" الإجماع "قبل الموت" أي موت المخالف، ثم القول لم يمت بقول قائله؛ لأن اعتبار قول قائلة لدليله لا لذات القائل؛ لأن قول غير صاحب الشرع لا يعتبر إلا بالدليل ودليل الميت باق بعد موته فكان كبقائه مخالفا فهو قول بعض من وجد من الأمة وهو متحقق عند الإجماع فلا ينعقد مع مخالفته. هذا وكون فائدة الاشتراط جواز رجوع الجميع والبعض لا دخول من سيحدث قبل انقراضهم تحكم؛ لأنه إذا كان الفرض أنه لا يكون إجماعا حتى ينقرض العصر وقد وجد مجتهد قبل انقراضهم فلم لا يدخل ويعتبر حتى لا يتم انعقاد الإجماع مع مخالفته كما أنه يعتبر رجوع بعضهم من غير أن ينسب إليه مخالفة الإجماع أفادني معنى هذا المصنف رحمه الله، ثم لقائل أن يقول وإذا كان اللاحق صار كالسابق في اعتبار قوله فينبغي أن يشترط انقراض عصره كما في السابق وكون اعتبار انقراض عصره أيضا يؤدي إلى عدم استقرار الإجماع لا يوجب عدم اعتباره بل عدم اعتبار هذا القول المؤدى إليه فليتأمل.
مسألة(25/232)
"أكثر الحنفية والمحققون من الشافعية" كالحارث المحاسبي والإصطخري والقفال الكبير والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ والإمام الرازي وأتباعه "وغيرهم" كالجبائي وابنه "لا يشترط لحجيته" أي الإجماع "انتفاء سبق خلاف مستقر" لغير المجمعين بأن اختلف أهل عصر في مسألة واعتقد كل حقية ما ذهب إليه ولم يكن خلافهم على طريق البحث عن المأخذ من غير أن يعتقد أحد في المسألة حقية شيء من الأقوال فيها ولم يكن في مهلة النظر حتى تبقى المسألة اجتهادية كما كانت "وخرج عن أبي حنيفة اشتراطه" أي انتفاء سبق خلاف مستقر لغيرهم كما هو مذهب الشافعي على ما قاله الغزالي في المنخول وابن برهان وذكر أبو إسحاق الشيرازي أنه قول عامة الشافعية وفي المحصول أنه قول كثير من المتكلمين وفقهاء الشافعية والحنفية ونقله سراج الهندي عن أحمد والأشعري والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي واختاره الآمدي "ونفيه" أي نفي اشتراط سبق خلاف مستقر لغيرهم "عن محمد وعن أبي يوسف كل" من اشتراطه ونفي اشتراطه "من القضاء ببيع أمهات الأولاد المختلف" فيه جواز وعدم جواز "للصحابة" كما يفيده ما أخرج البيهقي والطبراني عن سلامة بنت معقل(25/233)
ص -113-…قالت كنت للحباب بن عمرو فمات ولي منه ولد فقالت لي امرأته الآن تباعين في دينه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال من صاحب تركة الحباب بن عمرو فقالت أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تبيعوها وأعتقوها فإذا سمعتم برقيق جاءني فأتوني أعوضكم منها ففعلوا فاختلفوا فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم أم الولد مملوكة ولولا ذلك لم يعوضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم بل هي حرة قد أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد إسحاق بن إبراهيم الرازي في روايته ففي ذا كان الاختلاف، "المجمع للتابعين على أحد قوليهم" أي الصحابة "من المنع" والأحسن إسقاط من على إبدال المنع من أحد قوليهم "لا ينفذ" بيعهن "عند محمد"؛ لأنه قضاء بخلاف الإجماع؛ لأن جواز البيع لم يبق اجتهاديا بالإجماع في العصر الثاني وقضاء القاضي على خلاف الإجماع لا يصح فينتقض قضاؤه "وعن أبي حنيفة ينفذ"؛ لأنه لم يخالف الإجماع على عدم جواز بيعهن؛ لأن الخلاف السابق منع انعقاد الإجماع المتأخر فلا ينقض "ولأبي يوسف مثلهما" فقد ذكره السرخسي مع أبي حنيفة وصاحب الميزان مع محمد وفي التحقيق وغيره وهو الأصح وفي كشف البزدوي وقد حكي عنه نصا أن الإجماع بعد الاختلاف ينعقد ويرتفع الخلاف كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه "والأظهر" من الروايات كما في الفصول الأسروشنية وغيرها "لا ينفذ عندهم" فقد ذكر في التقويم أن محمدا روى عنهم جميعا أن القضاء ببيع أم الولد لا يجوز "وفي الجامع يتوقف على إمضاء قاض آخر" إن أمضاه نفذ وإلا بطل وكلام السرخسي يفيد أن المخرج من هذه المسألة عن محمد عدم اشتراط انتفاء سبق خلاف مستقر وعنهما اشترطه شيخه شمس الأئمة الحلواني، ثم هذا يفيد أن إجماع الصحابة لم ينعقد آخرا على عدم جواز بيعهن وإلا فليس إجماع التابعين على ذلك كما حكاه كثير مثالا لعدم اشتراط(25/234)
انتفاء سبق خلاف مستقر لأهل عصر سابق والأشبه ذلك ما قد سمعت عن علي رضي الله عنه وأخرج البيهقي بإسناد صحيح عنه قال ناظرني عمر في أمهات الأولاد فقلت يبعن وقال لا يبعن فلما أفضي الأمر إلي رأيت أن يبعن وعبد الرزاق عنه عهد في وصيته فقال إني تركت تسع عشرة سرية فأيتهن كانت ذات ولد فلتقوم في حصة ولدها، ثم تعتق. وأخرج البيهقي وابن المنذر بسند رجاله ثقات عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى ابن مسعود فسألناه عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها وعن ابن عباس قولان أحدهما على وفاق ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن والآخر فيه جواز البيع مطلقا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح وأخرج البيهقي بسند صحيح عن نافع قال لقي ابن عمر رجلان بطريق المدينة فقالا تركنا هذا الرجل يعنيان ابن الزبير يبيع أمهات الأولاد. قال لكن أبا حفص عمر أتعرفانه؟ قالا نعم قال قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها صاحبها ما عاش فإذا مات فهي حرة ونقله في التقويم عن جابر وقال آخرون من مشايخنا كالكرخي والرازي والسرخسي لا يدل القول بنفاذ القضاء ببيعهن على أن الاختلاف السابق يمنع انعقاد الإجماع المتأخر قال(25/235)
ص -114-…السرخسي والأوجه عندي أن هذا إجماع عند أصحابنا جميعا للدليل الدال على أن إجماع أهل كل عصر إجماع معتبر ومشى عليه صاحب المنار وذكر القاآني أنه الصحيح عند أصحابنا وحينئذ "فالتخريج لهذا القول على عدمه" أي عدم اشتراط انتفاء الخلاف السابق لانعقاد الإجماع اللاحق "أن" الإجماع "المسبوق" بخلاف مستقر "مختلف" في كونه إجماعا فأكثر العلماء ليس بإجماع والآخرون إجماع فيه شبهة "ففيه" أي في اعتباره حينئذ "شبهة" عند من جعله إجماعا بمنزلة خبر الواحد حتى لا يكفر جاحده ولا يضلل وإذا كان في اعتبار هذا الإجماع شبهة "فكذا متعلقه" أي فكذا في اعتبار متعلق هذا الإجماع وهو الحكم المجمع عليه شبهة "فهو" أي القضاء بذلك الحكم نافذ لأنه ليس بمخالف للإجماع القطعي بل لإجماع مختلف فيه فكان "كقضاء في مجتهد" فيه أي في حكم مختلف في اعتباره فينفذ ويصير لازما ومجمعا عليه ولا يتوقف نفاذه على إمضاء قاض آخر فيه بخلاف قضاء الأول كان باطلا ولو كان نفس القضاء مختلفا فيه كأن استقضيت امرأة في الحدود فقضت فيها فرفع إلى قاض آخر فأبطله جاز؛ لأن نفس القضاء الأول مختلف فيه فكذا هذا كذا في كشف البزدوي وغيره، ولكن لقائل أن يقول كون أظهر الروايات أنه لا ينفذ ومشى عليه الخصاف حيث ذكر أن للقاضي أن ينقض القضاء ببيع أم الولد؛ لأنه مخالف لإجماع التابعين هو الأشبه، ثم الأظهر أن الخلاف في القضاء ببيع أمهات الأولاد في نفس القضاء أيضا كما في متعلقه الذي هو جواز البيع لا في نفس متعلقه فقط فيتجه ما في الجامع؛ لأن قضاء الثاني هو الذي يقع في مجتهد فيه أعني الأول فلا جرم أن في الكشف وهذا أوجه الأقاويل.(25/236)
"تنبيه"، ثم الذي عليه الأئمة الأربعة عدم جواز بيع أم الولد وحيث كان القاضي مقلدا لأحدهم كما عليه الحال الآن في سائر الأقطار بل دائما يفوض إليه القضاء ليقضي على مذهب مقلده الذي هو أحدهم نقلا أو تخريجا فلو وقع قضاء قاض من قضاة الزمان ببيع أمهات الأولاد لا ينفذ، وإن نفذه ذو عدد كثير منهم على اختلاف مذاهب مقلديهم والوجه ظاهر فليتنبه له.
"لنا" على عدم اشتراط هذا الشرط "الأدلة" المتقدمة على حجية الإجماع له "لا نفصل" بين ما سبقه خلاف أو لا فيعمل بمقتضى إطلاقها "قالوا" أي الشارطون "لا ينتفي القول بموت قائله حتى جاز تقليده" أي قائله "والعمل به" أي بقوله ولهذا يدون ويحفظ "فكان" قوله "معتبرا حال اتفاق اللاحقين فلم يكونوا" أي اللاحقون "كل الأمة" فلا إجماع "قلنا جواز ذلك" أي تقليد الميت والعمل بقوله "مطلقا ممنوع بل" جوازه "ما لم يجمع على" القول "الآخر" المقابل له أما إذا أجمع على الآخر "فينتفي اعتباره" أي ذلك القول السابق "لا وجوده كما بالناسخ" فإن الناسخ ينفي اعتبار المنسوخ لا وجوده فلا يسوغ والحالة هذه تقليده والعمل بقوله بل هذا من قبيل النسخ كما صرح به فخر الإسلام حيث قال ولكنه نسخ بالإجماع فكان ساقطا كقياس نزل بعده نص بخلافه يكون منسوخا ساقطا انتهى. وقال صاحب كشفه أي لم(25/237)
ص -115-…يبق معتبرا معمولا به بعد ما انعقد الإجماع على خلافه كنص نزل بخلاف القياس يخرج القياس عن أن يكون معمولا به، وعلى هذا فقد كان الأولى أن يقال كما هو شأن الناسخ أو غيره من النواسخ نعم قال صاحب الميزان هذا ضعيف؛ لأن بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خرجت الأحكام عن احتمال النسخ لانقطاع الوحي الذي توقف النسخ عليه بوفاته بل الجواب الصحيح أن بإجماع التابعين تبين أن ذلك لم يكن دليلا بل كان شبهة؛ لأن الدليل لا يظهر خطؤه أيضا بل يتقرر بمضي الزمان فأما الشبهة فتزول وقد قام الدليل على البطلان فتبين أنه شبهة لكن قال في الكشف ويمكن أن يجاب عنه بأن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبق مشروعية النسخ بالوحي وبقيت الأحكام الثابتة في زمانه على ما كانت فأما الأحكام الثابتة بالاجتهاد أو بالإجماع بعد الرسول فيجوز أن تنسخ وهو مختار المصنف يعني فخر الإسلام بأن يوفق الله تعالى بعد ثبوت حكم بإجماع أو باجتهاد أهل عصر آخر أن يتفقوا على خلافه بناء على اجتهاد سنح لهم على خلاف اجتهاد أهل العصر المتقدم ويكون هذا بيانا لانتهاء مدة الحكم الأول كما في النصوص ولا يقال هذا غير جائز؛ لأنه لا مدخل للرأي في معرفة انتهاء مدة الحكم؛ لأنا لا ندعي أنهم يعرفون انتهاء مدة الحكم بآرائهم بل نقول لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة وفقهم الله للاتفاق على خلاف الفريق الأول فيتبين به أن الحكم قد تبدل بتبدل المصلحة من غير أن يعرفوا عند الاتفاق تبدل المصلحة ومدة الحكم انتهى. وقد ذكره في التلويح ملخصا وسكت عليه ويظهر أنه، وإن كان فيه ما تقدم في مسألة النسخ بالإجماع فيمكن أن يقال هو أولى مما ذكره صاحب الميزان؛ لأن ما ذكره يؤدي إلى تضليل الفرقة من الصحابة الذين وقع الإجماع على خلاف قولهم في الدليل بمعنى أنهم لم يقيموه مقرونا بشرائطه وهو بعيد منهم وقوعا ومن مناظرتهم تقريرا بخلاف هذا التوجيه فإنه ليس فيه نسبتهم إلى(25/238)
تضليل لا في الحكم ولا في الدليل والله سبحانه أعلم.
"وبه" أي بهذا الجواب "يبطل قولهم" أي الشارطين "يوجب" عدم اعتبار قول الميت المخالف "تضليل بعض الصحابة" فإنه كثير ما اتفق لهم خلاف مستقر في مسائل وحيث يصح وجود الإجماع لمن بعدهم على أحد قوليهم ولم يعتبر القول الآخر مانعا من انعقاد الإجماع على خلافه لزم أن يكون صاحب القول الآخر مخالفا للإجماع ومخالفة الإجماع توجب التضليل؛ لأنه يوجب الحقية فيما اجتمعوا عليه وقد قال تعالى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] وبيان بطلان هذا اللازم ظاهر أما أولا فلأن كون صاحب القول الآخر مخالفا للإجماع ممنوع إذ لا وجود للإجماع في حياته والمخالفة فرع الوجود بل غايته أن رأيه كان حجة قبل حدوث الإجماع فإذا حدث انقطع كونه حجة مقتصرا على الحال، وأما ثانيا فللإجماع على عدم تضليل المجتهد المزاحم لمجتهدين اتفقوا على خلاف قوله فما ظنك بالمجتهد المتقدم. نعم غاية ما يقتضي هذا الإجماع ظهور خطأ المخالف لما حدث الإجماع عليه وهو غير ممتنع فإن المجتهد يخطئ ويصيب، ثم لا ضير فيه فإنه غير ملوم ولا مأزور بل معذور ومأجور، وإنما الممتنع تضليل كل الصحابة أو كل الأمة في عصر بالنظر إلى(25/239)
ص -116-…الحكم؛ لأن إصابة الحق لا تعدوهم "وبإجماع التابعين" المذكور "بطل ما عن الأشعري وأحمد والغزالي وشيخه" إمام الحرمين "من إحالة العادة إياه" أي الإجماع على أحد القولين السابقين "لقضائها" أي العادة "بالإصرار على المعتقدات وخصوصا من الاتباع" لأربابها فلا يمكن اتفاقهم ووجه بطلانه ظاهر فإن الوقوع دليل الجواز "على أنه" أي وجود القولين المذكورين "إنما يستلزم ذلك" أي قضاءها بإحالة وقوع الإجماع على أحدهما "من المختلفين" أنفسهم "لا" وقوعه "ممن بعدهم" والمسألة مفروضة في وقوعه ممن بعدهم على أن هذا وإن كان أيضا غير مسلم بالنسبة إلى المختلفين إذ قد يخفى الصواب للمجتهد في وقت ويظهر له في آخر، وبعيد من المتدين الإصرار على الخطأ بعد ظهور الصواب له لكن لما كان مع ذلك فيه إظهار بطلان الاستحالة بوجه آخر ذكره لذلك "وما عن المجوزين من عدم الوقوع" أي وبطل أيضا ما عن بعض المجوزين لانعقاده وحجيته لو انعقد من نفي وقوعه عادة إذ هو واقع كالإجماع لمذكور، ثم هذا يفيد أن المخبرين طائفتان طائفة قائلة بالجواز والوقوع وهم الجمهور وطائفة قائلة بالجواز لا الوقوع. "قولهم" أي القائلين بامتناع الوقوع في الوقوع "تعارض الإجماعين القطعيين" الأول "على تسويغ القول بكل" من القولين "و" الثاني "على منعه" أي منع تسويغ القول بكل منهما لحصول الإجماع على أحدهما بعينه وتعارضهما محال عادة "قلنا" تعارضهما ممنوع إذ "التسويغ" أي تسويغ القول بكل منهما "مقيد بعدم الإجماع على أحدهما وجوبا" وهو متعلق بمقيد، وإنما قيد التسويغ على سبيل الوجوب بما إذا لم يجمع على أحدهما "لأدلة الاعتبار" للإجماع المسبوق بخلاف مستقر أي حجيته كما ذكرنا "أما إجماعهم" أي المختلفين أنفسهم "بعد اختلافهم" المستقر "على أحدهما فكذلك" أي فالكلام فيه كالكلام فيما تقدم جوابا واستدلالا فمنعه الآمدي مطلقا؛ لأن استقرار الخلاف بينهم يتضمن اتفاقهم على جواز الأخذ(25/240)
بكل من شقي الخلاف باجتهاد أو تقليد فيمتنع اتفاقهم بعد على أحد الشقين، وجوزه الإمام الرازي مطلقا ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأصوليين لأدلة الاعتبار، وتضمن استقرار خلافهم اتفاقهم على جواز الأخذ بكل من شقي الخلاف مشروط بعدم الاتفاق على أحدهما والفرض انتفاؤه وقيل إلا أن يكون مستندهم في الاختلاف قاطعا فلا يجوز حذرا من إلغاء القاطع "وكونه" أي إجماعهم "حجة" في هذه "أظهر" من كون الإجماع في الأولى "إذ لا قول لغيرهم مخالف لهم" في هذه "وقولهم" أي المخالفين منهم أولا "بعد الرجوع" عنه ثانيا إلى قول الباقين "لم يبق معتبرا" حتى لا يجوز له ولا لغيره العمل به بعد الرجوع عنه "فهو" أي القول الذي استمر بعضهم عليه ورجع الباقون إليه "اتفاق كل الأمة بخلاف ما" أي المسألة التي "قبلها" فإن القول الذي انعقد الإجماع على خلافه "يعتبر فهم" أي المجمعون على خلافه في العصر الذي بعده "كبعض الأمة" فإن قيل إن أردتم يعتبر قبل الإجماع على القول المخالف حتى جاز أن يعمل به مقلد فمسلم، وكذا قول بعض المختلفين قبل رجوعه إلى مقابله، وإن أردتم يعتبر بعد الإجماع على مقابله فممنوع بل لا يعتبر كما في هذه فلا فرق بين الإجماعين في الحجة ظهورا وأظهرية قلنا نختار الثاني(25/241)
ص -117-…ولا نسلم أن القول الذي لم يجمع عليه بعد الإجماع على مقابله في المسألة الأولى غير معتبر أصلا كما في هذه فإنه يجوز الاجتهاد في الإجماع المسبوق بخلاف مستقر من غير المجمعين بخلاف ما انعقد عليه كما سيصرح به المصنف في آخر مسألة إنكار حكم الإجماع القطعي ولا يجوز الاجتهاد في الإجماع المسبوق بخلاف مستقر من المجمعين فظهر وجه الأظهرية المفيدة لمزيد القوة فيه على ما قبله والله سبحانه وتعالى أعلم.
"تنبيه"، ثم غير خاف أن هذا كله بناء على عدم اشتراط انقراض العصر أما على اشتراطه فجائز وقوعه ويكون حجة إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين ولأن اختلافهم على قولين ليس بأكثر من إجماعهم على قول واحد وإذا جاز الرجوع في الواحد المتفق عليه ففي المختلف فيه أولى والشرط كما قاله ابن كج إن رجع الجميع من قبل أن ينقرض منهم أحد، وإن ماتت إحدى الطائفتين أو ارتدت والعياذ بالله فهل يعتبر قول الباقين إجماعا؟ فاختار الإمام الرازي والصفي الهندي أنه يعتبر إجماعا لا بالموت والكفر بل لكونه قول كل الأمة وصحح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعا؛ لأن الميت في حكم الموجود فالباقون بعض الأمة لا كلها وجزم به أبو منصور البغدادي وذكر في المستصفى أنه الراجح وحكى الشيخ أبو بكر الرازي فيه قولا ثالثا وهو إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة؛ لأن الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان وقد شهدت ببطلان قول المنقوضة فوجب أن يكون قولها حقا، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفين على تسويغ الخلاف، وهذا من قائله بناء على أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف المتقدم إذا كان على طريقة اجتهاد الرأي، وأما إجماعهم قبل استقرار خلافهم فإجماع.
مسألة(25/242)
معظم العلماء كما ذكر ابن برهان على أنه "لا يشترط في حجيته" أي الإجماع "عدد التواتر؛ لأن" الدليل "السمعي" لحجيته "لا يوجبه" أي عدد التواتر بل يتناول الأقل منهم لكونهم كل الأمة "والعقلي" لحجيته "وهو أنه" أي الإجماع "لو لم يكن عن دليل قاطع لم يحصل" الإجماع؛ لأن العادة تحكم بأن الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع في شرعي بمجرد تواطؤ على سبيل الظن بل لا يكون قطعهم إلا عن نص قاطع بلغهم فيه يوجب ذلك الحكم "لم يصح" مثبتا لاشتراط عدد التواتر في حجيته وهذا بناء على أن قول القاضي، وأما من استدل بالعقل وهو أنه لو لم يكن إلا عن قاطع لما حصل فلا بد من القول بعدد التواتر فإن انتفاء حكم العادة في غيره ظاهر ا هـ. غير ظاهر بل هو في حيز المنع؛ لأن اشتراط عدد التواتر في انتهاض الإجماع حجة قطعية دون انتهاضه حجة ظنية "وإذن" أي وإذ لا يشترط عدد التواتر في المجمعين بحجية الإجماع "لا إشكال في تحققه" أي الإجماع "لو لم يكن" ذلك الإجماع "لا" اتفاق "اثنين" على حكم شرعي في عصر إذا انفردا فيه كأنه لوجود ما قيل من أن معناه لغة الاتفاق؛ لأنه أقل ما يقع عليه إذا كان من اثنين وقد تقدم ما فيه من(25/243)
ص -118-…البحث في صدر الباب على أن فيه خلافا أيضا ففي التحقيق ورأيت في بعض الحواشي أن أقل ما ينعقد به الإجماع ثلاثة من العلماء؛ لأن الإجماع مشتق من الجماعة وأقل الجمع الصحيح ثلاثة وإليه يشير عبارة شمس الأئمة حيث قال والأصح عندنا أنهم إذا كانوا جماعة واتفقوا قولا أو فتوى من البعض مع سكوت الباقين فإنه ينعقد الإجماع به، وإن لم يبلغوا حد التواتر "فلو اتحد" أي لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد "فقيل" قوله "حجة" جزم به ابن سريج ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين "لتضمن السمعي" السابق في بيان حجية الإجماع "عدم خروج الحق عن الأمة" من غير تفصيل على أن الأمة تطلق على الواحد أيضا كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] فيدخل تحت النصوص الدالة على عصمة الأمة فيكون قوله حجة "وقيل لا" يكون قوله حجة "لأن المنفي عنه الخطأ الاجتماع" المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة" إلى غير ذلك كما تقدم "وسبيل المؤمنين" حيث كان المراد به في الآية الشريفة الإجماع "وهو" أي كل منهما "منتف" في الواحد إذ ليس له اجتماع وليس هو بالمؤمنين ونص في التحقيق وغيره على أنه الأظهر والسبكي على أنه المختار وإطلاق الأمة على إبراهيم مجاز للقطع بأن إطلاقها على الجماعة حقيقة والأصل عدم الاشتراك ولا يلزم من ارتكاب المجاز في حق إبراهيم عليه السلام لتعظيمه ارتكابه في حق غيره أو بمعنى المقتدى فهي فعلة بمعنى المفعول كالرحلة والنخبة، من أمه إذا قصده واقتدى به فإن الناس كانوا يأمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] وكنت عرضت على المصنف التنبيه عليه فأجاب بأنه نبه عليه بذكره له آخرا مع عدم تعقبه فإن العادة في حكاية الأقوال مع دلائلها من غير تنصيص على اختيار أحدها ولا تعقب دليله أن يكون المختار هو الآخر وفي حكايتها بلا دليل أن(25/244)
يكون المختار الأول إلا أن يذكر أن غيره المختار.
مسألة
"ولا" يشترط "في حجيته" أي الإجماع "مع الأكثر" أي مع كون المجمعين أكثر مجتهدي ذلك العصر والأوضح ولا في حجيته إجماع الأكثر "عدده" أي عدد التواتر "في الأقل" الذين لم يوافقوا المجتهدين "وإلا" فإن كان الأقل يبلغون عدد التواتر "فلا" يكون إجماع الأكثر حجة أصلا أي لا يفصل هذا التفصيل من أنه إن بلغ الأقل عدد التواتر منع خلافهم انعقاد إجماع الأكثر، وإن لم يبلغوا عدد التواتر لم يمنع كما هو معزو إلى كثير من الأصوليين على ما في شرح البديع لسراج الدين الهندي قال القاضي أبو بكر وهو الذي يصح عن ابن جرير "ومطلقا" أي ولا يشترط في حجية إجماع الأكثر كون الأقل عددا مخصوصا كعدد التواتر أو غيره بل إجماع الأكثر حجة مطلقا كما عزاه في البديع وغيره "لابن جرير" وأبي بكر الرازي "وبعض المعتزلة" أي أبي الحسين الحناط أستاذ الكعبي كما في كشف البزدوي وغيره "ونقل عن أحمد" أيضا على ما في الكشف وغيره "وقال" أبو عبد الله "الجرجاني والرازي من الحنفية" على ما في الكشف أيضا "أن سوغ الأكثر اجتهاد الأقل(25/245)
ص -119-…كخلاف أبي بكر في مانعي الزكاة" أي في قتالهم "فلا" ينعقد الإجماع مع خلافه "بخلاف" من لم يسوغ الأكثر اجتهاده فإنه ينعقد الإجماع مع خلافه ولكن يكون حجة ظنية كخلاف "أبي موسى" الأشعري "في نقض النوم" حيث لا ينقض كما أخرج معناه عنه ابن أبي شيبة ونقل عن غيره من الصحابة أيضا وصح عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب قلت ولفظ السرخسي والأصح عندي ما أشار إليه أبو بكر الرازي أن الواحد إذا خالف الجماعة فإن سوغوا له ذلك الاجتهاد لا يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة خلاف ابن عباس للصحابة في زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد وأنكروا عليه قوله فإنه يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة قول ابن عباس في حل التفاضل في أموال الربا فإن الصحابة لم يسوغوا له هذا الاجتهاد حتى روي أنه رجع إلى قولهم فكان الإجماع ثابتا بدون قوله. ولهذا قال محمد في الإملاء لو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لم ينفذ قضاؤه؛ لأنه مخالف للإجماع ا هـ فجعل المسألة موضوعة في خلاف الواحد لا غير والذي في أصول الفقه لأبي بكر الرازي اختلف أهل العلم في مقدار من يعتبر إجماعه فقائلون جماعة يمتنع في العادة أن يخبروا عن اعتقادهم فلا يكون خبرهم مشتملا على صدق فإذا أجمعوا على قول ثم خالفهم العدد القليل الذي يجوز على مثلهم أن يظهروا خلاف ما يعتقدون ولا يعلم يقينا أن خبرهم فيما يظهرونه من اعتقادهم مشتمل على صدق لم يعتد بخلاف هؤلاء عليهم إذا أظهرت الجماعة إنكار قولهم ولم يسوغوا لهم خلافا، وإن سوغت الجماعة للنفر اليسير خلافهم ولم ينكروه لم يكن ما قالت به الجماعة إجماعا، وإن خالف هذه الجماعة جماعة مثلها في الصفة المذكورة وأنكر بعض على بعض ما قاله أو لم ينكره لم ينعقد بقول إحدى الجماعتين إجماع إذا لم يثبت ضلال أحد الفريقين عندنا وهذا لا خلاف فيه. وقال آخرون إذا خالف على الجماعة التي وصفتم(25/246)
حالها العدد اليسير، وإن كان واحدا كان خلافه عليها خلافا صحيحا ولم يثبت مع خلافه إجماع وكان أبو الحسن يذهب إلى هذا القول ولم أسمعه يحكي عن أصحابنا في ذلك شيئا وساق وجه القول الأول، ثم قال وهذا القول أظهر وأوضح دلالة مما حكيناه عن أبي الحسن في إثبات خلاف الواحد على الجماعة، ثم قال في موضع آخر من كتابه إذا اختلفت الأمة على قولين وكل فرقة من الكثرة في حد ينعقد بمثلها الإجماع لو لم يخالفها مثلها فإن من الناس من يعتبر إجماع الأكثر وهم الحشوية وقال أهل العلم لا ينعقد بذلك إجماع ووجب الرجوع إلى ما يوجبه الدليل؛ لأن الحق يجوز أن يكون مع القليل إذا كانوا على حد متى أخبروا عن اعتقادهم للحق وظهرت عدالتهم ووقع العلم باشتمال خبرهم على صدق على نحو ما ذكرنا فيما سلف فقد أثنى الله تعالى ورسوله على القليل ومدحهم وذم الكثير فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26] إلى غير ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ(25/247)
ص -120-…فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال الذين يصلحون إذا أفسد الناس" وقال: "ستفترق أمتي على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" إلى غير ذلك وقد ارتد أكثر الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعوا الصدقة وكان المحقون الأقل وهم الصحابة وكان أكثر الناس في زمن بني أمية على القول بإمامة معاوية ويزيد وأشباههما من ملوك بني مروان والأقل كانوا على خلاف ذلك ومعلوم أن الحق مع الأقل لا الأكثر فبطل اعتبار القلة والكثرة. فإن قيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" وقال: "يد الله مع الجماعة" وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" فهذا يدل على وجوب اعتبار إجماع الأكثر قيل له فكل واحد من الفرقتين اللتين ذكرنا جماعة فلم اعتبرت الأكثر ولا دلالة في الخبر عليه وقوله عليكم بالجماعة يعني إذا اجتمعت على شيء وخالفها الواحد والاثنان فلا يعتد بخلافها ولزم اتباع الجماعة ألا يرى إلى قوله فإن الشيطان مع الواحد فأخبر أن لزوم الجماعة إنما يجب إذا لم يخالفها إلا الواحد والعدد اليسير وكذلك قوله: "عليكم بالسواد الأعظم" معناه ما اتفقت عليه الأمة في أصول اعتقاداتها فلا تنقضوه وتصيروا إلى خلافه، وكل من قال بقول باطل فقد خالف الجماعة والسواد الأعظم إما في جملة اعتقادها أو تفصيله ا هـ مع بعض تلخيص وهذا وإن كان في بعضه خلاف وتعقب كما سيعلم فهو خلاف ما نسبه صاحب البديع إليه من أنه على أن إجماع الأكثر حجة مطلقا، وصاحب الكشف وغيره إليه من أن الأكثر إن سوغ اجتهاد الأقل لم ينعقد الإجماع مع خلافه، وإن لم يسوغوه انعقد مع خلافه هذا ونقل أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي عن ابن جرير مثل ما ذكره الرازي من أنه إن خالف أكثر من اثنين اعتبر وإلا فلا ونقل سليم الرازي عنه إن خالف أكثر من ثلاثة اعتبر وإلا فلا والله سبحانه أعلم.(25/248)
"والمختار ليس" إجماع الأكثر "إجماعا" أصلا فلا يكون حجة قطعية ولا ظنية؛ لأنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس بل ولا دليل من الأدلة المعتبرة من الأئمة "و" المختار "لبعضهم" وكأنه ابن الحاجب "ليس إجماعا لكن حجة؛ لأن الظاهر إصابتهم" أي الأكثر "خصوصا مع عليكم بالسواد الأعظم" كما قدمناه من رواية ابن ماجه والسواد الأعظم هو الأكثر "وأما الأول" أي أنه ليس إجماعا "فانفراد ابن عباس في العول" أي إنكاره من بين الصحابة كما أخرجه عنه ابن شيبة وغيره فلا يقدح ذهاب عطاء وابن الحنفية والباقر وداود وأصحابه إليه كما نقله ابن حزم واختاره "وأبي هريرة وابن عمر في جواز أداء الصوم" أي إنكار صحة أداء صوم رمضان "في السفر" كما ذكره أصحابنا والشافعية عن أبي هريرة وبعض أصحابنا عن ابن عمر وقال شيخنا الحافظ حكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة انتهى وقال ابن المنذر روينا عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر فكأنه أفطر في الحضر. وروي عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "عدوه" أي الصحابة رضي الله عنهم انفراد هؤلاء بالمنع مع ذهاب الأكثر إلى عدمه "خلافا لا إجماعا" ولو كان إجماع الأكثر إجماعا لعدوا قول الأكثر في هاتين(25/249)
ص -121-…المسألتين إجماعا "وأيضا فالأدلة إنما توجبه" أي الإجماع "في الأمة" أي حجية إجماعهم "غير معقول لزوم إصابتهم" فما دام واحد من أهل الإجماع مخالفا لهم لم ينعقد الإجماع لاحتمال أن يكون الحق معه؛ لأن المجتهد يخطئ ويصيب وما ثبت غير معقول المعنى يجب رعاية جميع أوصاف النص فيه والنص يتناول كل أهل الإجماع "أو" معقول المعنى لزم إصابتهم "إكراما لهم" والأكثر ليسوا كل الأمة "واستدلال المكتفي بالأكثر" في انعقاد الإجماع لهم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم "يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار" مفاده منع الرجوع بعد الموافقة" إلى عدمها "من شذ البعير" وند إذا توحش بعد ما كان أهليا فالشاذ من خالف بعد الموافقة لا من لم يوافق ابتداء فلا حجة فيه على أن من لم يوافق ابتداء لا عبرة بعدم وفاقه فإذن "فالجماعة الكل، وكذا السواد الأعظم" المراد من متابعته متابعة الأكثر فيما إذا وجد الإجماع من جميع أهله، ثم خالف البعض لشبهة اعترضت؛ لأن رجوعه بعد صحة الإجماع ليس بصحيح والسواد الأعظم الكل إذ هو أعظم مما دونه توفيقا بين الأدلة السمعية كلها "وباعتماد الأمة عليه" أي واستدلال المكتفي بالأكثر باعتماد الأمة على إجماع الأكثر "في خلافة أبي بكر مع خلاف علي و" سعد "بن عبادة وسلمان فلم يعتدوهم" أي الصحابة بخلاف هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين "مدفوع بأنه" أي عدم اعتداد الصحابة بخلاف هؤلاء في الإجماع على خلافته إنما هو "بعد رجوعهم" أي هؤلاء إلى ما اتفق عليه العامة؛ لأن برجوعهم تقرر الإجماع على خلافته "وقبله" أي رجوعهم خلافته "صحيحة بالإجماع على الاكتفاء في الانعقاد" أي انعقاد الإمامة "ببيعة الأكثر" إذ هي كافية في انعقادها بل هي بمحضر عدلين كافية "لا" أن خلافته "مجمع عليها" وقتئذ فلم يتم دعوى أن الإجماع ينعقد بالأكثر، ثم بقي ما وجه قائل إن لم يبلغ الأقل عدد التواتر يكون حجة قطعية، وإن بلغ لا يكون حجة أصلا(25/250)
ولعل وجهه ما أفادنيه المصنف إملاء وهو أن عدد التواتر مما يحصل به القطع فلو كان مخالفه إجماعا لوقع القطع بالنقيضين وهو محال وجوابه أن القطع إنما يحصل من المتواتر فيما أخبر به أهل التواتر مستندين فيه إلى الحس لا ما قالوه عن رأي واجتهاد مع مخالفة غيرهم لهم في ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل قلت ثم لم لا يجوز أن يفيد الظن ولا يلزم منه القطع بالنقيضين والله سبحانه أعلم.
مسألة
"ولا" يشترط في حجية الإجماع "عدالة المجتهد في" القول "المختار للآمدي" وأبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي في المنخول فيتوقف الإجماع على موافقة المجتهد غير العدل كما يتوقف على موافقة العدل "لأن الأدلة" المفيدة لحجية الإجماع "لا توقفه" أي الإجماع "عليها" أي على عدالته "والحنفية تشترط" عدالة المجتهد فلا يتوقف الإجماع على موافقة المجتهد غير العدل كما مشى عليه الجصاص ونص على أنه الصحيح عندنا وعزاه السرخسي إلى العراقيين وابن برهان إلى كافة الفقهاء والمتكلمين وصاحب كشف البزدوي والسبكي إلى الجمهور "لأن الدليل" الدال على حجية الإجماع "يتضمنها" أي(25/251)
ص -122-…العدالة "إذ الحجية" الثابتة لإجماع الأمة إنما هي "للتكريم" لهم ومن ليس بعدل ليس من أهل التكريم وهذا بناء على القول بثبوتها لهم بمعنى معقول "ولوجوب التوقف في إخباره" أي من ليس بعدل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية وذلك؛ لأنه لا يتحامى الكذب غالبا وقال شمس الأئمة السرخسي والأصح عندي أنه إن كان معلنا بفسقه فلا يعتد بقوله في الإجماع، وإن كان غير مظهر له يعتد بقوله في الإجماع، وإن علم فسقه حتى ترد شهادته؛ لأنه لا يخرج بهذا عن الأهلية للشهادة أصلا ولا عن الأهلية للكرامة بسبب الدين ألا يرى أنا نقطع القول لمن يموت مؤمنا مصرا على فسقه أنه لا يخلد في النار فإذا كان أهلا للكرامة بالجنة في الآخرة فكذلك في الدنيا باعتبار قوله في الإجماع "وقيل" أي وقال إمام الحرمين وأبو إسحاق الشيرازي "يعتبر قوله" أي غير العدل "في حق نفسه فقط كإقراره" أي كما يقبل إقراره في حق نفسه بالمال والجنايات فيكون إجماع العدول حجة عليه إن وافقهم لا إذا خالفهم وعلى غيره مطلقا "ويدفع" هذا القول نظرا إلى هذا القياس "بأنه" أي إقراره معتبر منه "فيما عليه وهذا" أي واعتبار قوله هنا "له" لا عليه "إذ ينتفي" باعتبار قوله "حجيته" أي الإجماع فيحصل له شرف الاعتداد به والاعتبار بمقاله فانتفت صحة القياس على اعتبار إقراره وذهب بعض الشافعية إلى أنه إذا خالف يسأل عن مأخذه لجواز أن يحمله فسقه على الفتيا من غير دليل فإن ذكر ما يجوز أن يكون محتملا اعتبر وإلا فلا واختاره ابن السمعاني "وعليه" أي اشتراط عدالة المجتهدين "يبتنى شرط عدم البدعة" فيه أيضا "إذا لم يكفر بها" أي بالبدعة "كالخوارج" إلا الغلاة منهم فإنهم من أصحاب البدع الجلية كما تقدم في مباحث الخبر ولم يكفروا ببدعتهم "والحنفية" قالوا يشترط فيه عدم البدعة "إذا دعا إليها؛ لأنه يوجب تقصيا" وهو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء(25/252)
على ميل إلى جانب "يوجب خفة سفيه فيتهم" في أمر الدين فإن لم يدع إليها يكون قوله في غير بدعته معتبرا في انعقاد الجماع؛ لأنه من أهل الشهادة ولذا كان مقبولها في الأحكام لا في بدعته؛ لأنه إنما يضلل لمخالفته نصا موجبا للعلم وكل قول يخالفه فهو باطل، وكذا إن كفر بهواه؛ لأن اسم الأمة لا يتناوله مطلقا، ثم هذا التفصيل قول بعض مشايخنا على ما في الميزان وغيره ومشى عليه فخر الإسلام ومتابعوه. وقال شمس الأئمة السرخسي الأصح عندي أنه إن كان متهما بالهوى ولكنه غير مظهر له لا يعتبر قوله فيما يضلل فيه ويعتبر فيما سواه، وإن كان مظهرا له لا يعتد بقوله؛ لأن المعنى الذي قبلت به شهادته لا يوجد هنا فإنها لا تقبل لانتفاء تهمة الكذب على ما قال محمد قوم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا لا يتهمون بالكذب في الشهادة، وهذا يدل على أنهم لا يؤتمنون في أحكام الشرع وقال الشيخ أبو بكر الرازي الصحيح عندنا أنه لا اعتبار بموافقة الضلال لأهل الحق في صحة الإجماع، وإنما الإجماع الذي هو حجة الله إجماع أهل الحق الذين لم يثبت فسقهم ولا ضلالهم ووافقه صاحب الميزان وعليه مشى المصنف فقال "والحق إطلاق منع البدعة المفسقة لهم" في اعتبار قولهم لما تقدم من أن صيرورة إجماع الأمة حجة بطريق الكرامة وصاحب البدعة ليس من أهلها، وموافقه أيضا قول أبي منصور(25/253)
ص -123-…البغدادي قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والروافض ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه، وإن اعتبر في الكلام هكذا روى أشهب عن مالك والعباس بن الوليد عن الأوزاعي وأبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وذكر أبو ثور أنه قول أئمة الحديث وقول ابن القطان الإجماع عندنا إجماع أهل العلم فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه واختاره أبو يعلى من الحنابلة واستقراه من كلام أحمد. وقد ظهر من هذه الجملة مرجوحية القول باعتبار قوله إذا كان يعتقد تحريم الكذب لا أنه الصحيح كما قاله الصفي الهندي.
"ولذا" أي كون البدعة المفسقة مانعة من اعتبار قول صاحبها "لم يعتبر خلاف الروافض في الإجماع على خلافة الشيوخ" أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ لأن أدنى حال الرافضة أنهم فسقة "وقد يقال ذلك" أي عدم اعتبار خلاف الرافضة في الإجماع المذكور "لتقرره" أي الإجماع من الصحابة وغيرهم على خلافتهم "قبلهم" أي قبل وجود الرافضة "فعصوا" أي الرافضة "به" أي بخلافهم له لا أن عدم اعتبار قولهم في الإجماع المذكور بناء على فسقهم "وخلاف الخوارج في خلافة علي" رضي الله عنه "خلاف الحجة" التي هي دليل ظني "لا" خلاف "إجماع الصحابة" الذي هو دليل قطعي بناء على أنه كان في المخالفين مجتهد يعتد بخلافه كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص أما إذا لم يكن فيهم مجتهد كما أشار إليه بقوله "إلا إن لم يكن في المخالفين كمعاوية وابن العاص مجتهد" فإنه يكون خلاف الإجماع حينئذ "وإنما هو" أي هذا التعقيب "إبطال دليل معين" أي كون عدم اعتبار خلاف الرافضة في خلافة الشيوخ لفسقهم "والمطلوب" أي اشتراط عدم فسق المجمعين "ثابت بالأول" وهو أن الدليل الدال على حجية الإجماع يتضمن العدالة إذ الحجية للتكريم ومن ليس بعدل ليس من أهل التكريم والله سبحانه أعلم.
مسألة(25/254)
"إذ ولا" يشترط في حجية الإجماع القطعية "كونهم" أي المجمعين "الصحابة خلافا للظاهرية" فقالوا الإجماع اللازم يختص بعصر الصحابة فأما إجماع من بعدهم فليس بحجة وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه "ولأحمد قولان" أحدهما نعم كالظاهرية وأصحهما عند أصحابه لا كالجمهور "لعموم الأدلة" المفيدة لحجية الإجماع إجماع "من سواهم" أي الصحابة فلا موجب لتخصيصها بإجماعهم "قالوا" أي الظاهرية أولا انعقد "إجماع الصحابة" قبل مجيء من بعدهم "على أن ما لا قاطع فيه" من الأحكام "جاز" الاجتهاد فيه وجاز "ما أدى إليه الاجتهاد" من أحد طرفيه أي الأخذ به "فلو صح إجماع من بعدهم" أي الصحابة "على بعضها" أي الأحكام التي لا قاطع فيها "لم يجز" أي الاجتهاد "فيه" أي في ذلك البعض إجماعا ولا الأخذ بغير ما عليه الإجماع "فيتعارض الإجماعان" إجماع الصحابة على أن ما لا قاطع فيه يجوز فيه الاجتهاد وإجماع من بعدهم المفيد أن ما لا قاطع فيه لا يجوز فيه الاجتهاد.(25/255)
ص -124-…"والجواب" أن الصحابة "أجمعوا على مشروطة" عامة "أي" يجوز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه "ما دام لا قاطع فيه" فلم يتناقض الإجماعان؛ لأن ما لا قاطع فيه قد زال منه الشرط وهو ما دام لا قاطع فيه لحصول القاطع فيه وهو الإجماع الثاني فزال الحكم المجمع عليه وهو جواز الاجتهاد "قالوا" أي الظاهرية ثانيا "لو اعتبر" إجماع غير الصحابة "اعتبر" أيضا إجماع غيرهم "مع مخالفة بعض الصحابة فيما إذا سبق خلاف" مستقر؛ لأنه إذا جاز اعتباره مع عدم قول الصحابة فليجز مع موافقة بعض الصحابة ومخالفة بعضهم ولأن مخالفة بعضهم لا تصلح معارضا لإجماع غيرهم؛ لأن الظني لا يعارض القطعي واللازم منتف لاشتراطكم عدم المخالفة. "الجواب إنما يلزم" هذا لازما لهذا القول مع بطلانه "من شرط عدم سبق الخلاف المتقرر ولو من واحد" في حجية الإجماع لفقد الإجماع في هذه الصورة عنده لكن هذا إذا سلم الملازمة وله أن يمنعها "لا" أنه لا يلزم هذا لازما باطلا "من لم يشترط" عدم سبق خلاف متقرر في حجية الإجماع "أو جعل الواحد" أي خلافه "مانعا" من انعقاد الإجماع بمن سواه بل إنما يلزمه هذا غير قائل ببطلانه إذ هو يمنع بطلان اللازم "ويعتبر التابعي المجتهد فيهم" أي في الصحابة عند انعقاد إجماعهم حتى لا ينعقد مع مخالفته كما هو مذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد وقول أكثر المتكلمين وهو الصحيح كما ذكر القاضي عبد الوهاب وغيره "وأما من بلغ" من التابعين "درجته" أي الاجتهاد "بعد انعقاد إجماعهم فاعتباره" أي ذلك فيهم "وعدمه" أي عدم اعتباره فيهم مبني "على اشتراط انقراض العصر" في حجية الإجماع "وعدمه" أي عدم اشتراطه في حجية الإجماع فمن اشترطه اعتبره ومن لم يشترطه لم يعتبره قلت إلا أن هذا إنما يتم على رأي من يقول فائدة الاشتراط جواز رجوع بعض المجمعين ودخول مجتهد يحدث قبل انقراضهم. أما من قال فائدته جواز الرجوع لا غير ينبغي أن لا يعتبره أيضا "وقيل" أي وقال(25/256)
أحمد في رواية بعض المتكلمين "لا يعتبر" التابعي في إجماع الصحابة "مطلقا" أي سواء كان مجتهدا عند انعقاد إجماعهم أو بعده "لنا" على اعتبار التابعي المجتهد فيهم "ليسوا" أي الصحابة "كل الأمة دونه" أي التابعي المجتهد؛ لأنه لم يخالفهم إلا في رواية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لا يوجب كون الحق معهم دونه ولا خروجه من الأمة والعصمة إنما هي للكل "واستدل لهذا" المختار "بأن الصحابة سوغوا لهم" أي للتابعين الاجتهاد "مع وجودهم" فقد ملأ شريح الكوفة أقضية وعلي رضي الله عنه بها لا ينكر عليه وابن المسيب بالمدينة فتاوى وهي مشحونة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عطاء بمكة والحسن وجابر بن زيد بالبصرة ولولا اعتبار قولهم وإن خالف قول أنفسهم لما سوغوا لهم. "قلنا إنما يتم" الاستدلال بهذا على اعتبار قولهم حتى لا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم "لو نقل تسويغ خلافهم" أي التابعين "مع إجماعهم" أي الصحابة "ولم يثبت" تسويغ خلافهم إلا مع اختلافهم "كالمنقول من قول أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم في صحيح مسلم "تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل لوفاة زوجها فقال ابن عباس بأبعد الأجلين، وقلت أنا بوضع الحمل فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة" وليس هو محل النزاع قال السبكي وفيه(25/257)
ص -125-…نظر فإن اتفاقهم لو منعهم الاجتهاد لسألوا عنه قبل إقدامهم وكانوا لا يسألون قطعا ا هـ وليس القطع بانتفاء السؤال بسهل، ثم غير خاف أن هذا لا يختص بالتابعين مع الصحابة بل يجري ذلك أيضا في تابع التابعين مع الصحابة أيضا.
"مسألة ولا" ينعقد الإجماع "بأهل البيت النبوي" وهم علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم لما روى الترمذي عن عمر بن أبي سلمة أنه لما نزل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ألقى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كساء وقال "هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" "وحدهم" مع مخالفة غيرهم لهم أو توقفهم أو عدم سماعهم الحكم "خلافا للشيعة" واقتصر في المحصول وغيره على الزيدية والإمامية فإن إجماعهم عندهم حجة للآية فإن الخطأ رجس فيكون منفيا عنهم فيكون إجماعهم حجة وأجيب بمنع أن الخطأ رجس، وإنما الرجس العذاب أو الإثم أو كل مستقذر ومستنكر على أن المراد بأهل البيت هم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن ما قبلها وهو {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] إلخ وما بعدها وهو {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] الآية يدل عليه وحينئذ فليس في الآية دليل على أن إجماع العترة وحدهم حجة.
مسألة(25/258)
"ولا" ينعقد "بالأربعة" الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم مع مخالفة غيرهم أو توقفهم أو عدم سماعهم الحكم "عند الأكثر خلافا لبعض الحنفية" وأحمد في رواية "حتى رد" منهم القاضي أبو خازم بالخاء المعجمة والزاي عبد الحميد بن عبد العزيز "على ذوي الأرحام أموالا" في خلافة المعتضد بالله لكون الخلفاء الأربعة على ذلك "بعد القضاء بها" أي بتلك الأموال "لبيت المال لنفاذه" أي القضاء بردها وقبل المعتضد قضاءه بذلك وكتب به إلى الآفاق وكان ثقة دينا ورعا عالما بمذهب أهل العراق والفرائض والحساب أصله من البصرة وسكن بغداد وأخذ عن هلال الراوي وأخذ عنه أبو جعفر الطحاوي وأبو طاهر الدباس وغيرهما. ولي القضاء بالشام والكوفة والكرخ من بغداد وتوفي في جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين ومائة.(25/259)
ص -126-…والترمذي وحسنه وصححه وابن حبان والحاكم كما هو حجة القائلين بانعقاد الإجماع بأبي بكر وعمر مع مخالفة غيرهما؛ لأنه أمر بالاقتداء بهما فينتفي عنهما الخطأ ولما لم يجب الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب حال اتفاقهما وقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" كما تقدم في بحث العزيمة وأنه رواه أحمد وغيره وأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كما ذكره البيهقي وغيره بينا دليله ثمة كما هذا حجة القائلين بانعقاد الإجماع بهم مع مخالفة غيرهم فإنه حث على اتباعهم فينتفي عنهم الخطأ. "أجيب: يفيدان" أي هذان الحديثان "أهلية الاقتداء" أي أهلية الشيخين والأربعة لاتباع المقلدين لهم "لا منع الاجتهاد" لغيرهم من المجتهدين فيكون قولهم حجة على غيرهم من المجتهدين الذي هو محل النزاع "وعليه" أي هذا الجواب أن يقال "أن ذلك" أي الاقتداء فيهما "مع إيجابه" أي الاقتداء فكل منهما حينئذ مفيد حجية قولهما وقولهم على كل مجتهد سواهم الذي هو المطلوب "إلا أن يدفع بأنه" أي كلا منهما "آحاد" فلا يثبت به القطع بكون إجماعهما أو إجماعهم حجة قطعية؛ لأن الظني لا يفيد القطع "وبمعارضته" أي وأجيب أيضا بمعارضة كل منهما "بأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" "وخذوا شطر دينكم عن الحميراء" أي عائشة. رضي الله عنها فإن هذين الحديثين يدلان على جواز الأخذ بقول كل صحابي وقول عائشة، وإن خالف قول الشيخين أو الأربعة "إلا أن الأول" أي "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" "لم يعرف" بناء على قول ابن حزم في رسالته الكبرى مكذوب موضوع باطل وإلا فله طرق من رواية عمر وابنه وجابر وابن عباس وأنس بألفاظ مختلفة أقربها إلى اللفظ المذكور ما أخرج ابن عدي في الكامل وابن عبد البر في كتاب بيان العلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى بها فبأيهم أخذتم بقوله اهتديتم".(25/260)
وما أخرج الدارقطني وابن عبد البر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" نعم لم يصح منها شيء ومن ثمة قال أحمد حديث لا يصح والبزار لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن البيهقي قال في كتاب الاعتقاد رويناه في حديث موصول بإسناد غير قوي وفي حديث آخر منقطع والحديث الصحيح يؤدي بعض معناه وهو حديث أبي موسى المرفوع "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رواه مسلم "والثاني" أي "خذوا شطر دينكم عن الحميراء" معناه "إنكم ستأخذون" فلا يعارضان الأولين والحق أنهما لا يعارضانهما، أما الأول فلما قدمناه، وأما الثاني فقد قال شيخنا الحافظ لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ذكره في مادة " ح م ر " ولم يذكر من خرجه ورأيته أيضا في كتاب الفردوس لكن بغير لفظه ذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا ولفظه "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء" ونص له صاحب مسند الفردوس فلم يخرج له إسنادا وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ا هـ. قال الشيخ سراج(25/261)
ص -127-…الدين بن الملقن وقال الحافظ جمال الدين المزي لم أقف له على سند إلى الآن،. وقال الذهبي هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد بل قال تاج الدين السبكي وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي يقول كل حديث فيه لفظ الحميراء لا أصل له إلا حديثا واحدا في النسائي فلا يحتاج إلى هذا التأويل "والحق أن مقتضاه" أي دليل كل من القول بحجية إجماع الأربعة والشيخين "الحجية الظنية" أما الحجية فللطلب الجازم للاتباع لهم ولهما، وأما الظنية فلأنه خبر واحد "ورد أبي خازم" على ذوي الأرحام أموالا تركها أقرباؤهم بعد القضاء بها لبيت المال لم يوافقه عليه كافة معاصريه من الحنفية فقد "رده أبو سعيد" أحمد بن الحسين البرذعي من كبارهم وقال هذا فيه خلاف بين الصحابة لكن نقل الجصاص عن أبي خازم أنه قال في جوابه لا أعد زيدا خلافا على الخلفاء الأربعة وإذا لم أعده خلافا وقد حكمت برد هذا المال إلى ذوي الأرحام فقد نفذ قضائي به ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالنسخ ومن هنا قيل يحتمل أن يكون أبو خازم بناه على أن خلاف الواحد والاثنين لا يقدح في الإجماع وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي ووافقه علماء المذهب في زمانه.
مسألة(25/262)
"ولا" ينعقد "بأهل المدينة" أي طيبة "وحدهم" عند جماهير الأمة "خلافا لمالك" على ما شاع عنه وإلا فقد أنكر كونه مذهبه ابن بكير وأبو يعقوب الرازي وأبو بكر بن منيات والطيالسي والقاضي أبو الفرج والقاضي أبو بكر، ثم على الأول "قيل مراده" أي مالك "أن روايتهم مقدمة" على رواية غيرهم ونقل ابن السمعاني وغيره أن للشافعي في القديم ما يدل على هذا "وقيل" محمول "على المنقولات المستمرة" أي المتكررة الوجود كثيرا "كالأذان والإقامة والصاع" والمد دون غيرها ولفظ القرافي وإجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف حجة "وقيل بل" هو حجة "على العموم" في المنقولات المستمرة وغيرها وهو رأي أكثر المغاربة من أصحابه وذكر ابن الحاجب أنه الصحيح قالوا وفي رسالة مالك إلى الليث بن سعد ما يدل عليه وقيل أراد به الصحابة وقيل أراد به في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم حكاه القاضي في التقريب وابن السمعاني وعليه ابن الحاجب وادعى أبو العباس بن تيمية أنه مذهب الشافعي وأحمد وقال جده محمول على إجماع المتقدمين من أهل المدينة وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال قال لي الشافعي إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به فقد وقعت في البحار واللجج وفي لفظ له إذا رأيت أوائل أهل المدينة على شيء فلا تشكن أنه الحق والله إني لك ناصح والله إني لك ناصح والله إني لك ناصح وقال القاضي عبد الوهاب إجماع أهل المدينة ضربان نقلي واستدلالي فالأول ثلاثة أضرب أحدها نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأخبار ونحوه. ثانيها نقل ذلك من فعل كعهدة الرقيق. ثالثها نقل ذلك من إقرار كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم(25/263)
ص -128-…والخلفاء بعده لا يأخذونها منها وهذا النوع حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس لا اختلاف بين أصحابنا فيه والثاني اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه أحدها ليس بإجماع ولا بمرجح وهو قول من قدمنا عنهم إنكار كونه مذهب مالك. ثانيها مرجح وبه قال بعض أصحاب الشافعي. ثالثها حجة، وإن لم يجزم خلافه وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمرو قال أبو العباس القرطبي أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه؛ لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار إذ كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي وإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، ولا شك أن ما هذا سبيله أولى من إخبار الآحاد الأقيسة والظواهر، وأما الضرب الثاني فالأولى فيه أنه حجة إذا انفرد ومرجح لأحد المتعارضين ودليلنا على ذلك أن المدينة مأرز الإيمان ومنزل الأحكام والصحابة هم المشافهون لأسبابها المفاهمون لمقاصدها، ثم التابعون نقلوها وضبطوها وعلى هذا فإجماع أهل المدينة ليس بحجة من حيث إجماعهم بل إما من جهة نقلهم المتواتر، وإما من جهة مشاهدتهم الأحوال الدالة على مقاصد الشرع قال وهذا النوع الاستدلالي إن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا وصار كثير منهم إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح؛ لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها انتهى. فلا جرم أن قال بعض المتأخرين التحقيق في هذه المسألة أن منها ما هو كالمتفق عليه، ومنها ما يقول به جمهورهم، ومنها ما يقول به بعضهم، والمراتب أربع ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم مقدار الصاع والمد وهذا حجة بالاتفاق، والعمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه وهو حجة عند مالك أيضا ونص عليه الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى كما سلف، وعملهم الموافق لأحد دليلين متعارضين كحديثين وقياسين فمالك والشافعي مرجح(25/264)
وأبو حنيفة لا، وعند الحنابلة قولان المنع وعليه أبو يعلى وابن عقيل، ومرجح وعليه أبو الخطاب ونقل عن نص أحمد والنقل المتأخر بالمدينة، والجمهور ليس بحجة شرعية وبه قالت الأئمة الثلاثة وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكر القاضي عبد الوهاب في الملخص، ثم كما نبه عليه الأنباري أنه إذا قلنا إجماعهم حجة لا ينزل منزلة إجماع جميع الأمة حتى يفسق المخالف وينقض قضاؤه بل حجة على معنى أن المستند إليه مستند إلى مأخذ من مآخذ الشريعة كالمستند إلى القياس وخبر الوحد "لنا الأدلة" المفيدة حجية الإجماع "توقفه" أي تحقق الإجماع "على غيرهم" أي غير أهل المدينة؛ لأن أهلها ليسوا كل الأمة فلا ينعقد بهم وحدهم. "واستدلالهم" أي المالكية "بأن العادة قاضية بأن مثل هذا الجمع المنحصر" في المدينة من شأنهم أنهم مع اجتهادهم "يتشاورون ويتناظرون" في الواقعة التي لا نص فيها وإذا أجمعوا على حكم فيها "لا يجمعون إلا عن راجح" فيكتفى بإجماعهم وحدهم في انعقاد الإجماع "منع قضاءها" أي العادة "به" أي بإجماعهم عن راجح دون سائر علماء الأمصار فإنه لا دليل على أنهم المختصون بهذا والموجب لانعقاده منهم وحدهم هو الاختصاص "ودفع" المنع "بأن المراد" من أن العادة(25/265)
ص -129-…قاضية بأن مثل هذا الجمع إلخ أن العادة "قاضية" في انعقاد الإجماع أنه لا ينعقد على الحكم إلا "باطلاع الأكثر" من المجتهدين على دليله "فامتنع أن لا يطلع عليه من أهل المدينة أحد بأن لا يكون في الأكثر أحد منهم" أي من أهل المدينة لما تقرر من أن شأن هذا الجمع أن لا يجمعوا على أمر إلا بعد تشاور وتناظر وذلك يقتضي اطلاعهم عليه بواسطة اطلاع ذلك الواحد عليه فإذا أجمعوا على خلافه فلا بد أن يكون أرجح منه، فإن قيل لا نسلم امتناع إجماعهم على مرجوح إذ يجوز أن لا يكون في الأكثر واحد منهم فلا يطلعون على دليل خلاف قولهم إذ رب راجح لا يطلع عليه البعض فيجاب بأن الظاهر ما ذكرنا وهذا احتمال ممكن بعيد "والاحتمال" الممكن البعيد "لا ينفي الظهور وهذا" أي لكن هذا الجواب "انحطاط إلى كونه" أي إجماع أهل المدينة "حجية ظنية لا" أنه يكون "إجماعا" قطعيا وقد صرح أكثر المغاربة به على ما نقله السبكي عنهم فقالوا وليس قطعيا بل ظني يقدم على خبر الواحد والقياس، وقد عرفت أن هذا ليس بقول جمهورهم بل قول جمهورهم تقديم الخبر أولى كما ذكرناه آنفا عن القرطبي. "فإن قيل يلزم مثله" أي انعقاد الإجماع بمثل هذا الجمع "في أهل" بلدة "أخرى" كمكة والكوفة والبصرة وحدهم "لذلك" أي لأنه لا ينعقد إلا باطلاع الأكثر على الدليل الراجح على ذلك الحكم ويمتنع أن لا يطلع واحد منهم إلى آخر ما وجهناه فالجواب أنه "التزم" هذا "وصار الحاصل أن اتفاق مثلهم حجة يحتج به عند عدم المعارض من خلاف مثله" غير أنه لم يحفظ مصرحا به عن مالك وقدمنا نحوه عن الأنباري ولا بأس به إن شاء الله تعالى والله سبحانه أعلم.
مسألة(25/266)
"إذا أفتى بعضهم" أي المجتهدين بشيء من الأمور الاجتهادية التكليفية "أو قضى" بعضهم به واشتهر بين المجتهدين من أهل عصره وسكتوا بعد علمهم بذلك ونظرهم فيه "ولم يخالف" في الفتيا ولا في القضاء وكان ذلك "قبل استقرار المذاهب" في تلك الحادثة واستمر الحال على هذا "إلى مضي مدة التأمل" وهي على ما ذكر القاضي أبو زيد حين يتبين للساكت الوجه فيه وفي الميزان وأدناه إلى آخر المجلس أي مجلس بلوغ الخبر وقيل يعذر بثلاثة أيام بعد بلوغ الخبر قيل وإليه أشار أبو بكر الرازي حيث قال فإذا استمرت الأيام عليه ولم يظهر الساكت خلافا مع العناية منهم بأمر الدين وحراسة الأحكام علمنا أنهم إنما لم يظهروا الخلاف؛ لأنهم موافقون لهم انتهى. لأنه قيد ذلك بالأيام بلفظ الجمع وأقله ثلاثة قلت وفيه نظر فإنه ذكر بعد هذا أن ترك إظهار الخلاف إنما يكون دلالة على الموافقة إذا انتشر القول وظهر ومرت عليه أوقات يعلم في مجرى العادة بأنه لو كان هناك مخالف لأظهر الخلاف ولم ينكر على غيره مقالته إذ كان قد استوعب مدة النظر والفكر انتهى. وهذا معنى ما ذكره أبو زيد وغيره وعليه الاعتماد "ولا تقية" أي خوف يمنع الساكت من المخالفة "فأكثر الحنفية" وأحمد وبعض الشافعية كأبي إسحاق الإسفراييني أن هذا "إجماع قطعي وابن أبي هريرة" من الشافعية هو في الفتيا "كذلك" أي إجماع قطعي "لا في القضاء" ذكره ابن السمعاني والآمدي وابن(25/267)
ص -130-…الحاجب وغيرهم والذي في المحصول والبحر للروياني والأوسط لابن برهان عنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة وإلا فنعم والفرق بين النقلين واضح إذ لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون على وجه الحكم فقد يفتي الحاكم تارة ويقضي أخرى وقال أبو إسحاق المروزي إجماع إن كان حكما، غير إجماع إن كان فتيا "وعن الشافعي ليس بحجة" فضلا عن أن يكون إجماعا "وبه قال ابن أبان والباقلاني وداود وبعض المعتزلة" والغزالي بل ذكر الإمام الرازي والآمدي أن هذا مذهب الشافعي وقال الإسنوي وقال في البرهان إنه ظاهر مذهبه والغزالي في المنخول نص عليه الشافعي في الجديد والسبكي. والأكثرون من الأصوليين نقلوا أن الشافعي يقول السكوتي ليس بإجماع واختاره القاضي وذكر أنه آخر أقواله قال الباجي وهو قول أكثر المالكية وأكثر الشافعية والقاضي عبد الوهاب هو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا وابن برهان إليه ذهب كافة العلماء منهم الكرخي ونصره ابن السمعاني وأبو زيد الدبوسي والرافعي أنه المشهور عند الأصحاب والنووي أنه الصواب من مذهب الشافعي وهو موجود في كتب أصحابنا العراقيين في الأصول ومقدمات كتبهم المبسوطة في الفروع انتهى. وصرح به في الرسالة أيضا لكن صرح في موضع من الأم بخلافه فيحتمل أن يكون له في المسألة قولان كما ذكر ابن الحاجب وغيره وأن ينزل القولان على حالين فالنفي على ما إذا صدر من حاكم والإثبات إذا ما صدر من غيره وقال أبو إسحاق في اللمع إنه إجماع على المذهب وجمع السبكي بين القولين بأن الإجماع المنفي هو القطعي والمثبت هو الظني، وأما متقدمو الأصوليين فلا يطلقون لفظ الإجماع إلا على القطعي انتهى. قلت وأخذ هذا من قول غير واحد كالروياني وأبي حامد الإسفراييني والرافعي أنه حجة وهل هو إجماع فيه وجهان "والجبائي إجماع بشرط الانقراض" للعصر وهو رواية عن أحمد ونقله ابن فورك عن أكثر أصحاب مذهبه والأستاذ أبو طاهر عن حذاقهم واختاره ابن(25/268)
القطان والبندنيجي وقال في اللمع إنه المذهب والرافعي إنه أصح الأوجه "ومختار الآمدي" والكرخي والصيرفي وبعض المعتزلة كأبي هاشم على ما في القواطع "إجماع ظني أو حجة ظنية" وقيل إن كان الساكنون أقل كان إجماعا وإلا فلا وهو مختار الجصاص، وحكاه السرخسي عن الشافعي وقيل إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج فإجماع وإلا فحجة وفي كونه إجماعا وجهان وذهب الروياني إلى هذا التفصيل فيما إذا كان في عصر الصحابة أما إذا كان في غير عصرهم فلا يكون إجماعا ولا حجة وألحق الماوردي التابعين بالصحابة في ذلك وذكر النووي أنه الصحيح، وصاحب الوافي تابعي التابعين بالتابعين، وصرح الرافعي تبعا للقاضي حسين والمتولي بأن غيرهم من أهل الأعصار كذلك وهو متجه قال "الحنفية لو شرط سماع قول كل" من المجمعين "انتفى" الإجماع "لتعذره" أي سماع قول كل "عادة" قال السرخسي إذ ليس في وسع علماء العصر السماع من الذين كانوا قبلهم بقرون فهو ساقط عنهم؛ لأن المتعذر كالممتنع، وكذا يتعذر السماع عن جميع علماء العصر والوقوف على قول كل منهم في حكم حادثة حقيقة لما فيه من الحرج(25/269)
ص -131-…البين لكن الإجماع غير منتف فالشرط المذكور منتف، فإن قيل فمن أين تعلمون السكوتي من القول حينئذ؟ فالجواب بالتتبع لكيفية وقوعه فما تتبع فلم يدر كيف وجد كان قوليا؛ لأنه الأصل وما تتبع فوجد أنه أفتى به أو قضى به بعضهم بمحضر منهم أو بغيبة منهم وبلغهم فسكتوا ولم ينكروه أو نقل ابتداء بهذه الكيفية فهو سكوتي. "وأيضا العادة في كل عصر إفتاء الأكابر وسكوت الأصاغر تسليما وللإجماع على أنه" أي السكوتي "إجماع في الأمور الاعتقادية فكذا" الأحكام "الفرعية" يكون فيها إجماعا قال "النافون" لحجيته "مطلقا" أي قطعا وظنا "السكوت يحتمل غير الموافقة من خوف أو تفكر أو عدم اجتهاد أو تعظيم" للقائل فلا يكون إجماعا ولا حجة مع قيام هذه الاحتمالات "أجاب الظني بأنه" أي السكوت "ظاهر في الموافقة" للمفتي في فتواه والقاضي في قضائه "وفي غيرها" أي والسكوت في غير الموافقة مما ذكر "احتمالات" غير ظاهرة وهي "لا تنفي الظهور و" أجاب "الحنفية انتفى الأول" وهو السكوت للخوف "بالعرض" حيث قلنا ولا تقية "و" انتفى "ما بعده" وهو السكوت للتفكر "بمضي مدة التأمل فيه عادة و" السكوت "للتعظيم بلا تقية فسق" كترك الواجب الذي هو الرد؛ لأن الفتوى أو القضاء إذا كان غير حق يكون منكرا واجب الرد فلا ينسب إلى المتدين وكيف والظاهر أن مباحث المجتهدين مأمونة العواقب لطهارة مقاصدهم؛ لأنهم متظاهرون على النصيحة بتحقيق الحق وإزاحة الباطل؛ لأنهم أئمة الدين والسادة القادة إلى اليقين فإن ادعي ثبوت ذلك عن ساكت فلا يقدح مخالفته حينئذ؛ لأن القادح قول المجتهد العدل وهذا على هذا التقدير ليس به وكيف لا ومن تسامح في الدين ولو بمسألة واحدة يخرج عن الأهلية، وإن فرض كون القاضي ظالما يبطش على من أنكر عليه في مسائل الاجتهاد ومواضع الإنكار ممن هو من أهل ذلك فهو غير أهل فلا يعتبر قوله فضلا عن أن يصير إجماعا. "وما عن ابن عباس في سكوته عن عمر في القول" من قوله(25/270)
"كان مهيبا نفوا" أي الحنفية كفخر الإسلام والقاضي أبي زيد "صحته" عنه "ولأنه" أي عمر رضي الله عنه "كان يقدمه" أي ابن عباس "على كثير من الأكابر ويستحسن قوله" فعنه كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من حيث علمتم فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال ما تقولون في قول الله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا قال فما تقول قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تقول رواه البخاري وعنه قال دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر "ما علمتم التمسوها في العشر الأواخر" وترا ففي أي الوتر ترونها فقال رجل برأيه إنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة فقال يا ابن عباس تكلم قال قلت أقول برأيي قال عن رأيك أسألك قلت إني سمعت والله(25/271)
ص -132-…أكثر من ذكر السبع فذكر الحديث وفي آخره قال عمر أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستوشئوا رأسه أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر والحاكم وقال صحيح الإسناد إلى غير ذلك. "وكان" عمر رضي الله عنه "ألين للحق" وأشد انقيادا له من غيره "وعنه لا خير فيكم إن لم تقولوا ولا خير في إن لم أسمع" ذكره في التقويم وغيره "وقصته مع المرأة في نهيه عن مغالاة المهر شهيرة" رواها غير واحد منهم أبو يعلى الموصلي بسند قوي عن مسروق قال ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان الصدقات فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة درهم قال نعم قالت أما سمعت الله يقول {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فقال عمر اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر قال، ثم رجع فركب المنبر، ثم قال يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب لكن في نفي صحة اعتذار ابن عباس عن ترك مراجعة عمر بالهيبة نظر فقد روى الطحاوي وإسماعيل بن إسحاق القاضي في الأحكام عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال دخلت أنا وزفر بن الحدثان على ابن عباس رضي الله عنهما بعد ما ذهب بصره فتذاكرنا فرائض المواريث فقال ابن عباس أترون من أحصى رمل عالج عددا لم يخص في مال نصفا ونصفا وثلثا إذا ذهب نصف ونصف فأين الثلث فساق الحديث ورأيه في ذلك وفي آخره فقال له زفر ما منعك أن تشير عليه بهذا الرأي قال هيبة والله قال شيخنا الحافظ موقوف حسن(25/272)
انتهى قالوا ولئن صح فهذا منه إظهار للعذر في الامتناع عن مناظرته واستقصائه في المحاجة معه بأن ذلك كان منه احتشاما وإجلالا له كما يكون مع الشبان مع ذوي الأسنان في كل عصر ولا سيما إذا ظهر له أن المخالف لا يرجع عن رأيه فإن المناظرة في ذلك قد تترك لعدم الفائدة ولا يخفى أن هذا وإن دفع أن السكوت قد يكون تقية لا يدفع أن يكون لغيرها مطلقا لا للموافقة فلا يثبت مع كونه إجماعا قطعيا، بل قصارى ما يثبت معه كونه ظنيا بناء على أن هذا وأمثاله بالنسبة إليه نادر فلا يقدح فيما هو الظاهر منه وهو الموافقة ولعله إنما تم لابن عباس السكوت إجلالا لعمر من غير أن يكون ملوما على ذلك؛ لأنه لم يكن وقتئذ في درجة الاجتهاد وغير المجتهد لا يتعين عليه إظهار المخالفة.
"وقد يقال السكوت عن" إنكار "المنكر مع القدرة" على إنكاره "فسق وقول المجتهد ليس إياه" أي منكرا "فلا يجب" على المجتهد الساكت "إظهار خلافه" أي قول المجتهد الناطق "ليكون السكوت" عن إنكاره "فسقا" لكونه حينئذ سكوتا عن إنكار المنكر مع قدرته على إنكاره "بل هو" أي المجتهد الساكت "مخير" بين السكوت واظهار خلافه وهذا "بخلاف الاعتقادي فإنه" أي المجتهد فيه "مكلف بإصابة الحق فغيره" أي الحق إذا أتي به "عن اجتهاد(25/273)
ص -133-…منكر فامتنع السكوت" فيه كي لا يكون ساكتا عن منكر فيكون فاسقا اللهم "إلا أن يقال يجب" على الساكت إظهار خلاف قول القائل في الفروع أيضا "لتجويزه" أي المجتهد الساكت "رجوع المفتي" أو القاضي "إليه" أي إلى قوله "لحقيته" على أنا سنذكر من الميزان أن العمل والاعتقادي في الجواب سواء على قول أهل السنة والقائل بأن المجتهد قد يخطئ ويصيب. "وإذن فقول معاذ في جلد الحامل" التي زنت لما هم بجلدها عمر أن جعل الله لك على ظهرها سبيلا "ما جعل الله لك على ما في بطنها سبيلا" ولفظ كشف البزدوي فلم يجعل لك على ما في بطنها سبيلا فقال لولا معاذ لهلك عمر ولم أقف على تخريجه. دليل "للوجوب" أي وجوب إظهار المخالفة في قضاء المجتهد على المجتهد المخالف له "فيبطل" به "تفصيل ابن أبي هريرة" السابق بناء على ما سنذكره من أن العادة لا تنكر الحكم؛ لأن معاذا أنكر القضاء المخالف لما عنده "لكنه" أي وجوب إظهار المخالفة على المجتهد الساكت للمجتهد القائل إذا جوز رجوعه إليه "ممنوع"؛ لأن التجويز غير ملزم وليس ما ذهب إليه القائل بمعلوم البطلان في الواقع بل صواب عند قائله وهو مأجور على كل حال ومعذور في حال الخطأ ولا نسلم أن قول معاذ دليل الوجوب بل كما قال المصنف "وقول معاذ اختيار لأحد الجائزين" من السكوت وإظهار المخالفة "أو" إظهار المخالفة واجب "في خصوص" هذه "المادة" لما فيه من صيانة نفس محترمة عن تعريضها للهلاك فلا يلزم من كون السكوت إجماعا قطعيا في الاعتقادي أن يكون كذلك في الفرعي لعدم اللازم الباطل على تقدير كونه غير إجماع قطعي في الفرعي بخلافه في الاعتقادي لكن إبطال الدليل المعين لا يبطل المدعى. "وقوله" أي ابن أبي هريرة "العادة أن لا ينكر بخلاف الفتوى" إنما هو "بعد استقرار المذاهب" لا قبله والنزاع إنما هو فيما قبله والأمر في الفتوى كذلك "وقول الجبائي الاحتمالات تضعف بعد الانقراض لا قبله" أي الانقراض "ممنوع بل الضعف"(25/274)
لها "يتحقق بعد مضي مدة التأمل في مثله عادة ومن المحققين" وهو عضد الدين "من قيد قطعيته" أي الإجماع السكوتي "بما إذا كثر وتكرر فيما تعم به البلوى" بلفظ ربما "وحينئذ" أي وحين كان الإجماع السكوتي فيما يكثر وقوعه مما تمس الحاجة إليه وقد تكرر الإفتاء والحكم فيه بشيء من بعض المجتهدين مع عدم المخالفة من آخرين "يحتمل" أن يكون مفيدا للقطع بمضمونه كما ذكر لبعد ظن المخالفة من الساكتين في مثله عادة بل كما ذكر السبكي أن تكرر الفتيا مع طول المدة وعدم المخالفة مفض إلى القطع قال ويختلف ذلك باختلاف طول الزمان وقصره وقد صرح ابن التلمساني في شرح المعالم بذلك وأنه ليس من محل الخلاف وهو مقتضى كلام إمام الحرمين أيضا فإنه جعل صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الواقعة. قال السبكي وأما إذا تكرر مع طول الزمان فلا أنكر جريان خلاف وقد اقتضاه كلام القاضي أبي بكر ولكنه ليس الخلاف في السكوتي بل أضعف منه وقد ذكر في وضع المسألة قيودا رأينا أن نذكرها مع مزيد كلام فيها، وإن كان قد تقدم بعضها: أولها: كونه في مسائل التكليف إذ قول القائل عمار أفضل من حذيفة مثلا وبالعكس لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه قاله(25/275)
ص -134-…ابن الصباغ وابن السمعاني وأبو الحسين وصاحب الميزان من مشايخنا كما نذكره قريبا. ثانيها: أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ولم ينكروا وإلا فلا يكون الإجماع السكوتي قاله الصيرفي وغيره ووراءه حالتان: إحداهما أن يغلب على الظن أنه بلغهم لانتشاره وشهرته فقال الأستاذ أبو إسحاق هو إجماع على مذهب الشافعي واختاره أيضا وجعله درجة دون الأول انتهى قلت وجعل مشايخنا اشتهار الفتوى من البعض والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الإجماع يفيد أن هذا من صور الإجماع السكوتي أيضا لكن كونه إجماعا قطعيا عندهم يقتضي اشتراط العلم ببلوغه مجتهدي العصر فإما أن يحمل الاشتهار على العلم ببلوغهم وإما أن يحمل قولهم الإجماع السكوتي قطعي على نوع منه وهو ما علم بلوغه مجتهدي العصر وسكوتهم من غير إنكار، وأما ما ظن بلوغه إياهم من غير إنكار فظني وعلى هذا يتفق هو وقول الإسفراييني المذكور. الحالة الثانية أن لا يغلب على الظن بل احتمل بلوغه وعدمه وعبر عنه ابن الحاجب بما إذا لم ينتشر وذكر أن عدم إنكاره ليس بحجة عند الأكثر؛ لأنه يجوز أن لا يكون لهم قول فيه لعدم خوضهم في ذلك أو لغيره من الموانع أو لهم قول مخالف لم ينقل وقيل حجة مطلقا، وقال الإمام الرازي وأتباعه إن كان فيما تعم به البلوى كنقض الوضوء بمس الذكر كان كالسكوتي؛ لأنه لا بد من خوض غير القائل فيه فيكون سكوته موافقة للقائل وإلا لم يكن حجة لاحتمال الذهول، ثم اشتراط بلوغ جميع أهل العصر كما ذكر ماش على ظاهر تفسير الآمدي وابن الحاجب الانتشار ببلوغ الجميع وظاهر كلام الرازي أنه أعم من أن يعلم أنه بلغ الجميع أو لا وبه صرح بعضهم. قلت ويتأتى أن يقال إن هذا متفرع على الخلاف في اشتراط اتفاق جميع المجتهدين أو إلا واحدا أو اثنين أو أكثرهم وقد عرفت المختار وغيره فيه. ثالثها كون السكوت مجردا عن الرضا والكراهة أما إذا كان معه أمارة رضا فقال الروياني والخوارزمي والقاضي عبد(25/276)
الوهاب يكون إجماعا بلا خلاف وجرى عليه الرافعي قال السبكي وقضيته أنه إن ظهرت أمارة سخط لم يكن إجماعا بلا خلاف وكلام الإمام الرازي كالصريح في جريان الخلاف، وإن ظهرت أمارة السخط. قلت والقول بأنه إجماع بعيد. رابعها مضي زمان يسع قدر مهلة النظر في تلك المسألة عادة ولا بد منه ليندفع احتمال أن الساكتين كانوا في مهلة النظر ذكره أبو زيد وغيره. خامسها أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان. سادسها أن يكون في محل الاجتهاد فلو أفتى واحد بخلاف الثابت قطعا فليس سكوتهم دليلا على شيء ولعلهم إنما سكتوا للعلم بأنه منكر وأن الإنكار لا يفيد وفي الميزان إن لم تكن المسألة من الاجتهاديات بل من العقليات المبنية على الدليل العقلي فإن لم يكن عليهم في معرفة حكمها تكليف عندهم كما يقال أبو هريرة أفضل أم أنس لا يكون السكوت وترك الإنكار عما اشتهر من القول بأحدهما إجماعا، وإن كان في معرفة حكمها تكليف عندهم وانتشر قول البعض وسكت الباقون كان إجماعا، وإن كانت اجتهادية بأن كانت من الفروع التي هي من باب العمل لا الاعتقاد فعلى قول أهل السنة والجماعة والقائل إن المجتهد قد يخطئ ويصيب في الفروع فالجواب فيها وفي المسألة الاعتقادية(25/277)
ص -135-…سواء وعلى قول القائل كل مجتهد مصيب فالجبائي يكون إجماعا إذا انتشر القول فيهم، ثم انقرض العصر وابنه لا يكون إجماعا ولكن يكون حجة وأبو عبد الله البصري لا يكون إجماعا ولا حجة وعن الشافعي لا أقول إنه إجماع ولكن أقول لا أعلم فيه خلافا تحرزا عن احتمال الخلاف احتياطا انتهى ملخصا. ويتلخص منه أن كون المسألة تكليفية مغن عن ذكر هذا القيد لاشتمالها عليه عند أهل السنة والجماعة والقائل: المجتهد قد يخطئ ويصيب. سابعها أن يكون قبل استقرار المذاهب ليخرج إفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم ومذهبه كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب والخلاف، وفائدته أن لا يكون السكوت تقية كما تقدم، ثم لا فرق في حكم المسألة بين أن يكون إجماعا في عصر الصحابة أو غيرهم كما صرح به صاحب الميزان وعليه يحمل إطلاق إمام الحرمين والآمدي والمتأخرين، ووقع للقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الشيرازي والغزالي والقاضي عبد الوهاب تصوير المسألة بعصر الصحابة فإن لم يكن ذلك قيدا اتفاقيا وإلا فالأولى التسوية بين الجميع كما قاله السبكي بل التسوية هي الوجه والله سبحانه أعلم.(25/278)
"تنبيه" وقد عرف من هذه الجملة أنه لو قال بعض أهل الإجماع هذا مباح وأقدم الباقي على فعله أنه يكون إجماعا منهم كما قاله القاضي عبد الوهاب، وأما لو اتفقوا على عمل ولم يصدر منهم قول ففيه مذاهب: أحدها وهو ما قطع به أبو إسحاق الشيرازي وفي المنخول أن المختار أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوتها له. ثانيها المنع نقله إمام الحرمين عن القاضي وتعقبه الزركشي بأن الذي رآه في التقريب للقاضي التصريح بالجواز فقال كل ما أجمعت الأمة عليه يقع بوجهين إما قول أو فعل وكلاهما حجة انتهى. ثالثها قول إمام الحرمين يحمل على الإباحة ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب. رابعها قول ابن السمعاني كل فعل لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الإجماع كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع، وأما الذي خرج مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع؛ لأن الشرع يؤخذ من فعل الرسول كما يؤخذ من قوله ولا بد من مجيء التفصيل بين أن ينقرض العصر أو لا ومن اشتراطه في القولي فهنا أولى وقد عرفت أن اشتراطه خلاف التحقيق.
مسألة
"إذا أجمع على قولين في مسألة" في عصر من الأعصار "لم يجز إحداث" قول "ثالث" فيها "عند الأكثر" منهم الإمام الرازي في المعالم ونص عليه محمد بن الحسن في نوادر هشام والشافعي في رسالته "وخصه" أي عدم جواز إحداث ثالث "بعض الحنفية بالصحابة" أي بما إذا كان الإجماع على قولين فيها منهم فلم يجوز لمن بعدهم إحداث ثالث فيها "ومختار الآمدي" وابن الحاجب والرازي في غير المعالم وأتباعه يجوز إن لم يرفع شيئا مما(25/279)
ص -136-…أجمع عليه القولان ولا يجوز "إن رفع مجمعا عليه كرد المشتراة بكرا بعد الوطء لعيب قبل الوطء" كان بها عند البائع علمه المشتري بعد الوطء ولم يرض به "قيل لا" يردها "وقيل" يردها "مع الأرش" أي أرش البكارة "لا يقال" يردها "مجانا" أي بغير أرش البكارة؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه كذا ذكره ابن الحاجب ونقله في المبسوط الأول عن علي وابن مسعود والثاني عن عمر وزيد بن ثابت وأنهما قالا يرد معها عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصف عشر قيمتها إن كانت ثيبا، ثم قال فقد اتفقوا على أن الوطء لا يسلم للمشتري مجانا فمن قال يردها ولا يرد معها شيئا فقد خالف أقاويل الصحابة وكفى بإجماعهم حجة عليه وقال شيخنا الحافظ وفي هذا المثال نظر فإن الذي يروى عنهم ذلك من الصحابة لم يثبت عنهم. وأما التابعون فصحت عنهم الأقوال الثلاثة: الأول عن عمر بن عبد العزيز وروي عن الحسن البصري، والثاني عن سعيد بن المسيب وشريح ومحمد بن سيرين وعدد كثير، والثالث عن الحارث العكلي وهو من فقهاء الكوفة من أقران إبراهيم النخعي انتهى والذي نقله ابن المنذر أن شريحا والنخعي كانا يقولان إن كانت بكرا ردها ورد معها عشر قيمتها، وإن كانت ثيبا ردها ورد معها نصف عشر قيمتها، ثم نقله عن ابن أبي ليلى أيضا ونقل عن ابن المسيب أنه يرد معها عشرة دنانير وقال وروينا عن علي أنه قال يوضع عن المشتري قدر ما يضع ذلك العيب أو الداء من ثمنها وبه قال ابن سيرين والزهري والثوري وإسحاق ويعقوب والنعمان، ونقل عن مالك والشافعي إن كانت ثيبا ردها ولا يرد معها شيئا، وإن كانت بكرا ردها وما نقصها الاقتضاض من ثمنها عند مالك ولم يردها بل يرجع بما نقصها العيب من الثمن عند الشافعي وقال السبكي إن مذهب الشافعي جواز الرد وبذل الأرش والبقاء وأخذ الأرش فإن تشاحا فالصحيح يجاب من يدعو إلى الإمساك والرجوع بأرش العيب القديم. وحكى ابن قدامة عن أحمد في الثيب روايتين لا يردها كما قال(25/280)
أصحابنا ويردها بلا شيء كما قال مالك والشافعي وأنها الصحيحة.
"ومقاسمة الجد" الصحيح وهو من لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى "الإخوة" لأبوين أو لأب كما هي مستوفاة في علم المواريث "وحجبه الإخوة فلا يقال بحرمانه" أي الجد بهم؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه لاتفاق القولين على أن للجد حظا من الميراث ذكره ابن الحاجب أيضا قال شيخنا الحافظ وفي هذا المثال أيضا نظر فإن الأقوال الثلاثة مشهورة عن الصحابة حجبه لهم عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى المقاسمة وهو قول الأكثر وجاء حرمانه عن زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع زيد وعلي إلى المقاسمة قلت اللهم إلا أن يثبت إجماع من بعدهم على بطلان الثالث الذي هو الحرمان فالقول به بعد من بعدهم يكون ثالثا رافعا لمجمع عليه فلا يسمع بناء على أن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق "وعدة الحامل المتوفى عنها" زوجها "بالوضع" لحملها كما هو قول عامة أهل العلم من الصحابة وغيرهم "أو أبعد الأجلين" من الوضع ومضي أربعة أشهر وعشر كما روي عن علي وابن(25/281)
ص -137-…عباس ذكره ابن المنذر وغيره "لا يقال" تنقضي عدتها "بالأشهر فقط"؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه "بخلاف الفسخ" للنكاح "بالعيوب" من الجنون والجذام والبرص والجب والعنة والقرن والرتق وعدم الفسخ بها "وزوجة وأبوين أو زوج" وأبوين "للأم ثلث الكل أو ثلث ما بقي" بعد فرض الزوجين. "يجوز التفصيل في العيوب" وكيف لا والأقوال الثلاثة فيها مشهورة عن الصحابة والذين قالوا بالتفريق اختلفوا فيما يفسخ به كما ذكر شيخنا الحافظ وقد وقع كما هو معروف في الخلافيات "وبين الزوج والزوجة" كما ستعلم فإن التفصيل في كل من هذين لم يرفع مجمعا عليه؛ لأنه وافق في كل صورة قولا "وطائفة" كالظاهرية وبعض الحنفية على ما ذكر ابن برهان وابن السمعاني قالوا "يجوز" إحداث ثالث "مطلقا" أي سواء كان المجمعون على قولين الصحابة أو غيرهم وسواء رفع الثالث مجمعا عليه أو لم يرفع، وأما مجرد نقل قولين عن أهل عصر من الأعصار من غير ظهور إجماعهم عليهما فلا يكون مانعا من إحداث ثالث كما هو الظاهر نفي بيان كل من هذه الأقوال فقال "الآمدي" إنما يجوز الإحداث إذا لم يرفع مجمعا عليه لأنه "لم يخالف مجمعا" عليه "وهو" أي خلاف المجمع عليه "المانع" من الإحداث؛ لأنه خرق للإجماع ولم يوجد "بل" الثالث حينئذ "وافق كلا" من القولين "في شيء" فيجوز لوجود المقتضي للجواز وهو الاجتهاد وارتفاع المانع منه وهو خرق الإجماع فإن قيل كون كل من الطائفتين أجمعوا على قول ولم يفصلوا إجماع على عدم التفصيل فلا يتحقق التفصيل المذكور؛ لأن المخالفة للإجماع لازمة لكل صورة من صور إحداث ثالث فالجواب المنع كما أشار إليه بقوله "وكون عدم التفصيل مجمعا" عليه "ممنوع بل هو" أي الإجماع على عدم التفصيل "القول به" أي بعدم التفصيل والفرض أنهم لم يقولوه بل سكتوا عنه "وإلا" لو كان السكوت عن التفصيل قولا بعدمه "امتنع القول فيما يحدث" من الحوادث التي لا قول لأحد فيها "إذ كان عدم القول(25/282)
قولا بالعدم" للقول واللازم باطل ومن ثم لم يقل به أحد والفرق بين القول بعدم الشيء وعدم القول بالشيء أن لا حكم في الثاني دون الأول. "ولنا" على المختار وهو الأول "لو جاز التفصيل كان مع العلم بخطئه" أي التفصيل "لأنه" أي التفصيل لا عن دليل ممتنع؛ لأن القول في الشرع بلا دليل باطل فهو "عن دليل" وحينئذ "فإن اطلعوا" أي المطلقون "عليه" أي على الدليل "وتركوه أو لم يطلعوا" عليه "حتى تقرر إجماعهم على خلافه لزم خطؤه" أي ذلك الدليل "إذ لو كان" ذلك الدليل "صوابا أخطئوا" بترك عملهم به علموه أو جهلوه "والتالي" أي خطؤهم "منتف فليس" دليل التفصيل "صوابا" ولانتفاء خطئهم لزم صواب ما أجمعوا عليه والحاصل أن لو كان التفصيل صحيحا كان المطلقون مخطئين أو جاهلين وهو منتف ولزومه هو الموجب للقطع بصواب ما أجمعوا عليه "والمانع" من القول بخلاف قولهم "لم ينحصر في المخالفة" أي في كونه مخالفة بل جاز أن يكون لذلك وأن يكون للقطع بخطئه بسبب آخر وهو العلم بأنه لو صح لزم جهل الكل أو خطؤهم "مع أنا نعلم أن المطلق" من الفريقين "ينفي التفصيل"؛ لأنه يقول الحق ما ذهبت إليه لا غير "فتضمنه" أي نفي التفصيل "وإطلاقه" أي المطلق فيكون بمنزلة التنصيص عليه فقد اجتمعوا(25/283)
ص -138-…في المعنى على أن ما هو الحق حقيقة في هذين القولين لإيجاب كل طائفة الأخذ بقولها أو قول مخالفها وتحريم الأخذ بغيرها. "وأما قولهم" أي استدلال الأكثرين بأنه لو جاز التفصيل "يلزم تخطئة كل فريق" من المطلقين لكونهم لم يفصلوا "فيلزم تخطئتهم" أي الأمة كلها وتخطئتها غير جائز للنص على أنها لا تجتمع على ضلالة فالتفصيل غير جائز "فدفع بأن المنتفي" في النص "تخطئة الكل فيما اتفقوا عليه لا تخطئة كل في غير ما خطئ فيه الآخر" ولازم التفصيل من هذا القبيل نعم قال البيضاوي وفيه نظر ولم يبينه ووجهه الإسنوي وغيره بأن الأدلة المقتضية لعصمة الأمة عن الخطأ شاملة للصورتين فالتخصيص لا دليل عليه لكن كما قال السبكي، وهذا النظر له أصل مختلف فيه وهو أنه هل يجوز انقسام الأمة إلى شطرين كل شطر مخطئ في مسألة؟ الأكثر أنه لا يجوز واختار الآمدي وابن الحاجب خلافه وهو متجه ظاهر فإن المحذور حصول الاجتماع منها على الخطأ إذ ليس كل فرد من الأمة بمعصوم فإذا انفرد كل واحد بخطأ غير خطأ صاحبه فلا إجماع على الخطأ "المجوز مطلقا اختلافهم" أي المجمعين الأولين على قولين على سبيل التوزيع من الجانبين في مسألة "دليل تسويغ ما يؤدي إليه الاجتهاد" فيها؛ لأن اختلافهم فيها دال على كونها اجتهادية فساغ فيها الاجتهاد فساغ ما يؤدي إليه الاجتهاد "فلا يكون" اختلافهم على قولين فيها "مانعا" من إحداث ثالث فيها بل مسوغا له لصدوره عن اجتهاد أيضا "أجيب" بأن اختلافهم دليل تسويغ ما يؤدي إليه الاجتهاد "بشرط عدم حدوث إجماع مانع" من الاجتهاد "كما لو اختلفوا" في حكم حادثة "ثم أجمعو هم" على قول واحد فيه وهنا وجد إجماع مانع من الاجتهاد وهو إجماعهم معنى على عدم التفصيل كما سبق تقريره.(25/284)
"قالوا" أي المجوزون مطلقا أيضا "لو لم يجز" إحداث قول ثالث مطلقا "لأنكر إذ وقع" لكنه وقع "ولم ينكر قال الصحابة للأم ثلث ما بقي" بعد فرض الزوجين "فيهما" أي في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين "وابن عباس ثلث الكل" فيهما كما رواه الجارودي عنه وعن علي أيضا "فأحدث ابن سيرين وغيره" وهو جابر بن زيد أبو الشعثاء كما ذكر الجصاص "أن" للأم "في مسألة الزوج" وأبوين "كابن عباس والزوجة" أي وللأم في مسألتها مع الأبوين "كالصحابة، وعكس تابعي آخر" وهو القاضي شريح كما نقله صاحب الكافي فقال لها في مسألة الزوج كالصحابة وفي مسألة الزوجة كابن عباس "ولم ينكر" إحداث كل من هذين القولين "وإلا" لو أنكر "نقل" ولم ينقل والوقوع دليل الجواز. "أجاب المفصل بأنه" أي هذا التفصيل من كل "من قسم الجائز" إحداثه؛ لأنه لم يرفع مجمعا عليه بل قال في كل صورة بقول من القولين "ومطلقو المنع" أي وأجاب المانعون مطلقا "بمنع" كل من "انتفاء الإنكار ولزوم النقل لو أنكر، والشهرة لو نقل" بل يجوز أن يكون أنكر ولم ينقل الإنكار على أنه لو نقل لا يلزم أن يشتهر فإن مثل هذا ليس مما تتوفر الدواعي على حكاية إنكاره ونقله ألبتة.(25/285)
ص -139-…مسألة
"الجمهور إذا أجمعوا" أي أهل عصر "على دليل" لحكم "أو تأويل جاز" لمن بعدهم "إحداث غيرهما" من غير إلغاء الأول فإن قلت ذكر القاضي عضد الدين وغيره أن هذا إذا لم ينصوا على بطلانه للاتفاق على أنه لا يجوز إحداث ما نصوا على بطلانه وقال الإمام الرازي اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم، وأما إحداث الجديد فإن لزم منه القدح في القديم لم يصح كما إذا اتفقوا على تفسير المشترك بأحد معنييه، ثم جاء من بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز؛ لأن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله بمعنييه جميعا وصحة الجديد تقتضي فساد القديم، وأما إذا لم يلزم منه القدح جاز فلم لم يقيد ابن الحاجب والمصنف الجواز بما إذا لم ينصوا على بطلانه وبما لا يلزم منه القدح في الأول قلت كأنه للعلم بإرادته للزوم تخطئة الأمة فيما أجمعوا عليه تقديره كما لم يقيده آخرون بما إذا لم ينصوا على صحة إحداثه أيضا للعلم بجواز ما نصوا على صحته اتفاقا إذ لا تخطئة للأمة فيه فمحل الخلاف ما سكتوا فيه عن الأمرين فالأكثرون يجوز وقيل لا يجوز؛ لأنه إجماع على ذلك. وقال ابن حزم وغيره إن كان نصا جاز الاستدلال به، وإن كان غيره لا، وقال ابن برهان إن كان ظاهرا لا يجوز إحداثه، وإن كان خفيا يجوز لجواز اشتباهه على الأولين "وهو المختار وقيل لا، لنا" أن كلا من الدليل والتأويل "قول" عن اجتهاد "لم يخالف إجماعا؛ لأن عدم القول ليس قولا بالعدم" فجاز لوجود المقتضي لجوازه وعدم المانع منه "بخلاف عدم التفصيل" في قولين مختلفين مجمع عليهما "في مسألة واحدة" فإن القول المفصل فيها يخالف مجمعا عليه في المعنى "لأنه" أي أحد صاحبي القولين المطلقين "يقول لا يجوز التفصيل لبطلان دليله" أي التفصيل "بما ذكرنا" من أنه لو جاز التفصيل كان مع العلم بخطئه إلخ "وكذا" المطلق "الآخر" يقول لا يجوز التفصيل لبطلان دليله بما ذكرنا "فيلزم" من الإحداث له "خطؤهم" أي الأمة وهو باطل(25/286)
لا؛ لأن عدم القول قول بالعدم "وأيضا لو لم يجز" إحداث كل من الدليل والتأويل "لأنكر" إحداثه "حين وقع" ضرورة أنه حينئذ منكروهم لا يسكتون عنه "لكن" لم ينكر بل "كل عصر به يتمدحون" ويعدون ذلك فضلا فكان إجماعا قال مانعو جوازه أولا هو اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن سبيلهم الدليل أو التأويل السابق وهذا الحادث غيره فلا يجوز بالآية. قلنا ممنوع بل كما قال "واتباع غير سبيلهم اتباع خلاف ما قالوه" متفقين عليه من نفي أو إثبات كما هو المتبادر إلى الفهم من المغايرة "لا ما لم يقولوه" وهذا ما لم يقولوه، ثم إن المحدث له لم يترك دليل الأولين ولا تأويلهم، وإنما ضم دليلا وتأويلا إلى دليلهم وتأويلهم. "قالوا" أي مانعو جوازه ثانيا قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] أي بكل معروف؛ لأنه عام لتعرفه بأداة التعريف المفيدة للاستغراق "فلو كان" الدليل أو التأويل المحدث "معروفا أمروا" أي الأولون "به" ضرورة لكنهم لم يؤمروا به فلم يكن معروفا فلم يجز المصير إليه "عورض لو كان" الدليل أو التأويل المحدث "منكرا لنهوا عنه" لقوله تعالى: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] أي عن كل منكر؛ لأنه عام لتعرفه بأداة(25/287)
ص -140-…التعريف المفيدة للاستغراق لكنهم لم ينهوا عنه فلم يكن منكرا بل معروفا، ثم في الملخص للقاضي عبد الوهاب فيما إذا أجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به ينظر إن كان الدليل الثاني مما تتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلا مثل أن يتعرض للخصوص أو ينقله إلى المجاز أو النسخ ونحوه، وإن كان لم يتغير فلا يصح منهم كما لا يصح الإجماع على أن الإجماع لا يصح أن يكون دليلا، ثم هل يجري التعليل بعلة بعد أخرى مجرى الدليل في الجواز والمنع فإن قلنا بجواز تعليل الحكم بعلتين فأبو منصور البغدادي وسليم نعم هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة إلا هذه أو تكون الثانية بخلاف الأولى في بعض الفروع فتكون الثانية حينئذ فاسدة، وقال القاضي عبد الوهاب إن كان لحكم عقلي فلا؛ لأنه لا يجب بعلتين، وإن قلنا يمنع التعليل بعلتين فيجب على أصله المنع؛ لأن علتهم مقطوع بصحتها وفي ذلك دليل على فساد غيرها والله سبحانه وتعالى أعلم.(25/288)
ص -141-…لا يجب لا إن عدمه يجب "ثم يجوز كونه" أي المستند "قياسا خلافا للظاهرية" وابن جرير الطبري واستغرب منه بناء على أن منع الظاهرية له بناء على أصلهم في منع القياس وهو من القائلين بجوازه وذهب بعض مشايخنا إلى عكس هذا كما سيشير إليه المصنف في خاتمة المسألة. "وبعضهم" أي الأصوليين "يجوزه" أي كونه عن قياس عقلا ويقول "ولم يقع لنا مانع يقدر" في عدم كون القياس سند الإجماع "إلا الظنية" أي كونه دليلا ظنيا ظنا أن الإجماع حيث كان أصلا قطعيا من أصول الدين معصوما عن الخطأ لا يكون مستندا إلى ظني معرض للخطأ غير معصوم عنه إذ المجتهد قد يخطئ لئلا يلزم كون فرع الشيء أقوى منه "وليست" الظنية للدليل "مانعة" من صلاحيته لذلك "كالآحاد" أي كخبر الآحاد فإنه ظني قال في البديع ولا خلاف في انعقاد الإجماع عنه بل حكاه غير واحد عن عامة الكتب وفيه نظر ففي الميزان عن عامة أصحاب الظواهر والقاشاني من المعتزلة لا ينعقد إلا عن دليل قطعي لا عن خبر الواحد والقياس وفي أصول السرخسي وكان ابن جرير يقول الإجماع الموجب للعلم قطعا لا يصدر عن خبر الواحد ولا عن قياس وعلى هذا فينتفي احتجاج ابن القطان عليه بأنه وافق على وقوعه عن خبر الواحد وهم مختلفون فيه فكذلك القياس، ثم منع كون القياس الذي يستند الإجماع ظنيا؛ لأن الأمة إذا أجمعوا على ثبوت حكم القياس بإجماعهم على ذلك سبقه إجماعهم على صحة ذلك القياس فلم يكن ذلك القياس ظنيا بل قطعيا لوقوع الإجماع على صحته فيكون إسناد الإجماع إلى قطعي لا إلى ظني فلا يلزم كون الفرع أقوى من الأصل. قلت إلا أن في هذا تأملا فإنه إنما يتم على أن الإجماع إذا علم انعقاده لدليل يكون منعقدا على ذلك الدليل وهذا معزو إلى بعض الأشاعرة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والمتكلمين أنه يكون منعقدا على الحكم المستخرج من الدليل؛ لأن الحكم هو المطلوب الذي لأجله انعقد الإجماع فيكون منعقدا عليه لا على الدليل. قالوا(25/289)
ومما يبتنى عليه لو انعقد على موجب خبر فعند الأولين يكون إجماعهم عليه دليلا على صحة الخبر وعند الجمهور لا يكون دليلا على صحته، وإنما يدل على صحة الحكم فقط؛ لأن لصحة الحكم طريقا مخصوصا في الشرع وهو النقل فيطلب صحته وعدم صحته من ذلك الطريق لكن نقل الأول أشبه ومن هذا يعلم أيضا ضعف ما ذهب إليه بعض الشافعية من جواز انعقاده عن جلي القياس دون خفيه "و" قد "وقع قياس الإمامة" أي الإجماع على الإمامة الكبرى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قياسا "على إمامة الصلاة" له فإن النبي صلى الله عليه وسلم عين أبا بكر رضي الله عنه لإمامة الصلاة. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما. وقال ابن مسعود لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر فقال ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر يصلي بالناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. حديث حسن أخرجه أحمد وأخرج الدارقطني عن النزال بن سبرة قال وافقنا من علي رضي الله عنه طيب نفس فقلنا حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه فقلنا حدثنا عن أبي بكر قال ذاك رجل(25/290)
ص -142-…سماه الله الصديق على لسان جبريل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
"وفيه" أي وفي كون هذا مما مستنده القياس "نظر؛ لأنهم" أي الصحابة "أثبتوه" أي كون أبي بكر إماما في الكبرى "بأولى" كما يفيده ما تقدم وخصوصا الأخير "وهي" أي هذه الطريقة المفيدة له هي "الدلالة" عند الحنفية "ومفهوم الموافقة" عند الشافعية وليس هذا من المتنازع فيه فإنه راجع إلى النص "لكن" وقع الإجماع مستندا إلى القياس في غير هذا وهو "حد الشرب" للخمر فإنه ثمانون للحر بإجماع الصحابة قياسا "على القذف لعلي رضي الله عنه" كما يفيده في الموطأ وغيره أن عمر استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب أن نجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون وفي صحيح مسلم أن عمر قال ما ترون في جلد الخمر قال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعله ثمانين كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين قال المصنف ولا مانع من كون كل من علي وعبد الرحمن أشار بذلك فروى الحديث مرة مقتصرا على هذا ومرة على هذا، ثم هذا متعقب بما أشار إليه المصنف بقوله "ويمنعه" أي ثبوت الحد بالقياس "بعض الحنفية" لكن الوجه إسقاط بعض فإن الحنفية على أنه لا يثبت به الحدود كما يصرح المصنف به في مسألة عقب مسألة حكم القياس ويشير إلى أن هذا المأثور عن علي لا ينتهض عليهم ونذكر ثمة ما ييسره الله تعالى في ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا تم منع هذا "فالشيرج النجس على السمن في الإراقة" كما أشار إليه ابن الحاجب وأفصح به شارحو كلامه وغيرهم أي فالإجماع على إراقة الشيرج النجس المائع قياسا على إراقة السمن النجس المائع المستفاد مما في سنن أبي داود وصحيح ابن حبان عن أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن فقال "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه" وقد أعل بأنه غريب(25/291)
تفرد به معمر عن الزهري وأنه كان يضطرب في إسناده كما يضطرب في متنه على أن قوله فلا تقربوه متروك الظاهر عند عامة السلف والخلف فإن جمهورهم يجوز الاستصباح به وكثير منهم يجوز بيعه فكيف يتصور الإجماع في هذا بالقياس "وصرح متأخر من الحنفية أيضا بنفي قطعية المستند في الشرعيات بل الإجماع يفيدها" أي القطعية "كأنه" أي هذا من قائله "لنفي الفائدة" للإجماع على تقدير كون السند قطعيا لثبوت الحكم به، ثم لعل هذا إشارة إلى ما في الميزان وقال بعض مشايخنا لا ينعقد الإجماع إلا عن خبر الواحد والقياس؛ لأنا اتفقنا على أن الإجماع حجة قطعا ولو لم ينعقد إلا في موضع فيه دليل قاطع والحكم به معلوم لم يكن في انعقاده حجة فائدة ولا يرد الشرع بما لا فائدة فيه للعباد إذ الشرائع ما شرعت إلا لمصلحة العباد وفائدتهم، ثم حيث ثبت بالأدلة السمعية كونه حجة دل أن المراد منه ما ينعقد على القياس وخبر الواحد؛ لأن في انعقاده فائدة وهو ثبوت الحكم قطعا؛ لأنه لا تيقن في ثبوت الحكم بهما ولأن الإجماع إنما عرف حجة كرامة لهذه الأمة لحاجتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومتى وقعت حادثة ليس(25/292)
ص -143-…فيها نص قاطع وعملوا فيها بالاجتهاد وهو محتمل للخطأ. وجاز أن يكونوا على الخطأ كان قولا بخروج الحق عن جميع الأمة وإنه لا يجوز ومس الحاجة إلى تجديد الرسالة ولا وجه إليه لإخبار الله تعالى بكون رسولنا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فصار الإجماع حجة لهذه الحاجة ألا يرى أن إجماع الأمم السالفة ليس بحجة لما أنه لا حاجة إليه لوجود الدليل القاطع حال حياة رسلهم وبعد وفاتهم بتجديد الرسالة ولهذا لا ينعقد الإجماع في حال حياة الرسول فظهر أن الحاجة في موضع القياس وخبر الواحد دون موضع الآية المفسرة والخبر المتواتر؛ لأنه لم يثبت الحكم قطعا في أحد الموضعين وثبت في الموضع الآخر فينعقد في موضع الحاجة لا في موضع لم تمس الحاجة إليه ولعامة العلماء أن الدلائل الموجبة لكونه حجة لا تفصل بينما إذا كان الداعي دليلا قاطعا أو ظاهرا مع الشبهة فاشتراط القطعي تقييد للمطلق بلا دليل وإنه لا يجوز.(25/293)
ثم إذا كان المبني على الدليل المحتمل حجة فعلى المتيقن أولى كما يشير إليه قوله "وإذا قيل" القياس المستند إلى قطعي "يفيدها" أي القطعية "بأولى" أي بطريق أولى لما فيه من زيادة التأكيد وطمأنينة القلب "انتفى" التوجه المذكور "هذا على عدم تفاوت القطعي قوة كما أسلفناه". وأما على تفاوته فبطريق أولى، ثم إذا ثبت أن الإجماع حجة فالحاجة إلى مطلق الحجة والدليل ثابتة وفي كثرة الدلائل تيسير على الناس ليطلبوا الحق بأي دليل اتفق لهم وتيسر عليهم وهو جائز بل واقع بل ومراد لهم من الشارع كما نطق به الكتاب والسنة وفي الميزان ولأنا وجدنا في حادثة واحدة الكتاب والخبر المتواتر، وإن كانت الحاجة الماسة ترتفع بأحدهما فكذا إذا وجد الإجماع معها ولأن أكثر ما في الباب أنه لا حاجة ولكن فيه فائدة وهو ما ذكرنا من التيسير والتخفيف ورفع المؤنة عن طلب الحق بالاجتهاد لما فيه من زيادة التأكيد وطمأنينة القلب، وأما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فيجوز أن ينعقد الإجماع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الإجماع حجة وقول الرسول حجة فيكون حجتين وهكذا تقول في الأمم السالفة إن الإجماع حجة لما قلنا انتهى هذا، وفي التلويح واعلم أنه لا معنى للنزاع في كون السند قطعيا؛ لأنه إن أريد أنه لا يقع اتفاق مجتهدي عصر على حكم ثابت بدليل قطعي فظاهر البطلان، وكذا إن أريد أنه لا يسمى إجماعا؛ لأن الحد صادق عليه، وإن أريد أنه لا يثبت الحكم فلا يتصور النزاع فيه؛ لأن إثبات الثابت محال.
مسألة(25/294)
"لا يجوز أن لا يعلموا" أي مجتهدو عصر "دليلا راجحا" أي سالما عن المعارض المكافئ له "عملوا بخلافه واختلفوا فيما عملوا على وفقه" أي الدليل الراجح حال كونهم "مصيبين" في الحكم لكن بدليل مرجوح "فقيل كذلك" أي لا يجوز "لأن الراجح سبيلهم" أي المؤمنين "وعملوا بغيره" أي بغير الراجح؛ لأن مجرد موافقة الحكم للدليل ليس اتباعا له بل إذا أخذوه منه "والمجوز" لعملهم على وفق راجح مصيبين في الحكم لكن المرجوح يقول(25/295)
ص -144-…"ليس" عدم العلم بالراجح "بإجماع على عدمه" أي الراجح "ليكون" عملهم بالمرجوح على وفق الراجح "خطأ" فإن الخطأ من فعل المكلف وعدم العلم ليس من فعله كما لو لم يحكموا في واقعة بحكم فإنه لا يكون قولا بعدم الحكم فيها "وسبيلهم ما عملوا به لا ما" أي لا الراجح الذي "لم يخطر لهم بل هو" أي الذي لم يخطر لهم "حينئذ" أي حين لم يخطر لهم "من شأنه" أن يكون سبيلهم لا أنه سبيلهم بالفعل واختاره الآمدي وابن الحاجب، ثم الحاصل أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر لهم ولم يبلغهم فاشتراكهم في عدم العلم به لا محذور فيه.
مسألة
"المختار امتناع ارتداد أمة عصر سمعا، وإن جاز" ارتدادهم "عقلا" إذ لا مانع منه "وقيل يجوز" شرعا كما يجوز عقلا "لنا أنه" أي ارتدادهم "إجماع على الضلالة" فإن الردة ضلالة وأي ضلالة. "والسمعية" من الأدلة المتقدمة على حجية الإجماع "تنفيه" أي إجماعهم على الضلالة "واعترض بأن الردة تخرجهم" أي الأمة "عن تناولها" أي السمعية إياهم "إذ ليسوا أمته" حينئذ "والجواب يصدق" إذا ارتدوا أنه "ارتدت أمته قطعا" أي وهو أعظم الخطإ وإيراد صدق أن الأمة ارتدت غير مسلم بطريق الحقيقة، وإنما هو مجاز باعتبار ما كان، وأجيب بأن ذلك إذا أطلق بعد وقوع الردة أما في حالها فالظاهر أنه حقيقة قال السبكي ويمكن التفات ذلك إلى أن العلة مع المعلول أو سابقه فإن الارتداد علة خروجهم عن كونهم أمة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان سابقا على خروجهم صدق معه لفظ الأمة عليهم وإلا فلا، ثم ظاهر دليل المختار أن السمعي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" ونظائره كما مشى عليه الآمدي وابن الحاجب قال السبكي ولو استدل بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" لكان أوضح فإنه نص في أن هذه الأمة لا تخلو عن قائم بالحق ويستحيل معه ردة الكل.
مسألة(25/296)
"ظن أن قول الشافعي دية اليهودي الثلث" من دية المسلمين "يتمسك فيه بالإجماع لقول الكل بالثلث إذا قيل به" أي بالثلث "وبالنصف والكل وليس" هذا الظن واقعا موقعه "لأن نفي الزائد" على الثلث "جزء قوله" أي الشافعي بوجوب الثلث فقط إذ هو مشتمل على حكمين وجوب الثلث "و" نفي الزائد عليه "لم يجمع عليه" أي على نفي الزائد لا بد في نفيه من دليل آخر فإن أبدى وجود مانع من الزيادة كالكفر أو انتفاء شرط لها كالإسلام أو عدم الأدلة الدالة على الزيادة فيستصحب الأصل وهو البراءة الأصلية أو غير ذلك من نص أو قياس على عدم وجوب الزيادة فليس من الإجماع في شيء بل هي أمور خارجة عنه.(25/297)
ص -145-…صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كفر غير أن نسبة هذا إلى الحنفية ليس على العموم فيهم إذ في الميزان فأما إنكار ما هو ثابت قطعا من الشرعيات بأن علم بالإجماع والخبر المشهور فالصحيح من المذهب أنه لا يكفر انتهى. والتقويم مشير إليه أيضا إذ فيه لم نبال بخلاف الروافض إيانا في إمامة أبي بكر وبخلاف الخوارج في إمامة علي لفساد تأويلهم، وإن كنا لم نكفرهم للشبهة "وطائفة لا" تكفره وهو معزو إلى بعض المتكلمين بناء على أن الإجماع حجة ظنية؛ لأن دليل حجيته ليس بقطعي فلا يفيد العلم فإنكار حكمه ليس بكفر كإنكار الحكم الثابت بخبر الواحد والقياس وقد عرفت أن دليل حجيته قطعي في أوائل الباب فلا يتم أمر هذا البناء "ويعطي الأحكام" للآمدي "وغيره" كمختصر ابن الحاجب أن في هذه المسألة "ثلاثة" من الأقوال "هذين والتفصيل" وهو "ما" كان "من ضروريات الدين" أي دين الإسلام وهو ما يعرفه منه الخواص والعوام من غير قبول للتشكيك كوجوب اعتقاد التوحيد والرسالة ووجوب الصلوات الخمس وأخواتها من الزكاة والصيام والحج "يكفر" منكره "وإلا" إذا لم يكن من ضرورياته بأن كان لا يعرفه منه إلا الخواص كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة وإعطاء السدس للجدة وحرمة تزوج المرأة على عمتها وخالتها "فلا" يكفر منكره. "وهو" أي هذا المعطى "غير واقع"؛ لأنه يلزم منه أن إنكار نحو الصلاة لا يكفر متعاطيه وهو باطل قطعا "إذ لا مسلم ينفي كفر منكر نحو الصلاة" فليس في الواقع إلا قولان أحدهما التكفير مطلقا وهو الذي مشى عليه إمام الحرمين بما لفظه فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر وهو باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبري ليس بالهين، ثم قال نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل، ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب آيلا إلى الشارع ومن كذب الشارع كفر، والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم(25/298)
يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده كان منكرا للشرع، وإنكار جزء من الشرع كإنكار كله ثانيهما التفصيل المذكور وعليه مشى ابن السمعاني وعلل إكفار من اعتقد في شيء من المجمع عليه المشترك في معرفته الخاصة والعامة خلاف ما انعقد الإجماع عليه بأنه صار بخلافه جاحدا لما قطع به من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فصار كالجاحد لصدق الرسول. "وإذا حمل حكم الإجماع على الخصوص" وهو ما ليس من ضروريات الدين فيما في الأحكام وما وافقه ليندفع ورود هذا اللازم الباطل لا يصح أيضا لعدم صحة تقسيمه إلى نفسه وإلى غيره إذ لا خفاء في أن الإجماع على ما ليس من ضروريات الدين "لم يتناوله" أي الإجماع على ما هو من ضرورياته بل يباينه، ثم يقال وليس كون الشيء معلوما بالضرورة من الدين له حكم الإجماع "لأن حكمه حينئذ" أي الإجماع "ما ليس" ناشئا "إلا عنه" أي عن الإجماع، والمعلوم بالضرورة الدينية إنما نشأ عن ظهور كونه من الدين ظهور اشتراك في معرفة كونه منه الخاصة والعامة ولهذا قال الشيخ صفي الدين الهندي في النهاية جاحدا الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء، وإنما قيدنا بالإجماع القطعي؛ لأن جاحد حكم(25/299)
ص -146-…الإجماع الظني لا يكفر وفاقا انتهى. وجعل السبكي لمنكر المجمع عليه غير المعلوم من الدين بالضرورة ثلاث مراتب: منكر إجماع ذي شهرة فيه نص كحل البيع ففي جمع الجوامع كافر في الأصح وقال في شرح مختصر ابن الحاجب ولا ريب في كفره لتكذيبه الصادق، ومنكر إجماع ذي شهرة لا نص فيه قيل لا يكفر؛ لأنه لم يصرح بتكذيب الصادق إذ الفرض أن لا نص فيه، وإنما كذب المجمعين والأصح يكفر؛ لأن تكذيبهم يتضمن تكذيب الصادق، ومنكر إجماع ليس بذي شهرة والأصح لا يكفر وعبر عنه في جمع الجوامع بأنه لا يكون جاحدا لخفي ولو منصوصا ومثل باستحقاق بنت الابن السدس مع الصلبية فإنه قضى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وفي شرح المختصر وقال بعض الفقهاء لتكذيبه الأمة وجوابه أنه لم يكذب الأمة صريحا إذ الفرض أنه ليس مشهورا فهو مما يخفى على مثله انتهى. وهذا يشير إلى أنه يكفر المنكر إذا اعترف بالعلم به والله سبحانه أعلم "وفخر الإسلام بالقطعي من إجماع الصحابة نصا كعلى خلافة أبي بكر وقتال مانعي الزكاة ومع سكوت بعضهم" ولفظ فخر الإسلام فصار الإجماع كأنه من الكتاب أو حديث متواتر في وجوب العمل والعلم به فيكفر جاحده في الأصل انتهى وهذا كما ذكر الشيخ قوام الدين الأتقاني يتعلق بما ذكر من قوله في أول الباب حكمه في الأصل أن يثبت المراد به حكما شرعيا على سبيل التيقن انتهى. أي حكم الإجماع في أصل وضعه أن يثبت المراد على سبيل القطع واليقين كإجماع الصحابة على شيء نصا فإنه لا يحتمل توهم الخطأ وقيد بالأصل؛ لأن الإجماع ربما لا يكون موجبا للحكم قطعا ويقينا بسبب العارض كما إذا ثبت الإجماع بنص البعض وسكوت الآخرين وكثبوت بطلان الحكم في غير ما اختلف فيه الصحابة وكإجماع العصر الثاني بعد سبق الخلاف فكأنه قال لما كان حكم الإجماع في أصل الوضع أن يوجب العلم والعمل كان حكمه حكم الآية من الكتاب والحديث المتواتر فيكفر جاحد حكم الإجماع في(25/300)
أصل الوضع بأن يكون حكما أجمع عليه الصحابة كجاحدهما لا حكم كل إجماع ليتناول إجماعا نص البعض على حكمه وسكت عنه الباقون وإجماعا للعصر الثاني بعد سبق الخلاف ويدل على هذا أيضا قول فخر الإسلام، ثم هذا أي الإجماع على مراتب فإجماع الصحابة مثل الآية والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الحديث وإذا صار الإجماع مجتهدا في السلف كان كالصحيح من الآحاد انتهى. ومنكر خبر الآحاد لا يكفر ويؤيده قول شمس الأئمة السرخسي ما أجمع عليه الصحابة فهو بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة في كونه مقطوعا به حتى يكفر جاحده وهذا أقوى ما يكون من الإجماع ففي الصحابة أهل المدينة وعترة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلاف بين من يعتد بقولهم أن هذا الإجماع حجة موجبة للعلم قطعا فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو بخبر متواتر انتهى. فظهر أن كون فخر الإسلام قائلا بإكفار منكر الإجماع السكوتي من الصحابة غير ظاهر من كلامه بل الظاهر عدم إكفار منكره بل ذكر الزركشي أنه لا خلاف في أنه لا يكفر ولا يبدع منكر حجية الإجماع السكوتي أو الذي لم ينقرض أهل عصره أو(25/301)
ص -147-…الإجماعات الذي اختلف العلماء المعتبرون في انتهاضه حجة. "وأما" منكر إجماع "من بعدهم" أي الصحابة "بلا سبق خلاف فيضلل" ويخطأ من غير إكفار "كالخبر المشهور" أي كمنكره "والمسبوق به" أي بخلاف مستقر إجماع "ظني مقدم على القياس كالمنقول" أي كالإجماع المنقول "آحادا" بأن روى ثقة أن الصحابة أجمعوا على كذا فإنه بمنزلة السنة المنقولة بالآحاد فيوجب العمل لا العلم ويقدم على القياس عند أكثر العلماء "ووجه الترتيب" في هذه الإجماعات "قطعية" إجماع "الصحابي إذ لم يعتبر خلاف منكره" أي إجماعهم "وضعف الخلاف" أي خلاف منكر الإجماع "فيمن سواهم فنزل" إجماع من سواهم "عن القطعية إلى قربها" أي القطعية "من الطمأنينة ومثله" أي إجماع من سواهم في النزول عن القطعية "يجب في" الإجماع "السكوتي عن الأوجه فضلل" منكر حكمه "وقوي" الخلاف "في المسبوق" بخلاف مستقر "والمنقول آحادا فحجة ظنية تقدم على القياس فيجوز فيهما" أي في حكمي المسبوق والمنقول آحادا ولو كان في نفسه غير مسبوق بخلاف "الاجتهاد" المجتهد من غير المجمعين "بخلافه" حتى يسوغ لذلك المجتهد ولمقلده العمل بما أدى إليه اجتهاده في تلك المسألة من حكم يخالف حكمها إلى أن ينتهي تضافر الاجتهاد من أهله على ذلك الحكم إلى درجة الإجماع عليه فيصير مجمعا عليه كمخالفه. وإذ قد جاز الاجتهاد بخلافه لمجتهد من غير المجمعين "فرجوع بعضهم" أي المجمعين عنه إلى غيره اجتهادا يجوز بطريق "أولى، ثم ليس" هذا الإجماع "نسخا" للأول "بل معارض" له "رجح" عليه بمرجح من المرجحات حسبما ظهر لأهله وإذا كان كذلك "فلا يقطع بخطأ الأول ولا صوابه" في الواقع، وكذا الثاني "بل هو" أي قول كل بخطأ مخالفه وإصابة نفسه بناء "على ظن المجتهد" وهو قد يكون الثابت في نفس الأمر وقد لا "فدليل القطعية" لإجماع الصحابة مستفاد "من إجماع الصحابة على تقديمه" أي الإجماع "على القاطع في إجماعهم" إذ لا يتركون القاطع لظني.(25/302)
"ومنع الغزالي وبعض الحنفية حجية" الإجماع "الآحادي إذ ليس نصا ولا إجماعا؛ لأنه" أي الإجماع دليل "قطعي وحجية غير القاطع" إنما تكون "بقاطع كخبر الواحد ولا قاطع فيه" أي في كون الإجماع الآحادي حجة "والجواب بل فيه" أي في كون الإجماع الآحادي حجة قاطع "وهو" أي القاطع فيه "أولويته" أي الإجماع الآحادي "بها" أي بالحجية "من خبر الواحد الظني الدلالة؛ لأن الإجماع على وجوب العمل به" أي بخبر الواحد الظني الدلالة الذي تخللت واسطة بين ناقله وبين الرسول صلى الله عليه وسلم "إجماع عليه" أي على وجوب العمل "في" الإجماع "القطعي المنقول آحادا" الذي لم يتخلل بينه وبين ناقله واسطة بطريق أولى؛ لأن احتمال الضرر في مخالفة المقطوع به أكثر من احتماله في مخالفة المظنون به وإذا ثبت وجوب العمل به في هذه الصورة يثبت فيما تخلل في نقله واسطة أو وسائط لعدم القائل بالفصل. "وقد فرق" بين خبر الواحد ونقل الإجماع آحادا "بإفادة نقل الواحد الظن في الخبر دون الإجماع لبعد انفراده" أي الواحد "بالاطلاع" على الإجماع وعدم بعد انفراد الواحد بالاطلاع على الخبر "ويدفع الاستبعاد بعدالة الناقل ولا يستلزم" نقل الواحد الإجماع "الانفراد" به أيضا "بل" يفيد(25/303)
ص -148-…"مجرد عمله" أي الناقل "فجاز علم الذي لم ينقله أيضا" إلا إن عورض الإجماع الآحادي بحال يعمل بما تقتضيه قاعدة التعارض وهو ظاهر "مثاله" أي الإجماع الآحادي "قول عبيدة" السلماني "ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كاجتماعهم على محافظة الأربع قبل الظهر والإسفار بالفجر وتحريم نكاح الأخت في عدة الأخت" كذا توارده المشايخ رحمهم الله والله تعالى أعلم به. نعم أخرج ابن أبي شيبة عن عمرو بن ميمون قال لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركون أربع ركعات قبل الظهر وركعتين قبل الفجر على حال وعن إبراهيم قال ما أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما أجمعوا على التنوير بالفجر، ثم في التقويم وحكى مشايخنا عن محمد بن الحسن نصا أن إجماع كل عصر حجة إلا أنه على مراتب أربعة فالأقوى إجماع الصحابة نصا؛ لأنه لا خلاف فيه بين الأمة؛ لأن العترة وأهل المدينة يكونون فيهم، ثم الذي ثبت بنص البعض وسكوت الباقين؛ لأن السكوت في الدلالة على التقرير دون النص، ثم إجماع من بعد الصحابة على حكم لم يظهر فيه قول من سبقهم؛ لأن الصحابة كانوا خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم كانوا خلفاء الصحابة فيقع بينهم وبين خلفائهم من التفاوت فوق ما يقع بينهم وبين الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب" فرتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مراتب في الخيرية فكذلك نحن نرتبهم في كونهم حجة؛ لأنها نهاية ما تنتهي إليه صفة الخيرية، ثم إجماعهم على حكم سبقهم فيه مخالف؛ لأن هذا فصل اختلف الفقهاء فيه فقال بعضهم هذا لا يكون إجماعا ا هـ وعلى هذا درج غير واحد من المشايخ والله سبحانه أعلم.
مسألة:(25/304)
"يحتج به" أي الإجماع "فيما لا يتوقف حجيته" أي الإجماع "عليه من الأمور الدينية" سواء كان ذلك "عقليا كالرؤية" لله تعالى في الدار الآخرة "لا في جهة ونفي الشريك" لله تعالى "ولبعض الحنفية" وهو صدر الشريعة "في العقلي" أي ما يدرك بالعقل "مفيده العقل لا الإجماع" لاستقلال العقل بإفادة اليقين ومشى على هذا إمام الحرمين ففي برهانه ولا أثر للإجماع في العقليات فإن المتبع فيها الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق وتعقبه، ففي التلويح بأن العقلي قد يكون ظنيا فبالإجماع يصير قطعيا كما في تفضيل الصحابة وكثير من الاعتقاديات ودفع بأن العقل إن حكم به فلا يكون ظنيا فلا حاجة إلى الإجماع، وإن لم يحكم به إلا أنه حصل له ظن به لم يكن ثابتا بالعقل بل بالإجماع "أو لا" أي أو غير عقلي "كالعبادات" أي كوجوبها من الصلاة والزكاة والصوم والحج على المكلفين "وفي الدنيوية كترتيب أمور الرعية والعمارات وتدبير الجيوش قولان لعبد الجبار" من المعتزلة أحدهما وعليه جماعة وذكر في القواطع أنه الصحيح ليس بحجة فيها؛ لأنه ليس بأكثر من قول الرسول. وقد ثبت أن قوله إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم" وكان إذا رأى رأيا في الحرب يراجعه الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم كما وقع في حرب بدر والخندق، ثانيهما(25/305)
ص -149-…وهو الأصح عند الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما ومشى عليه ابن الحاجب ونص في البداية على أنه المختار كما قال المصنف "والمختار حجة إن كان اتفاق أهل الاجتهاد والعدالة"؛ لأن الأدلة السمعية على حجيته لا تفصل وقول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحرب وغيره إن كان عن وحي فهو الصواب، وإن كان عن رأي وكان خطأ فهو لا يقر عليه ويظهر الصواب بالوحي أو بإشارة من أصحابه فيقر عليه والإجماع بعد وجوده لا يحتمل الخطأ فلا فرق بين الأمرين وفي الميزان ثم على قول من جعله إجماعا هل يجب العمل به في العصر الثاني كما في الإجماع في أمور الدين أم لا؟ إن لم يتغير الحال يجب، وإن تغير لا يجب وتجوز المخالفة؛ لأن الدنيوية مبنية على المصالح العاجلة وهي تحتمل الزوال ساعة فساعة "بخلافه" أي الإجماع "على" حسي من الحسيات "المستقبلات من أشراط الساعة وأمور الآخرة لا يعتبر إجماعهم عليه من حيث هو إجماع" عليه؛ لأنهم لا يعلمون الغيب "بل" يعتبر "من حيث هو منقول" عمن يوقف على المغيب فرجع إلى أن يكون من قبيل الإخبارات وهو ليس من أقسام الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يشترط له الاجتهاد كذا ذكره صدر الشريعة وكأن لهذا قال المصنف "كذا للحنفية" وتعقبه في التلويح بأن الاستقبال قد يكون مما لم يصرح به المخبر الصادق بل استنبطه المجتهدون من نصوصه فيفيد الإجماع قطعيته ودفع بأن الحسي الاستقبالي لا مدخل للاجتهاد فيه فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع. وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه ولا يتمسك بالإجماع فيما تتوقف صحة الإجماع عليه كوجود البارئ تعالى وصحة الرسالة ودلالة المعجزة على صدق الرسول للزوم الدور؛ لأن صحة الإجماع متوقفة على النص الدال على عصمة الأمة عن الخطأ الموقوف على ثبوت صدق الرسول الموقوف على دلالة المعجزة على صدقه الموقوف على وجود البارئ وإرساله فلو توقفت صحة هذه الأشياء على صحة(25/306)
الإجماع لزم الدور.
وإلى هنا انتهى تحرير أصول الكتاب والسنة والإجماع وبلغت قواعدها في سماء البيان غاية الارتفاع فبرزت خرائدها سافرة للثام في أحسن حلة وأكمل قوام سهلة الانقياد لذوي النهى والأحلام بتوفيق الملك العليم العلام بعد أن كانت محجوبة عن كثير من الأفهام شامخة الأنف أبية الزمام، ومن هنا يقع الشروع في القياس الذي هو مضمار الفحول وميزان العقول وللظفر بدقائقه ورقائقه على اختلاف حدائقه وحقائقه تشد الرحال وللاحتباء بمطارف أزهاره والاجتناء لأصناف ثماره والاعتناء ببهجة أنواره والاجتلاء لساطع أنواره تسير الرجال وفي منازلة تتمايز الأقدار بحسب ما نالته من تفاوت الأنظار والله المسئول في سلوك صراطه المستقيم والهداية إلى مقصده الأسنى من فضله العميم إنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء وهو تعالى ذو الفضل العظيم.(25/307)
ص -150-…الباب الخامس في القياس
"القياس قيل هو لغة التقدير والمساواة والمجموع" منهما "أي يقال إذا قصد الدلالة على مجموع ثبوت المساواة عقيب التقدير؛ قست النعل بالنعل" أي قدرتها بها فساوتها وهذا ظاهر كلام القاضي عضد الدين "ولم يزد الأكثر" كفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي وحافظ الدين النسفي وغيرهم "على" أن معناه لغة "التقدير واستعلام القدر" أي طلب معرفة مقداره نحو "قست الثوب بالذراع والتسوية في مقدار" نحو "قست النعل بالنعل ولو" كانت التسوية أمرا
نحو "أي فلان لا يقاس بفلان، لا يقدر أي لا يساوي" ومنه قول الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه …مقال كل سفيه لا يقاس بكا(25/308)
واستعلام القدر والتسوية: مبتدأ خبره "فردا مفهومه" أي التقدير "فهو" أي القياس "مشترك معنوي" يطلق على استعلام القدر والتسوية باعتبار شمول معناه الذي هو التقدير لهما وصدقه عليهما "لا" مشترك "لفظي" فيهما فقط أو وفي المجموع منهما "ولا" حقيقة في التقدير "مجاز في المساواة كما قيل" في البديع باعتبار أن التقدير يستدعي شيئين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فيكون تقدير الشيء مستلزما للمساواة بينهما واستعمال لفظ الملزوم في لازمه شائع لأن التواطؤ مقدم على كل من الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن وقد أمكن. "وفي الاصطلاح" على قول المخطئة وهم الجمهور القائلون المجتهد يخطئ ويصيب "مساواة محل لآخر في علة حكم له" أي لذلك المحل الآخر "شرعي لا تدرك" تلك العلة "من نصه" أي ذلك المحل الآخر "بمجرد فهم اللغة" فخرج بتقييد الحكم بالشرعي المساواة المذكورة في علة حكم له عقلي صرف والمساواة المذكورة المخيلة في علة حكم له لغوي "فلا يقاس في اللغة" كما تقدم في أوائل المقالة الأولى في المبادئ اللغوية أنه المختار "وإطلاق حكمه" بأن لا يوصف بشرعي ولا غيره "يدخله" أي القياس في اللغة والقياس في العقلي الصرف في الحد لتناول الحكم المطلق لهما كما للشرعي فيصير الحد مدخولا "والاقتصار" في تعريفه كما في مختصر ابن الحاجب والبديع على قول المخطئة "على مساواة فرع لأصل في علة حكمه" أي الأصل "يفيد طرده بمفهوم الموافقة" لصدقه عليه مع أنه ليس بقياس لأنه من دلالة اللفظ "واسم القياس" أي إطلاقه "من بعضهم عليه" أي على مفهوم الموافقة "مجاز للزوم التقييد" لإطلاقه عليه "بالجلي" أي بالقياس الجلي "وإلا فعلى" إطلاق القياس على الذي نحن بصدده وعلى مفهوم الموافقة على سبيل "التواطؤ" حتى يكون مفهوم الموافقة قسما من القياس "بطل اشتراطهم عدم كون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع" في القياس لأن دليل حكم المنصوص عليه شامل لحكم مفهوم الموافقة فيكون هذا(25/309)
الشرط مخرجا له وقد فرض أنه منه "و" بطل "إطباقهم على تقسيم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم" لأن القياس ليس من دلالة(25/310)
ص -151-…اللفظ "ولو" كان لفظ القياس مشتركا "لفظيا" بين ما ليس بمفهوم الموافقة وبين مفهومها "فالتعريف" المذكور إنما هو "لخصوص أحد المفهومين" وهو ما ليس بمفهوم الموافقة "وأورد عليه" أي على هذا التعريف "الدور فإن تعقل الأصل والفرع فرع تعقله" أي القياس لأن الأصل هو المقيس عليه والفرع هو المقيس فمعرفتهما موقوفة على معرفته وقد توقفت معرفته على معرفتهما. "وأجيب بأن المراد" بالأصل والفرع "ما صدقا عليه وهو" أي ما صدقا عليه "محل" منصوص على حكمه وهو الأصل وغير منصوص على حكمه وهو الفرع أي الذاتان اللتان تعرضهما الفرعية والأصلية لا الذاتان مع الوصفين وعليه أن يقال "وهو" أي هذا المراد "خلاف" مقتضى "اللفظ" لأن المتبادر من إطلاق الوصف إرادة الذات مع ما قام بها من ذلك المعنى فإرادة الذات مجردة عن ذلك المعنى عناية ينبو عنها التعبير بذلك "وقلنا" المراد بكل من الأصل والفرع "ركن ويستغنى" بهذا المراد "عن الدفع" المذكور "المنظور" فيه بهذا "ثم إن عمم" كل من تعريفهم وتعريفنا "في" القياس "الفاسد" والصحيح "زيد" كل منهما "في نظر المجتهد لتبادر" المساواة "الثابتة في نفس الأمر" إلى الفهم "من المساواة" المطلقة عن التقيد بقي نظر المجتهد لا المقيد به ولا الأعم بخلاف المقيدة به فإنها أعم من الثابتة في نفس الأمر بأن يطابق ما في نفس الأمر أو لا يطابق "وعنه" أي وعن تبادر المساواة الثابتة في نفس الأمر من المساواة المطلقة "لزم المصوبة" أي القائلين بأن كل مجتهد يصيب "زيادتها" أي هذه الزيادة أيضا "لأنها" أي المساواة عندهم "لما لم تكن إلا" المساواة "في نظره" أي المجتهد "كان الإطلاق" لها "كقيد مخرج للإفراد يفيد" الإطلاق "التقييد بنفس الأمر وافق نظره" أي المجتهد "أو لا" حتى كأنه قيل مساواة في نفس الأمر ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلا بل في نظره فكان قيدا مخرجا لجميع أفراد المحدود فلا يصدق الحد على شيء منها فكان(25/311)
باطلا وقد ظهر من هذا دفع ما يخطر في بادئ الرأي من أنه إذا لم تكن المساواة عندهم إلا ما في نظر المجتهد فإطلاقها منصرف إلى إرادتها في نظر المجتهد وإيضاح دفعه أنه لا مساواة عندهم في نفس الأمر وإنما توجد عندهم بعد النظر المفضي إلى الظفر بها ومن ثمة قالوا: كل ما أدى إليه نظر المجتهد صواب وإن ظهر له بعد ذلك خلافه. ولو اعترفوا بوجود مساواة في نفس الأمر لقالوا بخطأ ذلك الاجتهاد الذي ظهر خلافه لا أنه صواب منسوخ بالثاني.
واعلم أنه لما كان ظاهر كلام ابن الحاجب وشارحيه وصاحب البديع وغيرهم أن القياس ليس فعل المجتهد بل هو دليل نصبه الشارع لمعرفة الأحكام التي سوغ فيها الاجتهاد وإنما فعل المجتهد استنباطه الحكم منه فهو أمر موجود نظر فيه المجتهد أولا كالكتاب والسنة ومشى عليه المصنف غير أنه وقع من ابن الحاجب وصاحب البديع ما يفيد مناقضته وتبعهما الشارحون على ذلك أشار المصنف إليه بقوله "ومن نفى كونه" أي القياس "فعل مجتهد باختيار المساواة" في تعريفه للقياس الصحيح "فأبطل التعريف" المنقول عن بعض الأصوليين للقياس "ببذل الجهد إلخ" أي في استخراج الحق "بأنه" أي بذل الجهد "حال(25/312)